صفحات الناس

مقالات تناولت الوضع في حمص

حمص: الناجون من الحصار إلى الحصار/ سالم ناصيف

لم يترك اليأس البادي على وجوه أهالي حمص الخارجين من الأحياء المحاصرة  فرصة أخرى لهم، فالموت المحيط بهم من كل حدب وصوب تواطأ مع الجوع على سكان الحصار، لهذا كان خيارهم، ربما، هو الموت بين موتين علّ أحدهما يكون أكثر رحمة. 

هي التغريبة الحمصية التي يتحدث عنها أهل حمص اليوم، دفعت بسكان الأحياء القديمة إلى أول نزوح لهم، يخرجون فيه من الحصار إلى حصار آخر، لكنه قد  يكون أكثر إحكاماً للخناق عليهم وأكثر خطراً على أرواحهم المهددة بالجوع والموت والتشرد.

 مخاوف كثيرة يعيشها السوريون اليوم من أن تكون هدنة حمص مجرد تمهيد لعمل عسكري كبير، يقضي على ما تبقى من البشر والحجر داخل الأحياء التي ترزح تحت الحصار منذ أكثر من عام ونصف.

 قد تحمل الهدنة للذين خرجوا من الأحياء القديمة، خطر أن يكونوا قد سقطوا في فخ النظام وأصبحوا أسرى لديه يعيشون احتمالات الاعتقال والتنكيل حسب ما يرى الناطق باسم تنسيقية حي الخالدية، أبو الفداء.

 ويقول أبو الفداء، في حديث لـ”المدن” إن “العقل الذي يدير المعركة في سوريا اليوم يبعد كل البعد عن عقلية النظام في بداية الثورة. فالمعركة اليوم تدار بدهاء فائق، وحمص في حصارها الذي تعيشه منذ عام وثمانية أشهر تمر بأخطر المراحل وبالأخص المفاوضات التي أجبرنا النظام عليها بعد الحصار الخانق وحرب جوع أفقدت الثائرين صوابهم وعقولهم ما دفع قرابة 500 شاب لم تنص الهدنة على إخلائهم، إلى تسليم أنفسهم للنظام خلال عملية إخلاء المدنين”.

 ويبيّن أبو الفداء، أن القصة بدأت عندما خرج المدنيون من النساء والأطفال والشيوخ، الذين تقع أعمارهم بين 14 حتى 55عاماً، في أول أيام الهدنة.

إلا أنه في اليوم التالي لإخلاء المدنيين قام قرابة 50 شاباً بتسليم أنفسهم للنظام تبعهم في اليوم التالي قرابة 200 شاب سلموا أنفسهم للنظام الذي قدم لهم الطعام والشراب ولم يصادر أجهزتهم النقالة.

 وبمجرد أن وثقت الدفعة الأولى من الشبان الذين سلموا أنفسهم بأن النظام لن يؤذيهم، قاموا بالاتصال برفاقهم الذين لم يخرجوا من الأحياء المحاصرة، وعلى إثر تلك الاتصالات قام 250 شاباً بتسليم أنفسهم، فتم وضعهم في مدرسة الأندلس، في حي الدبلان، الذي تسيطر عليه قوات النظام، ليصبح العدد ما يقارب 500 شاب، انقطعت أخبارهم، وسط مخاوف متزايدة من إمكانية تصفيتهم بعد رحيل بعثة الأمم المتحدة التي تشرف على عمليات الإجلاء، فور انتهاء مهمتها.

 وبحسب أبو الفداء، فإن النظام  يهدف لاستدراج أكبر عدد من الشباب لكي تنهار جبهات حمص المحاصرة ويرتكب مجزرة بحق المحتجزين لديه ومن ثم يقوم باقتحام المنطقة المحاصرة ليقتل ما يتبقى داخلها.

 من جهة ثانية يؤكد الناشط، يزن الحمصي، في حديث لـ”المدن” أنه خلال ستة أيام، تم إخلاء ما يزيد عن 1200 امرأة و طفل ومسن، مشيراً إلى أن الشبان الـ500, يتم التحقيق معهم بشكل يومي ولم يفرج عنهم حتى الآن، باستثناء أعداد قليلة تم الإفراج عنها ولا علاقة لها بالشبان المحتجزين.

 ويلفت الحمصي إلى أن عملية إجلاء المدنيين من حمص القديمة لم تنهِ معاناتهم،  كون حي الوعر، الذي لجأ البعض إليه، هو في الأصل حي محاصر ويتعرض للقصف في فترات متفاوتة, وسبق أن وقعت فيه أكثر من مجزرة بحق المدنيين، إلى جانب القصف الذي يطاله كل حين، وكذلك تمنع الحواجز، التابعة للنظام، دخول المواد الغذائية والطبية إليه، ما يعني زيادة في العجز عن تلبية متطلبات الحياة اليومية للمدنيين داخله، فبات الخارجون من الحصار داخل حصار جديد في حي الوعر.

المدن

درع بشري في حمص/ ديمة ونوس

 درع بشري. أجساد متراصّة تحمي أو تمنع أو تحتجّ. اختراع يفترض حدّاً أخلاقياً معيّناً لدى المعتدي. أجساد تخفق وراء لحمها وضلوعها أرواح أشخاص. إلا أن الأرواح لا تقوى على الردع. الروح تحبّ وتكره وتفرح وتجنّ، لكنها تبقى وراء جسد يتحرّك على إيقاعها.

درع بشري. ذلك الاختراع الذي شهده التاريخ في الحرب العالمية الثانية وفي حرب الخليج وفي حرب تموز، يصلح استخدامه لدى الطرفين: المعتدي والمعتدى عليه.

ثمة من تخفق روحه دفاعاً عن قضيته، فيقف هناك، متحدّياً إرادة المعتدي، معرّضاً نفسه لاحتمال الموت. يقف مشدود القامة، عيناه متقدتان، يحمي بجسده أفكاراً دافع عنها وبذل روحه في تأمّلها. وثمة من يستخدم أجساد المعتدى عليهم، كفعل ابتزاز، ليحصل على خضوع الآخر المرغم والمهان والخاسر لما يدافع عنه. الجسد الذي يصبح في لحظة خاطفة، مجرّد خرقة يلوّح بها صاحب القضية، محقة كانت قضيته أم غير محقة.

إنه الجسد الذي يرقص بصخب أو يتكوّر على نفسه ويلوذ في عزلته. ذلك الذي يركض على الرصيف بعزم ويفسح له العابرون مساحة ليتقدّم. الجسد الذي يتسلّق جبالاً أو يعانق جسداً آخر أو يقفز من علو شاهق. أيضاً يقتل ويختبر طاقته في القتل، في التشنيع بأجساد أخرى. وأيضاً يقف كسدّ، كدرع بشري، في مدينة حمص، قبل أيام قليلة، ليمنع وصول المعونات إلى الأحياء المحاصرة هناك.

أجساد تحمل أرواح سوريين موالين، وقفت في وجه السيارات التابعة للأمم المتحدة والهلال الأحمر السوري، لتمنعهم من الوصول إلى المناطق المحاصرة، لتمنع وصول المعونات الغذائية لأشخاص ينتمون إلى البلد نفسه، والمنطقة ذاتها. أشخاص يشبهونهم إلى حدّ كبير، عاشوا إلى جانب بعضهم البعض عقوداً من الزمن، عقوداً من الذكريات والذاكرة المشتركة. أجساد محاصرة في أحياء مدمّرة ومنكوبة. والاتفاق أبرم بين الأمم المتحدة ووفد بشار الأسد. والمعونات توجّهت إلى المدن المنكوبة تحت مباركة محافظ حمص-ممثل النظام.

هذا كله لا يهمّ. ثمة سوريون يمنعون المساعدات عن سوريين آخرين. ثمة موالون لنظام الأسد يمنعون دخول المعونات لأشخاص لا نعرف إن كانوا موالين أم معارضين، فقط نعرف أنهم ينتمون إلى طائفة أخرى وأنهم يسكنون بين حطام أبنية مدمّرة، محاصرين هناك، فقط لأنهم مختلفون. موالو النظام الذي يترغل بلغات التسامح والعيش المشترك وبلد الحضارات ونبذ الطائفية، يردّون بأجسادهم الحياة عن أجساد أخرى، فقط لأنها مختلفة. يشتمون المحافظ المكلّف بتسهيل عمل اللجنة. يعارضون اتفاقاً دولياً وافقت عليه “حكومتهم” وباركه نظامهم وقائدهم المفدّى.

أجساد أخرى كانت تطير في السماء وتقصف أحياء القصور والحميدية وجورة الشيّاح. تخترق الفضاء وتخترق الهدنة المفترضة. تقصف عملية الإخلاء المتفق عليها، إخلاء الأحياء من كبار السن والأطفال. حيث لم يبق سوى الشباب. منهم من بقي كخيار مقاومة ومنهم من بقي رغماً عنه. الحصار والتجويع من شيم أهل المناطق الموالية والمحميّة، من شيم نظام الأسد وما يمتلك من أجساد في السماء وعلى الأرض.

أحد الشبيحة الدمشقيين العاملين مع نظام الأسد، كتب على صفحته: “انشالله سم الهاري ونار زيت حار يشويكم شوي.. وصل الأكل والمؤن للسادة المسلحين بالوطن منشان يقوى عودن شوي ويقدروا يقتلوا الجيش العربي السوري وزينة شبابنا..”. ليست تلك الكلمات مجرّد تهويمات “فيسبوكية” عابرة. إنها موقف شريحة كبيرة من الموالين لنظام الأسد. وفي ذلك الموقف خطورة على مستقبل سورية لا يقلّ خطورة عن بقاء الأسد واستمرار نظامه في القتل والإجرام. ذلك الشبيح الدمشقي لا يعترف بهدنة وباتفاق عقدا بين نظامه وبين من يسميهم بالمسلحين. من جهة أخرى، يبدو أي حوار بين نظام الأسد والمعارضة، مرفوض بالنسبة إلى الموالين الذين دفعوا “ثمناً” باهظاً و”خسارات” فادحة خلال السنوات الثلاث الماضية. والأهم أن الشبيح الدمشقي الذي يعمل لدى “السيدة الأولى” وأصلها من مدينة حمص، يتمنّى الموت لسوريين يعيشون في مناطق محاصرة فقط لأنه يفترض وجودهم إلى جوار “مسلحين”.

درع بشري جديد، يضاف إلى التاريخ. أهالي المناطق الموالية، المدنيون، السلميون، دعاة العيش المشترك، أعداء الطائفية، يسدّون الطريق ويمنعون الهواء عن أهالي المناطق الأخرى.

المدن

مشهد الخروج من حمص المحاصرة.. شهادات من ناجين

دمشق – جفرا بهاء

وصف سوريون مشهد خروج “أهل حمص المحاصرة” من الحصار خلال الأيام الماضية بأنه من أقسى ما شهدوه في الثورة السورية منذ ثلاثة أعوام. وسقطت مقولة الحماصنة الساخرة “ابتسم للسكايب، فأنت في حمص المحاصرة”، لتحل محلها “ابتسم للكاميرا، وإلا ستموت من الجوع”.

صور النزوح أو الخروج من حمص أشاعت جواً ثقيلاً بين السوريين، من جهة خلق بعض الأمل بحياة أولئك المحاصرين الذين كادوا يموتون من الجوع، ومن جهة ثانية أشعرهم بالحزن والانكسار الذي لاح على وجوه الخارجين، خصوصاً مع اعتقال 336 شاباً ورجلاً واصطحابهم للاستجواب الفوري.

العم “ع.ج” غطى وجهه “بالكوفية” وخرج ليلتقطه رجال النظام الواقفون بجانب محافظ حمص “من غير المسموح أن آكل قبل أن يجري تفتيشي، والتحقيق معي، لم أضع لقمة في فمي إلا بعد أن تأكدوا أنني لست مقاتلاً، وكان عليّ أن أظهر هويتي الشخصية ليصدقوا أنني في عمر لا يسمح لي بالقتال “عمري 60 عاماً”.

قدرت الأمم المتحدة أن عدد المفرج عنهم من الرجال الذين خرجوا من الحصار لا يزيد عن 152، ما يعني أن هناك على الأقل 184 لا يزالون قيد الاحتجاز والتحقيق.

“العربية.نت” تكلمت مع السيدة “م.ن” من اللواتي خرجن من الحصار، فقالت إنها كانت تفضل الموت على الخروج من الحصار بهذه الطريقة “كنا نسمع شتائم من أولئك الجنود المرافقين لفريق الهلال الأحمر، أنا سمعت أحدهم يقول “كان لازم نقتل جوا”، وأضافت: “فتشوا الرجال والشباب وكأنهم مجرمون، هؤلاء الذين تم تفتيشهم هم أبطالنا وأولادنا، هم من أبقونا على قيد الحياة رغم الحصار الطويل والمضني، لولا خوفي على أولادي من الموت جوعاً، لما قبلت بالخروج، ولكننا نموت هناك دون ضجة”.

بالجنة في خبز؟

نشر ناشطون على شبكة الإنترنت فيديو لطفلين من حمص، تبدو لهجتهما الحمصية واضحة، تحدث الطفل الأول عن “اللاشيء”، “لا شيء للأكل، ما في شي ناكلو، ولا شي، حتى برغل ما في”، بينما طلب الطفل الثاني أن “يستشهد” والسبب ببساطة الأطفال وعفويتهم بدا كالصفعة القاسية “بدي آكل.. بالجنة ما في خبز؟”.

الخارجون إما مرضى أو عاجزون

قالت “س.م” لم أرَ زوجي منذ أن بدأ الحصار علينا، ولدت ابني داخل الحصار ولم يرَ والده بعد، إذ إن قوات الأسد حاصرت حمص القديمة خلال وجود زوجي خارج حمص، وعندما خرجت خفت أن لا يتعرف علي زوجي، فوزني نقص كثيراً عن آخر مرة التقينا، والسكايب الذي كان وسيلتنا الوحيدة للتواصل لا يظهر الصور جيداً”.

وأضافت ضاحكة “سألو أحد الرجال الخارجين عن سبب طول لحيته، فكتمنا ضحكتنا، وسقطت بدلاً عنها دموعنا، يسألونهم لماذا لا تحلقون ذقونكم، وهل يهتم بالحلاقة من لا يجد ما يأكل؟”.

حمص المدمرة

الصورة التي بدأت الوكالات بنشرها، تعطي صورة عن مدى الدمار الذي يخلفه هؤلاء وراءهم، ويترك أسئلة كثيرة معلقة في الهواء، لعل أبسطها “أين كانوا يعيشون وسط ذلك الدمار”. وحمص التي رسمت ابتسامة ثورة سوريا على مدى أكثر من 3 أعوام، جعلت الدموع تغص في أعين السوريين المراقبين للصور التي التقطت لأناس حوصروا لأكثر من عام ونصف، وجاعوا وهربوا من بيت لآخر للاحتماء من القصف، وخرج بعضهم باتفاقيات عالمية وبمراقبة دولية، ليأكل البسكويت والموز.

336 رجلاً من رجال حمص الذين خرجوا من الحصار هم الآن يقبعون في معتقل النظام قيد الاستجواب، حيث اتهمهم الأخير بأنهم إرهابيون، وحرم عليهم مغادرة الحصار دون تحقيق أو ربما إهانة من نوع آخر كما قال “م.ع” الشاب الحمصي الذي لا يزال يجلس في منزله في باب هود، غير مبال بالخروج، لأنه حسبما قال لـ”العربية.نت”: “خلي الولاد ياكلو ويعيشوا، والنساء يتنفسوا، أنا إذا طلعت بدن يذلوني”.

وكان محافظ حمص أعلن أمس أن عمليات إجلاء المدنيين توقفت لأسباب قال إنها “لوجستية وفنية”.

“باب هود، باب التركمان، باب الدريب، الباب المسدود، حي الورشة، حي العصياتي، حي بستان الديون، حي الصفصافة، أسواق حمص القديمة كالسوق الأثري وسوق الخضرة، وجزء من حي وادي السايح، بالإضافة إلى أحياء حي جورة الشياح، حي الخالدية، حي القرابيص، حي القصور، حي الحميدية، طريق حماة، أجزاء من مركز المدينة”.. يشكلون في تجمعهم حمص المحاصرة والمنكوبة منذ عام، حتى بات اسم “حمص المحاصرة” عابراً يمر على نشرات الأخبار ويتجول بين المحطات الفضائية وكأنه اسم المدينة وليس اسم جزء محتل احتلالاً كاملاً، ليصبح اليوم منظر خروج بعض المحاصرين، وفقاً لشروط النظام الذي دمر مدينتهم وقتل جزءاً من أرواحهم، هو الخبر المتصدر، ولتبقى حمص خبر النشرات المتصدر منذ 3 أعوام..

داس النظام في أحياء حمص القديمة على العمر بنعال الألم، وغابت أسماء وأرواح، وقوضت بيوت وذكريات، وخرج من تبقى على قيد الحياة وسط حصار من النظام يفتش الأحياء بحثاً عن الموتى في عيونهم.

العربية نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى