راشد عيسىصبحي حديديصفحات الثقافة

مقالات تناولت رحيل المخرج السوري رفيق الصبان

رفيق الصبّان.. السينما كحياة كاملة/ نديم جرجورة

كان اليومان الفائتان مُثقلين بخَطَب كبير. الحالة المصرية مرتبكة. لم تخرج من محنتها الدموية بعد. لم تعثر على ما يفتح الأفق المسدود. في اليومين الفائتين هذين، في ظلّ التشنّج والتمزّق والهلع في أحياء القاهرة وفضاءاتها المفتوحة على احتمالات شتّى، توفّي مخرج وناقد سينمائي. أمضى الأول، وهو توفيق صالح، ثلاثة وثلاثين عاماً في صمت يطرح تساؤلات. لكن الثاني، على نقيضه، شغل المدينة بحضوره وكتاباته وحيويته إلى اللحظة الأخيرة (أو إلى ما قبلها بقليل)، إلى أن خذله القلب، الذي توقّف بعد أسبوع من معاناة أمضاها الناقد في مكافحة خلل في الكلى أفضى إلى أزمة قلبية لم ينتصر عليها من أجل مزيد من الكتابة. بل من أجل مزيد من الحياة.

رفيق الصبّان (1931 ـ 2013): كاتب مسرحي سوري اختار، كأسلاف ومجايلين، الذهاب إلى القاهرة، المدينة المعشوقة. رفيق الصبّان هو نفسه الذي بات في القاهرة أحد النقّاد البارزين وكتّاب السيناريوهات السينمائية. كتب وناقش وشارك في حوارات وندوات. تابع وقدّم وقرأ وحلّل. كتاباته النقدية تثير سؤال الفعل النقدي في النص المكتوب، لكن اللحظة لا تتلاءم ونقاشاً يُراد له أن يكون صائباً في تبيان جوهر الحكاية النقدية. سيناريوهاته شكّلت منعطفات في مسار إبداعي أراده الصبّان تفعيلاً لسينما كانت، يومها، أم السينمات العربية، قبل أن تنافسها، بجدارة حقيقية، سينمات دول عربية ممتدة من الخليج إلى المحيط. لكن هذا لا يعني إطلاقاً أن مقالاته لم تمتلك جدّية في التنقيب والتفكيك الفنيين لعمل من هنا، أو لنصّ من هناك. وسيناريوهاته السينمائية (25 فيلماً) والتلفزيونية (16) باتت اليوم، إثر اكتمال دائرة الحياة بموت صاحبها، مادة حيّة لتحليل نقدي سليم.

إذاً، يُفترض بكتابات رفيق الصبّان أن تخضع لتشريح نقدي، لا يقلّ أهمية عن تشريح نصوصه السينمائية والتلفزيونية، هو القادم إلى القاهرة من اشتغال مسرحي سوري. من هذه النصوص، يتبادر إلى الذهن بُعيد قراءة نبأ رحيله، «ليلة ساخنة» (1996) لعاطف الطيّب، أحد أجمل الأفلام التي غاصت في أعماق البيئة الإنسانية للطبقة الشعبية، من خلال سائق سيارة أجرة (نور الشريف) وعاهرة (لبلبة) يجولان في الشوارع ليلاً، ويسعيان إلى الخروج من تلك الدوامة القاتلة التي تحيل الحياة اليومية للفقراء إلى جحيم لا يُطاق. ولئن أتقن عاطف الطيب في تصوير المحنة الإنسانية بأسلوبه الواقعي القاسي والشفّاف في آن واحد، فإن النص المكتوب بدا واضحاً في قدرته على تفكيك الحكايات المستلّة من قعر المجتمع، والمأخوذة من قسوة الحياة وشفافية الكتابة في صناعة عالم من التساؤلات المريرة. وهذا كلّه في مقابل «الباحثات عن الحرية» (2005) لإيناس الدغيدي، الذي ارتكز على قوّة المادة الإنسانية المتوغلة في واقع المرأة وبحثها الدؤوب عن حرية وعدالة واتّزان في التعامل معها، والذي ابتُلِيَ برداءة التحقيق السينمائي لمخرجة اعتادت إثارة الغرائز بدلاً من تحريض العقل على الاجتهاد والتفكير. لكن بدايته السينمائية ككاتب سيناريوهات تعود إلى مطلع السبعينيات المنصرمة، عند انتقاله إلى القاهرة: في العام 1972، أُنجز فيلم «زائر الفجر» لممدوح شكري ومحمد حسونة، ولمنتجته الممثلة ماجدة الخطيب، التي تعرّضت لخسارة فادحة، إذ منع الفيلم من العرض بعد أسبوع واحد على إطلاقه تجارياً، لما فيه من قوّة تحليل سينمائي لواقع الحال السياسي/ الاجتماعي/ الإنساني في مصر (أُطلقت عروضه التجارية في ظلّ نظام أنور السادات): هل توفيت الصحافية نادية (الخطيب) أم قُتلت، هي التي كتبت بجرأة، وفضحت بجرأة، وشاركت في عمل ثوري أفضى بها إلى خاتمة بشعة؟

أياً يكن، فإن رفيق الصبّان طوى، برحيله أمس الأول السبت، حقبة سينمائية أتقن في صناعتها، بمساهمته الجدّية في الكتابة لها وعنها.

السفير

رفيق الصبان: وداع رائد كبير/ صبحي حديدي

في إحدى مستشفيات القاهرة، بعيداً عن وطنه سورية، ومدينته الأثيرة دمشق، رحل رفيق الصبان (1931ـ2013)، الناقد السينمائي الكبير الرائد، وكاتب السيناريو، والمسرحيّ، وأحد أهمّ نقّاد الدراما التلفزيونية، وبين الأكثر رصانة في الكتابة عن فنون عصرنا البصرية والسمعية. وهذا رجل، على شاكلة صفوة رائعة وفريدة من أبناء سورية الذين جايلوه أو سبقوه بقليل، كان مؤسسة ثقافية قائمة في ذاتها، معتمدة على ذاتها؛ جمعت بين فضائل الريادة والتأسيس، ومشاقّ دروبها الوعرة، وكرامة شقّ الطريق كمَن يغذّ السير في حقول ألغام متعاقبة. وأن يكون امرؤ رائداً ومؤسساً في آن، أمر كفيل بإثارة الأنواء العاتية والعواصف الهوجاء، فضلاً عن الكثير من حملات الإنكار والتحريم والتأثيم، وانطباق تلك الحكمة المأساوية العتيقة: لا كرامة لنبيّ في أهله!

رحل الصبان، إذاً، في مصر التي اختارها وطناً ثانياً، أقرب إلى منفى اختياري/قسري، وذاك ـ كما علّمنا إدوارد سعيد في واحدة من ألمع مقالاته عن ذهنية المنفيّ ـ بين الأنساق الأشدّ وطأة، والأقسى مرارة. ومنذ الشهور الأولى في عمر ‘الحركة التصحيحية’، خريف 1970، تهافت رجال انقلاب حافظ الأسد على التنكيل بعدد من خيرة رجالات الفنون، في السينما والمسرح والإذاعة والتلفزة، تحت ذرائع كاذبة شتى. ولم يكن عجيباً أنّ يكون الصبان (مؤسس ‘المسرح القومي’، ومديره طيلة سنوات؛ ومدير برامج التلفزيون، ومؤسس فرقته الدرامية؛ ومدير الشؤون السينمائية العامة في ‘مؤسسة السينما’ الحكومية، وأحد أبرز المساهمين في تأسيس ‘صالة الكندي’ التي احتضنت عشرات المهرجانات الرفيعة، وحاضنة أوّل نادٍ سينمائي جادّ)، في عداد أوائل المنكّل بهم.

وهذا الرجل، الذي يحمل الدكتوراه في الحقوق العامة من جامعة السوربون، وقع في هوى الفنون عبر خشبة المسرح أوّلاً، فأخرج ـ اتكاءً على مقاربات طليعية، عصرية، وإشكالية غالباً ـ سلسلة من الأعمال الكلاسيكية والحديثة والمعاصرة؛ بينها شكسبير: ‘ليلة الملوك’، و’تاجر البندقية’، و’يوليوس قيصر’؛ ماريفو: ‘الاعترافات الكاذبة’، و’لعبة الحبّ والمصادفة’؛ وموليير: ‘طرطوف’؛ وألبير كامو: ‘العادلون’؛ وناظم حكمت: ‘حكاية حبّ’. وحين استولت السينما على جلّ اهتمامه، لجهة السيناريو تحديداً، كتب الصبان مجموعة من أفضل أفلام السينما العربية المعاصرة، اتسمت على الدوام بإشكاليات سياسية واجتماعية ذات حساسية عالية، لعلّ أشهرها ‘زائر الفجر’، 1973، شريط ممدوح شكري الذي سُحب من الصالات بعد أسبوع واحد من عرضه. وحصيلته، في هذَين الميدانين، تبلغ 25 شريطاً سينمائياً، و16 مسلسلاً للتلفزة؛ فضلاً عن عشرات المراجعات النقدية المعمقة، التي واظب على نشرها في الصحف والمجلات.

كتابه الأخير ‘السينما كما رأيتها’، 2012، يستجمع خلاصات نصف قرن من مشاهدة سينمات العالم، وتحليل خصائصها المحلية المختلفة، وربطها بحصيلة إجمالية لتأثيرات الفنّ السابع في الذائقة الجمالية الإنسانية، خاصة في قدرة السينما على التنوّع والاختلاف، وتلوّن مدارسها بأساليب فردية وأخرى كونية، وطرائق عيش ونماذج وجود، بين أقصى توترات الحياة البشرية المعاصرة، في المأساة مثل الملهاة. وفصول الكتاب تعرّفنا على ما امتاز به الصبان دائماً، من إطلالات بانورامية على المشهد السينمائي العالمي، إذْ نقرأ عن سينما الهند أسوة بالسويد، ومنجزات ‘الموجة الجديدة’ الفرنسية أسوة بالواقعية الإيطالية، ونثمّن الانفرادات (غريفيث، شابلن، أورسون ويلز) أسوة بالظاهرات الجماعية (السينما اليابانية، هوليوود، مصر).

وللصبان ترجمات متميزة، لعلّ أبرزها ثلاثة أعمال. الأوّل بعنوان ‘نظرات في الأدب الأمريكي’، للناقد الفرنسي موريس ـ إدغار كواندرو، الذي يقترح قراءة مختلفة في أعمال وليام فوكنر وجون دوس باسوس وإرسكين كالدويل، كما يعرّف القارىء على أدباء (كانوا، ساعة إصدار الكتاب) في عداد المؤلفين الجدد. العمل الثاني هو ‘في النقد السينمائي الفرنسي’، للفرنسي جان ـ لوي بوري، الذي لا يستعرض مدارس النقد السينمائي الفرنسي وتياراته، بصفة خاصة، فحسب؛ بل يناقش، أيضاً، جملة الركائز التقنية والمعرفية التي لا غنى عنها في أية كتابة عن فنّ بالغ الأهمية والخطورة، ويقتضي بالتالي أقصى التعمق والجدية. وأمّا العمل الثالث فهو في ميدان المسرح هذه المرّة: ‘الإسلام والمسرح’ن للباحث التونسي محمد عزيزة؛ وهنا، إضافة إلى موضوعات الكتاب الغنية في ذاتها، حرص الصبان على أن تضمّ الترجمة بحثاً ثانياً مترجماً عن الفرنسية، بعنوان ‘فكرة المسرح والطقوس الإسلامية’، كتبه رشيد بنشنب؛ وكذلك نصّاً مسرحياً تراثياً بعنوان ‘آلام الحسين ومأساة كربلاء’.

وتبقى إشارة إلى مقال بعنوان ‘سينما تتحدى الاستبداد’، كتبه الصبان في صيف 2012، عن شريط حاتم علي ‘الليل الطويل’؛ والذي كتبه هيثم حقي ‘بحرفية عالية وإحساس ثوري شديد، مضيفاً إلى قدرته الإخراجية موهبة كتابية مؤثرة وملفتة للنظر’، كما قال الصبان. الشريط، في نظره، نموذج مضيء ‘يعيد لنا الثقة في سينما سورية تنبعث دائماً من رمادها، وترفض بإصرار متكبر وعناد’؛ لأنها، على غرار خالد تاجا في أحد مشاهد الفيلم، كناية عن سوري ‘يستقبل حبات المطر، مطر الحرية’، على وجه ‘طالما حلم بهذا الماء المقدّس، الذي حرمته منه القضبان’.

.. أو المنفى، كذلك؛ هذا الشرط الرهيب الذي جعل الصبان يوصي بأن يُدفن في القاهرة، لا في دمشق، ربما لكي نتنبّه إلى أنّ ‘خيام اللاجئين السوريين تذكّرنا بخيام الهاربين من الجحيم الإسرائيلي بعد نكبة الأربعينات’، كما كتب.

الصبّان السوري: راشد عيسى

كنا نتحدث عن عقد الستينات الذهبي في المنطقة، وفي سوريا خصوصاً، حين راح الروائي فواز حداد يتحدث بحماسة بالغة عن رفيق الصبان، السوري، المصري تالياً، ليصفه بالقول: “مرّ كالشهاب الثاقب في سماء الثقافة السورية. الصبان، هو الذي حوّل السينما في أذهاننا إلى فن. لقد عرّفنا إلى الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، والسينمات الطالعة من بولونيا وتشيكيا وبلغاريا. كما أعاد الاعتبار في أذهاننا إلى السينما الروسية. ولم يخلُ شهراً واحداً من مهرجان سينمائي.. الصبان فتح لنا أبواب المسرح، عرّفنا على المسرح، ولا يمكن أن ننسى «الزير سالم» التي أخرجها بنفسه. كانت لدى الصبان ندوة «فكر وفن» التي يحضرها أهم الفنانين والمثقفين وأذكر منهم الآن لؤي كيالي وعدنان بن ذريل”.

وفي البحث ذاته يشير السينمائي الراحل عمر أميرالاي إلى “ظاهرة اسمها رفيق الصبان”، ويعتبره “مؤسساً للمسرح السوري الحديث، ومؤسس الثقافة السينمائية في المجتمع السوري”.

 لدى رحيله منذ أيام كتب مبدعون كثر، أنصفوا الراحل في مكانته وكتاباته نقداً وإبداعاً، في السينما والتلفزيون، لكن تعليق الكاتب الفلسطيني معن بياري كان لافتاً حين قال على صفحته في فايسبوك: “لديّ شعور بالحاجة إلى الاعتذار إلى السيناريست والناقد الفني، السوري المصري، رفيق الصبان. لم أكن آخذه على محمل الجد، ولطالما اعتبرته كاتباً خفيفاً، فيما للرجل مكانته وتاريخه ومنجزاته المهمة في السينما والدراما التلفزيونية، وفي كتاباته”. البياري لم يكن مخطئاً تماماً في انطباعه الأول، فهذا ما كانت تشيعه كتابات الراحل النقدية في السنوات الأخيرة.

 أما رفيق الستينات، فكان أمراً آخر. رفيق الصبان السوري، اختصره بإخلاص فواز حداد وعمر أميرالاي، لكن السؤال فعلاً: لماذا أصبح ذاك المثقف اللامع في الستينات، منسياً في بلده إلى هذا الحد؟ قلما حضر في صحفها أو كتبها عن المسرح أو السينما؟ لماذا ضاقت عليه الشام واتسعت مصر لعشرات الأفلام التي كتبها للسينما، والكتب والترجمات والمسرحيات؟

غاب الصبان باكراً عن المشهد السوري، ولو أنه حضر ببضعة أعمال من وقت إلى آخر بعد رحيله، حين تعاون مع المخرج هيثم حقي في مسلسلات مثل “مرايا” و”الدغري”. سوى ذلك، اقتصر حضوره على متابعة “مهرجان دمشق السينمائي” الذي ثابر على دعوته. لكن ربما كضيف مصري لا سوري.

 رفيق الصبان من مواليد العام 1931، شارك في ستينات القرن الفائت في تأسيس المسرح القومي التابع لوزارة الثقافة، وأخرج أول عروضه المسرحية، من بينها “براكساجورا” لأرسطو فان، و”الخروج من الجنة” و”العادلون” و”الزير سالم” وسواها. كذلك أسهم في تأسيس “فرقة الفكر والفن” المسرحية، و”فرقة الفنون الدرامية للتلفزيون”.

 وعلى الضفة المصرية فاق عدد السيناريوهات السينمائية التي كتبها، العشرين، وحوالى 16 سيناريو تلفزيونياً. من بين الأفلام التي كتبها: “ليلة ساخنة” من إخراج عاطف الطّيب، “الباحثات عن الحرية” لإيناس الدغيدي، و”زائر الفجر” لممدوح شكري ومحمد حسونة. إضافة إلى عدد من الكتب بين الترجمة والتأليف، وحضوره ودأبه على الكتابة في الصفحات الثقافية في شؤون السينما خصوصاً، ومن ثم في المسرح وغيره من شؤون الثقافة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى