صفحات العالم

مقالات تناولت الموقف الإيراني والمستجدات على الساحة السورية

المفاوضات النووية الإيرانية… نحو اتفاق مرحلي جديد/ بشير عبد الفتاح

على رغم أن الجولة الحالية من المفاوضات النووية رتبت بغية إدراك اتفاق نووي شامل ونهائي بين إيران والسداسية الدولية يضع بدوره نهاية لمفاوضات سرية وعلنية، قارب عمرها عقدين من الزمن، لم تحلْ الآمال المعقودة على المرونة المتوقعة من الرئيس الإيراني حسن روحاني دون بروز معوقات من شأنها أن تعرقل التوصل إلى اتفاق نووي نهائي وتختزل مخرجات المفاوضات في اتفاق نووي مرحلي ربما يكون أشمل بنوداً وأطول مدى من ذلك الذي أبرم في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013.

ويتجلى أبرز تلك المعوقات في:

– تشبث غالبية الإيرانيين بالحلم النووي؛ فبينما تعهد روحاني بالتمسك بثوابت سياسة بلاده النووية، وبألاّ تتوقف أجهزة الطرد المركزي عن العمل، أكد علي أكبر ولايتي (مستشار مرشد الثورة للشؤون الدولية) أن إيران ستتابع العمل من أجل امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية، ولن تتراجع عن حقوقها في هذا الصدد، لأن المرشد لن يسمح بأي تنازلات خلال المفاوضات النووية، امتثالاً لإرادة الشعب وحفاظاً على استقلال البلاد.

– تشدد المرشد؛ فعلى رغم الدعم الحذر الذي يبديه خامنئي للمحادثات النووية مع الغرب توخياً لتقليص عزلة طهران وثني الغرب عن الضغط عليها في شأن قضايا أخرى كسورية والتدخل في عدد من الدول العربية، فإنه لا يرغب في تمكين روحاني من إبداء مزيد من المرونة، لا سيما أن خامنئي لا يبدو مستعداً لتقديم تنازلات لإنجاح المفاوضات استناداً إلى عدم قناعته بجدواها، إذ لم يتردد في إبداء خيبة أمله في شأن «خطة العمل المشتركة» الموقتة الموقعة في جنيف خلال تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ولا حتى تشاؤمه الكبير في شأن الوصول إلى اتفاق نهائي.

ولعل خامنئي لا يثق بالعائدات المنتظرة من التنازل عن مواصلة تطوير البرنامج النووي لبلاده، موقناً بأن تنازلاً كهذا قد يثير التيارات المتشددة في الداخل ويهدد أركان نظام ولاية الفقيه، في الوقت الذي لن يضمن إنهاء العقوبات كلياً وسريعاً.

وتأسيساً على ذلك، يعتقد خامنئي أن رفع العقوبات عن بلاده لن يتحقق إلا من خلال دعم قدراتها النووية، بما يتيح زيادة نفوذها بوصفها قوة إقليمية وعالمية، وليس من خلال التنازلات التي تهوي بإيران إلى غياهب التمزق والفوضى على غرار ما جرى مع الاتحاد السوفياتي وليبيا معمر القذافي.

وربما لا يكترث خامنئي كثيراً باقتراح روحاني إجراء استفتاء، حيث تقتضي خصوصية النظام السياسي الإيراني أن يعود القول الفصل في أمر المفاوضات النووية إلى المرشد، بغض النظر عن نتيجة استفتاءات شعبية ستظل نتائجها بلا معنى طالما استعصى الأخذ بها إذا خالفت إرادة المرشد، ولعل هذا يفسر تجميد المادة المتعلقة بالاستفتاء في الدستور منذ وضعه.

– تربص المتشددين: لا تزال الديناميات الداخلية في إيران تشكل عقبة رئيسية أمام إنجاز اتفاق شامل وطويل الأمد في شأن البرنامج النووي الإيراني. حيث يرفض الأصوليون – المهيمنون على مفاصل السلطة كالبرلمان والإعلام وقوات الجيش والشرطة وغيرها – أي توجه من روحاني لإبداء مرونة خلال المفاوضات النووية، متذرعين بأن هذه التنازلات ستنال من الثورة وتقوّض ركائز نظام ولاية الفقيه.

وما برح التيار المتشدد يسعى بمباركة خامنئي لمحاصرة روحاني داخلياً بغية تكبيل يديه خلال المفاوضات النووية، متيقناً من أن ولع روحاني بالاحتفاظ بشرعيته الداخلية ربما يفوق هرولته لبلوغ نجاح قد لا يتسنى تحقيقه.

– تعثر الجولة الحالية: لم تكن بدايات الجولة الحالية من المفاوضات النووية مبشرة بأي حال،إذ استهلها الطرفان بتأكيد تشددهما وصلابة مواقفهما، فبينما يتمسك الإيرانيون بحقهم في تخصيب اليورانيوم وبالتعليق الكلي والفوري للعقوبات عقب إبرام اتفاق، يرفض الكونغرس واللوبي اليهودي وضعاً كهذا. وعلى غير استحياء، هرع كل طرف نحو إطلاق التهديدات للطرف الآخر.

وليس بخافٍ مدى حساسية موقف باراك أوباما في الكونغرس الجديد بعدما خسر حزبه الأكثرية في المجلسين وبفارق كبير في مجلس النواب (٢٤٧ جمهورياً/ ١٨٨ ديموقراطياً)، ما يعني ضمان تمرير مشروع العقوبات هناك إذا وافق عليه مجلس الشيوخ (٥٤ جمهورياً و٤٦ ديموقراطياً فيما تؤيد المشروع مجموعات ضغط بعضها مقرب من إسرائيل، كلجنة العلاقات الأميركية الإسرائيلية (آيباك) وربما لا يواجه مانينديز وكيرك صعوبات جمة في توفير الستين صوتاً المطلوبة لتمرير المشروع في مجلس الشيوخ مع اصطفاف ديموقراطيين إلى جانب الجمهوريين ضد البيت الأبيض، في ما يخص الأزمة النووية الإيرانية على وجه التحديد، الأمر الذي قد يجبر أوباما على استخدام حق النقض (الفيتو) توخياً لإبطال المشـروع والحيـلولة دون فــرض عقوبات جديدة على إيران.

ولما كان استخدام الفيتو ضد مشروع قرار وافق عليه الكونغرس أمراً غير محبذ لأي رئيس، فقد التمس أوباما سبلاً شتى لتفادي هذا الحرج، حيث طلب من الكونغرس إمهاله أشهراً عدة لإدراك اتفاق شامل مع إيران.

وعلى الجانب الإيراني، حذّر عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى إسماعيل كوثري، من التمادي في زيادة المطالب الغربية، مهدداً بمواصلة البرنامج النووي لبلاده كما فعلت طهران في السابق إذا ما لم تسفر المفاوضات عن نتائج إيجابية، لافتاً إلى إمكان لجوء مجلس الشورى إلى إجبار الحكومة على تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة إذا أصرّت مجموعة الدول الست على طرح مزيد من المطالب غير المنطقية.

وهكذا، يبدو الرهان على إدراك اتفاق نهائي يكفل إنهاء أو تجميد البرنامج النووي الإيراني كلية نظيرَ التعليق الكلي للعقوبات أمراً مستبعداً، خصوصاً مع تمسك كل طرف بمواقفه. فإيران تتشبث بمطلب إنهاء كل صور العقوبات الدولية والأحادية المفروضة عليها في شكل فوري وشامل، بينما يصرّ المجتمع الدولي بدوره على تجميد طهران أولاً كل نشاطاتها النووية تماماً، ثم اتخاذ إجراءات بناء ثقة تجاه الغرب قد تمتد عشرين عاماً، بينما يتم رفع العقوبات في شكل كامل ونهائي.

وربما يجنح المفاوض الإيراني – خلال الجولة الحالية من المفاوضات – إلى المطالبة بتعليق أشكال العقوبات كافة، مقابل إبداء مزيد من التعاون في ما يخص إجراءات الرقابة والتفتيش والتحقق من قبل الخبراء الدوليين، فضلاً عن تخفيض وتيرة النشاطات النووية الإيرانية فقط وليس تجميدها كلية، وهو العرض الذي قد يقابله المجتمع الدولي – إذا ما ارتضاه – بتخفيض جزئي ومتدرج بالوتيرة للعقوبات، أملاً ببلوغ اتفاق نهائي ولو بعد حين.

ففي إيحاء من روحاني بإمكان الموافقة خلال الجولة الثانية عشرة من المفاوضات على تقليص عدد أجهزة الطرد المركزي وتخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم مقابل إنهاء العقوبات على بلاده، شدّد على أن مبادئ الإيرانيين ليست منصبة في أجهزة الطرد المركزي المُستخدمة لتخصيب اليورانيوم، وإنما تتعلّق بقلوبهم وإرادتهم. وذهب أبعد من ذلك حينما أكد أن إبداء مزيد من الشفافية وتخفيض مستوى التخصيب بنسبة معيّنة ليست إيران في حاجة إليها لا يعني التفريط في المبادئ. وهي الإشارات التي يُفهم منها ميل روحاني إلى التوصل لاتفاق مرحلي جديد مع الدول الست على غرار ذلك الذي تمّ في تشرين الثاني 2013، والذي قضي بتعليق فرض عقوبات جديدة على طهران، فضلاً عن الإفراج عن بعض الأرصدة الإيرانية المجمّدة في الخارج، مقابل تخفيض طهران مستوى تخصيب اليورانيوم من نسبة 20 في المئة إلى نسبة 5 في المئة فقط. وبناء عليه، ستبقى فرص التوصل إلى اتفاق مرحلي جديد أكبر بكثير من احتمالات إدراك اتفاق نهائي. ذلك أن هامش حرية الحركة أو التفويض الممنوح للمفاوض الإيراني لن يسمح له بالذهاب أبعد من ذلك، كما أن أطرافاً إقليمية مؤثرة لن تسمح للمفاوضين الغربيين بالتجاوب مع المطالب الإيرانية.

ولعل الولي الفقيه يراهن على أن يدفع الوضع الإقليمي المعقّد والنظام الدولي المرتبك بالمفاوض الغربي لتمرير اتفاق نووي مرحلي جديد تراه الجماعة الدولية – رغم تواضعه – إنجازاً أفضل من فشل المفاوضات ووضع الغرب في موقف صعب، في ضوء الافتقار إلى أية خيارات بديلة ناجزة يمكن اللجوء إليها في الوقت الحالي لحمل طهران على إبداء مزيد من المرونة والانصياع للإرادة الدولية. وهنا يطلّ التساؤل حول إمكان قبول الأجنحة المتشدّدة داخل واشنطن وخارجها بنتيجة من هذا النوع، فضلاً عما يمكن أن يتمخّضعنه ذلك المآل لجولة المفاوضات الأخيرة من ردود أفعال على الصعيدين الإقليمي والدولي.

* كاتب مصري

الحياة

 

 

 

 

معركة إيران في جنوب سوريا ودلالاتها

شهد الموضوع السوري حدثاً عسكريا وسياسياً بارزا تمثّل في الهجوم الكبير الذي تقوم به قوات من «حزب الله» اللبناني والحرس الثوري الإيراني على جنوب سوريا، كما يشارك فيه مقاتلون عراقيون وأفغان.

وبحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، فإن قائد الحزب في معارك سوريا الجنوبية هو مصطفى بدر الدين، أحد المتهمين المطلوبين من المحكمة الدولية المختصة بمتابعة قضية قتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، فيما يقود القوات الإيرانية الجنرال الشهير قاسم سليماني، وهو ما يحمّل هذه المعركة دلالات سياسية ورمزية مهمة.

أول نتائج هذا الحدث إن تبعية عتاد وجنود وقيادة هذه المعركة للتحالف الإيراني ـ اللبناني، يقارب تسليم النظام في دمشق لسيادته الافتراضية على البلد، ويعزّز هذه النتيجة ما رشح من أخبار عن إعدام الإيرانيين لـ13 ضابطاً من الجيش العربي السوري، وهو ما يعني كفّاً نظرياً ليد النظام عن جهاز العسكري نفسه.

يمكن للنظام السوري أن يعزّي نفسه بأنه يستخدم ورقة «حزب الله» وإيران لحسم معاركه الداخلية، كما فعل في حمص والقلمون من قبل، ولكنّ الواقع يقول إن من يتحكّم في معارك الأرض هو من يقرّر أين تبدأ خارطة السيادة السياسية لسوريا وأين تنتهي.

الدلالة السياسية الرمزية الأولى تتمثّل في تركّز المعارك حول درعا، المدينة التي انطلقت منها الثورة السورية، غير أن تنكّب الإيرانيين وحزب الله لمهمة إنهاء الثورة في مهدها الذي انطلقت منه يحوّل الثورة من حرب على النظام إلى حرب ضد قوى أجنبية، ولا يخفّف البتة من وقع فكرة «الاحتلال الأجنبيّ» هذه أن القوى المشاركة من طبيعة مذهبية شيعيّة، فالصراع السنّي ـ الشيعيّ كان يمكن صرفه بـ»العملات المحلّية»، لولا أن التدخّل الفارسي المعلن، يقوّض كافة الأركان السياسية والدينية في بلد يحتل بشار الأسد فيه منصب الأمين العام لحزب «البعث العربي الإشتراكي» ذي الرسالة الخالدة للأمة العربية الواحدة.

الدلالة السياسية الثانية تقصّد «حزب الله» تكليف مصطفى بدر الدين، المتهم بقتل رفيق الحريري، يحمل دلالة سياسية مهمة ثانية، فبعد ظهور بدر الدين المذكور في حفل عزاء جهاد نجل القائد العسكري السابق لحزب الله عماد مغنية يأتي إعلان مشاركته السورية أثناء الاحتفال بذكرى اغتيال الحريري ليصبح الموضوع تعريضاً مباشراً بتيّار «المستقبل» وبسنّة لبنان، وهي رسالة تعني أن اغتيال القادة السياسيين والإعلاميين في لبنان، ودعم نظام الأسد في سوريا، وإعلاء راية إيران على المنطقة العربية، مشروع شامل لا تنفصم عراه عن بعضها البعض.

الدلالة السياسية الثالثة هي استخدام «حزب الله» عنوان معركة «شهداء القنيطرة»، وهي المدينة التي في أذهان السوريين رمز للصراع مع العدو الإسرائيلي في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وبذلك لا يحتلّ «حزب الله» أراضي سورية، ويقاتل سوريين فحسب، بل يسرق من الشعب السوري أيضاً منظومة العداء لإسرائيل، كما فعل مع أحزاب المقاومة اللبنانية التي تم اغتيال قادتها وطردها بالقوة من معركة القتال مع إسرائيل وإلحاقها بـ»حزب الله» وحده.

إضافة إلى ذلك كله يستهدف الهجوم الثقل الأساسي للمعارضة العسكرية السورية «المعتدلة»، والمدعومة عربيّاً، كما فعل «حزب الله» في معارك القصير والقلمون، وهو ما يخلي الأرض عملياً وسياسيا للتنظيمات السلفية المسلحة، متمثلة بـ»جبهة النصرة» و»الدولة الإسلامية»، وهو الهدف الذي اشتغل عليه النظام السوري منذ بدايات الأزمة، ليفرض نفسه ضمن تقاطع مصالح موضوعي مع الدول العربية والغربية، التي ستضطر للتعامل مع الأسد وحلفائه للقضاء على تلك التنظيمات.

مشاركة الإيرانيين المباشرة تقول إن الهدف الأوسع للمعارك يتجاوز كسر المعارضة السورية المسلحة إلى السيطرة على حدود سوريا مع لبنان وإسرائيل والأردن، وهو ما سيؤمّن أوراقاً هائلة للعب في يد طهران قبل بدء مفاوضاتها مجدداً مع الدول الغربية، لكنّ الطموح الإيراني، سيصطدم بعقبة كأداء تتمثّل في السوريين أنفسهم الذين سيتفانون في قتالهم احتلالا أجنبياً، كما أنه قد يفعّل الجبهة العربية والغربية ضد إيران، فتصبح إيران و»حزب الله» الضحيّة الأخيرة لهدف مستحيل التحقيق.

القدس العربي

 

 

 

لماذا تواصل إيران المأزومة اقتصاديًّا دعم حلفائها؟/ د. فاطمة الصمادي

ملخص

تتناول هذه الورقة الدوافع والأسباب التي تجعل إيران تواصل دعم حلفائها في الخارج بالمال والسلاح على الرغم من الكلفة العالية لهذا الدعم. وتناقش فيما إذا كانت العقوبات الاقتصادية وكذلك تراجع أسعار النفط قد تركا تأثيرًا سلبيًّا على النفوذ الإيراني الإقليمي أو قادا لإضعافه، وتجادل الباحثة بأن العقوبات لم تحُلْ دون دعم إيران لنظام الأسد بالمال والسلاح والمقاتلين، فضلاً عن التأكيد بمواصلة الدعم على الرغم من الانخفاض في أسعار النفط. وكذلك الحال بالنسبة إلى الميلشيات الشيعية في العراق وميلشيا أنصار الله الحوثية في اليمن، وغيرها من المجموعات الموالية لإيران في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من المأزق الاقتصادي الذي تمرُّ به إيران، استطاع الرئيس الإيراني حسن روحاني أن يقر موازنة حكومته للعام المالي الجديد بنحو 294 مليار دولار، بزيادة 4.3% عن موازنة العام المالي الجاري، وزادت الميزانية المخصصة للحرس الثوري إلى الثلث.

وتخلص الورقة إلى أن العقوبات وكذلك تراجع أسعار النفط لم يُحْدِثَا تأثيرًا سلبيًّا عميقًا على دعم إيران للموالين لها. ولا ترى الباحثة وجود أية مؤشرات تدل على تراجع إيران مستقبلاً عن دعم الموالين لها بالمال والسلاح والتدريب؛ حيث يرى صانع القرار الإيراني في هذا الدعم ضرورة للأمن القومي الإيراني، وكذلك لتحقيق مزيد من النفوذ بما يعزز مكانة إيران ودورها الإقليمي.

يساعد في فهم وتفسير السلوك السياسي الخارجي الإيراني، ومن ذلك الدعم الذي تقدمه إيران لحلفائها في الخارج، الرجوع إلى نظرية الدور، انطلاقًا من كون السياسة الخارجية الإيرانية باتت محكومة بثنائية التهديد والفرصة، كما أنها في وجهها الإقليمي تحوي ثلاثة أبعاد؛ هي: التركيبة وعامل الأرض، وعامل الجغرافيا في البعد الجيوسياسي، والعامل الإنساني في بُعْد الوساطة.

ويشكِّل البحث الإيراني عن دور إقليمي ودولي معترف به مدخلاً مهمًّا لمعرفة خلفيات إصرار صانع القرار الإيراني على مواصلة تقديم الدعم للحلفاء في الخارج؛ وذلك على الرغم مما تعانيه البلاد من وضع اقتصادي حرج فرضته العقوبات المفروضة على إيران منذ عقود. إن ما يسميه هولستي (K. Holsti) القيام بالدور؛ وينطلق بصورة أساسية من ما تحمله النخبة السياسة من تصورات للدور الوطني، ويأتي ذلك محكومًا بعدد من الخصائص الاقتصادية، والاجتماعية والثقافية للدولة(1).

وقد يُسهم في الفهم -أيضًا- اللجوء إلى نظريات سلوك الدولة (Theories of state behavior)، ونظريات العلاقات الدولية التي تسعى لفهم سلوك الدولة وشرح دوافع ومحركات هذا السلوك الخارجي؛ الذي يرتبط بصورة كبيرة بالمحيط الذي يحيط بتلك الدولة وتتحرك داخله ومن خلاله.

وتبدو نظرية الواقعية الكلاسيكية (Classical Realism)، مفيدة على هذا الصعيد؛ خاصة فيما يتعلَّق بالهدف، فهي تجادل بأن البحث عن القوة والأمن هو هدف كل الدول(2)، وهو المحرك الأساسي لسلوك الدولة، ويُظهر الأداء السياسي الإيراني ميلاً واضحًا للحصول على القوة والأمن، ولتحقيق هذا الهدف تسعى إيران إلى زيادة في قوتها بالتزامن مع إضعاف الخصوم والأعداء، وعليه فإن مجمل أداء إيران يأتي في إطار جمع ومضاعفة عناصر القوة، ويجري النظر إلى كل دولة من الدول الأخرى كمنافسين؛ باعتبار أن القوة إذا لم تكن في يد الدولة ذاتها فهي خطر عليها(3).

ويلتقي ذلك -أيضًا- مع ما يُطلق عليه: المصلحة الذاتية للدولة التي تُصاغ بعبارات دينية مألوفة تتعلَّق بعضها بـ”القانون الإلهي”، ويتعلَّق بعضها الآخر بـ”القانون الطبيعي”(4)، ويمكن توسيع نموذج الدور؛ بحيث يشمل المستويين الداخلي والخارجي؛ حيث يتمُّ في الأول بحث الأدوار السياسية في إطار الأنساق السياسية من الداخل، وبحث هيكل الأدوار وتوزيعاتها وتفاعلاتها فيما يتعلَّق بالأنساق الفرعية أو بالنسق الكلي، ورَبْط ذلك بالمستوى الثاني، بحيث يجري بحث الأدوار السياسية في إطار النسق السياسي الدولي/الخارجي، والتركيز على الأدوار التي يشغلها السياسيون/الدول/الجماعات(5).

تبحث هذه الورقة في الدوافع والأسباب التي تجعل إيران تُواصل دعم حلفائها في الخارج بالمال والسلاح على الرغم من الكلفة العالية لهذا الدعم.

الدولة المرهقة اقتصاديًّا

لم يكن انخفاض الإيرادات متوقعًا؛ وهو ما جعل الرئيس الإيراني حسن روحاني يعمد إلى خفض كبير في الميزانية، والبحث عن موارد أخرى، وبدأ روحاني خطة لتقليل الاعتماد على النفط الإيراني، وإن كان يُدرك أن مستقبله السياسي مرتبط بشكل أو بآخر بأسعار النفط، وما يمكن أن تسفر عنه نتائج المحادثات بين إيران والدول الكبرى (5+1) بشأن ملفها النووي.

في ديسمبر/كانون الأول الماضي قدَّم الرئيس الإيراني ميزانية حكومته لعام 2015 على أساس أن متوسط سعر النفط هو 72 دولارًا للبرميل نزولاً من نحو 100 دولار للبرميل في ميزانية 2014؛ لكن النفط واصل انخفاضه إلى ما دون 50 دولارًا، وقد يستقرُّ عند ذلك لفترة ليست بالقصيرة، وبناء عليه خفضت الحكومة السعر المتوقَّع مرة أخرى إلى 40 دولارًا للبرميل، ويأتي انهيار أسعار النفط في وقت تعاني فيه إيران من تحديات سياسية واقتصادية خطيرة بسبب سوء الإدارة والفساد والعقوبات الدولية، ولا يزال التضخم مشكلة حقيقية على الرغم من انخفاضه عن معدلاته السابقة، ومع نهاية عام 2014 رفعت إيران أسعار الخبز ضمن خطة للإصلاح الاقتصادي أقرت مراحلها الأولى في عهد الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد. وتعالت حدَّة المخاوف من فشل حكومة روحاني في خفض معدل التضخم إلى 20% خلال العام الجاري 2015، وهو ما كان مخططًا له في برامج الحكومة ووعودها، وتقول الحكومة: إن معدل التضخم تراجع من 35% في عام 2013 إلى 25% في العام الماضي 2014(6).

ويعتقد روحاني ووزير النفط في حكومته بيجان زنكنه أن انهيار أسعار النفط هو “مؤامرة سياسية” تستهدف إيران، ويحذِّر من أن ذلك يرتب تبعات اقتصادية على الدول المنتجة وفي مقدمتها السعودية والكويت(7)، ووجهت إيران دعوات متكررة للسعودية لخفض الإنتاج من أجل رفع الأسعار(8)، مع تحذيرات بأن “التلاعب بأسعار النفط سينتهي في غير مصلحة السعودية”(9).

وعلى الرغم من أزمة النفط، والاتهامات التي كالها روحاني لأوبك بأنها وراء “افتعال هذه الأزمة”، فإنه أقرَّ موازنة للعام المالي الجديد بنحو 294 مليار دولار، بزيادة 4.3% عن موازنة العام المالي الجاري، وزادت الميزانية المخصصة للحرس الثوري إلى الثلث.

وعَكْس كثير من التكهنات التي قالت بتأثيرات كبيرة فإن انهيار أسعار النفط منذ يونيو/حزيران 2014 لم يترك إلى الآن سوى تأثير متواضع على إيران وأدائها السياسي(10)، ومن الملاحظ أنه عندما كانت أسعار النفط عالية في السنوات الأخيرة، فإن العقوبات ألحقت ضررًا كبيرًا بالاقتصاد الإيراني؛ ولكن تلك العقوبات نفسها كانت سببًا في تخفيض الأثر السلبي على إيران نتيجة انخفاض أسعار النفط. فقد عمدت إيران في السنوات الأخيرة بصورة ذكية إلى عقد صفقات النفط في بلدان العملاء، وتستخدم عائدات النفط لدفع ثمن السلع والخدمات التي تنتجها تلك البلدان. ولأكثر من عامين، كانت إيرادات النفط الإيراني تتراكم في البنوك الخارجية بسبب العقوبات، وفي أوائل عام 2015 بلغت عشرات المليارات من الدولارات في الصين والهند وغيرها من عملاء كبار للنفط الإيراني. وما فعله انخفاض أسعار النفط أنه قلل من كمية المال الذي يودع في الحسابات الخارجية، وعمدت طهران خلال السنوات الأخيرة إلى تقديم شروط ائتمان سخية للعملاء حتى لا يكون هناك تأخير بين تسليم النفط والسداد.

العقوبات.. أسعار النفط وحلفاء إيران

تعترف إيران بأن العقوبات الدولية على قطاعي الطاقة والمالية الرئيسية في إيران أضرت بالاقتصاد الإيراني، وقد أسهمت هذه العقوبات بشكل كبير في دفع إيران إلى القبول بفرض قيود على برنامجها النووي مقابل تخفيف متواضع ومحدود للعقوبات المفروضة، وهو ما تضمَّنه اتفاق جنيف النووي المؤقت؛ الذي جرى التمديد له مرتين، وما زال قائمًا حتى (6 من يوليو/تموز 2015) الموعد النهائي لتوقيع اتفاق شامل.

واستهدفت العقوبات بصورة قوية صادرات النفط الخام الإيراني، وقد انخفضت إلى حوالي 1.1 مليون برميل يوميًّا في نهاية عام 2013، أقل جدًّا من 2.5 مليون برميل يوميًّا صدَّرتها إيران خلال عام 2011، وقاد ذلك انكماش الاقتصاد الإيراني بنحو 5% في عام 2013، كما انخفض أداء القطاع الخاص الإيراني، وأصبح العديد من عملياته ومن القروض متعثرًا، كما قَلَّصَت العقوباتُ قدرة إيران على شراء المعدات النووية والصاروخية؛ إضافة إلى استيراد برامج الأسلحة التقليدية والمتقدمة؛ ومع ذلك فإن العقوبات لم تَحُلْ دون دعم إيران لنظام الأسد بالمال والسلاح والمقاتلين، وكذلك الحال بالنسبة إلى الميلشيات الشيعية في العراق، وميلشيا أنصار الله الحوثية في اليمن، وغيرها من المجموعات الموالية لإيران في الشرق الأوسط(11).

ما الآثار التي تركتها العقوبات على النفوذ الإيراني في المنطقة؟ وهل قادت لإضعافه؟

من الواضح أنه لا العقوبات ولا تراجع أسعار النفط التي هبطت إلى نحو 50% منذ يونيو/حزيران 2014 قد أظهرت مؤشرات تدلُّ على تراجع إيران عن تسليح الحركات الموالية لإيران في الشرق الأوسط؛ لكن ذلك بالتأكيد أثَّر على إنفاق هذه الحركات وشبكاتها الاجتماعية ومشاريعها الاقتصادية؛ ففي سوريا واصلت إيران توفير المعدات العسكرية والمستشارين لنظام الأسد، وأكَّدت أن هذا الدعم سيتواصل على الرغم من الانخفاض في أسعار النفط(12).

وتتحدَّث تقديرات عن أن المساعدات الإيرانية للنظام في سوريا تتراوح بين مليار وملياري دولار شهريًّا، ويتم إنفاق نحو 500 مليون دولار على المساعدات العسكرية، يذهب معظمها إلى قوات الدفاع الوطني، التي باتت تدار بصورة أو بأخرى من قِبَل قادة تابعين لفيلق القدس التابع للحرس الثوري، وعند حساب الودائع البنكية والمنحة النفطية إضافة إلى المساعدات العسكرية ترتفع التقديرات إلى 10 مليارات دولار شهريًّا. ودون استمرار هذه المساعدة لن يكون نظام الأسد قادرًا على البقاء(13)، وأَخَذَ الدعمُ الإيراني شكلاً أكثر وضوحًا للميلشيات العراقية، وواصلت إيران تصدير الأسلحة إلى الحوثيين في اليمن؛ وهي المساعدة التي عززت من موقع الميلشيا الحوثية في اليمن، ووسَّعت من نطاق سيطرتها على العاصمة اليمنية صنعاء، وهو ما أجبر الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي على الاستقالة في يناير/كانون الثاني 2015.

حزب الله

مع تراجع أسعار النفط تمَّ تقليص المنحة المالية التي كانت تُدفع لحزب الله من إيران، واضطر الحزب إلى خفض رواتب أعضائه وموظفيه، وتأجيل دفع المساعدات الشهرية لأصدقائه وحلفائه السياسيين في لبنان، وأعطت إيران الأولوية في الدعم لسوريا ومواجهة تنظيم الدولة في العراق(14)؛ لكن لا توجد مؤشرات تدلُّ على أن الصعوبات المالية التي يواجهها الحزب تمثِّل تهديدًا مباشرًا لمكانته وعلاقاته في لبنان(15).

ولا يمكن إعطاء أرقام دقيقة لمقدار الدعم المالي الذي تُقدِّمه إيران سنويًّا للحزب؛ لكن التخمينات تتحدَّث عن ميزان مساعدات يتراوح بين 60 و200 مليون سنويًّا خلال العقد الماضي(16)، ونقل موقع إيراني عن صحيفة كويتية القول: إن الدعم السنوي يصل إلى 350 مليون دولار سنويًّا، وأشار إلى العقوبات المفروضة على إيران دفعت الحزب إلى البحث عن مصادر دخل بديلة؛ منها الحصول على تبرعات من رجال الأعمال الشيعة في الخليج ومناطق أخرى في العالم(17).

ويبدو أن التخفيضات لن تطول البنى الأساسية للحزب؛ لكنها ستطول تحالفاته ومشاريعه المتعلقة بالبنى التحتية في جنوب لبنان والمناطق المحرومة، وعلى سبيل المثال فقد تمَّ خفض المساعدة الشهرية لأحد حلفاء الحزب، وهو جنرال لبناني سابق من 60 ألف دولار إلى 15 ألف دولار شهريًّا(18).

وخلال دعمها للحزب -خاصة عقب المواجهة مع إسرائيل في عام 2006- عمدت إيران إلى صرف مساعدات من مصادر أخرى غير عوائد النفط، وتمت المساعدة بإعادة إعمار الضاحية الجنوبية في بيروت ومناطق في جنوب لبنان بأموال صُرِفَت من صندوق الإمام الرضا بأمر مباشر من مرشد الثورة علي خامنئي(19).

العراق

منذ ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية”، تضاعف الاهتمام الإيراني بالعلاقات مع الحكومة والأطراف الفاعلة في العراق، وعَبَّر هذا الاهتمام عن نفسه بدعم مالي ولوجستي للحكومة العراقية والأطراف التي تُواجه “داعش”، ومن أبرزها قوات “البيشمركة” الكردية، وأصبح الحرس الثوري هو المدير الفعلي والمؤثِّر للملف العراقي، وعلى الرغم من العلاقة القوية مع الحكومة فإن الحرس يفضِّل الاعتماد بشكل كبير على الميلشيات الشيعية التي تربطها مع إيران علاقات وثيقة(20)، وتُرَتِّب هذه العلاقات التزامات مالية على شكل مساعدات نقدية وعينية تُقَدِّمها إيران إلى حلفائها في هذه الميلشيات. وشَكَّل هذا الدعم بصورة أو بأخرى منفذَ إيران لتصبح الدولة الخارجية الأكثر نفوذًا في العراق.

وتدعم إيران ميلشيات مختلفة بتسميات وقيادات مختلفة، ويجمع بينها أنها ميلشيات شيعية؛ ومن أهمها وأكبرها: ميلشيات بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، وجماعات متفرقة من جيش الصدر.

ومنذ احتلال العراق من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية عام 2003 حرصت إيران على إحاطة تواجدها الأمني والعسكري بالسرية والكتمان، ومع نهاية عام 2013 وطوال عام 2014 بدأ مجريات الأحداث تكشف عن حضور إيراني يتجاوز مزاعم مساعدة العراق على التعافي، كما يتجاوز النفوذ في الأوساط السياسية إلى حضور عسكري؛ فقد بدأت إيران في تشييع عناصر من الحرس قضوا في العراق، وتعمَّدت الدعاية الإيرانية التركيز على شخصية الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، والمكلف بالمهمات الخارجية، وجرى الاحتفال بصورة له مع مقاتلين أكراد يواجهون “داعش”، ويتخذ التدخل الإيراني في العراق عنوانًا يركِّز على حماية المراقد الشيعية المقدسة في سامراء والنجف وكربلاء؛ لكنه في حقيقته يتجاوز الديني إلى السياسي؛ فتطورات الوضع في العراق وصعود “داعش” كان فرصة لإيران لتُثبت مزاعمها بأنها قوة مهمَّة في الشرق الأوسط، وينبغي الاعتراف بها کمفتاح أساسي في حلِّ معضلات المنطقة، وهو ما جعل عشر دول تطلب مساعدتها رسميًّا في مواجهة “داعش”(21).

بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، أدَّت إيران دورًا كبيرًا في تدريب وتسليح الميلشيات الشيعية؛ لكن في الوقت ذاته سلحت إيران مجموعات سنية مناوئة للولايات المتحدة الأميركية(22)، ومع الانسحاب الأميركي من العراق في عام 2011 بدأ البلد الذي يشهد انقسامًا طائفيًّا حادًّا يدخل في تحولات خطيرة كان أبرزها صعود قوة تنظيم “داعش” وتمدده عام 2014؛ لقد أوجدت هذه التطورات أهدافًا مشتركة للطرفين الإيراني والأميركي.

 

وعلى الرغم من أن إيران تستخدم هذه المداخل للإمساك بمزيد من الأوراق الرابحة؛ التي تستثمرها في قضايا عديدة، بما في ذلك المفاوضات النووية، فإنها تعمد لإعطاء ذلك صبغة إنسانية قيمية “لقد أدرك العالم حقيقة أن البلد الأول الذي يهرع لمساعدة الشعب العراقي في المعركة ضد التطرف والإرهاب كانت جمهورية إيران الإسلامية”(23).

ولم يقتصر الدعم المالي الإيراني على الميلشيات الشيعية التابعة لها، التي كان الكثير من قادتها يقيمون في إيران؛ بل نجحت إيران في استمالة مقتدى الصدر وجماعته؛ الذين عارضوا في البداية تدخُّل إيران في العراق، وقد دعمت إيران في مؤسسة قوات الصدر وفي بناء شبكة خدمات اجتماعية لمناصري الجماعة(24)، وتحدثت تقديرات أميركية جاءت في وثيقة مسربة لويكي ليكس عن أن الدعم المالي الإيراني للميلشيات العراقية تراوح بين 100 و200 مليار دولار سنويًّا(25).

اليمن

يميل الخطاب السياسي الإيراني بشأن اليمن إلى توصيف ما يحدث اليوم كونه حراكًا يمنيًّا خالصًا، دون تدخل منها: “البلد الذي كان يعدُّ الساحة الخلفية للسعودية والقاعدة، تبلور اليوم تيار ثوري تأسيًا بالثورة الإسلامية في إيران، وتمكن من إزاحة النظام المستبد العميل السابق، وهو الآن بصدد تأسيس حكومة شعبية مستقلة”(26).

ويبدو الدعم الإيراني للحوثيين سابقًا على السنوات الثلاث الأخيرة، ومنذ عام 2004 وحتى عام 2009 قدَّمت إيران مساعدات مالية وعسكرية للحوثيين، وساندتهم في حربهم ضد نظام علي عبد الله صالح(27)، وتصاعد الدعم الإيراني خلال السنتين الأخيرتين، وخلال العام الماضي 2014؛ دربت إيران العشرات من العناصر الحوثية في قاعدة تابعة للحرس الثوري قرب قم، فضلاً عن إرسال عشرة من الخبراء الإيرانيين لمساعدة قادة الميلشيا الحوثية على الأرض في اليمن.

وتبدو إيران غير عازمة على تخفيض مساعداتها لليمن، وتشير بعض المعلومات(28) إلى أن إيران ضاعفت من مساعدتها للحوثيين خلال الأشهر الأخير، وعقب احتلال العاصمة صنعاء، وتتضمن خطة الدعم الإيرانية بنودًا اجتماعية ومشاريع تتعلق بالبنية التحتية؛ وذلك لتعزيز دور ومكانة جماعة الحوثي في المجتمع اليمني(29).

الدعم وتغيير موازين القوى

تنظر إيران إلى التكلفة البشرية والاقتصادية لوجودها العسكري الخارجي؛ وذلك بوصفه خيارًا لابُدَّ منه لضمان أمنها القومي؛ ففي التاسع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي، قال علي شمخاني الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، أثناء مراسم تشيع الجنرال حميد تقوي(30) القائد في الحرس الثوري: “لقد ضحى تقوي بدمائه حتى لا نقدِّم دماءنا في طهران، إذا لم يقدم (التقويون) دمهم في سامراء، يتعين علينا أن نقدم دمائنا في سيستان وأذربيجان وشيراز وأصفهان”(31).

وتراهن إيران على أن هذا الوجود خطوة في سبيل تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، وهو ما عَبَّر عنه بوضوح نائب قائد الحرس الثوري، الجنرال حسين سلامي، بقوله: “في العراق، لدينا جيش شعبي متصل بالثورة الإسلامية، ويفوق تعداده حزب الله في لبنان عشرات المرات، فضلاً عن مقاومة حلقة المقاومة المركزية في سوريا، على الأرض هناك جيش من الناس المعبئين والمرتبطين بالثورة الإسلامية.. إن حاصل هذه المجاهدة العاشورائية من شأنه أن يغير موازين القوى لصالح الجمهورية الإسلامية”(32).

فالدلائل على تصدير الثورة الإسلامية إلى عدد من المناطق كما يقول قائد فيلق القدس قاسم سليماني “باتت واضحة للعيان؛ حيث وصلت إلى كل من اليمن والبحرين وسوريا والعراق وحتى شمال إفريقيا”(33)، ولولا هذا الدعم لم يكن لإيران أن تتحدَّث عن أن “نفوذها بات يمتد من اليمن إلى لبنان”(34).

خلاصات

لم تُحْدِث العقوبات ولا تراجع أسعار النفط التي هبطت إلى نحو 50% منذ يونيو/حزيران 2014 تأثيرًا على دعم إيران للموالين لها، ولم تظهر أية مؤشرات تدل على تراجع إيران عن تسليح الحركات الموالية لها في الشرق الأوسط؛ لكن ذلك بالتأكيد أثر على إنفاق بعض الموالين مثل حزب الله في إطار شبكاته الاجتماعية ومشاريعه الاقتصادية، دون أن يطول ذلك جانب الدعم العسكري.

جرت عملية إعادة توجيه للمساعدات من منطقة إلى أخرى تبعًا لما تمثله من فرصة (كما في اليمن)، أو تهديدٍ للجمهورية الإسلامية (كما في سوريا والعراق).

يعود الإصرار الإيراني على مواصلة تقديم الدعم إلى أسباب، أهمها:

تنظر إيران إلى التكلفة البشرية والاقتصادية لوجودها العسكري الخارجي بوصفه ضرورة لابُدَّ منها لضمان أمنها القومي.

تراهن إيران على هذا الوجود كخطوة في سبيل تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، والتأثير على ميزان القوى بما يصب في صالح دورها الإقليمي، وتحسين وضعها التفاوضي مع الغرب.

 

د. فاطمة الصمادي: باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات، متخصصة في الشأن الإيراني.

 

المصادر والهوامش

1- Holsti, K. J., “National Role Conceptions in the Study of Foreign Policy”, International Studies Quarterly, Vol. 14, No. 3 (Sep., 1970), pp. 233-309:

http://maihold.org/mediapool/113/1132142/data/Holsti.pdf

2- باوتشر،دايفد ، النظريات السياسة في العلاقات الدولية، ترجمة: رائد القاقون، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2013، ص 29.

3 – Toledo, Peter, Classic Realism and the Balance of Power Theory, Glendon Journal of International Studies, Vol 4 (2005),pp52-62:

http://pi.library.yorku.ca/ojs/index.php/gjis/article/viewFile/35205/31924

4- باوتشر،دايفد ، النظريات السياسة في العلاقات الدولية، ترجمة: رائد القاقون، مرجع سابق، ص 275، 276.

5- Adigbuo, Ebere Richard, National Role Conceptions: A New Trend in Foreign Policy Analysis, chapter 2 of doctoral thesis titled Nigeria?s National Role Conceptions: the Case of Namibia (1975-1990).submitted to the University of Johannesburg –South Africa in 2005:

http://www.wiscnetwork.org/porto2011/papers/WISC_2011-647.pdf

6 – شوقي، فرح الزمان، اقتصاد إيران يختنق بتبخر أسعار النفط، العربي الجديد، 4 من يناير/كانون الثاني 2015، تاريخ الدخول 20 فبراير/شباط 2015:

http://www.alaraby.co.uk/economy/e144d636-7951-4d02-8413-b453c2a9cd37

 

7 – Moghtader, Michelle, Iran’s Rouhani says countries behind oil price drop will suffer, reuters, Jan 13, 2015:

http://www.reuters.com/article/2015/01/13/us-energy-iran-rouhani-idUSKBN0KM0PE20150113

8 – Moghtader, Michelle, Iran says Saudi Arabia should move to curb oil price fall, Reuters, Jan 1, 2015 accessed 13 February2015:

http://www.reuters.com/article/2015/01/01/us-iran-saudi-idUSKBN0KA1OP20150101

9- بازي دو سر باخت عربستان با قيمت نفت/توطئه نفتي بي‌ سرانجام عربستان وآمريکا، (لعبة السعودية الخاسرة مع أسعار النفط.. المؤامرة النفطية ستنتهي في غير مصلحة السعودية وأميركا) وكالة فارس، 8 من فبراير/شباط ،2015، تاريخ الدخول 10 فبراير/ شباط 2015:

http://www.farsnews.com/newstext.php?nn=13931118001525#sthash.6K5Ta2fW.dpuf

10- Reed,Matthew M., How Iran Is Coping With Sagging Oil Prices,Newsweek, Jan 30 ,2015 accessed 13 February2015:

http://www.newsweek.com/how-iran-coping-sagging-oil-prices-303298

11- Katzman, Kenneth, Iran Sanctions, Congressional Research Service, January 28, 2015 accessed 30 February 2015:

http://www.fas.org/sgp/crs/mideast/RS20871.pdf

12 – Al-Khalidi, Suleiman, Exclusive: Iran’s support for Syria tested by oil price drop, Dec 19, 2014:

http://www.reuters.com/article/2014/12/19/us-mideast-crisis-syria-iran-idUSKBN0JX21420141219

13 – Blanford,Nicholas, Correspondent, How oil price slump is putting a squeeze on Hezbollah, Iran’s Shiite ally, The Christian Science Monito, January 4, 2015 accessed 13 February 2015:

http://www.csmonitor.com/World/Middle-East/2015/0104/How-oil-price-slump-is-putting-a-squeeze-on-Hezbollah-Iran-s-Shiite-ally

14- کاهش قيمت نفت وفشار بر حزب الله، (تراجع أسعار النفط والضغوطات على حزب الله) سايت روز، سه شنبه ?? دى:

http://www.roozonline.com/persian/tarjomeh/tarjomeh-item/article/-ad9132e184.html

15 – Blanford,Nicholas, Correspondent, How oil price slump is putting a squeeze on Hezbollah, Iran’s Shiite ally, The Christian Science Monito, January 4, 2015 accessed January 4, 2015:

http://www.csmonitor.com/World/Middle-East/2015/0104/How-oil-price-slump-is-putting-a-squeeze-on-Hezbollah-Iran-s-Shiite-ally

16- کاهش قيمت نفت وفشار بر حزب الله، (تراجع أسعار النفط والضغوطات على حزب الله) مرجع سابق.

17- سهند خوانساري، جمهوري اسلامي سالانه3?0 مليون دولار به حزب ‌الله لبنان کمک مي‌کند، (الجمهورية الإسلامية تقدم مساعدات سنوية لحزب الله لبنان بقيمة 350 مليون دولار)، موقع خود نويس، ??/مهر/????تاريخ الدخول 20 يناير/كانون أول 2015:

https://khodnevis.org/article/46891#.VNh4Xi5PiRp

18 – Blanford,Nicholas, Correspondent, How oil price slump is putting a squeeze on Hezbollah, Iran’s Shiite ally, The Christian Science Monito, January 4, 2015:

http://www.csmonitor.com/World/Middle-East/2015/0104/How-oil-price-slump-is-putting-a-squeeze-on-Hezbollah-Iran-s-Shiite-ally

19 – معلومات من مصادر خاصة بالباحثة.

20 – Nader Alireza, What Are the Iranians Doing in Iraq?, Newsweek, Jan 29,2015:

http://www.newsweek.com/what-are-iranians-doing-iraq-303107

21- سردار همداني مطرح کرد نامه 10 کشور به ايران براي گرفتن کمک فکري در مقابله با تکفيري‌ها، (القائد همداني كشف عن طلب 10 دول مساعدة إيران لمواجهة التكفيريين) وكالة أنباء فارس، 8 من فبراير/شباط 2015، تاريخ الدخول 8 من فبراير/شباط 2005:

.http://www.farsnews.com/newstext.php?nn=13931118000332#sthash.8QyiZTcN.dpuf

22 – Levitt, Matthew, Hezbollah Finances: Funding the Party of God, washingtoninstitute, Feb 2005 accessed 13 February2015::

http://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/hezbollah-finances-funding-the-party-of-god

23- Iran will stand by Iraq until end of anti-ISIL fight: Zarif, Press Tv, Sun Dec 7, 2014 accessed 15 February2015:

http://www.presstv.ir/detail/2014/12/07/389192/iran-will-back-iraq-in-antiisil-fight/

24 – Bazzi, Mohamad, Iran will do what it takes to fight ISIS, January 4, 2015 accessed 15 February2015:

http://edition.cnn.com/2015/01/03/opinion/bazzi-iran-iraq/

25- Iran’s Efforts In Iraqi Electoral Politics, Embassy Baghdad (Iraq)Fri, 13 Nov 2009 accessed 10 February2015:

https://cablegatesearch.wikileaks.org/cable.php?id=09BAGHDAD2992

26 – المدير العام لـ”فارس”: المؤامرة النفطية هي الوجه الآخر للحظر ضد إيران، وكالة فارس للأنباء، 7 من فبراير/شباط 2015 تاريخ الدخول 10 فبراير/شباط 2015:

http://arabic.farsnews.com/iran/news/13931118001680

27 – جزئياتي از کمک‌هاي مالي وتسليحاتي إيران به حوثي‌هاي يمن، (تفاصيل المساعدات المالية والتسليحية الإيرانية للحوثيين في اليمن) العربية فارسي، 16 من ديسمبر/كانون الأول 2014م تاريخ الدخول 10 فبراير/شباط:

http://farsi.alarabiya.net/fa/middle-east/2014/12/16/%D8%AC%D8%B2%D8%A6%DB%8C%D8%A7%D8%AA%DB%8C-%D8%A7%D8%B2-%DA%A9%D9%85%DA%A9-%D9%85%D8%A7%D9%84%DB%8C-%D9%88-%D8%AA%D8%B3%D9%84%DB%8C%D8%AD%D8%A7%D8%AA%DB%8C-%D8%A7%DB%8C%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D9%87-%D8%AD%D9%88%D8%AB%DB%8C-%D9%87%D8%A7%DB%8C-%DB%8C%D9%85%D9%86.html

28- معلومات من مصادر خاصة بالباحثة في طهران.

29- معلومات من مصادر خاصة بالباحثة في طهران.

30- قتل البريجادير جنرال حميد تقوي، القائد في الحرس الثوري، وأحد مؤسسي ما يُعرف بـ”سرايا الخرساني” في مواجهات بمدينة سامراء العراقية في ديسمبر/كانون الأول 2014.

31- شمخاني در مراسم تشييع پيکر “شهيد تقوي”: “سردار تقوي در سامرا خون داد تا در تهران خون ندهيم/آينده منطقه روشن است” (شمخاني في مراسم تشيع “الشهيد تقوي”: القائد توقي قدَّم دماءه في سامراء حتى لا نقدِّم دماءنا في طهران/ مستقبل المنطقة واضح)، وكالة مهر للأنباء، (8 دي 1393 شمسي) 29 من ديسمبر/كانون الأول 2014 تاريخ الدخول 10 فبراير/شباط 2015:

http://www.mehrnews.com/news/2451623/%D8%B3%D8%B1%D8%AF%D8%A7%D8%B1-%D8%AA%D9%82%D9%88%DB%8C-%D8%AF%D8%B1-%D8%B3%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A7-%D8%AE%D9%88%D9%86-%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D8%AA%D8%A7-%D8%AF%D8%B1-%D8%AA%D9%87%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%AE%D9%88%D9%86-%D9%86%D8%AF%D9%87%DB%8C%D9%85-%D8%A2%DB%8C%D9%86%D8%AF%D9%87-%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82%D9%87

32- سردار سلامي در همايش نقش انگليس در فتنه ??: ارتش مردمي عراق متصل به انقلاب با کميتي ?? برابر حزب‌الله است/ أنصار لله يمن منطبق انقلاب إسلامي حرکت مي‌کند، (القائد سلامي في ندوة دور بريطانيا في فتنة 88: الجيش الشعبي العراقي المرتبط بالثورة 10 أضعاف تعداد حزب الله/أنصار الله في اليمن يتحركون وفقًا لمبادئ الثورة الإسلامية)، وكالة فارس للأنباء، (9دي 1393) 30 من ديسمبر/كانون الأول 2014 تاريخ الدخول 10 فبراير/شباط 2015:

http://www.farsnews.com/newstext.php?nn=13931009000551

33- شوقي،فرح الزمان ، إيران تبارك تقدُّم “الحوثيين” وتتحدث عن تصدير ثورتها، العربي الجديد، 11 من فبراير/شباط 2015 تاريخ الدخول 11 فبراير/ شباط 2015:

http://www.alaraby.co.uk/politics/ef925853-131f-4a78-b665-38c964705c9a

34- ولايتي يتحدث عن نفوذ إيراني من اليمن إلى لبنان، صحيفة الحياة، 16 ديسمبر/كانون الأول 2014 تاريخ الدخول 11 فبراير/ شباط 2015:

http://alhayat.com/Articles/6281398/%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%AA%D9%8A-%D9%8A%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D9%86%D9%81%D9%88%D8%B0-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86

 

 

إيران تعزز أوراقها وأميركا تبحث عن “شركاء”!/ جورج سمعان

الرئيس بشار الأسد «جزء من الحل» لوقف العنف. هذا ما قاله صراحة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. تحتاج مبادرته لوقف القتال في حلب موافقة الطرفين المتصارعين، النظام والمعارضة. إعلانه هذا يغضب المعارضة التي ترفض حتى الآن اي دور لرأس النظام. مثلما يغضبها ويقلقها الهجوم الواسع الذي تقوده إيران في الجبهة الجنوبية. ومثلما يربكها ويغضبها توجه الكرد إلى إقامة إقليمهم الخاص في إطار «سورية فيديرالية». لكن ما أعلنه المبعوث الدولي تمارسه الولايات المتحدة التي تقود التحالف الدولي – العربي في الحرب على «الدولة الإسلامية». توصل رسائلها إلى النظام عبر بغداد مبدئياً. وكانت واضحة منذ اليوم الأول لبدء الغارات على «داعش» أنها لن تستهدف مواقع النظام. الأولوية هي إعادة ترتيب الأوضاع في العراق واحتواء خطر «دولة إبي بكر البغدادي». وقد جدد هذه الأهداف الرئيس باراك أوباما بطلبه تفويضاً من الكونغرس لقتال هذه الدولة. أراد إشراكه في الحرب وفي احتمال التدخل الأرضي في حالات الضرورة. وهذا ما أثار موجة من الجدل في بغداد حول عودة الأميركيين. علماً أنه لا يخطط لانخراط ميداني أو للعودة. دفع باتجاه تغيير اللعبة السياسية في العراق أولاً لإرضاء السنة، بعدما قدم الدعم اللازم لصمود الأكراد ثم دفعهم إلى استعادة المبادرة لحماية إقليمهم. ودفع ثانياً باتجاه إعادة إحياء «صحوات» سنية جديدة تكون رأس الحربة في الحرب على الإرهاب وتحرير المحافظات والمدن السنية.

القادة العسكريون في التحالف يدركون أن الغارات الجوية لن تكون كفيلة بهزيمة «الدولة الإسلامية». لن تغير الخريطة العسكرية على الأرض، أو تسهل استعادة مدن كبرى مثل الموصل. لا بد من «شركاء» على الأرض، كما تقول واشنطن. لكن رحلة البحث عن هؤلاء الشركاء تواجه تحديات وصعوبات. في العراق الذي تضعه واشنطن أولوية، ثمة مخاوف وشكوك تنتاب مكونات هذا البلد. أهل السنة الذين ينتظرون تسليح وحدات عشائرية لا تروق لهم رؤية قوات «الحشد الشعبي» التي ترافق القوات النظامية في الحرب على «داعش». بل اتهموها بأنها مارست جرائم حرب في القرى السنية التي تراجعت منها قوات التنظيم. ولا تروق لهم رؤية وجوه عسكرية إيرانية تشارك في القيادة والقتال على الأرض. والتوتر قائم بينهم وبين الحكومة المركزية. والقوى الشيعية يخشى معظمها من تسليح أبناء العشائر لئلا يسقط هذا السلاح في أيدي الإرهابيين، أو يرفع في وجه بغداد عند أي خلاف سياسي.

أما الأكراد فلا يرغبون في القتال وتقديم مزيد من الضحايا من أجل تحرير المناطق السنية العربية من «داعش». لديهم مآخذ عبر عنها بمرارة رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني في حديثه إلى «الحياة». أخذ على عشائر عربية وقوفها مع التنظيم الإرهابي. ورهانها على ضرب الإقليم وإنهاء حلم الكرد باستقلالهم وازدهار مناطقهم… لكن هؤلاء لا يجدون مفراً من الانخراط في الحرب حتى إزالة التهديد الذي تشكله «الدولة الإسلامية» على مستقبل العراق كله والإقليم أيضاً. وهم يريدون أن تكون مشاركتهم إلى جانب القوات النظامية ومقاتلي العشائر. المطلوب هنا، كما في التحالف الدولي، غطاء سني لقتال التنظيم الإرهابي.

على المستوى الإقليمي، تبدي إيران تصميماً واضحاً على منع استثمار خصومها ما حققته «الدولة الإسلامية» في العراق وسورية. لذلك لم تتردد، على رغم استبعادها من التحالف، في الانخراط المباشر في الحرب. في حين لا يبدي خصومها من العرب استعداداً لخطوات مماثلة على الأرض. تكتفي الدول المنضوية في التحالف الدولي – العربي بالمشاركة في الغارات الجوية. ربما تحاذر الصدام المباشر مع الجمهورية الإسلامية وميليشياتها. أو أنها لا ترغب في قتال تبدو فيه كأنها تقاتل بالنيابة عن هذه الجمهورية، خصوصا في العراق. لذلك يستبد القلق بالعشائر وأهل المحافظات الشمالية والغربية التي تخشى تغييرات ديموغرافية مع انحسار «داعش» في بعض المناطق. وبعض التردد في مواقفها نابع من شعورها بأنه أمام خيارين أحلاهما مر: إما الرضوخ لسطوة الميليشيات الشيعية أو القبول بسلطة «الدولة الإسلامية» وسواطيرها وسيوفها وسكاكينها. وفي كلا الحالين ستكون الخاسر الأكبر.

لا شك في أن اندفاعة «داعش» في مساحة واسعة من بلاد الشام هددت ولا تزال مواقع إيران وحلفائها في المنطقة. وقام رهان على استنزافها وإضعاف موقفها التفاوضي مع الدول الست في شأن مستقبل برنامجها النووي. لكنها لم تستسلم للتحدي الجديد الذي انضاف إليه هبوط أسعار النفط وما تخلفه من آثار سلبية على اقتصادها. ردت في جبهات أخرى من الإقليم، من أجل ضم مزيد من المواقع والأوراق. دفعت الحركة الحوثية إلى تغيير الخريطة السياسية في اليمن. وهي تستعد منذ أشهر لتغيير في خريطة القتال في سورية. ويتجلى ذلك في المعركة الحاسمة التي تقودها هذه الأيام مع قوات النظام جنوب البلاد بدعم من ميليشيات شيعية من دول المنطقة. وكان واضحاً منذ الغارة الإسرائيلية التي سقط فيها جنرال إيراني وستة من عناصر «حزب الله» أن طهران تسعى إلى كسر ميزان القوى في المشهد السوري. تسعى إلى قلب المعادلة من درعا إلى القنيطرة فغرب دمشق. فقد شكلت هذه الجبهة ولا تزال مدخلاً لدول خليجية عدة كانت ولا تزال تراهن على إمكان محاصرة العاصمة، والتمدد غرباً باتجاه الحدود مع لبنان. ولا شيء يوحي حتى الآن بأن هذه الدول التي تساند ائتلاف المعارضة ستضع ثقلها إلى جانب قوات «الجيش الحر» وغيره من الفصائل لكسر حدة الهجوم. أو على الأقل موازنة الثقل الواضح لإيران في الميدان. فهل تحقق طهران في هذه الجبهة ما حققت في اليمن، فيما العالم والخليج عاجز عن تغيير مسار اللعبة؟

تفيد إيران بالطبع من موقف الإدارة الأميركية التي تبدو مستعجلة التسوية السياسية. بل لا ترغب في إسقاط نظام الاسد، ولا حتى إضعافه في غياب «شركاء» على الأرض يمكنها الاعتماد عليهم في إدارة البلاد لاحقاً. جل ما تريده هو تدريب افواج من المقاتلين المعتدلين للمساعدة في قتال «داعش» أولاً وأخيراً. وهو ما شجع موسكو على التحرك لعقد لقاء بين سوريين لطي صفحة بيان جنيف الذي نص على قيام جسم انتقالي تمهيداً للتغيير الذي تنشده المعارضة. وهو ما ساعد المبعوث الدولي دي ميستورا على طرح مقاربة مختلفة عن بيان جنيف، أقله في هذه المرحلة. كل ذلك فيما الولايات المتحدة لا تبدي أي معارضة لأي تحرك يعفيها من الانخراط الجدي في تسوية الأزمة. أما أن تكون أميركا وشركاؤها يمهدون لإعادة التعاون مع الرئيس الأسد وتعويمه من أجل قتال «داعش» فأمر يبدو صعباً وشائكاً.

المهم بالنسبة إلى إيران أنها تفيد من نتائج الحرب الدولية على «داعش». تحاول الحفاظ على ما تملك من أوراق وضم المزيد إذا أمكن للرد على ما تتعرض له من ضغوط مع اقتراب الموعد النهائي لابرام الاتفاق النووي. ويرى المتشددون إلى هذه الأوراق مصدر قوة ليس في المفاوضات النووية، بل في تعزيز الدور الإقليمي والدولي للجمهورية الإسلامية. خصوصاً مع عودة الحديث عن عراقيل، إسرائيلية خصوصاً، قد تحول دون التوصل إلى اتفاق بين الدول الست وإيران. لذا لا يخفي هؤلاء المتشددون رغبتهم في بناء تحالف كامل مع روسيا بوتين يناهض الولايات المتحدة ويحد من استئثارها في إدارة شؤون العالم. وكان الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد يؤمن بقدرة بلاده وحلفائها على إعادة تشكيل «أمم متحدة» لا تكون أداة طيعة في يد الغرب، كما كان يصرح. وهي فكرة راودت ولا تزال تراود دوائر متشددة في كل من طهران وموسكو. وثمة من يرى إلى تطابق وتشابه في أسلوب البلدين في التعامل مع الأزمات والمشاكل، كل في نطاق إقليمه. فالجمهورية الإسلامية تتوكأ على القوى الشيعية المنتشرة في العالم العربي من أجل تأكيد نفوذها وحضورها في هذه العاصمة وتلك. ومثلها روسيا تتذرع بحماية الأقليات الروسية المنتشرة في دول الجوار من أجل مد نفوذها وترسيخ حضورها في دول المنظومة الاشتراكية السابقة. هذا ما حصل في أوسيتيا وأبخازيا الجورجيتين، ثم في شبه جزيرة القرم ومناطق أخرى شرق أوكرانيا.

لا يعني هذا أن طهران تستعجل قيام تحالف مع روسيا. فهي تعرف أن حليفتها لا تفرط بعضويتها في مجموعة «خمسة زائد واحد» التي تحاورها في برنامجها النووي. وتعرف أيضاً حرص موسكو على أمن إسرائيل وتأخذ في الاعتبار مخاوفها من هذا البرنامج. وتدرك أولاً وأخيراً أن مصالحها الاقتصادية مع الغرب وليس مع روسيا التي تعاني مثلها من الحصار والعقوبات. لذلك تبقى الأولوية للرئيس حسن روحاني وحكومته، كما هي للمرشد علي خامنئي، وكما هي للرئيس أوباما التوصل إلى اتفاق نهائي للملف النووي… ولو على أنقاض ما يبقى من وحدة النسيج الوطني لعدد من بلدان المنطقة، من العراق وسورية إلى اليمن وليبيا!

الحياة

 

 

 

نحو اتفاق بين أميركا وإيران؟/ ميشال نوفل

أي حصيلة للمفاوضات حول الملف النووي الايراني بعدما شهدت الآونة الاخيرة اتصالات كثيفة بين ايران ومجموعة 5+1؟ هل الوقت المتبقي حتى شهر آذار المقبل يسمح بالتوصل الى اتفاق شامل في سياق التقارب الاميركي – الايراني؟

تبدو الفترة المتبقية قصيرة نسبيا لردم الهوة بين مواقف الجانبين، على رغم ما يشاع عن اتفاق جاهز تحت الطاولة بين الايرانيين والاميركيين. ذلك ان عملية التفاوض محفوفة بالمخاطر ظاهرا، بسبب الضغوط الكبيرة لقوى اقليمية ومحلية معارضة للتقارب بين ايران والولايات المتحدة. وترى طهران ان الحوار مع واشنطن يمثل “بيضة القبان” في عملية التفاوض الشاملة، لكن مظاهر اهتزاز الثقة بين الجانبين تجعل الامور صعبة جدا. أما القوى الاقليمية التي تشكك في امكانية التوصل الى اتفاق مقبول من جانبها، فان بعضها لا يريد ببساطة حلا للازمة النووية في حين ان قوى اخرى تعارض أصلا أي مقاربة لتنظيم الخلاف بين ايران والغرب.

بكلام آخر، ان علاقة التحالف الاستراتيجي بين اسرائيل واميركا تمنح تل ابيب ميزة الرافعة بالنسبة الى الادارة الاميركية وسياساتها الاقليمية في منطقة الشرق الاوسط، والحالة نفسها قد تنطبق الى حد كبير على العلاقة الاميركية – السعودية. وتأتي المعارضة الثالثة لخيار التوصل الى اتفاق من داخل الادارة الايرانية وتتمثل تحديدا في المعسكر الذي خسر الانتخابات التي جاءت بحسن روحاني رئيسا للجمهورية الاسلامية، والتي لها بالتالي مصلحة في استمرار الازمة. وفي الولايات المتحدة نفسها، هناك مجموعات الضغط المناوئة لايران في الكونغرس، ولاسيما منها مجموعات الضغط العاملة لمصلحة اسرائيل والتي ازدادت قدرتها على تعطيل او عرقلة سياسات الرئيس باراك اوباما عقب هيمنة الجمهوريين على الاكثرية في مجلسي الشيوخ والنواب، علما ان الرئيس الاميركي الذي يحذر بشدة من اقدام الكونغرس على فرض عقوبات جديدة على ايران، يحتاج الى السلطة الاشتراعية لرفع العقوبات.

ولا شك في ان الأولوية لادارة الرئيس روحاني هي تحسين الوضع الاقتصادي في ايران، وهو امر يتطلب رفع العقوبات الذي يقتضي بدوره التوصل الى اتفاق لتسوية ازمة البرنامج النووي الايراني. كذلك تسعى ادارة روحاني الى تحسين العلاقات مع دول الجوار، ولا سيما منها دول الخليج، ما يفترض أيضا انفراجا على صعيد المسألة النووية. وثمة اولوية ثالثة للرئيس روحاني هي ضمان استمرار النظام الديني على الصعيدين الدولي والمحلي.

لكل هذه العوامل والتحديات، تقرر ان تقتصر عملية التفاوض على الملف النووي وترحيل نقاط الخلاف الأخرى الى وقت لاحق. ويرى خبراء ان هذه المقاربة تنطوي على مجازفة كبرى لكون المسألة النووية متعددة الجانب والبعد، ومعقدة جدا في حد ذاتها.

ان الايام والاسابيع المقبلة التي تفضي الى استحقاق آذار المقبل الحاسم قد تقرر مستقبل ايران كقوة محورية ودورها ومكانتها الاقليمية، فضلا عن تداخل رهانات كثيرة. كيف يمكن لايران تحسين الوضع الداخلي من طريق المحادثات والاكتفاء بموازنة سنوية متقشفة لا تتعدى 47 مليار دولار؟ واذا كانت التيارات الايرانية في الداخل، من المحافظين الى الاصلاحيين والوسطيين، قد توصلت الى اجماع على اولوية تسوية المسألة النووية، فانها تختلف على الكثير من الامور الاخرى التي تتطلب تسويات وراء تسويات. في أي حال، ان طهران التي خسرت مئة مليار دولار من الاستثمارات والعوائد المالية بسبب العقوبات، لا يمكنها الاستسلام والتخلي عن تخصيب الأورانيوم تحت وطأة الضغوط والا فإن كل الانجاز المتمثل في الحصول على التكنولوجيا النووية سيبدو ضربا من الجنون على المستويين السياسي والاقتصادي.

هذا لا يمنع ان المجموعة المعارضة للتوصل الى اتفاق بحجة انه يسجل البداية للانزلاق نحو تنازلات أخرى للجمهورية الاسلامية لا تزال في موقع الاقلية، وان المرشد الاعلى آية الله خامنئي له كلمته المسموعة في هذا المعسكر كما في معسكر الاكثرية. لكن الاتجاه الرئيسي السائد على مستوى الطبقة السياسية والرأي العام الايراني يرفض ان يكون لايران برنامجا نوويا يبقيها في وضع دولة معزولة مثل كوريا الشمالية، بل يريدها دولة متطورة اقتصاديا وتحظى بالاحترام دوليا، وهو يدرك ان التمسك بالبرنامج النووي الحالي بات عقبة امام ذلك.

يبقى ان المرشد الأعلى يجيز للمعارضين بأن يبعثوا برسائل الى المتشددين من الاميركيين تبلغهم بأن في ايران اتجاها متشددا ايضا. وان الحجة في التفاوض هي: اذا اعطيناكم وقف التخصيب وتفكيك البرنامج النووي فاننا سنواجه مشاكل داخلية. وليس خافيا في هذا المجال ان المرشد الاعلى قد أدار على الدوام اللعبة السياسية باعتماد التوازن بين القوى المتنافسة، الامر الذي يعني ان السماح للمعارضين بانتقاد سياسة الحكومة ليس سوى وسيلة لابلاغ الرئيس روحاني بأن يكون يقظا ويتفادى الذهاب بعيدا مع الاميركيين. في الحقيقة ان خامنئي يريد ان يتأكد ما اذا كانت اميركا مستعدة لتنازلات حقيقية تسمح بالتوصل الى تسوية. فاذا تحقق هذا الهدف فإنه يعني ان الولايات المتحدة على استعداد حقا لتغيير موقفها من ايران، وعند هذا المستوى فقط يمكن الانتقال الى التفاوض في أمور أخرى، وان كانت طهران اندفعت الى طاولة الحوار بسبب ازمة العقوبات، ولا تريد في الوقت الحاضر رمي كل اوراقها الاستراتيجية تجنبا لاعطاء الانطباع بأنها في موقف ضعف.

ان سيناريو فشل المفاوضات في نظر اوساط ايرانية مطلعة صار مستبعداً لوجود حالة من الثقة المتبادلة بين اوباما وخامنئي دافعها الاساسي الاقرار بدور ايران ومكانتها في التوازن الاقليمي الجديد. أما اذا حصل الفشل فان الرئيس روحاني لن يخسر موقعه لأنه كان دائما في وسط الطبقة السياسية ولا يضيره التحرك ذهابا وايابا في اتجاه أو آخر ما دام يعرف تماما كيف تعمل آليات النظام وما دام خامنئي في حاجة اليه باعتبار ان فريقه هو الأفضل اقتصاديا ويعرف كيف يتصرف لتعويم الاقتصاد الايراني.

في المقابل ان النتيجة ستكون اياها في حال تحقق سيناريو التوصل الى اتفاق نووي، اذ يكون روحاني قد كسب الرهان وحقق وعده مما يعزز شعبيته ويدعم سلطته، وان كان هذا النجاح قد يهدد مراكز قوى أخرى في السلطة ويدفعها الى عرقلة نقاط أخرى في برنامجه الاصلاحي بالنظر الى الانتخابات المقررة في سنة 2016 على مستوى مجلس الشورى ومجلس الخبراء الذي ينتخب المرشد الأعلى.

 

كاتب سياسي وباحث في مركز الدراسات الفلسطينية

 

 

 

الجهاد الشيعي في سوريا والعراق واليمن/ موناليزا فريحة

فظائع “الدولة الاسلامية” تستأثر بالمشهد الدموي في العراق وسوريا وصولا الى مصر وليبيا أخيراً. ذبح وشنق وحرق وغيرها من “همجيات” القرون الوسطى التي استنفرت العالم وإن تكن لم تستفزه ما يكفي لقرار حازم بالقضاء عليه. لكنّ الاخطر من ذلك، أن هذا الوحش الجهادي بات يمثل غطاء لتهديد آخر ينمو في ظله ولا يقل عنه خطراً. على الجبهات المفتوحة في سوريا والعراق، وآخرها جبهة مثلث درعا – القنيطرة – ريف دمشق، يشكل الدور المتعاظم للمسلحين الشيعة الذين تدعمهم ايران واقعا مقلقاً وينذر بعواقب على المنطقة. ما استهله “حزب الله” في سوريا بذريعة الدفاع عن مقام السيدة زينب ضد الجهاديين السنة، كان بداية لدور أكبر في الدفاع عن نظام الرئيس السوري بشار الاسد وصولا الى فتح جبهة جديدة في الجولان. وفي العراق، يشدد المسلحون الشيعة قبضتهم على مفاصل الحكم، مهددين بتقويض سلطة الحكومة المركزية. وتفيد تقارير ميدانية، ان ما بين 100 الف و120 الف مقاتل تمكنوا من التفوق على الجيش العراقي، وصاروا رأس حربة في الحرب على “داعش”.

في دراسة طويلة عنوانها “الجهاد الشيعي في سوريا وتأثيراته الاقليمية”، يقدم الباحث في شؤون الميليشيات الشيعية فيليب سميث صورة قاتمة ومعقدة عن الوضع في سوريا حيث انضمت منذ سنة ونصف سنة مجموعات جديدة من المقاتلين الى الجبهة الموالية للنظام. وفيما تكثر الدراسات والاحصاءات عن العدد المتزايد للمقاتلين الاجانب الذين ينضمون الى صفوف “الدولة الاسلامية” ، يلفت سميث الى أن إحدى كبرى فرق المقاتلين الاجانب هي من الشيعة، وأن المتطوعين ليسوا من “حزب الله” والتنظيمات العراقية فحسب، بل ثمة مقاتلون يأتون ايضا من الهند وأفغانستان وأفريقيا. ويضيف أن المقاتلين الشيعة يعدون بعشرات الالاف، وأن أكثر من الف قد يكونون سقطوا في المعارك.

الى ذلك، تكتسب طهران مزيدا من النفوذ في صفوف الجيش العراقي. من خلال مستشاريها باتت في موقع يتيح لها توجيه تعبئة الميليشيات الشيعية ودمجها المحتمل في قوى الامن العراقية. أما واشنطن التي تعهدت دعم الحكومة المركزية واعادة بناء الجيش العراقي وتشجيع المصالحة بين الطوائف، فلا يسمع لها صوت أمام النفوذ المتصاعد للجمهورية الاسلامية في العراق، مما قد يُعتبر تأييدا ضمنياً لنشاطاتها في كل المنطقة، بما فيها سوريا واليمن.

منذ بداية غارات الائتلاف الدولي على “داعش”، ارتفعت أصوات عربية وغربية تتخوف من أن تكون طهران الرابح الاول في ظل غياب استراتيجية متكاملة لهذه الحرب. وتعززت هذه المخاوف في ظل حماسة واشنطن للتوصل الى اتفاق نووي مع طهران ايا يكن ثمنه. وبين طموحات طهران، وحسابات واشنطن، ثمة من يرى بوادر “يالطا جديدة” ، شبيهة بمؤتمر 1945 الذي تقاسمت فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السيطرة على العالم، وأذعنت واشنطن فيه لسيطرة السوفيات على أوروبا الشرقية.

النهار

 

 

 

الغرب لم يرَ «الحرب الهجينة» الإيرانية على العرب/ عبدالوهاب بدرخان

بعدما تكررت مراسلات باراك اوباما – علي خامنئي، هل يمكن أحداً في واشنطن أن يقدم إجابة عن هذا السؤال: لماذا السرية؟ بالطبع لكل «صفقة» أسرارها، ولكل لعبة حيلتها، ولكل إخراج خدعُه. وفي حال اميركا – ايران لا بد من أسرار وحيَل وخدَع كثيرة لتمرير طبق الاتفاق النووي فوق رؤوس الـ 5 + 1 وتحت يد اسرائيل، وخصوصاً من خلف ظهر العرب بل رغماً عنهم. بديهي أن المراسلات تتعلّق بالصفقة السياسية الموازية وهي تستوجب السرّية لأنها تتم على حساب أطراف آخرين قد يكون اوباما قدّم اليهم تعهّدات مناقضة لالتزاماته تجاه الايرانيين. صحيح أن بإمكان اوباما الإيحاء للجميع بأنه معهم، لكنه قياساً الى ما أظهره طوال ولايتيه بات يرفع شعار «ايران أولاً».

أما الاتفاق النووي فلا مجال للسرّية فيه لأنه سيأتي في نص قانوني – تقني يُحال على الوكالة الدولية للطاقة الذرّية للاشراف على تنفيذه ومراقبة أي مخالفات، فلا مجال اذاً للغموض طالما أن لكل تفصيل تقني ترجمته في تحديد قدرات البرنامج النووي، مدى سلميته، وإمكان عسكرته: فإمّا أن يصدق اوباما وسائر قادة الدول المفاوِضة بأنهم نجحوا في منع ايران من الحصول على سلاح نووي، وإمّا أن يصدق خامنئي وروحاني اذ يقولان أن المفاوضات لن تؤثر في البرنامج النووي، وإمّا أن يصدق بنيامين نتانياهو حين يحذّر من أن الاتفاق بحاله الراهنة سيمكّن ايران من انتاج القنبلة في موعد قريب.

هذه ليست المرّة الأولى التي يلجأ فيها الاسرائيلي الى التلفيق فالتهويل فالتصعيد، للتذكير بأنه «العضو السابع» في المفاوضات ولديه وسيلتان للابتزاز واستخدام «الفيتو» سواء بالتهديد بعمل عسكري أو بتفعيل الكونغرس الاميركي. ولا هي المرة الأولى التي تردّد فيها ايران أن العقوبات لم تكن السبب الرئيسي لدخولها المفاوضات وانما تأمين الاعتراف بنفوذها الاقليمي، ومع ذلك فإن رفع العقوبات كلها دفعة واحدة يبقى الشرط الايراني الأبرز لإنجاز الاتفاق والتوقيع عليه. كما أنها ليست المرة الأولى التي يبدي فيها اوباما استعداداً الى حد «القتال» مع الكونغرس من أجل الحصول على اتفاق مع ايران، اذ إنه راهن كثيراً عليه وأخضع له مجمل سياسته الشرق أوسطية، ولذلك فهو يحارب احتمالات الفشل سواء جاءت من خامنئي أو من نتانياهو.

يوحي الجدل الذي ثار فجأة بشأن المفاوضات، والاصطفاف الجاري مع التمديد أو ضدّه، أن «الاتفاق» شبه جاهز. وقد عارض اوباما التمديد معتبراً أن «ما يكفي من التقارب قد حصل» وأن على الايرانيين أن يقرروا اذا كانت لديهم الارادة والرغبة للتوصل الى اتفاق. كذلك عارضته ايران، مدعومة من روسيا والصين، وهي نصحت اوباما بـ «حل مشاكله الداخلية» كي يتمكّن من اتخاذ «قرار نهائي». ولا تفسير للموقفين سوى أن كل طرف لا يزال ينتظر تنازلاً أخيراً من الآخر لتسهيل مهمته حيال معارضيه: اوباما في مواجهة الجمهوريين و «اللوبي الاسرائيلي»، وروحاني في الردّ على هجمات المحافظين. وقياساً الى الصعوبات يبدو وضع اوباما أكثر صعوبة، اذ ليس لديه «ولي فقيه» ليحميه.

ليس في التسريبات عن رسالة خامنئي سوى أنها تعرض مساعدة ايرانية للولايات المتحدة في «الحرب على داعش» في مقابل الاتفاق النووي. غير أن هذه «المساعدة» المزعومة لم تنتظر الاتفاق، بل سبقته وتجاوزته، اذ لا تفوّت واشنطن مناسبة للاشادة بإنجازات أصبح معروفاً أن مَن يحققها هو «الحرس الثوري» والميليشيات التي أنشأها ودرّبها. لم يعد الدور الايراني في العراق وسورية متخفياً أو متستّراً بل ظاهراً وعلنياً، ويعزى الفضل في ذلك الى عاملين أولهما تنظيم «داعش» متعدد الاستخدامات والخدمات لايران، والثاني سهولة ابتزاز الادارة الاميركية اللاهثة سعياً الى اتفاق نووي… لكن عدم ثقة ايران بالتقارب «الكافي» الذي أشار اليه اوباما دفعها أخيراً الى لعب اوراقها في مقامرة قصوى: في اليمن ذهب حوثيّوها الى خيارات هوجاء من شأنها أن تفكك الدولة وتفاقم أجواء الحرب الأهلية، في العراق تكررت الجرائم التي ترتكبها ميليشياتها عمداً ضد عشائر السنّة مع ما في ذلك من اساءة للعملية السياسية، وفي سورية زجّت بـ «حزب الله» في حملة لاستعادة الجنوب من أيدي فصائل المعارضة مجازفة باحتمالات الاحتكاك بإسرائيل، وفي لبنان استخدمت سلاح «حزب الله» لمصادرة الانتخابات الرئاسية وإبقاء الجمهورية بلا رئيس مع ما يعنيه ذلك من خطر على صيغة الحكم ومستقبل الدولة.

كل هذه «انجازات» ايرانية تحفر الانقسامات عميقاً داخل كلٍّ من البلدان الأربعة وتدفع بشعوبها الى حافة الهاوية. وكلّها «انجازات» تتغاضى الولايات المتحدة عن مخاطرها، كما لو أنها ثمرة تواطؤ بين طرفين توصلا لتوّهما الى «تحالف استراتيجي» وليس فقط الى مجرد اتفاق نووي. بل إنها تحدث باستغلال بالغ الخبث لعالم عربي غارق في تحوّلاته الداخلية. وفي غضون ذلك تحاول اميركا اقناع حكومات المنطقة وشعوبها بأنها عادت، «مضطرّة»، لمحاربة الارهاب. والواقع أن كل يوم يمرّ على هذه الحرب يأكل من صدقيتها، واذا كانت شريحة عرب «نظرية المؤامرة» آخذة بالاتساع اذ يعتقدون بأن «داعش» صنيعة اميركية – غربية، فإن الشريحة الواقعية باتت ترى أن للحرب الراهنة مبرراً هو حماية النفوذ الايراني وتمكينه للاعتماد عليه لاحقاً تأكيداً لادعاء حسن روحاني وايرانيين آخرين بأن دور ايران «ضروري لمكافحة الارهاب وتأمين الاستقرار والسلام» في الشرق الاوسط. وطبعاً ليس أدلّ الى هذا الدور من الاستقرار والسلام المبتعدين عن العراق وسورية ولبنان واليمن وأي بلد آخر قد يتبع.

في غضون ذلك اكتشف الغرب أخيراً، في ضوء تجربته الاوكرانية، أن روسيا ابتكرت نمطاً جديداً من الحروب، مع أن هذا النمط كان ولا يزال أمام الجميع، لو كان هناك من يرغب في رؤيته. انها «حرب هجينة» تلك التي تخوضها روسيا في اوكرانيا، هذا ما توصّل اليه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (لندن) في تقريره السنوي عن توازن القوى حول العالم. ويعني بـ «الهجينة» دمج أنواع من العمليات العسكرية في «حرب محدودة ذات أهداف محدودة» بالاضافة الى حملات اعلامية مكثّفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتبنّى سياسة «إنكار» تزعزع قدرة الرد لدى الطرف الآخر. وإذ يعتبر التقرير أن هذا النوع من الحروب يهدد بـ «نسف استقرار» الدول الغربية «سريعاً» على غرار ما حصل في اوكرانيا، فإنه يقيم مقارنة لتقنيات الدعاية الروسية ليجد تشابهاً بينها وبين الإداء «الداعشي» في تجنيد المقاتلين واستقطاب المتعاطفين. أما الخلاصة التي توصل اليها فهي أن هذا النمط قد يشجع دولاً مثل الصين وايران على استيحائه.

الخلاصة الأهم أن الغرب لم يرَ شيئاً مما فعلته ايران طوال العقدين الماضيين في محيطها العربي، اذ انشغل بوسوسته الدائمة على «أمن اسرائيل» والأخطار المحتملة عليه من البرنامج النووي الايراني، فلم يتعرّف الى «الحرب الهجينة» إلا عندما اقتربت منه ووقعت عند أحد أطرافه. كان التوصيف الذي أعطي قبل نحو عام لبدايات التدخل/ التخريب الروسي في اوكرانيا بأنه يتم بعقلية القرن التاسع عشر والحرب الباردة، أما ايران فتخوض حربها الهجينة مدفوعة بأهداف وأطماع ومفاهيم وعقلية تعود الى الامبراطورية الفارسية، أي الى ما قبل الاسلام. وقد يكون استنهاض العصبية ببدائيتها الغريزية (الانتماء القومي/ الروسي، أو المذهبي/ الشيعي…) من أهم أدوات «الحرب الهجينة» للعودة بالدول والأقوام الى ما قبل التمدّن. هنا يمكن أن تشكّل الحوثية في اليمن حالاً نموذجية لهذا النمط من الحروب.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى