صفحات العالم

مقالات تناولت “داعش”

تواطؤنا بين «داعش» والميليشيات/ زهير قصيباتي

ليست أميركا ولا أوروبا أو روسيا والصين بريئة من تضخُّم وحش «داعش» الذي يمدُّ أذرعته لتلتف حول المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج. وكلما نصحتنا واشنطن بالصبر لجيل أو أكثر لكي ينبلج فجر الانتصار على الوحش، يتجدَّد السؤال ذاته عن التآمر والتواطؤ ولغز أسطورة التنظيم الذي بات العالم كله عاجزاً عن التصدّي لشروره.

لدى الأميركي يكفي التحضير لتجنيد سنّة من عشائر الأنبار، استعداداً لمعركة في حرب طويلة. وهو فصل يكفي لإحصاء أرقام إضافية من قتلى العراقيين الأبرياء الذين ينتظرون ساعة خلاص من رعب «داعش» وخبث حكومة بغداد التي أغلقت أبواب العاصمة في وجه النازحين، فقط لأنهم من السنّة… وخلاص مما يخطط له سيد البيت الأبيض الذي بات متَّهماً باستكمال فصل آخر من فصول المحافظين الجدد، على طريق «إمبراطورية» الخراب في العالم العربي.

لدى الروس، يكفيهم للاطمئنان توسيع مسرح القتل بعيداً، وجعله محرقة لـ «الإرهاب»، حتى من ذاك النوع الذي قاومهم في الشيشان، ومن كل مَنْ يُعارض الديكتاتوريات الحليفة في الشرق.

لدى الأوروبي، تكفي شمّاعة مجلس الأمن وشَلَلُه، نتيجة الانقسام الأميركي- الروسي أو ما سُمِّي حرباً باردة، ما زالت تلائم مصالح واشنطن وموسكو، ما دامت أصابعهما بعيدة من حرائق العرب ومجازر المنطقة.

ولأن علينا الانتظار لجيل أو أكثر، لكي يُهزم وحش «داعش»، لن نسأل كم من البلايين ستجنيها أميركا وروسيا من بيع العرب أسلحة، وأي مساحات ستحرقها الحروب مع «الخليفة»، بل نسأل عن قوائم الشهداء الأبرياء الذين سيسقطون ضحايا للخديعة الكبرى… ورغم ذلك يتقدّم «داعش» كلما ضلّلونا بانتصار.

«داعش» هو ابن الوحش الذي تخرّج من سجون الاحتلال الأميركي للعراق، والسيطرة الأميركية على أفغانستان، وسحق الروس للشيشان… «داعش» وخليفته من فصيلة دم الديكتاتوريات العربية التي فرضت لعقود طويلة حجْراً على المواطَنة، وحوَّلت الأوطان إلى مجرد أنظمة.

بين «داعش» والديكتاتورية هل من خيار؟ بين التنظيم وتوحُّشه والميليشيات التي ترتَكِب فظائع باسم الحرب على التكفير، أيُّ دين؟ ألم يقتُل «داعش» من المسلمين ما يكفي لتلمُّس أصابع التآمر لتدمير المنطقة، ودائماً تحت ستار الفتنة المذهبية، وتحريض التنظيم على الشيعة بالمطلق، وسعي الميليشيات الشيعية إلى الانتقام من كل السُّنّة؟

«داعش» تلميذ نجيب للديكتاتوريات، والحال أن العرب، سُنَّة وشيعة، مواطنين لا حكومات ولا سلطات، تواطأوا بصمتهم على الجلاّد الكبير الذي كان يسوقنا جميعاً إلى سجونه بسوط إسرائيلي… لتحرير فلسطين. تضخَّم الديكتاتور، أسَّس جمعية من المشرق إلى المغرب، جنرالات يتبادلون خبرات تحصين السجون، وبيع الحريات في جمعيات الأنظمة.

من هناك كانت الجذور الأولى للإرهاب. انتهت اللعبة، استُحضِر الدين بدل فلسطين. حلَّت لعنة أفغانستان. «داعش» اليوم، بعد تصفية بن لادن والانتصار على أوهامه، اليوم بكل خرابه وما لا يقل عن مئات آلاف القتلى في العالم العربي منذ 2011، أليس ثأراً لـ11 أيلول (سبتمبر)؟ كيف يكون الغرب حريصاً على حرياتنا فيما يتجاهل بحور الدماء، من العراق إلى سورية وليبيا؟

هل كان ضعفنا مع جمهوريات القذافي وبن علي والأسد وعلي صالح، كافياً لتبديل الجلاّد؟ أم إن الوهن جبنٌ أغرى الديكتاتور بشطب الوطن والهوية، حتى إن حلّ «داعش» شَطَبَ الخرائط وكل معالم الإنسانية، ودمَّر ما بقي من حضارة؟

في البدء كان إرهاب جمهوريات الجنرالات… وبين سجونها وصمتنا «المتواطئ»، كَبُر الوحش وانهارت كل خطوط الدفاع.

فلنستمع إلى نصائح الأميركي، ودروس الروس، وطبول «داعش» وإيران والميليشيات… نتلمَّس رؤوسَنا، وننتظر جيلاً، من الرعب.

الحياة

 

 

 

 

لماذا «داعش» عدو في العراق وحليف في سوريا؟/ د. عصام نعمان

عقد وزراء وممثلو 24 دولة من أعضاء «التحالف الدولي ضد الإرهاب» مؤتمراً تقويمياً لعمله مطلعَ الاسبوع الماضي في باريس. مع انعقاد المؤتمر كان طيران «التحالف» قد أنجز اكثر من 4100 غارة على مواقع تنظيم «الدولة الإسلامية – داعش» ومقاتليه، معظمها في العراق وقلّة منها في سوريا.

مردود الغارات كان محدوداً للغاية، الدليل؟ تمّدد «داعش» في العراق إلى الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار، وفي سوريا نحو مدينة تدمر ذات الموقع الإستراتيجي بين حمص في الوسط ودمشق في الجنوب، ثم أخذ بالتمدد نحو ريف حلب الشمالي وإلى مدينة الحسكة في شمال البلاد الشرقي، وإلى محافظة السويداء في طرفها الجنوبي الغربي.

عشية انعقاد مؤتمر باريس حرص رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي على كشف هزال فعالية «التحالف الدولي» بقوله «إن الحملة الجوية ليست كثيفة بما يكفي، كما أن مراقبة «داعش» ليست فعالة (…) ونحن لا نحصل من التحالف الدولي لا على أسلحة ولا على ذخائر ولا على معلومات جوية كافية».

كل هذا التشكّي والتنديد لم ينفع. فما جرى الاتفاق عليه في المؤتمر كان المزيد من الشيء نفسه: مواصلة الضربات الجوية المحدودة، والضغط على الحكومة العراقية لتحجيم دور «الحشد الشعبي» في مقاتلة «داعش»، والدعوة إلى توسيع مشاركة القبائل السنّية في القوات المسلحة وفي دوائر السلطة.

بلى، ثمة شيء جديد، فقد تضمّن البيان الصادر عن المؤتمر نصّاً غريباً: «النظام السوري لا قدرة له ولا رغبة لديه في محاربة داعش»! الأغرب من النصّ موافقة العبادي وتوقيعه عليه. هل هذا هو موقف حكومته فعلاً؟ إذا كـان الامر كذلك، ما تفسيره لقيام مسؤول الإعلام في «الحشد الشعبي»، وقد اضحى بحسب قول العبادي نفسه «هيئة رسمية تابعة للحكومة»، بالإعلان عن اعتزام «الحشد» التقدم إلى الحدود العراقية – السورية بعد فراغه من تحرير الرمادي؟ هل تمّ الاتفاق ضمناً بين دول «التحالف» في مؤتمر باريس على اعتبار «داعش» عدواً لها في العراق وحليفاً في سوريا؟

الحقيقة أن سلوكية «التحالف» في العراق، ولاسيما قائده الامريكي، تشي بما هو أخطر من هذا التصنيف المريب لـِ»داعش»، ذلك أن واشنطن هدّدت «الحشد الشعبي»، عشية هجمة «داعش» على الرمادي، بقصف وحداته المقاتلة إذا ما تدخلت في المعركة لمساندة الجيش العراقي.

اكثر من ذلك، طائرات «التحالف» لم تقصف ارتال «داعش» المتجهة لمهاجمة الرمادي، كما احجمت عن قصفها ابّان زحفها الطويل في البادية المكشوفة عند اجتياحها تدمر، ثم ها هي كتائب «داعش» اليوم تهاجم مدينة الحسكة، فلا يقصفها طيران «التحالف»، وتطارد فصائل المعارضة السورية «المعتدلة» شمال حلب وتقصف مواقعها، وتقترب من معبر باب السلامة على الحدود مع تركيا، فلا طيران التحالف يتدخل ولا الجيش التركي يفعل، لماذا؟ هل لذلك علاقة باستراتيجية أمريكية كبرى تتناول المنطقة؟

يبدو أن لسلوكية دول «التحالف الدولي»، ولاسيما الولايات المتحدة، إزاء «داعش» دوافع تتعلق بإيران وأخرى تتعلق بـِ»اسرائيل»، فواشنطن تخوض صراعاً دبلوماسياً مع ايران من اجل اقناع حكومتها بتوقيع اتفاق نووي نهائي قبل آخر الشهر الجاري يستجيب للشروط الامريكية، ولاسيما لجهة القبول بتفتيش منشآتها العسكرية واستجواب علمائها النوويين. لذلك، من المنطقي والممكن جداً أن تتواطأ واشنطن ضمناً مع «داعش» أو تكتفي بغض النظر عن انشطته التوسعية بغية توظيفها في استنزاف حلفاء ايران الاقليميين في العراق وسوريا ولبنان للضغط عليها وحملها على الاستجابة لشروطها الاساسية في «الاتفاق النووي النهائي».

الى ذلك، تنهض شكوك اخرى في احتمال أن تكون واشنطن في صدد تطمين «اسرائيل» لوقف حملتها على الاتفاق النووي المرتقب باختلاق وضع جيوسياسي جديد يصبّ في مصلحة أمنها القومي.. كيف؟ بمباشرة تنفيذ مخطط قديم– جديد يرمي إلى تفكيك العراق وسوريا إلى مجموعة من دويلات هزيلة وهزلية قائمة على أسس قبلية او مذهبية او إثنية وعاجزة تالياً عن تكوين قوة قومية رادعة للكيان الصهيوني.

ايران تنبهّت، على ما يبدو، إلى اغراض الولايات المتحدة القريبة والبعيدة، واستشعرت انعكاساتها السلبية على حلفائها الاقليميين وعلى أمنها القومي ايضاً، فبادرت إلى رفد العراق وسوريا بقوات برية كما بأسلحة متطورة لتمكينهما من صدّ «داعش» واخوته وبالتالي تعطيل مخططاتها الجيوسياسية الماثلة.

غير أن ثمة من يعتقد بين المراقبين أن للولايات المتحدة مخططاً اوسع مدى مما تقدّم بيانه: إنه استدراج ايران نفسها إلى ساحات صراعات طويلة في العراق وسوريا ولبنان بغية إنهاكها لتوافق، تحت الضغط، على اتفاق نووي يرضي واشنطن وحلفاءها.

هل يغيب هذا الاحتمال عن ذهن القيادة في ايران؟

القدس العربي

 

 

 

 

 

حصان طروادة “الداعشي”/ أسامة أبو ارشيد

كُتِبَ الكثير، وقيل أكثر، في تحليل ظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، سواء لناحية تقصي مزاعم وجود مؤامرة غربية-صهيونية-إيرانية-عربية ديكتاتورية وراء خلق التنظيم، أم لناحية فحص حيثيات المنظومة الفكرية والفقهية التي لا يُنْكَرُ وجودها تاريخيا، وقد تكون ساهمت في صياغة منهج “داعش” ومسلكيته. وهنا، لا أريد أن أسقط في تتبع أصل ظاهرة “داعش” ومنطلقاتها، فهذا أمر يذهب أبعد من هدف هذا المقال، ولكن، قد يكفي القول، الآن، إن الظاهرة الخطيرة التي تجسدها “داعش” لا يمكن قراءة أبعادها منعزلة ومفككة عن بعضها بعضاً. فاستبعاد احتمال وجود أصابع خارجية تعبث عبر توجيه واستغلال غير مباشر لضحالة القائمين على التنظيم لن يكون حكيما. كما أن إنكار وجود تيار فقهي تاريخي يسمح ببروز ظواهر، مثل “داعش”، فيه خداع للذات، ولن يحل مشكلة. والتغاضي عن حقيقة أن “داعش” وشبيهاتها تمثل، إلى حد كبير، إفرازا لواقع عربي آسن ومخز وكارثي، لن يعجل بانهيارها وهزيمتها.

إذن، “داعش”، شئنا أم أبينا، ظاهرة مركبة، وهي نتاج معطيات موضوعية وذاتية، خارجية وداخلية، فكرية وواقعية، غير أن أخطر ما في أمر “داعش” هو الدور التخريبي الذي تلعبه في أي مكان نما لها رأس فيه. وبهذا المعنى، أصبحت عبئا على أي حراك شعبي مسالم، وعلى أية ثورة مسلحة عادلة، بل وعبئا، كذلك، على غايتي الاستقلال والسيادة. فـ”داعش”، من حيث أرادت أم لم ترد، هي “حصان طروادة”، ينفذ منه الطاغية أو الاستعمار، في حلته الجديدة، إلى قلب وأحشاء منطقتنا وأمتنا، على أمل إجهاض أي مشروع تحرري نهضوي.

كان الحراك الشعبي السني في العراق، أواخر عام 2012، والذي جاء رداً على سنوات من السياسات الطائفية المقيتة لحكومة رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، في أوجه، وكان النفوذ الإيراني، حينها، يواجه تحدياً كبيراً هناك، إلى أن خرجت “داعش” في ظلمة ليل، منتصف العام الماضي، لتحتل الموصل ومساحات شاسعة من العراق. صحيح أن المالكي سقط، غير أن الأمر لم يقتصر على تعزيز الوضع الإيراني في العراق، بل وتم استدعاء التدخل الأميركي المباشر، مجدداً. وسواء أنها المفارقة، كما يعتقد بعضهم، أم المؤامرة، كما يعتقد آخرون، فإن أميركا وإيران حليفان، واقعياً وعملياً، في العراق اليوم، بل إن مليشيات “الحشد الشعبي” الطائفية الشيعية تتقدم صوب المناطق السنية، بقيادات عسكرية إيرانية، وبغطاء جوي أميركي.

“إذا أردت وأد مطالب مشروعة لحراك شعبي سلمي فاحقنه بفيروس “داعش”، وإذا أردت التشويش على مقاومة أو ثورة عادلتين فاحقنهما بفيروس داعش”

لم تكن الثورة السورية، أيضا، بعيدة عن قائمة ضحايا “داعش”، فمنذ دخلت الأخيرة إلى سورية عام 2012، استهلكت جُلَّ وقتها في محاربة فصائل المعارضة السورية، بل وحتى شقيقها الفكري والتنظيمي، جبهة النصرة. المفارقة هنا أن أغلب المناطق التي سيطرت عليها “داعش” في سورية، إنما انتزعتها من فصائل المعارضة السورية وجبهة النصرة، كما في الرقة ودير الزور العام الماضي.. إلخ. الاستثناء الوحيد هو مدينة تدمر التي احتلتها من قوات النظام الشهر الماضي. وفي أبريل/نيسان الماضي، نقلت “داعش” معركتها إلى مخيم اليرموك مع تنظيم “أكناف بيت المقدس” الذي يدافع عن المخيم أمام قوات النظام ومليشياته، وها هي اليوم تنقل معركتها ضد الثورة السورية وفصائلها إلى القلمون، حيث تتصدى تلك الفصائل لمقاتلي النظام و”حزب الله”. وفي كل الأحوال، نجحت “داعش” في استدعاء تدخل غربي عسكري في سورية، ولكن، ليس ضد النظام، وإنما لاستنزاف الثورة، فأميركا تريد أن تدرب وتسلح فصائل في “المعارضة المعتدلة”، لتحارب “داعش” لا نظام بشار الأسد.

تحركات “داعش” المريبة، والرؤوس الغامضة الكثيرة التي تنبت لها، لا تنحصر في الشام والعراق. فدورها التخريبي وصل إلى ليبيا، والجرائم التي تنسب إليها هناك، كما في “لغز” إعدام الأقباط المصريين في فبراير/شباط الماضي، كانت بمثابة “حصان طروادة” آخر. ولكن، هذه المرة، لنظام السيسي في مصر، للتدخل في ليبيا، لدعم قوات اللواء المنشق، خليفة حفتر، رمز الثورة المضادة. والمفارقة هنا أن “داعش” لا تظهر إلا في المناطق التي هي تحت سيطرة الثوار الليبيين، لا في المناطق التي هي تحت سيطرة الثورة المضادة. ومن ذلك إعلانها، قبل أيام، سيطرتها على مدينة سرت وتهديدها مصراتة، وإعلانها الحرب على قوات “مرتدي فجر ليبيا” التابعة للمؤتمر الوطني العام، وليس على “مرتدي عملية كرامة ليبيا”، التابعة لمجلس نواب طبرق المنحل.

يقال الأمر نفسه عن بروز رأس آخر لها في أفغانستان، وإعلانها الحرب، لا على الأميركيين، والنظام الأفغاني المرتبط بهم، بل على “طالبان” نفسها التي تحارب الأميركيين، التي يفترض أن “داعش” تحاربهم! وفي خضم انشغال السعودية في التصدي لمغامرة إيران في اليمن، عبر مليشيات الحوثيين، المتحالفين مع قوات الرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح، تطل “داعش” برأسها عبر تفجيرين انتحاريين في مسجدين شيعيين في القطيف والدمام، لتضع المملكة في موقفٍ لا تحسد عليه، ومقدمة لإيران وأشياعها بوقاً مجلجلا لحرف النقاش إلى “مظالم” الشيعة بدلاً من عدوانية إيران!

وثالثة أثافي “داعش” اليوم إعلانها الحرب على حركة حماس “المرتدة” في قطاع غزة، وجناحها العسكري، كتائب الشهيد عز الدين القسام. ولم يشفع لحماس والقسام مقاومة إسرائيل والتصدي لاحتلالها، وانشغالهما بالاستعداد لمواجهة عدوان جديد محتمل على القطاع، يحذر بعض قادة إسرائيل من أنه قد يأتي صيف العام الجاري، بل إن من يُزْعَمُ أنهم “داعش” في غزة يطرقون على أبواب إسرائيل، عبر صواريخ مشبوهة، يستحثونها على عدوان مدمر آخر على القطاع المنكوب! ولكن، ولمَ العجب، فإذا كان الشقيق في جبهة النصرة “مرتداً”، فكيف لا تكون حماس الإخوانية “مرتدة” بالأولى؟ أما الضفة الغربية، والتي تقبع تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر، فليست “ساحة جهاد”.

باختصار، إذا أردت وأد مطالب مشروعة لحراك شعبي سلمي فاحقنه بفيروس “داعش”، وإذا أردت التشويش على مقاومة أو ثورة عادلتين فاحقنهما بفيروس “داعش”، وإذا أردت إفساد بلد فاحقنه، أيضا، بفيروس “داعش”. ومن أسفٍ أنه لا زال فينا كثيرون يؤيدون “داعش” يأساً من باب أنها الخيار الأخير، “خيار شمشون”، القائل “عليَّ وعلى أعدائي”. المشكلة أن خيار “داعش” سيكون “علينا” فحسب، وسواء كانت “داعش” إفراز مؤامرة خارجية، أم عوامل موضوعية، فإنها بذاتها سلاح مؤامرة.. إنها “حصان طروادة” الذي يركبه طغاتنا وأعداؤنا على السواء، لإجهاض حلمنا ومستقبلنا، أمة وشعوباً.

العربي الجديد

 

 

 

 

تنظيم الدولة بالعراق: تغلغل في شروخات النظام السياسي/ حارث حسن

ملخص

يمر العراق اليوم بأخطر مراحل تاريخه لأن الصراع الحالي يؤثر بشكل مباشر على وحدة البلد وقدرته على الحفاظ على تكوينه الجغرافي والسياسي الراهن. وهناك اليوم قضيتان أساسيتان ستقرِّران الاتجاهات المستقبلية للبلد: الأولى: هي كيفية إدارة الصراع مع تنظيم الدولة الإسلامية، خصوصًا مع تنامي دور (الحشد الشعبي) وتحوله إلى القوة العسكرية الأهم التي تعتمد عليها الحكومة العراقية، والثانية: هي نوع العراق الذي سينتج عن الصراع الراهن، وما إذا كان هذا الصراع سيُفضي إلى إعادة تركيب النظام السياسي العراقي أم إلى تفتت البلد بشكل نهائي؟

مقدمة

عمليًّا ينقسم العراق اليوم إلى ثلاث مناطق نفوذ: واحدة تمتد من الجنوب وحتى تكريت، مرورًا ببغداد، وهي تخضع رسميًّا لسلطة الحكومة العراقية، إلا أن هذه السلطة يتم تقاسمها -عمليًّا- مع تنظيمات عسكرية غير رسمية منضوية في إطار تشكيلات الحشد الشعبي. منطقة النفوذ الثانية هي تلك التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية وتشمل الموصل وبعض مناطق صلاح الدين ومعظم مناطق الأنبار، ولكن مدى سيطرة التنظيم تتفاوت من منطقة إلى أخرى،  وبعض هذه المناطق يدار عمليًّا من سكانها المحليين بعد أن أخذ التنظيم البيعة من شيوخها، وهناك مناطق أخرى هي موضع نزاع مع الحكومة العراقية والعشائر المتحالفة معها ولم يُحسَم وضعها بعد. ومنطقة النفوذ الثالثة هي إقليم كردستان الذي يتمتع باستقلالية واسعة وقوة أمنية ذاتية، وإلى حدٍّ كبير، سياسة خارجية منفصلة.

تنظيم الدولة وما بعده

أدت سيطرة تنظيم الدولة على الرمادي في مايو/أيار 2015 إلى تنامي الإدراك بصعوبة وتعقيد الصراع الراهن بعد فترة من التفاؤل القصير حول إمكانية طرد التنظيم بعد استعادة السيطرة على تكريت. ويرى البعض أن التنظيم، وقد اكتسب خبرة طويلة في حرب العصابات، صار قادرًا على اختيار جبهاته وخوض معارك استنزاف في أكثر من مكان، وأنه بتوسعه جنوبًا وشرقًا في العراق وغربًا في سوريا، يفرض نفسه ككيان جديد على الأرض، ويرسم معالم لدولة تربط الفضاءات الخارجة من رحم انهيار مشروع الدولة الوطنية في العراق وسوريا، ويعكس بذلك صعود مفاهيم بديلة للهوية السياسية، تتمثل تحديدًا بالهوية الدينية-الطائفية، على حساب مفهوم الهوية الإثنية أو اللغوية الذي اقترنت به مرحلة ظهور الدولة-الأمة.

لكن هذا التصور، الذي يسعى التنظيم لترويجه باعتباره حالة “خَلاصية” من وضع الدولة القلقة وغير المتصالحة مع الذات، يبدو مبتسرًا ويعكس نزعة رغائبية إلى حدٍّ كبير؛ فالكثير من التصورات المقابِلة ترى أن التنظيم حتى مع نجاحات الرمادي، يخسر الحرب فعليًّا (1)، وأن “انتصاره” الأخير هو نتيجة لغياب رؤية استراتيجية موحدة بين خصومه، وتحديدًا بين حكومة حيدر العبادي والحشد الشعبي وقوات العشائر السنية، كما بين الجانبين الإيراني والأميركي الفاعليْن في الوضع العراقي. بل هناك من يجادل بأن هزيمة الرمادي كانت في الحقيقة بداية لصحوة ستفرض على الأطراف المختلفة إعادة تنظيم أوراقها والعودة إلى الهجوم، برؤية أكثر انسجامًا.

إن مشروع تنظيم الدولة هو مشروع تقسيم للعراق، لأن التنظيم بعقيدته وتركيبته وضع مسبقًا حدودًا للنطاق الجغرافي-الديمغرافي لحركته؛ وهو ما يجعل الصدام معه تعبيرًا عن نزعة عراقوية جديدة قد تنجح أو تُخفق بحسب مجريات الصراع واتجاهاته، لكنها نزعة يكبحها الشرخ الطائفي العميق والتنافس الخارجي الذي يؤدي احتدامه إلى تفكيك ما تبقى من فكرة “العراق”. لذلك يبدو أن الجدل عن عراق ما بعد تنظيم الدولة، حتى في الوقت الذي يبدو أن تنظيم الدولة لن يختفي سريعًا وقد تكرَّس بقاؤه لزمن طويل، هو في أصله جدل حول إعادة تشكيل العراق وهويته ونظامه السياسي، وهو جدل يحصل أساسًا بين نهجين:

النهج التوافقي: وهو النهج الذي تدعمه الولايات المتحدة ويقوم على فكرة الفدرلة وتوزيع السلطات على أساس إثني-طائفي، وهو ما يمثِّل تعميقًا للنموذج الذي تم بناؤه بعد الاحتلال الأميركي ويقوم على التوافقية السياسية Consociationalism، وقد عبَّر عنه نائب الرئيس، جو بايدن، بمصطلح الفيدرالية القابلة للعملة Functioning Federalism  (2)، عبر إعطاء السُّنَّة سلطات أوسع لإدارة مناطقهم، وتوسيع نطاق مشاركتهم في السلطة المركزية، وإعادة هيكلة القوات المسلحة بشكل يعيد ثقة المجتمعات العربية السنِّية بها، لكن مشكلة هذا النهج أنه يعمِّق من مأسسة الهويات الجزئية وبالتالي يستكمل حالة الانفصال النفسي الذي قد يستتبعه انقسام سياسي فعلي، كما يحول دون تحقيقه وجود تنظيم الدولة في معظم المناطق ذات الغالبية السنية.

النهج الإدماجي: وهذا النهج هو الذي حكم العراق طوال عمر دولته الحديثة وحتى العام 2003، ويقوم على سلطة مركزية قوية وإخضاع للهويات الفرعية وخطاب أيديولوجي شمولي لا يحفل بالتعددية، وهو نموذج يتم التعبير عنه -جزئيًّا- في خطاب بعض قوى الحشد الشعبي الذي ظهر كتشكيل عسكري شيعي لمواجهة تنظيم الدولة، وصار يعبِّر عن أيديولوجية لبناء عراق بمركزية شيعية، وبمفهوم للوطنية العراقية يقوم على هذه المركزية، بعد أن ظلَّ التيار الإدماجي تاريخيًّا يقوم على وطنية عراقية بمركزية عربية-سُنِّية.

إن توازنات القوى القائمة تضع الكثير من الحدود على إمكانية أيٍّ من المشروعين على النجاح، وربما يظل مستقبل البلد مرهونًا بالقدرة على صياغة طريق ثالث.

الحشد الشعبي وصراع النفوذ

تشكَّلت قوات الحشد الشعبي إثر فتوى للمرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، ويعزو الكثيرون لهذه الفتوى أهمية كبيرة في استعادة الثقة بعد انهيار قوات الجيش العراقي. لكن على الأرجح، فإن أهم دور لعبته الفتوى هو في توفير غطاء لميليشيات موجودة أصلًا وكانت بحاجة إلى شرعنة دورها، مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وسرايا السلام، فضلًا عن تشكيل فصائل جديدة خارج إطار المؤسسة الرسمية. وقد اتضح لاحقًا أن “الحشد الشعبي” هو عنوان عريض لخريطة معقدة وفيها الكثير من التفاصيل. تنامت شعبية هذه القوات بعد نجاح بعض عملياتها العسكرية، خصوصًا في تأمين محيط بغداد وفي تطهير مناطق جرف الصخر وديالى وآمرلي، ثم اندفاعها باتجاه تكريت التي تمثل حتى الآن المدينة الرئيسية الوحيدة التي تمت استعادتها.

نجحت الفصائل المقربة من إيران بالبروز كفصائل “قائدة” للحشد الشعبي؛ حيث ظهر الجنرال قاسم سليماني في أكثر من مناسبة وهو يجالس قادة هذه الفصائل في مناطق تموضعها، كما برز دور هادي العامري، قائد منظمة بدر، بوصفه الزعيم المعترَف به للحشد الشعبي خلال معارك تكريت، وكذلك دور أبي مهدي المهندس الذي يُعرَّف اليوم بوصفه نائب قائد قوات الحشد الشعبي. بالنتيجة، هنالك اعتقاد واسع بأن الفصائل المرتبطة بإيران، والتي تمتلك تمويلًا وتسليحًا وتدريبًا أفضل من غيرها، قد استثمرت الصراع الراهن لتوسع دائرة نفوذها، على حساب فصائل المتطوعين الأخرى (3).

وعلى الرغم من دعوة المرجعية الدينية لربط الميليشيات بالمؤسسة العسكرية (4)، والتحفظ الأميركي على مشاركتها في العمليات القتالية في مناطق ذات غالبية سُنيَّة، لا يبدو أن هناك خطة واضحة بعد لدمج الحشد الشعبي في إطار القوات المسلحة، ولا يبدو أن زعماء فصائله بوارد التخلي عن أسلحتهم للقوات العراقية أو الخضوع لسلطة وزارة الدفاع، وكثير منهم لديه شكوك بولاءات وزير الدفاع. وقد أدَّت هزيمة قوات الجيش والشرطة في الرمادي إلى تقوية رصيد الحشد الشعبي مجددًا، بعد أن توصلت الحكومة العراقية إلى أنها غير قادرة على إدارة المعركة مع تنظيم الدولة بدون دعم تلك القوات، بل ظهرت دعوات لحلِّ قوات الجيش أو استبدال الحشد الشعبي بها (5).

يبدو أن الاختلاف بين إرادة الحشد الشعبي، وإرادة بعض القوى السنية بضرورة منع الحشد من دخول المدن ذات الغالبية السنية، عرقل إمكانية الاستفادة من الزخم الذي خلقته عملية استعادة تكريت من قبضة تنظيم الدولة. ونتيجة لذلك، نجح التنظيم بالسيطرة على مدينة الرمادي وهو ما فرض مراجعة الموقف الأميركي خصوصًا بعد أن أثبتت تلك التطورات أن الجيش العراقي لا يزال بعيدًا جدًّا عن أن يتحول إلى قوة جدية على الأرض. بهذا المعنى، فإن سقوط الرمادي حقَّق لقيادات الحشد ما كانت تريده؛ حيث دعا رئيس الوزراء قواتهم إلى الانخراط بمعركة الأنبار (6)، وأخذ الفيتو الأميركي على مشاركتهم بالتلاشي.

من الواضح أن مزيدًا من الدور العسكري للحشد الشعبي يعني أمرين:

الأول: أن الحشد يملأ فعليًّا الفراغ الذي خلَّفه ضعف وتفكك المؤسسة العسكرية الرسمية؛ ويمثِّل بالتالي خروجًا عن الاشتراطات السياسية التي تشكَّلت عليها تلك المؤسسة منذ العام 2003، والتي لعبت الولايات المتحدة دورًا رئيسيًّا فيها. لقد تشكَّلت تلك المؤسسة على مبدأ المحاصصة، لكن بسبب التشرذم السياسي وتنامي الانقسامات الطائفية والإثنية افتقدت إلى هوية وطنية وبناء عقيدي متماسك، وانتشر فيها الفساد بسبب الطابع شبه المافيوي الذي انتظمت فيه السياسات العراقية منذ ذلك التاريخ، وكانت النتيجة عدم صمود تلك المؤسسة وفقدانها القدرة على إدارة معركة معقدة ومتشعبة كتلك التي تخوضها الدولة العراقية مع تنظيم الدولة.

الأمر الثاني: أن تنامي قوة الحشد الشعبي يعني خلق كيان عسكري موازٍ لا يخضع تمامًا للدولة العراقية، على الرغم من الإعلان شبه الشكلي في إبريل/نيسان الماضي عن ربط تشكيلاته برئيس الوزراء (7)؛ فقد أظهرت معارك تكريت والأنبار أن العلاقة التي تربط الحشد برئيس الوزراء هي إلى حدٍّ كبير علاقة تنسيقية ولا تدخل في إطار التسلسل القيادي الرسمي، وقد عبَّر بعض قادة الحشد الشعبي في أكثر من مناسبة عن ضيقهم من سياسات رئيس الوزراء، وخصوصًا محاولته الاستماع للنصائح الأميركية وشكَّكت بطبيعة الدور الأميركي (8). ويمكن الاستنتاج من ذلك أن هذه العلاقة قد تأخذ أحد مسارين مستقبلًا:

الأول: الإبقاء على كيان الحشد الشعبي كمؤسسة خارج الدولة وترجمة سيطرته الفعلية على الأرض إلى نفوذ سياسي مستقبلًا، وبالتالي إدخال عامل جديد في توازنات القوة السياسية في العراق.

المسار الثاني: مأسسة الحشد الشعبي وربطه تمامًا بالمؤسسة العسكرية؛ وهو ما يعني إعادة بناء تلك المؤسسة لتعكس، أولًا، هيمنة التيار الشيعي القريب من إيران، وإعادة صياغة العقيدة العسكرية العراقية على أساس التحالف العراقي-الإيراني بعد أن أثبتت المؤسسة العسكرية القائمة على المحاصصة شلليتها وعدم جدواها.

من هنا، يمكن الاستنتاج أن الصراع الراهن مع تنظيم الدولة الإسلامية هو أيضًا صراع على تحديد الهوية السياسية للعراق، ومستقبل النظام الذي تشكَّل بعد الاحتلال الأميركي.

الخريطة السياسية المتشظية

تبدو الخريطة السياسية الشيعية منقسمة بين تيارين رئيسيين:

الأول: هو تيار مقرب من إيران وتنضوي في إطاره الفصائل المسلحة المذكورة، وينتظم سياسيًّا -في هذه المرحلة- في إطار تحالف غير معلن مقرب من رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، الذي توطدت علاقته مع الجانب الإيراني في السنوات الأخيرة وساءت مع الجانب الأميركي، خصوصًا بعد أن طالبت إدارة باراك أوباما باستبداله إثر سقوط الموصل.

والتيار الثاني، يضم قوى شيعية لديها علاقات مع إيران، لكنها تتبنى نهجًا أكثر استقلالية وتريد انفتاحًا أكبر على السنَّة في العراق، ويبدو التيار الصدري الممثل الرئيسي لهذا التيار، وقد عبَّر مقتدى الصدر شخصيًّا عن ضيقه من تنامي نفوذ ما أسماه بـ “الميليشيا الوقحة” وتجاوزاتها (9). وعلى الأرجح، فإن الصدر يشعر بالتهديد من النفوذ المتنامي لميليشيا عصائب أهل الحق، برئاسة قيس الخرعلي، والتي انفصلت عن التيار الصدري وأصبحت قريبة جدًّا من إيران، وكذلك قوات بدر، وهي منافس تقليدي للتيار الصدري. ويحاول المجلس الأعلى بقيادة عمار الحكيم أن يمسك العصا من الوسط، وهو ما يسعى لفعله أيضًا رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي، الذي يواجه المهمة الصعبة في الموازنة بين الضغطين: الإيراني والأميركي.

ويمكن القول: إنه كلما نجح العبادي بربط التشكيلات العسكرية غير الدولتية بسلطته، استطاع أن يفرض نفسه كزعيم سياسي، والعكس صحيح. وسيؤدي فقدان العبادي القدرة على إدارة القوى الشيعية وصناعة نوع من الإجماع الشيعي الداعم له، إلى إضعافه أكثر وتحويل سلطته إلى واجهة غير فعالة، وهو ما سيُترجم أيضًا إلى مزيد من الضعف والتفكك لسلطة الدولة العراقية.

وتسير الخريطة الشيعية باتجاه نوع من التنافس المستقبلي بين تيار، تمثله العوائل الدينية وبورجوازية المدن، الذي يميل إلى التهدئة مع المكونات الأخرى وإلى شكل من أشكال الفيدرالية، وإلى علاقات جيدة مع الولايات المتحدة دون التفريط بالعلاقة مع إيران (ويبدو أن المرجعية الدينية تنحاز إلى هذا الاتجاه).

والتيار الثالث هو تيار عقائدي يميل إلى حلول جذرية ويستقطب كثيرًا من التكوينات الاجتماعية من شيعة الجنوب الذين يعتقدون أن التركيبة السياسية الشيعية التي تهيمن عليها العوائل الدينية في النجف والكاظمية وكربلاء قد همَّشتهم، وهم يميلون إلى سلطة أكثر مركزية وتحالف أوثق مع الاتجاه الثوري في إيران، ولديهم شكوك بالموقف الأميركي.

يبدو المشهد السياسي السنِّي أكثر تشظيًا وتعقيدًا؛ فلأن معظم المناطق السنية يخضع لسيطرة تنظيم الدولة أو في محل نزاع للسيطرة عليها مع التنظيم، لم تعد هناك في بغداد قيادات سنية قادرة على أن تطرح نفسها كزعامة مؤهلة ومؤثرة على الوضع الداخلي في مناطقها. وبسبب ذلك، يفتقر الجانب السني إلى رؤية واضحة، بل وتتنازعه وتقسمه اتجاهات مختلفة، وسياسيون يحاول كل منهم أن يطرح نفسه زعيمًا محتملًا في إطار مشروع شخصي أكثر منه برنامجًا حقيقيًّا على الأرض.

ويمكن القول: إن القيادات السنية تنقسم إلى ثلاث قوى رئيسية، قوى تسعى إلى استقلالية أكبر عن بغداد وتُحمِّل الحكومة العراقية المسؤولية الأكبر فيما حصل، ولكنها أيضًا قوى غير متجانسة تضم بعض السياسيين المنفيين أو المقيمين في عمَّان، ومجموعة من “شيوخ العشائر” المقيمين في أربيل (10)، ورجال دين ورجال أعمال يقيم معظمهم خارج العراق. وتختلف مواقف هذه الجماعات بحسب الطرف الداعم لهم؛ فالتيار الإسلامي هو أقرب إلى تركيا، بينما يبدو التيار “العشائري” أقرب إلى الأردن والسعودية وكردستان.

وهنالك قوى متحالفة أو ميالة إلى التحالف مع الحكومة العراقية، وتضم خصوصًا عشائر من الأنبار وصلاح الدين وكركوك من الذين يركِّزون على حماية أو استعادة مناطقهم من تنظيم الدولة، وليس لديهم مشروع لأقلمة المناطق ذات الغالبية السنِّية، بل في الغالب لديهم مصالح واعتبارات محلية (11). ومشكلة هذا التيار أنه يواجه التشكيك من طرفين: أحدهما الطرف الشيعي المتشدد الذي يميل إلى وضع كل السنة في خانة تنظيم الدولة ولا يرى موجِبًا للثقة بأية قوة سنية، والطرف السني المتشدد الذي لا يريد أي حل داخلي يقوم على التواصل المباشر مع الحكومة العراقية وبدون ضمانات خارجية.

وهنالك تيار ثالث، تمثِّله بشكل خاص أجزاء من النخبة السنية في بغداد، يمسك العصا من الوسط وينتظر رؤية مآلات الأمور قبل اتخاذ موقف واضح. وبطبيعته، فإن هذا التيار فاقد تقريبًا للتأثير على الشارع السنِّي. وقد أدت التطورات الأخيرة إلى إضعاف حظوظ سياسيين سُنَّة تقليديين مثل الأخوين النجيفي وصالح المطلك، مع وجود فرصة لصعود قيادات بديلة كسليم الجبوري رئيس البرلمان الحالي، وهو ما يعتمد كثيرًا على طبيعة التسوية المستقبلية إن حدثت.

ويرتبط مستقبل الوضع السُّنِّي بقضية القوة التي يمكنها أن تطرد تنظيم الدولة وتركيبتها؛ فقد طُرح مشروع “الحرس الوطني” من قِبل الولايات المتحدة وتبنَّاه بعض الأطراف السنية كصيغة لتشكيل قوة مسلَّحة سنية محلية يمكنها أن تمسك الأرض بعد خروج تنظيم الدولة دون أن تثير توترًا طائفيًّا (12)، لكن التحالف الشيعي والتحالف الكردستاني لم يبديا حماسًا شديدًا لهذه الفكرة بسبب الخشية من أن تنازعهما هذه القوة الجديدة -المدعومة غربيًّا وإقليميًّا- السيطرة على بعض المناطق. ولذلك تم إدخال تعديلات على المشروع غيَّرت كثيرًا من صيغته المدعومة أميركيًّا؛ حيث تضمَّنت إدخال الحشد الشعبي والبيشمركة ضمن قوة الحرس الوطني، وأن يتولى رئيس الوزراء الإشراف على تعيين وتوجيه قادة هذه القوات. والقانون المعدل على وشك أن يُطرح للتصويت في البرلمان، ومن غير الواضح ما إن كان سيتمكن بصيغته الحالية من أن يعكس إجماعًا بين الأطراف المعنية (13).

السيناريوهات المحتملة

على المدى القصير، خصوصًا فيما يتعلق بالصراع مع تنظيم الدولة، هنالك ثلاثة سيناريوهات محتملة:

الأول: أن تفشل الأطراف المعنية بتطوير تصور مشترك حول مواجهة التنظيم، خصوصًا حول نوع القوات التي تملأ الفراغ في حالة إخراجه من مناطق سيطرته الحالية، وهو ما قد يسهم في إطالة عمر سيطرة التنظيم في بعض هذه المناطق، وقد يفضي إلى أن تعترف الأطراف الأخرى بتنظيم الدولة كواقع على الأرض وتتعاطى معه، أو إلى أن تجري تحولات داخلية في بنية التنظيم لصالح المكوِّن العراقي فيه، وأن يتمرد على التكوينات الأجنبية والوافدة في التنظيم بما يفضي إلى تغيير طبيعته ونشوء تنظيم جديد يتولى تقديم نفسه كقوة سُنِّية محلية.

الثاني: أن يجري توافق بين الجانب الشيعي وقوى سنِّية محلية راغبة بمقاتلة تنظيم الدولة وغير متبنية لمشروع الأقلمة، يفضي إلى توسيع الحشد الشعبي والتشكيلات العسكرية ليشمل مقاتلين سُنَّة، دون الإخلال بمركزيته الشيعية، وتتولى هذه التشكيلات مواجهة تنظيم الدولة وطرده وإعادة فرض سيطرة الحكومة المركزية في تلك المناطق، وهو ما قد يؤدي في المدى الأبعد إلى نقل العراق من المعادلة الثلاثية (سُنَّة، شيعة، كُرْد) إلى معادلة ثنائية (عرب، كُرْد)، مع توطيد سلطة الحكومة ذات الغالبية الشيعية والقريبة من إيران.

الثالث: أن يجري الاتفاق على تشكيل قوات الحرس الوطني تحت هذا الاسم أو باسم آخر، عبر ترتيب بين الحكومة العراقية والولايات المتحدة وبما يقلِّل من تأثير نفوذ الفصائل الشيعية المرتبطة بإيران، ويسمح لاحقًا بتشكيل قوات مسلحة أكثر توازنًا من الناحية الطائفية، ويُفضي أيضًا إلى مزيد من اللامركزية في إدارة شؤون البلاد على قاعدة (شيعة، سُنَّة، كُرْد).

على المدى البعيد، يظل مستقبل العراق كدولة موحدة وغير سلطوية مرهونًا بإمكانية العثور على طريق ثالث بين المنهجين التوافقي والإدماجي، وهو طريق قد يقوم على توزيع السلطة على أسس جغرافية لا طائفية، وعلى إعادة صياغة التنظيم المؤسساتي والقواعد الانتخابية لصالح تقوية الكيانات الجغرافية المحلية وتفكيك البنى الطائفية، مع إدراك ضرورة الذهاب نحو إطار جديد للعلاقة مع إقليم كردستان، قد يقوم على الكونفيدرالية باعتبارها نموذجًا وسطًا بين الانفصال الذي ينادي به بعض القوى الكردية، والشكل غير المنتظم القائم حاليًا للعلاقة بين بغداد وأربيل.

_________________________________

حارث حسن – باحث في الشؤون السياسية العراقية

الهوامش

1-Ali, Ahmed, Calm Down. ISIS is not Winning, The New York Times, 21 May 2015, http://www.nytimes.com/2015/05/22/opinion/calm-down-isis-isnt-winning.html?_r=0

2-McGurk, “Statement for the Record: Deputy Assistant Secretary Brett McGurk,” Senate Foreign Relations Committee Hearing: Iraq at a Crossroads: Options for U.S. Policy, July 24, 2014, pp. 10–11,  http://www.foreign.senate.gov/imo/media/doc/McGurk%20Testimony%20  072414-Final%20Version%20REVISED.pdf

3- Haddad, Fanar, The Hashd: Redrawing the Military and Political Map of Iraq, Middle East Institute, 9 April 2015 , http://www.mei.edu/content/article/hashd-redrawing-military-and-political-map-iraq

-4العبيدي، مصطفى، السيستاني يوجه “الحشد الشعبي” بضرورة عدم الاعتداء على المدنيين في مناطق المعارك، القدس العربي، 13 فبراير/شباط 2015، http://www.alquds.co.uk/?p=295387

-5 الشرق الأوسط، رئيس البرلمان العراقي: حلُّ الجيش وارد اذا لم يُحاسَب المقصرون،

http://aawsat.com/home/article/369251/%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%AD%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%AF-%D8%A5%D8%B0%D8%A7-%D9%84%D9%85-%D9%8A%D8%AD%D8%A7%D8%B3%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%B5%D8%B1%D9%88%D9%86

6-El-Hamed, Raed, Ramadi and the Debate Over Shia Militias in Anbar, Sada, 21 May 2015,

http://carnegieendowment.org/sada/2015/05/21/ramadi-and-debate-over-shia-militias-in-anbar/i8vx

-7 إذاعة العراق الحر، الحكومة تقرر ربط هيئة الحشد الشعبي بمكتب رئيس الوزراء، 8 إبريل/نيسان 2015،

http://www.iraqhurr.org/archive/news/20150408/1093/1093.html?id=26944681

8- Morris, Loveday and Mustafa Salim, Iraqi Shiite Militias Balk at Offensive if U.S. Airstrikes are Involved, The Washington Post,  26 March 2015, http://www.washingtonpost.com/world/iraqi-forces-gather-for-push-into-tikrit-after-us-airstrikes-seek-to-clear-path/2015/03/26/c4436c0e-d3a5-11e4-ab77-9646eea6a4c7_story.html

-9 السومرية، الصدر يدعو الجيش والحشد “المنصف” في تكريت لمسك الأرض وإبعاد “الميليشيات الوقحة”، 1 إبريل/نيسان 2015، http://www.alsumaria.tv/news/129536/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AF%D8%B1-%D9%8A%D8%AF%D8%B9%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B4%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%81-%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%83-%D8%A7%D8%B1%D8%B6/ar

-10الفراجي، أحمد، أهالي وعشائر محافظة الأنبار يحذِّرون من دخول ميليشيات الحشد الشعبي إلى المحافظة، القدس العربي، 2 فبراير/شباط 2015،

أهالي وعشائر محافظة الأنبار يحذرون من دخول ميليشيات الحشد الشعبي إلى المحافظة

انظر أيضًا: الغد، شيوخ عشائر يقاتلون بعضهم البعض من أجل النفوذ، 2 مارس/آذار 2015،

http://alghad-iq.com/ar/news/22130/%D8%B4%D9%8A%D9%88%D8%AE-%D8%B9%D8%B4%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA%D9%84%D9%88%D9%86-%D8%A8%D8%B9%D8%B6%D9%87%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B9%D8%B6-%D9%85%D9%86-%D8%A7

-11رووداو، تأييد من 13 عشيرة لمشاركة الحشد الشعبي في استعادة الأنبار،

http://rudaw.net/arabic/middleeast/iraq/110420152

Brett McGurk, op.cit.-12

-13 لتفاصيل أكثر، انظر: حسن، حارث، الحرس الوطني في العراق: العوائق الطائفية والرهانات السياسية، مركز الجزيرة للدراسات، 19 فبراير/شباط 2015،

http://studies.aljazeera.net/reports/2015/02/201521910486288544.htm

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

 

 

 

 

“داعش” وشريكاه/ غسان شربل

عبثاً يغسل باراك أوباما يديه. سيظل الدم عالقاً على أصابعه، وربما على ضميره. دمُ العراقيين. دمُ السوريين. ودمُ كثيرين. لا يستطيع رئيس أميركا الاستقالة من مصير العالم. لا يستطيع الاكتفاء بالتباهي أنه أعاد الجيش الأميركي من الحروب ولم يعاود إرساله. لا يحق لسيد البيت الأبيض أن يتصرف كمحلّل حين تنهار دول وتُرتَكَب مجازر وتُقتَلع مجموعات بأسرها. رئيس القوّة العظمى الوحيدة ليس رئيس الصليب الأحمر. صحيح أنه لم يقتلهم لكن الصحيح أيضاً أنه لم يحاول جدياً منع مهرجان القتل الكبير. بعد غد يحتفل تنظيم «داعش» بإطفاء الشمعة الأولى لإطلالته المدوّية من الموصل. دفع التنظيم العراق وسورية نحو الجحيم، ودفع الشرق الأوسط معهما.

أمر أوباما الجيش الأميركي بمغادرة العراق بمزيج من الذُّعر والافتقار إلى الرؤية. لم يكن الحل أن يطيل الاحتلال، ولكن كان عليه أن يلتفت إلى مصير البلاد التي فكّك سلفُهُ جيشها. كان عليه التنبُّه إلى الخلل الفاضح في التوازنات بين المكوّنات العراقية، وبين القوى الإقليمية على أرض العراق. لم يكن سرّاً أن المصالحة الوطنية هشّة، وأن من اعتبر نفسه منتصراً لم يُحسِن إدارة انتصاره. وأن من اعتبر نفسه مهزوماً لم يهيئ نفسه لضبط الخسائر. أمر أوباما بسحب الجيش وترك العراق لمصيره. تركه لشراهة الداخل والخارج.

افتقرت إدارة أوباما إلى استراتيجية واضحة ومتكاملة في منطقة دهمها زلزال «الربيع العربي» قبل أن تتعافى من زلزال غزو العراق. تصرّف الرئيس بخفّة هنا وهناك. أطلقَ في الأزمة السورية مواقف أوقعت المعارضين في الحد الأقصى من الآمال أي إسقاط النظام. تحدَّثَ عن الخط الأحمر ثم تناساه، وحين هدَّدَ باستخدام القوّة التقط هدية سيرغي لافروف وابتعد. احتفل بمصادرة الترسانة الكيماوية السورية، وتجاهَلَ إنقاذ سورية بحل سياسي يحفظ وحدتها وحقوق مكوّناتها. نَسِيَ سورية كي لا يعرقل «الصفقة» مع إيران.

عبثاً يغسل فلاديمير بوتين يديه. سيظل الدم عالقاً على أصابعه، وربما على ضميره. حين يطالب سيد الكرملين بحق بلاده في صفة القوّة العظمى لا يحق له الاستقالة من مسؤولياتها الدولية والأخلاقية. لا يصحُّ أن يتصرف القيصر بعقلية المجروح الذي لا همّ له غير الثأر واستنزاف هيبة أميركا، ولو أدى ذلك إلى تصدُّع كيانات وتمزُّق خرائط. دمٌ على أصابعه. دمُ السوريين، ودمُ العراقيين، ودمُ كثيرين. وستُظهِر الأيام أن براعات سيرغي لافروف وفَّرت أفضل الظروف لديمومة المذابح.

تعامَلَ بوتين مع المذبحة السوريّة بوصفها فرصة لإظهار محدودية القدرة الأميركية. شاهد أنهار الدَّمِ ولم يرفّ له جفن. لم يكن متوقَّعاً أن يتخلّى عن النظام السوري، لكنّ الأكيد هو أنّه لم يوظّف ثقل بلاده في دمشق لإقناع النظام بالسير جدِّياً في حل سياسي، خصوصاً قبل استفحال الأزمة وسقوط مساحات واسعة من الأرض السورية في يد المتشدِّدين. ولم يوظِّف هذا الثقل أيضاً لإقناع طهران بعدم الإصرار على «أن تكون سورية كما كانت أو لن تكون لأحد». لم تستطع روسيا المساهمة جدّياً في إنقاذ وحدة سورية. قد يكون الجنرالات الروس ابتهجوا بمصرع الشيشانيين على الأرض السورية، ولكن مَنْ يضمن ألَّا تندلع نار «داعش» لاحقاً داخل الاتحاد الروسي وفي الحزام الإسلامي المجاور؟

قبل عام، أطلقَ أبو بكر البغدادي من الموصل أوسع عملية اغتيال يعرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. عملية اغتيال تستهدف العراق وسورية وجوارهما. تستهدف أيضاً الحدود الدولية، والخرائط الموروثة. ومبدأ التعايش بين الأديان والمذاهب، وكل ما له علاقة بالتقدُّم والعصر وقبول الآخر. أفاد البغدادي من الجروح المذهبية في العراق، من هشاشة الدولة وغَلَبَة السياسات الموتورة. أفاد من المشاهد السورية حيث تلتهم الحرب البشر والحجر. من انفجار التركيبة السورية… من توتُّر السُّنّة وهم يرون طهران تحتفل بثمار الانقلاب الذي نفّذته في بغداد ودمشق وبيروت وصولاً إلى صنعاء. أفاد من مخاطبة مناطق بأسرها بلغة الغارات والبراميل. أفاد البغدادي أيضاً من الحرب الأهلية الإقليمية، ومن شركاء ميدانيين راهنوا على توظيف ارتكاباته. لكن الأكيد أنه أفاد أيضاً من غياب صمّامات الأمان الدولية في الإقليم… من السياسة المرتبِكة لأوباما، ومن السياسة الكيديّة لبوتين.

لا مبالغة في القول أن الشرق الأوسط يغرق في جحيمه. وأن أوباما وبوتين شاركا مع البغدادي في توفير ظروف الانهيار الكبير. أساء كثيرون تقدير مدى خطورة «داعش». ظنّوا أن النمر الجائع يلتهم الآخرين فقط. أخطأوا في الحساب. عبثاً يغسل أوباما يديه، وعبثاً يغسلهما بوتين. دمُ الشرق الأوسط يُقيم على أصابعهما وعلى أصابع كثيرين.

إن تعطيل مجلس الأمن وتركه يتفرَّجُ عاجزاً على نهاية سورية، جريمة من قماشة جرائم «داعش».

الحياة

 

 

 

سوريا: إفلات «داعش» لاستنزاف المعارضة/ عبد الوهاب بدرخان

يتفاقم الخطر في سوريا إلى حدّ أنه يمكن أن يقوّض أي نوع من الحلول التي تم تداولها في الأعوام الأربعة الماضية. كانت قوات المعارضة وسّعت أخيراً رقعة سيطرتها في الشمال، كما في الجنوب، وأكّدت وجودها الصامد في ريف العاصمة دمشق. أصبحت أي خطوة تالية لها قادرة على تهديد النظام بالانهيار. ما العمل؟ هنا، تحرّك تنظيم «داعش» أو جرى تحريكه أو أوحي له بأن تقدمه نحو حلب مرحّب به. وعندما فعل تلقى مساعدة من جانب النظام بقصف مركّز بالبراميل المتفجّرة وغيرها لمواقع المعارضين المتصدّين لـ «داعش». وقبل أسبوعين كان مقاتلو التنظيم اجتازوا مسافة صحراوية طويلة ومكشوفة من دون أن يتعرّض لهم أحد، لا طيران «التحالف الدولي» ولا طيران النظام، فاستولوا بسهولة ومن دون قتال فعلي على مدينة «تدمر».

تبادل أدوار، التقاء مصالح، تحالف ضمني موقّت، ضرورات تفرض أولويات؟ كل ذلك وارد في تفسير التنسيق الميداني بين النظام السوري و«داعش». فللمرة الأولى منذ بدء الصراع المسلّح في سوريا لم تتردّد الخارجية الأميركية في اتهام النظام «بمساعدة المتطرّفين والعمل على تقوية موقف داعش»، وأشارت الى تجنّبه توجيه ضربات إلى مواقع التنظيم، لكنها لم توضح لماذا امتنعت الطائرات الأميركية أيضاً عن ضرب تلك المواقع الشمالية التي تقع في منطقة عمليات «التحالف» طالما أن أحد أهدافه منع «داعش» من توسيع رقعة سيطرته. قد يقال، تفسيراً لذلك، أن الولايات المتحدة أوضحت منذ البداية أنها لن تتدخّل في أي قتال له علاقة مباشرة بالصراع الداخلي، لكنها كانت أصرّت مراراً على ضرورة تغيير المعادلة الميدانية بين المعارضة والنظام لكي يراجع الأخير حساباته ويقبل بحل تفاوضي، وها هي المعادلة تغيّرت فأدخل النظام «داعش» إليها لكن الولايات المتحدة لم تراجع حساباتها.

كانت إيران انشغلت بورشة الاتفاق النووي وما بعده، وبالتطورات في اليمن ثم في العراق، فتركت نظام بشار الأسد يراكم الخسائر، مقدّرة أن ما فقده لا يمسّ «سوريا المفيدة» أو «الكتلة الحيوية» التي تعتبرها كافية وضرورية لتأمين بقائه. غير أنها استشعرت خطراً من المرحلة المقبلة، فالطرق انفتحت أمام قوات المعارضة لتضع منطقة الساحل تحت التهديد، وإنْ لم تكن هذه أولويتها العاجلة. فلطالما اعتُبرت هذه المنطقة «معقلاً» للنظام، إذ ينتمي إليها معظم عسكرييه وتقطنها غالبية طائفته العلوية. وقد سبق للولايات المتحدة أن فرضت «فيتو» على أي محاولات لمهاجمة هذه المنطقة ومارست ضغوطاً على داعمي المعارضة لمنعها من التوجّه غرباً، وكل المحاولات التي جرت فعلاً أُفشلت بقطع الإمدادات والذخائر عنها، ما اضطرّها للانكفاء. لكن ايران وجدت هذه المرّة وجوب تدعيم هذه الجبهة معتبرةً أن سقوطها أو اختراقها يمثلان خسارة استراتيجية لها، لذا بدأت تستقدم قوات من العراق ومن شيعة أفغانستان للدفاع عنها. وفي الوقت نفسه خططت لدفع قوات المعارضة شرقاً كي تصطدم بمقاتلي «داعش» وتنشغل في قتال استنزافي معها.

مكمن الخطورة ليس في المجريات العسكرية بمقدار ما هو مرتبط بالنهايات المتصوَّرة للأزمة السورية. فالنظام وإيران والقوى الدولية متفقة على عدم السماح بإسقاط النظام عسكرياً، ويترجم ذلك عملياً بتسليح نوعي محدود للمعارضة وبمنعها من تجاوز خطوط معينة، ما بات يعني الحفاظ على خريطة السيطرة كما هي الآن، ولو مع بعض التعديل. لكنه يترجم أيضاً بلعب النظامين الإيراني والسوري بورقة «داعش» بشكل يضعف المعارضة ويحرج «التحالف الدولي»، أي أنه يشجع التنظيم على التوسّع للاستيلاء على مناطق للمعارضة، فيما تهتم إيران بالحفاظ على الأراضي التي تريد إبقاءها في كنف النظام. هذا يفترض «استدعاش» المعارضة ومناطقها وتركها لـ «التحالف» كي يتدبر أمره معها.

لا شك أن استراتيجية كهذه ترمي إلى استباق أي حلول أو مساومات. فإذا أرادت حتى روسيا وأميركا مجتمعتين تجديد البحث في حل مبني على بيان جنيف، أو طرح مشروع جديد، فإنهما ستصطدمان بأن الواقع الجغرافي لم يعد يسمح بـ «حل انتقالي» ولم يترك سوى خيارين: إما وضع المعارضة أمام التسوية التي يقترحها النظام، وهذا لن ينجح مهما بلغت ضغوط الدول الكبرى. وإما الشروع في طرح صيغ تقسيمية تجري بلورتها حالياً تحت تسمية «أقاليم»، لكن ايران تتهيّأ لإقناع الولايات المتحدة بأن المنطقة التابعة للنظام يمكن الدفاع عنها، وأنها آخر ما يتبقّى من سوريا خارج سيطرة «داعش».

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى