صفحات العالم

مقالات تناولت العدوان الاسرائيلي على غزة

العدوان وما هو أخطر/ غسان شربل
هذه ليست عملية «تأديب». انها مذبحة كاملة. اخطر ما فيها ان يعتبر بنيامين نتانياهو ان موسم القتل المفتوح في الاقليم يتيح له ارتكابها واستكمالها. الاخطر ايضا ان يعتبر العالم مذبحة غزة مجرد واحدة من المذابح التي يشهدها الشرق الاوسط الرهيب.
شعرتُ بالحزن حين غادرت بعد منتصف الليل مكان إقامة الرجل الذي زرته. راقبته على مدى ساعات يتلقى التقارير من غزة وهو معني بخياراتها السياسية وصواريخها. كان القائد الفلسطيني صلباً كعادته مع واقعية رافقت قراءته الأوضاع. لم أشاطره تفاؤله. انتابني شعور بأن الأخطر من العدوان على غزة هو تراجع موقع القضية الفلسطينية لدى العرب والمسلمين، بعد استيقاظ قضايا خطرة وشائكة ودموية.
استند الرجل الى تجربة الفلسطينيين الطويلة في مقاومة الاحتلال، إلى تمسكهم بحقوقهم على رغم نهر الشهداء المتدفق منذ عقود، وقدرتهم على مقارعة ظلم الاحتلال وظلم المجتمع الدولي. لا يحق له التنازل عن تفاؤله، لكنني كصحافي أشعر بأن حرب غزة الحالية تدور في منطقة أخرى لم يعد الموضوع الفلسطيني همّها الأول.
لا يحق لي أن أروي ما سمعت عن ظروف المبادرة المصرية وطريقة إعلانها وكيف استقبلتها الفصائل. لم يكن اللقاء للنشر، لكنني في الحقيقة لم أستطع معرفة ملابسات الشرارة التي أدت الى اندلاع العدوان الإسرائيلي الجديد. لم أعثر على أجوبة لأسئلتي. لماذا خُطِف المستوطنون الثلاثة في هذا الوقت بالذات؟ هل كان الهدف احتجازهم لتكرار تجربة احتجاز الجندي شاليط والتفاوض لتحرير فلسطينيين أسرى في سجون الاحتلال؟ ولماذا قُتلوا سريعاً كما تبيَّن لاحقاً؟ هل تمت عملية الخطف بقرار؟ ومَنْ الذي اتّخذ هذا القرار؟ ألم يكن على مَنْ اتخذه أن يأخذ في الحسبان احتمال ان يلتقط بنيامين نتانياهو الفرصة ليحاول «تأديب» غزة و «حماس» معاً؟ ألم يكن على صاحب القرار أن يلتفت الى الظروف المحيطة بالقطاع و «حماس» وما يجري في المنطقة؟
كان الرجل يتلقى الاتصالات ثم نعاود النقاش. قلت له إننا نعيش اليوم في منطقة أخرى غير تلك التي كانت قائمة قبل حفنة أعوام. لم تعد القضية الفلسطينية القضية الوحيدة ولا الموضوع الوحيد، وإن اهل المنطقة منشغلون بقضايا أكثر حدة وإلحاحاً تتناول مصير خرائط ومجموعات، وإن النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني صار واحداً من تلك النزاعات.
يكفي أن يقرأ المرء الأخبار ليتأكد أننا نقيم اليوم في منطقة أخرى. تقول الصحف مثلاً إن مئات من الشبان الأكراد الأتراك عبروا الحدود مع سورية للمشاركة في الدفاع عن المناطق الكردية فيها، في وجه تهديدات «داعش»، وإن «الإدارات الذاتية» الكردية في سورية فرضت التجنيد الإلزامي في بعض مناطقها. وتقول الأخبار أيضاً إن لإقليم كردستان العراقي حالياً جبهة مع «داعش» تمتد نحو ألف كيلومتر، وإن الإقليم باشر ضخ النفط من حقول كركوك. هذا يعني ببساطة أن القضية الكردية ستكون في صدارة اهتمامات الدول الأربع المعنية بها مباشرة، فضلاً عن الدول الأخرى ومخاوفها.
المنطقة مشغولة أيضاً ببرنامج طارئ وشديد الخطورة. تكفي قراءة خبر يقول إن «داعش» بات يسيطر على ثلث الأراضي السورية ومعظم مصادر النفط والغاز، وإن التنظيم أسقط عملياً الحدود السورية- العراقية.
المنطقة منشغلة أيضاً بالنزاع السنّي – الشيعي الذي لا يمكن تجاهله في أي محاولة لفهم مواقف دول المنطقة وسياساتها، خصوصاً في سياق البرنامج الإيراني في الإقليم ومحاولات قطع الهلال الذي نجح في إنشائه.
يذهب سوء الحظ الفلسطيني أبعد من ذلك. ليس بسيطاً ان يقول باراك أوباما ان الطائرة الماليزية أُسقِطَت بصاروخ أُطلِق من منطقة يسيطر عليها انفصاليون أوكرانيون يدعمهم فلاديمير بوتين بالأسلحة الثقيلة.
لا تغيب هذه التطورات عن ذهن القائد الفلسطيني. ومن واجب القيادات الفلسطينية أن تسارع بعد وقف النار في غزة إلى إعادة قراءة الوضع في المنطقة. النزاع العراقي مفتوح، والنزاع السوري مفتوح، والأردن قلق، ولبنان مضطرب، والملف الفلسطيني صار واحداً من الملفات في منطقة تنشغل المجموعات فيها بـ «أعداء الداخل» أكثر من أعداء الخارج.
الحياة

 
المقاومة كعصيان على الهزيمة والموت/ موسى برهومة
لا ينطفئ فعلُ المقاومة، لأن وعياً جديداً تبلور في الوجدان الشخصي للفرد، ولا تتبدّد المقاومة، كفعل اضطراري لدفع الأذى، لأن نتائجها ليست مضمونة، أو لأن الخصم فتّاك ويحوز ترسانة ضخمة من الشر، كما هي حال دولة الاحتلال الإسرائيلي. المقاومة تبقى ماثلة بعيداً من الحسابات السياسية، وتوازنات القوى، والاستخدامات الأيديولوجية لهذا الطرف أو ذاك. أن تقاوم يعني أن تعلن العصيان على الهزيمة والموت.
ويستدعي هذا الموقف ميراثاً طويلاً من الأدبيات والحكايات والمحطات التي قاومت فيها فئة صغيرة فئة كبيرة فهزمتها أو انسحقت أمامها، لكنها لم تستسلم، ولم ترفع الراية البيضاء. لقد فُرضت عليها المواجهة، وبات الخصم على مقربة من فناء البيت أو تخوم القلب. إذاً فليصمت هذا القلب بطعنة نجلاء، أو برصاصة تثقب شرايينه، عوض أن يحيا مسربلاً بالعار والذل والخوف، أو الموت كمداً وهمّاً!
وإذا لم يكن من الموت بدّ/ فمن العار أن تموت جباناً، على ما قاله وفعله الشاعر العربي المتنبي الذي استشعر لحظة التاريخ الكثيفة حينما تروي واقعة الفناء النهائي، فهي إما أن تكتبه بحروف من نور وفخار، وإما أن تدفنه في زاوية مغبرّة من الذاكرة، ولا يأتي استدعاؤه إلا في معرض النقيصة.
هكذا، يتشكل الوجدان الجمعي للأمم، في الماضي والحاضر. الناس تشيد بالبطولة، وتقيم لها النُصب والتماثيل والميادين، ويشرع الفنانون في رسم التجليات العبقرية لإرادة الإنسان الحرة، وهو يصارع الموت فيصرعه بإيمان وصبر وعزيمة، لأن حقاً يضيء بنوره المقدس قلبَه، وهو من أجل هذا الحق يبذل روحه رخيصة، حتى لو لم تكن الميثولوجيا الدينية حاضرة في تلك القنطرة ما بين الموت والحياة.
الشعوب تزهو بأبطالها، والأشخاص يختالون بذويهم الشجعان الذي هزموا الخوف، وانتصروا للحياة، لإيمانهم بأن طغيان الشر، وتمدد العتمة، وغطرسة القوة المنفلتة من عقال الحق والأخلاق، يجعل العالم غابة من الوحوش وقطاع الطرق واللصوص. فالإنسان بطبعه توّاق للخير، كاره للأغلال، تائق إلى العدل والسلام.
فلماذا، إذاً، يُلام المرء إن هو دعا إلى مقاومة قوة احتلال غاشمة مدججة بالحقد والرغبة في إفناء الخصوم. هل المطلوب، حتى يكون المرء معتدلاً وعاقلاً وبراغماتياً، أن يكون منزوع الحماسة، أو أن يفرش درب المحتلين بالورود، ويرشّ على دباباتهم ماءَ الترحاب والبهجة؟
أم إن المطلوب منه أن يعمل بعقلية المحلل الاستراتيجي الذي يزن بعقله البارد، المحشو بالأرقام، الترسانة الحربية وعناصرَ التفوق الحربي لكل من الطرفين «المتنازعين»، فيشرع في لوم الضحية لأنها خدشت كبرياء الجلاد واستفزت كرامته، فأرغمته على هذا الرد القاسي الذي استُخدمت فيه عشرات الآلاف من الأطنان المتفجرة؟
وأما لوم الضحية وهي تغرق في دمائها، ومطالبتها أن تركع، وتقبل بأية شروط، وتُسقط سلاحها، وتعلن التوبة، فذلك لا يعني سوى ترصيع صدر القاتل بالأوسمة والنياشين، وفتح بوابة الذل على مصراعيها.
هي الكرامة ما تبقى للفلسطيني بعدما خسر الأرض والوطن والبيت والأمان وضحكة الأطفال. فلماذا يُلام إن هو تشبث بها. لماذا ينبغي إقناعه بأن الصواريخ اليدوية الصنع، أو الأسلحة التي لا تضاهي أسلحة إسرائيل هي ألعاب أطفال عليه أن يرميها في البحر. لماذا هذا الإصرار على قتل الروح، وإعدادها للخنوع الأبدي المطلق؟!
المقاومة، في شكلها العسكري، هي بوابة المقاومة في شكلها المدني. وبالتالي فإن شعباً مهزوماً، وأمة تجرّ عار الخسارات، وأفراداً مطأطئي الرؤوس، لا يمكنهم الانتساب إلى المستقبل. الهزيمة خروج كامل من التاريخ!
* كاتب وأكاديمي أردني
الحياة

 

 

 

المبادرة المصرية… قبيحة؟/ علي بردى
لن تصنع السلام في غزة هذه الحرب العبثية التي تخوضها اسرائيل اليوم تحت عنوان حماية سكانها من “ارهاب” حركة المقاومة الإسلامية “حماس”. تقيّد الفلسطينيين أكثر فأكثر بعقلية الإسلاميين المتطرفين إذا فقدوا الأمل في صحوة عربية. هذا أقبح ما في المبادرة المصرية لوقف النار.
التقت مصلحة الرئيس المصري المشير عبد الفتاح السيسي مع مصلحة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لهما عدو مشترك. وما كان ليحصل لولا الحماقات المتوالية التي ارتكبها “الأخوان المسلمون”، بمن فيهم “حماس”، ولا يزالون.
يسعى السيسي الى مشروعية دولية وإقليمية بعدما عزل الرئيس “الأخونجي” محمد مرسي أولاً بانقلاب عسكري مدعوم شعبياً ومن ثم بانتخابات رئاسية. اغتنم حرب غزة الراهنة لتقديم مبادرة تساوي اسرائيل و”حماس” وتعيد الى الأذهان دور مصر الرئيس سابقاً حسني مبارك في الاضطلاع بدور “الوسيط النزيه” بين الجلاد والضحية. الضحية في هذه الحال ليست الحركة الإسلامية بل الفلسطينيون من سكان القطاع. غير أن الأهم أن هذه المبادرة تقدم السيسي حارساً أميناً لقواعد اللعبة في النظام الإقليمي، بما في ذلك ما نشأ عن معاهدة كمب ديفيد بين مصر واسرائيل واتفاقات أوسلو بين السلطة الفلسطينية واسرائيل. تلقى حتى الآن الكثير من التنويه والإشادة من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي – مون الذي يحاول تسويق الخطة المصرية بدعم أميركي وغربي وأوروبي وعربي واسع. استدعت الضرورة نسيان كون السيسي استهل عهده بسجن الصحافيين وبإصدار مئات الأحكام بالإعدام دفعة واحدة على الناشطين “الأخونجيين”. صدق فيه القول “أول دخوله، شمعة طوله”!
أما نتنياهو، فيخوض حربه هذه أولاً لعله يجعل نفسه “بطل” اجتثاث الخطر الصاروخي وغيره مما تمثله “حماس” وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية، وثانياً ليخدم غاية اسرائيل الإستراتيجية انشاء دولة فلسطينية منزوعة السلاح على بقايا حل الدولتين. يبدو كأنه ينسج في الوهم عباءة تحمي اسرائيل من أخطار المستقبل. إن لم ينتصر تماماً، فهو مهزوم يؤسس لمزيد من التطرف ويجر الفلسطينيين جراً الى انتفاضة ثالثة. بقدر ما تتعرض “حماس” لأخطار من الآلة العسكرية الإسرائيلية الفتاكة التي لم تعر يوماً الانتباه أو الاعتبار لحياة السكان المدنيين والأبرياء خلافاً للادعاءات الفارغة عن “أخلاقيات” الجيش الإسرائيلي، فإن هذه الحرب توفر فرصاً لـ”حماس” كي تقدم نفسها مدافعة عما تبقى من كرامة الفلسطينيين والعرب، حتى لو كانت تقدم خدمة لا تقدر بثمن لإيران التي تتصدر منذ سنوات منطق الممانعة والمقاومة. ليس في وسع “حماس” إلا أن تعود الى هذا المحور إذا نجت من هذه الحرب الإسرائيلية الطاحنة ومن هذا الصمت العربي ومن هذا الاقفال المصري لمعبر رفح…
نشهد الآن واحدة من تداعيات إخفاق إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما وفشل المساعي الديبلوماسية لوزير الخارجية جون كيري في التعامل مع جذور قضية فلسطين. بهذه على الأقل، معه حق الرئيس محمود عباس. ليس هو من يُلام.
النهار

 

 

 

عن صواريخ المقاومة العبثية/ بدر الإبراهيم
تزخر وسائل الإعلام العربية بأصواتٍ وأقلامٍ “عقلانية واقعية”، تمارس هواية الاستهزاء بصواريخ المقاومة، ووصفها بالعبثية، في كل حربٍ يشنها العدو الصهيوني على غزة. وهذا الاستهزاء جزء من التعبير عن رفض خيار المقاومة، بل وتحميل المقاومة وصواريخها، في أحيان كثيرة، مسؤولية العدوان الصهيوني. وينطلق النقاش بشأن عبثية الصواريخ، عادةً، من اختلال موازين القوى بين الاحتلال والمقاومة، فبالنسبة لهؤلاء، لا تنبغي المقاومة، طالما أن الخسائر التي تُحدِثُها أقل بكثير من الخسائر التي يتكبدها الفلسطينيون بفعل آلة الاحتلال العسكرية.
خسائر القوى والكتل الشعبية المقاوِمة أكبر من خسائر المحتل تاريخياً، لكن هذا لم يمنع هذه القوى من رفع كلفة الاحتلال، وإيلام القوى المحتلة، وتهديد أمنها، ومنع استقرارها، وصولاً إلى دفعها لإنهاء حالة الاحتلال. الهدف من المقاومة ليس التفوق على المحتل في القدرة التدميرية، وإنما منع استقراره، والضغط عليه بكل الوسائل المتاحة حتى يُنهي احتلاله، والمقاومة الفلسطينية، على خطى مقاومات أخرى في التاريخ الحديث، تقوم بهذا الأمر، وتُطَوِّر قدراتها لتدفيع المحتل أكبر ثمن ممكن لاحتلاله.
الحديث عن القبة الحديدية الإسرائيلية التي تعترض صواريخ المقاومة، مهم للتدليل على فعالية صواريخ المقاومة، فوجودها بحد ذاته، والحرص على تطويرها، يشير إلى حجم التهديد الذي تشكله صواريخ المقاومة لما يُسمى “الجبهة الداخلية” في الكيان الصهيوني. إن اللجوء إلى هذه القبة لحل إشكالية صواريخ المقاومة، هو إعلان فشل إسرائيلي، إذ اعتاد الاسرائيليون على تحصين جبهتهم الداخلية، عبر الاستراتيجية الهجومية التي تعتمد الهجوم العسكري وسيلةً لضرب أي تهديد ومنعه، لكن الفشل العسكري والاستخباري في ضرب منصات صواريخ المقاومة، وإيقاف انهمارها، دفع إلى الانتقال من الهجوم إلى الدفاع، ببناء القبة الحديدية.
تبلغ كلفة كل صاروخ اعتراضي ضمن القبة الحديدية ما بين 50 و100 ألف دولار، في المقابل، لا تكلف صواريخ المقاومة أكثر من بضع مئات من الدولارات، وعلى الرغم من الاستثمار العالي في القبة الحديدية، لم تُظهِر فعالية عالية في مواجهة صواريخ المقاومة، ولا تتعدى نسبة نجاحها في أفضل التقديرات 20%، بل إن البروفيسور الأميركي في جامعة إم. آي. تي، ثيودور بوستول، يؤكد، في حديثه لإذاعة “إن. بي. آر”، إن النسبة 5% أو أقل. وقد يكون الإعلان الأميركي في أثناء العدوان عن زيادة تمويل القبة الحديدية، محاولةً لزيادة فعالية القبة، ومعالجة تعثرها.
لا يقتصر الثمن الذي تدفعه إسرائيل بفعل صواريخ المقاومة على القبة الحديدية، فالتقديرات الإسرائيلية تشير إلى أن الكلفة الإجمالية للأضرار الناجمة عن عدوان “الجرف الصامد”، العام الجاري، قد تصل إلى 8.5 مليار شيكل (الدولار يساوي 3.42 شيكل)، وهو رقم يتجاوز كلفة عدوان “عمود السحاب” عام 2012، ويُعزى هذا إلى عدة عوامل، منها توسع العدوان ليشمل عملية برية، ما يكلف أكثر من الاقتصار على الحرب الجوية، كما أن استدعاء عدد كبير من جنود الاحتياط يكلف الكثير، فكلفة خدمة يوم لجندي الاحتياط 500 شيكل، ومع استدعاء 40 ألفاً من جنود الاحتياط في بداية العدوان، فإن هذا يكلف الإسرائيليين حوالي 20 مليون شيكل يومياً، وهي قابلة للزيادة، مع زيادة جنود الاحتياط الذين يتم استدعاؤهم. لا بد من الأشارة إلى أن أحد أسباب الكلفة العالية في هذه الحرب يعود إلى التطور النوعي في أداء المقاومة، وتوسع الرقعة المستهدفة بصواريخها.
صواريخ المقاومة تكلف العدو الكثير على مستوى القطاع الصناعي، فجمعية الصناعيين في إدارة البحوث الإسرائيلية تقدر الخسائر، بسبب انهمار صواريخ المقاومة في الأيام الثمانية الأولى لعدوان “الجرف الصامد”، بـ 345 مليون شيكل، تتوزع بين 145 مليون شيكل في مصانع جنوب فلسطين المحتلة والمنطقة المحاذية لقطاع غزة، و170 مليون شيكل في مصانع المنطقة الممتدة من تل أبيب إلى حيفا، و30 مليون شيكل في مصانع القدس، وهذا يشمل توقف الإنتاج والضرر الناتج عن غياب الموظفين وخسارة بعض المواد.
هناك، أيضاً، الأضرار في الممتلكات، التي تشمل المباني والمركبات، ويقدّر عدد حالات الضرر في الممتلكات، في عدوان عام 2012 الذي استمر ثمانية أيام، بحوالي 1250 حالة. والضرر يشمل السياحة التي تحتاج عادةً إلى سنة، بعد كل حرب لتنتعش من جديد.
بجانب الضرر المادي، تُحدث صواريخ المقاومة ضرراً نفسياً كبيراً، فالشعور بانعدام الأمن، وتغير نمط الحياة يسود مع سقوط الصواريخ، ويهرع الجميع إلى الملاجئ، من المستوطنين، إلى المسؤولين الإسرائيليين، الذين يقطعون اجتماعاتهم خوفاً من الصواريخ. يساعد هذا في تعزيز مسار الهجرة العكسية من الكيان الصهيوني، وخفض معدل الهجرة إليه، وهذا سببٌ للقلق الوجودي عند الصهاينة.
الصواريخ فاعلة، وليست عبثية، وإذا كان بعضهم يرى قصورها، ومحدودية أثرها، فعليه أن يطالب الأنظمة العربية بدعم المقاومة بما هو أكثر فاعلية، خصوصاً أنها أثبتت قدرتها على تطوير سلاحها على الرغم من الحصار. الصواريخ خيارٌ لا بديل له سوى تقديم التنازلات عبر المفاوضات، وفق عقيدة الاستسلام للعدو، والتي تُكلِّف تقديم ما تبقى من فلسطين للاستيطان الصهيوني.
إذا افترضنا أن الصواريخ مفرقعاتٌ عبثية، فإنها تظل مهمةً من ناحية رمزية، فهي، على الأقل، تُذكّر بوجود مقاومة للاحتلال، وتُبقي القضية حية، وترفض تشويهها وقتلها بالتنازلات.
العربي الجديد

 

 

 

شكر حزب الله؟/ حـازم صـاغيـّة
يصعب على لبنانيّ من خارج بيئة حزب الله، ويصعب أكثر على سوريّ ليس مرتبطاً بنظام الأسد، أن يجدا نفسيهما وهما يشكران حزب الله على شيء. فلذاك اللبنانيّ، هو الحزب المعطّل للدولة، المتّهم بأنّه ضالع باغتيالات قيادات وكتّاب وصحافيّين، ومقتحم عاصمة البلد ومُذلّ أهلها ذات مرّة. وهو لذاك السوريّ، البندقيّة التي استُدعيت لقمعه وقهره دفاعاً عن نظام احترف اللهو بدماء السوريّين.
لكنْ، مع هذا، أن لا يتورّط حزب الله في حرب غزّة، وألاّ يورّط اللبنانيّين في جحيمها فهذا تطوّر إيجابيّ يضع على الطاولة احتمال توجيه الشكر.
إلاّ أنّ الاحتمال المذكور لا يعني توجيه الشكر لأسباب متعدّدة.
فالحزب اتّخذ موقفه هذا بناء على رغبة إيرانيّة تلاقت هذه المرّة مع رغبة جمهور الحزب الجنوبيّ. وما يسمح بهذا الافتراض ليس فقط طبيعة العلاقة التي تربطه بإيران، والتي تجعل الرجوع إليها في المسائل الاستراتيجيّة الكبرى تحصيلاً حاصلاً. ما يسمح به أيضاً أنّ الحساب اللبنانيّ في حال وجوده كان ليستدعي الانسحاب من الصراع السوريّ، وليس فقط العزوف عن التدخّل في حرب غزّة.
والمؤكّد أنّ مثل هذا الحساب لا يزال غائباً كلّيّاً عن الحزب الذي يتكاثر قتلاه، ويتكاثر مقتولوه، في سوريّا.
ولأنّ هذا الحساب غائب، لا يخفي الحزب التدخّليّ حرجه بعدم تدخّله في غزّة، فيردّد الصحافيّون المقرّبون منه أنّ قياداته “تتابع باهتمام ما يجري” هناك، وأنّ عينها على القطاع، وسوى ذلك ممّا يوحي أنّ المقاومة (التي كفّت لحسن الحظّ عن المقاومة) ما زالت تقاوم. ومن هذا القبيل يشار، بسبب وبغير سبب، إلى الخدمات العسكريّة والفنّيّة والتدريبيّة التي سبق أن قدّمها الحزب لحركة حماس وجماعة الجهاد الإسلاميّ الفلسطينيّتين. ولا يخلو الأمر في البيئة الأكثر تصديقاً لخرافة المقاومة، كما رعاها الحزب وسهر عليها، ظهور انتقادات له لأنّه لم يتدخّل. فالذين لم يفهموا إحجام حزب الله عن انتقاد البطريرك الراعي لدى زيارته “الأراضي المقدّسة”، لا يريدون أن يفهموا إحجامه عن التورّط في حرب غزّة.
وللأسف يتعرّض الحزب لحملة من موقع آخر لا يأخذ عليه افتقاره إلى الحساب اللبنانيّ، بل يأخذ عليه “جبنه” الذي حال دون تدخّله. وهذا إنّما يذكّر بانتقاد بشّار الأسد لأنّه “لم يقاتل إسرائيل”، بدل انتقاده لأنّه استخدم القتال الانتقائيّ والمداور لها لتمكين سلطته واستبداده.
والحال أنّ النقد هذا يشارك أصحابه حزب الله افتقاره إلى الحساب اللبنانيّ، كما يشاركون بشّار الأسد افتقاره إلى حساب وطنيّ سوريّ، متمسّكين بجرعة من الثأريّة (فهم ضدّ الحزب أتدخّل أم لم يتدخّل) وبجرعة من الانتهازيّة (يحرجونه بـ”جبن” عدم التدخّل حين لا يتدخّل ويحرجونه بـ”كوارث” التدخّل حين يتدخّل).
وقصارى القول إنّ توجيه الشكر إلى حزب الله لا يجب أن يكون، من حيث المبدأ، مشكلة. لكنّ الشكر لا تكتمل أسبابه إلاّ عند ظهور سياسة لدى حزب الله تعبّر عن حساب وطنيّ لبنانيّ يملي اليوم الانسحاب من سوريّا، ويملي دائماً الانسحاب من كلّ صراع لا طاقة للبنانيّين عليه.
موقع لبنان ناو
لو كنت فلسطينياً/ امين قمورية
لو كنت فلسطينيا لانكرت اصولي العربية وحطمت كل شواهد الحضارة العربية في ما تيسر لي الوصول اليه من ارضي المحتلة. لكني لست قادرا على ابدال دمي ونكران ذاتي والاصل لان كل حجر في فلسطين ينطق تاريخا عربيا، ولان كل حبة تراب من ارضها مجبولة بدم غزير سال ويسيل من زمان وبلا توقف من اجل هذه العروبة.
اخبرني العرب ان القضية التي حملت اسم وطني السائب واسم شعبي، هي قضيتهم جميعا، وانها اغلى عندهم من اوطانهم وابنائهم، ومن اجلها ينبغي بذل كل التضحيات. لا انكر تضحيات عرب كثيرين من اجل ما سموه حبيبتهم ونظموا من اجلها القصائد وانشدوا الاغاني. ولكن عندما اراهم اليوم كيف يمارسون هذا العشق، يزداد احباطي ويصيبني الوهن. باسم فلسطين لايزالون يشيدون ديكتاتوريات وانظمة تستمتع بقمع شعوبها. باسم القضية حولوا المدارس سجونا. وباسم “استرجاع الحق” صودرت كل الحقوق. من اجل “اعادة المنفيين الى ديارهم” صار حصار “الاخوة” اشد مرارة من جور المحتل وحصاره. واليوم آخر رمق من المشروع الوطني الفلسطيني تحاول اسرائيل وأده في غزة، وهم يتفننون بالنكاية السياسية ويتمنون ضمنا قضاء مبرما على القضية وحذفا نهائيا لها من القواميس اللغوية.
لو كنت فلسطينيا، لما غفل عني ان حال اترابي في الدول العربية ليست افضل من حالي. انظر الى حال السوريين اشعر بوجع في القلب. اسمع اخبار العراق ينتابني الفزع. تردني الانباء عن تهجير المسيحيين في الموصل اتذكر نكبتي واتحسس
معاناة اهلي عندما طردوا من ارض اجدادهم. لكني كنت ساحزن حينما تخلو شوارع بيروت وبغداد والقاهرة من التضامن الذي نريده فقط لاغير.
لو كنت فلسطينيا، لصرخت باعلى الصوت، لانريد صواريخكم ولاجيوشكم لان ارادة اطفالنا اشد بأسا منها. لانريد مقاومتكم ولا ممانعتكم دعوها تكمل مهمة “التحرير”و”الانتصارات” في الميادين المذهبية. لا نريد اموالكم ولا نفطكم وفروها لموائد العربدة. لانريد وساطتكم، لان الوسيط هو طرف محايد، في حين انكم تدعون انكم طرف معني بالقضية وشريك اساسي فيها. والشريك لايقدم مبادرة بل يتخذ موقفا حاسما. لو كنت فلسطينيا لما توقفت عن الضحك والبكاء معا لان شر البلية ما يضحك.
اسرائيل لم تكن لتختار هذا التوقيت لدك غزة واركاعها، لولا ادراكها لهذا العقم العربي والتشتت. هي لاتريد اعادة احتلال القطاع بل اخضاع اهله لاعتقادها ان الفرصة سانحة ولن تتكرر. بيد ان صمود اهل غزة لم يضيع فقط على “الجيش الذي لايهزم” فرصة للانتقام من نكساته المتكررة، بل كان يمكن ان يكون فرصة لمصر خصوصا، للعودة الى فلسطين، واعادة العروبة الى معناها الصحيح.
النهار

 
الحرب على الجبهة السياسية/ ماجد كيالي
اشتغلت إسرائيل على تصوير الحرب الوحشية التي تشنّها ضد قطاع غزة، باعتبارها بمثابة حرب عادلة، وكدفاع عن النفس، لصد “عدوان” حركة “حماس” عليها. بيد أن هذه المحاولة قامت على دعائم واهية، ومخاتلة، لاسيما في ايحاءاتها أن هذا القطاع خارج سيطرة الاحتلال، وأنه بات بمثابة قاعدة عسكرية، وأن “حماس”، التي تتولى السلطة فيه، بات لديها جيش، مع سلاحي صواريخ وطائرات، وأنها تهدد السلام والأمن في المنطقة، باختلافها مع السلطة، وخصومتها مع النظام المصري.
واضح أن هذه الصورة تتناسى الحكاية الأساسية، وهي أن إسرائيل، كدولة محتلة، لم تنهِ علاقتها تماما بالقطاع، وأنها فقط أعادت انتشارها حوله، وتتحكم بالسيطرة على حركة الدخول والخروج إليه، بالنسبة للأشخاص والبضائع، وحتى انها تحرم الصيادين من الصيد في البحر، أو تحدد ذلك لهم بحسب هواها، ما يفيد بأن فلسطينيي غزة ما زالوا يكابدون من علاقات السيطرة الإسرائيلية. فوق ذلك فإن الفلسطينيين في غزة، ويناهز عددهم مليوني شخص، ظلوا يخضعون طوال سبعة أعوام لحصار مشدد، كأن القطاع بالنسبة لهم بمثابة سجن كبير، مع ما في ذلك من معاناة وظلم وفقدان للأمل.
وبالنسبة لتصوير القطاع كقاعدة عسكرية، وكشبكة اخطبوطية من الأنفاق، فهو ليس إلا محاولة لتغطية، أو لتبرير، جرائم الحرب التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، بحق الفلسطينيين الآمنين، وضمنهم الأطفال والنساء والشيوخ الذين بيّنت فاتورة الحرب انهم دفعوا الثمن الأكبر لها.
أما الإيحاء بأن حركة “حماس” باتت تمتلك جيشا، مع سلاحي صواريخ وطائرات، ما يشي بنوع من التكافؤ، وهو انطباع تتحمل مسؤوليته هذه الحركة أيضا، فلا تؤيده الوقائع، لا سيما مع إعلان الجيش الإسرائيلي، في بيانات متتالية، مصرع 20 إسرائيليا، طوال فترة الحرب، ضمنهم 13 جنديا قتلوا في اشتباكات مسلحة الأحد الماضي، واثنين مدنيين فقط، احدهما قتل بقذيفة هاون على حاجز ايريتز، والثاني بدوي (عربي) قتل نتيجة قذيفة صاروخية قرب مدينة ديمونا.
يبقى الأمر الأخير، وهو ايحاء إسرائيل أنها في هذه الحرب أضحت جزءا من هذه المنطقة، وأن ما تفعله هو لخدمة السلطة الفلسطينية، ومحور النظام المصري، والأنظمة المتحالفة معه، بالضد من محور عربي وإقليمي آخر، وهو تطور لافت، يعكس رغبة إسرائيلية في التكيف مع واقع المنطقة، أكثر مما يعكس حقيقة ما يجري.
المشكلة في هذا المنطق انه يحاول وضع الضحية محل الجلاد، بتغطية حقيقة إسرائيل كدولة استعمارية، وواقع أنها الطرف الوحيد الذي يملك قرار الحرب، وأدواتها، في هذه المنطقة، وأن الفلسطينيين هم الضحية، إذ أنهم الطرف الوحيد الذي يذهب منه المئات نتيجة القصف الإسرائيلي الصاروخي والعشوائي.
النهار

 

غزة تكتب التاريخ بدمائها: نحو 4 آلاف شهيد وجريح
المقاومة لا تلين وتربك العدو والوساطات التائهة بين الدوحة والقاهرة
حلمي موسى
وبعد أسبوعين من القتال في حرب “الجرف الصامد”، تَظهَر إسرائيل للعالم، بما في ذلك لأقرب حلفائها، بوجهها الأشد بشاعة، بعد أن توحشت في محاولاتها تحقيق إنجاز على حساب الدم الفلسطيني.
ورغم تباهي الجيش الإسرائيلي بتحقيق إنجازات ميدانية، إلا أن الواقع يشهد على أن الحرب البرية التي شنها على قطاع غزة تضطره لدفع أثمان باهظة في الأرواح. فالجيش الإسرائيلي يضطر لأن يعلن في كل يوم عدد جنوده القتلى، ما يزيد في حدة السجال الداخلي ويربك مخططات الحكومة الإسرائيلية في إعلان النصر وفرض الشروط.
ومن الواضح أن شلال الدم الفلسطيني الناجم عن شدة النيران الإسرائيلية على المناطق المدنية، وتنفيذ “عقيدة الضاحية” ليس فقط في الشجاعية، بل في العديد من مناطق القطاع في المغازي والبريج وخان يونس ورفح وبيت لاهيا، لم يشبع بعد نهم إسرائيل. فالخسائر التي تتكبدها تقريبا في كل متر تحاول التقدم فيه على أرض غزة تزيد من إفقاد العدو توازنه، وتدفعه للتخلي عن قناع الإنسانية والأخلاق الذي يدعي امتلاكه. وتكفي الإشارة إلى استهداف البيوت والأبراج السكنية وتدميرها فوق رؤوس ساكنيها، وبشكل منهجي ومن دون إنذار، لتبيان مقدار الإفلاس في التعاطي مع قطاع غزة ومقاومته.
ولليوم الثاني على التوالي سقط أكثر من 100 شهيد، بينهم عدد كبير من الأطفال في الغارات الجوية والقصف المدفعي على القطاع، ما يرفع عدد الشهداء منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، في الثامن من تموز الحالي، إلى أكثر من 570 فلسطينيا، وأكثر من 3350 جريحا. واستشهد فلسطيني برصاص مستوطن بالقرب من بلدة الرام المحاذية لمدينة القدس المحتلة.
وكان جليا أن ادعاء إسرائيل اكتشاف الأنفاق وتدميرها يصطدم بواقع أن المقاومة تقريبا في كل يوم من أيام القتال الأخيرة تحقق إنجازا بالنجاح في اختراق الدفاعات الإسرائيلية، وتنفيذ عمليات في الجانب الآخر من الحدود. وتقود هذه العمليات إلى بث الذعر، ليس فقط في صفوف الإسرائيليين في مستوطنات غلاف غزة، بل كذلك في صفوف الجيش الإسرائيلي نفسه.
ورغم كل الاحتياطات المتخذة، وانتهاج سياسة الأرض المحروقة، لمنع أي احتمال بوجود مقاومة للقوات البرية، ينجح مقاتلو “كتائب القسام” و”سرايا القدس” في تحطيم نظرية الالتحام الإسرائيلية. وتكفي الإشارة إلى أن فارق القوة النارية الهائل لم يحل دون المقاومة وتكبيد العدو، وفق اعترافه حتى الآن: 25 ضابطا وجنديا، قسم مهم منهم من الوحدات القيادية والنخبة، وإصابة ما لا يقل عن 150 جنديا. وأعلن العدو، أمس، مقتل 7 جنود وإصابة 30 بينهم ثلاثة بجراح خطرة.
واضطر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه موشي يعلون ورئيس أركان الجيش بني غانتس لتنظيم جولات ميدانية على القوات قرب قطاع غزة في محاولة لرفع معنوياتها. وشدد نتنياهو أمام هذه القوات على أن “الجيش يتقدم في المنطقة وفقا للخطة، والعملية ستزداد اتساعا إلى أن تحقق هدف إعادة الهدوء لسكان إسرائيل لفترة طويلة”. ولم يتطرق نتنياهو هنا إلى هدف “تجريد غزة من الصواريخ والأنفاق” الذي كان أعلن مرارا تمسكه به. وأشار إلى أن “إنجازات القتال واضحة على الأرض. وأنا منفعل من عملية ضرب الأنفاق، وهي تحقق نتائج تفوق توقعاتنا”.
وقد كسبت المقاومة الفلسطينية صدقية في تعاطيها الميداني والإعلامي، بحيث أن تقاريرها عن استهداف آليات وقتل جنود وضباط سرعان ما يتبين أنها صحيحة. كما أن إعلان المقاومة عن وجود أسير لديها لم يجد ما يناقضه لدى العدو، الذي يريد من المقاومة إثباتا ملموسا أنه لديها قبل أن تقدم على الاعتراف بذلك. وفي كل حال، فإن أداء المقاومة ونجاحاتها شكلا إرباكا معنويا وسياسيا لإسرائيل، وعززا إرادة المقاومة والتفاف الجمهور الفلسطيني في غزة حولها.
ومن المؤكد أن الهجمات التي يعترف الجيش الإسرائيلي بشن وحدات المقاومة لها على جنوده على طول القطاع، وفي كل أماكن تواجده وخلف خطوطه، تشهد على أن المقاومة حتى بعد مرور أسبوعين على حرب “الجرف الصامد” تراكم زخما ولا تتراجع. وبالأمس ظلت الصواريخ تنطلق من غزة إلى تل أبيب وما بعدها، بالوتيرة ذاتها التي كانت منذ الأيام الأولى، وبشكل زاد من قلق الإسرائيليين وشكهم بقواتهم وخشيتهم على مستقبلهم.
وأشارت تقارير إسرائيلية إلى أن عدد القتلى والإصابات في صفوف الجيش الإسرائيلي كانت ضمن التقديرات الأسوأ لا الأفضل، وأن الجيش الإسرائيلي لم يفلح، على الأقل حتى الآن، في تحقيق الردع الذي يريده. فمقاتلو المقاومة منظمون ويهاجمون ويتحركون وفق نظرية قتال مدهشة، ولديهم سيطرة كاملة على الميدان.
وتتحدث التقارير عن “إخفاقات” كثيرة، ليس فقط على الصعيد الاستخباري، رغم كل الموارد التي ترصد لذلك، بل أيضا على الصعيد القتالي في مستوياته التخطيطية والتنفيذية. ويتحدث خبراء عن أن انتهاء المعركة يمكن أن يثير مطالب بلجنة تحقيق لا تقل أهمية وخطورة عن تلك التي شكلت بعد “حرب لبنان الثانية”. ويتحدث هؤلاء عن إخفاقات من نوع نجاح المقاومة في استهداف وتدمير مدرعة قيادية للواء 188، ووقوع جنود لواء “جولاني” في كمائن المقاومة في الشجاعية. وفضلا عن ذلك، هناك أهلية القوات التي شاركت في القتال حتى الآن، والتي رغم كل مظاهر التمجيد لها، لم تثبت قدرات فائقة، والأمر يتصل حتى بوحدات النخبة العليا مثل “شييطت 13″ و”ماجلان”.
ويبدو أن إسرائيل لا تعرف ماذا ينبغي لها أن تفعل في ظل عدم امتلاكها إستراتيجية خروج من الحرب من ناحية، وتنامي الضغط الدولي من أجل وقف العدوان من ناحية أخرى. وتكفي هنا الإشارة إلى الجهود التي يبذلها الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع “حماس” من أجل توفير فرصة للاتفاق على تهدئة أو وقف إطلاق نار أو هدنة إنسانية. ولوحظ أن هناك نوعا من التحرك في الموقف المصري من المبادرة وتلميحات بالاستعداد لفتحها، بعد أن تدخلت الولايات المتحدة وإسرائيل في هذا الشأن. وكان لافتا الدور الذي تؤكده أميركا على أرفع مستوى بإعلانها تأييدها للوقف الفوري “للأعمال العدائية” وفق اتفاقية العام 2012 التي حاولت المبادرة المصرية بصيغتها الأولى تقييدها. وقد وصل وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى القاهرة تمهيدا لوصوله إلى تل أبيب لدفع الحكومة الإسرائيلية لقبول اتفاق لوقف النار. كما كان لافتا موقف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حول وجوب وقف النار وفك الحصار عن “غزة الجرح”.
وبالعموم، فإن الجمهور الإسرائيلي يسعى إلى إشباع غرائزه بقتل المزيد من العرب، ولذلك يؤيد الحرب، لكنه يجد حاليا أن تخوفاته من أثمانها تتحقق. ويعتقد كثير أن تأييد الجمهور الإسرائيلي للحروب لا يعني استمرار قبوله بها، خاصة عندما تبدأ مصالحه في التأثر ويشعر بثمن هذه الحرب. وتكفي هنا الإشارة إلى أن إيهود أولمرت خاض “حرب لبنان الثانية” وهو يحظى بأعلى درجة من التأييد، لكنه مثلا في يوم واحد خسر شعبية بنسبة 30 في المئة، وقام الجمهور بإسقاطه، أساسا بسبب تلك الحرب.
وتتحدث أوساط مختلفة عن إمكانية إعلان هدنة إنسانية طويلة الأجل، على أن تفتح هذه الهدنة الباب أمام مفاوضات للتوصل إلى اتفاق جديد. ويبدو أن إعلان هدنة كهذه يحل مشكلة للطرفين الراغب كل منهما في تعديل اتفاق العام 2012 لمصلحته. فإسرائيل يصعب عليها بعد كل ما دفعته من أثمان، على شكل هيبة وخسائر عسكرية واقتصادية وفي الأرواح، القبول بالعودة إلى اتفاق يبقي للمقاومة قدرة على التطور والتعاظم. أما المقاومة فإنها تجد غير مقبول عدم تأكيد وجوب فك الحصار.
السفير

 

 

عدوان أبعد من غزة/ سليمان تقي الدين
لا نفاجأ أن تتحول مأساة غزة جزءاً من لعبة الكبار ويتمادى العدوان الهائل دون عمل فعّال لوقفه حتى من الذين يدّعون وصلاً بغزة وأطراف المقاومة فيها. هناك تواطؤ ضمني ومنافسة مكشوفة لفرض الانحياز على غزة بين الثلاثي المصري التركي الإيراني وهي محكومة جغرافياً بمصر. لكن المسألة أبعد من اللحظة السياسية الراهنة حيث ستنجلي المواجهة عن واقع في غزة يضعها ربما لسنوات طويلة خارج القدرة على المبادرة. فهل يكون العدوان الإسرائيلي وخلفه الموقف الأميركي تمهيداً لصوغ تسوية أو فرض حل على الشعب الفلسطيني من بين احتمالاته تكريس المعادلة الراهنة على الأرض وتدعيمها بتوافقات إقليمية؟ فحين تتحول المسألة إلى مطلب “حماية وجود الشعب الفلسطيني” نكون قد ابتعدنا كثيراً عن تسوية الدولتين، ومع ذلك لا يلقى هذا المطلب استجابة من مجتمع دولي يخضع للرؤية الإسرائيلية.
فهل هذا هو الحل “التصفوي” أم انه الخطوة الضرورية لإعادة ربط المسار الفلسطيني بما سيحصل لدول وكيانات المنطقة وجغرافيتها السياسية؟ أليست المعطيات الحاصلة على الأرض تشير إلى حل إسرائيلي يعيد إلحاق ما يبقى من الضفة بالأردن، وقطاع غزة بمصر وان ذلك يصير مع الوقت أمراً واقعاً عبر إضعاف مقوّمات الاستقلال الفلسطيني وذهاب الأوضاع العربية لا سيما المحيطة بفلسطين إلى حال التفكك والاهتراء؟
ولطالما أصبحت دول جوار فلسطين في حال البحث عن وحدتها وشرعية وجودها جراء نزاعاتها الداخلية، فإن شعب فلسطين يمكن أن يتحوّل إلى غرفة الانتظار لسنوات طويلة ريثما تنجلي الصورة الإقليمية.
على أي حال، قبل اندلاع المشكلات العربية الداخلية، تعرضت غزة إلى عدوان مماثل ولم يكن المحيط أكثر فاعلية أو حضوراً في لجم العدوان. فلطالما دخل النظام العربي منذ زمن بعيد تحت مظلة الهيمنة الأميركية وما بقي فيه من مشاكسين يتجمعون الآن في جبهة واحدة مع ما يسمى “الحرب على الإرهاب” من دون أن يلحظوا أن “إرهاب الدولة” الذي مارسته إسرائيل وأميركا في الحروب هو أحد الأسباب الرئيسية لتلك الظاهرة “الجهادية” غير العاقلة أصلاً والمنبعثة عن شعور بفيض الكأس من مظالم العالم والرغبة في تدميره.
فلسطين لا تطلب الآن الكثير من العرب، تريد موقفاً سياسياً من العدوان وأن يسهم العرب في رفع الحصار عنها لا أن يكونوا جزءاً منه. فلسطين ليست قضية تعالج بديبلوماسية صامتة وبمبادرات خرساء ولا بهذا المستوى من الخضوع والانتظار لعطف دولي من هنا أو هناك. إن جزءاً من التشدد الإسرائيلي والانفلات من أية ضوابط للعدوان، والقتل والتدمير المنهجيين، يعود إلى هذا الخنوع إن لم يكن التواطؤ العربي.
أن يخرج نتنياهو معلناً أن العالم معه في هذه الحرب وأن يأخذ وقته في هذه المهمة الإجرامية القذرة، هذا يعني فعلاً أن القيادات العربية لم تتخلّ فقط عن مصالحها الوطنية ومصالح شعوبها، بل فقدت الانتماء إلى الثقافة الإنسانية. لا يمكن تبرير أي موقف سياسي لا يأخذ بالاعتبار المأساة الإنسانية في غزة المحاصرة التي تفتقد إلى الغذاء والدواء والماء والكهرباء. هذا العقاب الجماعي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني وخاصة في غزة يراكم خيارات من العنف لن تساعد أبداً على إنتاج حلول سياسية في الحاضر والمستقبل.
إن مسار القضية الفلسطينية يدل على ذلك حيث تلازمت إخفاقاتها مع ظهور الحركات السياسية الأكثر جذرية وتطرفاً ومنها واقع غزة. الأمر محسوم بالنسبة لإسرائيل والغرب حجم الكراهية والحقد العربيين سواء حملته البيانات السياسية أم شهادات عائلات الضحايا. لكن أن يشعر معظم الشعوب العربية بهذا التخلي عنهم من دولهم وأنظمتهم وقياداتهم وأن يكون مطلب “هذه الواجهة السياسية” رضا أميركا والغرب وعدم مواجهة إسرائيل فإن هؤلاء “الغرباء” في أرضهم وأوطانهم ليسوا مادة ثورات فقط بل العنف الذي تزعم واجهات العرب السياسية أنه مستورد.
على أي حال لا بد من معالجة الوضع الإنساني لغزة الآن ولا شك أن المقاومة هي الطرف المعني بهذه الأولوية في أي تفاوض. لكن فليتذكر المجتمع السياسي العربي أن العدوان على غزة ليس مجرد عملية تأديبية أو عقابية من زاوية إسرائيل لجهة سياسية بعينها، بل هي عملية سياسية أولية لفرض حلول تصفوية تلقي بثقل القضية الفلسطينية على العرب مجدداً.
السفير

 
بوصلة الألم/ الياس خوري
تعيد غزة بمقاومتها وصمودها ودماء أطفالها رسم الأفق العربي من جديد، في زمن بدا فيه هذا الأفق وكأنه انهار في شكل كامل.
في زمن الخليفة العراقي الذي يلهو بطرد المسيحيين من الموصل، وصلب الفتيان ورجم النساء، وفي زمن الديكتاتور السوري الذي نجح في تشريد الملايين من السوريين وتدمير مدنهم وقراهم، وفي زمن الماريشال المصري الذي امتطى الثورة بهدف تفريغها من مضامينها الديموقراطية، ولا همّ له سوى معالجة فوبيا الإخوان بالقمع. في زمن الكاز والغاز الذي ينشر رائحة الخنوع والاستبداد، وفي زمن هستيريا الصراع الطائفي السني-الشيعي الذي يهدد بمحو الفكرة العربية، تأتي غزة كي تغسل الضمير العربي بالصمود والتحدي، وتعيد اللغة الى اللغة، وتصنع افقا محتملا للخروج من الانحطاط الذي حوّل المشرق العربي الى مزبلة للتاريخ.
مقاومة غزة التي تبدو وكأنها محاصرة بالخنوع العربي، هي باب الخروج من هذا الخنوع، عبر بوصلتها المجبولة بالقهر والدم. لا أريد أن أمجد البطولة، ولا أن امدح الألم. فغزة اليوم في قمة الألم، أطفالها يموتون، بيوتها تهدم، الالوف من سكانها، وهم في أكثريتهم الساحقة من اللاجئين، يشردون من جديد، وأرضها صارت مذبحة. لكن هذا الشريط الساحلي الفلسطيني في صموده الأسطوري، يعلن أن فلسطين لن تموت، وأنها قادرة على صنع معجزة المقاومة، حتى عندما يغطي الامريكان والروس والاوروبيون الجنون الدموي الاسرائيلي، الذي أعتقد أنه يستطيع اصطياد فلسطين وانهاء قضيتها من خلال تركيع غزة.
لكن صمود غزة وبطولة مقاوميها الشجعان، وصبر أهلها، يجب ان يكون فاتحة الكلام عن الأفق السياسي الفلسطيني برمته، الذي لا يزال عاجزا عن صوغ مشروعه في هذه اللحظة السياسية التي طغت عليها الالتباسات.
تعالوا ننظر في الواقع كما هو، بلا عمليات تجميل، ترقّع الثوب السياسي الفلسطيني المليء بالمزق.
حرب غزة الحالية هي النتيجة المنطقية لفشل ما اطلق عليه اسم «عملية السلام». اسرائيل لا تريد سلاما بل تريد تأبيد احتلالها وافتراس الأرض بالمستعمرات (التي يطلق عليها الاعلام اسما خاطئا هو المستوطنات). خيار قيادة السلطة انتهى الى لاشيء، وقام بتخريب اللغة السياسية الفلسطينية، وادى الى انهيار اخلاقي صاحب الإنهيار السياسي. لكن اوان اصلاح هذا الخطأ لم يفت بعد بشكل كامل. قبول حماس بحكومة الوحدة الوطنية، بعد انهيار المشروع الإخواني في مصر، يجب ان يكون مناسبة كي تتصرف السلطة بصفتها قيادة لكل الشعب الفلسطيني، اي تشارك في المفاوضات ( كما تفعل الآن) وتشارك في المقاومة بشكل فعلي وفعّال (كما لا تفعل الآن).
ليس مطلوبا من السلطة اطلاق صواريخ لا تملكها، لكن المطلوب أكثر أهمية بكثير من اطلاق الصواريخ، المطلوب جمع الفصائل الفلسطينية والاتفاق على اهداف موحدة ورؤية مشتركة للحق الفلسطيني، والالتفاف حول فكرة مقاومة الاحتلال، بإعتبارها حقا لا يمكن التنازل عنه.
العمل السياسي المطلوب لا يهدف فقط الى انقاذ فلسطين من براثن التجاذبات الإقليمية، التي توحي وكأن حرب غزة هي حرب بين المحاور الإقليمية المتصارعة، بل بلورة مشروع فلسطيني موحد يفرض نفسه على جميع القوى الإقليمية. فالذي يريد دعم فلسطين وانقاذ غزة عليه أن ينضم الى المحور الفلسطيني، ويتوقف عن الإعتقاد أنه يستطيع استغلال الدم الفلسطيني لتحقيق مكاسب آنية، لا علاقة لها بالموضوع.
على الفلسطينيين أن يحددوا الموضوع اولا، ولا يسمحوا لأحد بامتلاك قرارهم بالنيابة عنهم. فلسطين هي الفاعل اليوم، ويجب ان لا تكون نائب فاعل او مفعولا به في هذه الفوضى الإقليمية المستشرية. وهنا على مناضلي فتح وكوادرها، وعلى الحركة الاسيرة، وعل مناضلي الجهاد وحماس والشعبية والديموقراطية رفع الصوت والدفع باتجاه ان يتوجه كل الجهد وكل البنادق وكل النضال ضد المحتل.
يجب اسقاط الهدف الإسرائيلي من الحرب وهو تجريد غزة من السلاح، كما يجب عدم الاستخفاف بقدرات الدولة الصهيونية، أو قراءة تردد جيشها في العملية البرية بشكل خاطئ. اسرائيل تملك قدرات عسكرية مخيفة، وشلّ هذه القدرات لا يكون بالمواجهة العسكرية فقط، على مركزية هذه المواجهة وأهميتها، بل يكون عبر مشروع نضالي يتألف من بندين:
البند الأول هو تحويل الأرض الفلسطينية بأسرها، من البحر الى النهر، ميداناً لهذه المعركة عبر عمل جماهيري كبير ومنظّم ومنسّق، يشمل جميع انحاء الضفة الغربية والقدس، ويمتد الى مناطق 1948. ليس المطلوب مظاهرات شبابية صغيرة، بل نزولا جماهيريا كثيفا الى الشوارع، في رام الله وحيفا والخليل ونابلس والناصرة وجنين وقلقيلية وشفا عمرو وام الفحم والقدس. عمل يتميز بطابعه الجماهيري السلمي، هدفه ارباك جيش الاحتلال، ومخاطبة الرأي العام العالمي. وعلى القوى الأمنية الفلسطينية ان تعلم أن دورها ليس قمع شعبها بل حمايته، وانه لن يسمح لها بأن تتصرف كوكيل لأمن المحتل ومنسق مع جيش الاحتلال.
البند الثاني، هو وضع حرب غزة على طاولة المفاوضات بصفتها جزءا من النضال الفلسطيني لانهاء الاحتلال. صحيح ان لغزة المحاصرة والمحتلة حقوقا مشروعة يجب التمسك بها، (هناك وهم أن غزة محررة، وهذا غير صحيح، غزة سجن كبير محاصر، ومقاومة أهلها اليوم يجب أن تقرأ بصفتها انتفاضة سجناء)، لكن على القوى الفلسطينية التي اجتمعت في حكومة واحدة ان تبلور شروطها الوطنية المرحلية، من رفع الحصار، الى وقف الوحش الاستعماري (الاستيطاني) الزاحف، الى اطلاق الأسرى، الى رفع القبضة الحديدية عن الضفة، الى التوقف عن مصادرة الأراضي.
غزة لا تقاتل اليوم دفاعا عن نفسها بل دفاعا عن فلسطين. وعلى حركة فتح ان لا تضيع فرصة عودتها الى العمل الفلسطيني المقاوم، وعلى كتائب شهداء الأقصى التي تم حلها بقرار سلطوي ان تعيد تشكيل نفسها كقوة فدائية مقاتلة.
الوحدة الفلسطينة اليوم هي شرط كسر معادلات الحاق القضية باجندات اقليمية هدفها تأبيد السلطات الاستبدادية او فرض اجندة اصولية على نضال وطني تحرري، يشكل اليوم الأفق الوحيد القادر على كسر الظلام الزاحف على المشرق.
فلسطين تصمد وتقاوم، اذاً هناك أمل، لأن هناك من يخترع الأمل.
الياس خوري
القدس العربي

 

 

 

مرحلة إحياء الوحشية وتسخيفها/ عبد الوهاب بدرخان
تتزاحم الوقائع في مرحلة باتت تستحق بامتياز، أو بالأحرى ببالغ الخزي، لقب «سنوات العودة إلى الوحشية»، إذ تُمارَس بأحدث الأدوات أو بأكثرها بدائيةً، وتُنفَّذ على أنها من أجل قضيةٍ ما رغم أنها تسيئ بالضرورة إلى أي شعب وأي قضية. ومع أن المرتكبين مسؤولون مباشرون عن أفعالهم إلا أن المسؤولية تُعزى أيضاً إلى من آلت إليهم شؤون الإدارة والتدبير. فكل تجاهلٍ لظلم هنا أو هناك، وكل إشعال لنزاعٍ وسعي إلى استغلاله، وكل إهمالٍ لتطرف وإرهاب، أفضت جميعاً إلى نتائج إنسانية كارثية تفضي بدورها إلى نزاعات وتطرّفات متوالدة ومتكاثرة وبات متعذّراً ضبطها.
خذوا وقائع أخيرة حصلت في غضون أيامٍ وأسابيع متقاربة، بعضٌ منها مفاجئ لكن معظمها بدأت فصوله قبل زمن ولا تزال تتفاعل، وكلّها محصّلة طبيعية للفشل/ أو لعدم الرغبة في إيجاد حلول، ذاك أن عودة صراعات «الحرب الباردة» بين الكبار ساهمت في إفلات موجة «الوحشيّات»، التي لا يُعرف متى تتراجع وتنتهي:
… يأمر الجيش الإسرائيلي سكان منطقة تلو أخرى في غزة بإخلائها ويرفق تحذيره بعبارة «أعذر من أنذر»، ما تعتبره الولايات المتحدة «احتياطات» جديرة بالتنويه يقوم بها الإسرائيليون لتجنب المدنيين في عملياتهم العسكرية. وكأن مئات الضحايا والمصابين، وغالبيتهم من الأطفال والنساء والمسنّين، لم يسقطوا بفعل الطائرات المغيرة والصواريخ «الذكية»، التي لم توفّر أيضاً بضعة آلاف من المساكن والأبنية من دمار كلّي أو جزئي. لكن ماذا عن الإخلاء القسري، هل فكّر أحدٌ في إسرائيل أو أميركا بما يعنيه للمدنيين، وهل هو أقل من «إرهاب دولة»؟ وهل يصعب توقّع ما يزرعه من قهر وتطرّف طالما أن لا سلاماً ولا حياة طبيعية يولدان من التوحّش العسكري المتكرر، وكأن غزّة متروكة لقدر جعلها مجرد بؤرة اعتمال تستلزم جراحة بين الحين والآخر، لكن مع إبقاء جرح الحصار والتجويع والتنكيل مفتوحاً ليعتمل مجدداً.
… فجأة تسقط طائرة ماليزية مدنية من أجواء أوكرانيا إلى أرضها، ويقضي فيها نحو ثلاثمائة شخص، بينهم عشرات الاختصاصيين في مكافحة «الإيدز» كانوا في طريقهم إلى مؤتمر علمي في ملبورن محوره علاج وشيك للمرض. هناك من قال إن الدواء ربما كان على متن تلك الطائرة، وآخر توقّع أن الكارثة ستؤخره. ولا شك أن الجدل الذي دار فوق الجثث ضاعف من حجم هذه الكارثة، حين راح الجميع يتراشق الاتهامات ويتبرّأ مما حصل، فيما رجحت مسؤولية انفصاليي شرق أوكرانيا بإطلاق صاروخ أصاب الطائرة وهي على علو شاهق وفي ممر جوي اعتيادي آمن. لم توحِ موسكو ولا أنصارها الانفصاليون باعترافهم بأي تبعات، سعوا إلى العبث بمسرح الجريمة لتضليل التحقيق الدولي. ما السبب المباشر لهذه الكارثة؟ نزاعٌ داخلي تحوّل مواجهة دولية، وميليشيات حصّنتها روسيا من أي عواقب حتى لو بلغت ارتكاباتها إطلاق صاروخ عشوائي.
… في نيجيريا لا تزال نحو مئتي فتاة في قبضة تنظيم «بوكو حرام» الإرهابي الذي اختطفهن منتصف أبريل الماضي من مدرستهن مطالباً بإطلاق معتقلين من أنصاره. وقد استثار الحدث اهتماماً دولياً خاصاً، فأبدى العديد من العواصم استعداداً للمساعدة، ولم يُحرَز أي تقدّم، بل إن مئات القتلى سقطوا في هجمات مكثّفة واصل التنظيم شنّها في شمال شرقي البلاد. وحتى الآن لم تستطع الدول الكبرى، التي استفزّها مصير الفتيات وتحمست لتحريرهن بأقصى سرعة، الحصول على تعاون مجدٍ من الدول المجاورة التي يشتبه بأن بعضاً منها يمرّر دعماً وتسهيلات لـ «بوكو حرام» الذي أرسل أخيراً إشارات تقارب مع تنظيم آخر هو «الدولة الإسلامية في العراق والشام». وكلاهما أصبح مشهوداً له بأنه فاق تنظيم «القاعدة» وتجاوزه بالعنف الوحشي.
وبين سوريا والعراق أصبح تنظيم «داعش» يطبّق «شريعته» الخاصة التي يتبدّى أنها نسخة من «شريعة الغاب» وقد تكون وحوش الغابات وحيواناتها أكثر اتزاناً منه. فمع دخول الرجم حتى الموت، بالإضافة إلى قطع الأعناق والصلب حتى الموت، فقَد هذا التنظيم كل علاقة بالإنسانية بعدما قطع كل اتصال بالعصر وأثبت أن عقيدته الوحيدة تترجّح بين القتل والاضطهاد. حتى أن ما تسمّى «مكاتب الحسبة» التي أنشأها يديرها مجرمون يلقّبون بـ«القضاة» ولا عمل لهم سوى التفنن بمضايقة الناس والتسلّط عليهم وعلى أملاكهم. لا شك أن الذين دعموا هذا التنظيم، سواء كانوا أشخاصاً عاديين أو أجهزة لها أجندات، ساهموا في صنع وحش وظنّوا أنهم سيتمكّنون دائماً من ترويضه لكنهم يخشون الآن أن يرتدّ عليهم.
يعيش العرب خصوصاً ولادة استبدادات جديدة، نتيجة ارتدادات الخداع في تسوية القضية الفلسطينية والحرب الغبية على الإرهاب ونهاية استبدادات لم يعرف أحد ما كانت تغطّيه من أمراض إلا بعد سقوطها. لذلك تتكرر حروب غزّة ويستشري الإرهاب وتحاول الاستبدادات القديمة إعادة انتاج نفسها باعتبار أن الوحشيات المستأنسة أفضل من تلك المنفلتة.
الاتحاد

 

 

 

توازن الرعب: مآلات الحرب الثالثة على غزة/ صالح النعامي
ملخص
تعد الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، ثالث أكبر مواجهة عسكرية تندلع بين الكيان الصهيوني وحركات المقاومة الفلسطينية في القطاع منذ أن انفردت حركة حماس بإدارة شؤون قطاع غزة في يوليو/تموز 2007. ولقد شُنّت هذه الحرب في أعقاب تحولات كبيرة طرأت على البيئة الإقليمية، جعلت ظروف هذه الحرب تختلف كثيرًا عن ظروف حرب “عمود السحاب” التي شنتها إسرائيل على غزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، وهذا ما وجد انعكاسه على مسار الحرب، ويفترض أن يؤثر على نتائجها.
باتت دوائر صنع القرار في تل أبيب تدرك استحالة وقف إطلاق الصواريخ من القطاع غزة بالوسائل العسكرية، كما أنها تعي أن فرص محاولة تمرير صيغة “الهدوء مقابل الهدوء” تؤول إلى الصفر في ظل عدم إبداء المقاومة أية مرونة في هذا الجانب. وهذا يزيد من فرص التوصل لاتفاق جديد بالتهدئة، يأخذ بعين الاعتبار مصالح الطرفين، سيما في ظل تعالي الأصوات داخل تل أبيب التي تنادي بالعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة على اعتبار أن تدهور الأوضاع الاقتصادية يكرس بيئة اجتماعية حاضنة للمقاومة.
مقدمة
تعد الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، ثالث أكبر مواجهة عسكرية تندلع بين الكيان الصهيوني وحركات المقاومة الفلسطينية في القطاع منذ أن انفردت حركة حماس بإدارة شؤون قطاع غزة في يوليو/تموز 2007. ولقد شُنّت هذه الحرب في أعقاب تحولات كبيرة طرأت على البيئة الإقليمية، جعلت ظروف هذه الحرب تختلف كثيرًا عن ظروف حرب “عمود السحاب” التي شنتها إسرائيل على غزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، وهذا ما وجد انعكاسه على مسار الحرب، ويفترض أن يؤثر على نتائجها.
تحاول هذه الورقة تفكيك بيئة الحرب، ورصد الأهداف التي سعت كل من إسرائيل وحماس لتحقيقها من خلالها، وحصر الافتراضات التي أغرت إسرائيل بشنها، وتحليل تأثير موازين القوى والبيئة الإقليمية على مسار الحرب.
بيئة الحرب
على الرغم من أن إسرائيل وضعت هدفًا فضفاضًا لحربها الحالية على قطاع غزة يتمثل بـ”تقليص التهديدات والمخاطر التي يتعرض لها الأمن القومي الإسرائيلي، ومصدرها غزة” (1)، إلا أنه من خلال ما صدر عن دوائر صنع القرار ومحافل التقدير الاستراتيجي في تل أبيب يمكن القول: إن هناك أهدافًا محددة حاولت إسرائيل تحقيقها من خلال هذه الحرب. إن أهم الأسباب التي حدت بالقيادة الإسرائيلية لشن الحرب الحاجة لترميم قوة الردع في مواجهة حركات المقاومة، وعلى وجه الخصوص حركة حماس؛ حيث رأت تل أبيب أن الردع الإسرائيلي قد تآكل إلى حد كبير، وأنه يتوجب ترميمه ومراكمة قوته(2). ولم تُبدِ إسرائيل حماسة لتوظيف الحملة الحالية في استعادة قوة الردع في مواجهة حركات المقاومة الفلسطينية فقط، بل تحاول أيضًا من خلالها إرسال رسالة واضحة للحركات الجهادية التي تمكنت من إيجاد موطئ قدم لها في بلدان عربية محيطة بفلسطين، سيما سوريا، مفادها أنه لا يجدر بها القيام بأي عمل ضد إسرائيل (3). في الوقت ذاته، فإن إسرائيل سعت من خلال تكتيكاتها الميدانية للمس بالبنى العسكرية والأطر التنظيمية والقوى البشرية للمقاومة الفلسطينية. وجاهر الجيش الإسرائيلي بأنه هدف من خلال عمليات القصف إلى تدمير معامل إنتاج الصواريخ محلية الصنع ومخازنها، سيما متوسطة المدى، التي تملكها حماس، فضلاً عن استهداف منصات الإطلاق التي نصبتها حركات المقاومة في طول قطاع غزة وعرضه، علاوة على الأنفاق العسكرية، التي يزعم الجيش الإسرائيلي أن المقاومة حفرتها لتنفيذ عمليات تسلل داخل عمق إسرائيل. في الوقت ذاته، فإن الجيش الإسرائيلي كان معنيًا بالمس بأكبر عدد من قادة الأجنحة العسكرية ونشطائها، سيما أولئك الذين على علاقة بتصنيع وإطلاق الصواريخ. فضلاً عن ذلك، فإن إسرائيل تحاول توظيف الحرب في إعاقة تطبيق اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، الذي يُنظر إليه في تل أبيب كتهديد استراتيجي، لأن الانقسام الفلسطيني الداخلي حسّن من قدرة تل أبيب على المناورة في مواجهة هاتين الحركتين. وحسب المنطق الإسرائيلي فإن اندلاع مواجهة مع حماس، تقوم الحركة خلالها باستهداف العمق الإسرائيلي سيساعد تل أبيب على إقناع المجتمع الدولي، سيما الغرب بنزع الشرعية عن حكومة الوفاق الوطني، التي تشكّلت في أعقاب التوصل لاتفاق المصالحة (4). ولقد خططت إسرائيل حربها لتكون خاطفة، للحيلولة دون إطالة مدى “معاناة” عمقها المدني، علاوة على رغبتها في تقليص الأضرار الاقتصادية الناجمة عنها؛ حيث إن ما خسرته إسرائيل خلال الأيام الثلاثة الأولى فقط من الحرب يقدر بـ 2.4 مليار دولار (5). في الوقت ذاته، فإن إسرائيل لم تكن معنية بمواجهة طويلة في الوقت الذي تتعرض فيه لمخاطر أمنية، على أكثر من جبهة، فضلاً عن أن تل أبيب تخشى ردة فعل الشارع العربي على جرائمها في القطاع، وتحسبت أن يفضي أي تبرم شعبي عربي إزاء سلوكها إلى إحراج دوائر صنع القرار في العواصم العربية، في الوقت الذي تراهن فيه إسرائيل على عوائد التقاء المصالح بينها وبين هذه العواصم في مواجه عدد من التحديات المشتركة (6).
وفيما يتعلق بحركة حماس، فإنه على الرغم من أن الحرب قد فُرضت عليها، إلا أنها تحاول توظيفها للخروج من أزمتها؛ حيث إنها لم يعد أمامها ما تخسره. فقيادة الحركة ارتأت أنها قدمت كل التنازلات الممكنة من أجل إنجاز المصالحة الداخلية لكي تتخلص من التبعات الثقيلة لحكمها لقطاع غزة، سيما في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للجمهور الفلسطيني في القطاع. ولكن ما فاجأ حركة حماس حقيقة هو أن اتفاق المصالحة قد فاقم الأوضاع الاقتصادية سوءًا؛ إذ إن السلطة الفلسطينية ترفض دفع رواتب أكثر من 45 ألف موظف يعملون في دوائر حكومة غزة، في حين ترفض إسرائيل السماح بنقل المساعدة المالية التي قدمتها دولة قطر لدفع رواتب هؤلاء الموظفين. من هنا، فإن حركة حماس تسعى لتضمين أي اتفاق تهدئة بينها وبين إسرائيل في أعقاب انتهاء الحملة الحالية بنودًا تضمن تقليص مظاهر الحصار وتبعاته والتزام إسرائيل بسحب اعتراضها على نقل الأموال اللازمة لدفع رواتب الموظفين، إلى جانب الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين الذين أُفرج عنهم في صفقة تبادل الأسرى الأخيرة عام 2011، وأعاد جيش الاحتلال اعتقالهم مؤخرًا بعد خطف وقتل المستوطنين الثلاثة في الضفة الغربية.
دوافع إسرائيل إلى الحرب
عندما اتخذت إسرائيل قرار الحرب على غزة انطلقت من افتراض مفاده أن التحولات الإقليمية التي شهدتها المنطقة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، جعلت حركة حماس في أضعف أوضاعها، وهذا ما أغراها بالمبادرة لتوجيه ضربات للحركة دون أن تأخذ بعين الاعتبار إمكانية حصول حماس على إسناد سياسي من أطراف إقليمية، مع العلم أن مثل هذا الإسناد كان يمكن أن يقلص من قدرة تل أبيب على تحقيق أهدافها. ولقد راهنت تل أبيب كثيرًا على عوائد الحرب التي شنتها سلطة الانقلاب في القاهرة على حركة حماس، سيما حرص الجانب المصري على تدمير الأنفاق التي يتم عبرها تهريب السلاح، خصوصًا الصواريخ، للمقاومة في القطاع، وهذا ما جعل الاستخبارات الإسرائيلية تتوقع عشية الحرب أن يكون لدى حماس كمية محدودة من الصواريخ، يصل أبعد مدى لها حتى منطقة تل أبيب، وسط الكيان الصهيوني (7). في الوقت ذاته، فإن إسرائيل شنت الحرب من خلال افتراض مفاده أن لديها من المعلومات الاستخبارية حول حماس وقدراتها ما يمكّنها من توجيه ضربات تشل قدرات الحركة العسكرية، سيما القوة الصاروخية.
مسار الحرب
شرعت إسرائيل في حربها بتوجيه ضربات جوية متواصلة، هدفت إلى تدمير منازل قيادات ونشطاء في حركات المقاومة، سيما المقاتلين في الأذرع المسلحة، ومحاولة تصفية عدد منهم، علاوة على تدمير بنى ومرافق مدنية، تزعم إسرائيل أنها تتبع حركة حماس. وفي المقابل، ردت حماس بإطلاق صواريخ على العمق الإسرائيلي، والقيام بعمليات تسلل إلى عمق إسرائيل عن طريق البحر، وعبر الأنفاق. وقد هدفت إسرائيل إلى توظيف هذه الضربات في إرغام حماس على قبول العرض الذي قدمه مسؤول ملف الأراضي المحتلة في وزارة الحرب الإسرائيلي الجنرال بولي مردخاي بوقف نار متبادل دون وساطات، أو كما سماه: “تهدئة مقابل تهدئة”. وقد رفضت المقاومة العرض، وأصرت على قبول مطالبها، وواصلت إطلاق الصواريخ على إسرائيل، في الوقت الذي واصل فيه جيش الاحتلال الغارات الجوية. إن فشل الضربات الجوية المكثفة والعنيفة، في إقناع حماس بوقف إطلاق الصواريخ، ومصلحة تل أبيب في تقصير أمد الحرب، جعل من مصلحة إسرائيل تدخل طرف خارجي للتوسط بينها وبين حركة حماس. وقد عرضت دول عديدة، من بينها قطر وتركيا، جهودها للوساطة، في حين امتنعت مصر في البداية، لكنها طرحت بعد ذلك مبادرة، بدعم أميركي، تلبي في الواقع الشروط الإسرائيلية (8). وقد رفضت فصائل المقاومة المبادرة المصرية لأنها تبنت الموقف الإسرائيلي، وأعفت تل أبيب من أي تعهد بشأن تخفيف الحصار المفروض على القطاع وإطلاق سراح الأسرى، علاوة على أنها منحت إسرائيل مخرجًا لإنهاء حربها بعدما تبين استحالة تحقيق الأهداف التي وضعتها لهذه الحرب عبر الضربات الجوية. ومما لا شك فيه أن أخطر ما في المبادرة المصرية، التي أكدت جميع فصائل المقاومة أنها لم تُستشر فيها، أنها تفتح المجال لطرح قضية تجريد المقاومة في القطاع من سلاحها، سيما الصواريخ، وهذا ما لم تفلح إسرائيل في تحقيقه عبر استخدام القوة (9).
ولم تكتف سلطة الانقلاب بطرح مبادرة وقف إطلاق النار بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي فقط، بل إنها حمّلت المقاومة الفلسطينية المسؤولية عن تبعات رفضها المبادرة المصرية؛ مما يعني منح الاحتلال الشرعية لمواصلة القتل بشكل أكثر وحشية (10). وفي أعقاب ذلك شنت إسرائيل حملة برية واسعة النطاق على قطاع غزة، إلى جانب تواصل عمليات القصف من الجو والبحر. وقد أكد نتنياهو أن الهدف من الحملة البرية هو القضاء على الأنفاق الحربية التي حفرتها حركة حماس بغرض تنفيذ عمليات في عمق إسرائيل. وقد استدعى الجيش الإسرائيلي أكثر من 60 ألفًا من جنود الاحتياط، وشرع في البحث عن الأنفاق، حيث زعم أنه عثر على 13 نفقًا. لكن ما لم يأخذه القادة العسكريون الإسرائيليون بالحسبان حقيقة أن التواجد العسكري الكثيف لم يحل دون تمكن المقاومين الفلسطينيين من التسلل خلف خطوط الجيش الإسرائيلي وضربه. ومما لا شك فيه أن أكبر ضربة تعرض لها جيش الاحتلال تمثلت في الكمين المحكم الذي نصبته “كتائب القسام”، الجناح العسكري لحركة حماس في التخوم الشرقية لحي “الشجاعية” شرق مدينة غزة ليلة التاسع عشر من يوليو/تموز، حيث تم استدراج رتل من الدبابات إلى حقل من الألغام، وتفجيرها، وفي الوقت ذاته استهداف القوات التي انطلقت لإخلاء القتلى والمصابين بالقذائف؛ مما أدى إلى مقتل وجرح العشرات من الجنود. وقد دفع نجاح المقاومة هذا جيش الاحتلال لارتكاب مجزرة بشعة بحق المدنيين في حي الشجاعية في صباح العشرين من يوليو/تموز؛ حيث أطلقت المدفعية الإسرائيلية حممها بشكل مباشر على منازل الفلسطينيين، مما أدى إلى مقتل 90 فلسطينيًا، 45 منهم من النساء والأطفال، وجرح المئات، علاوة على تدمير عشرات المنازل. وقد أسفرت الحرب حتى الآن عن مقتل أكثر من 420 فلسطينيًا وجرح مئات آخرين وتدمير أكثر من 300 منزل ومنشأة ومسجد (11). وحسب وزارة الصحة الفلسطينية، فإن حوالي 90% من القتلى الفلسطينيين هم مدنيون (12).
اختبار الحسابات الإسرائيلية
على الرغم من حجم الخسائر الفلسطينية في معركة الشجاعية، إلا أن نخبًا إسرائيلية سارعت لاعتبارها نقطة تحول فارقة في الصراع بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال (13). وهناك ما يؤشر على أن أداء المقاومة الفلسطينية بشكل عام أسهم في إقناع النخب الإسرائيلية بخطأ الافتراضات التي أغرت تل أبيب بشن الحرب الحالية على القطاع. فقد اكتشف الكثير من النخب الإسرائيلية أن الافتراض القائل بأن التحولات الإقليمية أسهمت في إضعاف حركة حماس وتحسن من مكانة إسرائيل في أية مواجهة عسكرية معها لم يكن دقيقًا. وذهب بعض كبار الباحثين والكتّاب إلى حد القول: إنه تبين أن التحولات الإقليمية جعلت حماس أكثر “عنادًا وشراسة”، على اعتبار أن الحركة باتت تدرك أنها تقاتل للحفاظ على وجودها (14). في الوقت ذاته، فقد تبين خطل افتراض إسرائيل بأن قيام مصر بتدمير الأنفاق قد أسهم في تقليص قدرات حماس العسكرية. فقد تبين أن توقف تهريب السلاح عبر الأنفاق دفع حماس للاعتماد على ذاتها في إنتاج صواريخ، تبين أن مداها يفوق مدى الصواريخ التي كانت تهربها الحركة عبر الأنفاق، وهذا ما يفسر تمكن حماس من إطلاق صاروخ “R160″، الذي يبلغ مداه 160 كلم ويهدد أقصى شمال فلسطين المحتلة. وقد اكتشفت إسرائيل سريعًا أن ثقتها في قدراتها الاستخبارية مبالغ فيه إلى حد كبير. فبعد يومين على شن الحرب أقرت شعبة الاستخبارات العسكرية بأن ما لديها من معلومات استخبارية حول قدرات حماس محدود جدًا، وأنه ليس لديها معلومات حول أماكن تخزين صواريخ الحركة متوسطة المدى، التي تتسبب في أكبر قدر من الضرر للعمق الإسرائيلي (15). من نافلة القول: إن موازين القوة العسكرية مالت بشكل كاسح لصالح إسرائيل، التي يعتبر جيشها أحد أقوى الجيوش في العالم، في حين أن قدرات المقاومة العسكرية تعتبر “بدائية” مقارنة بما يمتلكه الجيش الإسرائيلي، الذي يعد أكثر الجيوش توظيفًا للتقنيات المتقدمة في الجهد الحربي.
يقول أمير أورن المعلق العسكري لصحيفة “هاآرتس”: “في ظل موازين القوى القائمة، فليس من المنطقي أن يتوقع أحد أن تنتصر حماس على إسرائيل، لكن فشل الجيش الإسرائيلي في إخضاع الجناح العسكري للحركة رغم تفوقه الهائل وتواصل إطلاق الصواريخ بكثافة، يدلل على أن حماس هي الطرف صاحب الإنجازات الأكبر في هذه المواجهة” (16). وعلى الرغم من تنفيذ الجيش الإسرائيلي أكثر من 2800 عملية قصف خلال الحرب ورغم الحملة البرية المتواصلة، إلا أنه فشل ليس فقط في وقف إطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلي، بل أخفق في تقليص وتيرتها، حيث إن 5.5 مليون مستوطن في مرمي هذه الصواريخ.
أثمان الحرب
باتت دوائر صنع القرار في تل أبيب تدرك استحالة وقف إطلاق الصواريخ من القطاع غزة بالوسائل العسكرية، كما أنها تعي أن فرص محاولة تمرير صيغة “الهدوء مقابل الهدوء” تؤول إلى الصفر في ظل عدم إبداء المقاومة أية مرونة في هذا الجانب. في الوقت ذاته، فإن تعاظم الخسائر في الأرواح في المدنيين الفلسطينيين حفز من الجهود الدولية لإنهاء الحرب. وعلى الرغم من تأييد الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية للمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار، إلا أنه بات في حكم المؤكد أن التشبث بهذه المبادرة يعني تواصل المواجهة الحالية، مع كل ما قد يترتب على ذلك من تداعيات إقليمية ودولية. وهذا يزيد من فرص التوصل لاتفاق جديد بالتهدئة، يأخذ بعين الاعتبار مصالح الطرفين، سيما في ظل تعالي الأصوات داخل تل أبيب التي تنادي بالعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة على اعتبار أن تدهور الأوضاع الاقتصادية يكرس بيئة اجتماعية حاضنة للمقاومة (17).
من هنا، فإنه مقابل وقف إطلاق النار المتبادل، فإن هناك ما يدعو للاعتقاد بأن إسرائيل ستوافق في اتفاق التهدئة القادم على زيادة البضائع والسلع التي تدخل عبر المعابر التجارية، وستسمح بدخول الأموال، بشكل يحل أزمة موظفي حكومة غزة، علاوة على الإفراج عن الأسرى الذي اعتقلتهم. وفي المقابل، فإن إسرائيل ستحصل على تعهد من حماس بإلزام جميع الفصائل الفلسطينية بوقف هجماتها على العمق الإسرائيلي، وستحظى تل أبيب بفترة هدوء يرجح أن تكون طويلة، تتمكن تل أبيب خلالها من العودة لمعالجة تهديدات استراتيجية عديدة.
___________________________
صالح النعامي – باحث في الشؤون الإسرائيلية
هوامش
1- يديعوت أحرونوت، 9 يوليو/تموز 2014.
2- عضو الكنيست حيلك بار، هبترون هأميتي مول حماس (الحل الحقيقي لمواجهة حماس)، على الرابط: http://www.thepost.co.il/news/new.aspx?pn6Vq=EE&0r9VQ=FKLIJ
3- يديعوت أحرونوت، 12 يوليو/تموز، 2014.
4- هذا ما قاله أمنون أبراموفيتش، كبير المعلقين في قناة التلفزة الإسرائيلية الثانية في نشرة أخبار بثتها القناة الساعة الثامنة في 12 يوليو/تموز2014.
5- غلوبس، 12 يوليو/تموز 2014.
6- معاريف، 12 يوليو/تموز 2014.
7- يسرائيل هيوم، 9 يوليو/تموز 2014.
8- تبين أن مصر صاغت المبادرة بالتنسيق الكامل مع إسرائيل، دون التشاور مع المقاومة الفلسطينية، انظر: هاآرتس 15 يوليو/تموز2014.
9- آفي سيخاروف، يوزمات ليفني: هفسكات أيش-يحد عم هتنعات هتعليخ همديني (مبادرة ليفني: وقف إطلاق النار إلى جانب استئناف العملية السياسية)، على الرابط: http://news.walla.co.il/?w=//2764924&utm_source=twitterfeed&utm_medium=twitter
10- حمّل وزير خارجية الانقلاب سامح شكري حركة حماس المسؤولية عن تبعات رفض المبادرة واعتبر أنها تتحمل المسؤولية عن دماء المدنيين الفلسطينيين التي ستسال بعد تقديم المبادرة، انظر: القدس 16 يوليو/تموز 2014.
11- بيان صادر عن وزارة الداخلية في غزة بتاريخ 20 يوليو/تموز 2014.
12- بيان صادر عن وزارة الصحة، 20 يوليو/تموز 2014.
13- كتب المعلق العسكري الإسرائيلي عاموس هارئيل أن معركة الشجاعية تمثل “حدثًا تأسيسيًا لمرحلة جديدة في المواجهة مع المقاومة، وباتت تمثل أسطورة للمقاومة الفلسطينية”، انظر: عاموس هارئيل، هكراف بشجاعيا عسوي لعتسيف بنيها شل همعرخا بعازة، (معركة الشجاعية ستحدد مستقبل المواجهة في غزة)، http://www.haaretz.co.il/news/politics/.premium-1.2382016
14- هذا ما كتبه آرييه شافيت، المعلق السياسي لصحيفة “هارتس”، انظر: آرييه شافيت، ريكتوت شيل كنآه (صواريخ التطرف)، http://www.haaretz.co.il/opinions/.premium-1.2372027
15- يسرائيل هيوم 10 يوليو/تموز 2014.
16- أمير أورن، يسرائيل مجلا شجام بأيش إفشار لدشديش (إسرائيل تكتشف أن التفوق العسكري لا يعني تحقيق إنجازات)، http://www.haaretz.co.il/news/politics/.premium-1.2373465
17- هذا ما عبّر عنه وزير المالية يئير لبيد، يديعوت أحرونوت 17 يوليو/تموز 2014.

 
كيف تعامل “حزب الله” مع أحداث غزة؟/ ابراهيم بيرم
أفرد “حزب الله” عبر اعلامه، أهمية كبرى للاتصال الذي أجراه أمينه العام السيد حسن نصرالله برئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” خالد مشعل وبالأمين العام لحركة “الجهاد الاسلامي” عبدالله رمضان شلح، كما أعطى أهمية لمضمون هذين الاتصالين وخصوصاً لجهة الاطمئنان من هذين القائدين الى مآل المواجهات الدائرة في غزة منذ أكثر من عشرة أيام، واستطراداً الى ان الامور ميدانياً لم تفلت من يد المقاومين الفلسطينيين رغم شراسة الهجمة الاسرائيلية وضراوتها.
للاتصالين بالنسبة الى الحزب أهميتهما في هذه المرحلة بالذات خصوصاً قبل أيام قليلة على الظهور السنوي المعتاد للسيد نصرالله بذكرى يوم القدس حيث سيكون للاحداث الدامية في غزة الحيز الاوسع في هذا الخطاب الذي بالعادة يكون ذا بعد قومي.
والذي يدرك خفايا العلاقة بين “حزب الله” و”حماس” يدرك يقيناً ان البعد السياسي الاستثنائي يتمثل في اتصال نصرالله بـ”أبي الوليد”، فالمعلوم ان العلاقة التي تربط الحزب بـ”الجهاد الاسلامي” علاقة وطيدة، فضلاً عن ان شلح مقيم في بيروت بشكل شبه دائم وهو قابل نصرالله أكثر من مرة في الآونة الاخيرة. أما العلاقة بين الحزب و”حماس” فهي ومنذ اندلاع الاحداث في الساحة السورية عبرت بأكثر من محطة سلبية لا سيما بعد خروج “حماس” من دمشق تلاحقها تهمة الانحياز الى المعارضة السورية وعقوق الدعم السوري غير المنقطع لها. بشق النفس وبوعي استراتيجي نجح الطرفان في المحافظة على خيط رفيع في العلاقة بينهما، لذا فإن الاتصال المستجد الآن بين قائديهما يكتسي بعداً، من عناوينه ومدلولاته العريضة في رأي مقربين من الطرفين الآتي:
– ان ثمة مرحلة جديدة منطلقها حدث غزة ومؤداها ان السنين الاربع من التوتر في العلاقة بينهما قد انقضت، وان توجهاً جديداً قد بدأ للتو.
– ان هذا الامر ما كان ليأخذ هذا البعد الاستثنائي، لو لم تكن هناك معلومات تتحدث عن تقارب فرضته المصلحة والحسابات والتناقضات يتم الآن بين المحور الايراني على وجه الخصوص والمحور الذي تنخرط فيه حركة “حماس” بشكل أو بآخر، والذي هو محور ثالث جديد تكوّن أخيراً في المنطقة ولا سيما بعد السقوط المريع لتجربة “الاخوان المسلمين” في حكم مصر قبل عام ونيف، وهو محور يضم الى “حماس” قطر وتركيا و”الاخوان المسلمين” أينما وجدوا وحلوا. وقد يكون التباين بين هذا المحور وطهران مستمراً على خلفية تعارض نظرتهما الحادة حيال الاحداث في الساحة السورية، لكن ثمة مصلحة مشتركة في تقاربهما او في السعي الى ايجاد قواسم مشتركة، وهو تناقضهما مع المحور الآخر الذي تشكل السعودية قطب الرحى فيه ويمكن بشكل او بآخر ادراج مصر برئاسة عبد الفتاح السيسي في خانته الآن.
ولا ريب ان ثمة معلومات تروّج في بعض الأوساط عن أن طهران وانقرة قد اقتربتا خطوات عدة في مجال التفاهم على قواسم مشتركة بعيداً من تعارضهما حول الحدث السوري وستظهر مصاديقه وترجماته العملية في خطوات محسوبة مستقبلاً، ومن ابرز معالمها الحدث المتواتر عن انبعاث حيويات ما في العلاقة بين طهران وتنظيم “الاخوان المسلمين” في ضوء توجه طهران الى عدم سد السبل مع اي طرف مؤثر.
ولا شك ايضاً ان حركة “حماس” اجرت منذ فترة عملية اعادة نظر في مسيرتها السياسية منذ انطلاقة “الربيع العربي” وبالتالي مارست نقداً ذاتياً دفعها في مناسبات شتى لاعادة تعزيز علاقتها بطهران وتفعيل علاقتها بـ”حزب الله” والنأي بنفسها اكثر عن الحدث السوري بغية ازالة صبغة التورط عن نفسها.
وعملياً ثمة من يذهب بعيداً في قراءته لموضوع اتصال نصرالله بمشعل، فيعتبر انه مكسب للحزب الذي سأل الكثيرون عن سر صمته في بداية الحدث الغزّي وهو الذي اكد دوماً انه على علاقة عضوية بالموضوع الفلسطيني وان التلاحم مع المقاومة الفلسطينية ومؤازرتها عند الشدائد احد روافعه الداخلية والعربية. وهكذا فاذا كان الاتصال بمشعل اعاد الحزب الى واجهة الحدث المشتعل والمرشح لأن يطول اكثر فأكثر وان تكون له تداعيات ونتائج، فانه في المقابل برأ بشكل او بآخر “حماس” من خطأها السوري وفق وصف البعض، وقادها بشكل غير مباشر الى محور الممانعة خصوصاً ان ثمة من يرى انها خسرت اكثر مما ربحت لحظة غادرت هذا المحور والتحقت بركب ما سمي “الربيع العربي”، حيث وجدت نفسها في حالة عزلة وحصار لا سيما بعد سقوط مرسي.
ومهما يمكن من امر فان “حزب الله” بدأ يسلك منذ الاحد الماضي مسلك ان المقاومة في غزة حققت الرهان، وبالتالي حققت انجازات في الميدانين السياسي والعسكري رغم جسامة الخسائر، وهي انجازات سيكون لها صداها ودويها الكبيران، خصوصاً انها اعادت الاعتبار الى المقاومة كقيمة لا يمكن الاستغناء عنها او التهرب من موجباتها.
وبمعنى آخر ان “حزب الله” يتمعّن في الحدث الغزّي من باب انه اعاد للمقاومة وهجها وألقها، وانه كرر بشكل جلي صورة حرب تموز في الجنوب عام 2006 حيث الكل ازاح عنه عبء المخاوف بعدما حققت المقاومة مكاسب عدة.
فضلاً عن ذلك فان قيادة المقاومة لدى الحزب ستأخذ وقتها في التمعن بالدروس والعبر الميدانية من مواجهات غزة لجهة الاداء الاسرائيلي ومواجهة المقاومين هناك على اساس انه سيكون نسخة طبق الاصل من الحرب المرتقبة في الجنوب اللبناني في يوم من الايام والتي يستعد لها الحزب.
النهار

 

 

 

ثمن وقف النار في غزة!/ راجح الخوري
إذا صح كلام عزّام الاحمد عن ان المحادثات بين محمود عباس وخالد مشعل “توصلت الى اتفاق على ان نبدأ بوقف اطلاق النار اولاً ومن ثم نبدأ النقاش مع مصر والاطراف الاقليمية والدولية حتى تتم بلورة الصيغة النهائية للتهدئة”، فهذا يعني العودة الى المبادرة المصرية التي رفضتها “حماس”، لا بل اعتبرت أنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به!
وكان عبد الفتاح السيسي قد اطلق المبادرة المصرية بعد اليوم الثالث على العدوان المتوحش والتي دعت اساساً الى ضرورة وقف إطلاق النار وكل “الاعمال العدائية” من الطرفين ثم البدء بمفاوضات تستضيفها القاهرة لتضع صيغة للحل.
لم تعترض “حماس” على كلمة “الاعمال العدائية” فحسب، باعتبار ان اسرائيل هي التي تشن العدوان على قطاع غزة، بل كان من الواضح انها تريد اتفاقاً يتجاوز وقف النار الى انهاء الوضع الخانق الذي تعاني منه والذي عجزت عن ايجاد الحلول له.
فليس سراً ان على جدول رواتبها خمسين ألف موظف لم يقبضوا رواتبهم منذ اشهر، ولا ان معبر رفح، وهو المتنفس الاساسي مع مصر، مغلق منذ اشهر بسبب تدهور العلاقات مع السيسي بعد انهيار حكم “الاخوان المسلمين” ومحمد مرسي، ولا ان الحصار الاسرائيلي مستمر في خنق غزة.
بعد مرور خمسة ايام على العدوان النازي البشع، تكشفت قدرة “حماس” النارية الصاروخية الغزيرة التي فاجأت الاسرائيليين، وهكذا ربطت “حماس” موافقتها على وقف النار بمطالب لم ترد في المبادرة المصرية التي كانت قد دعت الطرفين الى التفاوض عليها، وهي مطالب تتجاوز عملية وقف النار الى أمور اخرى تبدو مستحيلة الآن.
خالد مشعل واسماعيل هنية يقولان انه لا يمكن العودة الى الوراء بعد كل التضحيات والخسائر التي سببها العدوان، فالقتلى بالمئات والجرحى بالآلاف والدمار زلزالي، ولهذا فإن “حماس” التي تبدو انها لا تملك شيئاً تخسره، تريد وقف العدوان والامتناع عن سياسة التوغل والاجتياح والاغتيالات، وفك الحصار البحري والبري وضمان حرية الملاحة والصيد حتى ١٢ ميلاً بحرياً وإلغاء المنطقة العازلة، وإطلاق كل المعتقلين، وإسقاط كل الإجراءات والعقوبات الجماعية بحق الفلسطينيين، وكل هذا يمثل بحثاً عن انتصار كبير على رغم فداحة الخسائر التي سببها العدوان!
في المقابل اسرائيل التي ناورت بقبول وقف النار راهنت على رفض “حماس” له لتستمر في حملتها الوحشية التي بدأت قبل ١٥ يوماً، واذا كانت “حماس” تعتبر صمودها انتصاراً له ثمنه فإن العدو يعتبر عدوانه انتصاراً ثمنه جعل غزة منزوعة السلاح!
لهذا لم نعد بوقف للنار بل بمفاوضة على حلول أوسع، لكن اقصى ما يمكن ان يحققه محمود عباس هو اعادة فتح معبر رفح ضمن شروط اتفاق ٢٠٠٥.
النهار

 
غزة والموصل والنفوذ الإقليمي/ موناليزا فريحة
لم يسبق لمعاناة الشعب الفلسطيني أن خسرت قيمتها في ضمير العالم كما يحصل راهنا.على جثث أطفال غزة وفي برك دم نسائها وكهولها ،تتنافس القوى الاقليمية والدولية على الأدوار والنفوذ، وتتخبط في تصفية الحسابات، تاركة لآلة الدمار الاسرائيلية كل الوقت لتفتك بالعزل والأبرياء.
تعجز مصر، ومن خلفها السعودية، عن مقاربة المذبحة الاسرائيلية الجديدة في غزة من منظور انساني بحت. لا يمكنها التعامل مع سلوك “حماس” بعيدا من الدور المشبوه الذي سعى اليه “الاخوان المسلمون” في المنطقة. “دولة حماس” على حدودها المضطربة في سيناء تمثل في حساباتها تهديدا لأمنها القومي. مبادرتها لوقف النار الرامية الى حقن الدماء الفلسطينية، تحرص خصوصا على حرمان حركة المقاومة الاسلامية اية مكاسب سياسية أو استراتيجية.
وفي المقابل، تجد قطر في غزة نافذة للعودة بقوة الى الساحة، بعدما انكفأت في سوريا وخسرت حكم “الاخوان” في مصر. لا تتوانى مع تركيا عن دعم “حماس”. أما واشنطن فلا ترى خيرا على ما يبدو في استغلال نفوذ الدوحة لدى الحركة الاسلامية، وإن تكن تدرك أن مصر تبقى اللاعب الحاسم في اي وقف للنار، وذلك لاهميتها السياسية وموقعها الجغرافي على حدود النزاع.
وسط هذا الصراع السني – السني على النفوذ، يحضر الدور الايراني بكل ما يثيره من حساسيات في عواصم عربية. صواريخ “القسام” الغزاوية الصنع كشفت استمرار الروابط بين طهران و”حماس”، مع البصمات الايرانية الواضحة عليها. حنين “حماس” الى جذورها الاخوانية في بدايات الازمة السورية أفقدها بعضا من ذلك التوازن الذي أتقنت اللعب على أوتاره في العالمين العربي والاسلامي، غير أن اطاحة حكم “الاخوان” في مصر سرعان ما دفعها الى اعادة حساباتها. لا تستطيع الحركة الاسلامية الاستمرار من دون مموّلها الاساسي. كتائب “الاقصى” لم توقف علاقتها بالجمهورية الاسلامية. وفي الاشهر الاخيرة، كثرت التقارير عن عودة “حماس” الى أحضان ايران برعاية قطرية.
وفي أي حال، لم يكن متوقعاً أن تجازف طهران ببساطة بخسارة ورقة قد تحتاج اليها في مخططاتها الاقليمية، وفي خضم مفاوضاتها النووية مع الغرب. تحفظها عن موقف الحركة من النظام السوري لم يمنعها من دعمها كـ”تيار مقاوم”. عملية “الجرف الصامد” أكدت بلا لبس أن طهران لم تتخلّ عن تلك البراغماتية التي ميزت تحركها في المربعات الحمر.
في منطقة ملتهبة تستبيحها الاصوليات والعصابات المسلحة، ينكب الكبار على رسم حدود نفوذهم بدماء الابرياء. مصير فلسطين كلها، لا غزة وحدها، ومسيحيي المنطقة، لا الموصل فحسب، كما مصير الشعب السوري وشعوب المنطقة بأسرها، سيبقى رهنا بنظام اقليمي جديد سيكلف بناؤه مزيدا من برك الدم والدموع. وفي الوقت الضائع، تبقى اسرائيل المستفيد الاكبر.
النهار

 

 

 

قيح المسار العسير/ زيـاد مـاجد
على مقربة من قطاع غزة، حيث العدوان الإسرائيلي متواصل منذ عقود ويبلغ مستوى غير مسبوق من الوحشية، يبدو المشهد العربي الراهن – في ليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن خصوصاً – مشهداً بائساً ينثر فيه العنف أشلاءَ الضحايا ويُطيح التعصّب المذهبي والديني ببعض ما حقّقته الثورات وينقلب العسكر عليها بحجّة الفوضى أو “الأسلمة السياسية” مُحاولين إعادة تسلّط الثكنات على السياسة والاقتصاد والإعلام والساحات العامة.
وتدفع تطوّرات المشهد المذكور البالغة الخطورة كثراً الى التسرّع في الأحكام وتعميمها أو الى استخدام مقولات ثقافوية حول جماعات وهويّات بأكملها، فتسمها بهذه الصفة أو بتلك. ويبلغ التسرّع مداه حين يُقال مثلاً إن ما يجري هو “نتيجة الثورات” أو إنه “مخطّط تفتيتي بدأ مع الثورات” أو إن “الأوضاع كانت أفضل قبل العام 2011، فلم يكن الفلتان الأمني قائماً في مصر ولا الميليشيات تتقاتل في ليبيا ولا الصراعات تنهش اليمن ولا داعش تتقدّم في العراق وسوريا وبين أنقاضهما”.
غير أن بعض التدقيق في الأحكام والمقولات هذه يُظهر كم هي غالباً مزوِّرة عمداً أو متغافلة قصوراً عن أمور ظنّها واحدنا بديهية.
فهل صحيح أن “داعش” مثلاً هي وليدة “الثورة السورية”؟ أم أن تناسل السلفية الجهادية بعد تجربة بن لادن أفغانياً ثم الزرقاوي وبعدهما البغدادي عراقياً فسورياً، وعبرهما أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية وأبشع نظامين في المنطقة، سابقة بعقود لما يجري في الشرق والشمال السوريّين والوسط العراقي اليوم؟
وهل صحيح أن اليمن كان مستقرّاً قبل الثورة أم أن معارك الحوثيين والجيش من جهة، وعمليات القاعدة في حضرموت من جهة ثانية، والحراك الجنوبي الكبير من جهة ثالثة، كانت جميعها قائمة منذ سنوات نتيجة فساد السلطة المركزية في صنعاء وإفلاسها وسعي نظام صالح الى الاستمرار في الحُكم “الى الأبد”؟
وهل رمي الطيران الحربي الأسدي لآلاف البراميل على المدن والبلدات السورية لمعاقبتها على الثورة ضد نظامه هي مسؤوليّتها أو مسؤوليّة الطيّارين وآمريهم؟
وهل يمكن بعد سقوط نظام قاده مستبدّ معتوه في طرابلس الغرب، بدّد مليارات الدولارات على مدى 42 عاماً وقضى على الحياة السياسية وارتكب مجازر ضد معارضيه، أن ينجح المسار السياسي في ثلاث سنوات في ظلّ انتشار السلاح؟
وكيف لانقلاب قاده العسكر العام الفائت في مصر (بعد أن حكموا مباشرة أو على نحو غير مباشر على مدى 57 عاماً أفضت الى “ثورة يناير” العام 2011) ألّا يتسبّب بفوضى، ساهم أيضاً نهم الأخوان للسلطة وضعف تجربتهم السياسية في الوصول إليها؟
الصحيح اليوم على الأرجح، أن المنطقة بأكملها تشهد مساراً شديد العسر يخرج خلاله القيح الذي اختزنته لأكثر من نصف قرن، وتُصارع أنظمة قديمة فيها التغييرَ بما يُبقي القيح ويُطيل آثاره.
والصحيح أيضاً أن التحدّيات ما زالت هيَ هيَ، مرتبطةً بالخلاص من تركة الاستبداد، وبمنع استبداله باستبداد آخر تحاول الثورات المضادة تنصيبه باسم الدين أو الاستقرار أو باسمهما معاً…
موقع لبنان ناو

 

 

 

حرب أهلية عربية على خلفية حرب غزّة/ عبدالوهاب بدرخان
في 1991 أصبح رسمياً أن حكومات العرب لم تعد في صدد محاربة اسرائيل، وفي 2001 عندما بدأت «عملية السلام» تتلاشى، كرّس السلام «خياراً استراتيجياً»، وفي 2002 أقرّت قمة بيروت اقتراحاً سعودياً وتبنّته كـ «مبادرة عربية للسلام» قبل ساعات قليلة من اجتياح اسرائيلي للضفة الغربية بغية إنهاء الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وعلى رغم هذا الموقف العربي الواضح، برهنت اسرائيل أنها لا تستطيع العيش من دون حرب، وتمسّكت بها كـ «خيار استراتيجي» لا تزال تمارسه، ولم يعد لديها أي توجّه آخر لإنهاء القضية الفلسطينية بالقوة. ولم تتأخر الولايات المتحدة يوماً في مساندتها، حتى أصبح منسياً الى حدٍّ بعيد أن اميركا كانت «عرّابة عملية السلام»، واذا كان جورج دبليو بوش مارس هذا الدور شكلياً، فإن باراك اوباما لم يعد يكلّف نفسه أي عناء في هذا المجال.
في 2000 انسحبت اسرائيل من جنوب لبنان. لم تعد لها مصلحة في احتلال صار مكلفاً. وفي 2005 انسحبت من غزّة، كذلك لأن الاحتلال لم يعد مجدياً. في الحالين حرصت على صنع بؤرتين تتيحان لها تفعيل خيار الحرب، وقابلتها ايران باستجابة وتناغم. في جنوب لبنان لم تكمل ترسيم الحدود، فأبقت لـ «حزب الله» أسباباً لمواصلة الصراع. وفي غزّة حصلت اسرائيل على ما توخّته من الطريقة التي اختارتها للانسحاب، من دون التنسيق مع السلطة الفلسطينية، لأنها لم ترد لهذه السلطة أو لشرطتها وأجهزتها أن توجد في غزّة، ولا على المعابر، وعلى رغم أنها تكره «حماس» وقتلت زعيمها الروحي والكثير من قادتها البارزين، إلا أنها منحتها الفرصة التي اقتنصتها الحركة لمباشرة صعودها وتكريسه في انتخابات 2006، العام الذي عادت فيه اسرائيل الى جنوب لبنان في حرب تسببت بدمار كبير ولم تخرج منها منتصرة، لكنها حققت هدنة لا تزال صامدة، وقد ساهم تطوّران في تمديد صمودها: الأزمة الداخلية اللبنانية من جهة، فأزمة سورية من جهة اخرى وانشغال «حزب الله» في القتال الى جانب نظامها حليف ايران.
هذه الحرب في تموز (يوليو) 2006 أحدثت عشية اندلاعها انقساماً عربياً – عربياً حول مبرراتها وجدواها، وكانت مقدّمات الانقسام بدأت لحظة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري واتهام سورية بتدبيره وتفاقمت بعد الانسحاب السوري من لبنان. وكما أدّت ردود الفعل المتباينة خلال الحرب الى شرخ سياسي، فقد تحوّل ما بعد الحرب الى أزمة عميقة قسمت المجتمع عمودياً وحسمها «حزب الله» عسكرياً قبل تكريس هذا الحسم سياسياً في العاصمة القطرية الدوحة، وشكّلت هذه الأزمة واقعياً خطوة كبيرة نحو مصادرة لبنان في محور «الممانعة» الايراني – السوري الذي ضم أيضاً قطر والفصائل الفلسطينية. أما المحور الآخر الذي عُرف بـ «الاعتدال» فضمّ مصر والسعودية في شكل أساسي. وكانت حرب غزّة الأولى (2008) بمثابة حربين متوازيتين، واحدة مع اسرائيل، وثانية بين المحورين، مع ما رافقهما من شحن اعلامي متبادل. ولم تفلح مبادرة مصالحة من العاهل السعودي تجاه الرئيس السوري في تبديد التشنج والانقسام.
كان لكلٍ من المحورين منطقه ومفهومه لمسائل الحرب والسلام. فـ «الاعتدال» وضع القضية الفلسطينية في كنف مفاوضات ترعاها الولايات المتحدة، لكن هذه خضعت تدريجاً للمنطق الاسرائيلي فأحبطت أصدقاءها في دول هذا المحور وحكوماته، وهذه لم تتمكّن من بناء استراتيجية جديدة حتى بعدما تيقنت من أن المفاوضات ضلّت طريقها. في المقابل، سعى محور «الممانعة»، من خلال حربين مدمّرتين، الى إحراج المعتدلين بإثبات أن خيار المقاومة المسلحة لا يزال ممكناً، وأن خيار الحرب وارد من دون تورّط مباشر للحكومات، بل بالوكالة من خلال «حماس» و «حزب الله»، وفي البؤرتين اللتين اختارتهما اسرائيل لتكونا مسرحين لإدامة خيار الحرب.
لا شك في أن حال المحورَين تبدّلت منذ انتفاضات 2011، بسبب انشغال مصر بأوضاعها الداخلية من جهة، وكذلك تضاؤل القيمة الاستراتيجية للنظام السوري. لكن أسباب الانقسام تعمّقت لتضاف اليها صراعات حول تيار الاسلام السياسي زادت الجانب العربي قلقاً وضعفاً، وأخرى متصلة بالاستغلال الايراني للاضطرابات العربية. في خضم هذه اندلع شبه حرب أهلية عربية – عربية بموازاة الحرب الاسرائيلية الثالثة على غزّة، حتى أنها انعكست على الحراك الديبلوماسي لبلورة اتفاق على وقف اطلاق النار. وعلى رغم أن المحورين لم يكونا في صدارة المشهد، إلا أن هذه الحرب كانت فرصة لتصفية حسابات في أكثر من اتجاه: مصر – «حماس» (حليفة جماعة «الاخوان المسلمين»)، ومصر – قطر – تركيا (الداعمتين لـ «الاخوان» و «حماس»)، وكذلك السلطة الفلسطينية – «حماس»، وانعكست فيها أيضاً خلافات الادارة الاميركية مع حكومة نتانياهو ومع مصر عبدالفتاح السيسي. ولا شك في أن اسرائيل اندفعت الى هذه الحرب وفي حساباتها أنها تخوضها ضد ايران (المصدر المفترض لصواريخ غزّة). وقد أدّت التجاذبات ومحاولة كلٍ من هذه الأطراف تسجيل نقاط الى فشل محاولة وقف النار (في 15/07) وفقاً لـ «المبادرة المصرية» التي أعلنت بعد موافقة اسرائيل والسلطة الفلسطينية عليها ومن دون التفاوض بشأنها مع «حماس» التي رفضتها. بل أدّت التجاذبات خصوصاً الى «تغطية» العدوان البري الاسرائيلي وبلوغ الخسائر البشرية والمادية أضعاف ما كانت عليه قبله.
كان مفهوماً منذ البداية أن الدور المصري أساسي لأي «هدنة»، وعلى رغم أنه أُدير باحتراف ديبلوماسي، فقد كان مفهوماً أيضاً أنه تجاهل مطالب فصائل غزّة. لم تبدُ الاعتبارات الانسانية ذات أولوية عند حكومة متطرفي اسرائيل المتعطشة للدماء، ولا عند فلسطينيي «حماس» و «الجهاد» الذين يريدون إنجازاً يغيّر المعادلة ويعرفون أنهم لا يستطيعون الوصول اليه إلا بالتضحيات، ولا حتى عند الولايات المتحدة التي كلما ازدادت انكفاءً ازداد حليفها الاسرائيلي تغوّلاً وتوحّشاً. لكن الأطراف جميعاً عادت فأشارت الى الوضع الانساني عندما قدّرت أن اللحظة حانت لوقف المقتلة. وفي انتظار تلك اللحظة سقط الآلاف من الغزيين بين قتيل وجريح، وعادت المجتمعات العربية تنفّس ألمها بالترادح بمصطلحات التخوين والتأثيم.
ليس معروفاً ما الذي يعنيه الاسرائيليون والاميركيون عندما يقولون إن جهداً يبذل لتجنّب المدنيين، فيما تبيّن أن سبع عائلات قتل أفرادها وهم في منازلهم، وأن شباناً يقتلون وهم يلعبون كرة القدم في عراء الشاطئ. أليس هذا القتل متعمّداً؟ وبعدما تهكّم جون كيري على العملية «البالغة الدقة»، ليس معروفاً كذلك ما الذي يعنيه اوباما ونتانياهو حين يقولان إن بعض «أهداف» العملية البرّية قد تحقق. اذ لا يبدو أن صقور حكومة اسرائيل تكتفي بهذا «البعض»، ولو أُريد ترجمة رغباتها عملياً لوجب اختزال الهدف بكلمة واحدة: الإبادة… الأكيد أن اسرائيل لا تحقق أي هدف «استراتيجي» من هذه الغزوات، وكل ما تأمل به أن يكون للخسائر البشرية وقع ردعي على شعب غزّة. لكن، عندما تندر الخيارات، حتى هذا «الردع» لا يفعل فعله.
كيفما جاءت «الهدنة» الجديدة لا بد من سؤال صانعيها هل وضعوا الأسس لعدم تكرار المقتلة، وكيف سيحصلون على غزّة «مسالمة» اذا بقيت محاصرة ومخنوقة، وكيف سيحبطون الاستغلال الايراني لـ «حماس» من دون أي أفق للحل التفاوضي؟ لكن الأهم هل هم قادرون، ولا سيما الاميركيين، على لجم تطرّف اسرائيل التي أفسدت التفاوض وترفض المصالحة الفلسطينية وتشترط حماية أمنها ولا تحترم أمن الآخرين ولا تقيم اعتباراً للسلطة الفلسطينية ولا لـ «حماس»؟ وأخيراً هل يعتزم العرب مواصلة هذا النمط الفاشل من الادارة لقضية كلما همّشوها وحاولوا دفنها عادت بقوة لإرباكهم؟
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة

 
حرب غزة وتعدد المقاصد/ حسان حيدر
لم يكن خطف الشبان الاسرائيليين الثلاثة، ثم قتلهم في ظروف غامضة، عملاً مدبراً ربما، لكن الحرب التي تلته شكلت بالنسبة الى اسرائيل وحركة «حماس» واطراف اقليميين فرصة ملائمة لفتح ملف قطاع غزة واعادة رسم موقعه في خريطة الصراع الدائم في المنطقة، بعدما وصلت الاوضاع فيه الى طريق مسدود على كل صعيد.
وكعادتها، لجأت اسرائيل الى اللغة الوحيدة التي تجيدها وهي القتل الذي تسخر له كل قوتها العسكرية المتفوقة بأضعاف مضاعفة على قوة خصمها، ولا يعنيها في ذلك التفريق بين عسكري ومدني، او بين راشد وطفل، فكلهم في سلة عدوة واحدة.
واذا كان قصد حكومة نتانياهو من شن حرب انتقامية شديدة العنف على القطاع، خلط الاوراق داخل غزة نفسها، بعدما فوجئ بعض حلفاء «حماس» بعملية الخطف ونتائجها، وبعثرة الاجماع الفلسطيني الهش الناشئ حديثاً بين السلطة الوطنية في رام الله والسلطة المتمردة في القطاع، والتوصل الى ترتيبات جديدة مع الحركة الاسلامية تماثل تلك التي توصلت اليها مع «حزب الله» بعد حرب 2006 وارست هدوءاً على الحدود مع لبنان، فإن نتائج العمليات العسكرية لا تظهر حتى الآن ان باستطاعتها فرض شروطها.
وقد دفع القتال الغزيين الى لملمة صفوفهم، والفصائل الى التغاضي عن التباينات بينها، وفرض تضامناً بين الجناحين الفلسطينيين المنفصلين سياسياً وجغرافياً. وأدى ذلك الى تدفيع اسرائيل ثمناً بشرياً واقتصادياً تعتبره «باهظاً» بمقاييسها، لكنه لا يقارن بالطبع بآلاف الضحايا الفلسطينيين وبحجم الخسائر المادية الهائلة التي خلفها العدوان حتى الآن.
وكانت اسرائيل أوضحت منذ بداية عدوانها ان هدفها ليس القضاء على سلطة «حماس»، فهي تحتاجها ورقة تستخدمها في تعاملها مع طروحات التسوية السلمية الأوسع، سواء لشق الصف الفلسطيني او للتذرع بخطرها على أمنها.
اما بالنسبة الى «حماس» فشكلت الحرب مناسبة لاعادة التذكير بالوضع المعلق الذي تعيشه غزة، والحاجة الى اخراجها من عنق الزجاجة، بعد خلافها مع سورية، ثم مع مصر، وسقوطها في عزلة سياسية وجغرافية دفعتها الى معاودة التقرب من السلطة. ولهذا كان بين الشروط العديدة التي وضعتها للموافقة على وقف اطلاق النار فتح المعابر، والسماح بتشغيل ميناء بحري ومطار في القطاع، ووضع معبر رفح مع مصر تحت اشراف دولي، ونشر مراقبين دوليين عند الحدود مع اسرائيل. أي بكلام آخر اعتراف اسرائيل والعرب والعالم بـ «دولة حماس» العتيدة، بانتظار ان تمد الحركة نفوذها الى الضفة الغربية.
أما الطرف الاقليمي الذي وجد في الحرب فرصة لاستعادة مشروطة لحركة «حماس»، فهو ايران التي تعتبر ان اسلاميي غزة اخطأوا باختيارهم معسكرا مناوئاً لحليفها السوري بشار الأسد، ولهذا جاءت الاتصالات من «حزب الله» ومن طهران لتذكر الحمساويين، وهم تحت القصف، بالحلف «المربح» الذي كان قائماً مع ايران وسورية، ولتعرض عليهم العودة التدريجية الى صفوف «الممانعة» الاقليمية بدلا من اقتصار «ممانعتهم» على الساحة الفلسطينية.
وبالطبع سيتصاعد التضامن الخطابي مع غزة خلال الايام المقبلة مع احتفال ايران وملحقاتها بـ «يوم القدس»، لكن عودة التحالف ستظل رهناً بقبول الحركة الاسلامية التراجع عن التزامها إطارها السياسي الاوسع، اي جماعة «الاخوان المسلمين»، وقبولها بنوع من الانفصام في تعاملها مع المسائل الاقليمية.
يبقى ان هذا التنافس على تحديد «انتماء» غزة لم يسفر حتى الآن عن نتائج حاسمة لأي طرف. وقد يتم التوصل الى وقف لاطلاق النار خلال ايام، لكنه لن يكون سوى تمهيد لجولة قتال جديدة، اياً يكن خيار «حماس».
الحياة

 

 

 

هزيمة ترفع شارة النصر/ أمجد ناصر
الاسم:
يختار الجيش الإسرائيلي أسماء عملياته، بعد التفكير فيها بثلاث لغات: العبرية، الانكليزية والعربية. الأولى لـ “شعبه”، والثانية للرأي العام الغربي، والثالثة، بطبيعة الحال، لأعدائه.
لأسماء عملياته دلالات رمزية، وأخرى عملياتية. الرمزي يتقدم على العملياتي. ففيه يتمُّ التأكيد على لغةٍ “عبرية” ملفَّقة، وترسيخها لغةً لشعبٍ جرى تجميعه من أربعة أركان الأرض، وفيه يتمُّ ربط “الماضي” بالحاضر، بل وتقمّص “الماضي” كأنه واقعٌ تاريخي لا شغور فيه ولا انقطاع، أما العملياتي، فهو الهدف المحدّد من العملية العسكرية نفسها، وهذا أقل أهمية، حسب ظني، من المرجعيات التي يصدر منها الاسم.
الأسماء ذات الطابع التوارتي، أو التلمودي، كثيرة في الحروب الإسرائيلية مثل: عمود السحاب، عناقيد الغضب، مقلاع داود، الرصاص المصبوب، سيف جلعاد، وهذا لا يعني أن البعد الدعائي، الذي يستهدف قارئ اللغة الانكليزية، يغيب عن أذهان مخططي الحروب في الجيش الإسرائيلي، فيجترحون لها أسماء مثل: سلامة الجليل، السور الواقي، قوس قزح.. والجرف الصامد.
ويبدو أن الاسم الأخير أثار نقاشاً في الإعلام الإسرائيلي، لجهة “التباسه” بالعبرية، وانعدام وقعه بالعربية، غير أن بيت القصيد يكمن في الترجمة الانكليزية التي تعطيه بعداً دفاعياً:
Protective Edge
إنه “حدٌّ/ حامٍ بالانكليزية، و”صامد” بالعربية، والصمود، المفردة التي عبَّرت، مبكراً، عن تطلعاتٍ عربية متواضعةٍ في مواجهة إسرائيل، أساسية للإسرائيليين الذين يعيشون في محيط ليسوا جزءاً منه، ولن يكونوا.
لكن، كيف يمكن أن “يصمد” الجرف؟
هنا يكمن “الالتباس”.
الجرف هو حافّة جبلٍ، أرض، تطلُّ على وادٍ، أو هاوية. كما أن الجرف بالعربية يفيد معنى: الإزالة، وما تذهب به السيول، وقد يعني عند جرير، مثلاً، الأكول “عظيم اللقم واسع الحنجور” كقوله:
وضِعَ الخزيرُ فقيل: أين مجاشعُ
فشحا جحافله جرافٌ هبـلـعُ!
هنا يهجو جرير شخصاً جشعاً (هذا عمله كشاعر!) يأكل “الخزير”، وهو طحين مخلوط بشحم، ويعتبر من أرذل الطعام، كأنَّه يجرفه من القصعة جرفاً.. ولكن، ليس هذا موضوعنا
إلا من باب استعراض معاني “الجرف” الذي وسمت به إسرائيل تجريدتها الدموية الراهنة على غزة. وقد ألمح بعض النقاش الإسرائيلي إلى خطورة التسمية، فالجرف مرتبط بالسقوط، أكثر مما هو مرتبط بالصمود، كما أنه لا يحدث الوقع المطلوب في ذهن متلقيه الفلسطيني، باعتباره جزءاً من العملية العسكرية نفسها، اللهم إلا بمعنى السقوط من الجرف، وليس الصمود عليه!
هذه العملية، على ما نرجو، لها من اسمها نصيب. إنها الجرف المنهار.
الهزيمة:
لن تطول هذه الحرب الإسرائيلية على غزة. سيوقفها الثنائي نتنياهو – يعلون من طرف واحد، كما فعل أولمرت – باراك في “الرصاص المصبوب”. إنها حرب فاشلة، إلا في قتلها عدداً كبيراً من الأطفال والنساء والرجال، وتدمير أحياء بأكملها على رؤوس سكانها. وهذا ليس عسيراً على جيش إسرائيل الذي لا يقهر، بل ليس عسيراً على أي جيش.
سهل على الآلة العسكرية الإسرائيلية الجبارة أن تقتل وتدمر، ولكن ذلك لا يضمن لها (في مثل وضع غزة، وجنوب لبنان من قبل) رفع شارة النصر. ربما يحدث العكس. فأي صمودٍ لأهل غزة ولفصائل المقاومة فيها يعتبر انتصاراً في وجه جيشٍ لم يقبل من أعدائه، سابقاً، أقلّ من رفع الراية البيضاء.
وعلى الرغم من خطورة الكتابة عن عمل متحرك على الأرض، فإني أكاد أرى البائس نتيناهو، وهو يستخدم نبرةً انتصارية في خطاب إعلان وقف إطلاق النار الذي سيلقيه بعد توقف إطلاق النار، حتى ولو من جهة واحدة، كما تلمح إلى ذلك الصحافة الإسرائيلية، ثم سيترك الكلمة لوزير دفاعه، ليعزف النغمة الانتصارية نفسها. لكننا، مع ذلك، لن نلمح في عيونهما بوارق النصر، ولن نرى مخايل أكاليل الغار. الأهداف التي سيقولان إن حملتهما الإجرامية على غزة حققتها لم تحصل.
لم تستسلم غزة. صحيح أنها اثخنت بالجراح. صحيح أنها تعرضت إلى دمار كبير، لكنها، أيضاً، لم تركع أمام أطنان القذائف والصواريخ التي ألقيت عليها. صحيح أنها ترنحت تحت القصف الهستيري، لكنها لم تسقط. لم ترفع الراية البيضاء. فأي أهدافٍ حققتها الحملة الإجرامية على غزة، إذن؟
نتذكّر أن أول الأهداف التي أعلنها طاقم الحرب الإسرائيلي هو وقف إطلاق الصواريخ من قطاع غزة. الصواريخ لم تتوقف حتى الآن. نتذكر كذلك أن ثاني الأهداف هو القضاء على “المقاومة” وإلحاق هزيمة كاملة بها. يمكن لإسرائيل أن تلحق هزيمةً تامة بجيش (وقد فعلت ذلك من قبل)، لكنها لا تستطيع أن تلحق هزيمةً بحركة مقاومة شعبية. ما هو غير معلن من أهداف هذه الحرب، مثل استعادة قوة الردع، باعتبارها حجر الزاوية في العقيدة الأمنية الإسرائيلية لم يتحقق.
رمت إسرائيل كل ما في جعبتها من أسلحة في الميدان. مارست أقصى قدر من التدمير والترويع. لكنها، على ما يبدو، لم تستطع استعادة قوة الردع التي فقدتها في حربها مع حزب الله، في صيف عام 2006.
لكن، ما لم يكن في أهداف إسرائيل كشفته، على نحو فاضح، هذه الحرب: التواطؤ الرسمي العربي. وهن الشارع. وبؤس النخب السياسية والثقافية. بطل الفضيحة الأكبر هو الذي شُبِّه بعبد الناصر، فطلع أنقص من مبارك.
العربي الجديد
فلسطين القضيّة/ سلامة كيلة
ما يجري من قصف وحشي، ومحاولة اقتحام في غزة، لا يتعلق بغزة فقط، بل بالقضية الفلسطينية. الأمر لا يتعلق بسلطة حماس، فقد كانت وافقت على تشكيل حكومة وفاق، وتشكلت فعلياً. كما لا يتعلق بصواريخ حماس، فالذي بدأ هو الدولة الصهيونية، أرادت الحرب، بعدما وجدت أن مأزق طرفي السلطة الفلسطينية فرض عليهما الوحدة، في وضعٍ لا تريده هذه الدولة. بالضبط، لأن كل استراتيجيتها التي بنت عليها سياساتها، منذ عقود، هو الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، حيث تريد “هضم” الضفة، وإهمال غزة، وهي في حالة حصار شديد إلى أن “تغور في البحر”.
المشكلة التي تنشأ لدى “النُّخَب” و”السياسيين”، في كل مرةٍ يصعّد العدو الصهيوني عدوانه، ويزيد في وحشيته، تكون في أن كلاً منهم يرى الأمر من منظور الخلافات مع حماس، أو مع قوى أخرى ودول أخرى، بما يجعله يبرر العدوان والقتل، ويدين الشعب الذي يقاتل ويضحّي. السياسة ليست نكايات، ولا هي سذاجة تتحوّل المناكفات فيها إلى مواقف، ولا خناقات تفرض ذاتها على المواقف.
فالعدو عدو، بغضّ النظر عن الخلافات الأخرى، والقضية تبقى قضيةً، بغضّ النظر عمّن يقول إنه يدافع عنها، أو يدافع عنها مجبراً لتكتيك معيّن، أو يدافع حقيقةً عنها. في السياسة، ليس مفيداً “لعب الأطفال”، ولا صحيحاً تحكيم الغرائز. وبالتالي، تحويل المواقف بما يطابق الغرائز، أو يطابق الخلافات السياسية. فليس سياسياً مَن يفعل ذلك، ولم يتجاوز مرحلة الطفولة السياسية.
فلسطين قضية، وهي ليست قضية الفلسطينيين فقط، لأن الدولة الصهيونية لم تقم في فلسطين لأنها كانت تريد مكاناً لإيواء “اليهود” من ظلم العالم، بل قامت هنا، في هذا الموقع الاستراتيجي الفاصل بين شرق العرب وغربهم، كقاعدة عسكرية أساساً، جرى تركيب مجتمع “مدني” عليها للتغطية، كما استخدم الدين للتغطية. بالتالي، هي حاجز لمنع، ليس الوحدة فقط، بل لمنع التطور في كل بلد عربي. فلسطين مرتكز فقط، لكي تمارس القاعدة العسكرية دورها العربي، هكذا بالضبط. هذا ما تحسّه الشعوب، وتتأفّف منه “النخب”، لكنه الأساس لفهم الصراع في فلسطين وعليها، وأساساً لفهم الصراع في كل الوطن العربي.
بالتالي، أن يفرح بعضهم بـ”ضرب حماس”، والذين يقتلون هم أطفال فلسطين وشعبها، وأن يكون الموقف من حماس مقياس الموقف من الصراع الراهن، ويصبح تبرير الوحشية الصهيونية أمراً طبيعياً، هو تعبير عن الهزل الذي حكم كثيرين من “النخب” و”السياسيين”. في الصراع مع الدولة الصهيونية، ليس هناك خيار غير الوقوف ضدها، هذا ما يحدده وجودها، بالأساس، بعيداً عن حماس وكل الفصائل الأخرى، فالقضية نشأت قبلهم جميعاً، وهي باقية ما دام التطور العربي لم يفرض تغيير ميزان القوى.
وهذه المسألة الأخيرة هي التي باتت مرتبطةً بالثورات في البلدان العربية، حيث الشعوب لا تحمل فقط هدف إسقاط نُظُمها، بل تحمل هموم التطور والوحدة، وفلسطين. حيث ليس من نهضة وتطور وحداثة مع استمرار وجود الدولة الصهيونية. الشعور الشعبي واضح في هذا المجال، المشكلة في النخب المريضة التي لا تميّز بين القضية ومَن يقول إنه يدافع عنها، أو مدّعي الدفاع عنها. فالقضية تبقى هي القضية.
العربي الجديد

 
حرب غزة الثالثة: حدود القوة الإسرائيلية وأفق المقاومة
مركز الجزيرة للدراسات
ملخص
في 13 يوليو/تموز، بعد خمسة أيام فقط على بدء الحرب الإسرائيلية الثالثة ضد قطاع غزة، خرجت صحيفة هآرتس، التي تُعرف بتوجهها الصهيوني العقلاني، بافتتاحية تدعو حكومة بنيامين نتنياهو إلى الإعلان عن أن إسرائيل حققت أهدافها وإيقاف الحرب. بصورة ضمنية، أرادت هآرتس أن تخبر نتنياهو وحكومته أن حربه أخفقت، وأن ليس ثمة مبرر لاستمرارها، لأن الاستمرار في حرب فاشلة لن يجر إلا مزيدًا من الفشل.
والواقع، أن الخسائر المادية الفادحة التي أوقعتها صواريخ غزة، وقدرتها على شل الحياة في العديد من المدن والبلدات الإسرائيلية، إضافة إلى توقف عشرات شركات الطيران العالمية عن الذهاب لمطار تل أبيب، أوصلت حرب نتنياهو إلى طريق مسدود.
مقدمة
في 13 يوليو/تموز، بعد خمسة أيام فقط على بدء الحرب الإسرائيلية الثالثة ضد قطاع غزة، خرجت صحيفة هآرتس، التي تُعرف بتوجهها الصهيوني العقلاني، بافتتاحية تدعو حكومة بنيامين نتنياهو إلى الإعلان عن أن إسرائيل حققت أهدافها وإيقاف الحرب. بصورة ضمنية، أرادت هآرتس أن تخبر نتنياهو وحكومته أن حربه أخفقت، وأن ليس ثمة مبرر لاستمرارها، لأن الاستمرار في حرب فاشلة لن يجر إلا مزيدًا من الفشل. وبالرغم من أن الحرب اندلعت على خلفية من حادثة خطف ومقتل ثلاثة مستوطنين يهود في الضفة الغربية، فلابد أن يثير مقتلهم في الضفة الغربية التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية وقوات الإحتلال الإسرائيلي، والسرعة التي ذهبت بها حكومة نتنياهو للحرب أسئلة حول ما إن كانت الحرب على جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية منذ شهور على الأقل.
أُعلن عن اختطاف الشبان المستوطنين الثلاثة يوم 13 يونيو/حزيران الماضي، وعُثر على جثثهم قرب مدينة حلحول، التابعة لمحافظة الخليل، في 30 يونيو/حزيران. أججت الحملة الإسرائيلية للبحث عن الشبان مشاعر الكراهية، وأدت إلى اختطاف شاب عربي من مدينة القدس على يد متطرفين يهود وحرقه حيًا. ولكن الأخطر كان توجيه حكومة نتنياهو الاتهام لحماس بالمسؤولية عن اختطاف المستوطنين الثلاثة وقتلهم، بدون تقديم أدلة على هذا الاتهام. خلال أيام من الإعلان عن العثور على جثث الشبان الثلاثة، بدأ الإسرائيليون سلسلة من الغارات على قطاع غزة، ويوم الاثنين، 7 يوليو/تموز، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن إطلاق عملية عسكرية واسعة ضد القطاع. وهنا بدأ رد حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى بإطلاق صواريخ على أهداف إسرائيلية متعددة ردًا على الهجمات الإسرائيلية، التي أخذت في إيقاع خسائر متزايدة في صفوف الأهالي المدنيين.
فلماذا ذهبت حكومة نتنياهو للحرب بهذه الصورة المتسرعة؟ ولماذا بدا سريعًا، أيضًا، أن الحرب ستفشل؟ وكيف أصبح فشل حكومة نتنياهو فشلاً مزدوجًا لمصر، التي ظهرت في هذه الحرب، وبصورة استثنائية، وكأنها أقرب لحكومة نتنياهو منها للأشقاء الفلسطينيين؟
قرار الحرب
عُرف رئيس الحكومة الإسرائيلية خلال حياته السياسية، بالرغم من انتمائه اليميني، بمحاولة تجنب الحروب الكبيرة. يدرك نتنياهو، المعروف بحسه السياسي البراغماتي، أن الحروب هي أعمال سياسية غير مضمونة النتائج. ولكن الواضح أن براغماتيته لم تسعفه هذه المرة، وأنه ظن أن حربًا على غزة، حتى إن لم تحقق كل أهدافها، فلن يكون لها من ثمن سياسي كبير.
هناك خمسة أسباب/أهداف رئيسية خلف حرب غزة الثالثة:

الأول: يتعلق بطبيعة التحالف الحكومي الذي يقوده نتنياهو، وحرصه على إظهار أن التزامه بأمن الدولة العبرية لا يقل عن التزام هؤلاء الحلفاء.
الثاني: يتصل بطبيعة التحالف الإقليمي الذي ربط الدولة العبرية بعدد من الدول العربية، التي تقود منذ شهور حملة واسعة ضد قوى الإسلام السياسي. في محاولته اقتلاع حماس والقوى الإسلامية المسلحة في قطاع غزة، أو إضعافها بصورة فادحة على الأقل، أراد نتنياهو أن يقوم بدوره في موسم الحرب الإقليمية الشاملة على القوة الإسلامية وتعزيز تحالفاته العربية.
الثالث: يتعلق بعملية السلام المتعثرة، وغضب نتنياهو من قرار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذهاب إلى المصالحة مع حماس وتشكيل حكومة التوافق الوطني الفلسطينية؛ فقد أصبح واضحًا خلال الأسابيع القليلة السابقة على حادثة الاختطاف أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بدلاً من أن يتحمل مسؤوليته في إفشال الجهود الأميركية للتوصل إلى تسوية، يعمل على إحياء تصنيف حماس كمنظمة إرهابية، والربط بين اتفاق المصالحة الفلسطينية وادعاء عدم وجود شريك فلسطيني في عملية السلام.
الرابع: يعود إلى سياسة الحكومة الإسرائيلية التي ترى في الحرب الدورية النهج الوحيد لتحجيم إمكانات المقاومة الفلسطينية التسليحية.
الخامس: يتعلق بتطور سياق الحرب، فبعد أن أدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي أن من الصعب تحقيق أهدافه السابقة بالقوة، بات يحاول بناء تحالف عالمي-عربي لإنهاء الحرب باتفاق يتضمن نزع سلاح قطاع غزة.
مفاجآت الحرب
بدأ رئيس الحكومة الإسرائيلية الحرب ولكنه لم يكن يعرف متى وكيف سينهيها، وعندما فاجأته التطورات، ازداد تخبطًا. بعد أسبوعين كاملين من الحرب، مئات الغارات، ومئات آلاف الأطنان من المتفجرات، لم تستطع آلة الحرب الإسرائيلية إيقاف إطلاق الصواريخ ولا فصم العلاقة بين قوى المقاومة والشعب في قطاع غزة. شيئًا فشيئًا، أصبح واضحًا أن الجيش الأقوى في الشرق الأوسط، وأجهزة الأمن التي ادعت دومًا أنها تقرأ المجتمع الفلسطيني أفضل من قادته، لا تعرف تمامًا الأهداف التي على سلاح الجو الإسرائيلي قصفها. بعد تدمير المواقع التقليدية لأجهزة السلطة في القطاع، ومعسكرات التدريب المعروفة للعامة والخاصة، وقف سلاح الجو الإسرائيلي عاجزًا عن استهداف مواقع إطلاق الصواريخ، التي أُطلقت في أكثر من مناسبة والطائرات الإسرائيلية تحلّق في سماء القطاع. وحتى عندما لجأ الإسرائيليون إلى سياسة القصف العشوائي للأهالي والأسر والمصلّين، أظهر أهالي القطاع صلابة لا تقل عن صلابتهم في حرب 2012.
أحد أهم أسباب العمى الاستراتيجي الذي ظهر جليًا خلال الحرب، كان الجهد الكبير الذي بذلته حكومة حماس، طوال ست سنوات، في تفكيك شبكات التجسس الإسرائيلية في القطاع، التي اعتُبرت دومًا الأداة رخيصة الثمن التي وفرت للإسرائيليين اختراقًا واسعًا للمجتمع والمقاومة الفلسطينية. أما السبب الآخر فيُعزى إلى جهود الخداع التكتيكي التي نجحت قوى المقاومة في تطويرها، وقدرة هذه القوى على التعلم من حرب إلى أخرى.
في المقابل، أطلقت كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس، جناحا حماس والجهاد العسكريان، وقوى المقاومة الأخرى، مئات من الصواريخ على المعسكرات والمدن الإسرائيلية. وبنجاح القسام في تطوير صواريخ بعيدة المدى، أمكنها استهداف تل أبيب وحيفا للمرة الأولى. وكانت مفاجأة الحرب الثانية تطوير القسام لطائرات صغيرة بدون طيار، لم تتمكن وسائل الدفاع الإسرائيلية من رصدها إلا بعد أن اخترقت أكثر من 30 كيلومترًا من العمق الإسرائيلي. وفي العموم، لم تستطيع شبكة الدفاع الإسرائيلية المضادة، المعروفة بالقبة الحديدة، اعتراض أكثر من عشرين بالمئة من الصواريخ التي أُطلقت من قطاع غزة، بالرغم من أن المقاومين الفلسطينيين لم يلجأوا لنهج الإطلاق الإشباعي، حيث تُطلق عشرات الصواريخ في وقت واحد.
الخسائر المادية الفادحة التي أوقعتها صواريخ غزة، وقدرتها على شل الحياة في العديد من المدن والبلدات الإسرائيلية، إضافة إلى توقف عشرات شركات الطيران العالمية عن الذهاب لمطار تل أبيب، أوصلت حرب نتنياهو إلى طريق مسدود. في نهاية الأسبوع الأول للحرب، كانت بشاعة الحرب الإسرائيلية قد أصبحت واضحة، بعد أن ازدادت خسائر المدنيين الفلسطينيين، وبدأت الطائرات الإسرائيلية في استهداف المنازل والملاجيء والمستشفيات. وكان على نتنياهو أن يوقف الحرب أو أن يغامر باجتياح بري، واسع أو محدود، بكل ما يعنيه ذلك من عواقب وما يحمله من مخاطر سياسية فادحة. الخيار الآخر، أن يستمر في حرب جوية مفتوحة لا نهاية لها، في مقابل استمرار إطلاق الصواريخ على المواقع الإسرائيلية.
الحقيقة، أن خيار الحرب المستمرة لم يكن أقل خطرًا؛ فبالإضافة إلى الخسائر المادية والبشرية الإسرائيلية المتزايدة، تفقد الحكومة الإسرائيلية ثقة الرأي العام الإسرائيلي بها، وتتصاعد الضغوط الدولية. وبعد أن ساهمت المصالحة الفلسطينية في تعزيز موقع محمود عباس وسلطته، التي سبق أن عرّاها اصطدام مباحثات السلام للمرة المئة بحائط التعنت الإسرائيلي، جاءت الحرب لتعيد التذكير بضعف دور الرئيس الفلسطيني وسلطة الحكم الذاتي. سيعمل استمرار الحرب على المزيد من تهميش السلطة، الشريك الفلسطيني الاستراتيجي للدولة العبرية وإحدى ضمانات أمنها، ويهدد باشتعال انتفاضة فلسطينية جديدة. أما على المستوى الإقليمي، فبدلاً من أن توجه الحرب ضربة قاصمة للإسلام السياسي، عززت من وضع التيار الإسلامي ومصداقيته لدى الشارع العربي، ووُجّهت أصابع الاتهام والإدانة للدول العربية المتحالفة مع نتنياهو وحكومته. إضافة إلى ذلك، فإن استمرار الحرب قد يعزز مصداقية القائلين بأن السلاح هو الحل لأزمات المنطقة السياسية، ويعمل على انتشار العنف في المشرق بأسره.
في مواجهة عدد من الخيارات، التي لا يقل أحدها سوءًا عن الآخر، ذهب نتنياهو في مساء اليوم العاشر للحرب (17 يوليو/تموز) إلى خيار التوغل البري المحدود، معلنًا أن هدفه ليس إسقاط حماس، بل التعامل مع شبكة الأنفاق، التي أصبحت مصدر قلق رئيس للجانب الإسرائيلي، سيما بعد أن استخدمتها قوى المقاومة في هجمات برية ضد القوات الإسرائيلية على الجانب الآخر من حدود قطاع غزة.
بإخفاقه في تحقيق نتائج ملموسة في أرض المعركة، أخذ رئيس الحكومة الإسرائيلية في محاولة تحقيق إنجاز أكبر في اتفاق نهاية الحرب، تمامًا كما فعل سلفه أولمرت في حرب 2006 على لبنان. وبدأ نتنياهو يروِّج لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسة بأن نهاية الحرب لابد أن تكون مقدمة لنزع نهائي للسلاح في غزة مقابل مشروع ضخم لتنمية القطاع، تساهم فيه دول عربية نفطية. هذا التصور، كما يبدو، يجد تأييدًا من الدول العربية ذاتها التي شجعت على الحرب.
تعثر الدور المصري
بصورة من الصور، بدا وكأن الأسبوع الأول من الحرب كان الفرصة التي أُعطيت لنتنياهو، عربيًا وغربيًا، لتحقيق ما يستطيع تحقيقه. أدركت الأطراف ذات العلاقة على نحو ما أن ذهاب الحرب لفترة طويلة نسبيًا سيثير ردود فعل شعبية وسياسية غير مرغوب فيها. ولذا، ففي نهاية الأسبوع الأول، وبعد أن تجاهلت القاهرة دعوات التدخل الفلسطينية والعربية، فاجأت الجانب الفلسطيني بمبادرة لوقف إطلاق النار.
بيد أن القاهرة كانت أكثر توافقًا مع حكومة نتنياهو. وقد لعب توني بلير، مبعوث الرباعية في الشرق الأوسط ومستشار الرئيس عبد الفتاح السيسي، دورًا في إقناع القاهرة بالتحرك، في توافق مع الإسرائيليين، لقطع الطريق على أي تحرك آخر لوقف الحرب. في الرابع عشر من يوليو/تموز 2014، كان المصريون والإسرائيليون قد توصلوا لصيغة ما سيُعرف بالمبادرة المصرية. في اليوم التالي، أخذت وسائل الإعلام في تداول بنود المبادرة، بدون أن تُعرض على حماس أو على أي من قوى المقاومة بصورة رسمية. وفي 16 يوليو/تموز، اجتمعت وزارة الحرب الإسرائيلية المصغرة وأعلنت موافقتها على المبادرة. في مساء اليوم نفسه، أعلنت حركتا حماس والجهاد رفضهما للمبادرة.
صيغت المبادرة المصرية، كما أشارت مصادر صحفية إسرائيلية (هآرتس، 16 يوليو/تموز) بعد تشاور بين مسؤولين مصريين ومستشارين مقربين من رئيس الحكومة الإسرائيلية، وعكست وجهة النظر الإسرائيلية إلى حد كبير. يرتكز منطق المبادرة المصرية إلى فكرة العودة إلى هدنة مقابل هدنة، مع منح الجانب الإسرائيلي ضمنيا حق مواصلة استهداف غير المدنيين وتقرير الزمن المناسب للتوقف عن الهجوم ضد القطاع. ولا تتضمن المبادرة سوى إشارة إلى إمكانية فتح للمعابر مع القطاع، مشروط باستقرار الوضع الأمني. وقد اتسم الموقف المصري بدرجة كبيرة من الاستعلاء، مفترضًا، بدون أدنى درجة من التشاور مع قوى المقاومة، أن هذه القوى ستقبل بالمبادرة بأية حال من الأحوال.
حمل رفض حماس والجهاد وتنظيمات المقاومة الأخرى للمبادرة المصرية إحراجا بالغا لنظام السيسي، وكشف فقدانه القدرة على التأثير في مسار الأحداث. ولم يكن ثمة شك في أن التصعيد الإسرائيلي الشرس في الأيام التالية لرفض المبادرة وجد تأييدًا من القاهرة، التي حمّل وزير خارجيتها (17 يوليو/تموز) رفض حماس التعامل مع المبادرة المصرية مسؤولية أعداد الضحايا المتزايدة بين أهالي القطاع.
كان الفشل في وقف الحرب هو السبب الرئيس خلف زيارة الشيخ تميم بين حمد آل ثاني، أمير قطر، لتركيا في 17 يوليو/تموز، والسعودية في 22 يوليو/تموز، بهدف بلورة جهد قطري-تركي-عربي مشترك لإيجاد حل مرضٍ للطرفين لإيقاف الحرب. وبالرغم من أن الموقف الإسرائيلي كان واضحًا في تأييد المبادرة المصرية، وعلاقات الدولة العبرية المتوترة بكل من تركيا وقطر، فالأرجح أن الدوحة وأنقرة راهنتا على الموقف الأميركي، من جهة، وفشل حكومة نتنياهو في تحقيق أي من أهداف الحرب المفترضة، من جهة أخرى.
وكانت اتصالات مكثفة جرت بين وزراء خارجية تركيا وقطر والولايات المتحدة خلال الأسبوع الثاني من الحرب، بالرغم من أن الولايات المتحدة تبنت في البداية موقفًا مؤيدًا للمبادرة المصرية لكن الرئيس باراك أوباما أشار، في تحول واضح، إلى أن وزير الخارجية جون كيري سيزور المنطقة للتوصل إلى اتفاق على أساس اتفاق 2012 الذي رعاه الرئيس المعزول محمد مرسي. الفرنسيون، من جهة أخرى، الذين تفردوا بين الأوروبيين باتخاذ موقف نشط، أظهروا على لسان وزير خارجيتهم، لورون فابيوس، في زيارته للقاهرة وعمان، دعمًا صريحًا للمبادرة المصرية، بعد ساعات فقط من توقيع القاهرة لعقد ضخم لشراء سفن حربية فرنسية، قيل إنه مُوّل من مصادر عربية حليفة لنظام السيسي.
هذا، في الوقت الذي قدمت حماس لكافة الأطراف المعنية ورقة باسم كافة فصائل المقاومة في القطاع، تتضمن المطالب التي ينبغي للاتفاق تحقيقها، بما في ذلك مسألة إنهاء حصار قطاع غزة، والتوقف عن استهداف المقاومين وكافة الأعمال العدائية، والإفراج عن كافة من اعتُقلوا على خلفية حادثة الاختطاف، ووضع نهاية لإجراءات الاعتقال الإداري للفلسطينيين.
في حمى الحراك الدبلوماسي، كان التساؤل الأكبر حول موقف الرئيس عباس والسلطة الفلسطينية؛ إذ لم يكن خافيًا من البداية أن موقف السلطة، باعتبارها الممثل الرسمي للفلسطينيين في الضفة والقطاع، التمثيل الذي تعزز بعد المصالحة، سيكون عاملاً حرجًا في عملية التفاوض على نهاية الحرب، سواء بدعم مطالب قوى المقاومة في القطاع وتقديمها على أنها مطالب وطنية فلسطينية جامعة، أو بالمساومة على هذه المطالب أملاً بالحصول على مكاسب فئوية لفتح والسلطة. وبالرغم من التكتم الذي أحاط لقاء مشعل وعباس بالدوحة (22 يوليو/تموز)، فإن تصريحًا واضحًا من قيادة السلطة في رام الله حول مطالب القطاع وما يحاوله نتنياهو من ربط إعادة الإعمار بإخلاء قطاع غزة من السلاح، لم يصدر من رام الله بعد. لكن ورد في كلمة محمود عباس بعد أن عاد إلى الضفة الغربية في 22 (يوليو/تموز)، رفضه أن تكون أرواح الفلسطينيين محل تجاذب بين قوى إقليمية، وأشار إلى أن من حق أهل القطاع القتال للدفاع عن أنفسهم.
تحولات دبلوماسية
لم تكن الحرب، بعد أسبوعين كاملين من اندلاعها، قد توقفت، وليس من المستبعد أن تستمر لأسبوع أو أسبوعين آخرين. ولكن الحراك الدبلوماسي، العربي والدولي، للتوصل إلى اتفاق تسارع بوتيرة عالية، سيما بعد أن ازدادت خسائر الجيش الإسرائيلي، وازداد معها عدد الضحايا المدنيين من أهالي القطاع. وإن تأكد إعلان حماس عن أسر جندي إسرائيلي، وقد بدأت تصريحات من الجيش الإسرائيلي تشير إلى حدوثه،، فلابد أن اتفاق نهاية الحرب سيميل لصالح المقاومة وصالح قطاع غزة وحريته. ولعل قرار الرئيس الأميركي بإرسال وزير خارجيته للمنطقة (21 يوليو/تموز)، مكلفًا بمهمة إنهاء الحرب والعودة لتفاهمات 2012، كان أبرز مؤشر على بدء حراك دبلوماسي جاد لوقف الحرب. وليس ثمة شك في أن قرار أوباما يحمل إهانة مستبطنة لدبلوماسية حكومة السيسي؛ ففوق أن الرئيس الأميركي لم يُشر للمبادرة المصرية، فالجميع يعرف أن اتفاق 2012 كان واحدًا من إنجازات الرئيس محمد مرسي. وفي حين أصبح هناك تعديل ما على المبادرة المصرية محور الحراك الدبلوماسي، فليس من الواضح كيف سيتم تمرير أو تجاهل مطلب نزع سلاح القطاع، الذي يبدو أن حكومة نتنياهو تحاول حشد تأييد أوروبي-أميركي له.
ولعل مساعي كيري في المنطقة، ودخول دول أخرى ليست موافقة على المبادرة المصرية، وتأكيد خالد مشعل، رئيس المكتب التنفيذي لحماس، بأنه لن يقبل إلا بتهدئة مع رفع الحصار، والتنسيق الجاري بين السعودية الراعية للنظام المصري، وقطر التي سلمتها المقاومة شروطها للتهدئة، تعد كلها تحركات تصب في بحث مبادرة جديدة تجمع بين وقف إطلاق النار ورفع الحصار.
أفق جديد
عندما تنتهي هذه الحرب ستكون أشياء كثيرة قد تغيرت، سواء على المستوى الفلسطيني أو العربي. قد لا تحقق المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة كافة مطالب أهالي القطاع، أولاً: لحجم الانقسام العربي حول الحرب؛ وثانيًا: لأن من الصعب على القيادة الإسرائيلية أن تصبح فجأة وفية للاتفاقيات التي توقّعها. المؤكد، أن قدرًا ملموسًا من هذه المطالب سيتحقق. وسيتحقق هذا القدر من المطالب بصورة أساسية لأن الخيار الإسرائيلي العسكري للتعامل مع قطاع غزة فشل للمرة الثالثة. بذلك، ستشهد الساحة الفلسطينية إعادة بناء لموازين القوى بين حماس وسلطة عباس، سيما بعد أن تصورت رام الله أن اتفاق المصالحة جاء نتيجة لتراجع وضع التيار الإسلامي في مصر والمجال العربي. وسيكون من المهم أن تصر حماس على عقد الانتخابات التشريعية في الضفة والقطاع في موعدها الذي أقره اتفاق المصالحة.
في الساحة العربية، يُعتبر صمود القطاع في هذه الحرب أول مؤشر ملموس على تراجع معسكر الثورة العربية المضادة، بعد التقدم الذي حققه الأخير في انقلاب مصر ومحاولة تعطيل عملية الانتقال الديمقراطي في ليبيا وتونس واليمن. مصر، التي وصل نفوذها الإقليمي أصلاً إلى أدنى حالاته، دفعت ثمنًا باهظًا في هذه الحرب من نفوذها، بعد أن اختارت أن تتخذ موقفًا أقرب إلى الجانب الإسرائيلي. وقد شهد المصريون خلال هذه الحرب، يومًا بعد يوم، كيف أن نظام السيسي لم يخفق في التزام موقف شبيه بموقف مرسي في 2012 وحسب، بل وخسر أي تأثير سياسي تبقى لمصر في الساحة الفلسطينية.
في النهاية، لابد أن يفتح صمود قطاع غزة، بمساحته الصغيرة وحصاره، في مواجهة ثلاث حروب إسرائيلية، الباب للتفكير من جديد في مجمل الصراع على فلسطين، وفي كل مقولة حلّ الدولتين، التي تعقد عليها أطراف عربية وفلسطينية ودولية أملها في التوصل لحل للصراع.

 
مشعل ـ نصرالله/ حـازم الأميـن
العملية العسكرية التي تُنفذها اسرائيل على قطاع غزة تجري هذه المرة وفق متغيّر لا بد من رصده في سياق توقع نتائج هذه الحملة. فـ”حماس” تقاتل هذه المرة من خارج المنظومة التقليدية للممانعة، أي التحالف الإيراني – السوري وملحقاته اللبنانية والعراقية.
لقد أعلنت الجماعة الفلسطينية (حماس) رسمياً خروجها من دمشق، وهي تقيم اليوم في الدوحة وفي أنقرة عدوّتي النظام السوري اللدودتين. وهي وإنْ أبقت على علاقة مع “حزب الله” ومع طهران، لكنها علاقة يشوبها الكثير من البرود والمرارة.
فالوقائع ثقيلة جداً، والخصومة السنّية – الشيعية لا يمكن لكلا الجماعتين التعالي فوقها. الصدع جوهري، ولا يمكن رأبه بـ”نيات حسنة”. هو صدعٌ يمتدّ من العراق ويعبر في سورية ولا ينتهي في لبنان. و”حماس” تنظيم سنّي، لا بل هو تنظيم الاخوان المسلمين الفلسطينيين، وأحياناً الأردنيين، و”حزب الله” تنظيم شيعي، وطهران عاصمة ولاية الفقيه التي تقاتل أيضاً في العراق وفي سورية وفي لبنان.
الهوة إذاً واسعة، وعواصم التفاوض مختلفة هذه المرة. خالد مشعل يفاوض على شروط وقف إطلاق النار من الدوحة لا من دمشق، وطهران في موقع مختلف هذه المرة، فهي تواجه منافسة مريرة على تصدر المشهد الممانعاتي، فها هو رجب طيب أردوغان يُحاول أن يلتقط أنفاساً إقليمية كان قد فقدها خلال خريف الإخوان في مصر وتونس وسورية. وأن يستعيد الرجل جزءاً من المبادرة على وقع تورط الاسرائيليين بمزيد من الدماء في غزة، فإن ذلك سيكون على حساب عدوه الجديد بشار الأسد، حليف طهران ورجلها الوحيد في سورية.
البوادر التي بدأت تظهر والتي تؤشر إلى أننا أمام مشهد مختلف، تتمثل بالتخبط الذي يشهده الجناح الشيعي في الخطاب الممانعاتي (إذا اعتبرنا أن ثمة جناحاً سنياً اليوم في هذا الخطاب عاصمتيه الدوحة وأنقرة).
فبين إدانة “حماس” بسبب خروجها من دمشق، والانحياز لها بسبب قتالها اسرائيل، يسعى هذا الخطاب إلى تمييز بين الفعلين (الإقامة في الدوحة وقتال إسرائيل) لا يستقيم. وفي صلب هذا الخطاب مقولة تتمثل في أن “داعش” تأسست في الدوحة، وأن أنقرة فتحت لها الحدود مع سورية، فكيف يمكن والحال هذه الجمع بين تأسيس “داعش” وبين انتظار انتصار “حماس” على إسرائيل.
من الواضح أن “الود” لم يُفقد بين “حزب الله” و”حماس”، فمسؤول “حماس” في لبنان ما زال يقيم في الضاحية الجنوبية، ويشير مسؤولون من الجماعتين إلى أن قنوات تواصل ما زالت قائمة. ويجب الانتباه أيضاً إلى أن ظلال مصالح ما زالت تربطهما على رغم تناقصها، لكن الصورة التي ضمت ذات يوم كلاً من خالد مشعل وبشار الأسد والسيد حسن نصرالله لن تتكرر، وهذا ليس تفصيلاً في سياق توقع نتائج الحملة الإسرائيلية على غزة.
موقع لبنان ناو

 
غزة والعراضات الإعلامية/ دلال البزري
فيما يُمعن النظام السوري، وحلفاؤه من الميليشيات اللبنانية، في دكّ أهل سوريا ومدنها بالبراميل والطائرات والمروحيات والحصارات والوحشيات على أنواعها، يرمي أهل سوريا في فراغ الموت والعوز والتهجير والجروح النازفة؛ وفيما لا تقصر”داعش” بدورها، في التطهير المذهبي والعرقي والديني، في تدمير حدود الأوطان، رداً على تطهير المالكي وتشييعه للعراق وإلحاقه بايران، عل غرار نظيره السوري… في انفجار داخلي دموي مدمر، مع قوافله التي لا تنتهي من المهجرين والنازحين والمعوزين والمقتلعين من أرضهم بما تيسر لهم من أغراض محمولة في حقائب بائسة.. في هذا الوقت بالذات، الممتد لما يربو الآن على ثلاث سنوات، جاء العدوان الإسرائيلي على غزة، ليحظى بحملات تعاطف وتظاهرات، وإن صغيرة، واستنفار أحزاب “وطنية”، وباهتمام إعلامي هائل، يبرز للمرة الأولى الفرق بين تغطيتها وبين تغطية الحرب الدائرة على العراقيين والسوريين، وبينهم فلسطينيون (مثل تلك العراضة الإعلامية، البكائية الإعلامية، المهداة إلى غزة، التي تباهت الأقنية التلفزيونية اللبنانية بتنظيمها، واحتفلت بها أيام؛ ولم تمنعها عواطفها الفوّارة من تصدير صورة الإرهابي كارلوس، تمنحه جوازاً إعلاميا بعدما كان طواه النسيان…)؛ كأن الحدث الغزاوي أهم، أكثر مصيرية، أقوى تأثيراً على حياتنا ومستقبل بلادنا من أي شيء آخر؛ إهتمام إعلامي مبالغ به، في منطقتنا، إذا ما قيس بالتعتيم الإعلامي على جرائم النظامين السوري والعراقي، وعلى فظاعات خصومهما من إسلامين جهاديين أو سلفيين أو نقشبنديين، وكان آخرها طرد “داعش” لمسيحيي الموصل من ديارهم وبلادهم بعد تجريدهم من كل شيء، وحرق كنائسهم وانتهاك مقدساتهم… أي بأفظع، بأخطر مما فعلته إسرائيل بالفلسطينين قبل سبعة عقود.
لماذ؟ لماذا هذه الهوّة السحيقة بين التغطيتين؟
هل لأن الدعم الإعلامي لغزة لا يكلف شيئاً؟ بل يرفع من نسبة المشاهدة، وبنسبة أقل، من القراءة، ويلمع أسماء أصحابها، فتطير نجوميتهم الى السماء؟ أو لأن الدعم الإعلامي والصخب الإعلامي العنقودي حوله يسكت الجبهة الأخرى التي يقاتل فيها هؤلاء “الداعمون”، في حرب أهلية مذهبية؟ أو لأنهم لو كشفوا عن بعض تفاصيل وجوهها كما يفعلون مع غزة، لأصابهم العار… لو كان للكلمة معنى عندهم؟
هل لأن عدد الشهداء في غزة، أكثر كثافة من أولئك الذين يرفض نصفنا وصفهم بالشهداء، إنما “فطائس”، أو “قتلى” في أحسن تقدير؟ أم لأن ذاك “السجن المفتوح على السماء”، الذي هو قطاع غزة، محاصر، يعيش على بقعته الضيقة مليون ونصف مليون إنسان، لا يستطيع الفرد منهم الهرب بأولاده، لا إلى إسرائيل ولا مصر ولا البحر؟ وليسوا مثل السوريين والعراقيين، ومعهم آلاف الفلسطينيين اللاجئين ثانية، الهاربين داخل بلادهم وخارجها، والذين يفوقونهم عدداً؟ أو لأنه من المعروف سلفاً بأن عدوان غزة سوف يتوقف في لحظة ما، وبأن هدنة ستسود، فيما الحرب الأهلية العربية لا يبدو إن عمرها قصير، إنما سوف تدوم؟
هل لأن الذي يقتُل في غزة إسرائيلي يهودي، وإدانته والتضامن مع ضحاياه جائز قومياً ودينياً، فيما القتل الذي يمارسه الأسد أو المالكي أو”داعش أو “حزب الله”، ليس على أي قدر من الإجرام؟ “عربي يربّي عربياً”؟ مثل الأب الذي يربي ابنه. ما شأن الآخرين بهذا الموضوع العائلي؟
هل لأننا نتضامن تلقائيا، معتادون على التضامن مع القضية الفلسطينية، أسهل انواع التضامن؟ فيما “التضامن” مع الشعوب السورية والعراقية في العدوان اليومي عليهم يتطلب مراجعة الثوابت، والنقد المستمر، واليقظة.. وكلها سمات ليست صارخة في عهد الإعلام المكتوب الذي يصبو إلى التشبّه بالإعلام المرئي؟ أم لأننا نخجل أمام العالم، أي الغرب، من تصدير صورة الوحوش التي فينا وبيننا، فيما نرتاح في غيرها، صورة الضحية الحقيقية، كأننا نريد أن نقول بأن فشلنا في بناء أنفسنا ليس من ذنبنا؟ إنما ذنب اسرائيل؟ ومعه المؤامرة علينا، التي لا تريدنا ان نكون على مستوى الأمم الأخرى الطبيعية…الخ؟
هل لأن في عبارة “مركزية القضية الفلسطينية” يتفوّق المعنى العاطفي الشرقي المنتحب الراسخ على المعنى السياسي الواقعي؟ فوق هذه “المركزية”، وهي مزمنة، قديمة، نسجت على امتداد عمرها الذي يبلغ الآن السبعة عقود، علاقات تضامنية عربية ودولية، إعلامية وإنسانية؟ فيما لم تتمكن الشعوب ضحية العدوانين البعثي والجهادي، إلا ان تحصد البراميل والجرائم والمعارضة المتخبطة؟
أم لأن “مركزية القضية الفلسطينية” صارت تعني، مع الوقت، سهولة توظيفها من أي طرف، أو جهة سياسية؟ والثمن القليل الذي تدفعه في هذا التوظيف؟ بل الربح الكثير؟ تبرىء المسؤولين الفلسطينيين عن نكباتها، فتيسر عليهم البقاء على كرسيهم الهزاز؟ تقابله طاقة توظيفية مضادة، كما هو حاصل اليوم في مصر، حيث يحتشد الإعلام المرئي والمكتوب خلف رئيسه، وبحماسة غير محدودة، في حملة رسمية وشعبية مضادة لكل ما هو فلسطيني، من قضية أو شعب أو أفراد أو فنون أو آداب؛ كأن مصر بذلك تبني مجدها الخاص كـ”قوة إقليمية”، لها دور “ريادي” في تسيير دفة المنطقة على قاعدة الدفاع عن مصالح إسرائيل؟ أي ما كانت تأخذه على “الاخوان المسلمين” عندما حكموا منذ عام، ولمدة عام؟
المدن

 
حل الدولتين» يحتضر بقرار إسرائيلي وبمساعدة «حماس/ راغدة درغام
أبعد من وقف النار في غزة وأي اتفاق مرحلي يرافقه في رعاية أي كان، أن «حل الدولتين» الذي يلقى الإجماع الدولي يحتضر بقرار إسرائيلي بمساعدة «حماس». رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أوضح هذا الأسبوع علناً ولأول مرة بصدق المواقف الإسرائيلية الرافضة حل الدولتين، أي قيام دولة فلسطين بجانب دولة إسرائيل. «حماس» تلاعبت دوماً متجنبة الالتزام القاطع بحل الدولتين وحرصت على المزايدة على السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس التي كرّست نفسها لحل الدولتين. الولايات المتحدة جعلت من حل الدولتين أساس سياستها وديبلوماسيتها ليس منذ أتى الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض وإنما عبر الإدارات المتتالية. بل إن قرار مجلس الأمن الذي دعا بصراحة إلى حل الدولتين دفعت به إدارة جورج دبليو بوش عام 2002. المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل والاعتراف بها اتخذت حل الدولتين ركيزتها الأساسية. ما يسمى بـ «اللجنة الرباعية» التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة تم إنشاؤها لتنفيذ حل الدولتين. إذاً، وبما أن أساس الإجماع الدولي يحتضر ويوشك على الانهيار، ما هي الخيارات المتاحة وهل يتدارسها أقطاب «اللجنة الرباعية» أو القيادات الفلسطينية والعربية أم إن الجميع يدفنون الرؤوس في الرمال؟ وماذا لو كانت السياسة المعتمدة حقاً هي التظاهر بأن حل الدولتين قائم فيما فعلياً الكل يعرف أنه لم يعد متاحاً بعد الآن.
وزير الخارجية الأميركية جون كيري يريد أكثر ما يريد أن تسفر جهوده المضنية ورحلاته المكوكية بين الإسرائيليين والفلسطينيين عن معالجة جذرية للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، على أساس حل الدولتين. عاد كيري إلى بذل جهوده في المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية ليس فقط من أجل التهدئة ووقف النار بين إسرائيل و «حماس»، وإنما أيضاً على أمل أن يكون ذلك مدخلاً له لمحاولة أخرى لإنقاذ عملية السلام من الانهيار التام.
أحداث غزة فرّخت معطيات جديدة خدمت الموقف الإسرائيلي الرافض حل الدولتين. فالحديث اليوم يصب في «الأنفاق العدائية» كما يسميها الجيش الإسرائيلي تبريراً للقصف الجوي والبحري وللهجوم البري. الحديث اليوم يتناول شروط وقف النار من فك الحصار الإسرائيلي على غزة إلى فتح المعابر مع مصر. لا أحد يتحدث عن حل الدولتين وعن وسائل إحياء عملية السلام والمفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. فلقد فُرِض أمرٌ واقع جديد.
الذي فرض الأمر الواقع هو حكومة إسرائيل و «حماس» و «الجهاد الإسلامي». السلطة الفلسطينية تلهث وراء أحداث غزة. انحسرت قوى الاعتدال الإسرائيلية والفلسطينية. بات الحديث بين قوى التطرف الإسرائيلي والتطرف الفلسطيني سيد الساحة. والضحية مدنية بأكثر من 700 فلسطيني، 77 في المئة منهم مدنيون، وبـ35 إسرائيلي، 3 منهم مدنيون، وفق الإحصاءات عند كتابة هذه السطور.
الجديد أيضاً الذي أتى مع أحداث غزة هو تقوقع الرأي العام الإسرائيلي في زاوية دعم إجراءات حكومته وتشجيعها على المزيد على رغم التفاوت الواضح بينه وبين الرأي العام العالمي الذي احتج على وسائل العمليات الإسرائيلية العسكرية في غزة وحصيلتها.
الشرخ بين الرأي العام الإسرائيلي والرأي العام العالمي مخيف بدلالاته على ما يريد الإسرائيليون حقاً في علاقاتهم مع الفلسطينيين. الرأي العام الإسرائيلي لم يدعم «حماس» في إطلاقها الصواريخ بل دانها. لم يبارك الأنفاق، بل ندّد بها. لم يغض النظر عن تبريرات قتل المدنيين الفلسطينيين بتحميل «حماس» مسؤولية الاختباء تحت البيوت واستخدام الناس دروعاً بشرية، بل شهّر بها. لم يتعاطف مع استخدام مدارس «الأونروا» لإخفاء الصواريخ، بل صاح ضدها. لكن الرأي العام العالمي لم يوافق الإسرائيليين في تعمّد قتل المدنيين الفلسطينيين إذا حدث أنهم سكنوا في المواقع التي قررت الآلة العسكرية الإسرائيلية إبادتها.
الكوميدي جون ستيوارت لخّصها ببلاغة: إلى أين يذهب المدنيون الذين تبلّغهم إسرائيل بأن عليهم الإجلاء قبل القصف بساعات في غزة المحاصرة وغزة المكتظة بالسكان وغزة المغلقة؟ لخّصها ببلاغة عندما عرض شريطاً أوضح كيف أنه من المستحيل مجرد ذكر كلمة إسرائيل قبل انقضاض الاعتذاريين عنها على كل من يجرؤ على انتقادها، وكيف ينقض المدافعون عن فلسطين على مَن يجرؤ على انتقاد «حماس» لاستخدامها الدروع البشرية.
وولف بليتزر أجرى مقابلة في CNN مع عمدة نيويورك السابق مايكل بلومبرغ لدى وصوله إلى مطار بن غوريون حاملاً على قرار وكالة الطيران الفيديرالية FAA قطع رحلات شركات الطيران الأميركية إلى إسرائيل بسبب وقوع صاروخ «حماس» قرب المطار في تل أبيب. مدهش كان عداء بلومبرغ نحو بليتزر المراسل السابق لـ «جيروزاليم بوست» قبل الالتحاق بـCNN. احتج على كل سؤال بدهي، واتهم الصحافي الموالي لإسرائيل بتحريض الرأي العام الأميركي ضد إسرائيل.
هذا مجرد مثل واحد على النهوض الأميركي ضد أي انتقاد لإسرائيل وعلى منع الحوار والنقاش أميركياً في أي شأن إسرائيلي. وعلى رغم ذلك، أفادت الاستطلاعات انخفاض الدعم التلقائي لإسرائيل لدى الرأي العام الأميركي الذي احتج على التبرير الإسرائيلي لقتل المدنيين الفلسطينيين عمداً.
هذا لن يُترجم في تحوّل جذري في الرأي العام الأميركي لمصلحة فلسطين على حساب إسرائيل. إنه احتجاج عابر. فالعلاقة العضوية الأميركية – الإسرائيلية باقية – وفي الأيام القليلة المقبلة ستتمكن الآلة الإسرائيلية من تحويل اللوم القاطع إلى الفلسطينيين. ستكون «حماس» الوقع الأساسي للوم لأنها في الرأي الأميركي، الرسمي والشعبي، منظمة إرهابية. لكن الضحية الأبعد ستكون السلطة الفلسطينية الضعيفة ومعها عملية السلام وحل الدولتين الذي يتطلب إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وكلمة «الاحتلال» ستُلغى من القاموس الأميركي، كما تخطّط لها إسرائيل.
فماذا حققت «حماس» مرحلياً وماذا أنجزت من أجل فلسطين على المدى البعيد؟ قد تتباهى «حماس» بأنها أجبرت شركات الطيران العالمية على إيقاف رحلاتها إلى إسرائيل نتيجة الصواريخ التي أطلقتها. قد تشد ظهرها برفضها المبادرة المصرية لوقف النار وفرض المبادرة القطرية بدلاً منها علماً أن قطر تدعمها وأن انتماءها إلى «الإخوان المسلمين» اتخذ بعداً قيادياً بسبب رفضها التعامل مع مبادرة مصر التي أسقطت حكم «الإخوان المسلمين». قد تقهقه ضمناً لأنها أجبرت أمثال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والوزير جون كيري على بذل الجهود لتلبية بعض مطالبها لوقف النار. قد تتباهى بأنها بدت المتحدث باسم الفلسطينيين على حساب السلطة الفلسطينية. وقد تجد أن أحداث غزة أفادتها عن التموضع فلسطينياً وإقليمياً. وقد تعتقد أن الرأي العام العالمي تعاطف مع الفلسطينيين المدنيين نتيجة صواريخها التي أحيت المسألة الفلسطينية في الضمير العالمي.
كل هذا مرحلي لأن الانصباب سيكون على كيفية تجريد «حماس» من القدرة العسكرية بما في ذلك ردم الأنفاق وقطع الطريق على تسلمها المزيد من الصواريخ. مرحلي لأن «حماس» قد تظن أنها كسبت معركة إنما الحرب الأساسية يُفترض أن تكون من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطين وهذا بات الآن في مهب الريح.
«حماس» تدرك جيداً أن المطلوب منها أن تصبح عنوان التطرف والإرهاب كي يبرر اليمين الإسرائيلي خطته البديلة عن حل الدولتين وهي الحل الديموغرافي الذي يتطلب الإبعاد القسري للفلسطينيين من داخل إسرائيل كي تصبح إسرائيل الدولة اليهودية المنظفة من الفلسطينيين.
في مؤتمره الصحافي يوم الجمعة الماضي، قال بنيامين نتانياهو صراحة انه يستبعد كلياً وقطعاً إعطاء الفلسطينيين السيادة التي يتطلبها حل الدولتين. صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» عرضت تفاصيل ما قاله نتانياهو بالعبرية. كشفت كيف أن نتانياهو تظاهر لتسعة شهور أنه ينخرط في المفاوضات التي رعاها جون كيري فيما كان في باطنه يخطط لإحباط حل الدولتين ويتبنى عملياً المشروع الاستيطاني. قال: «أعتقد أن الشعب الإسرائيلي يفهم الآن ما أقوله دائماً» وهو أنه ليس ممكناً أن ينشأ وضع تحت أية اتفاقية، يسمح بالتخلي عن السيطرة الأمنية على الأراضي غرب نهر الأردن.
فماذا أمام وضوح رفض إسرائيل قيام دولة فلسطين التي يمليها حل الدولتين؟ وهل هناك من يجرؤ على الاعتراف بزوال حل الدولتين، دولياً وإقليمياً وعربياً وفلسطينياً؟ باختصار، لا أحد يجرؤ. الكل يختبئ وراء إصبعه ويتظاهر أن هناك بريق أمل ضئيلاً.
التحدي الأول هو للفلسطينيين أنفسهم. أمامهم خيار العملية السياسية حتى وإن كانوا على اقتناع بأن عملية السلام ليست سوى مخدر موقت وإن ما آلت إليه الأمور هو مجرد «عملية» بلا جدوى وبلا أفق. الذين يتمسكون بالحل السياسي يشيرون إلى أنه ليس هناك حل عسكري لمصلحة الفلسطينيين بل أي حل عسكري سيأتي على حسابهم. بالتالي، إن «العملية» هي صمام أمان يمنع سحق الفلسطينيين عسكرياً ويحرم الإسرائيليين من تنفيذ الحل الديموغرافي، أقله حتى إشعار آخر.
الخيار الآخر هو الحل العسكري والذي يعتبره الكثير من الفلسطينيين حلاً انتحارياً علماً أن الحرب ستكون فلسطينية حصراً ولن تشارك فيها الدول العربية ولا إيران ولا من يتظاهر أنه يتبنى القضية الفلسطينية.
الخيار الثالث هو حرب الاستنزاف والتي يبدو أن «حماس» تعتزم القيام بها في معارك متفرقة تتخللها مفاوضات وصفقات موقتة لمنع تفشي الإرهاب «الداعشي» في غزة لينطلق إلى داخل إسرائيل.
إسرائيل لا تأبه بردود الفعل الدولية إذا قررت تنفيذ الحل الديموغرافي الذي يؤمّن لها دولة يهودية نقيّة من الفلسطينيين ويفرض الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين. ما قالته إسرائيل دائماً حول الأردن الوطن البديل كحل جذري سقط في دوامة النكران عند الآخرين. اليوم، ومن غزة، يتم إحياء عناصر الخطة الإسرائيلية الأصلية.
أضعف الإيمان أن يكف الجميع عن التظاهر ودفن الرؤوس في الرمال. فإسرائيل تجهر بما في ذهنها وتكشف عن حقيقة أهدافها. حان وقت الإقرار بالواقع وحان للأطراف العربية والدولية البدء بوضع الخطط الطارئة والبعيدة المدى لما بعد الصلاة على روح حل الدولتين.
الحياة

 
عن إسرائيل أم “الداعشيات:/ وليد شقير
يفترض المرء أن هذا القرار الأوروبي – الأميركي – الآسيوي بوقف رحلات الطيران الدولي إلى مطار بن غوريون في تل أبيب هو تعبير عن ضيق الدول الغربية الكبرى (التي تبعتها دول آسيوية) بسياسة إسرائيل وجموح قادتها الحاليين، بعدما انكشفت للعالم المجازر التي يرتكبونها ضد المدنيين والأطفال والنساء في غزة، انتقاماً لعجزهم عن تحقيق أهدافهم العسكرية والسياسية من وراء الحملة العسكرية الأخيرة على القطاع.
ومن دون التوهم أن هناك تغييراً غربياً جوهرياً في دعم إسرائيل وقيادتها، فإن هذا القرار يشكل إشارة دولية إلى تبرّم دولي من الجموح الإسرائيلي الذي يدّعي القدرة على حسم المغامرات العسكرية التي سرعان ما تنقلب إلى ما سمّته نافي بيلاي المفوضة العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة «جرائم حرب محتملة»، يتوجب التحقيق في ارتكابها من قبل إسرائيل. تكرر الأمر منذ انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000، ثم من غزة عام 2005 في 4 حروب خاضتها.
ومثلما بدأت الحرب الأخيرة على غزة، كانت هي التي بدأتها عام 2006 ضد لبنان و «حزب الله»، ثم في حربيها في 2008– 2009 و2012 ضد «حماس» وغزة، تغيّرت أهدافها وارتبكت في إعلانها وغيّرت أولوياتها، لأنها في هذه الحروب كانت تعجز عن تحقيق الأهداف المعلنة، بدءاً من «تدمير قدرات» الخصم، وصولاً إلى طرح نزع سلاحه، انتهاء بالاكتفاء بضمانات بعدم إطلاق الصواريخ، لكن من فريق ثالث. في حال لبنان كانت الضمانة من واشنطن والمجتمع الدولي عبر القرار 1701. وفي حال غزة أعطى اتفاق عام 2012 موقع الضمانة لمصر، مقابل خطوات تقود إلى فك الحصار المضروب على القطاع منذ 2005. وفي ذلك الاتفاق قدمت «حماس» تنازلات للقاهرة، لم يقابلها الإسرائيليون بحد أدنى من التدابير تسمح لمليون و800 ألف فلسطيني في مساحة 360 كيلومتراً مربعاً، بأن يعيشوا وفق أبسط مقومات الحياة الإنسانية، إن عبر تمرير البضائع من المعابر الحدودية أو عبر البحر، حتى أنها منعت هؤلاء من التنقيب عن الغاز الذي يختزنه الشاطئ الغزاوي للإفادة من ثروة تقع في نطاق السيادة الفلسطينية، لعل استخراجه يعين القطاع على النهوض الاقتصادي. حتى أن أصواتاً إسرائيلية اعتبرت أنه لو سمح حكام إسرائيل لغزة بأن تتنفس اقتصاديا لما كانت «حماس» تسلّحت بمزيد من الصواريخ والأنفاق كوسيلة لفرض فك الحصار ولمنع خنق القطاع.
في الحرب الدائرة تدعي إسرائيل وجود عشرات الأنفاق كهدف معلن لحملتها، وأنها دمّرت 9 منها فقط، بعد أن قُتل عشرات من جنودها في محاولة تحقيق هذا الهدف، منذ أسبوعين. وهي أخذت تشبه بعض الأنظمة العربية في تأخير إعلانها عن جنودها القتلى ومحاولة إخفاء خسائرها، التي باتت «حماس» تسبقها في إعلانها، ثم يتبين أنها صحيحة.
ومن دون أوهام حول حقيقة ميزان القوى بين الدولة العبرية وتنظيمات المقاومة الفلسطينية، وقبلها اللبنانية عام 2006، فإن الحروب الأربع التي تشنها أثبتت أنه لم تعد لإسرائيل القدرة على أن تفلت العنان لآلتها العسكرية من دون أن تتكبد خسائر موجعة بالأرواح والاقتصاد، لا سيما حين يكون ما ترمي إليه أبعد مما هو معلن عسكرياً. فالهدف الفعلي الذي يقف وراء حملتها الأخيرة هو تدمير المصالحة الفلسطينية، ولجم اندفاعة السلطة للحصول على كامل مترتبات عضويتها في الأمم المتحدة، لا سيما حقها في مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية على جرائمها كدولة احتلال. وهي سعت للإفادة القصوى من الانشغال العربي والدولي بالحروب الأهلية المتوالدة، من سورية إلى العراق واليمن، وبالانهماك العربي بسعي إيران إلى تحصين مواقعها الإقليمية، وباستيلاد بعض الأنظمة للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة لإقناع دول الغرب بأن ما يجري فيها هو حرب على الإرهاب وليس ثورات على الاستبداد.
مثلَ هذه الأنظمة، سعت إسرائيل إلى استبدال نسفها المفاوضات مع السلطة الفلسطينية في نيسان (ابريل) الماضي بمزيد من الاستيطان، بالحرب على المصالحة بين الأخيرة و «حماس»، مستغلة صعود «داعش» في سورية والعراق، الذي يعطي الغرب الأولوية لمواجهتها، وبذريعة أنها تتقاطع مع تلك الأولوية بادعاء محاربة الإرهاب في غزة. إنها حرب فاشلة مرة أخرى. وإذا كان من فائدة للمقارنة، فهل بعد حرب الاقتلاع التي تنفذها «داعش» في حق مسيحيي الموصل والإخضاع لمسلميها (كذلك في سورية)، سيطول اكتشاف الدول الداعمة لإسرائيل أن ما تمارسه هو حرب إبادة للفلسطينيين بعد شيطنة سعيهم للتحرر من استبداد قادتها؟ فإسرائيل هي أمّ «الداعشيات» في المنطقة على مر العقود بالعقل العنصري الذي يقودها.
الحياة

 

 
“حماس” لم تركع/ رندة حيدر
مع بدء الأسبوع الثالث للعدوان الإسرائيلي على غزة، لم تركع “حماس” على رغم أطنان القذائف التي انهمرت عليها، والشعب فيها لم ينكسر على رغم الثمن البشري الباهظ الذي دفعه الأبرياء حتى الآن. والأهم من ذلك ان إسرائيل وجيشها الذي يعتبر الأقوى في الشرق الأوسط هما الآن أمام ورطة حقيقية، فإما أن يوسعا العملية البرية المحدودة مما يعني الدخول في عملية معقدة ومحفوفة بالمخاطر ستؤدي في النهاية الى اعادة احتلال غزة، وإما أن يسعيا الى وقف النار والقتال من دون تحقيق نصر حاسم، مما يعني التعادل بين إسرائيل و”حماس”، الأمر الذي سيثير غضب الجهمور الإسرائيلي الذي لن يقبل هذه المرة بأنصاف الحلول ويريد انتصاراً حاسماً.
تشير أيام القتال السابقة الى صعوبة تحقيق إسرائيل نصراً عسكرياً حاسماً على “حماس” من خلال عملية برية محدودة وقصيرة الأمد كتلك التي تقوم بها حالياً. واستناداً الى أكثر من مسؤول عسكري، يتطلب تدمير الأنفاق وحده عملاً عسكرياً لا يقل عن أسابيع. أما اذا توسّع الهدف نحو القضاء على الترسانة الصاروخية لـ”حماس” و”الجهاد الإسلامي”، فإن هذا سيتطلب وفقاً لخبراء عسكريين نصف سنة الى سنة كاملة. في هذه الأثناء سيكون على الجيش الإسرائيلي أن يتحمّل الثمن الباهظ لعمليات التوغّل في المناطق الكثيفة سكانياً، حيث سيكون هدفاً للعبوات الناسفة ونيران القناصة والعمليات الانتحارية.
في جردة حسابات الربح والخسارة للأسبوعين الأولين للمعارك، يعترف الإسرائيليون بعدد من الأمور الأساسية، أولها: المفاجأة الاستراتيجية المتمثلة في الأنفاق الهجومية التي بنتها “حماس” طوال الأعوام الاخيرة، والأداء الاحترافي لقيادة الجناح العسكري لـ”حماس” برئاسة محمد ضيف، والتنسيق العملاني بين القصف الصاروخي وعمليات التسلل النوعية التي قامت بها الوحدات الخاصة، والصلابة التي أظهرها مقاتلو الحركة في المواجهات التي دارت مباشرة مع الجنود الإسرائيليين لدى تقدّمهم في المناطق المأهولة.
لقد أثبتت “حماس” و”الجهاد الإسلامي” حتى الآن قدرتهما على الصمود والمواجهة. وكلما ارتفع الثمن الذي يدفعه الغزاويون من حياتهم وأرزاقهم، ازدادوا اقتناعا بأنهم يخوضون معركة حياة أو موت لا مجال فيها للتراجع إلا بعد تحقيق هدفهم الأساسي وهو رفع الحصار عن غزة، وأي شيء أقل من هذا هو بمثابة هزيمة لهم.
من جهة أخرى، ترفض إسرائيل تقديم أي تنازلات قبل القضاء على الأنفاق وتدفيع “حماس” ثمناً باهظاً عسكرياً. وهي لا تستبعد إذا واصلت “حماس” رفضها للمبادرة المصرية اللجوء الى أساليب أخرى أشد عنفاً مثل إعادة احتلال القطاع من جديد.
النهار

 
هل يستعيد السنّة «قضيّة فلسطين»؟/ حازم صاغية
مع قيام الثورة الإيرانيّة، قبل ثلاث سنوات على الضربة القاتلة التي وُجّهت إلى المقاومة الفلسسطينيّة، وبعد تسع سنوات على رحيل جمال عبد الناصر مهزوماً، بدا كأنّ الشيعيّة السياسيّة شرعت تستولي على القضيّة الفلسطينيّة التي عاشت طويلاً بوصفها القضيّة السنّيّة الأولى.
لم تكن تسمية الأمور على هذا النحو تسميةً مقبولة في ظلّ الإيديولوجيّات الوطنيّة والقوميّة واليساريّة، أي الحداثيّة على أنواعها. لكنّ الواقع كان يشي بهذه الحقيقة على مستويات عدّة. فمقاومة «حزب الله» الشيعيّة صفّت المقاومات اللبنانيّة التي ترعرعت في كنف منظّمة التحرير الفلسطينيّة، فيما كانت سوريّة، مباشرةً في طرابلس ومداورةً عبر حركة «أمل» في المخيّمات، تستكمل الإجهاز على المقاومة الفلسطينيّة. وإذ استطاعت دمشق، الموصوف نظامها بالفئويّة العلويّة، أن تقود الخطّ الممانع، لا سيّما وهي الحاضرة والمتمكّنة في «الساحة اللبنانيّة»، ذهبت طهران خطوة أبعد. فهي، بعد إنشائها «حزب الله»، وعلى إيقاع «يوم القدس»، وضجيج «يا قدس عائدون»، وجدت في الحرب التي شنّها عليها صدّام حسين فرصتها لانتزاع القرار «القوميّ» من بغداد ذات السطوة السنّيّة آنذاك، واستطراداً من القاهرة التي كانت كامب ديفيد قد نفتها إلى خارج تلك «القوميّة» وقرارها.
الآن ثمّة عناصر تتغيّر. ولئن كان من الصعب الجزم بوجهتها النهائيّة، فليس من الصعب الجزم بحدوثها. فحركة «حماس» السنّيّة والإخوانيّة، القريبة من تركيّا وقطر، لا من إيران وسوريّة هذه المرّة، تعيد القضيّة الفلسطينيّة إلى دائرة الضوء عبر غزّة وحربها. أمّا النظام السوريّ فمشغول بهمّه، وهو أصلاً لم يخض معارك القضيّة الفلسطينيّة إلاّ مداورةً وعبر وسطاء. وبدوره فـ»حزب الله» مستغرق في حروب النظام المذكور، ماضٍ، منذ توقيع القرار الدوليّ 1701، في عزوفه عن مقاومةٍ يُفترض أنّها علّة وجوده. وثمّة تقديرات، قد تصحّ وقد لا تصحّ، بأنّ إيران ما بعد تسوية الملف النوويّ، في حال تسويته، ستعزل نفسها عن الموضوع الإسرائيليّ، وقد تعيد تدوير دورها فيه على نحو قليل التذكير بدعم المقاومة. وفي هذا المعنى، ستغدو دعوات كدعوة خامنئي الأخيرة إلى «نهاية الدولة الصهيونيّة» أشبه بتكبير الحجر لعدم استخدامه في الضرب.

وإذا صحّ أنّ «داعش»، النجم السنّيّ الصاعد، يمرحل ويؤخّر «قتال اليهود»، فإنّ خصمه نوري المالكي أبعد عن الموضوع الفلسطينيّ من حكّام باكستان وبنغلادش.
والأمر الآخر أنّ المصائر البائسة التي دُفعت إليها ثورات «الربيع العربيّ»، لا سيّما، في ما يعنينا هنا، الثورة السوريّة، قد تعزّز الوجهة هذه. فبعد الصواريخ التي انطلقت أخيراً من لبنان، قد يتراءى لفلسطينيّين كثيرين كانوا من مؤيّدي الثورة السوريّة أنّ طاقتهم يمكن أن تصبّ في المكان «الأصليّ»، وأنّ العائد قد يكون أكبر ممّا في مخيّم اليرموك.
والحال أنّ هذا الاسترداد السنّيّ للقضيّة الفلسطينيّة سيكون، في حال حصوله واكتماله، أوضح الأدلّة على الإحباط بالثورات العربيّة، وأقصر الطرق إلى العودة مجدّداً من حيث بدأنا ذات مرّة. لكنّ النكوص إلى ذاك الزمن سينطوي، في ظلّ «داعش»، على أكلاف أكبر كثيراً من أكلاف «الحركات الجماهيريّة» وعهدها. فإذا ما توسّع ضمّ العراق وسورية، ليشمل قضيّة فلسطين ويحضنها، فهذا إنّما يفضي إلى اعتصار الأردن ولبنان ودفع المشرق كلّه لأن يغدو هباء منثوراً.
بطبيعة الحال يمكن دائماً التسلّل إلى نواقص وغوامض هذا التقدير الاحتماليّ بهدف دحضه، خصوصاً أنّ مصر لا تزال في وارد آخر. لكنْ من الذي يضمن ألاّ تتراكم في وجه السيسي إخفاقات تجعله، على جاري العادة، مقاوماً لإسرائيل، خصوصاً أنّ المراكز السنّيّة اليوم مستعدّة لإزعاج أميركا المتّهمة بالتودّد لإيران؟
أمّا إدخال «حماس» حلبة السياسة، بعد حرب غزّة، فقد يتكفّل فرملة هذه الوجهة وربّما طيّ هذا الملفّ. لكنّ المؤكّد أنّ إسرائيل التي تفعل في غزّة ما تفعله لا تتمنّى لنا كلّ هذا الخير!
الحياة

 
حكمة اليوم العربيّ: لكلّ همّه/ حازم صاغية
لم يُظهر العالمان العربيّ والإسلاميّ التضامن الذي كان يرجوه البعض مع قطاع غزّة. والحال أنّ تظاهرات العواصم الغربيّة تنديداً بالعدوان الإسرائيليّ كانت أكبر وأكثر كثيراً ممّا شهدته المدن العربيّة والإسلاميّة.
مع هذا، وبعيداً عن لغتي التشهير بالآخر ولعن الذات، يجدر التوقّف عند دلالات هذه الحقيقة التي شهدناها على نحو ساطع.
لكنْ قبل ذلك، لا بأس باستدراك مفيد وهو أنّ ضآلة التضامن الحاليّة إنّما جاءت تتويجاً لسياق مديد نسبيّاً: ففي 1982 مثلاً، حينما غزت إسرائيل لبنان، لم تقم تظاهرة واحدة جدّيّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ. ذاك أنّ الاجتياح الإسرائيليّ يومها جاء على أثر حرب أهليّة سبقتها بسبع سنوات ودشّنت دخول منطقتنا عصر الحروب الأهليّة التي نعاين اليوم لحظة تتويجها المأساويّ.
بلغة أخرى، يعيش العرب والمسلمون راهناً درجة من التفتّت تُعدم كلّ ما هو مشترك فعلاً أو توهّماً. وفي مناخ كهذا، يغدو لكلّ بلد، بل لكلّ جماعة في بلد، همٌّ لا يتّصل بالهمّ الذي تعيشه جماعة أخرى ولو في البلد نفسه.
فالأقانيم الثلاثة التي سادت الوعي السياسيّ العربيّ لثلاثة أرباع القرن، وكانت مصدر استلهام التضامن ومصدر الطلب عليه، أي الإسلام والعروبة وفلسطين، تعاني كلّها انشقاقات عميقة في داخلها وفي الأوساط التي تعتنقها أو تقول بها.
فالإسلام اليوم سنّيّ وشيعيّ، لكنّه أيضاً إسلام إخوانيّ وإسلام مناهض للإخوان، وإسلام مؤيّد للحركات التكفيريّة المتطرّفة مقابل إسلام مناهض لها.
أمّا العروبة فباتت أضعف هذه الأقانيم الثلاثة، فلم يعد هناك ما يذكّر بها، في صياغة رسميّة وحكوميّة، إلاّ جامعة الدول العربيّة. حتّى نظام كالنظام السوريّ يزعم أنّ الوحدة العربيّة علّة وجوده، بات أشدّ اعتماداً على مزاعم “مكافحة الإرهاب” أو “الدفاع عن الأقلّيّات” ممّا على زعمه العروبيّ.
وفلسطين ليست أفضل حالاً. فهي أيضاً مشطورة بين سلطة رام الله وسلطة قطاع غزّة، وبين الفصائل على اختلاف طروحاتها وتباين تحالفاتها الإقليميّة. ويمتدّ هذا الانقسام إلى فلسطينيّي الشتات المنقسمين حول مسائل البلدان التي يعيشون فيها، على ما يدلّ اختلافهم حول الثورة والنظام السوريين.
ولا نضيف جديداً حين نقول إنّ مناطق العالم العربيّ (دع عنك العالم الإسلاميّ الأوسع) تعيش من الهواجس ما يصعب ربط واحده بالآخر. فأهل الخليج يواجهون، قبل كلّ شيء آخر، تحدّي النفوذ الإيرانيّ واحتمالاته التوسّعيّة، خصوصاً إذا ما استُنبتت لهذا النفوذ أنياب نوويّة. أمّا المشرقيّون الذين يعيشون تفتّت العراق وسوريّا، فمعنيّون، أوّلاً، بمصير هذين البلدين وما يترتّب على مأساتهما من تحوّلات سكّانيّة وديموغرافيّة هائلة الضخامة، فضلاً عن الأسئلة المحيطة بمستقبل الأردن ولبنان.
وإذ تنشغل مصر بعهدها الجديد وفرصه أو انسداداته، يتواصل الحريق الليبيّ الذي يهدّد بأن يبتلع كلّ شيء في طريقه. وأمّا منطقة المغرب، حيث لم يُحلّ النزاع الجزائريّ – المغربيّ حتّى اليوم، فتطرح عليها المستجدّات التونسيّة والليبيّة أسئلة أمنيّة وأخرى قابلة للتحوير الأمنيّ الذي تسكنه أهداف سلطويّة بحتة. وفي ما “بين المحيط والخليج”، يعيش اليمن هاجس الحوثيّين المحيطين بصنعاء، واحتمال الانشطار إلى شمال وجنوب، بينما يحاول السودان، بطرق مختلفة، التكيّف مع الأوضاع الجديدة الناشئة عن انفصال الجنوب.
وهذا حتّى لا نضيف حالات متفرّقة، كانشغال الأكراد بهمّهم الطاغي في العراق وسوريّا، وبطريقة تدبّر أمورهم في ظلّ انهيار هذين البلدين، أو انشغال المسيحيّين بما تبقّى من وجود لهم في هذه المنطقة التي تُجليهم عنها.
ووسط وضع كهذا، يبدو الذهاب بعيداً في التضامن مع غزّة، أي التضامن الذي يتجاوز الأخلاقيّ والإنسانيّ، ترفاً لا يملكه أحد. فحتّى حزب الله اللبنانيّ، الذي يزعم أنّ مقاتلة إسرائيل علّة وجوده، لم يشارك في الحرب الدائرة في القطاع الفلسطينيّ.
وما يفوق هذا أنّ الضفّة الغربيّة نفسها لم تبادر إلى إعلان حدادها وإضرابها التجاريّ إلاّ بعد دعوة الرئيس محمود عبّاس لذلك إثر مقتلة الشجاعيّة. ذاك أنّ لكلّ همّه اليوم، وعن تركيبة بالغة التفتّت كهذه، يصعب التعويل على مواقف موحّدة ومتماسكة ولو ذهبت الأقوال والخطب في اتّجاه آخر.
موقع 24

 
تركيا وقطر وغزة المدمّرة!/ راجح الخوري
بعد المحادثات بين محمود عباس وخالد مشعل التي جرت في الدوحة، قالت مصادر “حماس” انها أبدت مرونة حيال المبادرة المصرية، التي كانت قد رفضتها، لهذا أوفد عباس مدير مخابراته ماجد فرج وعضو اللجنة المركزية لحركة “فتح” عزّام الاحمد الى القاهرة في محاولة لوضع مسودة جديدة او صيغة معدّلة للمبادرة المصرية.
امس أعلن الأحمد ان هناك قوى اقليمية وعربية تضغط على “حماس” لمنعها من قبول صيغة تفضي الى وقف النار وتنهي فصول المجزرة الاسرائيلية المتوحشة، التي قتلت مئات الفلسطينيين وجرحت الآلاف ودمرت غزة.
لا يحتاج المرء الى العناء ليعرف ان القوى الاقليمية التي يشير اليها عزّام هي تركيا وقطر، والدليل ان “ابو مازن” ذهب الى الدوحة للقاء مشعل، مباشرة بعد زيارته الى انقرة، بعدما كان قد أجرى محادثات مع عبد الفتاح السيسي، والدليل ايضاً ان بان كي – مون وجون كيري اللذين يسعيان الى وقف النار، طلبا صراحة من تركيا وقطر إقناع “حماس” بهذا الأمر، لكنها رفضت واضعة لائحة من الشروط المعقدة.
ولا يحتاج المراقب الى العناء ليدرك ان الاتهامات التي سيقت بداية ضد عباس والسيسي وقالت انهما يتآمران على “حماس”، انما جاءت من مصادر إعلامية مقربة من الدوحة وأنقرة الغاضبتين من سقوط الاسلام السياسي في مصر، وتعتبران ان “حماس” المتحالفة مع “الاخوان المسلمين” هي خنجر جيد في خاصرة السيسي الذي وضع محمد مرسي في السجن، ولهذا ليس مقبولاً عندهما ان تستعيد مصر عبر السيسي دورها الاقليمي المحوري ولا من المقبول ان تقدّم مبادرة لمصلحة غزة!
وهكذا تدخل المجزرة الاسرائيلية يومها السابع عشر وتفشل المساعي المبذولة لوقف النار، وهو ما يجعل الوضع في حدود محرقة يقيمها نازيو العصر في حقبة من غياب الوعي العربي المستقطع والصمت الدولي المستفظع.
لكن وحشية العدوان ترسم الآن معادلة اللاعودة، بمعنى ان “حماس” التي لا تملك شيئاً لتخسره بعد كل هذه الخسائر، لن تقبل بوقف للنار يعيدها الى شرنقة الحصار الخانق، وبمعنى ان اسرائيل التي تكبدت خسائر غير متوقعة وبعد تعرّضها للقصف الصاروخي الغزير الذي لم تتمكن من وقفه وجعلها تبدو غير آمنة بعدما أوقفت ٦٠ شركة طيران دولية رحلاتها اليها، لن تقبل بشروط “حماس” لوقف النار.
أمام هذا يبحث كل طرف عن انتصارات ولو شكلية ليخرج في مظهر المنتصر. “حماس” التي صمدت وأربكت الفضاء الاسرائيلي تريد ثمناً سياسياً يساعدها في القول ان خسائرها فادحة لكن الانتصار محقق، اما اسرائيل التي قبلت بوقف النار وهي تواصل إحراق غزة فتريد ان تترك دماراً زلزالياً في جسد غزة يساعدها على القول إنها لقنت “حماس” درساً مختلفاً هذه المرة!
النهار

 
نصرالله لغزة: عذراً لانشغالنا في سوريا/ احمد عياش
إنها مناسبة “يوم القدس” التي تعوّل عليها ايران سنويا لتبرير مشروعيتها في التوغل في العالم العربي حتى شواطئ المتوسط في جنوب لبنان وفي غزة. ولا جدال في ان الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله هو الوجه الابرز للتعبير عن هذا اليوم بلسان عربي ومضمون فارسي. فماذا قال يوم امس في كلمته بالمناسبة؟ لا شيء. فالكلمة التي كانت منتظرة من نصرالله، اذا كانت القدس تعني ايران قولا وفعلا، هي ان سيوف الحزب الى جانب مقاومي غزة وليس قلبه. كل التعابير العامة التي استخدمها في كلمته كانت تنتهي بالتأكيد ان غزة ستنتصر وان اسرائيل في مأزق وعليه ليست هناك من حاجة الى سلاح “حزب الله” الموجود في سوريا حيث يقاتل، كما لمح نصرالله، دفاعا عن نظام بشار الاسد “الممانع”. أما بالنسبة الى فلسطين فـ”نحن في حزب الله لن نبخل بأي شكل من اشكال الدعم والمؤازرة والمساندة التي نستطيعها ونقدر عليها”، والكلام لنصرالله. ربما هناك من يعتقد ان كلمة ايرانية ما وصلت مع مساعد وزير الخارجية الايراني للشؤون العربية حسين أمير عبد اللهيان او سبقت وصوله الى بيروت ليقول نصرالله ما قاله.
باختصار لم يقرأ نصرالله في كلمة القدس غير النص الفارسي. وكأنه لم يقرأ ما كتبه قبل أيام وبصورة لافتة السيد هاني فحص في الزميلة “المستقبل” عندما خاطب “حزب الله” بالتعبير الديني فطالبه بـ”العودة من سوريا من أبواب عديدة وجديدة على ما جرى لإخوة يوسف…”. كما لم يسمع دعوة الرئيس سعد الحريري للحزب الى الانضواء في مشروع مكافحة الارهاب من بوابة الدولة. كذلك لم يقرأ خطاب رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي بيّن أمس معادلة جديدة للصواريخ المسموحة في سوريا والممنوعة في الجنوب.
ربما لم ينتبه كثيرون ان “يوم القدس” أمس جاء غداة يوم “اليونيفيل” في جنوب لبنان. فبدلا من السفير السوري علي عبدالكريم علي الذي تصدّر صفوف مهرجان نصرالله كان معظم العالم متصدراً احتفال قوات الطوارئ الدولية لمناسبة تسلّم القائد السادس عشر لـ”اليونيفيل” الجنرال الايطالي لوتشيانو بورتولانو مهماته من سلفه سيرّا. إنها المقارنة التي تحاشاها نصرالله أمس عندما تجاهل الحقيقة الكبرى التي تمثلت بالقرار الرقم 1701 الذي جاء بجيوش العالم الى الجنوب كي تحميه من “نصر إلهي” جديد كلف لبنان خسائر هائلة لم يزلها “المال النظيف” الإيراني وحده كما يتذكر من عاش يوميات تلك الحرب فلم يعد نصرالله يذكر أمر هذا المال إطلاقاً بعدما صارت اللافتات التي غمرت الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت تحمل عبارة “شكراً قطر”.
لا اجد في لبنان اطلاقا يتمنى ان تتكرر مآثر “حزب الله” في الجنوب. وكل من ذاق ويلات عام 2006 يتمنى لأهل غزة مخرجا مماثلا للقرار 1701. لكن الفيلم اللبناني ينتظر خاتمة جنوبية لتورط “حزب الله” في سوريا.
النهار

 

خطاب نصر الله… واجب احترام الذاكرة والعقل/ ثائر غندور
امتلأ خطاب الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، لمناسبة “يوم القدس”، بالكثير من المغالطات التاريخية وتحوير الحقائق. أطلّ في خطاب أراده داعماً للمقاومة الفلسطينيّة، أمس الجمعة، وقد جاء مكمّلاً لسلسلة من الخطابات التي يُلقيها منذ انطلاقة الثورة السورية. خطابات تميّزت بتعارض نصر الله مع كلام سابق أطلقه، أو معاكس لممارسات حزب الله منذ تأسيسه.
في الشكل، خطب الأمين العام لحزب الله من خلف المنبر، لا من خلف شاشةٍ، كما اعتاد منذ حرب تموز 2006. هذه ليست المرة الأولى التي يطلّ فيها نصر الله شخصياً في العلن، لكن هذه الإطلالة هي الأطول. فسابقاً، قيل إن إطلالاته لا تطول أكثر من 17 دقيقة، وهي المدة التي يحتاجها الطيران الإسرائيلي للانطلاق واستهداف نصر الله في الضاحية الجنوبية لبيروت. لكن في الواقع، فإن إطلالات نصر الله، ارتفعت وتيرتها منذ نقل المبعوث الخاص للرئيس الروسي الى الشرق الأوسط، نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، رسالة من نصر الله تفيد بأن أولوية الحزب هي سورية وليس الجبهة الجنوبية.
بجميع الأحوال، الأكيد أن نصر الله يشعر براحة أمنية أكبر من ذي قبل، كما أنه أراد من إطلالته أن ينفي كل الشائعات عن تعرضه لوعكة صحيّة. لكن الأكيد أيضاً أن خطاب نصر الله جاء بعد 19 يوماً من انطلاق الحرب على غزة، ظل خلالها وحزبه صامتين عن إنجازات المقاومة هناك.
أمّا في مضمون الخطاب، فإن نصر الله تحدث وكأنه مراقب، وخصوصاً عندما تحدث عمّن حوّل الثورات العربية إلى صراعات دموية، أو في قراءته للواقع العراقي.
يقول نصر الله إن المشروع الإسرائيلي عمل على “اختراع قضايا مركزية لكل بلد ولكل شعب ولكل قُطر ولكل دولة في عالمنا العربي والإسلامي، لتغيب مركزية فلسطين والقدس ولفرض اهتمامات وأولويات”. ويضيف: “مثلاً، اختراع أعداء على طول الخط، تارة يكون العدو هو الاتحاد السوفييتي، ثم الشيوعية العالمية، ثم الأولوية للقتال في أفغانستان”.
حسناً، ألم يذهب الأمين العام السابق لحزب الله، عباس الموسوي، شخصياً، إلى أفغانستان لدعم “المجاهدين”؟ بلى ذهب. هذا ما تؤكّده الصور التي نشرها منتدى “قاوم”، إلى جانب السيرة الذاتية التي يعرضها موقع “جمعية مؤسسة الشهيد”، وهي مؤسسة رسمية لحزب الله، إذ يأتي في سيرة الموسوي: “يعمل على استنهاض كل قوى الفعل في هذه الأمة، فكانت عينه على الجزائر وأخرى على أفغانستان وكشمير، وقلبه على شعوب العالم الإسلامي وبلدان المسلمين”.
أمّا في ما يخص “الخطر السوفييتي”، فإن الموسوي يقول في كلمة له بتاريخ 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، مذكّراً بإنجازين للإمام الخميني: “إنجاز بمواجهة أميركا، وانجاز بمواجهة الاتحاد السوفييتي”، ويُضيف: “أما على مستوى الاتحاد السوفييتي، فهذه مسألة قلما يدركها الناس. إذ رأوا ما فعله الشهداء بأميركا، ولكنهم لم يلمسوا تأثير هؤلاء الشهداء في إسقاط الاتحاد السوفييتي، ومعه هيبة روسيا بالكامل، أين هي روسيا اليوم؟ الاتحاد السوفييتي الآن سقط بالكامل”.
ألم يكن بالأحرى أن يقول نصر الله إن قراءة حزب الله كانت خاطئة سابقاً وقد تراجع عنها؟ أما أن يلوم مَن واجه “السوفييت” ويصنع منهم قضية، فإنه يُدين بذلك حزبه وقياداته وإيران. هذا من دون ذكر الحرب التي خاضها حزب الله ضد الشيوعيين اللبنانيين والتي تُوِّجَت باغتيال عدد من قياداتهم.
ثم يقول نصر الله في مثال آخر، في خطابه نفسه، أمس الجمعة، إن بعض الدول العربية فرضت “وقائع سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وحروب وحصارات ومجازر على الفلسطينيين، متنقلة داخل فلسطين وخارج فلسطين، لإيصال الشعب الفلسطيني إلى اليأس وانعدام الخيارات وبالتالي الاستسلام للأمر الواقع والقبول بالفتات في نهاية المطاف”. لا بد من التذكير هنا بأن نواب حزب الله في البرلمان اللبناني صوّتوا لصالح قرار منع الفلسطينيين من التملُّك، وهو قرار يُمعن بعزل وظلم هؤلاء. كما يجب ذكر دور حزب الله في محاصرة مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق، والذي قتل فيه أكثر من ألفين من سكانه، بعضهم جوعاً.
يتحدث نصر الله أيضاً عن خطط طويلة الأمد لضرب المقاومة الفلسطينية منذ العام 1967، وفي مكان آخر عن “دور سورية في دعم هذه المقاومة”. هل نسي نصر الله الدور السوري في محاصرة المخيمات الفلسطينية في لبنان وتجويعها، وضرب منظمة التحرير عسكرياً؟
ويُضيف نصر الله أنه يتخوّف من تدمير تنظيم “داعش” للمساجد والمقامات: “أنا أخشى أن يُحضّر الجو النفسي في العالم العربي والإسلامي لما هو أخطر، لتهديم المسجد الأقصى. إذا كان يحق للخلافة الإسلامية المُدّعاة أن تُدمر المساجد والكنائس ومراقد الأنبياء، فلماذا لا يحق لليهود أن يدمروا المسجد الأقصى؟”. بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فإن أكثر من 1450 مسجداً تعرضوا لتدمير كلي أو جزئي في مختلف أنحاء سورية بسبب القصف والاشتباكات، وقد طال التدمير عدداً من أهم معالم التراث الإسلامي في سورية، وأبرزها مسجد خالد بن الوليد في حمص والمسجد الأموي في حلب.
وحول العراق، يحمّل نصر الله “داعش” مسؤوليّة إدخال هذا البلد “في نفق مظلم”. لكن ما هي مسؤوليّة رئيس الحكومة المنتهية ولايته، نوري المالكي، في ذلك؟ لا يتناول الأمين العام لحزب الله هذا الأمر، رغم أن قناة “المنار” التابعة له، خاضت معركة المالكي الإعلامية، كما امتلأت شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت، وطريق المطار، والجنوب اللبناني، بصور المالكي عند فوز حزبه في انتخابات أبريل/ نيسان الماضي.
اللافت أيضاً في خطاب نصر الله، أنه لم يذكر مصر أو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مباشرة عند حديثه عن حصار غزة وضرورة كسره، رغم أن الدور المصري في عدوان غزة هو الأبشع منذ سنين طويلة. ولطالما توجّه نصر الله إلى القيادة المصرية والشعب والجيش المصريين بالمباشر، داعياً إياهم إلى التحرك لفك الحصار، مثلما قال في خطابه في ديسمبر/ كانون الأول 2008، عندما ناشد القيادة المصرية فتح معبر رفح.
قد تكون الدعوة التي وجهها نصر الله للجميع لتجاوز الخلافات والاتفاق على دعم المقاومة الفلسطينية، أكثر نقطة إيجابية في خطابه. وتقضي الأمانة بالإشارة إلى أن قيادة حزب الله عملت جاهدة في الأيام الماضية لإقناع جمهورها بـ”التضامن مع غزة وعدم الشماتة”، إذ امتلأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بمواقف من هذا النوع، وخصوصاً في الأسبوع الأول من العدوان.
يُحاول نصر الله في خطابه هذا، تحميل الإسلاميين المتشددين، من خارج صفوف حزبه، مسؤوليّة كلّ المصائب التي ابتُليَ بها العالم العربي، منذ عشرات السنوات. يرفع نصر الله أي مسؤولية عن نفسه أو عن حزبه أو فريقه السياسي الممتد من طهران إلى العراق فالنظام السوري. يتحدث نصر الله وكأنه الناطق الإعلامي باسم هذا المحور، أو المسؤول الإعلامي لدى “الخليفة” غير المعلن، قاسم سليماني.
العربي الجديد

 

 

لماذا يضحك الأسد؟/ محمد نمر
العدوان الاسرائيلي على غزة واعلان قيام “الدولة الاسلامية” وتصرفاتها المتطرفة على امتداد العراق، حدثان استطاعا أن يصرفا أنظار الرأي العالم الغربي والعربي عما يجري في سوريا بين المعارضة والنظام والحلفاء العسكريين. ورغم حال الفوضى التي تعم الأراضي السورية وانهيار أعمدة الدولة في الكثير من المناطق، إلا أن الارتياح حليف الرئيس السوري بشار الأسد هذه الأيام، فما السبب؟
لأن كا ما يجري حوله يساهم في دعم ادعاءاته بمكافحة الارهاب ومساندة القضية الفلسطينية، وبعيداً عما إذا كان للأسد اليد في صناعة “داعش” إلا أن الاخيرة استطاعت أن تجمع المجتمع الدولي والنظام السوري في خندق واحد لمواجهة الارهاب.
ربما يصفق النظام لاسرائيل لـقيامها بـ”الجرف الصامد”. أمرٌ أبعد أنظار وسائل الإعلام والرأي العام عن الأزمة السورية، فلا إنتخاب رئيس جديد للائتلاف السوري المعارض أحدث ضجة أو تغيير، ولا خطاب الأسد الأخير غير من المعادلات.
في رأي نائب رئيس مجلس النواب السابق ايلي الفرزلي إن “التصرف الدولي ازاء العدوان الاسرائيلي في غزة، أكان على مستوى المؤسسات الدولية أو الجامعة العربية أو الرأي العام العالمي، كان مردوده ايجابياً جداً لصالح الدولة السورية”.
دولياً، وبحسب فرزلي “ظهر تصرف الكيل بمكيالين، ورد الفعل على اطلاق نار عادي في سوريا كان يتجاوز سقف الاستنكار إلى التهديد والتسليح والتحريض، فيما في غزة حيث قتل الاطفال وتدمير الابنية على رؤوس قاطنيها نرى وجود تعتيم كامل”.
طرد سوريا
على مستوى الجامعة العربية، يلاحظ الفرزلي أن الأخيرة “اجتمعت فوراً لتطرد سوريا والغاء نَفَس العروبة من الجامعة، في الوقت الذي لا تزال هناك دول لها علاقة ديبلوماسية مع اسرائيل لم تأخذ الجامعة أي موقف في شأنها”.
ويعتبر أن “قضية غزة حرفت الانظار والتركيز عما يدور في سوريا من احداث باتجاه القضية المركزية في غزة، وهي القضية التي عمل الاعلام الغربي وبعض الاعلام الاقليمي على إعتبارها قضية هامشية وبحسب زعمهم، وحل مكانها الصراع العربي والفارسي”.
ورغم خلاف “حماس” وإيران بعد موقف الأولى من الاحداث في سوريا إلا أن الفرزلي يؤكد أن “العالم العربي يعرف أن المقاومة الفلسطينية التي استبسلت للدفاع عن فلسطين حصلت على سلاحها من سوريا وإيران”.
يتفق الجميع على ان “داعش” عنصر استفاد منه النظام السوري أكثر من الضرر منه، ويقول فرزلي: “قصة داعش وظهورها كطرف رئيسي واعلان دولة خلافة على امتداد سوريا والعراق، وضعا الغرب الذي كان يقود المعركة ضد سوريا في حال احراج كبيرة، لأنه أصبح في خندق موضوعي واحد وتلاقت المصالح بينه وبين الدولة السورية في محاربة الارهاب”.
ويذّكر برسالة “الألم والأمل” لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري التي تحدث فيها عن خروج “داعش” عن النهج والعقيدة، وأحد الأسباب اعتبار انها خالفت الاتفاق على ابقاء “القاعدة” غير معلنة في بلاد الشام حتى لا تخدم النظام السوري في حربه، لأنه سيستفيد بالادعاء انه يحارب الارهاب.
ويشدد الفرزلي على أن “هذا القول يؤكد أن النظام السوري استفاد من هذا الوجود”، معتبراً أن “المجتمع الدولي بين النظام وداعش سيفضل النظام”.
تحذير الأسد
في المقابل، يربط عضو المكتب السياسي في “تيار المستقبل” النائب السابق مصطفى علوش الأوضاع في المنطقة بطموح الأسد وتهديداته، ويقول لـ”النهار”: “ينطلق المبدأ الاساس من تحذير بشار الاسد، منذ انطلاق التحقيق الدولي وقبل قيام المحكمة الدولية بقوله ان الفوضى والدمار سيعمّان المنطقة في حال تم انشاء المحكمة، وها هي رؤيا بشار الاسد تتحقق”.
وفي الحديث عن نظرية الشر والأقل شراً، يوّضح علوش أن “انتاج منطق التكفير السني الحاصل في سوريا والعراق وجزئياً في لبنان، يجعل من منطق الشر الأقل الذي اعتمدته الادارة الاميركية أمراً واقعاً، وبات يعوّل بشار الاسد على أن الادارة الاميركية والغرب سيعودان للتعاون معه على أساس انه الشر الاقل أكان هو أو منظومة ولاية الفقيه”.
المستفيد من تطورات المنطقة وانشغال العالم بحسب علوش، ثلاثة أنظمة، “نظام الأسد ليستفرد بالسوريين، نظام ولاية الفقيه ليستفرد بالعراق والنظام الصهيوني ليستفرد بالفلسطينيين”.
ويلفت علوش إلى “عمليات تكبير رقعة الصراع من صراع فلسطينيين يريدون حقوقهم ودولتهم مع دولة غاصبة ومحتلة اسمها اسرائيل، إلى صراع بين منظومة إسلامية متطرفة، خصوصاً أن الغرب أصبح يعتبر حماس جزءاً من المنظومة، لابعاد القضية عن مسألة حقوق الفلسطينيين لذلك”، مضيفاً: “الأسد ونتنياهو وولي الفقيه في ايران والمالكي في العراق يستفيدون من هذا الواقع ليستمروا في التنكيل بالمواطنين وارهابهم”.
ويصف علوش “داعش” بـ”اكبر انقاذ للانظمة المتطرفة في المنطقة، لأنه جعل الاولية الآن ليس لمحاربة الظلم والانظمة المتطرفة ذات الطابع التسلطي بل هذه المجموعات التي عوّمت هذه الانظمة من جديد”.
النهار
القضية المأزق: “ما يتقتلوا… إحنا مالنا”ّ/ خالد الدخيل
كثيرون فوجئوا برد فعل بعض الكتاب والإعلاميين العرب إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة. بعض المصريين ذهب في موقفه بعيداً إلى حد يثير الذهول. الجزء الثاني من عنوان هذه المقالة مثال، وهو ليس مثالاً يتيماً. استعرت هذا الجزء من الكاتب المصري مصطفى النجار الذي جعله عنواناً لمقالته في صحيفة «المصري اليوم» (18 تموز / يوليو، 2014). والمدهش أن العنوان، بحسب النجار، هو ما قالته إحدى مذيعات التلفزيون الرسمي المصري عن أهل غزة في سياق حديثها عن المبادرة المصرية. هو مدهش أولاً: لأن مضمونه يستهين بآلام ودماء شعب عربي محاصر يتعرض لأبشع أنواع القتل والتدمير. وثانياً: لأنه يكشف موقفاً من الصراع العربي – الإسرائيلي كان مكبوتاً لدى بعضهم ثم انفجر في هذه اللحظة. وثالثاً: لأنه قيل من على شاشة تلفزيون رسمي. هل حصل هذا التزاماً بحرية التعبير؟ أبداً. حصل لأنه سمح لثقافة الكراهية في الإعلام نكاية بـ»الإخوان». وهي ثقافة تطاول كل مخالف.
هذا يشير إلى التحول الذي أصاب الخطاب الرسمي المصري حيال القضية الفلسطينية، منذ جمال عبدالناصر، مروراً بأنور السادات وحسني مبارك، وصولاً إلى عبدالفتاح السيسي. يرسم هذا التحول خطاً بيانياً كان يتراجع بشكل بطيء وغير معلن، ثم أخذ ينحدر بشكل سريع مع بداية حرب غزة. خطاب الرئيس السيسي نفسه الأربعاء الماضي، لمناسبة «ثورة» 23 يوليو، عبّر عن مواقف من القضية الفلسطينية تختلف عن مواقف أسلافه الثلاثة الذين جاؤوا مثله من المؤسسة العسكرية. واللافت أن ما قاله في خطابه يتناقض مع مواقف عبدالناصر تحديداً الذي حاول السيسي الارتباط باسمه أثناء حملته الانتخابية الأخيرة. أبرز ما جاء في خطابه عن الحرب الإسرائيلية على غزة هذه الأيام قوله: «في كل توتر بين القطاع والإسرائيليين كنا نتدخل، وتم احتواء أكثر من توتر لعدم خروج الوضع عن السيطرة. وحتى المبادرة المصرية نريد لأهل غزة ألا يتعرضوا لما يتعرضون له الآن، ونريد وقف الاقتتال الذي يروح ضحيته الكثير من الأبرياء في قطاع غزة». يعكس هذا الاستشهاد مدى التغير الذي يدشنه الرئيس على الرؤية المصرية للقضية، وللصراع العربي الإسرائيلي، وهي رؤية ثورة 23 يوليو التي كان يحيي ذكراها الـ62 في خطابه. ما يحصل لغزة في عرف هذه الثورة هو عدوان في إطار صراع متصل. بالنسبة للرئيس السيسي ما يحصل «توتر» محصور في داخل غزة. والحرب الإسرائيلية بكل جبروت آلتها العسكرية على القطاع باتت «اقتتالاً» بين طرفين، يبدو من التضمين أنهما متكافئان. لم يقل الرئيس المصري الجديد، وهذه حقيقة، شيئاً شبيهاً بما قالته مذيعة التلفزيون الرسمي، لكن سياق خطابه بمفرداته، وإشاراته وإيحاءاته لا يترك مجالاً للشك بأن مساحة استيعابه لما هو خارج تقاليد 23 يوليو بات أكثر اتساعاً حتى لما كان عليه في زمن الرئيس مبارك.
ربما قيل إن المرحلة بظروفها ومعطياتها تغيرت بما يفرض تغيراً في طريقة التعاطي العربي مع القضية الفلسطينية. وهذا صحيح، لكن تغير طريقة التعاطي لا يعني تغير الهدف. ثم إن السياسة الإسرائيلية لم تتغير قيد أنملة عمّا كانت عليه منذ ما قبل 1948، أيام الاستيطان الباكر قبل قيام الدولة، وحتى الحرب الحالية على غزة. لم تتغير حتى عندما غامر الرئيس السادات وقام بزيارته للقدس 1977 من دون مفاوضات أو ضمانات. ووقع أول اتفاق سلام مع إسرائيل. تنازل الفلسطينيون عن معظم أرض فلسطين في ما يسمى بعملية السلام، لكن إسرائيل لم تقبل بذلك. قرار التقسيم الدولي الصادر عام 1947 يعطي 53 في المئة من أرض فلسطين للفلسطينيين، و55 في المئة لليهود. ومع ذلك، وتحت ضغوط العرب والمجتمع الدولي، قبل الفلسطينيون بـ22 في المئة فقط مما تبقى من أرض فلسطين. أي أنهم تنازلوا عن 31 في المئة من حقهم القانوني. وعلى رغم ذلك ترفض إسرائيل السلام مع الفلسطينيين. اعترفت منظمة التحرير بإسرائيل قبل أن تعترف الأخيرة بحق الشعب الفلسطيني، وعلى هذا الأساس وقّع الراحل ياسر عرفات اتفاق أوسلو مع إسحاق رابين في البيت الأبيض الأميركي عام 1993. ماذا حصل بعد ذلك؟ اغتال متطرف يهودي إسحاق رابين في تل أبيب، واغتال أرييل شارون عرفات في المقاطعة، في رام الله. جاء محمود عباس خلفاً لعرفات، وتنازل عن فكرة المقاومة العسكرية جملة وتفصيلاً، ورفض حتى فكرة الانتفاضة السلمية، وحصر خياراته في التفاوض فقط. بل قبل بالتنسيق الأمني مع إسرائيل. وانتخبه الفلسطينيون رئيساً لهم، ما يعني قبولاً شعبياً ببرنامجه السياسي، وتفويضاً له على هذا الأساس. لكنه لم يحصل من إسرائيل إلا على التهميش، ومضاعفة الاستيطان، واقتحام مدن الضفة، واستمرار الاغتيالات والاعتقالات. وفوق ذلك تجميد اتفاق أوسلو، وبالتالي عدم تسليم الأراضي والمدن التي كان يفترض تسليمها للسلطة بعد فترات زمنية محددة من توقيع الاتفاق. بل لم يسلم الرئيس عباس من الإهانة أحياناً بتأخير السلطات الإسرائيلية إعطاءه تصريحات السفر والعودة من رام الله. لم تتوقف التنازلات العربية عند هذا الحد. طرحت الدول العربية مجتمعة مبادرة للسلام والاعتراف والتطبيع الكامل مع إسرائيل، وصادقت عليها القمة العربية عام 2002، لكن إسرائيل تجاهلت الموضوع تماماً لأكثر من 12 عاماً حتى الآن.
لماذا تتمسك إسرائيل بسياسة الرفض هذه؟ لأن الهدف الإسرائيلي لم يتغير. وتبعاً لذلك لم تتغير سياستها. هناك حقيقة يجب مواجهتها: إسرائيل ترفض السلام مع العرب. لماذا؟ ترى أنهم أضعف من أن يطالبوها بتنازلات. هم الأضعف ليس فقط عسكرياً، بل وسياسياً واقتصادياً أيضاً. وعندما تكون الأضعف على هذا النحو، فإن أثر ذلك يمتد إلى حالك الفكرية والنفسية. وبما أنهم الطرف الأضعف، تقع على العرب وحدهم مسؤولية تقديم كل التنازلات المطلوبة للسلام. ما هي حدود هذه التنازلات؟ لا أحد يعرف، بما في ذلك الأميركيون، لأنها تنازلات تشمل الأرض، والأمن، والقدرات العسكرية، والاقتصاد، والتجارة والسياسة، والعلاقات الإقليمية والدولية… إلى آخره. هل يستطيع العرب التنازل مثلاً عن القدس؟ إسرائيل ترى أنهم يستطيعون. كان عرفات يردد عن الإسرائيليين قبل اغتياله «إنهم يحاربوننا حتى على الـ22 في المئة من أرض فلسطين التي بقيت لنا». ومات ولم يتحقق له هذا الحد الأدنى من حلمه في أرض فلسطين. مصير عرفات، وقبله السادات، ثم مصير مبارك، والآن محمود عباس، وغيرهم كثير، يشير إلى أن كل من تنازل لإسرائيل من دون مقابل موازٍ في الحجم والأهمية، إما يفقد حياته، وإما يفقد مكانته وتأثيره السياسي. وهذه المصائر وتبعاتها تؤكد مركزية قضية فلسطين. فإسرائيل الركيزة الأولى للسياسة الأميركية تجاه المنطقة. مركز مصر الإقليمي في التاريخ المعاصر ارتبط هبوطاً وصعوداً بالقضية الفلسطينية. قارن دور مصر في عهد عبدالناصر، ودور مصر في عهد مبارك والعهد الحالي. لنتذكر بأن من أهداف إسرائيل فصل مصر عن فلسطين، أي تهميش دورها الإقليمي. فلسطين بوابة مصر إلى الشام، وإلى قارة آسيا. ومن خلال القضية الفلسطينية اخترقت إيران العالم العربي، وشيدت لها دوراً محورياً في دولتين من بين أكبر الدول العربية.
هنا يتبدى المأزق العربي. لا تستطيع الدول العربية التخلي عن فلسطين والفلسطينيين، لكنها لا تستطيع فعل الكثير من أجلهم. تبدو هذه الدول، بل قل هذه الأنظمة متعبة وأنهكها الصراع. ومأزق أنظمة مثل هذه، أن الشعوب لا تعرف التعب في الصراعات التاريخية الكبرى، الشعب الفلسطيني مثال
على ذلك. ومأزق مصر أن موقفها الحالي لا تحدده حقائق الصراع، وإنما الخوف من «حماس» على خلفية الخوف من «الإخوان». كما يقال: «لا نريد عودة الإخوان من بوابة غزة». تصور أن مصر بحجمها وثقلها تخاف من الأثر السياسي لسلوك «حماس». هذا لا يليق بمصر، ولا يليق تقزيم القضية واختزالها في «حماس». لم توجد «حماس» إلا بعد أكثر من 40 عاماً من عمر الصراع. وعندما وجدت كانت نتيجة للفشل العربي في إدارة الصراع. إذا كانت نجحت في إعادة القضية إلى صدارة الأحداث، وتبدو ممثلة للعالم العربي في هذه اللحظة، فهو نتيجة للغياب العربي قبل أي شيء آخر. تبدو التنظيمات وهي تزاحم الدول في إدارة صراعات المنطقة، والمسؤول عن هذا المآل الدول وليس التنظيمات.
* كاتب وأكاديمي سعودي.
الحياة

 

قيمة أرواح أهل غزة صدقاً ونفاقاً / حسن منيمنة
قُدِّر لأهل غزة أن يتم تذكيرهم دورياً، وبمهلة فاصلة لا تتجاوز العامين، بأن ثمة من يرى أن أرواحهم أقل قيمة من أرواح الآخرين.
فالحكومة الإسرائيلية، لدرء التهديد الذي تشكله صواريخ تطلق من وسطهم متوعدة التجمعات السكانية في إسرائيل، على رغم أن القوات المسلحة الإسرائيلية وضعت موضع التنفيذ منظومة دفاعية قادرة على اعتراض فعّال لهذه الصواريخ، لا تجد حرجاً بأن يرتفع عدد قتلاهم من غير المقاتلين إلى المئات، لا بل تهنئ نفسها على ميزتها الأخلاقية المفترضة، لإقدامها على خطوات تنبيهية للمدنيين بالخروج والنزوح، على رغم توثيق عدم فعالية هذه الخطوات واقتصارها في أكثر من حالة على الطابع الشكلي بل الدعائي.
والرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو في منتصف ولايته الثانية، أي حيث يفترض أن يكون قد انعتق مما يعتبره البعض ولاءً كاذباً لمصلحة إسرائيل طمعاً بالدعم الانتخابي لمؤيديها في الولايات المتحدة، اختار أن يحاضر الأميركيين المسلمين الذين دعاهم إلى الإفطار السنوي، والذي درج البيت الأبيض على إقامته في العقدين الماضيين، بقناعته حول حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، مساوياً من دون الخوض بالتفاصيل بين حالة القلق التي تطاول الإسرائيليين من خطر الصواريخ العشوائية، وحالات الموت والدمار التي تشهدها غزة في الهجمة العسكرية التي تبدو مزيجاً من الوقائية والاقتصاص.
كان بوسع هذا الرئيس أن يبقى صامتاً إزاء ما يجري في غزّة، فالمناسبة دينية واجتماعية ومحلية لا تستدعي طرح الأمور الخارجية أو الخلافية. لكنه تحدّث وحاضر حول استثنائية وتسامح أميركيين يعود إليه الفضل الكبير في تبديدهما، فيما هو أشار من غير عمد إلى أنه يشاطر الكثرة من مواطنيه الذين يرون المسلم غريباً عن مجتمعهم فلا يخاطب إلا بالشأن الدولي، ويتفق مع من يسقط على المواجهة في فلسطين طابع الصراع الديني ويغيّب منها الجانب الحقوقي.
أرواح أهل غزة أقل قيمة، ليس لدى الحكومة الإسرائيلية ورئيس الولايات المتحدة فحسب، بل هي كذلك لدى قيادة حركة حماس، والتي تقيس النجاح والفشل ليس بقدرتها على تجنيب الفلسطينيين القتل، بل بمدى تحقيقها للقتل المضاد، مكتفية بمقدار لا يقارب التكافؤ أبداً. فكل قتيل إسرائيلي مدعاة احتفال، وإن كان ثمن قتله موت المئات من أهل غزة. بل إن ثقافة المقاومة التي تعتنقها حماس وتفرضها على أهل غزة شاؤوا أو أبوا، ترى في السعي إلى النجاة من الموت خيانة، وفي التحذير من مساوئ المواجهة العسكرية تخاذلاً، وترى في الموت استشهاداً، وإن كان كما هي الحال مع معظم الذين قتلوا في غزة، مجانياً وعبثياً، جلّ ما يحققه مكسب آني زائل هو «فضح» العدوان الإسرائيلي واستهتاره بمعايير العدالة في الحروب، وهي المعايير التي تجاهر «حماس» فعلاً وقولاً برفضها، مقابل الجرح الدائم الذي لا يندمل من التيتيم والتثكيل والإعاقة والألم.
والموقف المؤيد لهذا المنحى المقلل من قيمة أرواح أهل غزة يجادل بالكرامة كقيمة عليا، وبالحصار المميت سبباً لنهج الاستشهاد، فارضاً تعارضاً غير مبرر بين الكرامة والحياة، إذ إن سبل المقاومة لا تقتصر بتاتاً على الأساليب التي أثبتت عقمها وما زالت حركة «حماس» متمسكة بها، في حين أن هذه الأساليب، من الرشق بالصواريخ إلى التهديد بالقتل ومحو الوجود، من العوامل الدافعة إلى تشديد الحصار، وإلى تمتين الموقف الداخلي الإسرائيلي وكذلك الدولي في إهمالهما المعيب لحق الفلسطينيين بالحياة والكرامة.
إلا أن الجديد في هذه الجولة المتكررة من الهجمات الإسرائيلية القاتلة على غزة هو أن ثمة من يرى، على ما يبدو، أن أرواح أهل غزة أكثر قيمة من أرواح غيرهم.
فقد مضى على العراق أكثر من عقد وهو يتآكل داخلياً بأفعال انتقامية لمظالم تتوزع بين الصدق والكذب، والظن والوهم، ويتوافد إليه الشباب العربي من القاصي والداني، لينحروا وينتحروا بأفعال إجرامية ألبست ثياب الدفاع عن الدين والمذهب، فيما سورية تعيش منذ أكثر من ثلاثة أعوام مقتلة متواصلة من نظام يجهد لاستبدال ما فقده من القدرة على فرض نفسه بالترهيب بالعمل على حرمان معارضيه وقاعدتهم الشعبية من مقومات الاستمرار.
ولا تتوقف مآسي الإنسان العربي، المسلوب الكرامة والمهدد بحياته، على العراق وسورية. فإذ تتكاثر الأطراف المتواجهة في هاتين الدولتين، وتتباعد انتماءاتها العقائدية، فإنها من دون استثناء تجتمع على تثمين المقاومة في غزة وإدانة العدوان الإسرائيلي عليها.
فـ «حزب الله» اللبناني، والذي تحتل قواته المتجاوزة الحدود بأمر من الولي الفقيه الإيراني، منطقة القلمون السورية، والذي يفاخر بعمليات القتل الجماعي لمن يشتبه في أنهم من المعارضين لنظام دمشق، يلتقي في مناصرته لغزّة، كلامياً فقط، مع الدولة الإسلامية وخليفتها الذي يعتبر تهجير السكان من ديارهم فعل رحمة، والقتل الممنهج لمن يمتنع عن مبايعته إحقاق حق. ولا يشكل التشابه بين الظلم الذي يتعرض له الغزّيون والظلم الذي يقترفه هؤلاء بمن هم تحت سطوتهم أي حرج لهم، بل تبدو أرواح أهل غزة، لوهلة، أغلى من أرواح عموم العراقيين والسوريين.
لكن الأمر ليس كذلك طبعاً. فسخط أتباع الجمهورية الإسلامية والدولة الإسلامية ليس لإزهاق أرواح الأبرياء. وليست أرواح أهل غزة الأغلى ثمناً، إذ النبرة المرتفعة عائدة لهوية القاتل لا لماهية المقتول. فالدماء تفور في العروق أكثر، وتداول صور الألم والموت يتم في شكل أوسع عندما يكون جلاد هذا الإنسان العربي المظلوم يهودياً. وموطن احتقار حياة الإنسان العربي ليس لدى الجمهورية والدولة ومشتقاتهما، بل في معظم الثقافة العربية التي لا تختلف عن هؤلاء في استطابة تسعير الحقد على اليهودي في إطار استهجان مظلومية غزة.
لغزّة أكثر من جلّاد. أول هؤلاء الجلادين طبعاً، الاحتلال المقدم على العدوان والفارض الحصار من ثلاث جهات. ثانيهم، وعن قرب، الأخ الشقيق المساهم في هذا الحصار من جهته الرابعة، قبل ثورته وبعدها وبعد انقلابه. ثالثهم، وهو الأقرب، قيادة تقيس بمقاييس تسقط الحياة بحجة الكرامة، وتسقط الكرامة من دون حجة. ورابعهم أسرة دولية مستقيلة وقوة عظمى فاشلة. وخامسهم ثقافة عربية متأرجحة في تثمينها أرواح أهل غزة بين الصدق والنفاق.
الحياة
في جنون إسرائيل…/ نهلة الشهال
… والجنون هنا لا يَرِد كشتيمة. هناك شتائم مقذعة يمكن إطلاقها على إسرائيل، وهي جميعها مستحَقة، ولكن آداب النشر تمنعني من إيرادها، عدا عن أنها لا تقدّم ولا تؤخر، ولست بصدد تنفيس غضبي. كذلك، فصفة الجنون لا ترد هنا بمعناها النبيل، كما حينما تدل على عجز عن التأقلم مع الدنيا التي تحمل في طياتها ما لا يمكن التأقلم معه إلا بالتخلي عن صفات عليا حميدة، أو حين تدل على تفرد يخرج بصاحبه عن «القطيعية» هكذا يُجن شعراء وفنانون (وبنسب أقل بكثير مثقفون، لأن معظم هؤلاء «مشتغلون» بالثقافة، بوعي ووظيفية ولأغراض شتى) أو يوصفون بالجنون في الوقت الذي يرون هم فيه هذا العالم لا يُطاق. وبالطبع، وعبر التاريخ والأمكنة، جرت «شيطنة» الجنون من قبل المتنفذين بشتى أشكالهم، ودخل إلى الوعي العام الخوف من الجنون والمجانين، واستخدم الأمر للضبط والقمع والإخضاع، وللعقاب، عزلاً وتعذيباً وقتلاً، للدفاع عن «النظام» (من لم يقرأ فوكو!؟)
جنون إسرائيل لا يدخل في أيٍ من هذه المعاني. إنه التعبير الأوضح عن مآل هذا المشروع. عن اصطدامه بحدوده، واستحالته بمعنى الديمومة والوصول إلى «العادية». وللحق، فمساره إلى ذلك لم يأخذ وقتاً طويلاً، منذ ولدت بذرته قبل مئة عام ونيف، ثم تحقق منذ ستة وستين عاماً. هناك معترضون على الصفة يقولون بأن سلوك إسرائيل استعماري فاشي والسلام، ولا دخل للجنون بالأمر. بل يذهبون إلى أن هذا النعت يخفف القسوة المطلوبة في تقدير المسلك الإسرائيلي. في كتاب صادر له عام 2004 بعنوان «قبر مفتوح: أزمة المجتمع الإسرائيلي»، قال ميشال فارشافسكي، وهو كاتب ومناضل يهودي مناهض للصهيونية ولإسرائيل، قرر من هذا الموقع العيش والعمل في القدس، بأن «هذا المجتمع (الإسرائيلي) لم يعد يعترف بأي حدود جغرافية أو أخلاقية»، ويرى أنه مهووس بصورته، ويجاهد للحفاظ على تفوقه العرقي بأي ثمن (ويقارنه بألمانيا النازية)، ما يجعله يرى في كل مقاومة لهذا التفوق تهديداً وجودياً، و «إهانة». وحين تجيب الدولة الإسرائيلية على أي حدث مهما كان بسيطاً بردود فعل قوية إلى حد الاختلال، فذلك لا يحدث بسبب الضرورة وإنما «للتأكد من قوتها الذاتية». ويرى في ذلك تصاعداً في حالة الرهاب، يوصل في شكل يسير إلى الانتحار.
لا يكفي لتفسير حالة إسرائيل التذكير باستنادها التأسيسي، من بين أساطير أخرى، إلى صورة «مسعدة» أو «القلعة المحاصرة»، المعروفة في الميثولوجيا اليهودية والمستثمرة بقوة في البروباغندا الصهيونية، لا سيما أن نهاية هذه الأخيرة، أي الانتحار الجماعي بمواجهة فكرة الاستسلام، بائسة، حتى حينما يوظِّف الفكر الصهيوني الجزء الأول من الأسطورة (عن التماسك الجماعي والشجاعة والإيمان) في سياق صناعته لـ «اليهودي الجديد»، فيقول إن إسرائيل جاءت تحديداً لتغيّر تلك النهاية، وتخلص اليهود منها وتحررهم من مصير مأسوي ظل يلاحقهم. كما لا يكفي اعتبار إسرائيل استعماراً استيطانياً ولا حتى إضافة الملامح الفاشية إليه. فإنْ كان أمام الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر أن ينكفئ إلى فرنسا، «الوطن الأم»، فهذا ما لا يتوافر في حالة إسرائيل. وإن أمكن حمل المستعمرين البيض في جنوب إفريقيا (الافريكانر)، على القبول بتسوية أزالت نظامهم السياسي القائم على سطوتهم بفضل بنية الفصل العنصري الاستعبادية التي استندوا إليها، فقد تحقق ذلك في ظل سياقات عدة قد لا تكون متوافرة في الحالة الإسرائيلية، ومنها أن المستعمرين الأوائل، الهولنديين والانكليز وسواهم، وصلوا إلى تلك البلاد في القرن السابع عشر، أي منذ زمن قديم في شكل كافٍ ليروا فيها بلدهم، وأنهم، بخلاف الصهاينة، لم يحيطوا وجودهم ويغلفوه بهذا الكم المذهل من النظريات والأساطير عن «الوعد الإلهي» و «العودة» (ما يسميه الإسرائيليون رسمياً «العليا» Aliyah أو الصعود الى «أرض إسرائيل» Eretz Yisrael، أي إلى مكان لهم فيه «حق تاريخي»)، مما جعل التسوية العقلانية مع الأفريكانر ممكنة، فيما يبدو أنه، هنا، لا بد من هزيمة تلك المنظومة.
ما الذي يمكن استخدامه، غير الجنون لوصف القتل العمد للأطفال الأربعة على شاطئ غزة، منذ أسبوع ونيف، والذي جالت صوره على العالم لمصادفة وجود صحافيين أجانب على ذلك الشاطئ في تلك اللحظة، وتصويرهم الأطفال يلهون ثم يقتلون بتلك الطريقة الباردة. ما الذي يمكن استخدامه، غير الجنون، لوصف قصف ملجأ الأمم المتحدة منذ يومين (مدرسة بيت حانون التابعة للأنروا والتي لجأ إليها الفلسطينيون بعدما أعطتهم إسرائيل أوامر بإخلاء بيوتهم). ثم كيف يخطر ببال أي سلطة، مهما بلغت من العنت، أن تعطي أوامر لمئة ألف إنسان! بترك بيوتهم خلال عشر دقائق؟ وكما علق كثيرون: أين يذهبون؟ والقطاع بأكمله يُقصف، وهو الأعلى اكتظاظاً بالسكان في العالم. هناك أمثلة لا حد لها، عنفية ميدانية أو سياسية، وهي لا تقتصر على وقائع هذه المعركة الجارية، وتحمل كلها دلالات مشابهة. وهذه الحال باتت تثير حنق أقرب أصدقاء إسرائيل، في السر على الأقل، مما لا يمكن تفادي تسريبه أحياناً.
تصطدم إسرائيل بالواقع: لن يزول الفلسطينيون من الوجود بضربة ساحر (ولا بضربات الطيران والمدفعية)، وهم لن «يأتوا زاحفين على بطونهم» كما اشتهى وزير إسرائيلي في بداية هذه المعركة. ولن تُنسَ فلسطين التي تحولت إلى رمز نضالي يخاطب كل المضطهدين في العالم، وكل المدافعين عن قيم إنسانية شاملة… فيضطر الصحافيون الفرنسيون، على رغم كل محاولات التشويه والتعمية وخلط الأوراق (وهذه تستحق أطروحة دكتوراه!) للإشارة إلى أن تحرك شباب الضواحي في تظاهرات التأييد لفلسطين وإدانة إسرائيل إنما يحدث أيضاً لأنه يخاطب إحساسهم الخاص بالظلم، المتعلق بأوضاعهم في فرنسا.
خسرت إسرائيل معركة الأفكار البالغة الأهمية (عن «واحة الديموقراطية»، و «البلد المتحضر»، ونموذج الكيبوتز «المساواتي» الخ، وكذلك فكرة أنها «تعويض» لليهود عن اضطهاد تاريخي يدعو الغرب للشعور بالذنب…)، وخسرت معها معركة الصورة، صورتها هي. فماذا بقي؟ القوة العارية المنفلتة من كل عقال. ولأنه في كل مرة يُكتشف أنها «لم تكفِ»، يظهر مزيد من القوة العارية. ذلك هو تجسيد «استحالة المحو والإخضاع» التي كلما اتضحت، زاد منسوب الجنون.
الحياة
فضائل أن تكون فلسطين لوحدها/ يوسف بزي
ذهبت إلى غزة في مطلع العام 2009، حاملاً استياء مكتوماً من حركة «حماس»، التي دبرت قبل ذلك الحين بعامين انقلاباً دموياً على منظمة التحرير الفلسطينية وحركة «فتح» والسلطة الفلسطينية، والتي كانت أيضاً جزءاً من المحور السوري الإيراني، الساعي إلى تقويض استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، و»سرقة» القضية الفلسطينية. كان محور «الممانعة» يعمل على تقويض أي مسار تفاوضي فلسطيني. إسرائيلي، والأهم هو إخراج القضية الفلسطينية من سياقها العربي، وإلحاقها بإرادة إيران وسياساتها.
كان امتعاضي من «حماس»، أنها في ذلك العام، افتعلت حرباً ضد إسرائيل، بغض النظر عن «المصلحة» الفلسطينية، وبلا اكتراث للنتائج الكارثية التي ستصيب السكان، بل بلا مبالاة للأضرار السياسية الفادحة التي ستلحق بالفلسطينيين، كقضية وكمشروع دولة وكشعب. كانت رعونة «حماس« وقتها تستجيب وحسب لأجندة إيرانية واضحة الأهداف، بقدر ما تلبي في الوقت نفسه رغبة الإسرائيلي في طمس القضية الفلسطينية برمتها، والتحرر من عبء السلام العادل غير المستعدة له، وإعفائها من منح الفلسطينيين حقوقهم الوطنية المشروعة، بالإضافة إلى تجديد دور إسرائيل الحيوي في المنطقة، بوصفها رأس حربة «العالم الحر» في الحرب على «الإرهاب» و»التطرف الإسلامي»، عدا عن رغبتها أيضاً في القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وتقويض شرعية السلطة الفلسطينية أو إفشالها على الأقل. وبهذا المعنى، كانت «حماس» تسهّل طموحات إسرائيل، وتقدم لها كل التبريرات الأيديولوجية والسياسية التي تبحث عنها.
بدت حرب «حماس» 2009، تكراراً مشيناً للحرب التي افتعلها «حزب الله» عام 2006، الذي فقد بعد الإنسحاب الإسرائيلي عام 2000 من جنوب لبنان، وتنفيذ القرار الأممي 425، ورسم «الخط الأزرق» الحدودي تحت إشراف الأمم المتحدة.. فقد أي شرعية حقوقية بشن أي عملية عسكرية على أهداف إسرائيلية، وفقد الأساس القانوني والأسباب الموجبة لاستمرار «المقاومة». لكنه مع ذلك، وانسجاماً مع مشروع «الممانعة»، وتقويضاً للحركة الإستقلالية اللبنانية، وإصراراً على إبقاء لبنان رهينة هذا المحور ووصايته، وانتقاماً للهزيمة التي لحقت بالنظام السوري في لبنان وانسحاب جيشه وشبيحته ومخابراته من لبنان، افتعل «حزب الله» حرباً، انتهزتها إسرائيل بكل جوارحها وحقدها، لتدمر لبنان وتخربه وتفتك بالحياة فيه. ذهبت إلى غزة عام 2009، لأجد شعباً فلسطينياً يحصد الويلات لا من تسلط «حماس»، ولا من الإذلال الإسرائيلي اليومي وحصاره الخانق والإجرامي، بل أيضاً من الإهانة العميقة التي كان يلحقها به نظام الفساد والإستبداد المصري في عهد حسني مبارك وأجهزته الأمنية والمخابراتية الفاسدة والمتعسفة والعنيفة، التي كانت تتلذذ بمزاجيتها في التحكم بحياة أهل غزة وحاجياتهم اليومية.
لن أنسى أثناء وقوفي عند بوابة معبر رفح، من الجهة المصرية، مشهد طابور الشاحنات المحملة بالمساعدات وقافلة سيارات الإسعاف الكثيرة، ووفود الأطباء المتطوعين من كافة أنحاء العالم، وكيف جلبت السلطات المصرية الطواقم الإعلامية وكاميراتها، لتصوّر هذا المشهد «الإغاثي» الكبير، ثم كيف أنها أدخلت تلك القوافل، إلى داخل حرم المعبر موهمة العالم أنها ذاهبة إلى غزة، وإذ بعد ساعات وبعد أن أتيح لنا الدخول تمهيداً لمسيرنا نحو غزة، نكتشف أن السلطات منعت أولاً الأطباء من العبور إلى غزة، وركنت كل الشاحنات وسيارات الإسعاف هناك وراء منشآت المعبر، وحجزت عليها ومنعتها من إكمال طريقها نحو غزة.
لن أنسى أيضاً ذاك التمييز الفج الذي مارسه رجال الأمن بين الأجانب والفلسطينيين العائدين إلى ديارهم، والساعات الطويلة التي مرت بلا أي مبرر، قبل أن يأذنوا لنا نحن حفنة الصحافيين دون سائر الفلسطينيين من العبور إلى غزة.
لن أنسى ذاك الطفل المتورم الرأس بمرض السرطان، يقف تحت الشمس ساعات النهار، منتظراً من دون جدوى، عند المعبر من جهة غزة، أن يأتيه الإذن الأمني لدخول الأراضي المصرية، كي يسافر للعلاج. كان الطفل المريض يكشف حال غزة برمتها، مأساتها التي يشارك الجميع بصنعها واستدامتها.
منذ ذلك الحين، تغيرت إسرائيل على نحو أسوأ، ازدادت عنصرية وتطرفاً وجنوناً. تغيرت مصر بعد مبارك، ولم تتغير مصر «الأمن والعسكر». تغيرت «حماس» إذ وجدت نفسها فلسطينية وحسب، هناك في مخيم اليرموك الدمشقي وهنا في أرض فلسطين. تغيرت السلطة الفلسطينية أيضاً إذ انتهت أوهام مفاوضة نتنياهو وليبرمان. تغيرت إيران التي تفاوض على حساب دماء وعمران المشرق العربي برمته. تغيرت سوريا التي لم يبق من «نظامها» سوى هذا الديكتاتور الصغير المتوحش.
لذا، ومن المرات النادرة، هذه «حرب فلسطين» ومن أجل الفلسطينيين. حرب لا أجندة فيها سوى مطالب الشعب الفلسطيني بالحرية والكرامة. حرب من أجل الحياة. ولذا، ومن المرات النادرة أيضاً، هي حرب الفلسطينيين وحدهم بلا محور «ممانعة» ولا محور «اعتدال»، وعلى الضد من سياسات عربية وإقليمية ودولية. حرب تخوضها «حماس» والفلسطينيون تحت شعار «لنضع حداً للمأساة»، و»لنضع حداً لسفك الدم». أول حرب منذ «انتفاضة الحجارة» لا صفة لها ولا غايات ولا أهداف سوى تحقيق التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني، هي حرب بدأت وستنتهي بانتصار أخلاقي وسياسي على إسرائيل، ورغماً عن هذا المحور أو ذاك. لقد تفوقت «حماس» على نفسها، واكتسبت شرعية أهم بكثير من تلك الشرعية الإنتخابية التي كانت لها.
هي أول حرب، ستفضي على الأرجح إلى تثبيت «الكيان الفلسطيني الواحد» والمستقل، وستكون بعدها إسرائيل غير قادرة على الهروب من استحقاقاتها الكبرى، ومجبرة على مواجهة سؤالها الوجودي.
وحصيلة القول: ما عاد حصار غزة ممكناً، وهذا ما تدركه إسرائيل الآن. عسى أن يدرك الآخرون ذلك.
المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى