صبحي حديديصفحات الثقافةممدوح عزام

مقالات تناولت ذكرى رحيل ممدوح عدوان

 

 

 

 

ممدوح عدوان: يألفونك فانفر!/ صبحي حديدي

في التاسع عشر من هذا الشهر، ولكن قبل عقد من الزمان، رحل ممدوح عدوان (1941ـ2004)، الشاعر والمسرحي والروائي والمترجم السوري الكبير؛ والمثقف الرفيع الذي كان أقرب إلى مؤسسة جامعة، شاملة متعددة الأغراض والإنجازات، في فرد واحد؛ والشخصية العامة، المشارك في الحياة السياسية والاجتماعية من موقع الناقد الحصيف والجسور، المنطلق من مبادئ معارِضة، تقدمية وعلمانية. وساعة رحيله تساءلت، كما أفعل اليوم، في ذكرى غيابه العاشرة: هل من الممكن تخيّل المشهد الأدبي السوري المعاصر، بدون هذا الرجل؟؟

غاب شعره، بادئ ذي بدء، وافتقرنا إلى الجديد المدهش الذي كانت تحمله قصيدة اتصفت بخصوصيات كثيرة منفردة، في المضمون والشكل والتجريب الطليعي، منذ «الظل الأخضر»، 1967؛ و «تلويحة الأيدي المتعبة»، 1969؛ و «الدماء تدقّ النوافذ»، 1974؛ وحتى «وعليك تتكئ الحياة»، 1999؛ و «كتابة الموت»، 2000- ؛ و «حياة متناثرة»، 2004. انتمى، من حيث الجيل والحساسية الجمالية والتعبيرية، إلى مجموعة ضمّت أمثال علي الجندي (رغم أنه كان أكبر سنّاً، وأسبق تجربة)، وعلي كنعان، ومحمد عمران، وفايز خضور؛ بالإضافة إلى الشاعر الفلسطيني فواز عيد، المقيم في سوريا. لكنّ عدوان كان صانع مناخات رعوية، صاخبة ومتمردة وانتهاكية؛ وصائغ قاموس شعري حارّ، دائم التفجر في مستويات الدلالة والتركيب؛ ونابش إحالات تاريخية وأسطورية وتراثية، حمّالة ترميزات راهنة في الواقع، وإسقاطات طليقة في الزمان، ابتداءً من وحشي والخنساء والحطيئة والزنج، وليس انتهاءً بدون كيشوت وغيفارا و… توم وجيري!

وغابت، كذلك، مساهماته الدرامية المتميزة، في المسرح أساساً، ولكن في المسلسل التلفزيوني أيضاً؛ خاصة وأنه شاطر الراحل الكبير الثاني، سعد الله ونوس، عبء الارتقاء بالمسرح السوري المعاصر، وإطلاق ما يشبه ورشة عمل تجريبية افتراضية، بالغة الطموح، عالية الوعي بما هو ممكن ومطلوب وحيوي. هنا، في صيغة عمل جماعي، طُرحت الأسئلة الضرورية والجوهرية وغير المألوفة، من جهة؛ ومورس التطوير في كتابة النصوص، وتنفيذ العروض، وتأصيل التنظير النقدي وتحريضه، من جهة ثانية. وتلك المغامرة الإبداعية، الثقافية والسياسية كذلك، لم تكن ممكنة من دون ونوس في «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» و «الفيل يا ملك الزمان»؛ ولا ممكنة، أيضاً، من دون عدوان في «محاكمة الرجل الذي لم يحارب» و «ليل العبيد» و «كيف تركت السيف».

وفي مستوى الوظيفة الاجتماعية والمعرفية والسياسية للإنتاج الثقافي، غاب عن القارئ العربي ذلك الاتصال الثرّ، المنتقَى بميزان الذهب، مع التراث الإنساني القديم والحديث والمعاصر، عبر تلك الترجمات النوعية التي أنجزها عدوان: «تقرير إلى غريكو»، السيرة الذاتية والفكرية للروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكيس؛ أو سفر «الإلياذة»، في مغامرة ترجمة عن الإنكليزية، لعلها الأهمّ بعد ترجمة أمين سلامة عن اليونانية؛ أو ذُرى هيرمان هيسه، «الرحلة إلى الشرق»، و «سيد هارتا» و «دميان»؛ أو أوديسة الشاعر الكاريبي ديريك ولكوت، «عودة أوليس»؛ أو مقالات أوكتافيو باث، «الشعر ونهايات القرن»؛ أو دراسة كيث وايتلام الشجاعة، «تلفيق إسرائيل التوراتية»…

وكان عقد من متغيرات سوريا، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كفيل بإغواء الراحل كي يكتب عملاً ثانياً يصبح توأم كتابه الأثير «حَيْوَنة الإنسان»، 2003؛ وهو مجموعة مقالات حول مقدار ما فقد البشر من كرامة وتضامن إنساني وإحساس بعذابات الآخر، حتى صاروا معتادين على الإذلال المحيط بهم وبغيرهم، وصاروا أكثر استعداداً لقبول التعذيب والمهانة والعنف على شاشات التلفزة وبالنقل الحيّ المباشر. مقالات ساخنة، تنبض بالسخط والاحتجاج والأسى، تسير بعض عناوينها هكذا: «ورطة الإنسان الأعزل»، «هل نحن جلادون؟»، صناعة الوحش… صناعة الإنسان»، «ولادة الوحش… بين الجلاد والضحية»، «القامع والمقموع»، «أصل العنف»، «الدولة القمعية». وثمة فصل بعنوان «السلبطة السلطوية»، يكتسب اليوم دلالات بالغة الخصوصية في ضوء الانتفاضات العربية، لأنه ببساطة يناقش شخصية «البلطجي» و «الشبّيح»، وأدوار كلّ منهما في تحريك آلة القمع، ويرسم لكلّ منهما قسمات مفصّلة تجعل المقالة معاصرة تماماً، تكاد تصف بدقّة عالية ما فعله «البلطجية» في مصر، وما فعله ويفعله «الشبيحة» في سوريا.

وفي قصيدته «العياذ بالجرح»، من مجموعة «يألفونك فانفر»، 1977، يقول عدوان: «قلْ أعوذ من الكلمات التي علّموني/ صوتك الآن أعمى/ يجرّ خطاه/ ويحمل تنهيدةً/ يألفونك برقاً يُعلّب/ ضوءاً يُقدّد/ نسراً يُدجّن حتى يؤاكل فأراً/ يأسرونك بالصبر/ كي يستبدّ بك الخوف/ فانفرْ». والراحل يُفتقد اليوم، حقاً، في شخصه كما في شخصيته الثقافية، لأنه كان أحد كبار النافرين ضدّ ألفة الاستبداد والفساد.

القدس العربي

 

 

 

في صحة ممدوح/ نجوان درويش

عزيزي زياد، لعلك تعرف أنني من جيل وبلد يكنّان محبّة وتقديراً خاصاً لوالدك ممدوح عدوان. هذا الذي تسميه أنت ممدوح، وتحلّ اليوم ذكرى عشر سنوات على رحلته الأخيرة، تلك التي لا يستطيع أحد أن يؤكد أنها كانت الأخيرة.

على سيرة الأسماء ورفع الكلف، فلدينا زميل رهيب يرفع الكلفة حتى مع أعلام الماضي؛ تسمعه يتحدث عن رياض فتظن أن الأخير كان أحد زملائه في الجامعة، لتكتشف أن المذكور ليس سوى السنباطي، ملحّن أم كلثوم. ومؤخراً بات لهذا الزميل اهتمامات فلسفية، فسمعته يتحدث عن صديقه فريدريك، لأفهم في النهاية أنه اقتنى كتاباً لنيتشه.

دعنا إذاً نتحدث – على طريقته – عن ممدوح. لا أخفيك أنني معجب به، والإعجاب، كما تعرف، يتضمن بعض الشعور بالنقص. لا أظن أن حياته كانت سهلة في أي مرحلة؛ ولكن هذا لم يوقفه عن الإنتاج. تلك كانت أمثولته. أمثولته الأخرى كانت الانهماك والكتابة في أكثر من حقل بالكثافة والزخم ذاتهما.

فلنتأمل 85 كتاباً أصدرها بين 1964 و2004 إلى جانب تأسيس عائلة والالتزام بمجتمع وأمّة، وبالكتابة قبل وبعد كل شيء. التزامٌ لم يعد يستطيعه كثيرون من جيلنا الآن. ناهيك عن تحمله أعباء المواطنة في ظل الاستبداد، ووعيه أن لا مواطنة عربية بدون فلسطين وتحررها. كان ذلك، كما أظن، أمراً عفوياً وطبيعياً مثل شرب كأس عرق. طبيعياً إلى درجة أننا جميعاً انتهينا لاجئين. في صحتك يا صديقي، وفي صحة ممدوح.

 

دعنا من كل هذه التّرهات/ محمد الماغوط

 

ممدوح…

أنت تحب مصياف

وأنا أحب سلمية

وكلانا ديك الجن في مجونه،

وعطيل في غيرته

فلنصطحبهما إلى أول حانة أو مقصف

ونبثهما أشواقنا وكلامنا وهمومنا.

ولأن مدينتي لا ترتدي شيئاً تحت كرومها

فإياك أن تطرف عينك عليها

وإلا صرعتك في الحال.

 

***

 

لا تصدق أنني أهوّل عليك لا أكثر

كما كان سليمان عواد يهوّل على أمير البزق،

مهدداً إياه بلفافته الـ”خصوصي للجيش”.

أتذكر تلك اللفائف؟

وذلك السعال المديد والمتقطع،

كالتدريبات الأولية في المستعمرات على نشيدها الوطني؟!

ومع ذلك لا أقل عنك جهلاً في هذه الأمور.

فللآن لا أعرف سعال الشاعر من القارئ من الناقد

من المترجم من الراوي.

لا أعرف إلا سعالي!

صحيح أن معظم التبوغ مصنعة،

لكن سعالي طبيعي ومكفول لمئة عام من العزلة!

ومع ذلك، أقدمه بكل سرور

مقابل شعرك المتساقط ولونك الرصاصي،

وأهوال العلاج ونفقات الأمل.

مع أنني لا أملك سواه.

إنه نشيدي الوطني!

وأتمنى أن يُعزف قريباً في المعسكرات

والدوائر الرسمية والمدارس،

وعلى الأقل في دور الحضانة.

ولن أقلع عن التدخين.

ولماذا؟

وكل أنواع السموم تحيط بي كقشرة البيضة،

أو اللباس الهتلري في القطب الشمالي.

 

***

 

والآن دعنا من كل هذه الترهات

أريد خزعة من رئتيك وجبينك وأحزانك..

إن نسيجها أكثر متانة ومماطلة

من قلعة مصياف وجبال ديرماما

وأكثر فطنة وثقة من أعلام الغزو في الظلام.

وأنا واثق بأنك ستزهر من جديد كالوراقة،

وفي عز الشتاء.

وإذا خطرت لك زيارتي حيث أقيم

فعلى الرحب والسعة.

فإذا لم أكن موجوداً،

فسعالي يقوم بالواجب وأكثر:

تهليلاً وترحيباً وعناقاً

حتى الغضب والانفعال،

والتظاهر إلى جانبك ولأية قضية.

لأنني قد لا أعود أبداً،

فمدينة لا يوجد فيها مريض نفسي

أو عقلي حتى الآن

لن أبقى فيها دقيقة واحدة.

 

(2004)

 

 

رحلة دون كيشوت المتجددة/ ممدوح عزام

بين ديوانه الأول “الظل الأخضر” وآخر كتاب له في حياته، أمضى الشاعر الراحل ممدوح عدوان رحلة طويلة دامت قرابة خمسة عقود، عمدها بعشرات الكتب في الشعر والمسرح والرواية والمقال والترجمة (من بينها ترجمته لإلياذة هوميروس) وكتابة المسلسلات التلفزيونية، وليس في جيله من كان مثله في نشاطه الثقافي وغزارة إنتاجه، بل إن الكثيرين ممن كانوا يتابعون أعماله المتنوعة، كانوا يحارون لا في كثافة نتاج الشاعر وحسب، بل في احتفاله الصاخب بالحياة أيضاً.

وفيما كان عالم القمع وتجلياته في الوضع البشري يشغل معظم نتاج الشاعر، فإن الأمر الأهم الذي روعه من هذا القمع إنما كان تلك الممارسات التي تعامل الإنسان على أنه حيوان. وإذا كان قد كتب من قبل في كتابه “دفاعاً عن الجنون” إن الإنسان “يجهد لمنع نفسه من الانحدار عن مستواه الإنساني إلى مستوى الحيوان”، فقد بدا له في ما بعد أن البشر في عصرنا لم يفوا بهذا الجهد وحسب، بل كانوا يزدادون عطباً، وخراباً. وهو الشاهد والرائي أن سلسلة الجرائم التي يرتكبها الإنسان بحق إنسان آخر آخذة في التوسّع والامتداد في طول الأرض وعرضها.

ولو كنا نلقي نظرة على قصائده، التي اتخذت سمة التأبين لهذا العالم، في زمن آخر غير هذا الزمان، مثل “تأبين صباحي” أو “زمن الجنازات الجميلة” أو “الإعدام” أو “موت الورود”؛ فقد كان من الممكن أن نلقي اللوم على اللوحة المثقلة بهذه العتمة المريعة التي تخيم على العالم، أو نعاتب الشاعر على كثرة أحجار القبور في قصائده، غير أننا لا مناص من أن نقر له الآن بعد رحيله، أنه إنما كان يحاول أن يقدم لنا خلاصة عرافٍ رأى “الطغيان، والقضبان، والأكفان، والهزائم” تعمّ عالمنا، أو رأى “صيارفة الأوطان، والنخاسين” قد حولوا الإنسانية إلى “تاريخ حزن”، وأنه إنما كان يحاول أن يوقظ فينا حذر الكائن البشري من التحولات المريعة التي تطال إنسانيتنا في جوهرها.

ثم بدا كأن الشعر لم يكفه، لا في العرافة، ولا في التعريف بعالمنا الذي لم يعد “يصلح للإنسان.. بل هو يعمل على حيونته”، فألف كتابه الأخير “حيونة الإنسان” وفيه يكاد يعتذر من الوحوش لأنه يسمي البشر كذلك: “إن اللغة تبدو فقيرة. وحين نضطر لاستخدام كلمة “وحش” و”وحشي” و”متوحش” فإننا نتواطأ مع جنسنا البشري لكي نظلم الوحوش. فالوحوش لا تقتل من أجل الابتهاج والرضى فقط، والوحوش لا تبني معسكرات اعتقال أو غرف غاز، ولا تعذب الوحوش أبناء جنسها إلى أن تهلكهم ألماً”.

يمكن اعتبار هذا الكتاب، سجلا للخزي “الإنساني” والتجاوزات التي يرتكبها البشر بعضهم ضد بعض. وفيه يتابع الشاعر ما يسميه بورطة الإنسان الأعزل في مواجهة التوحش، أو صناعة الوحش الإنساني كما يقول. كتاب حزين، على الرغم من الصور المرعبة التي يقدمها عن القمع، لشاعر كان يأمل ذات يوم في قصيدته “رحلة دون كيشوت الأخيرة” بأنهم: “إن كانوا نجحوا في تحويل الإنسان إلى حيوان/ فلماذا لا ننجح في إرجاع الحيوان إلى إنسان؟”.

 

 

ممدوح عدوان.. تلويحة من الأيدي المتعبة/ رائد وحش

تعلّمنا تجربة ممدوح عدوان (1941 – 2004) أنّ الثقافة، في ملمحها الأساسيّ، عملٌ متواصل، تتماهى فيه قيم البحث والاستقصاء بالسعي اليومي وراء الخبز، وأنَّ المثقَّف هو ذلك الجالس إلى مكتبه يكدح مع اللغة والأفكار. هذا ما كان يفعله صاحب “وعليك تتكئ الحياة”. ولو افترضنا أنه كان يعيش حياة بوهيمية، كما يحلو للشعراء أن يعيشوا، لما تسنّى له أن ينتج ذلك الإنتاج كله، بسوية عالية، وفي حقول مختلفة.

تجربة عدوان نتج عنها 26 مسرحية، 20 مجموعة شعرية، روايتان، خمسة كتب نثرية، 25 كتاباً مترجماً، عشرون مسلسلاً تلفزيونياً، آلاف المقالات؛ تجربة تعيدنا إلى عصر آخر كان فيه الكاتب ورشة عملٍ وأمل، وفرداً تتنازعه أحلام جماعية، فبمقدار ما يسعى لأن يساهم في الثقافة، يطمح لأنْ يكون، هو نفسه، ثقافة.

استعاد عدوان حضوره مع بداية الثورة السورية، من خلال عدة إشارات، أولها كتابه “حيونة الإنسان” الذي وجد قرّاءً جدداً يتناقلونه على صفحات التواصل الاجتماعي، ويتبنّون أفكاره، لا سيما تلك المتعلّقة بالشبيحة. يقول: “الشبيحة قادرون على تمرير أيّ شيء من دون أن تستطيع أية جهة مساءلتهم، وهم بالطبع أتباع، الشبيحة هم الأتباع المتسلطون باسم نفوذ سيدهم (الخال أو المعلم)، وهم يمررون أي شيء لأنهم لا يتعرضون للمساءلة، ولا تتعرض سياراتهم أو بيوتهم أو أشخاصهم للتفتيش أيضاً، ولذا فإن سياراتهم التي لا تفتّش قد تدخل أفيوناً أو سلاحاً أو بضاعة مهربة وربما جواسيس”.

كما أنّ الكلمة الشهيرة التي ألقاها في “مؤتمر اتحاد الكتاب العرب” عام 1979، تضمّنت عبارته الجريئة والمدوية “النظام يكذب حتى في النشرة الجوية”؛ عبارة عادت لتتداولها الألسن وكأنها قيلت بالأمس، كما رفعت كلافتةٍ في العديد من المظاهرات.

يصرخ عدوان: ‘لماذا يكذب النظام؟ ولماذا يكذب الحزب؟ ولماذا تكذب فئة ما؟ الكذب ينطلق من الخوف، الخوف من الآخرين. والسلطات التي تكذب، هي سلطات تخاف الشعب، وتخاف أن يراها على حقيقتها […]. كلنا في هذا الاجتماع تجنبنا الحديث عن مسائل معينة. لا أحد تحدّث عن سرايا الدفاع. لا أحد تحدث عن المخابرات. لا أحد تحدث، إنْ لم نقلْ عن الوجه الطائفي للسلطة، فعلى الأقل عن الممارسة الطائفية لبعض العناصر في السلطة”.

تلك هي الصورة التي أخذها الجيل السوري الأخير عن الشاعر الذي رحل في مطلع الألفية الثالثة. لكنّها تفصيل من صورة تحتاج إلى الكثير من الوقت والعناية للإحاطة بأبرز ملامحها.

شعرياً؛ كانت قصيدة عدوان تنوء بحملي الغنائية والأيديولوجيا، مثله مثل غالبية أبناء جيله.

ورغم أن كثيراً من زملائه في جيل الستينيات قد ذهبوا إلى مناطق أخرى، ظلّ هو مطمئناً إلى تلك الغنائية الريفية، التي من شدّة ولائه لها وصل به الأمر إلى حدّ أنه راح يكتب مواويل بالفصحى تحاكي طرائق وأنماط صياغات المواويل الشعبية. ربما لأنّ رغباته في التجديد والتمرّد كانت تجد مسارب لتفريغها في حقول أخرى مما يكتب: “لا يُسقط القاموع/ إلا عصا الراعي/ ولا يصاد الجوع/ إلا بمقلاعِ/ لو مقلتي ينبوع/ لم تشف أوجاعي/ فالذنب لا يبري/ إما نعى الناعي/ قد خنتهم قسراً/ إذ لم أزل حيا/ لو صاحبي من/ جنب قبرى مرةً حيا/ لأعادني، وأنا القتيل بحبه، حيا/ أين السبيل إلى/ الهناء ولم أجد حيا/ إلا وفيه نادب/ غدر الصحاب”.

لكنّ نصه كان يشير إليه من خلال امتلائه بالدراما والحكي، والأساطير والرموز المعاد بناؤها. خلفيات النص وكواليسه كانت تتفوق على مسرحه. بمعنى آخر؛ أطلق عدوان العنان للمعنى لكنه أبقى المبنى أسيراً.

في المسرح، حفلت أعماله بآلام واقعنا المهزوم، فنبش في التراث العربي الإسلامي، ليعاود مساءلة الواقع، كما في “ليل العبيد”، المسرحية التي نظرت إلى الإسلام كثورة. كذلك فعل مع التراث العالمي، في “هاملت يستيقظ متأخراً، إضافةً إلى اهتمامه البالغ بالمونودراما التي قدّم فيها “الذباب” و”القيامة” و”أكلة لحوم البشر”، وخصوصاً “الزبال” التي احتفظت بصدى وتأثيرٍ في المشهد المسرحي السوري؛ وترجمته العديد من النصوص المسرحية والنقد المسرحي، لا سيما كتاب “الشاعر في المسرح”.

في عمله الصحافيّ، لا يزال هناك من يتذّكر مشاركته في تحرير ملحق جريدة “الثورة” في الستينيات، الذي صار منبراً لمعظم الأصوات التي ظهرت في سوريا خلال تلك الفترة.

ابتكر عدوان أعمالاً كلاسيكية للثقافة في سوريا، وعلى رأسها كتابه “دفاعاً عن الجنون”. ولعل طريقته في كتابة المقال، ومن ثم جمعه مقالاته في كتاب، يشيران إلى استراتيجية خاصة، لا تقبل أن تبقى فكرة من أفكاره ضالةً وبدون إطار أو بيت ومأوى. الشاعر مَقَاليٌّ في ملمح أساسي، وكتبه “حيونة الإنسان” و”تهويد المعرفة” و”نحن دون كيشوت” و”جنون آخر” هي مجموعة مقالات تحوّلت إلى كتب. هكذا هو، واحد من أولئك المقاليين الذين جعلوا الكتابة الصحافية في صلب الإنتاج الثقافي، وفناً أدبياً تتماهى فيه تقنيات السرد والأفكار.

في الجزء الذي يمثّل السيناريست التلفزيوني، كان صاحب “الدوامة” أقرب إلى مدرسة عربية في هذا المجال. فقد جمع تقنيات ومزايا المسرح مع الخيال الروائي، ضمن خلفية ثقافية هائلة، ما جعله يقدّم تحفاً للشاشة الصغيرة، أبرزها مسلسل “الزير سالم”، درّته ودرّة الدارما السورية معاً. ففي هذا العمل قدّم أسساً لكتابة الدراما التلفزيونية التاريخية، من حيث اختياره لقصة يعرفها الجميع، لكنه أخذها إلى مسارات لا يمكن للناس أن يقبلوا بها، حيث جعل البطل الأسطوري، كما يعرفونه، يهزم ويتوسّل ويتناذل.

إضافة إلى ذلك، أعدّ سيناريوهات عن الأدب العالمي لتكون دراما تلفزيونية تثقّف. فعلى خلفية بوليسية، قدّم مسلسل “ليل الخائفين”، الذي تدور حبكته حول رواية مسروقة، ما جعل المشاهد يعيش ضمن أجواء الكتابة وأسئلتها. وفي “اللوحة الناقصة”، وضع المشاهد على تماس مع الفنون البصرية وعوالمها.

لكنّ “الزير سالم” يبقى هو الأهم على مستوى القيم الفنية واللغوية والتاريخية التي يتضمّنها، ولإثارته جدلاً هائلاً في صفحات الصحف السورية. وقتها قام ممدوح بكتابة ست مقالات ردّ فيها على كل الآراء التي تناولت عمله، وأوضح رؤيته وأهدافه. ولاحقاً صارت هذه المقالات كتاباً اسمه “الزير سالم.. البطل بين الدراما والتاريخ”.

قيمة صاحب “أعدائي” أنه كان قادراً على أن يخلق معارك فكرية، ويحوّل الجدل إلى كتاب. كان الصحافي الذي فيه يشاغب، والكاتب الذي فيه يتأمل الارتكابات ويضعها في نصابها الفكري.

حين رحل عدوان في 2004، جرى تكريمه رسمياً بشكل لافت، في احتفالية احتضنتها دار الأوبرا، وغطّتها مباشرة الفضائية السورية. ولاحقاً أقيمت ندوات تكريمية له وأُعد عنه كتاب استعادي، إضافة إلى بقاء محطات التلفزيون والإذاعة والصحف المحلية تتحدّث عنه لفترة طويلة، صار فيها الباعة وعمال التنظيفات يعرفونه. آنذاك كان بعض المثقفين السوريين بدؤوا يتهامسون إنه “ربيب النظام” و”طفله المدلل” وها هو ذا يكافئ على خدماته.

الآن، وبعد عشر سنوات على رحيله، ندرك أن ممدوح عدوان كان وطنياً نظيفاً وجريئاً، صاحب كلمة حق، والأهم من ذلك، كاتباً سورياً بامتياز.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى