صفحات مميزة

مقالات تناولت الهدنة في سورية

 

تساؤلات تبحث عن توافقات/ سمير العيطة

إيقاف الحرب شيء وإحلال السلام شيءٌ آخر. الصراع يُمكن أن يعود بعد الهدنة بشكلٍ أشدّ وأقسى. لكنّ تجميد الصراع، ولو برغم بعض الخروقات، يُمكن أن يغّير ديناميّات المتصارعين وطموحاتهم، وكذلك علاقات كلّ منهم مع حاضنته الاجتماعيّة.

تجميد الصراع في سوريا هو نتيجة آليّة سياسيّة، لم تكن بامتياز بيد السوريّين، كما نصّ قرار مجلس الأمن 2254، وإنّما نتيجة توافق روسي – أميركي. إلاّ أنّ إحلال السلام آليّة أكثر تعقيداً، لها أبعاد سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وقضائيّة وأمنيّة… آليّة هدفها إيجاد ركائز لحلٍّ مستدام، ولو تدريجيّاً. بحيث تتمّ معالجة المشاكل التي أدّت إلى الحرب، وتلك الجديدة التي خلقتها الحرب، التي تختلف عنها. بذور الحرب أتت من صراعٍ بين مجتمع، أو أجزاء منه، وبين سلطة. أمّا اليوم فالمشكلة الرئيسة تكمُن في أمراء الحرب، مقاتلين أو غير مقاتلين، على الطرفين، وكذلك في صعود هويّات مذهبيّة وقوميّة آلت إلى توتّرٍ كبير. هذا عدا مشكلة محاربة «داعش» ومكافحة «النصرة» والحركات المتطرّفة بشكلٍ عامّ.

تتضمّن الآليّة التي وضعها قرار مجلس الأمن للمسير نحو السلام «عمليّة سياسيّة بقيادة سوريّة… تُقيم، في غضون فترة مستهدفة مدتها الزمنيّة ستّة أشهر، حوكمة (governance بالإنكليزيّة تُرجمت إلى حُكمٍ) ذات مصداقيّة تشمل الجميع ولا تقوم على الطائفيّة، وتُحدّد جدولاً زمنيّاً وعمليّة لصياغة دستور جديد»، بحيث تجري انتخابات حرّة ونزيهة في غضون 18 شهراً.

موضوعا جولة التفاوض الحالية في جنيف هما إذاً صيغة هذا «الحُكم الانتقالي»، بمعزل عن التعابير المستخدمة في الوثائق المرجعيّة وفي الخطاب العام، وآليّة صياغة الدستور الجديد. وما يُنبئ بمفاوضات معقّدة ومتشابكة.

مسألة «الحكم الانتقالي» تطرح إشكاليّات حقيقيّة. فعلى أيّ أسس دستوريّة يُمكن بناء هذا الحُكم أو هذه الحكومة؟ أهو الدستور الحاليّ حيث تجتمع كلّ الصلاحيّات بيد رئيس الجمهوريّة ومنه إلى رئيس الوزراء؟ وحيث يُمكن لكليهما نقض أيّ قرار يأخذه وزير. وكيف تؤمَّن لهذه الحكومة فعاليّة حقيقيّة، في ظلّ الكارثة البشريّة والماديّة القائمة، حيث يُمكن أن يتشارك فيها «أعضاء من الحكومة ومن المعارضة»، بحسب بيان جنيف 1؟ أم يجب التوافق على إعلان دستوريّ توافقيّ يؤسّس للمرحلة الانتقالية ويضع قاعدة حوكمة خاصّة بهذه المرحلة؟ وهل تقوم «المصداقيّة»، كما سمّاها مجلس الأمن، أو «الحياديّة»، كما نصّ عليها جنيف 1، على تقاسم السلطة بين طرفين متناقضين؟ كلاهما عليه شعبيّاً كثير من المآخذ، من هذا الطرف أو ذاك، أو حتّى من كلا الطرفين.

وبما أنّ سوريا أضحت مقطّعة الأوصال، كيف تؤسّس العلاقة «الانتقاليّة» بين الحكومة المركزيّة وبين الحوكمة المحليّة، المتمثّلة في المجالس المحليّة في بعض المناطق وفي مؤسّسات الحكم الذاتي في مناطق أخرى؟ هل فقط عبر تعيين محافظين يديرون هذه المجالس المنتَخَبة؟

كذلك تطرح عمليّة صياغة دستور جديد لإجراء الانتخابات إشكاليّات أُخرى. فمع استبعاد أطراف من التفاوض لأسبابٍ إقليميّة ودوليّة، كيف يُمكن للتفاوض الحالي أن يُنتِج ما يُراعي شموليّة آليّة صياغة الدستور الجديد؟ وكيف يُمكن للانتخابات أن تكون حرّة ونزيهة في حين تمّ تهجير نصف سكّان سوريا من مناطقهم الأصليّة ويتواجد جزء ملحوظ بينهم خارج أراضي البلاد؟

وما هو مهمّ أيضاً لصنع السلام هو ألاّ تقتصر مهمّات «العمليّة السياسيّة» ومن ثمّ «الحكم الانتقالي» على المواضيع المذكورة في قرار مجلس الأمن. فكيف ستقوم محاربة «داعش» في هذه المرحلة؟ وكيف سيتمّ عزل جبهة «النصرة» والتنظيمات المتطرّفة عن المعارضة المسلّحة؟ وما هي آليّة إخراج الميليشيات الأجنبيّة؟ بل كيف ستتمّ أصلاً شروط المصالحة اللازمة لهذا الغرض بين الجيش النظاميّ و «الجيش الحرّ» و «قوّات سوريا الديموقراطيّة»؟

تبدأ هذه الأيّام جولة جديدة من التشاور/والتفاوض في جنيف، منقوصة حُكماً. بكلّ الحالات، المفترض أن يبدأ الحاضرون والغائبون على السواء بوضع إجابات «توافقيّة» و «وطـنيّة» على مختلف التساؤلات المطروحة.

السفير

 

 

 

الخوف على أوروبا يجمّد الصراع في سورية/ جورج سمعان

الهدنة في سورية تتحول قريباً وقفاً دائماً للنار. هذا من الشروط البديهية لسير المفاوضات المقررة مبدئياً بعد غد الأربعاء. ومن البديهيات أيضاً في أي صراع أن تحدث خروق هنا وهناك، كما هي الحال هذه الأيام على رغم إعلان الجميع التزامهم الاتفاق الأميركي – الروسي. لا فكاك لأحد من هذا الالتزام. لأن ذلك يعني التمرد على إرادة الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين اللذين حرصا على إعلان الاتفاق. أعلى سلطتين قررتا وما على الجميع سوى الطاعة. لا يعني هذا الاتفاق بالضرورة أنهما شقا طريقاً واسعاً للتعاون في مختلف القضايا والأزمات العالقة. أو أنهما توافقا على اعتراف كل طرف بمصالح الطرف الآخر. لذلك يشيع المبعوث الدولي ستيفن دي ميستورا تفاؤلاً قد لا يكون في محله، عندما يؤكد أن الحل السياسي سيرسمه السوريون بأنفسهم عبر التفاوض.

الحل ملك الكبار الذين فرضوا وقف الأعمال العدائية ويسعون إلى وقف ثابت للنار غير مرهون بفترة زمنية محددة. بل ربما لامس رئيس الهيئة العليا للتفاوض رياض حجاب حقيقة الوضع عندما أخذ على الولايات المتحدة مراعاتها مواقف روسيا. إذ لم يعد مجال للشك في أن الكرملين يتقدم على باقي اللاعبين في القدرة على التحكم بمسار التسوية. وقد لا يلتزم هذا المسار الخريطة التي رسمها القرار الدولي 2254.

يمكن القول إن وظيفة الصراع في سورية انتهت أو على وشك الانتهاء. تفككت الدولة والتحقت بجارها الشرقي. ولم تعد تشكل تهديداً لأي قوة، أو لنفوذ أي قوة في الإقليم، من إيران إلى تركيا ومروراً بإسرائيل. وعوضت روسيا بعض ما لحقها من أزمة أوكرانيا ومن زحف حلف شمال الأطلسي. صارت تشكل تهديداً لثاني أكبر جيش في هذا الحلف. فتركيا التي شكلت أيام الحرب الباردة رقماً استراتيجياً صعباً في وجه تمدد حلف وارسو، تشعر اليوم بثقل تطويقها من بحر قزوين وأرمينيا من جهة، والساحل السوري من جهة أخرى. وتعاني من تبعات إقفال بوابتها إلى الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية. لذلك لا تزال، على رغم حجم خلافاتها السياسية مع إيران، تتمسك بالرافعة الاقتصادية للحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع الجمهورية الإسلامية. وهو ما سعى إلى ترسيخه رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو باتفاقه قبل أيام مع طهران على رفع التبادل التجاري بين البلدين إلى ثلاثين بليون دولار خلال سنتين. والأهم من كل هذه النتائج أن الحرب السورية كشفت ضعف القوى الإقليمية الكبرى وعجزها عن حسم الصراع عسكرياً أو سياسياً. وهو ما سهل على القوى الدولية أن تأخذ القضية بيدها.

لم تنته وظيفة الصراع فحسب، بل فاضت تداعيات الحرب في سورية وتجاوزت حدود الإقليم. لم تعد تهدد دولاً مجاورة كالأردن ولبنان وغيرهما، بل باتت تهدد أوروبا جدياً، أمناً وتجارة واقتصاداً ونظمأ وقوانين وحريات. فضلاً عما بعثت من مشاعر الكراهية والعنصرية التي عززت حضور القوى القومية المتطرفة. والتقت مخاوف الولايات المتحدة على استقرار القارة العجوز مع رغبة روسيا في عدم الغرق في المستنقع السوري وإطالة أمد الحرب. وهو ما دفعهما والقوى الكبرى إلى رمي ثقلها لوقف الصراع وجرّ الجميع إلى طاولة الحل السياسي. قوافل المهاجرين إلى دول الاتحاد الأوروبي باتت تهدد أمن مجتمعاتها. وعززت المخاوف من انتقال آلاف الإرهابيين في صفوف النازحين بحراً وبراً وما يمكن أن يشكلوا من تهديد أمني كبير. بالطبع ثمة مغالاة في أن يعزو أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي حرص الغرب على عدم سقوط دمشق إلى الخوف من أن يؤدي ذلك إلى سقوط أوروبا. يعتقد بأن سقوط النظام السوري ستخلفه قوى الإسلام السياسي المتطرف الذي لن يتورع عن الزحف إلى القارة العجوز. ثمة مخاوف حقيقية من تسلل الإرهابيين إلى الغرب.

الخوف الكبير من تداعي منطقة شنغن وما سيخلف من آثار مدمرة ليس على الاقتصاد الأوروبي وحده بل على التبادل التجاري العالمي، من الصين إلى الولايات المتحدة. وهذا ما تعرفه موسكو. لذلك لم يتوان كثيرون عن اتهامها ودمشق بإغراق القارة باللاجئين ودفعها إلى إعادة رفع الحدود والحواجز بين دولها وتقييد حرية حركة الأفراد والرساميل والبضائع، وتشديد إجراءات التدقيق والتفتيش. أمسك الكرملين بورقة مساومة كبيرة مع الاتحاد الأوروبي. وهو يدرك في سعيه إلى استعادة دوره القيصري أو السوفياتي أهمية إضعاف شركاء الولايات المتحدة على الجانب الآخر من الأطلسي. وتتداول الدوائر الاقتصادية أرقاماً ببلايين الدولارات تتكبدها التجارة الدولية من جراء العودة عن نظام شنغن. ومعلوم أن ثماني دول أعادت إجراءات التفتيش موقتاً. وأقر المجلس الأوروبي أخيراً خطة طارئة للحفاظ على فضاء هذه المنطقة التي أقيمت من ثلاثة عقود وتضم 26 دولة، تهدف إلى إزالة كل القيود مع نهاية السنة الحالية. وجاء في هذا الإطار أيضاً تحرك قادة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا قبل أيام للحوار مع الزعيم الروسي من أجل ترسيخ الهدنة في سورية ودفع الحل السياسي قدماً. وهما الضمان الوحيد لوقف موجات النازحين. ولا يخفي هؤلاء القادة امتعاضهم من السياسة الأميركية التي راعت وتراعي مواقف موسكو. وهم يمتلكون في النهاية ما يمكن أن يقايضوا به الرئيس بوتين، كمثل رفع العقوبات والحصار الاقتصادي في مقابل ترحيل النظام في دمشق من أجل ضمان تسوية دائمة ومعمرة ومقبولة.

الواضح تماماً للأوروبيين والقوى التي تقف إلى جانب المعارضة السورية أن إدارة الرئيس أوباما لا تستعجل التسوية النهائية. تعتمد سياسة تمرير الوقت إلى حين مجيء إدارة جديدة السنة المقبلة. لا ترغب في انخراط واسع مع موسكو. لا تريد أبعد من تكرار تجربة الاتفاق معها على تفكيك الترسانة الكيماوية للنظام السوري. أما الرئيس بوتين الذي يمتلك الورقة الأقوى في بلاد الشام بفعل تدخله العسكري الواسع، فسيفاوض ويساوم بهذه الورقة أكثر من طرف ولاعب معني بمستقبل سورية. هو يفاوض أوروبا اليوم بعد نجاحه في انتزاع موافقة واشنطن على خريطة الحل التي قدمها في لقاءات فيينا وعمدها مجلس الأمن بالقرار 2254. ويحرص على بناء علاقاته مع دول الخليج، خصوصاً المملكة العربية السعودية. يحتاج إلى التواصل معها في ملفات كثيرة أبرزها موضوع أسعار الطاقة وقضايا التجارة والاستثمار، واحتمال المساهمة في إعادة إعمار سورية بعد وقف الحرب. مثلما تحتاج المملكة إلى علاقة جيدة مع قوة دولية كبرى تعوضها انكفاء الولايات المتحدة عن المنطقة. قوة مستعدة للمساومة والمقايضة في الأزمة السورية، بخلاف إيران التي كانت قبل التدخل الروسي اللاعب الأساس والرافعة لبقاء النظام. والتي لا تبدي أي استعداد للتفاوض أو المساومة لوقف تدخلاتها في الإقليم، وإلا لما وصلت العلاقات بين الطرفين إلى ما وصلت إليه، من اليمن إلى العراق وسورية ولبنان.

تدويل الأزمة، أو بالأحرى محاولة حصر إدارتها بواشنطن وموسكو، جعلا «الائتلاف الوطني» بقواه المختلفة مكبل اليدين: التسوية السياسية بيد الكبار. والساحة العسكرية تحت وطأة الآلة الروسية وحلفاء النظام. صارت المعارضة أسيرة دائرة شبه مقفلة. والنظام أيضاً ليس أفضل حالاً. استمرار الرئيس بشار الأسد أو رحيله ورقة مساومة بيد الرئيس بوتين، على رغم حضور إيران وميليشياتها التي لا يستهان بها. أما الحديث عن صورة سورية ومستقبل الدولة فيبدو مبكراً. تلويح وزير الخارجية الأميركي جون كيري بتقسيم سورية، وحديث أحد الديبلوماسيين الروس عن اتحاد فيديرالي ليسا بسهولة فرض هدنة أو وقف العمليات العدائية. ميزان القوى الحالي بين المتصارعين على الأرض ليس أمراً نهائياً وثابتاً. والقوى الإقليمية المعنية بالصراع تقدم الحرب على الإرهاب ودولة «أبي بكر البغدادي» إلى المقام الأول. لكنها قد لا تسلم القياد لضغوط القوى الكبرى على حساب مصالحها ودورها في رسم النظام الجديد في الإقليم. لذا قد يستحيل إرغام الأكثرية السنية على القبول، تحت وطأة طغيان الحملة العسكرية الروسية، بدولة اتحادية أو فيديرالية استناداً إلى الخريطة الحالية لتوزع القوى ميدانياً. لن تقبل بحشرها في الصحراء بين المناطق التي يعيث فيها «داعش» و»النصرة» وتلك التي ستكون من نصيب الكرد. تقبل الأكثرية، بل من مصلحتها عدم الاعتراض على فيديرالية تراعي الانتشار الديموغرافي لمكونات البلاد قبل الحرب وما خلفت من هجرات في الداخل والخارج. فيديرالية تحافظ على وحدة البلاد، وتقيها ربما كأس التقسيم و»سايكس – بيكو» جديداً.

الحياة

 

 

 

الأشهر الأخيرة للحرب السورية ؟/ محمد ابرهيم

الهدنة السورية المرعية اميركيا وروسيا تبدو صامدة ومخترقة في الوقت نفسه. ولا تدل طبيعة توزّع القوى على الأرض إلا انها ستبقى كذلك دون الطموح الى وقف شامل للنار. لكن الأمر الجوهري في وقف النار تحقق، وهو توقف القصف الروسي بصفته طليعة المحدلة التي شكلها الجيش السوري وحلفاؤه في الأشهر الأخيرة. مما يعني ان قرار موسكو وقف الحملة العسكرية عند الحدود التي بلغتها، حقيقي.

منذ زمن بعيد تقول موسكو انها تعتبر الحل السياسي الوحيد الممكن، لكنها المرة الأولى التي تترجم ذلك على الأرض. اما السبب المباشر للقرار السلمي الروسي فيبدو في طيات الحوار غير المباشر بين موسكو وواشنطن حول ما يسمى “الخطة ب” التي لوّحت بها الادارة الأميركية في حال فشل مسعى وقف النار.

هذه الخطة اساسها السياسي ان الرئيس الأميركي الحالي وصل الى نهاية المطاف في استيعاب الاندفاعة الروسية التي بدأت باحتلال شبه جزيرة القرم في اوكرانيا وانتهت بالتقدم الى مشارف حلب. وانه لايستطيع ان يمضي الأشهر الأخيرة من ولايته الثانية وهو يشهد على انبعاث القوة الروسية الى ما يشبه التوازن الذي كان سائدا مع اميركا قبل نهاية الحرب الباردة.

ولأن الرئاسة الروسية تدرك، وهي تراقب مسار الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأميركية، ان اوباما هو افضل المتاح، مقارنة بمواقف المرشحين المحتملين لاحتلال سدة الرئاسة الأميركية، يبدو المسعى الروسي للوصول الى نهاية للحرب السورية، جديا. وما التلويح الروسي بالفيديرالية في سوريا إلا اعلان الى المدى الذي يمكن ان تذهب اليه موسكو في السعي لتسوية تستوعب المتناقضات. والفيديرالية بهذا المعنى تعمل كضمان في الاتجاهين: ضمان للأقليات المذهبية والقومية التي تخشى التطرف السني، وضمان لمشاركة مضمونة للسنة في إدارة البلاد.

واذا كان الجانب الروسي يبدي مرونة في سوريا فإن الجانب الإيراني لم يعد في موقع دعم الخيارات القصوى. صحيح ان نتائج الانتخابات الإيرانية الأخيرة تبقى محدودة المفاعيل باستمرار سيطرة المحافظين على مفاصل السلطة المنتجة للسياسة الخارجية، لكنّ تعمّق برنامج الانفتاح الاقتصادي مع وصول الاصلاحيين بقوة الى المواقع التمثيلية الأساسية سيطرح ولا شك التناقض بين متطلبات الانتعاش الاقتصادي والاكلاف السياسية والاقتصادية للحروب التي ترعاها إيران على امتداد المشرق العربي.

في المقابل تبدو المخاوف من نسف للاتجاه السلمي بمواقف متصلبة للتفاهم السعودي– التركي في غير محلها. فرغم كل المواقف الحازمة التي تصدر عن انقرة والرياض تبقى هذه معلّقة على شرط موافقة الولايات المتحدة على تغطية تطوير نوعي لدور “الائتلاف الدولي” يشكل التدخل التركي– السعودي البري بنده الرئيسي.

النهار

 

 

 

هدنة لمراجعة الحسابات/ أحمد جابر

لم يقيَّض لقرار الهدنة الخاص بسورية أن ينعم بتطبيق كامل، وما كان ذلك مفاجئاً، إذ إن متن القرار حمل بنوداً تسمح بخرقه من مدخل الاستثناءات التي ألحقت به، هكذا رعى الطرفان الروسي والأميركي قراراً استنسابياً، وربما كان الاستنساب هو الأفضل للسياسي الروسي الذي دخل بقوة على خط الانفجار السوري، وربما لم يشعر الطرف الأميركي بأن الثغرات المتروكة في مواد القرار الدولي، تشوّش على تدخّله من بُعْد في الشأن السوري. على ذلك، لكأن قرار الهدنة حصيلة تفاهم على تسوية بين نظرتي المهاجم الروسي والمراقب الأميركي، فالأول يريد استثمار هجومه الذي بدأه قبل أشهر حتى يلامس الأهداف المرسومة له، والثاني يريد توظيف «رعايته» التطورات السياسية، بما لا يدفعه إلى الدخول ذاتياً، على خطوطها الملتهبة. التسوية أو الهدنة، امتلكت عوامل فرضها على النظام وعلى فصائل مقاتلة كثيرة، بمقدار ما ظلت محتفظة بفرص استثمار أيامها المحددة بأسبوعين، في تحسين شروط المهاجم الروسي والسوري على الأرض، وفي إبقاء المبادرة الهجومية العسكرية والسياسية رهن قرار هذين الحليفين.

هذه الحقيقة تفترض مراجعة دفاتر وحسابات الربح والخسارة التي طاولت كل المتدخلين في الشأن السوري، وفي كل مراجعة قراءة أولية مستقبلية لما يمكن أن تكون عليه الأوضاع السياسية والميدانية، وإعادة تحديد للسياسات المناسبة التي من شأنها أن تزيد من أرباح الرابحين، أو أن تحدِّد خسارة الخاسرين، وأن تبقي الباب مفتوحاً أمام سياسات تمنع الفوز الكامل لأطراف بعينها، لأن في ذلك خسارة كاملة لأطراف أخرى، ما يعكس ما بدا أنه معتمد حتى الآن من سياسات حيال سورية، تقضي بأن يكون الكل خاسراً ورابحاً في الوقت ذاته. معادلة الربح والخسارة للجميع، لا تعني منح المغانم السورية أو منعها بالعدل والقسطاس، بل تعني رسم وضبط الحدود التي لا يجب تجاوزها من الفريق الرابح، بحيث يظل الإجحاف في القسمة السياسية ممكناً ومبرراً وقابلاً لتسويغه والدفاع عنه.

في الحسابات المباشرة، ربح الطرف الروسي التعامل معه كلاعب أول في الميدان السوري، لذلك غابت الحساسية تجاه تدخله، وتراجعت أسئلة الشكوك والظنون حول أهدافه البعيدة، وصار مالكاً في الراهن، لمفاتيح مشاريع الحلول، لأن مدى حركته ومناورته توسّع إلى الحدود التي تبلغها طائراته الحربية. هو اعتراف بالدور الروسي في سورية إذاً، وهذا يجب أن يستدعي اعترافاً بالمصالح الروسية الحيوية في أماكن أخرى من العالم، منها ما يقع في جوار دولة الاتحاد الروسي، ومنها ما يقع داخلها، ومنها ما يوجد على بعد آلاف الأميال.

الطرف الأميركي من جهته، لا يبدو متضرراً من التقدم الروسي الموضعي في الديار السورية، فهو ما زال يحتفظ بنظرة تفوقه على أقرانه، لجهة إجازة الحلول النهائية، ولجهة فرض العمل العام على الأسلحة العاملة ضمن سورية، وعلى تلك الوافدة من خارجها. وللطرف الأميركي ما يقوله هنا، فهو الوحيد الذي ما زال قادراً على وقف التدخل التركي على الحدود الدولية المرسومة بينه وبين سورية، وهو إذ يتسامح بعبور الأفراد والأسلحة الخفيفة، فإنه ما زال ينبّه إلى مغبة الإقدام على اجتياز القوات النظامية التركية الحدود المشتركة، وهو لا يمل من التحذير والدعوة إلى ضبط النفس والسلام على الجانب التركي.

ينطبق الأمر ذاته على مجموعة من الدول العربية التي حاولت وتحاول، تزويد بعض الفصائل المناوئة للنظام بأسلحة دفاعية متطورة، هذه الدول تجد سياساتها في مواجهة «بالفيتو» الأميركي، وتظل طلباتها واقفة أمام سدّ منعه. هذه القدرة الأميركية العامة، ما زالت تشكل المظلة لكل مجريات الميدان السوري، وفيئها ما زال مطلوباً من كل من يسعى إلى اتقاء «شمس» التطورات المفاجئة اللاهبة.

في امتداد الربح الروسي المعلن المعجَّل، والربح الأميركي المضمر المؤجل، يجد النظام السوري نفسه رابحاً، ومعه حليفه الإيراني. النظامان هذان قطفا حتى الآن الفوز بنجاة بشار الأسد، هذا قطاف مشترك تحرص عليه إيران التي صار وجود الأسد جزءاً من أوراق مساومتها على نفوذها، ومن أوراقها أيضاً صرف عملة رحيل هذا الرئيس، في سوق صرف العملات والعمولات السياسية.

ثمة متضررون تراتبياً. سورية الكيان هي المستهدفة أولاً برعاية الهدنة المفتوحة على استئناف القتل، وبمهادنة النظام الذي جعل الاقتتال حزام إنقاذ لرأسه. الأمن القومي العربي العام، مستهدف ثانياً، وهذه خلاصة لا يحجبها التذرع بأحوال العرب الراهنة، فلقد دفعت البلدان العربية ثمن ضياع العراق، وفي صيغة خسارة عامة، وفي صيغة خسارة داخلية لكل بلد على حدة. هذا يعني ثالثاً، أن الوطنيات العربية وكياناتها مستهدفة في استقرارها وفي انسياب سياقاتها الحياتية اليومية. لعل في ذلك ما يفتح النقاش على مسائل بينية داخلية، تكون خلاصاتها مفتوحة على تحصين الوضع العربي، وعدم التلاعب به كورقة مساومة على طاولات المصالح الدولية والإقليمية.

* كاتب لبناني

الحياة

 

 

 

سورية.. من الهدنة المؤقتة إلى السلام الدائم/ كلوفيس مقصود

إنجاز هدنة بين النظام والمعارضة بعد خمس سنوات من الحرب الأهلية خطوة أولى نحو مفاوضاتٍ، تهدف إلى العثور على حل سياسي في جنيف في 9 الجاري، إذا لم تؤجل، بإشراف الأمم المتحدة.

تسبب هذا النزاع انتقاصاً من سورية، كوطن يعتبره القوميون العرب “قلب العروبة النابض”. وإذا كانت أهمية الهدنة لو صمدت في أنها توقف النزف، ولو نسبياً؛ فإن الأهم أن تتحوّل إلى عملية عبورٍ لانتقالها نحو ديمومة السلام الأهلي والوحدة الوطنية لاستعادة دورها القومي والحضاري.

في السنوات الخمس الماضية، لم يكن للمواطن السوري حرمة، ولا لحياة الإنسان قدسية. كان النزاع عبثياً تجسّد بجولات شرسة من القتال غير معهودة. الأمر الذي جعل استرخاص الحياة السمة السائدة لهذه الحرب.

إذاً، كانت هذه هدنة، فهي تنطوي على إمكانية سلام قادم كما على إمكانية استئناف القتال. لذلك، يجب أن تكون مؤقتةً بقدر الإمكان، حتى يأخذ العمل السياسي والدبلوماسي مجراه لتحقيق المصالحة الراسخة، وبما يمهد لبدء ورشة البناء وإزالة الدمار، خصوصاً إعادة بناء المستشفيات التي دمرها الطيران الروسي والسوري، في خرقٍ فاضحٍ ومعيبٍ، كان ينبغي ألا يحصل.

فالمصالحة لا بد أن يرافقها نقد الذات، لتحصين المناعة، كي تسرّع سورية الخارجة من هذا المخاض العسير، عملية وحرية الحوار واستقلالية المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، حتى يشعر المواطن بأن الدولة توفر وتؤمن حقوقه، وحرمة وجوده. فما نحن فيه الآن هو هدنة تشكل فرصةً متاحةً لتحقيق نقلة نوعية إلى النظام الجديد، تجمع عليها كل السوريين وتياراتهم السياسية.

يجب أن يكون تحقيق المصالحة من خلال المفاوضات المقرر إجراؤها قريباً في جنيف، برعاية الأمم المتحدة، فرصةً لا يجوز تفويتها كما حصل، أخيراً، لمعرفة أسباب الحرب العبثية التي حصلت، وذلك بهدف استعادة مناعة وحرمة وحرية الوطن والمواطنين.

ما نتطلع إليه هو أن تكون الهدنة جديةً ليتم الاستئناف في وضع بنود المصالحة بدقة والتزام، لضمان ديمومتها أولاً، ولاستعادة الثقة بين الأطراف المتنازعة، بحيث يتمكّن المجتمع السوري من استعادة دوره ورسالته.

وحتى لا يكون هذا التمني وهذه الرغبة من جانب أبناء الشعب العربي الذين يتمنون الخير لسورية، ووحدة شعبها، مجرد تمنٍّ؛ فلا بد أن تكون مدة الانتقال من الهدنة إلى سلام بنّاء ودائم مدة قصيرة؛ لأن قصرها يشير إلى استعداد جميع الأطراف، من نظامٍ ومعارضة، للخروج من الأزمة.

كانت هذه الهدنة مرشحة للتنفيذ، فقد تم التفاهم بشأنها بين روسيا والولايات المتحدة، بعد التدخل الروسي العسكري المدوّي في سورية والموقف الأميركي المتردّد، والذي اكتفى ببعض المساعدات لفصائل المقاومة. أدى ذلك كله إلى هذه الهدنة. والآن، على أطراف النظام والمعارضة في جنيف، بإشراف مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، أن يأخذوا بعين الاعتبار، وبكثير من الجدية والالتزام المطلق، مسألة إعادة اللحمة الوطنية للشعب بجميع مكوناته، حتى تكون الهدنة مؤقتة، والفرصة الحقيقية لتحقيق الأماني المنشودة لكل فئات الشعب السوري، وكي تتيسر العودة لعشرات آلاف اللاجئين انطلاقاً من الثقة بإنهاء الحرب، وبالمصالحة الحقيقية بين أبناء الشعب الواحد.

وعليه، لا بد أن تكون نتائج اتفاقية جنيف المقبلة قابلة للتصديق، ليس من الشعب السوري فحسب، بل أيضاً من جميع الذين يرغبون في الاستثمار، في عملية إعادة البناء، بعد كل ما حصل من دمار. كما يجب أن تكون نتائج ما يتم في جنيف ملهماً وموضع ثقة، بحيث تسهل المرحلة الانتقالية وتسرّع في العودة إلى الحياة الطبيعية والاستعداد الدولي، لتقديم المساعدة والمساهمة في إعادة الإعمار، من تمويل وتنفيذ.

عندئذ، وبعد أن يتم المطلوب والمرغوب في جنيف، نأمل أن يستطيع الشعب السوري والأمة العربية تحويل مقولة “سورية قلب العروبة النابض” من مجرد شعار إلى واقع، حيث ينبغي أن تكون هذه المناسبة الفرصة التي تتحقق فيها المصالحة الجدّية التي يتوقعها ويريدها الجميع.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

 

أي سلام لسوريا مع استدعاء شعوبيات التاريخ إلى كل الجغرافية العربية الراهنة؟/ مطاع صفدي

سؤال «ماذا بعد الهدنة ؟» شبيه بنفسه حين يُقال: وماذا في اليوم التالي على الثورة؟

كلاهما يعبران عن ضرورة الفاصل الحديّ الذي لا بدّ أن يأتي به التغيير الحاصل على أرض المعركة الفعلية. فما ينبغي أن يأتي بعد كل منهما ينبغي أن يختلف كليّاً عمّا كان قبله. فإذا كان الشعب الذي ينجز إسقاط نظام حاكم جائر، غيرَ مفكرٍ، أو غير قادر على إملاء فراغ السلطة من أسيادها المستبدين الساقطين، بإشادة أول هيكل تأسيسي للنظام الجديد البديل، في هذه الحالة السيئة التي انهارت إليها بعض ثورات الربيع العربي، سوف لن تستثمر الثورةُ في صناعة المستقبل الأفضل لمجتمعها، بل لعلها تتساقط في دهاليز المجتمع القديم، لتُصاب بعدوى أوبئته المزمنة إياها، وفي مقدمتها وباء الصراع العقيم على النفوذ وبلوغ مناصب ومفاتيح الهيمنة بأشكالها السياسية والاقتصادية أولاً.

مرحلة ما بعد الهدنة شبه الناجحة سوف تفتح الكثير من أبواب المشكلات النائمة منها والمحدثة، وأولها ولا ريب هو ذلك الخوف من العودة إلى جحيم ما قبل الهدنة، إن لم يصل المشرفون عليها إلى إتفاقات جديدة، على الأقل حول تمديدها. بينما تتطلع جماهير الناس العاديين إلى أن تتكلّل نهايةُ الهدنة بخاتمة للحرب كليّاً، وليس بمجرّد حالة تعليقٍ للقتال، فقد تظل كل الجبهات القائمة مفتوحة الحدود ضد بعضها، بانتظار لحظة انطلاق مدافعها المتقابلة حتى من دون إنذار، أو محاولةِ ردع بعضها، اسكاتَ بعضها الآخر المدوي.

هؤلاء المشرفون من السادة زعماء المجتمع الدولي وزعيماهم الأمريكي والروسي معاً. هؤلاء لا يبدون حتى الآن أنهم أنجزوا الشرط الضروي واللازم لإعادة السلْم الأهلي إلى سوريا، وذلك بالإتفاق الواضح العبارة، والأسلوب حول مبدأ إلغاء ما يُصطلح عليه بمشروعية الأمر الواقع لوقوع الحرب أو استمراريتها. فأركان هذا المجتمع الدولي لم يفعلوا شيئاً حقيقياً طيلة سنوات الدم والخراب الخمس الماضية ليوقفوا المتآمرين والقتلة ومحترفي النهب بمختلف أشكاله الإجرامية والوحشية. كأنهم عملياً كانوا يبررون اللامبالاة الممنهجة إزاء الكوارث المتنامية ذاتياً، اعتماداً على براهين (إنجازاتها) كحقائق مادية ملموسة للأمر الواقع الفعلي، أي أن عنف الكارثة نفسه هو الذي يمنحها مشروعية الأمر الواقع الذي بدوره يسمح للشرعية الدولية أن تسبغ عليه صفته القانونية. هذه اللوحة الملتبسة من الظاهرة المتناقضة ما بين مشروعية الحدث الواقعي الراهن (كارثة الحرب المستدامة) وما بين شرعية القانون (الدولي تحديداً هنا)، لا تزال تسوّغ لزعيميْ القتال الأصليين، أوباما وبوتين، ألا يتخليا عن اعتبار هذه الحرب كخيار جائز. فهما يتأبطان حقيبته السرية والعلنية معاً، ويمكنهما أن يخرجا منها المراسيمَ المطلوبة والمتدرجة حول الاقتالات القادمة والمرخّص لها ضمنياً.

إذ يبدو أن مهالك المقتلات السورية قد تصاعدت بطبيعة الحرب نفسها إلى أقصى أشكالها التي كادت تفصلها حتى عن إرادة مديريها. لقد باتت حرباً ذات قوة ذاتية مستقلة وربما عن قادتها العلنيين أو المتخفين. فهؤلاء باتوا شبه أدوات طبيعية للحرب طيلة اللحظات الفاصلة التي كانت تفاجئ بها أحداث سوريا على مدى السنين الخمس. واليوم تحوم عودة القتال فوق الرؤوس جميعاً، كأنها أمست مالكةً لتوقيتها الخاص إن لم يستطع المسؤولون الدوليون أولاً ابتكار المنظومة السلمية التي ستتولى قيادة مرحلة الإنتقال الآتية. وهذه مهمة إعجازية أخرى قد لا يسهل تجاوزها عبر تناقضات الأقطاب المتواصلة.

غير أن ما يزيد من يأس الناس من حصول معجزة السلم الحقيقية، هو أنه، وفي ظروف تعثّر الهدنة نفسها، تفرّخ الحالةُ العربية الإقليمية حروباً فرعية وسياسية وطائفية أخرى، ستعمل على تهميش المسألة السورية أو نقلها إلى مرتبات ثانوية بالنسبة للتحديات المستحدثة حولها. فالانقسام العربي الفارسي المتصاعد، يتخطى الخلاف المذهبي التقليدي (سني/ شيعي) ليصبح سريعاً صراعاً على أولوية النفوذ والقيادة السياسية للإقليم العربي بكامله مع جواره الإسلامي، فتزايد التوتر الدعاوي بين القطبين السعودي والإيراني سينعكس من جديد على المسألة السورية بمضاعفات معقدة. سوف تندد بعودة المدافع إلى دويها المعهود في أجواء الجبهات شبه الساكتة حتى الآن، بحيث لن تسمح هذه الردة باستئناف النقاش حول الحوارات الجدية المؤدية إلى أي نوع من السلم المحلي أو الإقليمي، وستزوّد عربدةَ الحروب المتنقلة بدوافع تبريرية لن تنتهي، كأنما لا رادّ لمخطط تقسيم جسم المشرق، بدءاً من نهري العراق إلى شواطئ الشام. ومن أجل تجديد هذا التصميم التاريخي العريق بنكبات الماضي البعيد والقريب، لا بد من استئناف مقدماته المتكفلة بإحلال كل أشكال الفوضى الشعبوية، وعلى رأسها ذلك العبث بالثورات المزيفة والطائفيات والعنصريات الملفّقة. فلنتذكر أن الأساس (الايديولوجي) لاستعمار المشرق منذ أيام انهيار الإمبراطورية العثمانية، كان اعتماد مبدأ التطويف لشرذمة كتلة الأمة العربية من مدخل عقيدتها التراثية في الإسلام السني. وما فعلته استراتيجية أوباما في المنطقة الأخطر من هذا المشرق العربي هو أنها خدمت أهدافها التقسيمية حسب محاور التطويف المتحكمة إجمالاً في تطور كياناتها الدولتية منذ أول دولة أموية ومن ثم عباسية، ومن بعدهما عبر كل تنويعات التذرير تصوّب على أضعف الخلايا المجتمعية لكل كيان قائم.

تستثمر أمريكا في مكسب التصالح مع ملالي إيران أحد أخطرمحاور التقسيم، على أساس استنهاض ثقافة الشعوبيات المزروعة بذورها في اللاشعور الجمعي لكلا الأمتين العربية والفارسية منذ أيام العباسيين. فإن جعل التطور السياسي في هذه المنطقة متعلقاً بالدرجة الأولى بحاكمية الإستقطاب الديني الطوائفي، هذا يلغي صميم الحاكمية التقدمية لاستقطاب الحرية ضداً على الاستبداد والاستغلال الذي قاد فكر الكفاح الوطني ثم القومي فالإجتماعي فالمدني الثوري الراهن، ذلك الذي شهد عودة الكينونة العربية إلى خارطة الوجود الإقليمي والدولي.

وقد ساعد مزاج أوباما المتقلّب، شاء أم أبى، ومن خلال رقصاته السورية المفجعة والمضحكة معاً، في تهميش المبدئيات السلمية والتقدمية واحدة بعد الأخرى، فإذا بالغيبيات الخام والوحشية تغدو هي المؤهلة وحدها لتشكيل عقليات الأجيال الشابة الصاعدة. فلقد صنّفت هذه الاستراتيجية الخبيثة، كل أسباب تشكيل الإنسان الإرهابي قاتلاً أو انتحارياً. فها هما دولتا النفط الأعظم في العالم، السعودية وإيران، تنخرطان معاً وفي توقيت واحد، (مع فارق المسؤولية الكبرى الواقعة على أكتاف ملالي طهران) في تفجير أخطر بؤر الزلازل الجيولوجية الأعمق ما تحت كل مجتمع عربي وإسلامي كان ينعم في استقرار هش، ولكنه سلمي إلى حد ما.

إذا كان ساسة المجتمع الدولي يحرصون حقاً على عدم إضاعة ثمرة الهدنة القريبة من النجاح الظاهري على الأقل، عليهم أن يواجهوا لكن أجواء المنطقة كلها، التي أمست تعج بموجبات المقتلات الفئوية المعممة هذه المرة على كل معالم المشرق وضواحيه. فكيف لسوريا أن تستعيد أي سلام وهي غارقة في بحر المنطقة هذه الطافحة بإنذارات الكوارث الأسوأ من بعضها، فيما لو استمرت استراتيجة أوباما «العميقة» تلك، التي قادت تناقضات الربيع المشرقي البائس طيلة سنوات حكمه العُجاف، وربما سيمتد زمانها إلى الرئاسة الجديدة القادمة؟ وخلال هذا كله ستتحول وتتصاعد كوارث سوريا إلى مستوى النكبة الفلسطينية السورية الثانية، لتصبح نكبة كبرى عربية وإسلامية شاملة.

ما هو اليوم التالي إذن، على إنجاح الهدنة؟ هل عليه أن يفتح كل هذه الدروب المشؤومة أمام شعوبنا المقهورة، بحيث لا يندفع بعضها في أحد هذه الدروب حتى يكشف ما هو أرهب من خياره السابق، ليلقي بنفسه في تهلكة الآخر؟ هل لم يعد من منفذٍ من وكر الأفاعي الضارية هذه؟.. وإلى متى!

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

رهان الأسد وحلفائه على إسقاط الهدنة والمفاوضات/ عبدالوهاب بدرخان

ماذا كان الهدف من الهدنة؟ إيجاد مناخ ملائم للمفاوضات السياسية، وأساساً لم تكن هذه الهدنة إلا لأن الثلاثي، الروسي – الإيراني – الأسدي، استشرس على مناطق المعارضة لحظة كانت تستعد للمشاركة في مفاوضات جنيف. لم يعد هناك شك في أن الروس تقصّدوا قتل المدنيين، باستهدافهم المستشفيات والمدارس التي تؤوي مهجّرين، كما أن ممارسات الميليشيات الإيرانية وشعارات المذهبية في المواقع التي استعادتها الى سيطرة النظام، لم تترك مجالاً للشك في الخطورة البالغة لما يحصل.

أدركت المعارضة وداعموها أن الطرف الآخر دخل في ذهنية «الهجوم النهائي» لإنجاز الحسم العسكري. وفي هذه الحال علامَ التفاوض، ولماذا كانت لقاءات فيينا، ولماذا استُصدر قرار من مجلس الأمن؟ بل طُرح السؤال الأهمّ: ما هي التفاهمات السرّية بين الولايات المتحدة وروسيا، وهذا ما استدعى التفاوض مجدّداً بين جون كيري وسيرغي لافروف؟

ما كان للهدنة، ولو هشّة، أن تحصل لولا التزام فلاديمير بوتين وضغوط موسكو على الأسد والإيرانيين، حتى لو بقي هذا الالتزام ضعيفاً ومخادعاً. وما دامت الهدنة بدت ممكنة، على رغم كل الشكوك، فلماذا لا يُصار الى تثبيتها، ولماذا يستمر التحشيد والاستعداد للحظة انهيارها المتوقّعة؟ أولاً، لأن الأهداف العسكرية في خطط روسيا وحليفيها لم تتحقق بعد، بل يُراد استكمالها كعنصر ضاغط على المفاوضات. وثانياً، لأن بوتين لم يوافق على الهدنة لأسباب إنسانية، بل بشرط أن تكون مدخلاً لمفاوضات تُظهر فيها المعارضة سريعاً استعدادها لقبول التسوية السياسية، كما رسمتها روسيا وحليفاها، وكما باتت أميركا تشاركهم إياها. ومن الواضح أن إثارة واشنطن احتمال التقسيم، وموسكو احتمال الفدرلة، استهدفت خصوصاً المعارضة التي لم يُعرف لها أي طرح تقسيمي في أي مرحلة، أما النظام وحليفه الإيراني فكشفا قبل عامين مشروع «سورية المفيدة»، واستمرّا يروّجان له واستدعيا التدخل الروسي ليكون «ضماناً» له. ويتمثّل التهديد الموجّه للمعارضة في القول بأنها أمام «فرصة أخيرة» للحفاظ على «وحدة سورية»، وأنها ستحبط هذه «الفرصة» إذا أصرّت على شرط رحيل بشار الأسد للحل السياسي.

ينبغي الكثير من الغباء السياسي والتعامي عن الإجرام لتقديم الأسد على أنه «الضامن» لوحدة سورية، خصوصاً إذا كان هو نفسه لم يعد يحلم إلا بـ «سورية المفيدة» التي يعرف أنها مفلسة ولا يستطيع ابتلاعها خالية من أهلها الذين اقتلعهم منها، لكنه يراهن على الوحشية الروسية لتمكينه من الاستئثار بها أو تأمين الاستقرار فيها. ويبدو أن المنطق/ اللامنطق الروسي (والإيراني) – الأميركي يواصل تغليب معادلة «داعش – الأسد» ليدعم بقاء الأخير باعتبار أن شريراً تعرفه أفضل من شرير لا تعرفه. لكن هذا يعني في شكل واضح وفاضح، أن «الحل السياسي» المزمع مرشحٌ لأن يُبنى على إحدى كذبتين: بقاء الأسد ضرورة للقضاء على «داعش»، وبقاء الأسد ضرورة للحل السياسي… وكلا الكذبتين من صنع الإيرانيين، لأن «بقاءه» يساعده ويساعدهم في الحفاظ على «سر داعش»، كما يكفل تعطيل أي حلٍّ لا يؤمّن لهم مصالحهم. ومثلما أن تسرّع الروس أحبط المفاوضات واضطرهم للذهاب الى الهدنة، فإن أوهام الإيرانيين والأسد وحتى الأميركيين ستضطرهم الى تعديل صيغة الحل السياسي ومفهومه وأهدافه.

في الحالين، كانت مفاهيم ثورة الشعب هي التي تتغلّب، وبالتأكيد ستتغلّب، على الدسائس ومحاولات تركيب صفقات بين الأطراف الخارجية. أُريد للهدنة أن تكون مجرد ممر شكلي الى المفاوضات، كما أُريد للمفاوضات أن تكون فخّاً للمعارضة، للشعب، لمصادرة طموحاته وتحريفها، ولبيع تضحياته وطمسها كأنها لم تكن. وبعقلية التلفيق هذه، لا يمكن التفاوض ولا التوصّل الى أي حل. وفي ضوء الهدنة عاد الشعب فقال كلمته، مستعيداً تظاهراته ووقفاته السلمية كما في آذار (مارس) 2011، ومجدّداً رفع مطلبه الرئيسي بوجوب رحيل الأسد. فمع التزام موثّق بوقف إطلاق النار من جانب غالبية الفصائل المقاتلة، بما فيها «جبهة النصرة»، وعودة المدنيين الى التظاهر، برهن الشعب أنه لم يفقد اتجاه البوصلة على رغم كل ما أصابه. في المقابل، كانت الانتهاكات للهدنة تزداد خطورة: غارات الروس، براميل النظام، قصف الميليشيات الإيرانية، وعمليات قتالية لكسب مواقع جديدة… وقد شمل الإصرار العلني على إنهاء الهدنة عرقلة المساعدات الإنسانية لاثنتي عشرة منطقة محاصرة من أصل ثماني عشرة، وعدم البحث في تبادل إطلاق الأسرى، وهو أحد بنود اتفاق الهدنة.

في السنة السادسة للمحنة السورية، لم يعد العنف والقمع والإجرام حكراً على آلة القتل الأسدية، بل أصبحت دولية، فكما أخافت التظاهرات السلمية النظام، ها هي تقلق الأطراف الدولية التي لم تتوقّعها، واستشعرت بأنها تهدّد الأهداف الحقيقية للهدنة. كانت هذه الهدنة ولدت اتفاقاً أميركياً – روسياً، ثم صارت قراراً دولياً أصدره مجلس الأمن، ولأن مراقبة تنفيذه لم تُعهد الى طرف محايد، بل أبقيت في كنف الدولتين الكُبريين، فهذا ما يفسّر عدم الاكتراث بشكاوى المعارضة والمداومة على القول بأن الهدنة «صامدة». ذاك أن «الخروقات» تتمّ من جانب النظام وحلفائه، ولذا فهي حظيت بسكوتٍ، أي بتواطؤٍ أميركي – روسي صار ستيفان دي ميستورا ناطقاً باسمه وليس باسم الأمم المتحدة. فالمبعوث الدولي يعرف أن ما حققته الهدنة ضئيل جداً ولا يكفي للذهاب الى مفاوضات، إلا أنه يدافع عنه كـ «أفضل الممكن» مساهماً بدوره في الضغط على المعارضة للمجيء الى التفاوض وهي تحت ضغط ميداني.

«جنيف» قبل شهر قد لا تختلف عن «جنيف» هذا الشهر. فالسيناريو نفسه مرشحٌ للتكرار: محاولة لإطلاق التفاوض على خلفية اجتياحات وتصعيد عسكري. تسقط الهدنة عملياً في اللحظة المتوقّعة، وهذا من «تقاليد» الهدنات وتجارب وقف النار، سواء لإجبار المعارضة على الرضوخ للأمر الواقع أو لإخضاعها للابتزاز، ما لن تقبله، ففي كل الأحوال سيُستخدم التهديد الميداني للتأثير في مسار المفاوضات. لكن المعارضة ليست وحدها في وضع صعب، فالأميركيون والروس يعرفون أن محاولة تصفيتها عسكرياً غير مجدية بل تديم الصراع في أشكال مختلفة قد تكون أكثر خطورة، أي أنهم يحتاجون إليها لإعطاء شرعية لأي حل سياسي قابل للتطبيق أكثر من حاجتهم الى الأسد فاقد الشرعية أصلاً والمؤكّد أن لا دور له في مستقبل سورية. وإذا كان الروس والإيرانيون يعوّلون على «معارضين» أشرفوا على تدجينهم كـ «شركاء» بدلاء في «حكومة جديدة»، وفقاً لتعبير دي ميستورا الذي نسي فيه مفهوم «الانتقال السياسي» المثبت في كل الوثائق (بيان جنيف، بيانات فيينا، والقرار 2254).

هذه المسمّاة «حكومة» المقترحة، إذا نجح الأميركيون والروس في فرضها، ستكون تحت سلطة بشار الأسد وزمرته، وعنواناً لـ «انتصاره» مع حلفائه على شعب سورية، لا خطوة نحو إنهاء الصراع. إذا كانت موسكو تحمل في أجندتها الخفيّة ورقة إطاحة الأسد، على ما يردّد المتكهّنون أو الواهمون، فقد حان الوقت لاستخدامها. كانت المحادثة الهاتفية بين الرئيس الروسي مع قادة فرنسا وبريطانيا وألمانيا واضحة في إشارتها الى أمرين: أولهما، أن التقويم الأميركي – الروسي «الإيجابي» للهدنة ليس كافياً لاعتبارها ناجحة أو لحفز المعارضة على الذهاب الى المفاوضات. وثانيهما، أن الحل السياسي المنشود لن يتبلور في المفاوضات، إذا انعقدت، طالما أن أفقه محكومٌ بوجود الأسد… أي أن هذه اللحظة التي ينبغي أن تقرّر فيها روسيا إذا كانت تتبنّى انتقالية سياسية أو استمرارية للنظام. فالمغزى الواضح لموافقة المعارضة على التفاوض، أنها أيضاً إقرارٌ بالحفاظ على الدولة ومؤسساتها وليست قبولاً باستمرار هذا النظام أو رئيسه، وكلاهما واحد. كان اللعب على الغموض ممكناً في بعض المراحل، لكن الصراع السوري بلغ حدوده القصوى ولا بد من الوضوح، فإمّا أن يكون انتقال سياسي أو تكون «المفاوضات» مجرد خدعة روسية أخرى.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى