صفحات العالم

مقالات تناولت العلاقات الاميركية الخليجية بعد قمة كامب ديفيد الأخيرة 

الاتفاق النووي أولاً… فماذا يبقى من كامب ديفيد؟/ جورج سمعان

لم يكن أحد من الطرفين يتوقع أن تبدد قمة كامب ديفيد الخلافات في وجهات النظر أو أجواء عدم الثقة. أو أن تسقط هواجس أهل الخليج من مواقف الرئيس باراك أوباما حيال إيران. ومن مدى التزامه بمواقفه ووعوده وسياساته، سواء في العراق أو سورية أو اليمن. لم يكن أحد ينتظر أن تتوحد الرؤى حيال الأزمات والقضايا التي تشغل المنطقة. في المقابل لم يكن أحد يتوقع أن تفشل اللقاءات في تحقيق الحد الأدنى من التفاهمات. وأهم ما انتهت إليه هو البحث في تأسيس «شراكة استراتيجية جديدة» بين أميركا ودول مجلس التعاون، لتحسين التعاون الدفاعي والأمني وسرعة الإمداد بالأسلحة ومكافحة الإرهاب، والأمن البحري، والأمن الإلكتروني، والدفاع ضد الصواريخ البالستية. لكنها لم تعلن هنا قيام هيكل مشترك يتمتع بميزات وأدوات تتيح له التحرك السريع لمواجهة أية أخطار. وإن كان الرئيس باراك أوباما أكد أن بلاده ستدرس استخدام القوة العسكرية للدفاع عن دول مجلس التعاون إذا تعرضت للتهديد.

التأسيس لشراكة جديدة يعني أن العلاقات الأميركية – الخليجية أمام صفحة مختلفة في تاريخ طويل من العلاقات الخاصة سياسياً وعسكرياً والتي ترجمت في أكثر من محطة مصيرية. يعني أن الصفحة القديمة طويت وانتهت صلاحيتها. وهذا ما أقلق أهل الخليج في الفترة السابقة. لقد كان الأمن والاستقرار في منطقة الخليج على مر عقود هدفاً في السياسات الأميركية. وعبر عنهما صراحة إعلان الرئيس جيمي كارتر في «المبدأ» الذي رفع أمن الخليج وممرات الطاقة وحقول النفط إلى مصاف الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. وانتهى بإنشاء «قوة التدخل السريع». وجاء إعلان «المبدأ» إجراء احترازياً بعدما تقدم الاتحاد السوفياتي نحو المياه الدافئة إثر غزوه أفغانستان. وبعد إبرامه معاهدة تعاون وصداقة مع العراق. وعندما أطاحت «الثورة الإسلامية نظام الشاه، ورفع الإمام الخميني شعار «تصدير الثورة». وترجم هذا الالتزام جلياً إثر غزو صدام حسين الكويت قبل 25 عاماً. فكانت حرب تحرير الكويت، ثم حرب إسقاط نظام البعث وغزو العراق.

حصل الرئيس باراك أوباما من قادة الخليج على هدفه الأول من اللقاء. حصل على مباركتهم لاتفاق شامل مع إيران على برنامجها النووي «يتيح الرقابة والتحقق ويبدد كافة المخاوف الإقليمية والدولية بشأن برنامج إيران النووي…». ولكن لم يشرح أحد من الطرفين مفهومه أو تصوره لمثل هذا الاتفاق. لم يقدم الأميركيون ولا الخليجيون العناصر أو الشروط المطلوبة للاتفاق . ومعروف مثلاً أن في المفاوضات بين إيران والدول الست، تبايناً في مواقف كل من الولايات المتحدة من جهة وفرنسا وغيرها من جهة أخرى. وحصل قادة التعاون من الرئيس الأميركي على تعهد بالتصدي معاً لأي «أنشطة إيرانية تزعزع الاستقرار في المنطقة». وتم التشديد على «ضرورة أن تتعاون إيران في المنطقة وفقاً لمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام سلامة الأراضي بما يتفق مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وضرورة أن تقوم إيران باتخاذ خطوات فعلية وعملية لبناء الثقة وحل النزاعات مع جيرانها بالطرق السلمية». لكن الجانب الأميركي لم يحدد سبل التصدي لتدخل طهران في الشؤون الداخلية لعدد من الدول العربية. لم يقدم تصوراً لوقف هذا التدخل.

لذلك لم يتميز موقف الرئيس أوباما عن موقف ضيوفه حيال ما يجري في اليمن. أي «ضرورة بذل جهود جماعية لمواجهة تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، والانتقال سريعاً إلى «العملية السياسية من خلال مؤتمر الرياض برعاية مجلس التعاون ومفاوضات تشرف عليها الأمم المتحدة على أساس المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني الشامل وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة». بالطبع تعارض إيران هذا التوجه. والإجراءات التي مارستها عشية القمة في مياه الخليج، من التضييق على السفن في مضيق هرمز ومطاردتها في الخليج، إلى السعي لخرق الحصار الجوي والبحري على اليمن، تعطي صورة واضحة عن معارضتها هذه. وتؤكد استعدادها لرفع وتيرة الصراع والتحدي. وهو ما لا تريده واشنطن بالتأكيد. والسؤال مثلاً هل تتصدى السعودية للباخرة الإيرانية إذا أصرت على الرسو في ميناء الحديدة ورفضت الخضوع للتـــفتيش؟ وماذا سيكون موقف الإدارة الأمـــيركية؟ هـــل تلـــوح بالقوة كما فعلت قبل أسابيع عندما أرسلت حاملة طائرات إلى باب المندب لمنع باخرة إيـــرانــية من التقدم نحو ســـواحل اليـــمن؟ علماً أن الرياض لن تكون راغبة في وقف «العاصفة» ما لــــم يرضـــخ الحوثيون وحلفاؤهم ويعودوا إلى التزام المبادرة الخليـــجية ومخرجات الحوار… غير ذلك يعني فشل التحالف العربي الجديد في رفع التحدي بوجه إيران أولاً وأخيراً.

كذلك لم يقدم البيان جديداً في موقف الطرفين من قضايا المنطقة. كلاهما يحض الحكومة العراقية على «تحقيق مصالحة وطنية حقيقية من خلال النظر بصورة عاجلة في التظلمات المشروعة لجميع مكونات المجتمع العراقي». وكلاهما يؤكد العمل «للتوصل إلى حل سياسي مستدام في سورية ينهي الحرب ويؤسس لحكومة شاملة تحمي الأقليات العرقية والدينية وتحافظ على مؤسسات الدولة». ويؤكد أن الرئيس بشار الأسد «فقد شرعيته ولن يكون له دور في مستقبل سورية». لم يطرح الجانب الأميركي خطة للوصول إلى هذين الهدفين في العراق وسورية مثلاً. يعني ذلك استمرار الحال القائمة في هذين البلدين. لذلك يبدو أن الحرب على «داعش» في العراق تتعثر وقد تطول أكثر مما يتوقع. وقد حقق مسلحو التنظيم أخيراً اختراقات مهمة حتى وسط الرمادي. ولذلك لم يتوقع الرئيس أوباما حلاً أو تسوية للأزمة السورية خلال عهده!

بالطبع لا ترغب الولايات المتحدة في أن تقوم مقام أهل الخليج. لا تريد الانخراط في أي حرب جديدة في المنطقة. لذلك سعى الرئيس أوباما إلى هذه القمة لتوكيد ما لا يحتاج إلى توكيد، وهو الاتفاق على أن الحلول لأزمات الإقليم لا تحل إلا بالسياسة، كما جاء في البيان. فهو يدرك أن التصعيد بين السعودية وإيران وسباق التسلح في الإقليم قد ينتهيان إلى حرب واسعة ستجر إليها أميركا حتماً. وهو آخر الاهتمام بالشرق الأوسط في استراتيجية أطلقها مطلع ولايته الثانية، وكان مقدراً أن ينصرف إلى المحيط الهادئ… لكن هموم الشرق أعاقت وتعيق «انسحابه» من الإقليم. وهو إلى ذلك لا يرغب أن يتم وضعه أمام خيار إما أن يكون مع دول مجلس التعاون في مواجهة مكشوفة مع إيران، أو مع الأخيرة ضد الموقف الخليجي. ما يسعى إليه بكل السبل هو إنجاز اتفاق يوقف البرنامج النووي لإيران. وما أراد التوكيد عليه دائماً هو مسؤولية أهل الخليج في الدفاع عن أنفسهم. لا يريد عداء مجانياً ودائماً مع الجمهورية الإسلامية. يريدها جزءاً من المنظومة الإقليمية شريطة أن تنخرط في سياق المنظومة الدولية للمساهمة في الاستقرار ووقف التدخل في شؤون الآخرين. ووقف دعم بعض القوى الإرهابية، أو القوى والمكونات التي تهدد بحروب أهلية وتفكيك العرى الوطنية في هذا البلد العربي أو ذاك من البلدان الأربعة التي تبجحت طهران بأنها تدور في فلكها!

هذا الحرص الأميركي على احتواء إيران واستعادتها عنصراً إيجابياً في بناء المنظومة الإقليمية، واكبه التزام أميركي واضح بخطة عسكرية شاملة لتطوير منظومة دفاع صاروخي، وتمكين مجلس التعاون من القدرات العسكرية ما يسمح بمواجهة الأخطار والتحديات الإيرانية وغير الإيرانية. بالطبع كانت دول المجلس تنتظر مثل هذا التعهد لإصلاح الخلل في ميزان القوى الصاروخية خصوصاً بينها وبين إيران. مع أن ثمة مصادر بديلة. وشكل إطلاق «عاصفة الحزم» رسالة واضحة إلى أميركا وإيران معاً مفادها أن دول الخليج أخذت على عاتقها مواجهة الجمهورية الإسلامية. وأنها لن تتهاون أو تتردد أو تجبن في الدفاع عن مصالحها الحيوية وأمنها الوطني. وأنها يمكنها بالتفاهم مع دول مثل باكستان وتركيا… وحتى فرنسا وغيرها، أن توسع دائرة خياراتها وتحالفاتها واللجوء إلى مصادر قوة أخرى. كما يمكنها تحقيق توازن راجح لمصلحتها بترسيخ التحالف مع مصر والأردن والمغرب وغيرها من الدول العربية. بل أوحت أنها لا تخشى حصول إيران على القنبلة النووية، فهي أيضاً قادرة على الحصول على مثل هذا السلاح عند الضرورة. وتملك من الموارد ما يؤهلها لذلك. أي أنها لن تقبل ، أياً كانت الضغوط أو المبررات، بأن تعيش في ظل تهديد أو ردع خارجي. كل هذا لا يغيب السؤال هل يلتزم أوباما تعهداته أم يتقاعس بعد إبرام الاتفاق المتوقع مع طهران نهاية الشهر المقبل؟

يبقى أن على إيران التي تعارض الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة، ولا يسرها بالطبع أن تلتزم واشنطن حماية شركائها في المنطقة أن تدرك أنها المسؤول الأول عن شد الرباط بين هذا الوجود وأهل الخليج. ولولا سياساتها على مر عقود لما كان الخليجيون يحتاجون إلى قوى من الخارج تساعدهم على مواجهة أي تهديدات. وعليها أن تدرك أيضاً أن للولايات المتحدة والعالم الصناعي عموماً مصالح في المنطقة لا يمكن التهاون في الدفاع عنها. وفي الحروب التي شهدها الخليج في العقود الثلاثة الماضية، كان الهدف الأميركي الثابت منع أي قوة إقليمية أو دولية من الإمساك بالقرار النفطي.

الحياة

 

 

 

قراءة في بيان البيت الأبيض و«مجلس التعاون» بعد كامب ديفيد/ مصطفى اللباد

انتهت أعمال قمة كامب ديفيد التي جمعت الرئيس الأميركي باراك أوباما مع رؤساء وفود دول «مجلس التعاون الخليجي» قبل أيام قليلة، للتباحث في العلاقات الأميركية الخليجية والقضايا الإقليمية المختلفة. جاء اللقاء على خلفية التقارب الأميركي ـ الإيراني ومخاوف دول الخليج العربية من تداعياته على موازين القوى الإقليمية البازغة، وسط اهتمام إعلامي أميركي واضح. وإذ خرج البيت الأبيض الأميركي ببيان مشترك مع دول «مجلس التعاون» يعدد فيه القضايا التي تناولتها القمة ونقاط الاتفاق بين المجتمعين، لذلك يتوجب تحــليل مضمونه لإلقاء الضوء على موقف الأطراف المشاركة فيه حيال القضايا الإقلــيمية المختــلفة، وبالتالي كشـــف اللثام عن الرؤية الأميركية الجــديدة لتوازنات المنطــقة.

العلاقات الأميركية ـ الخليجية

ركز البيان المشترك على علاقات الشراكة والتحالف التي تجمع الطرفين الخليجي والأميركي، وأبرز بوضوح التزام أميركا القاطع بحماية أمن الدول العربية الخليجية من العدوان العسكري والإرهاب؛ ومشدداً على وحدة وسلامة أراضيها. وفي رسالة قوية إلى إيران، اتفقت الأطراف على قيام نظام أمن إقليمي واسع للدفاع ضد الصواريخ الباليستية، بحيث يشمل نظاماً للإنذار المبكر وتدريبات مشتركة ضد التهديدات غير التقليدية مثل الإرهاب والهجوم الإلكتروني، وزيادة التعاون في مجال الأمن البحري. في هذا السياق، يتضمن البيان المشترك: «ستستخدم أميركا كل وسائل القوة لحماية مصالحنا في منطقة الخليج وردع ومواجهة العدوان الخارجي ضد شركائنا وحلفائنا، كما فعلنا في حرب الخليج، وبشكل لا لبس فيه». ويقول البيان في موضع آخر بوضوح أيضاً: «وفي حال قيام عدوان أو التهديد بعدوان، ستكون أميركا مستعدة مع شركائها في دول «مجلس التعاون الخليجي» على وجه السرعة لتحديد الفعل المناسب باستخدام كل الوسائل المتاحة بما فيها القوة العسكرية للدفاع عن شركائنا في دول المجلس». ويعود البيان للتأكيد بوضوح أكبر على: «ستعمل أميركا ودول «مجلس التعاون» بكل الوسائل ضد نشاطات إيران لزعزعة الاستقرار في المنطقة، وقد شددوا على حاجة إيران إلى الانخراط في المنطقة طبقا لمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام وحدة وسلامة الأراضي بالاتساق مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة». بمعنى أن دول الخليج حصلت على تعهدات لا لبس فيها بحماية أمنها القومي من التدخلات الإيرانية، ولكنها لم تحصل بأي شكل من الأشكال على تعهدات بتقليص دور إيران الإقليمي. وفي مقابل التعهدات الأميركية، فقد تضمن البيان تعهدات من دول الخليج مقابل أميركا كالتالي: «قرر القادة زيادة تعاونهم في مجال مكافحة الإرهاب وخصوصا تنظيم «الدولة» و «القاعدة» لردع ومنع الهجمات الإرهابية، مع إيلاء أهمية خاصة لحماية البنية التحتية الحساسة وتوسيع الأمن الحدودي والبحري ومحاربة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب ودعم المقاتلين الأجانب ومواجهة التطرف العنفي بكل أشكاله».

القضايا الإقليمية

وضع البيان المشترك حدوداً أميركية واضحة لتوازن القوى الإقليمي الراهن وقطع الطريق على محاولات تعديله جذرياً، حيث أورد البيان فقرة لها مغزاها العميق: «قرر المجتمعون اعتماد مبادئ مشتركة يأتي من ضمنها الاعتراف المتبادل بأنه لا حل عسكرياً للحروب الأهلية في المنطقة، التي يمكن حلها فقط بالوسائل السياسية والسلمية واحترام سيادة كل الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية». بمعنى أن التعامل مع القضايا الإقليمية يتم بالمفرق وليس كرزمة شاملة، ما يعني تثبيت توازن القوى الإقليمي المختل لصالح إيران، مع السعي لتعديله نسبياً بوسائل غير عسكرية. ويظهر ذلك بوضوح في ما يخص العراق حيث: «أكد القادة التزامهم بمساعدة الحكومة العراقية والتحالف الدولي في حربهم ضد تنظيم «الدولة». وأكدوا على ضرورة تعزيز العلاقات بين دول «المجلس» والحكومة العراقية استنادا إلى مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام سيادة الدولة. وشجعوا الحكومة العراقية على الوصول إلى مصالحة وطنية حقيقية عبر حل مظالم كل مكونات المجتمع العراقي من طريق الاصلاحات التي تمت الموافقة عليها الصيف الماضي، والتأكد من أن كل الجماعات المسلحة تعمل تحت الرقابة المشددة للدولة العراقية». بمعنى أن المجتمعين اعترفوا بالأمر القائم في العراق والمائل لمصلحة إيران، مع محاولة تجميله بمشاركة العرب السنة في مؤسسات الدولة في إطار «الستاتيكو» القائم. انتهت سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق المفضلة أميركياً بعد حرب جورج دبليو بوش على العراق واحتلاله العام 2003، فكرست قمة كامب ديفيد الواقع الجيو ـ سياسي الجديد مع تحسين مواقع الطرف الخليجي نسبياً، وليس عزل ايران أو جر واشنطن للمواجهة معها في العراق.

في المقابل، حصلت السعودية في اليمن على جائزتها كالتالي: «أكد المجتمعون ضرورة بذل الجهود المشتركة لمواجهة تنظيم «القاعدة في الجزيرة العربية» وضرورة التحول من العمليات العسكرية الى العملية السياسية عبر مؤتمر الرياض ورعاية دول الخليج العربية والأمم المتحدة لتسهيل التفاوض، على قاعدة مبادرة «مجلس التعاون الخليجي» ونتائج المؤتمر الوطني العام وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. وقد رحبوا ببداية المهلة الانسانية لمدة خمسة أيام لتسهيل وصول المعونات الانسانية لكل من هم في حاجة إليها، وأعربوا عن أملهم بأن تتطور الأمور في اتجاه وقف إطلاق نار طويل وشامل، وعن ترحيبهم بالمنحة الكريمة ومقدارها 274 مليون دولار التي قدمتها المملكة العربية السعودية للأمم المتحدة للقيام بمهامها الإنسانية في اليمن. وتؤكد الولايات المتحدة الأميركية من جديد التزامها ـ بالشراكة مع دول «مجلس التعاون» والأعضاء الآخرين في المجتمع الدولي ـ بمنع إعــادة تسليح القوات الحوثية وحلفائها وفقاً لقرار مجلس الأمن الرقم 2216». هنا تظهر إدارة أوباما نيتها الواضحة في دعم السعودية، التي تعتبر اليمن حديقتها الخلفية ومصدراً للأخطار على أمنها القومي.

في الملف السوري، أعطى أوباما الشركاء الخليجيين أكثر من المتوقع بخصوص الأسد ومستقبله، لكنه رسم بدوره حدوداً سياسية للحل وآفاقه: «التزم القادة بالعمل على التوصل إلى حل سياسي في سوريا ينهي الحرب ويؤسس لحكومة شاملة تحمي كل الأقليات الإثنية والطائفية وتبقي على مؤسسات الدولة. وأكدوا من جديد أن الأسد فقد كل المشروعية ولا دور له في مستقبل سوريا. ودعموا بقوة الجهود المتزايدة لتقليص وتدمير تنظيم «الدولة» وحذروا من تأثير المجموعات المتطرفة مثل «النصرة»، والتي تشكل خطراً على الشعب السوري والمنطقة والمجتمع الدولي».

وعن لبنان جاءت لهجة البيان المشترك روتينية وهادئة ولم تظهر انحيازاً إلى أحد المعسكرين، فيما يعني اعترافاً بموازين القوى القائمة فيه: «أعرب القادة عن مخاوفهم من تأجيل الانتخابات الرئاسية في لبنان، وناشدوا كل الأطراف تعزيز مؤسسات الدولة اللبنانية، وشددوا على أهمية البرلمان اللبناني في التحرك قدما لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بالتوافق مع الدستور». ولم تكتف الفقرة الخاصة بلبنان بذلك فقط، إذ أورد البيان أيضاً: «أكد القادة على تصميمهم على دعم الحكومة اللبنانية في مواجهتها لتنظيمي «الدولة» و»النصرة» اللذين يهددان أمن لبنان واستقراره».

باختصار، يرسم البيان المشترك حدود الأدوار الإقليمية للأطراف، بحيث يعين منطقة نفوذ إيران الإقليمي في العراق ويعترف ضمناً بمشاركتها في حل سياسي في سوريا وبنفوذ تحالفاتها في لبنان، ويفعل الشيء نفسه للسعودية في اليمن، تاركاً مستقبل الحل السياسي في سوريا لتعاون خليجي ـ تركي وفق الضوابط الأميركية المعلومة.

الخلاصة

عكس لقاء كامب ديفيد التغير الواضح في موازين القوى في الشرق الاوسط بعد تحسن العلاقات الأميركية ـ الإيرانية، فعين البيان المشترك حدود وقسمات التعاون الأميركي ـ الخليجي. ويظهر بوضوح من البيان المشترك للقمة أن الرئيس الأميركي باراك أوباما يريد تطوير علاقات بلاده مع الطرفين العربي والإيراني في آنٍ معاً، ما يظهر اختلافاً واقعياً عن السياسة الأميركية المعتمدة شرق أوسطياً منذ أكثر من ثلاثة عقود. بمعنى أن أوباما أعطى دول الخليج العربية التطمينات اللازمة لحمايتها في مواجهة الأخطار التي قد تأتي من إيران وبخاصة العسكرية منها، ولكنه وفي الوقت نفسه ـ طبقاً للمسكوت عنه في نص البيان المشترك ـ قد أفسح المجال لصعود الأدوار الإيرانية في المنطقة وفق ضوابط، في انقلاب واضح على السياسات الأميركية المعتمدة سابقاً. في المقابل، يظهر بوضوح أن أوباما يحاول تقوية الطرف العربي نسبياً في معادلات المنطقة بدعم واضح في اليمن ونسبي في سوريا، بالتوازي مع تدعيم علاقات واشنطن وأنقره لضمان لجم الطموحات الإيرانية في المنطقة وفقاً للـ «ستاتيكو» القائم. باختصار، ستتدخل أميركا في المنطقة عسكرياً فقط في حال تهديد منابع النفط وطرقه البحرية ولمواجهة الإرهابيين. أما مهمة ضبط الصراعات المحلية فستسند إلى الأطراف الإقليمية لتتعامل معها وفقاً للضوابط الأميركية المعلومة، والإطار المرسوم لتوازنات المنطقة!

السفير

 

 

 

 

كامب ديفيد” الأميركية – الخليجية شكوك باقية وأولويات متباينة

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

استضاف الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في منتجع كامب ديفيد الرئاسي في ولاية ميرلاند الأميركية، في 14 مايو/أيار 2015، قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وقد جاءت هذه القمة الأميركية – الخليجية في سياق محاولات إدارة أوباما احتواء القلق الخليجي المتنامي إزاء تداعيات توصّل مجموعة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا (5+1) إلى اتفاقٍ نووي نهائي مع إيران أواخر يونيو/حزيران المقبل. وتخشى دول الخليج العربية أن يؤدي رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، وإعادة أموالها المحتجزة في الولايات المتحدة بموجب الاتفاق، إلى زيادة جرأتها في دعم حلفائها في كلٍ من العراق وسورية واليمن ولبنان. كما تخشى هذه الدول أن يتركها الانكفاء الأميركي عن منطقة الشرق الأوسط مكشوفةً أمام أي تغوّل إيراني محتمل، خصوصاً أنّ الاتفاق النووي النهائي سيُبقي، على الأرجح، على البنية التحتية النووية الإيرانية. وقد حاولت إدارة أوباما جاهدة طمأنة الحلفاء الخليجيين بالتزامها أمنهم، عبر ترتيبات أمنية وعسكرية متفق عليها، غير أنّ الضمانات التي قدمتها واشنطن في القمة لم تصل إلى درجة توقيع معاهدةٍ للدفاع المشترك. وفيما كانت دول الخليج تحاول انتزاع التزامات أميركية أكثر تحديدًا حيال أمنها، سعت إدارة أوباما إلى انتزاع موافقة خليجية على اتفاقٍ نووي مع إيران، لتعزيز موقفها أمام الكونغرس، المتشكّك في النيات الإيرانية، وفي التزام طهران أيّ اتفاق يمكن التوصل إليه.

 

تقلّص الثقة بالحليف الأميركي

لم يكن التوصّل إلى عقد القمة الخليجية – الأميركية أمرًا سهلًا؛ إذ غاب عن القمة أربعة زعماء خليجيين من أصل ستة. وإذا كان غياب سلطان عُمان ورئيس دولة الإمارات مفهومًا لأسباب صحية، فإنّ غياب العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي بقي في الرياض، للإشراف على الهدنة الإنسانية التي أعلنتها المملكة العربية السعودية حينها في اليمن، لا يمكن فهمه خارج سياق الشكّ والإحباط الخليجيين من إدارة أوباما. ودليلاً على التوتّر غير المعلن في العلاقات، أعلن البيت الأبيض، قبل أسبوع من عقد القمة؛ أي في الثامن من أيار/ مايو، أنّ العاهل السعودي سيشارك في القمة، غير أنّ الرياض أعلنت، بعد يومين من ذلك، عن إيفاد كلٍ من ولي العهد الأمير محمد بن نايف، وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لحضور القمة، بدلًا من الملك.

“سعت إدارة أوباما إلى انتزاع موافقة خليجية على اتفاقٍ نووي مع إيران، لتعزيز موقفها أمام الكونغرس، المتشكّك في النيات الإيرانية، وفي التزام طهران أيّ اتفاق يمكن التوصل إليه”

ولا تعدّ تداعيات الاتفاق النووي المزمع التوصل إليه بين إيران والدول الكبرى مصدر القلق الوحيد للدول الخليجية، بل ثمة قلقٌ خليجيٌ، أيضًا، من تراجع التأثير الأميركي في المنطقة، ومحاولات إيران ملء الفراغ الناجم عن ذلك في مناطق عديدة؛ كما في العراق وسورية واليمن. ويعدّ هذا أحد الأسباب التي دفعت دول الخليج العربية، بقيادة السعودية، إلى أخذ زمام المبادرة، بعيدًا عن واشنطن؛ فهي ترى أنّ الولايات المتحدة رهنت كل شيء في المنطقة بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، وبالتوصل إلى اتفاقٍ نووي مع طهران.

تباين في الأولويات

يمكن القول، من خلال التصريحات المتباينة للطرفين، إنّ ثمة خلافًا حول ترتيب الأولويات وكيفية التعاطي معها؛ فالدول الخليجية تسعى إلى الحصول على قائمة من الضمانات الأمنية التي يمكن الاعتماد عليها، لمواجهة أي توسّع إيراني مباشرٍ أو غير مباشرٍ، عبر وكلائها في المنطقة، في حال رُفعت العقوبات عنها، بموجب اتفاقٍ نووي، لا سيما إذا بدأت بتسليح نفسها بأسلحة أكثر تقدمًا. في حين تريد الولايات المتحدة من حلفائها الخليجيين أن يكونوا داعمين مثل ذلك الاتفاق، مع منحهم ضمانات أمنية وعسكرية محدودة. ولعل ما يقلق الحلفاء الخليجيين موقف أوباما، ولغته المواربة تجاه إيران، وخصوصاً مع رفض إدارته توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع مجلس التعاون؛ فقد كان لافتًا تصريح أوباما، في المؤتمر الصحافي، بُعيد انتهاء أعمال قمة كامب ديفيد، إذ قال: “دعوني أكون واضحًا جدًا هنا: الغرض من أي تعاون استراتيجي ليس إدامة مواجهة طويلة مع إيران، أو حتى تهميش إيران”

ولأنّ أي اتفاقٍ نهائي محتملٍ مع إيران سيبقي على البنية التحتية النووية الإيرانية قائمة، فضلًا عن احتفاظها بأجهزة طرد مركزي ذات قدرة محدودة على تخصيب اليورانيوم 15 عامًا، ولأنّ احتفاظها بمهاراتها التقنية النووية (know-how) وقدرتها على تخصيب اليورانيوم سوف يمكّنها من تصنيع قنبلة نووية في المستقبل إذا قررت ذلك، فإنّ دولاً خليجية ألمحت إلى أنها قد تسعى إلى تطوير برامجٍ نوويةٍ خاصةٍ بها. وبهذا، فإنّ أكثر ما يقلق إدارة أوباما هو إطلاق سباق تسلحٍ نووي في المنطقة، خصوصًا مع إعلان السعودية أنها ستسعى إلى الحصول على قدرات نووية مساوية لأي قدرات نووية تمتلكها إيران بموجب أي اتفاقٍ نهائي. ومع أنّ الولايات المتحدة تعارض حصول سباق تسلحٍ نووي في المنطقة، فإنها لا تقدِّم، في الوقت نفسه، ضمانات كافية وذات موثوقية عالية لحماية دول الخليج العربية، في حال امتلكت إيران سلاحًا نوويًا في المستقبل، ومثال ذلك أنّ إدارة أوباما رفضت أن تشمل الخليج العربي ضمن مظلتها الحمائية النووية.

“الدول الخليجية تريد دعمًا أميركيًا أوسع في سورية، لتغيير نظام الرئيس بشار الأسد، ووقف الصراع الذي دمّر البلاد وشرّد أكثر من نصف سكانها، في حين يرى أوباما أنّ الصراع في سورية “ربما لن ينتهي” قبل أن يغادر هو نفسه السلطة”

وبرز تباين آخر مهم بين الطرفين في الملفين، السوري واليمني؛ فالدول الخليجية تريد دعمًا أميركيًا أوسع في سورية، لتغيير نظام الرئيس بشار الأسد، ووقف الصراع الذي دمّر البلاد وشرّد أكثر من نصف سكانها، في حين يرى أوباما أنّ الصراع في سورية “ربما لن ينتهي” قبل أن يغادر هو نفسه السلطة. أما في الموضوع اليمني، فقد دعا البيان الختامي الصادر عن القمة إلى الحفاظ على وقف إطلاق النار هناك والانتقال من العمليات العسكرية إلى عملية سياسية عبر مؤتمر الرياض. والمعروف أنّ الولايات المتحدة هي من ضغطت من أجل الهدنة التي أعلنها التحالف العربي مدة خمسة أيام (12-18/5/ 2015) مع الحوثيين والقوات الموالية للرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح. وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة تعهّدت بالتصدي “لأنشطة إيران التي تزعزع الاستقرار في المنطقة”، سواء أكان هناك اتفاق أم لا، فذلك لا يبدو مؤكدًا في ظل الغموض والتردد الأميركي في سورية واليمن، وتركيزها على محاربة تنظيمي “داعش” والقاعدة، وهو ما يضاعف القلق الخليجي إزاء المواقف الحقيقية للحليف الأميركي.

إيران جوهر الخلاف

شكّل تأمين دعم دول الخليج، أو على الأقل، عدم إبداء معارضة قوية لاتفاقٍ نهائي محتملٍ مع إيران في يونيو/حزيران المقبل، الدافع الرئيس وراء الدعوة الأميركية لعقد قمة كامب ديفيد. وعلى الرغم من أنّ البيان الختامي للقمة حقّق بعض ما أرادته الإدارة الأميركية؛ في نصّه على موافقة دول الخليج العربية على أنّ “اتفاقًا شاملًا يمكن التحقّق من تنفيذه” مع طهران سيكون في مصلحتهم، فإنّ أوباما لم يتمكّن من تأمين دعمٍ خليجي غير مشروطٍ لمثل هذا الاتفاق المفترض، ولا حتى لاتفاق الإطار الذي تم توقيعه سابقًا. وقد اعترف أوباما نفسه بذلك، عندما قال، في المؤتمر الصحافي الذي تلا القمة إنّ مستشاريه أطلعوا المسؤولين الخليجيين على تفاصيل الاتفاق المحتمل مع إيران، لكنه لم يطلب منهم أن “يوقعوا” للموافقة عليه، كما أنه أقر بمشروعية بواعث القلق لدى الدول الخليجية حول تخفيفٍ محتملٍ للعقوبات على إيران، وما يمكن أن يؤدي إليه من تعزيز أنشطتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة. وحسب وزير الخارجية السعودي، فإنّ القادة العرب تلقوا تطمينات بأنّ هدف أي اتفاق نهائي هو منع إيران من تطوير سلاح نووي، أو امتلاك القدرة على تحقيق ذلك، وقطع كل الطرق بهذا الاتجاه، لكنه أضاف إنه من المبكر تحديد موقفٍ بقبول الاتفاق. وتكمن المفارقة في أنّ أوباما نفسه يقرُّ بأنّ إيران، سواء أكان هناك اتفاق معها أم لا، ستبقى تشكِّل تهديدًا لاستقرار المنطقة؛ ما يعيد إنتاج الهواجس الخليجية إزاء مدى الاعتماد على الوعود والضمانات الأميركية غير الحاسمة.

علاقات أمنية دون الطموح

شكّلت مسألة الشراكة الأمنية والدفاعية أحد أهم الملفات التي ناقشها الطرفان، الأميركي والخليجي، في قمة كامب ديفيد. فالدول الخليجية جاءت إلى القمة، وهي تطمح إلى الحصول على علاقات دفاعية أوثق، تصل إلى حدِّ معاهدةٍ للدفاع المشترك، وهو ما أوضحت إدارة أوباما سلفًا أنها غير متحمسةٍ لتقديمه. وجادل مسؤولو إدارة أوباما بأنّ معاهدةً مكتوبةً بهذا الشأن لن تكون مجديةً، وهي غير ضروريةٍ، وبأنّ تأكيدات الرئيس أوباما على التزام الولايات المتحدة أمن الخليج تعدُّ كافية. وبالفعل، نصّ البيان الختامي للقمة على أنّ الولايات المتحدة “تتشارك مع حلفائها في مجلس التعاون لدول الخليج العربية … في مصلحة حيوية، تتمثّل في دعم الاستقلال السياسي وسلامة أراضي أعضاء المجلس ضد أي عدوانٍ خارجي. إنّ سياسة الولايات المتحدة تقوم على استخدام كل عناصر القوة (بما في ذلك القوة العسكرية) لحماية مصالحها في منطقة الخليج، وردع أي عدوان خارجي على حلفائها وشركائها ومجابهته”. وتتلخّص الإجراءات الأميركية المقصودة، والتي جاءت في ملحقٍ خاصٍ، في: تطوير نظام دفاعي صاروخي باليستي مشترك ومتكامل بين دول مجلس التعاون كلها، بما في ذلك نظام إنذار مبكر بمساعدة فنية أميركية، وتركيز مبيعات الأسلحة وتسريعها، وزيادة التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة ضد التهديدات الخارجية وضد الإرهاب، وتعزيز أمن الشبكات الإلكترونية ضد أعمال القرصنة، وتعزيز الأمن البحري، وتدريب القوات الخاصة والأجهزة الاستخباراتية الخليجية.

“إدارة أوباما لا يعنيها، في هذه المرحلة، إلا التوصّل إلى اتفاقٍ نووي مع إيران، يجعلها شريكًا في الحرب على تنظيم “داعش””

وتتطلب جميع الإجراءات السابقة جهدًا خليجيًا ذاتيًا بدعم أميركي، ولا تدخل هذه الإجراءات، عمليًا، في سياق دفاعٍ أميركي تلقائي وفوري عنها، في مواجهة أيّ أخطار خارجية. وأقصى ما تفكّر الولايات المتحدة في عرضه على الدول الخليجية هو وضع “حليفٍ رئيسٍ غير عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتي تتيح للدول المنضوية تحت هذا الوضع حقّ الحصول على مساعدات وتدريبات متاحة لأعضاء حلف الناتو فحسب، لكنها لا تصل إلى حدّ الدفاع المشترك.

خلاصة

أصبح من الواضح لدى دول الخليج العربية، بعد قمة كامب ديفيد، أنّ إدارة أوباما لا يعنيها، في هذه المرحلة، إلا التوصّل إلى اتفاقٍ نووي مع إيران، يجعلها شريكًا في الحرب على تنظيم “داعش”. وفي سبيل ذلك، هي مستعدة للتغاضي، ولو لبعض الوقت، عن أنشطة إيران الأخرى المزعزعة للاستقرار في المنطقة العربية. وتسعى إدارة أوباما إلى الحصول على مساعدة دول الخليج العربية في إقناع الكونغرس بقبول هذه السياسة من جهة، كما تريد منها القبول بمهادنة إيران وعدم التصعيد ضد سياسات التغوّل التي تتّبعها في المنطقة العربية. وفي الوقت نفسه، تريد إدارة أوباما إيصال رسالةٍ ضمنيةٍ إلى الخليجيين بأنّ الدفاع عن مصالحهم وأمنهم غداً يقع على عاتقهم، ويعتمد بشكلٍ رئيسٍ على إمكاناتهم الذاتية، وأنّ دور الولايات المتحدة مكمل للدور الذاتي الخليجي. وفي هذا السياق، يمكن فهم حجم الاستياء الخليجي من سياسات إدارة أوباما في المنطقة، وفهم قلقهم تجاه مفاوضاتها مع إيران؛ وهو ما يتطلب، في المحصلة، أخذ زمام المبادرة، بعيدًا عن انتظار الضوء الأخضر الأميركي، كما جرى في اليمن.

وبناء عليه، يتطلب اعتماد دول الخليج على نفسها للتصدي للتحديات الكبرى في المنطقة، كالتدخلات الإيرانية، مواجهتها بوسائل عدة؛ فكما لا يجري التدّخل الإيراني في شؤون المنطقة عبر الاجتياح المباشر، وإنما عبر أطرافٍ محلية، فإنّ مواجهته لا تتطلب الاستعدادات العسكرية فحسب، مع أهميتها، وإنما تتطلب، أيضًا، بلورة سياسات اجتماعية واقتصادية، تساهم في تماسك المجتمعات العربية في الخليج والمشرق العربي عمومًا. ومن هنا، فإنّ أي مواجهة عسكرية مستقبلية تتطلب تعزيز عناصر القوة الذاتية، ورفع مستوى التنسيق بين دول الخليج، ومصارحة المجتمعات الخليجية بأنّ تعزيز عناصر القوة مجتمعة في مصلحة سيادة دولها، ولتقليص اعتمادها على الخارج. تحقيق هذا الهدف ممكنٌ، لكنه يتطلب ثمنًا وتغييرًا في الثقافة السائدة، وفي نمط الحياة التي اعتادت عليه فئات واسعة من هذه المجتمعات.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

أوباما و”عقلانية” إيران “الاستراتيجية”/ خالد الدخيل

أستميح القارئ عذراً باستعادة ما استشهدت به الأسبوع الماضي من كلام للرئيس الأميركي باراك أوباما قاله العام الماضي. حينها قال بالنص: «عندما تنظر إلى السلوك الإيراني سوف تجد أن للإيرانيين استراتيجية، وليسوا متهورين. يملكون رؤية عالمية. ينظرون إلى مصالحهم، ويستجيبون لعوامل التكلفة والفائدة. هذا لا يعني أن إيران ليست دولة ثيوقراطية (دينية)، وتتبنى كل الأفكار التي أعتبرها بشعة. لكن إيران ليست كوريا الشمالية. إيران دولة كبيرة وقوية، ترى نفسها لاعباً مهماً على المسرح العالمي. لا أظن أنها تملك رغبة انتحارية، بل يمكنها الاستجابة للحوافز» («بلومبرغ»، 27 شباط /فبراير 2014).

هذا ما قاله أوباما مع بداية العام الماضي. هذا العام، وفي حديث مطول آخر مع مجلة «أتلانتيك» الأميركية، قال كلاماً آخر يتكامل مع ما قاله من قبل. في هذا الحديث تناول السعودية واحتمال امتلاكها برنامجاً نووياً مماثلاً للبرنامج الإيراني. سأعود الى هذا لاحقاً. قبل ذلك أريد الإضاءة على التناقض العميق في ما قاله أوباما العام الماضي.

يؤسس الرئيس بهذا الكلام للنتيجة التي يتوقعها من وراء الاتفاق النووي. عقلانية القيادة الإيرانية، وفق تحليله، ستمكِّنها من رؤية فوائد وحوافز الانفتاح على العالم، واستعادة ما يربو على 150 بليون دولار إلى خزانتها، وإن ليس دفعة واحدة، وتدفق الاستثمارات الخارجية عليها. يتوقع الرئيس أن تكون استجابة القيادة الإيرانية لذلك عقلانية. ستوظف هذا الانفتاح، وتلك الأموال والاستثمارات في تحسين الوضع الاقتصادي في الداخل: رفع مستوى الدخل، الاستثمار في التنمية البشرية من تعليم وتدريب، وضخ الأموال في مشاريع النفط والغاز، وغيرها، مثل تحديث البنية التحتية، وطرق التجارة، والسياحة، والصناعات غير العسكرية.. إلخ. كلام الرئيس منطقي تماماً، وهو ما يجب أن يحدث. لكن المنطق لا يتطابق دائماً مع الواقع. المنطق أكثر بساطة ومباشرة من الواقع. هنا سؤال بسيط: لماذا احتاجت القيادة الإيرانية إلى مقاطعة وعزلة مؤلمة بهذا الحجم لتكتشف بعد أكثر من 30 سنة أن وطأتها قاسية وضارة، وأنه لا بد من التخلص منها؟ ثم لنفترض أن القيادة الإيرانية فعلت كل ما يتوقعه الرئيس. ماذا ستفعل أولاً بفلسفتها السياسية، وهي فلسفة ثيوقراطية تتناقض رأساً مع المنطق الرأسمالي الليبرالي الذي ينطلق منه؟ ثانياً ماذا ستفعل بكل الميليشيات التي تتبناها في العراق وسورية ولبنان؟ وقبل هذا وذاك، ماذا ستفعل بكل الاستثمارات العسكرية والسياسية والمالية التي استثمرتها في مغامراتها في المنطقة منذ 2003؟ ماذا ستفعل بحلفائها خارج إيران: الطبقة السياسية في كل من العراق وسورية، إلى جانب من ارتبط بهم وبها من تجار، وسياسيين، ومقاولين وكتّاب، ورجال دين، ومقاتلين، وقادة عسكريين، وفضائيات، وأحزاب؟ خيط هؤلاء يمتد من طهران حتى بيروت. إذا تخلت إيران عن كل ذلك، ستثبت قيادتها حقاً أنها عقلانية، لكنها عقلانية تتطلب في الأخير التخلي عن الهوية المذهبية، وعن آلية الميليشيا، أو الحرب بالوكالة، كأساس لمشروعها ودورها الإقليمي. المفارقة هنا، أن قبول إيران بهذه النتيجة يرقى إلى مستوى الانقلاب على نظام «الجمهورية الإسلامية» بصيغته الحالية وسياساته، وهو انقلاب يقترب من حافة الانتحار. لكن أوباما يقول إن أهم ما يميز هذه «الإيران» أنها لا تريد الانتحار.

هنا يتبدى التناقض الحاد في كلام الرئيس. ومصدر ذلك عدم التمييز بين إيران المجتمع والتاريخ من ناحية، وبين النظام السياسي الذي يحكم إيران منذ 1979. تغيب في حديث الرئيس عن العقلانية طبيعة النظام السياسي الثيوقراطي ومركزيته، وأن له وطأة وتبعات سياسية واجتماعية مدمرة على العقلانية التي يختزنها مجتمع الإيرانيين وتاريخهم. ويتضح هذا في أمرين: داخلياً في تجاور الفكرة الدينية لولاية الفقيه، التي تمنح المرشد أعلى سلطة في الدولة، وإجراءات «انتخابية دنيوية» تحمل شبهة ديموقراطية، لكنها مقيدة دستورياً بمتطلبات الهوية المذهبية للدولة، مراعاة لفكرة ولاية الفقيه وحاكميتها على الدولة. وتتضح خارجياً في السياسة الإقليمية لإيران التي تنطلق ليس من المصلحة الاقتصادية والسياسية لإيران كدولة ومجتمع، وإنما من مصلحة طبقة رجال الدين الحاكمة. الرؤية الموجهة لهذه الطبقة ولسياساتها إقليمياً هي رؤية دينية – مذهبية. ولأنها رؤية غيبية فهي تجمع بين الطائفة كأيديولوجيا، وليس المواطنة وحرية السوق وحرية الفرد من ناحية، والميليشيا كأداة عسكرية لهذه السياسة. ما هو العقلاني في مثل هذا النظام، وهو يستند محلياً وإقليمياً على تحالفات مذهبية، وامتداداً لذلك يتبنى سياسة داخلية وخارجية تعمق الحمية الطائفية، وتستجدي الانقسامات الأهلية كوسيلة لنشر النفوذ؟ هل من العقلانية أن اسم إيران ارتبط في المنطقة بالطائفية والميليشيات، والحروب الأهلية، والاغتيالات؟

إذا تركنا تنظير الرئيس وجئنا إلى سياسته على الأرض في العراق، نجد أنها سياسة فاشلة، ولن تقود إلا الى المزيد من الفشل والدمار وتقسيم العراق. وهو بسبب حاجته للاتفاق النووي، يتفادى الطبيعة الطائفية للدور الإيراني، وأن هذا الدور، بمركزيته ونفوذه، هو أحد أهم العوامل التي تحول دون قيام حكومة وطنية في العراق. يريد أوباما مواجهة الإرهاب في العراق، لكنه لا يرى إلا «داعش». لا يمكن اتهام الرئيس بالغباء أو السذاجة هنا، لكن يمكن اتهامه بميكيافيلية مدمرة، وإلا فذكاؤه السياسي وموقعه يسمحان له بإدراك أن الإرهاب بعد الغزو الأميركي للعراق لم يعد ظاهرة مستقلة بذاتها، وإنما أصبح مرتبطاً عضوياً بالطائفية، وأن هذه الطائفية أصبحت قوة سياسية فاعلة على الأرض ترتبط بها مصالح دول، وأحزاب، ومؤسسات وميليشيات، وبالتالي فإن اختزالها في هذا الفصيل أو ذاك هو سبيل للفشل. في السياق نفسه، يتفادى أوباما حقيقة أن الحكومة العراقية هي حكومة طائفية، في عهد المالكي بشكل فج ومباشر، وفي عهد حيدر العبادي بشكل موارب ومستتر. والدليل أن حكومة العبادي تعتبر الهوية السنية لسكان الرمادي (وكل العراق) مصدر تهديد لأمنها، ولذلك تشترط لدخولهم العاصمة بغداد حصول كل واحد منهم على كفيل، ما يعني نزع المواطنة عنه بدواع مذهبية. الذنب الوحيد لهؤلاء أنهم سنّة هربوا من مدينتهم بعد سقوطها في يد «داعش» السنية، ويريدون اللجوء إلى العاصمة. واستكمالاً لمنطق مقاربته، يفصل أوباما حال العراق عن الحال في سورية، على رغم كل ما يربط بينهما من «داعش»، وبقية الميليشيات، إلى الدور الإيراني الواحد في أدائه وأهدافه في كل منهما. كل ذلك يؤكد واحداً من اثنين: إما أن أوباما غير آبه بما يحصل من دمار، وهذا واضح جداً في موقفه من سورية، وإما أنه لا يملك خطة ولا استراتيجية، وأن كل ما يطمح إليه في ما تبقى من فترته الرئاسية هو منع الوضع في سورية والعراق من عرقلة التوصل إلى اتفاق مع إيران.

يريد أوباما إضعاف «داعش» وصولاً إلى تدميره. لنفترض أن هذا تحقق. ماذا بعد ذلك؟ ماذا عن الميليشيات الأخرى، سنية وشيعية؟ كان هدف من جاؤوا قبل أوباما إضعاف «القاعدة» وصولاً إلى تدميره، وانتهى الأمر ببقاء «القاعدة» وتوالد ميليشيات أعدادها الآن أضعاف عدد الدول، وتنتشر في أغلب أرجاء العالم العربي. يصر أوباما على سياسة فاشلة مثل هذه، لأنه يريد أن يصنع فرقاً في تاريخ الرئاسة الأميركية، وسبيله الوحيد لتحقيق ذلك اتفاق نووي مع إيران!

في هذا السياق يأتي حديثه عن السعودية ودول الخليج، إذ يؤكد أن أياً من هذه الدول لم يطرح في قمة كامب ديفيد الأخيرة إمكان امتلاكها لبرنامج نووي، وأنها -وفق قوله- ليست في حاجة لذلك، فـ «الحماية التي توفرها الشراكة معنا أقوى بكثير مما يمكن أن يوفره برنامج نووي». ثم يوجه تحذيراً مبطنا بقوله: «إن سعي هذه الدول لامتلاك برنامج نووي سري سيؤدي إلى توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة» (مجلة «أتلانتيك»، 21 أيار/ مايو 2015). السؤال: ما الذي يمنع الجمع بين علاقة شراكة قوية مع الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه امتلاك برنامج نووي ضمن الحدود التقنية التي يستند إليها الاتفاق مع إيران؟ ثم ما الذي يضمن أن رئيساً أميركياً في المستقبل لن يأخذ التغير الذي أحدثه أوباما في السياسة الأميركية خطوة أخرى في اتجاه ضرورة قبول إيران دولةً نووية، وأنه يمكن احتواء إيران النووية مثلما حصل مع الاتحاد السوفياتي أيام الحرب الباردة؟ الأرجح أن هذا ما سيحصل إذا تغير النظام الإيراني داخلياً بما يتفق مع المصلحة الأميركية. وإذا كانت سياسة أوباما تجاه المنطقة تتأرجح، كما رأينا، بين التناقض وأحلام لا تمكن المراهنة عليها، فمعنى ذلك أنه يريد رهن المستقبل الأمني للسعودية والخليج لأحلامه وطموحاته بأن يصنع فرقاً في تاريخ الرئاسة الأميركية، وهذا لا يمكن أن يكون مقبولاً.

الشراكة مع أميركا لا يجب بأي حال أن تعني الاعتماد الكلي عليها لحماية الأمن الوطني للسعودية ودول الخليج. تجربة المنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق، وانكفاء أوباما يعنيان أن العلاقات السعودية- الأميركية وصلت ذروتها مع «عاصفة الصحراء»، بعدها دخلت مرحلة مختلفة تحيط بها الكثير من المخاطر، وهو ما يستوجب أمرين: الاعتماد على الذات بالبناء الداخلي سياسياً واقتصادياً، وامتلاك برنامج نووي يحفظ التوازن مع إيران، ومع إسرائيل أيضاً. هذه مرحلة مليئة بالعواصف، ولا يمكن التنبؤ بالوجهة التي قد تتخذها هذه العواصف وما قد تسفر عنه من توازنات وتحالفات في المستقبل.

إذا كان لا يمكن الاعتماد على سياسات أوباما، فإنه لا يجوز الركون إلى ما يقوله، ويعد ويحلم به.

* أكاديمي وكاتب سعودي

الحياة

 

 

 

 

الحلف الخليجي الأمريكي: تبعية أم ضرورة؟/ مطاع صفدي

يشعر الخليجيون أنهم أُخذوا على حين غرة. فالواقع هو الذي تغير. انقلبت موازين القوى رأساً على عقب. ليست هي الأقوال أو الآراء التي يمكنها أن تطلق هنا وهناك قادرةً حقاً على تغطية وقائع الأمور على الأرض. فقد اكتشف الناس فجأة أنهم أمسوا يتعاملون مع الفراغ. ما حدث في السياسة أخيراً هو الذي أعاد طرح مسألة الوجود أو عدمه من الأساس ـ وكل شيء آخر غير هذه السياسة الراهنة لن يحدث فارقاً حقيقياً في شيء.

والمؤتمر مع أوباما كانت نتيجته الوحيدة أنه أثبت كل ما كان يحاول أن ينفيه. فلقد تابع الجميع فصوله من جلسة إلى أخرى، ومن لقاء إلى آخر، ومن خطاب لهذا المسؤول وذاك. وخرج الجميع، هنا وهناك محبطين، كما جاؤوا منذ البداية. ولم يكن تخلّف بعض قادته الرئيسيين عن المشاركة سوى دليل مسبق على عقم نتائجه، أوباما نفسه لم يكن يملك سوى الوعود. كان نشاطه البلاغي والكلامي يشتغل على هوامش المشكلة وليس في متنها.

الزعماء الحاضرون هناك كانوا يعلمون منذ البداية أنهم لن يُبدّلوا شيئاً من قناعات الرئيس الأمريكي. وأن المطلوب من هذا المؤتمر هو تغيير انطباعاتهم هم. كأنما لا بد أن يتحقق هذا التغيير عاجلا أو آجلاً. ذلك أنه أمام الأمر الواقع تنتفي عادة كل الخيارات الأخرى في المحصلة، تلك المتعلقة بموضوعه تحديداً. ولكن يبقى التحول كلياً نحو موضوعات مختلفة تخص الطرف الثاني المضحّى به وحده.

ذلك أن كل الإجراءات الدفاعية حتى آخر تطوراتها لِرَدّ أقوى الصواريخ، لن تعوض عن فداحة الخلل الكبير فيما ستكون عليه معادلة القوة مع الخصم (المخيف) عندما سيطلق سراحه من سجن العقوبات الدولية، وتعاد إليه أمواله الفلكية المحجورة ويمارس علاقاته وتدخلاته الإقليمية بدون حسيب ولا رقيب. ومع ذلك لن تكون المشكلة في استرداد (الخصم) لحريات نشطاته السياسية، ولكنها في العقلية الموجهة، وهدفيتها الامبراطورية القروسطية المزمنة. هذه الهدفية التي لا يرى زعماء إيران من ساحة لها إلا العالم العربي والإسلامي، وبدءاً من الوطن المجاور الخليجي.

إن كان ثمة خلاصة يخرج بها الجانب العربي من قمة كمب ديفيد فهو أنه حان الوقت الذي يحرر فيه بعض قادة الخليج أنفسهم من أسر (الصداقة) الأمريكية في الوقت الذي يصر أوباما، ويجازف بسمعة عهده كلها جارياً وراء (تحرير) إيران.

أليست هي مركزية الاستراتيجية الدهرية للغرب تحت عنوان استهلاك الخصم بأفعاله وحدها. فلقد نجحت خطط توطين أعلى أشكال العنف الجماعي في المشرق العربي طيلة سنوات هذا «الربيع» الذي اعتقد ادعياؤه أنه هو الآتي بالحرية والكرامة إلى الشعوب المحرومة من طعم الحياة، فلم يأتهم فعلاً وواقعاً إلا بفظائع ما قبل التاريخ وكوارثه الجنونية الرهيبة…

هل هو هَوَسُ الإمبراطوريات لا يزال يركب عقولَ قادةٍ وأتباعٍ ودُعاة ومبشرين في هذه المنطقة من عالم القرن الواحد والعشرين.

إنها الإمبراطوريات الفارسية والعثمانية والعربية. وهي جميعها كانت لها تجاربها التاريخية. ولقد احتواها جميعها الإسلامُ فيما أنشأ من تفاعلها حضارة عظمى لصالح الإنسانية التي هي أمة الأمم كلها. لكنها كانت لها أدوارها ثم نُفيتْ إلى متاحف الثقافات العالمية. وجودها المتحفي ذاك هو دليل خلودها المعنوي، مع استحالة استعادتها أو تكرارها في سياق عصرٍ مختلف عنها في كل شيء.

ولأن انبعاثها راهنياً لن تكون له ثمة براهين إلا ما أتت به سنوات الفظائع الأربع الماضية؛ ليس هناك سوى فئويات المقتلات والأهوال إذ تكلّلها أساطير الجهل والغيبيات البدائية مع إباحة كل أصناف الجرائم الجماعية والفردية، فإن عودة المشاريع الإمبراطورية إلى أرض الإسلام، وانطلاقها خاصة من بعض جيران العرب لا تعني هذه العودة إلا تشريع وحشيات القرون الأولى مجدداً، وتحت أسماء الدين ومذاهبه المندرسة منها والمختلقة الجديدة.

حقاً فإنه لا يمكن الاستغناء عن أمريكا. هكذا يقول لسان حال حكام الخليج. وقد يكون اليوم بعضهم قد ازداد تشبثاً بتلك «العقيدة»، وفي هذا المنعطف الحدي في نوعية العلاقة مع الأخ الأكبر ما وراء المحيطات. غير أنه إذا كانت أمريكا هي حليف الضرورة الكبرى، إلا أن الخليج، بثرواته الطبيعية والمواقعية لا يزال وسيبقى يمثل حاجة حيوية أولى أمريكياً وعالمياً، فقد حان لدوله أن تنهض من مستوى الأتباع الصغار إلى سوية الأنداد لطالبي صداقاتهم؛ لكن متى يمكن لعلاقات التبعية أن تنقلب إلى علاقات تحالفات بين متساوين في الأقل من حيث القيم الإنسانية. أما الاعتبارات الحضارية فهي أمور نسبية، وتحصيل مراتبها لم يعد مستعصياً، وخاصة عندما يتوفر نوع الوعي بطبيعة الأخطار ذات التوجه الجماعي، أي حين يمكن للجيل الصاعد، ولمثقفيه الملتزمين أن ينقلوا السياسة الإقليمية من كونها ممارسة قبلية فخرية إلى صعيد استراتيجية وجودية شاملة.

إن كان ثمة درس يعود به زوار الخليج من ضيافة أوباما «الأخ الأكبر»، فهو أنه فات الآوان على محاولة تعديل ما جرى في سياق القرار الإيراني لأوباما. لكن، ربما ينفتح أمامهم عالم عربي وإسلامي، بدءاً من كل قطر خليجي وإلى عمق كل بيت في الوطن الأكبر. هناك حيثما أوطانٌ لكنوز الإنسانية وثرواتها اللانهائية فيما تحتاجه أعظم المدنيات الآتية.

ما يعنيه الأمن الخليجي اليوم، هو نداؤه على الأمن القومي. ليس للتعاون المتبادل، بل للتكامل العضوي والمدني. إنه برنامج عظيم وغير مسبوق. لعله نهضة ثالثة طال انتظارها يمكن لها أن تجمع لأول مرة بين قوى (الأمة) الثلاث: الثروة، والحرية والعقلانية.

إنه برنامج «الربيع» الحقيقي ناعياً لاغياً لكل النسخ الأخرى الزائفة عنه. ومحبطاً لاستراتيجية الاستهلاك المستدام تحت الأسماء الكبيرة المقدسة وأمثالها. ومن مدخل تجاوز أصناف حروب الأهليات والمذهبيات، بعد الإنتهاء من أساطير الإمبراطوريات اللاتاريخية من أجل إرساء واحد من مجتمعات الأسياد الأحرار من دون أية عبوديات.

الغرب اتخذ قراره وراء زعيمه الأمريكي الأسمر باستئناف سياسة الإمبراطوريات الفرعية لامبرياليته المطلقة. بقي على العرب أن يعيدوا وحوش ماضيهم إلى أقفاصهم المظلمة. أن ينقذوا ربيعهم من قَتَلة ازهاره وذابحي أطفاله. إنها مهمات لم تعد مستحيلة..

 

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

 

نظرة إلى ما وراء الحدود/ طارق زيدان

بينما يركـــز البعض على تنقلات قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في العراق، وانتشار «حزب الله» على طول الحدود السـوريــة اللبنانية، وانفلاش الحركة الحوثية على أرض اليمن، تزكـــي هـــذه المتابعة مقولة للزعيم الصيني ماو تسي تونغ حين قال: «احملوا السلاح دفاعاً عن حـــدودكم، وتأملوا في الوقت نفسه أحوال العالم وراء هذه الحدود». ففي ضوء هذه العبارة يتراءى لنا مصير أحـــوال المشرق العربي الغارق في الصراعات الطائفية والأهلية، فـي حين يتم الاتفاق ما وراء الحدود العربية على الإطار المبدئي ما بين إيران والدول الخمس+1 على برنامج طهران النووي.

الكثيرون ممن واكبوا المفاوضات المباشرة وغير المباشرة بين أميركا وإيران منذ عام 2001، يُجمعون على أن حيازة طهران التكنولوجيا النووية أصبحت أمراً محسوماً، إذ تم الاعتراف بإيران كدولة «حافة نووية». ولم يبقَ إلا ترتيب الملفات المتعلقة بالمنطقة. من هنا يمكننا القول إن ثمة تغييراً كبيراً قد حصل، وإذا تغير سلوك أميركا تجاه إيران، يجب ألا نستغرب تبدلاً في سياسات حكام طهران.

بناءً على ذلك، تكون منطقة الشرق الأوسط دخلت في مرحلة ترتيب الملفات على طول ساحات الصراع، وأن «عاصفة حزم» سياسية صارت ضرورية لامتصاص ارتدادات هذا الاتفاق التي قد تتخطى السقف السياسي لكل المنطقة، الذي أنشئ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991.

وكما للسقف الإنشائي أعمدة يستند إليها، كذلك السقف السياسي له معاهداته واتفاقاته، ففي منطقتنا استند السقف السياسي الشرق الأوسطي منذ عام 1991 إلى أربعة أعمدة رئيسة، أولاً: اتفاق «كامب ديفيد» للسلام ما بين مصر وإسرائيل، ثانياً: اتفاق الوفاق الوطني أو ما يعرف باتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، ثالثاً: الاحتواء المزدوج للعراق وإيران، والذي هو مزيج بين الرقابة العسكرية الجوية والعقوبات الاقتصادية على البلدين، وأخيراً: انطلاق عملية السلام بين إسرائيل من جهة، وسورية ولبنان والأردن وفلسطين من جهة أخرى، والذي أنتج اتفاقي «أوسلو الفلسطيني» و«وادي عربة الأردني».

الكل يتذكر العناوين التي سادت الإعلام والصحف العربية في تلك الحقبة من تسعينات القرن الماضي. مثلاً الرحلات المكوكية إلى العواصم العربية لوزراء الخارجية الأميركية لمتابعة عملية السلام، وقضية أطفال العراق ونفطهم تحت سيف الحصار، وظاهرة رفيق الحريري، رئيس وزراء أنطاكيا وسائر المشرق -على حد وصف بعضهم -… وغيرها، إلا أن السياسة تصنع العناوين وليس العكس، فكل تلك الحركة والعناوين هي تعبير عن هامش الحركة السياسية للدول في الإقليم، باستثناء الدولة العبرية، فيحق لتل أبيب ما لا يحق لغيرها، واصطدام الجيش الإسرائيلي بأعمدة السقف السياسي مسموح به تحت حجة محاربة الإرهاب.

غير أنه منذ عام 2000 تغيّرت قواعد اللعبة، وتلك قصة أخرى… مع نهاية الألفية الثانية، وتحديداً عام 1997، توجهت مجموعة أميركية تدعى «مشروع القرن الأميركي الجديد» برسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون، دعته فيها إلى إعادة تقييم موقع الولايات المتحدة ودورها في القرن الـ21. واعتبرت أن شمس الإمبراطورية الأميركية لن تغيب إذا ما تحولت واشنطن من سياسة إدارة العالم إلى تغيير العالم نفسه. ونصت على وجه الخصوص على إطاحة نظام صدام حسين في العراق. هذا في الشكل، أما في المضمون فما كانت توحي به هذه الرسالة هو أن جغرافيا العالم الإسلامي الممتد من جزر الفيليبين في المحيط الهادئ، مروراً بجبال أفغانستان الآسيوية، ووصولاً إلى شواطئ موريتانيا الأطلسية، مجموعة من الدول والمجتمعات المتأخرة عن العالم الغربي، وفق كل المؤشرات الدولية من حقوق إنسان، وحقوق المرأة، وديموقراطية وغيرها، فجاءت التوصية على أن ريادة واشنطن للنظام العالمي تعني أنه لا يمكن انتظار هذه الكتل للحاق بالعالم الغربي، بل يجب الذهاب إليها وإرغامها على إجراء التغيير.

لكن إدارة كلينتون لم تكن تقرأ في الفنجان نفسه، بل إن كلينتون أراد أن يكون إبرامه «اتفاق السلام» النهائي بين فلسطين وإسرائيل (مفاوضات واي ريفر) ميراث عهده، محافظاً بذلك على السقف السياسي الذي حدد دور كل طرف في المنطقة. على العموم انتهى عهد كلينتون بفضيحة جنسية كميراث ليبدأ عهد بوش الابن ومعه تحولات كبرى.

القرن الأميركي الجديد

سيبقى مثار جدل مدى تأثير مجموعة «مشروع القرن الأميركي الجديد» في إدارة الرئيس بوش الابن، ومن ثم على منطقة الشرق الأوسط. لكن المفارقة تبقى في أن عشرة أشخاص من أصل 25 وقّعوا الوثيقة التأسيسية للمجموعة تسلموا مناصب إدارية في عهد بوش الابن.

اشتعلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد فشل مفاوضات «واي ريفر» الفلسطينية- الإسرائيلية عام 2000، معلنةً موت عملية السلام، تزامناً مع الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان. هنا لا يمكن إغفال وصول أرييل شارون إلى رئاسة الحكومة في إسرائيل، وزيارته الشهيرة للحرم القدسي. تلا ذلك الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، الذي بدوره أنهى عملية الاحتواء المزدوج، مشرعاً الباب للانسياب الإيراني إلى المنطقة.

وفي 2004 كانت الضربة القاضية عند صدور قرار الأمم المتحدة رقم 1559 المتعلق بلبنان، والذي شكل ورقة نعي لاتفاق الطائف، ولكن من دون المقدرة على دفنه. عندها بقي هذا السقف مستنداً إلى عمود وحيد يترنح، اتفاق «كامب ديفيد» للسلام. والمثير في هذه السلسلة من الأحداث، أن اتفاق «كامب ديفيد» استمر راسخاً ومتجذراً في أرض الكنانة، وحتى في ذروة عملية تغيير النظام المصري. وكيف لنا أن ننسى رسالة الرئيس محمود مرسي إلى عزيزه شمعون بيريز الرئيس الإسرائيلي.

الباقي تاريخ، كما يقال في أميركا…

اشتعل الصراع في المنطقة آخذاً أشكالاً عدة: اعتداءات إسرائيلية متكررة، تنامي العمليات الإرهابية، استنهاض مشاريع هيمنة عثمانية وفارسية، وأخيراً انتشار الحروب الأهلية. مجموعة من التطورات الدراماتيكية مع تبلور مشاريع إقليمية قد تقرر مصير المنطقة ومستقبلها. المقصود هنا هو أن المنطقة تشهد منذ 14 عاماً صراعاً بين نظرتين متضاربتين حيال البناء السياسي فيها، فهناك فريق يريد الحفاظ على السقف القديم مع عملية ترميم للأعمدة السابقة، في مقابل فريق يسعى لصنع سقف جديد نتيجة ما يعتبره مكاسب محققة على مدار أعوام من التفاوض.

نصل إلى أن كل حوار اليوم يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط يجري الحديث فيه عن إيران. وفي كل نقاش يتعلق بإيران يجري الحديث عن الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب. وفي أي حال، كلا الحوارين مرتبط بنظرة الولايات المتحدة وسياستها حيال المنطقة. أي بمعنى آخر نحن أمام لحظة مفصلية في مسار العلاقات الإيرانية- العربية وسط غياب تام لمشروع عربي. أمام لحظة لم يعد ممكناً فيها الركون فقط إلى الاختلافات المذهبية والمطامع الفارسية كمنطلق للتحليل، ولم يعد أيضاً بالإمكان الاستناد إلى منطق نظرية المؤامرة بأن أميركا هي الشر كله. هنا نقول إن خطابي «محور الممانعة» و«محور الاعتدال» لا يجديان نفعاً. الاتفاق النووي الإيراني -وإن تم بشكله النهائي- سيغير حتماً شكل المنطقة. وفي سياق النظر إلى ما وراء الحدود، هل يبني الاتفاق سقفاً جديداً أو يكون عموداً للسقف القديم؟

* كاتب سعودي

 

 

 

 

ما بعد كامب ديفيد: تنافر وتفاهم وتناقض/ شفيق ناظم الغبرا

في كامب ديفيد وقع تفاهم جديد على شكل العلاقة الأميركية الخليجية، لكنه تفاهم مختلف عن السابق ويعكس تردد الدولة الكبرى في التورط في نزاعات الإقليم كما يعكس عدم رغبتها في تحويل الصيغة الجديدة إلى اتفاق واضح المعالم. التردد في سياسات الدولة الكبرى نتج عن حروب الإقليم الأميركية في أفغانستان والعراق، ونتج عن صعود إيران والمفاوضات النووية معها، ويضاف إلى كل هذا الربيع العربي والثورة المضادة العربية ثم نشوء سلسلة من الدول العربية المفككة. في كامب ديفيد محاولة لتفاهمات لا تغطي كل الأبعاد مع دول الخليج. الولايات المتحدة لم تعد تخيف أعداءها كالسابق رغم قوة أسنانها، لكنها لا توحي بالثقة لأصدقائها نتيجة حاجتها للتهدئة والتفاهم مع من سمتهم «محور الشر» منذ عقد.

وستجني الولايات المتحدة من جراء التزامها الجديد فوائد جمة من بيع السلاح والمنظومات الصاروخية مما سيبقي منطقة الخليج الأولى في العالم في استيراد السلاح، لكن هذا سيصب في جانب منه في مصلحة الجهادية الإسلامية التي تأسست بالأساس كردة فعل على الدور الأميركي العسكري في منطقة الخليج. ولا يوجد في الاتفاق الجديد ما يلزم الإدارة الأميركية الراهنة ولا القادمة بما هو أكثر من حماية من عدوان خارجي واضح/ فاضح، فهي لن تتدخل بقوة في نزاعات النفوذ والتمدد كاليمن. ستتدخل الولايات المتحدة في إطار حربها المحدودة في مواجهة «القاعدة» و «داعش»، وهنا بالتحديد ستجد أنها على توافق مع كل من إيران ودول الخليج. لقد تغيرت الحسابات الأميركية، والرهان اليوم مختلف عن رهانات تسعينيات القرن العشرين.

في المرحلة القادمة ستتعامل الولايات المتحدة مع عدة أبعاد. أولاً ستتعامل مع الخليج بقيادة السعودية، خاصة أن السعودية في موقع المبادر في ظل قيادة شابة جديدة، كما ستتعامل الولايات المتحدة ثانياً مع إيران التي ستزداد قوة وربما تكسب بعض الاعتدال بعد رفع العقوبات، وستتعامل الولايات المتحدة مع البعد الثالث وهو تركيا بصفتها القوة العسكرية الأهم في أوروبا والدولة الحديثة التي تمثل الاقتصاد الإنتاجي الأهم في الإقليم والقادرة حتى الآن على نسج علاقات عميقة مع حركات شعبية وإسلامية عربية. هذه المحاور الثلاثة ليست متناقضة بالمطلق، فلتركيا علاقات مع إيران، ولتركيا علاقات متجددة مع السعودية، وللسعودية خلافات مع إيران، لكنها لا تشمل كل محور، خاصة أنها تتعامل مع الدور الإيراني في العراق بدرجة من البراغماتية في مواجهة «داعش».

وستجد الولايات المتحدة أنها تتأثر ببعد رابع في الإقليم: «القاعدة» و «داعش» والسلفية الجهادية بكل تشكيلاتها التي تتواجه مع الدولة الكبرى. في هذا تشتبك الولايات المتحدة مع الراديكالية الإسلامية السنّية مما يقربها في حالات عدة من المدرسة الشيعية الأقل راديكالية في هذه المرحلة. وبطبيعة الحال ستقع مفاجآت في هذا الملف كما حصل مع بروز «داعش». فالجهادية الإسلامية قوة كامنة متطرفة تنتجها أوضاع متطرفة في العالم الإسلامي، ولهذا فهي عامل مستمر ونامٍ في المرحلة القادمة.

وستتعثر سياسة الولايات المتحدة، الساعية نحو إيران كما نحو الخليج وتركيا للحفاظ على ميزان الشرق الأوسط ولتأمين صفقات السلاح، بسبب السياسة الإسرائيلية والاستيطان والتوسع الإسرائيلي خاصة من المنظور الشعبي العربي. وهذا البعد الخامس (الدور الإسرائيلي) سيصب في مصلحة إيران والسلفية الجهادية في الإقليم كما لمصلحة الرؤية التركية المشتبكة أيديولوجياً وتعبوياً مع إسرائيل. إن تحالفات الولايات المتحدة الإقليمية في ظل الدور الإسرائيلي المؤثر على قراراتها ستبقى عرضة للمفاجآت لأسباب تتعلق بالاستيطان والتمدد الإسرائيلي في القدس والأراضي الفلسطينية.

لكن الولايات المتحدة ستواجه تحدياً سادساً مع حلفائها العرب: إذ سيمثل استمرار الحراك الشعبي الثوري السلمي العربي عنصر تحدّ لكل قاعدة للعمل السياسي العربي الرسمي. الحراك الثوري العربي ما زال قائماً في الدول العربية التي تعاني من ضغوط اقتصادية وسياسية ضخمة، وهو يمر بمرحلة تسخين وإعادة تعريف وترتيب أولويات. هذا البعد الشعبي العربي يتفاعل مع عجز أجزاء هامة من النظام العربي عن تلبية حاجات مواطنيها وتحسين واقع المجتمعات السياسي والاقتصادي، بل وعجزها عن التعامل مع التهميش وتوغل الفساد والاستعلاء وضعف دور القضاء المستقل وغلق المساحة العامة والتضييق على الحريات والشباب. إن روح الربيع العربي كما عبرت عن نفسها في عام ٢٠١١ لم تختفِ، بل تبقى عاملاً كامناً سيطل برأسه مجدداً في ظل غياب وضعف وتردي أجندات الإصلاح حتى الآن. لغة القمع الشائعة عربياً لن تنجح في منع التحول التاريخي الحاصل الآن في عقول جيل وفي ثقافة المنطقة.

وستبقى إيران مشتبكة في الوضع العربي، وإن تحديد دورها وتحديه لن يخرجها بالكامل، كما أنها تبقى مشتبكة مع الصهيونية، وهي في هذا ستبقى متبنية لموقف مؤيد لـ «حماس» ولغزة ورافض للتنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل، وهذا سيبقي إيران في الوضع العربي. إيران تحاول أخذ مواقع سياسية تخلى عنها الكثير من العرب، فبينما مصر في هذه المرحلة تصدر أحكاماً وتمارس مقاطعة ضد غزة ستسعى إيران للنقيض، وهذا سيجعل إيران مقبولة في أوساط عربية وفلسطينية. من هنا سيزداد التنافس الإيراني العربي في مجالات عدة منها المسألة الفلسطينية، بل إن إعادة الدفء لعلاقة «حماس» بدول الخليج ضرورة كبرى للتوازن الإقليمي، كما أن تطويق غزة من الجانبين المصري والإسرائيلي لا يصب إلا في مصلحة الدور الجهادي والإيراني في غزة.

وستدعم إيران كما فعلت في السابق «حزب الله»، بل لن يكون هناك حل نهائي لخروج الأسد وحل عدة ملفات أخرى في الإقليم إلا بتفاوض ومشاركة مباشرة مع إيران. ومع ذلك ستكون إيران في الإقليم العربي أقل اندفاعاً وتطرفاً، ربما لأن الاتفاق النووي ورفع العقوبات سيكونان مصدر راحة لها واعتدال، ولكن أيضاً بسبب قضمها لمناطق في الإقليم لا تستطيع هضمها والحفاظ عليها.

ويلاحظ أنه في السنوات الأخيرة مع صعود تركيا أصبحت هي المنافس الأهم لإيران في القضية الفلسطينية. بينما الحالة العربية في شكل عام تمر بظروف عدم توازن من جراء الأوضاع المحلية والسعي لاستمالة الولايات المتحدة التي بدورها تسعى لإرضاء إسرائيل، إلا أن تركيا أكثر استقلالية أمنياً وسياسياً واقتصادياً وسكانياً، وهذا يجعلها قادرة على المبادرة تجاه القضية الفلسطينية التي تؤثر في بناء وحدتها الذاتية وفي دورها العربي والإسلامي.

المملكة العربية السعودية من بين الدول العربية المركزية هي الأكثر مبادرة ونشاطاً الآن، لكنها في الوقت نفسه تواجه جبلاً من التحديات المحلية والإقليمية. في كل هذا توجد أمامها تحديات من الصعب إنجازها بلا تحالف واضح مع تركيا، وبلا تبني بعض الحراكات السلمية في الشارع العربي والعودة إلى المسألة الفلسطينية كخيار إنساني حقوقي واستراتيجي. إعادة بناء البيت العربي ستتطلب تسويات بين المكونات التي تمثل أركانه أكانت طوائف أو قبائل أو حواضر، لكن ذلك يجب أن يتم في ظل مشروع مدني ديموقراطي أساسه فتح مساحات من الحرية والحقوق والتطوير الدستوري. إن إعادة إنتاج الماضي بوسائل جديدة لن تؤدي سوى إلى مزيد من تفكك الحاضر.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت

 

 

 

خامنئي يهدد أميركا… أم السعودية؟/ زهير قصيباتي

قبل «الاتفاق الإطار» وبعده، لم تُعلن إيران ولا الدول الست الكبرى المشارِكة في المفاوضات النووية، أن طهران تستبعد أي احتمال للسماح لخبراء الوكالة الذرية الدولية بتفتيش منشآت عسكرية إيرانية. فجأة استشاط المرشد علي خامنئي غضباً أمس، ملوِّحاً بالويل والثبور لمن «يجر الجمهورية الإسلامية» إلى حرب.

ما يثير الريبة الكبرى في صيحة غضب خامنئي، أن طهران التي ترفض وقف تلاعبها بمصير اليمن وشعبه، عادت لتتمسك بمواكبة سفن حربية للسفينة التي تعلن نقلها مساعدات إنسانية وأنها سترسو في ميناء الحديدة الخاضع لسيطرة الحوثيين.

شَطَبَ الحوثيون الهدنة الإنسانية في اليمن، وأصرّوا على تحريك صواريخ إلى الحدود مع السعودية. عادت طهران إلى التصعيد في مسألة السفينة، كأن حمولتها مصيرية لإنقاذ شعب، فيما جماعة عبدالملك الحوثي تقصف مدناً في اليمن بالمدفعية. والجماعة هي التي أصرّت على إسقاط وقف النار، وعلى ما تسمّيه وساطة إيرانية في النزاع.

واضح أن تلك كانت رسالة إلى مؤتمر الرياض الذي اختُتِم قبل يومين، عنوانها أن لا حلّ بلا دور إيراني، هو الذي رعى تحالف الحوثيين والرئيس السابق علي عبدالله صالح، وشجّع الجماعة بالمال والسلاح، حتى طوّقته «عاصفة الحزم» التي قادتها السعودية بمشاركة دول عربية.

صحيح أن اليمن ما زال في مأزق الحرب والمعاناة الإنسانية، نتيجة مكابرة الجماعة ورفضها قرار مجلس الأمن الرقم 2216، بعدما تمرّدت على الشرعية وعلى المبادرة الخليجية ونتائج الحوار الوطني، لكن الصحيح كذلك أن تلك المكابرة التي ستعني مزيداً من الضحايا والخسائر، ومزيداً من التشرّد والنزوح، لم تكن لتتضخم بعد «عاصفة الحزم» لولا الإصرار الإيراني على الإمساك بمصير اليمن، وتطويق السعودية، والتشبُّث بموطئ قدم على البحر الأحمر.

لا حاجة بالطبع إلى استحضار كل الحملة الإيرانية على السعودية، وكل مفرداتها التي تسعِّر الفتنة في المنطقة، خلافاً لمقولات طهران، وكل رموز نظامها «الممانع»، بدءاً من المرشد مروراً بالرئيس حسن روحاني، وانتهاء بـ «الحرس الثوري» وما جلبه إلى دول عربية من بذور النزاعات المذهبية.

تعود إيران إلى التصعيد ونغماته، بعدما مُني دورها بانتكاسات في اليمن والعراق وسورية… والمشكلة أن طهران تكاد تصدق ما تروِّج له عن «تقوية الممانعة»، كما قال علي أكبر ولايتي في زيارته بيروت، وربما أَوْهَمَ بذلك حليفه السوري المتهالك الذي كلما تحدّث عن «انتصار» تلقّى مزيداً من الهزائم.

قبل مهزلة الاستثمارات الإيرانية الجديدة في سورية، كاد العرب أن يفقدوا الأمل بخلاصٍ للشعب السوري وبوحدة أراضيه، ومع تلك الاستثمارات تصبح الآمال باحتمالات تبدُّلٍ في دعم طهران نظام الأسد، مجرد أوهام.

والمهم أن غضبة خامنئي أمس حين أعلن «عدم الخضوع للضغوط»، تأتي بعد صفعات كبرى لحلفائه في اليمن وسورية، بالتالي ليست رسالة حرب موجهة إلى البيت الأبيض المتلهِّف على توقيع الصفقة النووية النهائية، آخر الشهر المقبل، بمقدار ما هي رسالة إقليمية عن استعداد الإيراني للحرب، ورفضه التخلي عن ورقة الحوثيين. لذلك تقدَّمت إشارات القلق من تداعيات أي حادث مع «سفينة المساعدات».

لا ذريعة مُقنعة الآن لتفسير غضب المرشد بشروط غربية جديدة لتوقيع «صفقة النووي» التي تستعجلها إيران منذ بداية عهد روحاني. لذلك، تتشابك خيوط لعبة حافة الهاوية التي تمارسها ما بين تفتيش السفينة وتفتيش منشآت عسكرية… بين «مساعدات إنسانية» لا تذهب إلا للحوثيين، ومنشآت، وحدها طهران تعرف أي تجارب أنجزتها فيها، لتقايض مشروع السلاح الذرّي بالأدوار الإقليمية.

كان طموح إيران ان تتسلل إلى تسوية ما في اليمن، تنقذ أحلام حليفها الحوثي الذي صنعته على مدى عقد من الزمن، ودرّبته وسلّحته. جاءت الصفعة الأخيرة من مؤتمر الرياض، فإذا كانت الرغبة الإيرانية إجهاض المبادرة الخليجية بتدويل النزاع، وتحويل هزائم الحوثيين انتصارات، فالحكومة اليمنية اشترطت لأي رعاية دولية للحل، تنفيذ القرار 2216.

أليس القرار ثمرة لشرعية دولية؟

رسالة خامنئي الى البيت الأبيض قد تكون باختصار: لا صفقة الشهر المقبل يريدها أوباما على نار… إن لم تساعد واشنطن في تمديد عمر «أبطال الممانعة»، أو على الأقل تمتنع عن كل ما يشجّع خصومهم. «الشيطان الأكبر» بات مطالَباً بـ «تقوية الممانعة» لإطالة «انتصاراتها»، وَبَالاً وكوارث للعرب.

 

 

 

توافقات كامب ديفيد تعطّل تدخلات إيران… فهل تلتزم أميركا؟/ عبدالوهاب بدرخان

إذا التزمت الولايات المتحدة، ولديها مصلحة أكيدة في ذلك، موقفاً موحداً مع دول مجلس التعاون الخليجي في معارضة أنشطة إيران لزعزعة استقرار المنطقة والتعاون في مواجهتها، كما ورد في البيان الختامي لقمّة كامب ديفيد، فإن من شأن ذلك أن يمكّن الولايات المتحدة، وللمرّة الأولى، من المساهمة في تحقيق مصلحة خليجية وعربية. لكنها مصلحة مرتبطة بأمرين: الأول تأكيد المظلة الأميركية لأمن الخليج وعدم إخضاعه لأي مساومات مع إيران في سياق الاتفاق النووي أو الترتيبات الأمنية الإقليمية، والآخر أن تأخذ إيران في الاعتبار وجود واقع جديد يوجب وقف تدخلاتها في دول الخليج ومراجعة مشروع «تصدير الثورة» ومجمل السياسات الكارثية التي ارتكبتها في إطاره. في الحالين، تجد دول الخليج أن عليها الكثير من العمل، خصوصاً العمل معاً ومع العرب، لتبديد أي خطر أو تهديد، لأن الضمانات والتطمينات لا تكفي، ولأن توقّع التغيير في سلوك إيران يستند إلى منطق يبدو معدوماً في مرجعها الأيديولوجي.

يُؤمَل بأن يكون باراك اوباما أيقن بأن اندفاعه المستميت إلى «الاتفاق» مع إيران شيء، وأن التهاون مع أمن الخليج والتخريب الإيراني لآخر منطقة عربية مستقرّة شيء آخر. وكان واضحاً أنه عمل على تسويق تهرّبه من توقيع «اتفاق دفاعي» مع قادة الخليج لمصلحة الاتفاق النووي، محاذراً استفزاز إيران أو إغضابها أو إعطاءها ذريعة لتعقيد المفاوضات، ومحاولاً تضييق الهوّة بين ما يريده وبين ما يطلبه الخليجيون لكنه تمسّك بـ «الممكن» حريصاً على عدم تجاوزه، ومن هنا جاء إغراق أزمة الثقة بينه وبين قادة الخليج في تفاصيل «شراكة أمنية» بدت ضرورية لإعطاء معنى وعمق للتعهدات الأميركية. ويمكن عزو التفاصيل العسكرية لـ «الشراكة» إلى كونها المرّة الأولى التي تهتم فيها الولايات المتحدة ببناء منظومة دفاعية خليجية متكاملة، بعدما استشعرت قلق الخليجيين وتصميمهم وشخّصت جسامة الخطر الذي تتعرّض له دولهم.

يُؤمَل بأن يكون اوباما فهم أخيراً أن إبعاد خطر «قنبلة نووية» غير موجودة بعد لا يعفيه والمجتمع الدولي من تعطيل «قنبلة مذهبية» برهنت أنها أشدّ خطراً، وبأن يكون لمس أخيراً توظيف إيران للإرهاب وتسميمها كل مكان عربي قصدته. فحتى الآن ورغم تغيّر الظروف لا يزال هناك «داعشان»، واحد أنتجه النظامان السوري والإيراني ويواصلان تشغيله في عدد من مناطق سورية، وآخر يقاتله النظامان بعدما خرج عن عصمتهما. وقد برهنت الوقائع أن «الثورة الإيرانية المصدّرة» لم تجلب للسوريين والعراقيين واليمنيين سوى الإذلال والتجويع والتشريد ودمار الوطن وضياع المستقبل، حتى غدا المصير واحداً في سواده سواء كانت السيطرة لإرهابيين توجّههم إيران أو متفلّتين تسيّرهم غريزة القتل.

ولأن الإرهاب كان بين الهموم الرئيسية للمجتمعين في كامب ديفيد، فلا بد أن أنباء اجتياحات «داعش» في الأنبار بلغتهم وقد تكرر فيها بعض عناصر سيناريو الموصل قبل عام تقريباً: انسحاب أو هروب للقوات الحكومية، قوافل لعشرات آلاف النازحين نحو بغداد كملاذ وحيد متاح، ومئات الأسرى من مدنيين وعسكريين وقعوا في أيدي التنظيم وسرعان ما أُعلن ذبح خمسمئة منهم. كان الكل يعلم خطورة الوضع في الأنبار، وحول مدينة الرمادي تحديداً، لكن السلطة لم تعط أولوية لتعزيز دفاعاتها منعاً لسقوطها كلياً.

رغم ما يروّج عن اختلاف بين حكومتي نوري المالكي وحيدر العبادي، فقد تبيّن أنهما ينفّذان مخططاً إيرانياً واحداً قوامه تصنيع «داعش» وترسيخه في المحافظات السنّية، فالمالكي أمضى نحو عامين يضغط على تلك المناطق كي تخضع لذلك التنظيم وتبرر تدخل جيشه «لإنقاذها» بـ «إخضاعها»، والعبادي أضاع الشهور الماضية في جدليات عقيمة حول تسليح السكان فكان بدوره يضعهم أمام خيارين: إما البقاء تحت نير «داعش»، أو تتولّى ميليشيات إيران «تحريرهم» بـ «إخضاعهم». بل إنه أعطى شرعية قانونية لتلك الميليشيات وأعفى طهران من عبء تمويلها، بل إنه ترك عسكرييه وأمنييه يُنزلون أسوأ أنواع الإذلال بالنازحين داخل بلدهم. وطالما أن ممارسات «الحشد الشعبي» و «داعش» متقاربة، فإن عراقيي نينوى والأنبار وصلاح الدين وجدوا أنهم مدعوون للتخلّي عن الأمل بالخلاص من تنظيم إرهابي لا مستقبل له لمصلحة مستقبل ترسمه لهم إيران من خلال تنظيم آخر يمثّل إرهاباً «مشرعناً» ترعاه دولتهم. أي إرهاب مذهبي يُحارب بإرهاب مذهبي آخر هو تكريس للإرهاب. وأي «تحرير» يُعهد به إلى «الحشد الشعبي» هو إمعان في إنتاج «الدواعش» وإدامتهم.

العراق عينة ذات دلالة، لأنه نموذج لا تزال الولايات المتحدة معنيّة، لكن تقاسمها النفوذ مع إيران رجّح كفّة هذه الأخيرة على نحوٍ قوّض وحدة البلد ومزّق نسيجه الاجتماعي وأدّى إلى تغوّل فئة على فئة كما بينت أخيراً اعتداءات الأعظمية في بغداد. وإذ دعمت قمة كامب ديفيد الحكومة العراقية في محاربتها إرهاب «داعش» فإنها أصبحت تعرف ماذا يعني ذلك عملياً، فإيران هي التي تتحكّم بجهود الحكومة وتديرها. صحيح أن القمة «شجّعت» حكومة العبّادي على إجراء «مصالحة وطنية حقيقية» لكن الجميع يعلم أن إيران لم تحبذ يوماً هذا الاستحقاق الوطني، لذا فهو لم يكن على جدول أعمال الحكومة السابقة أما الحالية فتتعامل معه بالمراوغة. هذا هو الواقع الذي يعترف به جميع من تولّوا ويتولّون الآن ما يسمّى «ملف المصالحة».

ولأن «الالتزام» الأميركي في النموذج العراقي هزيل إلى هذا الحد، ولا يبالي إطلاقاً بالبُعد العربي، أي أن حاله كحال «الالتزام» الأميركي بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن الخليجيين وسائر العرب المعنيين بسورية واليمن ولبنان ملزمون بالحذر الشديد، لأن هذه الأزمات بلغت ذروتها ولم تبدأ المفاوضات الأميركية – الإيرانية بشأنها بعد. فكما كانت إدارة اوباما في المفاوضات النووية مقبلة على تنازلات ومهجوسة بإرضاء طهران، فلا مؤشر إلى أن أداءها سيختلف في الملفات الإقليمية السياسية، سواء في بلورة أميركا لأهداف استراتيجيتها الجديدة أو في سعيها إلى ترتيب مستقبل علاقتها مع نظام الملالي. أما واجب الحذر فلأن إيران لم تعد بعد المجتمع الدولي، وهذه العودة ليست مؤكدة حتى بعد إنجاز «الاتفاق النووي» كما يتوقّع الأميركيون. ولذلك فإنها ليست/ ولن تكون معنية بـ «المبادئ» الثلاثة التي توافق عليها قادة الخليج والرئيس الأميركي.

فمبدأ «احترام سيادة الدولة» ستعتبره إيران «مؤامرة استعمارية – رجعية» على «محور المقاومة»، لأنه يناقض مبدأ «تصدير الثورة» الذي يقود قاسم سليماني وسواه من جنرالاتها إلى الجبهات في سورية والعراق، ويقود علي أكبر ولايتي مستشار المرشد إلى الإشادة بانتهاكات «حزب الله» للسيادة بعد لحظات من لقائه مع رئيس الوزراء اللبناني، ويقود وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان إلى بغداد لحضّها على إنهاء ترددها في إرسال الميليشيات إلى الرمادي. وبالطبع ترفض طهران المبدأ الثاني القائل بأن «لا حل عسكرياً للنزاعات الأهلية بل بالوسائل السياسية والسلمية»، إذ إن أتباعها سبق أن أنهوا أزمة سياسية باجتياح عسكري لبيروت، ولا يزالون يفضّلون حلاً عسكرياً في سورية معطّلين أي مسعى سياسي جدي ولو بتوافق أميركي – روسي، ويعطّلون حالياً أي حل لا يعترف بـ «إنجازاتهم» الميدانية في اليمن. يبقى المبدأ الثالث وهو أن «الحكم يجب أن يشمل الجميع، ويحترم حقوق الإنسان، ويحمي الأقليات»، وقد ترى فيه إيران تدخلاً في شؤونها بالنظر إلى معاملتها للعرب والكرد، أو حتى تدخلاً في شؤون سورية حيث اتّبع النظام الأقلوي نهج الاحتقار لحقوق الغالبية.

ليست لإيران مصلحة في هذه المبادئ السلمية لأنها مناقضة لأيديولوجيتها ولما تعتبره استثماراً ثورياً كلّفها الكثير فيما كانت ترزح تحت العقوبات، لكنه جاء بالنتائج التي توخّتها. وخلافاً لأطراف قمّة كامب ديفيد لا تحترم إيران سوى مصلحة الفئة التي ترعاها، لذلك فهي ستدفع الأميركيين إلى القبول بـ «تسويات» تراعي موازين القوى المسلحة. فبهذا المنطق يمكن إيران أن تكسب ما تعتبره «مصالح» لها في سورية أو في اليمن.

* كاتب وصحافي لبناني.

 

 

 

 

الإيرانيون يستعدون لدخول بغداد/ حسان حيدر

لا تملّ طهران من تكرار المناورة نفسها. ولا تتوقف واشنطن عن «الوقوع» في الفخ ذاته مرة تلو الأخرى. وكلما رفض الأميركيون خياراً إيرانياً «اضطروا» لاحقاً إلى القبول به لأنه «أفضل» مما قد يأتي بعده، ثم ساقوا الذرائع لتبرير ما يحصل وإقناع «الحلفاء» بأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان.

فقبل أسابيع، مارست دول الخليج العربية ضغوطاً كبيرة على إدارة أوباما لدفعها إلى رفض تقديم إسناد جوي للجيش العراقي إذا ما أصرت بغداد على إشراك ميليشيات شيعية في معركة «تحرير الأنبار» من أيدي تنظيم «داعش»، بعد التنكيل الذي مارسه عناصرها ضد السكان السنّة عندما دخلوا تكريت نهاية آذار (مارس) الماضي. لكن استجابة حكومة العبادي الطلب الأميركي باستبعاد الميليشيات لم تدم طويلاً، فها هي تستنجد بـ «الحشد الشعبي» لإخراج التنظيم المتطرف من الرمادي التي سقطت «فجأة» في قبضته.

لكن بعيداً من نظرية «المؤامرة»، فلنستعرض بعض الوقائع التي أحاطت بسقوط عاصمة الأنبار والتي تكشف عن بعض ما سيؤول إليه الوضع في العراق:

– جاء هجوم «داعش» على الرمادي بعد يومين فقط من انتهاء قمة كامب ديفيد الأميركية – الخليجية التي شددت على مواجهة التدخلات الإيرانية في المنطقة العربية، وفي الخليج خصوصاً.

– يشن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ما معدله 15 غارة في اليوم على قوات «داعش» ومواقعه في العراق منذ حوالى عشرة أشهر، وحتى الآن لم تؤدّ هذه الغارات التي تكلف عشرات ملايين الدولارات يومياً إلى تراجع فعلي في قدرات التنظيم الهجومية على رغم الإعلان الأميركي المتكرر بأنه بات في «حال دفاعية».

– يعتمد الجيش الأميركي في رصد تحركات قوات «داعش» على شبكة واسعة من عملاء الاستخبارات وعلى المراقبة عبر الأقمار الاصطناعية التي تستطيع أن تتابع بالتفصيل حتى انطلاق آلية من أحد مواقعه وملاحقتها، مثلما يفعل طيرانها المسير من بعد في باكستان واليمن، مستهدفاً متطرفي «طالبان» و «القاعدة».

– ترصد الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون عبر الأقمار نفسها وعبر محطات أرضية متعددة الاتصالات الهاتفية اللاسلكية لقياديي وعناصر التنظيم الذي لا يمتلك شبكة اتصالات أرضية.

– نفذت القوات الخاصة الأميركية قبل أيام عملية إنزال في شرق سورية استهدفت قيادياً من الصف الثاني في «داعش»، وهذا يعني أنها تستخدم بمهارة متى شاءت المعلومات الاستخباراتية التي تجمعها.

– قررت وحدات الجيش العراقي المنتشرة في الرمادي الانسحاب من أمام قوات «داعش» بسبب ما قالت أنه «ضراوة القتال وحجم القوات المهاجمة»، في تكرار لسيناريو سقوط الموصل.

يمكن القول إذاً إن هناك «تقصيراً» من الأميركيين والعراقيين في الكشف عن تحركات «داعش» العسكرية التي سبقت الهجوم على الرمادي، علماً أنه حشد قوات كبيرة لتنفيذه والاستيلاء على المدينة.

أما في النتائج، فلا بد من الإشارة إلى إسراع الحكومة العراقية إلى الاستنجاد بـ «البديل الجاهز» للجيش الذي أنفقت البلايين على إعادة تنظيمه وتسليحه، ودعوتها قوات «الحشد الشعبي» الإيرانية إلى التسلح، والتي يقودها ضباط من «الحرس الثوري»، للتوجه إلى الرمادي لاستعادتها، ومسارعة محللين أميركيين إلى تأكيد أنه ليس أمام بغداد خيارات كثيرة غير اللجوء إلى هذه الميليشيات حتى لو كانت مشاركتها ستؤجج التوتر الطائفي في البلاد بسبب سلوكها الشديد العداء لسكان الأنبار.

الحجة التي ساقتها الحكومة العراقية هي أن سقوط الرمادي بات يهدد خصوصاً بغداد وكربلاء، ركني النفوذ الإيراني في العراق. لكن ماذا إذا فشلت ميليشيات «الحشد الشعبي» في استعادة الرمادي؟ الأرجح أن «الخيار الوحيد» أمام العبادي سيكون استدعاء الجيش الإيراني لدخول عاصمة الرشيد بذريعة حمايتها، بعدما استعصت عليه طوال قرون. أليس هذا هو «التعاون» الذي بحثه وزير الدفاع الإيراني في بغداد قبل أيام؟

 

 

 

قمة كمب ديفيد وشجونها/ هشام ملحم

المواقف الرسمية للولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي التقت على ان قمة كمب ديفيد كانت ناجحة، وان واشنطن جددت ضماناتها الامنية لدول المجلس، وتعهدت تعزيز علاقاتها العسكرية معها، وان اوباما وافق على المشاركة في قمة أخرى قبل نهاية ولايته. لكن الواقع مختلف. دول المجلس سعت بجهد قبل القمة الى الحصول على ضمانات أمنية أكثر الزاماً، وارادت تطوير سياسة اميركية – خليجية ردعية للتدخل الايراني في الدول العربية، واجراءات لتأخير حصول ايران على اموالها المجمدة بعد رفع العقوبات المفروضة عليها لئلا تستخدم هذه الموارد لتمويل عملياتها في العالم العربي، كما حاولت اقناع واشنطن بالتعجيل في اسقاط نظام الاسد في سوريا.

ما حصلت عليه الدول الخليجية هو تجديد الالتزام الاميركي لصون استقرار الخليج ومنع طرف خارجي من تهديده، اي عملياً تجديد “مبدأ كارتر” (1980) في هذا الشأن. هناك تعهدات سياسية عامة، ولكن لا وثيقة رسمية تلزم واشنطن قانونياً الدفاع عن سيادة هذه الدول. والأمر الاسوأ هو ان واشنطن لا تشاطر دول الخليج قلقها الرئيسي من الدور الاقليمي السلبي لايران وخصوصاً في سوريا واليمن، وتقويمها مختلف لسبل انفاق ايران مبلغاً يراوح بين 100 مليار و120 مليار دولار بعد رفع العقوبات. الاميركيون كما شرح وزير المالية جاك لو للمؤتمرين وكما فعل أوباما علناً، يعتقدون ان ايران ستنفق هذه الاموال داخلياً وليس لتمويل عملياتها في الخارج. الخليجيون يقولون إنه حتى لو انفقت نسبة ضئيلة منها في العالم العربي فان اثرها سيكون ضارا للغاية.

المسؤولون الاميركيون اوضحوا لزعماء دول مجلس التعاون ان عليهم ان يقوموا بالدور القيادي في التصدي لايران في المنطقة، بما في ذلك الايحاء باستخدام اسلوب الحرب بالوكالة، كما اعربوا عن تخوفهم من مضاعفات الانهيار السريع لنظام الاسد والفراغ السياسي الذي ستملأه في رأيهم قوى مثل “داعش” و”جبهة النصرة” . كذلك أوضح الاميركيون انه على رغم تأييدهم المتردد للحرب الجوية في اليمن، فانهم يخشون الا تكون الحل، كما ابدوا استياءهم لان وقف النار لم يصمد. والقلق الخليجي من نفوذ ايران الاقليمي، دفع مسؤولاً خليجياً بارزاً الى ان يقول لاوباما ما معناه ان بلاده يمكن ان تقبل ببقاء الاسد فترة اذا تم التصدي لنفوذ ايران في سوريا.

المسؤولون الاميركيون ابلغوا المسؤولين الخليجيين انزعاجهم من التغطية الاعلامية العربية السلبية في رأيهم للقمة قبل انعقادها ولسياسة واشنطن في المنطقة. لكن اللحظة المفصلية في القمة كانت قول اوباما للزعماء العرب إنه دعاهم الى كمب ديفيد لأنه مهتم بأمن المنطقة، وان الشعب الاميركي غير مهتم بالمنطقة.

 

 

 

 

كامب ديفد ومواقف أميركا حيال منطقتنا/ ياسر الزعاترة

من رأى أوباما، وهو يجامل قادة دولة الخليج في كامب ديفد، ومن تأمل في غياب العاهل السعودي عن القمة، وذهاب العاهل البحريني لحضور سباق خيول في بريطانيا بدل الذهاب إلى القمة، سيدرك أي بؤس تعيشه الولايات المتحدة في هذه المرحلة.

لو عدنا بضعة عشر عاما إلى الوراء، وتأملنا الموقف. هل كان بوسع أي من العرب، بل حتى الدول الكبرى أن تتمرد على أميركا على هذا النحو؟ كلا بكل تأكيد، فقد تسلم بوش من كلينتون إمبراطورية في ذروة العنفوان، لم تبلغ أية إمبراطورية في التاريخ ما بلغته من قوة على مختلف الأصعدة، لكنه (أعني بوش) وعبر مغامرات مجنونة في العراق وأفغانستان ما لبث أن وضعها على سكة التدهور وصولا إلى تشجيع المتمردين عليها، من أميركا اللاتينية إلى روسيا والصين، وليس انتهاء بعرب كانوا في حالة ذعر منها عشية هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001.

حينما سقط نظام زين العابدين بن علي، ومن بعده حسني مبارك، أدركت الأنظمة العربية أن أميركا لم تعد تحمي حلفاءها، وأن عليهم أن يخلعوا شوكهم بأيديهم، فتولوا تدبير أمر الثورة المضادة التي نجحت في مصر، ونسبيا في تونس، ولا زالت تفعل فعلها في ليبيا، بينما يعرف الجميع ما آل إليه الوضع في اليمن.

وبينما كانت الأنظمة تحتفل بإنجازها في مصر، إذا بها تُفاجأ بما جرى في اليمن، وهي التي كانت في طور التفكير بما يمكن أن تفعله لتعديل ميزان القوى مع إيران في العراق وسوريا بعد غياب الأولوية التي حكمت سلوكها في المرحلة السابقة، ممثلة في مطاردة ربيع العرب وما يسمى الإسلام السياسي.

في ذات الوقت، وجدت تلك الأنظمة أن الغزل بين إيران والولايات المتحدة يتطور على نحو مخيف، ويقترب من عقد صفقة على النووي قد تشمل ملفات أخرى، ولذلك بدأت تنفض يدها من أميركا، فكانت “عاصفة الحزم” في اليمن، مع قدر من دعم التصعيد في سوريا.

من جهتها، لا تريد أميركا خسارة اتفاق النووي الذي طاردته طويلا، في ذات الوقت الذي لا تريد فيه خسارة الحلفاء في الخليج، فكانت قمة كامب ديفد من أجل لملمة الوضع، لكن أوباما اللاهث خلف اتفاق النووي، لم يكن بوسعه غير تقديم تطمينات غير مقنعة للحلفاء. فوراء كل فقرة ضد إيران في بيان كامب ديفد، كانت هناك فقرة أخرى تنفّسها. والنتيجة هي استمرار قناعة الأنظمة المعنية بأن عليها أن تواصل خلع شوكها بأيديها، من دون أن تتخلى عن تحالفها مع الولايات المتحدة.

واشنطن بدورها في حاجة للتحالف مع الخليج، والذي يُدر مصالح بلا حصر، في مقدمتها صفقات أسلحة فلكية، كما أن نهجها كدولة إمبريالية لا يسمح باختيار فريق على فريق، والأفضل هو بقاء الصراع قائما، ولذلك يتبدى تناقض المواقف بين الملفات المختلفة.

في اليمن، لا بأس بأن تتبنى واشنطن جزءا كبيرا من المقاربة الخليجية في التعاطي مع الوضع هناك، من دون كثير استفزاز يؤدي إلى صدام مع إيران، وفي هذا السياق جاءت المطالبة الأممية للسعودية بالتخفيف من شروطها لإدخال المساعدات الإيرانية لليمن.

أما في العراق، فتدير واشنطن اللعبة على إيقاع المساومة مع إيران على النووي، فلو وضعت هناك ثقلا يؤدي إلى تفوق الحكومة العراقية، فستخدم إيران، لا سيما أنها تعلم أن العبادي لا يتحكم بالوضع الذي تسيطر عليه مليشيات تديرها إيران بشكل مباشر. ولذلك هي تتدخل في حدود معينة، كما حصل في الشمال وفي بغداد وتكريت، وهي تعد بشيء مماثل الآن في الأنبار، ولكن بمساومات وشروط تحت الطاولة على الأرجح.

في سوريا، تحضر المصالح الصهيونية، في ذات الوقت الذي تحضر فيها المساومة مع إيران لإنجاز الاتفاق النووي النهائي، ومصلحة الكيان الصهيوني هي في استمرار الصراع لاستنزاف محيط من الأعداء على تفاوت في مواقفهم (مواقف الشعوب محسومة)، وهو موقف يمثل جميلا لإيران التي لا زالت تعيش وهمَ الإبقاء على بشار الأسد. ولذلك كان أوباما صريحا بالقول إن المسألة السورية لن تحل خلال ولايته، مع أن بوسعه أن يحلها لو كان خياره الإطاحة بالنظام.

خلاصة القول هي أن مصلحة أميركا تتمثل في استمرار هذا الحريق في المنطقة، وهي ذاتها مصلحة الكيان الصهيوني، وهو حريق يستنزف إيران وحلفاءها، بل ويستنزف المنطقة برمتها، ولن يتوقف حتى تتعب إيران من النزيف وتقبل بصفقة متوازنة مع العرب وتركيا. متى؟ لا ندري.

في مقابل ذلك، تبدو المواقف الأخيرة للخليج، بقيادة السعودية جيدة، أكان في اليمن، أم بدعم تصعيد ضد النظام في سوريا، ولا شك أن الرد الآخر ينبغي أن يتمثل في تنويع التحالفات، وحضور الرئيس الفرنسي قمة في الرياض جزء من ذلك، لكن الصين وروسيا مهمتان أيضا، والصين تحديدا لن تختار إيران على الخليج إذا خُيّرت بالفعل، وروسيا ستفكر مليا في الموقف إذا تمت مساومتها، وموقفها من قرار مجلس الأمن ضد الحوثي وصالح دليل على ذلك.

لكن ذلك كله لا يغني أبدا عن قدر من المصالحات الداخلية التي تدفع الشعوب للالتحام مع أنظمتها ضد التحديات الخارجية، وإن كانت تفعل حتى دون ذلك أحيانا، كما في الموقف الشعبي العربي من عاصفة الحزم، وعموم الموقف من التصدي لغرور إيران، والذي ستبقى المنطقة برمتها في انتظار نهايته لمصلحة الجميع، وفي المقدمة الشعب الإيراني كجزء من شعوب المنطقة.

2015

 

 

 

 

الحل السياسي في سوريا: العراق مثالاَ/ حسين عبد الحسين

في قمة كامب دايفيد التي كان يفترض أن يقدم فيها الرئيس باراك أوباما بعض التنازلات لدول الخليج العربي في سوريا، مقابل حصوله على تأييدهم للتوصل الى اتفاقية نووية مع ايران، لم يبدِ أوباما المرونة الموعودة، بل راح يكرر ما دأب، هو وأعضاء إدارته، على قوله منذ اندلاع الثورة السورية في العام ٢٠١١ حول ضرورة قيام “حكومة وطنية سورية” جامعة، كمخرج وحيد للأزمة.

كل ماعدا الحل السياسي، بما في ذلك التغيرات التي تطرأ على ميزان القوى العسكري على الأرض السورية، لا يعني واشنطن في شيء، أو هكذا على الأقل تزعم الادارة. وما لا يتنبه له أوباما وادارته هو ان حلاً سورياً على شاكلة الحل العراقي ليس فألاً حسناً، فالحل العراقي “العظيم” أدى الى تدفق الدماء بغزارة أكثر من الماضي، فيما فشلت حكومة الوحدة الوطنية العراقية برئاسة “التوافقي” حيدر العبادي، في وقف النزيف، وفشلت في وقف انهيار القوات النظامية العراقية، التي تبعثرت في المرة الأولى أمام هجوم تنظيم “الدولة الاسلامية” في الموصل في حزيران/يونيو الماضي، وفعلت الفعلة نفسها في الرمادي مؤخراً.

أما مصدر الحل السياسي، العراقي أولاً والسوري ثانياً، فنفسه، وهو جاء من أروقة الديبلوماسيين العاملين في وزارة الخارجية الاميركية، وممن تم انتدابهم للعمل في بغداد، ثم في دمشق.

يتصدر من عملوا في السفارة الاميركية في العراق السفير ريان كروكر، ونائب رئيس البعثة في العراق ثم السفير في سوريا روبرت فورد، والسفير الأميركي الحالي في الامارات العربية المتحدة مايكل كوربن، والعراقي – الاميركي علي خضري، الذي يعمل اليوم مستشاراً لشؤون العراق في القطاع الخاص، وإلى حد أقل السفير السابق في لبنان ومستشار الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية حالياً جيفري فيلتمان. والديبلوماسيون الاميركيون الذين صنعوا الحل العراقي، ونجحوا في انهاء حرب اهلية، وفي تخفيض مستوى العنف الى ما دون مستوى العام ٢٠٠٢، وظفوا خبرتهم العراقية في الملف السوري، فتلقف ذلك أوباما وفريقه، وجعلوا من “الحل السياسي” في سوريا بمثابة المخرج الوحيد، على غرار ما حصل في العراق.

وقبل خروجه الى التقاعد بقليل، وصف فورد الحل في سوريا انه على شكل دراجة هوائية لا يمكنها السير على عجلة واحدة، بل هي تحتاج الى عجلتين، واحدة عسكرية وثانية سياسية.

والعجلة العسكرية هي الجزء المفقود من خطة أوباما، في سوريا كما في العراق، وما حكومة الوحدة الوطنية التي تقف متفرجة أمام سيل الدماء العراقية الا خير دليل على ذلك، كما لا يمكن للعسكر وحدهم فرض حل، حسب التعبير الذي يكرره أوباما ومسؤولوه، لا يمكن كذلك للعجلة السياسية وحدها أن تشكل مخرجاً، لا في العراق ولا في سوريا. ومن نافل القول إن من شاركوا في تثبيت الوضع في العراق من المسؤولين العسكريين الاميركيين يدركون ضرورة قيام تكامل بين السياسي والعسكري.

وكان قائد الاركان الجنرال مارتن ديمبسي، قال في جلسات الاستماع التي خصصت لبدء الحملة الجوية في العراق ضد تنظيم “الدولة الاسلامية”، الصيف الماضي، إن انشاء قوات حرس وطني من رجال العشائر السنية العراقية، يكون مستقلاً عن سلطة بغداد المركزية، هو أمر في صلب الحلّ في العراق. وبالطريقة نفسها، كانت فكرة تدريب قوة من “المعارضة السورية المعتدلة” لتواكب الحل السياسي في سوريا. لكن لأوباما حسابات أخرى، فهو يخشى أن يؤدي تسليح عشائر العراق أو سوريا، ضد “داعش” أو ضد الأسد، إلى اعتراض ايراني ينسف فرص التوصل إلى اتفاقية مع ايران. لذلك، تمسّك أوباما بالحديث عن “حل سياسي” في سوريا، ولكن بعدما افرغ هذا الحل من بعض متطلباته، فتحول حديثه عن الحل السياسي، في سوريا كما في العراق، الى تكرار ممل لعبارات ولادعاءت كاذبة مفادها ان التحالف الدولي ضد “الدولة الاسلامية” يحقق انتصارات.

ربما كان الأفضل لأوباما، بدلاً من إعطاء النموذج العراقي الفاشل مثالاً لحل سوري يشابهه فشلاً، أن يقول إن الحل الوحيد، في العراق كما في سوريا، هو على طاولة المفاوضات النووية مع إيران.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى