بشير البكرسلام الكواكبيصبحي حديديصفحات مميزةعلي العائدعمر قدور

مقالات تناولت سقوط مدينة تدمر بيد “داعش”

من الرمادي إلى تدمر: حصاد الرعاية الأمريكية لأنظمة الاستبداد/ صبحي حديدي

«قسماً قسماً لنهدمن الساتر ولنردمن الخندق ولنزيلن الأسلاك ولتمسحن الحدود من الخارطة ولتزالن من القلوب»، قال التعليق على الصورة التي وزعتها «داعش»، في مثل هذه الأيام قبل سنة، وفيها يظهر بلدوزر يقوده «أسود الدولة»، يقتحم الحدود العراقية ـ السورية، ويعلن تقويض سايكس ـ بيكو؛ والقول، بالطبع، منسوب إلى «أبو محمد العدناني حفظه الله».

يومذاك كانت «داعش» قد أحكمت السيطرة على ولاية نينوى العراقية الشمالية، وأزالت الحدود مع محافظة الحسكة السورية («ولاية البركة»، في التسمية الداعشية)؛ ضمن منهجية اجتياح مضطردة مكّنتها من الإطباق، بسرعة مذهلة، على مساحات واسعة من الأراضي العراقية والسورية، وعلى رأسها مدينة الموصل، ثانية مدن العراق.

وأمّا اليوم، بعد سنة من الكرّ والفرّ، وانخراط تحالف أمريكي ـ دولي في القتال ضدّ «داعش»، مؤلف من 25 دولة معلَنة، فضلاً عن جهات أخرى تتولى مهامّ سرّية، عسكرية واستخباراتية ومصرفية؛ واستقدام الجنرال قاسم سليماني، مندوباً عن «الحرس الثوري» الإيراني؛ وتشكيل، أو استنفار، ميليشيات شعبية ذات صبغة شيعية طاغية، عربدت ضدّ جمهور السنّة أكثر مما قاتلت «داعش»… ها أنّ الأخيرة تجتاح مدينة الرمادي، فلا تجد أمامها فلول جيش عراقي مفكك مذعور فارّ من المعركة، فحسب؛ بل تضع، في مهبّ الريح، وعلى ألسن النقد والتهكم، كامل ستراتيجية الرئيس الأمريكي باراك أوباما في محاربة «داعش».

المفارقة، أو الطباق على نحو ما، هو التناغم بين سقوط الرمادي العراقية، ونجاح جحافل «داعش» في اجتياح مدينة تدمر السورية، بعد إلحاق هزيمة نكراء بجيش بشار الأسد هناك.

فإذا صحّ ما قيل عن سلسلة إرباكات اكتنفت ستراتيجية أوباما العسكرية في العراق، ومشكلات عديدة اقترنت بمعارك الجيش العراقي ضدّ «داعش» هناك (التفكك، الفساد، سوء القيادة، انخفاض المعنويات، المذهبية…)؛ وصحّ، في المقابل، ما أثبتته الوقائع من تواطؤ، مباشر أو غير مباشر، بين نظام الأسد وميليشيات البغدادي؛ فما الذي منع أوباما من إصدار أوامر بقصف «داعش» وعرقلة زحفها إلى تدمر؟ وإذا وضعنا جانباً احتمال الأخطار المحدقة بآثار المدينة، الثمينة والفريدة، ألا يدخل قصف «داعش» في صلب النطاق الجغرافي واللوجستي لعمليات التحالف في سوريا، أو في أجوائها على الأقلّ؟ وإذا أُعيد تكرار الأسطوانة إياها، من أنّ أوباما انتُخب لكي يُخرج أمريكا من حروب قديمة لا لكي يدخلها في أخرى جديدة، فأي «حرب» هذه التي كانت ستشعلها عرقلة تقدّم «داعش» إلى موقع ستراتيجي يربط تدمر بالرمادي، خاصة وأنّ تطوراً كهذا كفيل بأن يزيد ستراتيجية أوباما ضعفاً على ضعف؟

خلاصات كثيرة يمكن للمرء أن يستمدها من هذه الواقعة، أو الواقعتَين مترابطتَين متزامنتَين؛ لعلّ أوضحها، حتى إشعار آخر بالطبع، أنّ ما جرى ويجري ليس أقلّ من حصاد، متأخر أو كان مؤجلاً، لسياسات أمريكية عتيقة، تتجاوز خيارات أوباما الراهنة، وتضرب بجذورها في تلك التربة الفاسدة التي استقرّ عليها سادة البيت الأبيض منذ عقود طويلة: رعاية الاستبداد، عن طريق السكوت على قبائحه وجرائمه، أو حتى التواطؤ فيها وعليها، مع أنظمة شمولية مستبدة فاسدة ـ كما أقرّت واشنطن، على الدوام ـ لكنها تضمن «الأستقرار» الداخلي، من جهة أولى؛ وتجعل حدود إسرائيل آمنة هادئة، كما في مثال النظام السوري؛ أو تستنزف طاقات البلد في حروب هستيرية عصابية، كما في مثال العراق أيام صدّام حسين، ثمّ بعد «التحرير» أيضاً، من جهة ثانية.

وفي الخريف الماضي أعلن أوباما تلك «الدرّة» في ستراتيجيته لمواجهة «داعش»: أنّ أمريكا، من موقعها الراهن كقوّة كونية هي الأعظم إطلاقاً، سوف تنتصر على هذه المجموعة الإرهابية، كما انتصرت على سواها من قبل، وعلى غرار نجاح أمريكا في الإجهاز على أسامة بن لادن، وإضعاف أنصاره في أفغانستان والباكستان اليمن والصومال. ذلك لأنّ «أمريكا هي التي تمتلك القدرة والإرادة لتعبئة العالم ضدّ الإرهابيين. وأمريكا هي التي حشدت العالم ضدّ العدوان الروسي، وفي دعم حقّ الشعب الأوكراني في تقرير مصيره بنفسه. وأمريكا ـ بفضل علمائنا، وأطبائنا، وخبرتنا ـ هي التي تستطيع احتواء وعلاج انتشار مرض إيبولا. وأمريكا هي التي ساعدت في إزالة وتدمير أسلحة سوريا الكيماوية المعلنة بحيث لا تشكّل مجدداً مصدر خطر على الشعب السوري والعالم». ومجدداً، لا عجب في أن يظنّ المرء أنه لا يصغي إلى الرئيس الأمريكي الرابع والأربعين، بل إلى الرئيس الأمريكي الأوّل؛ أو بالأحرى، كلّ وأيّ رئيس أمريكي حين ينجرف إلى غنائيات امتداح الولايات المتحدة، خصوصاً في هذا الجانب الأثير تحديداً: قيادة العالم.

ولكن… اقرأوا ما يكتبه أساطين أمريكا، أنفسهم، عن ستراتيجية قائدهم هذا؛ وعن تخبّط هذه الإدارة، والإدارات السابقة جمعاء، في معالجة ملفات العراق، تحديداً؛ وملفات سوريا ولبنان وفلسطين واليمن ومصر، تالياً؛ فضلاً عن ملفات أخرى إقليمية، تخصّ المحاور والأحلاف والاستقطابات، من إسرائيل إلى إيران، ومن تركيا إلى أفغانستان. أو فتشوا عن المخفيّ، المسكوت عنه، في لهاث حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، إلى موسكو طلباً للنجدة، من خصم واشنطن تحديداً، وليس من أيّ حليف لها. أو استخلصوا العبرة من إصرار أمريكا على استبعاد الجنرال سليماني، قبل أشهر، مقارنة مع وصول وزير الدفاع الإيراني أحمد حسين دهقان إلى بغداد قبل أيام، على رأس وفد رفيع. أو، أفضل من هذا وذاك، عودوا إلى ما صرّح به أوباما في شباط (فبراير) الماضي فقط، من أنّ «داعش» في حالة دفاع عن النفس وانهيار في المعنويات؛ والعكس تماماً، الذي تقوله وقائع اليوم، في الرمادي وتدمر؟

طريف، إلى هذا، أن يعود المرء إلى «حزب البعث العربي الاشتراكي»، الذي حكم في العراق وسوريا؛ فلم يكن اشتراكياً، إلا بمعنى إفقار الشعب، ونهب ثروات البلاد، وتخريب الاقتصاد؛ ولم يكن عربياً إلا بمعنى إشاعة الطائفية والمذهبية وتفكيك الشخصية الوطنية. ولم تكن «مقاومة الرجعية والصهيونية والإمبريالية»، في السلوك الفعلي لقياداته، إلا الخنوع والتبعية والاستسلام، فلم تُقاوَم إلا إرادة الشعبين السوري والعراقي، ولم تُنتهك إلا كرامة المواطن، ولم تُقمع إلا حقوقه وحرياته. بيد أنّ قادة هذا الحزب هم الذين تنعموا بسكوت أو تواطؤ أو رعاية الإدارات الأمريكية المتعاقبة، إذْ يتذكّر المرء لقاءات صدّام حسين مع وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رمسفيلد، قبيل مجازر حلبجة؛ وصفقات حافظ الأسد مع واشنطن، وإسرائيل تالياً، في لبنان، ثمّ الانخراط تحت الراية الأمريكية في «عاصفة الصحراء»…

وهذا حزب أقام الحواجز، ورفع السواتر، وحفر الخنادق، لا لكي يرسّخ على الأرض ما رسمته اتفاقية سايكس ـ بيكو على الخرائط، فحسب؛ بل، أيضاً، لكي يجعل شعاره المقدّس ـ «أمّة عربية واحدة/ ذات رسالة خالدة» ـ مسخرة المساخر، بعد أن بدأ أصلاً جعجعة بلا طحن. وهكذا كان أبو محمد العدناني، الداعشي، ابن بنش السورية، القيادي المتنفذ في الأنبار العراقية، وليس أي بعثي، صغير أو كبير؛ هو الذي أعلن تقويض حدود سايكس ـ بيكو، في واحدة من مفارقات حزب البعث الأدعى إلى الضحك والازدراء في آن. وأمّا الحصاد الأمريكي من عقود احتضان أنظمة الاستبداد والفساد، فلعلّ نتائجه الأشدّ مرارة ما تزال كامنة في قادم أيامٍ حبالى… يلدن، أغلب الظنّ، كلّ عجيب!

 

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

دولة داعش/ بشير البكر

تضعنا التطورات اليومية في العراق وسورية أمام احتمال قيام دولة داعش، بعدما بات “التنظيم” يسيطر، في صورة شبه تامة، على أكثر من مساحة ثلث العراق، وأجزاء واسعة من سورية. والحقيقة التي تصفع الجميع هي أنه ليست هناك قوة قادرة على وقف تقدم داعش المتواصل، وحتى الولايات المتحدة التي راهن بعضهم عليها أعلنت أن هذه المسألة مستحيلة، وهذا ما برهنت عليه معركة الأنبار التي احتلها داعش في مطلع الأسبوع الحالي، وأتبعها بالاستيلاء على تدمر.

قريباً تمر سنة على اجتياح داعش مدينة الموصل وتمدده منها نحو مدن غرب العراق، وتركيز وجوده في مدن الشرق السوري، من الرقة إلى دير الزور والحسكة وأخيراً تدمر. وخلال هذه السنة، انتقل داعش من جيش قوامه حوالي ثلاثين ألف مقاتل، في الصيف الماضي، إلى جيش ضخم يتجاوز مائة ألف، وبسلاح حديث غنمه من الجيشين، العراقي والسوري. وإزاء هذا الوضع، هناك عدة ملاحظات تطرح نفسها بإلحاح. أولها أن الحملة الجوية الدولية التي تقودها الولايات المتحدة ضد داعش في العراق وسورية، منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، لم تحقق نتائج ميدانية كبيرة، وكانت التقديرات ترسم صورة مختلفة، وركزت التصريحات الأميركية على هدف تدمير قوة التنظيم، تمهيدا للانقضاض عليه عسكرياً بقوات برية. لكن، باستثناء نتائج متواضعة حققتها البيشمركة العراقية، لم تأت الحصيلة على مستوى الحسابات، بل على العكس، وها هو داعش يسقط أكبر مدينة عراقية، ويستعد لاجتياح بغداد التي يبدو أنها هدفه الرئيسي المقبل في هذا الصيف، وذلك بعد أن أمّن ظهره لمعركة كبيرة، من خلال السيطرة على الموصل والرمادي، بالإضافة الى امتداده الحدودي في سورية الذي يصل إلى الرقة والبادية، وهذه رقعة جغرافية كبيرة، تسمح لأي طرف محارب بأن يخوض معركته بارتياح شديد.

والملاحظة الثانية أن التدخل الايراني لوقف تقدم داعش في العراق لم يحقق نتائج منظورة، وقد شاركت إيران في معارك الأشهر الأخيرة في تكريت وصلاح الدين وبيجي، وأرسلت إلى ميادين الحرب قادة وضباطاً ومستشارين، بقيادة قائد الحرس الثوري، قاسم سليماني، لكنها أعلنت عن انسحابهم، وتركت مليشيات الحشد الشعبي الطائفية التي شكلتها تخوض المعركة بإسناد أميركي، وحصل بعض التقدم، ولكن تبين أنه ناتج من تكتيك داعش الذي انسحب مؤقتا من بعض المناطق، ثم استرجعها. وقد ظهر جلياً أن طهران ليست في وارد الزج بقواتها في العراق، على الرغم من أن المليشيات التي تدعمها غير قادرة على القيام بالمهمة وحدها، وسيبدو هذا الأمر أكثر وضوحا في الفترة المقبلة، حينما تغدو بغداد وكربلاء هدفين مباشرين لهجوم داعش، وإذا لم تتدخل إيران عسكريا لحسم الوضع في الرمادي، فإن مصير بغداد لن يختلف عن مصير الموصل والرمادي، وقد يكون أسوأ بكثير.

والملاحظة الثالثة أن داعش يحقق الانتصار تلو الآخر في العراق وسورية، وهو يعرف أن الفرصة سانحة للتقدم، ولذا، فإنه ليس في وارد تغيير استراتيجيته الهجومية، وأمام العجز الدولي عن مواجهته، وتهاوي بنية النظامين، العراقي والسوري، فإنه يتصرف على أساس أن الطريق ممهدة أمامه، ليصير الطرف الأقوى في هذه المنطقة، وعلى امتداد الرقعة الجغرافية التي يتحرك عليها، ليس أمامه قوة غير إيران، فإما أن تدخل في مواجهة مكلفة معه في العراق أو تضطر لمهادنته.

لن يجد المارد المدعو داعش، على ما يبدو، من يقف في وجه مشروع دولته في العراق والشام، وفي ظل العجز عن مواجهته، لا يلوح في الأفق سوى مشروع تقسيم سورية والعراق إلى أقاليم مذهبية، وهنا الكارثة الكبرى.

العربي الجديد

 

 

 

 

كسر “القوقعة”/ حسام عيتاني

يخرج بطل رواية مصطفى خليفة «القوقعة» من سجن تدمر الرهيب ليكتشف انه يعيش في قوقعة وسجن أكبر. صديقه وسيم الذي افرج عنه بعد فترة، يصطدم باستحالة الحياة في «سورية الاسد» حيث يمنعه ضابط الامن الذي تزوج شقيقة وسيم قسراً وقهراً من زيارتها، فلا يجد السجين الخارج الى الحرية المفترضة معنى للإنعتاق غير إلقاء نفسه من بناء مرتفع لينهي حياته جسداً محطماً على اسفلت الشارع بعدما حطمت آلة القمع روحه وآماله وحقه البسيط في الحياة.

اليوم، استولت «داعش» على السجن الجحيمي وورد في الانباء انها افرجت عن سجناء لم يُعرف عددهم بدقة وقيل ان من بينهم من قضى هناك ثلاثة عقود ونيف، ومن جنسيات مختلفة. بعد رواية خليفة وغيرها من الشهادات التي دوّنها نزلاء سابقون في تدمر كفرج بيرقدار وياسين الحاج صالح وغيرهما، يصعب تقدير حجم الضرر الذي لحق بالمفرج عنهم، جسدياً ونفسياً. ويصعب أكثر تصور كيفية عودتهم الى عائلاتهم وقراهم ومدنهم، بعد الأهوال التي عانوا شخصياً منها وبعد الزلازل التي تضرب بلدهم منذ اكثر من أربعة أعوام.

السؤال أكبر من مصائر أفراد وقعوا بين أنياب وحش القمع الأسدي، ومن صعوبات سيواجهها كل واحد منهم ومن افراد عائلاتهم للتأقلم مع الظروف الجديدة خصوصا عند من انقطعت اخباره منذ اعوام، وفق اسلوب العقاب المتبع عند «الأمن» السوري باخفاء المعتقلين. السؤال الآن يتناول القوقعة الأكبر التي سيجد المفرج عنهم انفسهم فيها على النحو الذي وجده بطلا رواية مصطفى خليفة في القوقعة الكبيرة المسمّاة سورية الاسد.

هل يعتبر الانتقال من سجن بشار الاسد الى سجد «داعش» تحرراً؟ قد يقول قائل ان مجرد الخروج من وراء القضبان هو حرية وان من غير اللائق اخلاقياً الانتقاص من الانجاز الكبير المتمثل في نيل هؤلاء السجناء حرية ولو منقوصة وجزئية. وهذا جدال لن يصل الى نتيجة بسبب البون الشاسع في تفسير معنى الحرية عند من هم وراء الجدران ومن هم خارجها.

لكن قبل استيلاء «داعش» على السجن، يتعين الانتباه الى معناه في منظومة السلطة التي حكمت سورية ولبنان على امتداد عقود. كان السجن «دُرجْاً مهملاً» يركن النظام فيه من قرر التخلص منهم من دون ان يحدد موعداً لذلك. اشخاص لا مكان لهم في دولة البعث حيث «لا مكان الا للتقدم والاشتراكية»، على ما قال مؤسس النظام وعرّابه، فيما من يقبع في السجن لا تنطبق عليه المواصفات التي حددها الاسد الأب وأعوانه. انه الجحيم الارضي الذي يعد المقيمين فيه للجحيم الأخروي. جحيم يملك مفاتحيه قضاة عسكريون وضباط وجنود لا يعرفون للأخلاق وللشرف معنى.

وإذ خرج سجناء تدمر اليوم من زنزاناتهم الى سورية المدمرة (وعاد من قيل انهم لبنانيون ما زالوا احياء في تلك المقبرة)، فإن ما يحملونه الى القابعين خارج اسوار السجن أهم كثيراً مما يمكن أن يقدمه الحاصلون على حريتهم المفترضة خارجها. يحمل الأسرى المحررون تذكيراً بليغاً ليس بالمآسي الشخصية والجماعية التي اودت بهم الى غياهب تدمر وما يشبهه، بل بالاحرى بالأسباب التي جعلت تلك المآسي ممكنة وعامة ومسكوتاً عنها من قبل السكان المروعين والخائفين من ملاقاة المصير ذاته.

هؤلاء المحررون يشكلون علامة النهاية للحقبة الاسدية المرعبة، لكن ليس من ضمانة على ان حقبة لا تقل رعباً يؤسسها حَمَلة «هم هذه الامة» ممن يبنون «سجون توبة» في المناطق السورية التي خرجت من سيطرة النظام. كسر «القوقعة» مهمة لا تتعلق فقط ببقاء بشار الاسد.

الحياة

 

 

تَدْمُر وأهل الكهف/ عمر قدور

في نهاية التسعينات، تجمهر عدد من المسافرين في محطة حمص للحافلات، كانوا ينظرون بدهشة إلى ثلة غريبة السحنات والملابس، أفرادها يطرقون رؤوسهم إلى الأرض خائفين. كانت سيارة المخابرات قد أتت بتلك المجموعة من سجن تدمر وأوصلتها إلى باب المحطة، وكان أفراد المجموعة يرتدون الملابس ذاتها التي اعتقلوا وهم يرتدونها قبل نحو عقدين، وجميع أفرادها لم يُمنحوا حق الزيارة في السجن ليطلعوا من أهاليهم على ما يحدث خارجاً. تلك كانت مجموعة من معتقلي «الإخوان»، أما خفض الرؤوس بذلّ مشوب بالخوف فأمر يعرفه كل المعتقلين، إذ تنص تقاليد الإذلال على عدم السماح برفع الرأس في مواجهة السجان وإلا نال «المخالف» عقوبة شديدة.

ربما تكرر الأمر ذاته مقلوباً لدى سيطرة «داعش» على سجن تدمر، فهناك من السجناء من اعتقل عندما لم يكن من وجود لـ «داعش»، وسيُفاجأ بلا شك بأولئك الملثّمين الآتين من عصر يجهله، وسيُفاجأ أيضاً بالتطورات العامة في البلاد، مثلنا نحن لو نمنا نومة عميقة طوال السنوات الأربع الأخيرة وأفقنا الآن. لكننا، إزاء حالة المعتقل الذي سيهبط على زنزانته أولئك الملثّمون، لا ندري حقاً أيّ الطرفين أشبه بأهل الكهف، وأيّاً منهما يتداول عملة قديمة باطلة!

لكن المفارقات الزمنية قريبة العهد لا تكتمل من دون المفارقة الكبرى التي أسسها نظام الأسد، المفارقة التي تجعل من اثنين من أهم المعالم التاريخية في سورية مقرونين بأفظع سجنين، هما سجن تدمر وسجن صيدنايا. العامل اللوجيستي، حيث تقع تدمر وسط بادية مكشوفة وتقع صيدنايا وسط جبال محصنة، لا يكفي لتبرير ذلك، فهناك مناطق أخرى في البادية أكثر عزلة، وهناك جبال محصنة لا تحمل رمزية تاريخية يمكن اختيارها كمكان لاحتواء أسوأ بشاعات النظام. من تدمر يكاد السوريون لا يعرفون سوى سجنها، وربما بنسبة أقل يعرفون تفاصيل المجزرة التي ارتكبتها قوات النظام في حق السجناء العُزّل في حزيران (يونيو) 1980، بقيادة مباشرة من صهر رفعت الأسد. ومن صيدنايا التي لم تسمع غالبية السوريين باحتضانها أحد أهم الأديرة في العالم ولا حتى معنى اسمها الآرامي «سيدتنا»، يعرف السوريون منها السجن الذي ارتكبت فيه مجزرة، أيضاً في حق المعتقلين الإسلاميين عام 2008، وهذه المرة كانت كما تبين من التسجيلات المسرّبة بإشراف وحضور شخصيين من ماهر الأسد.

بالطبع، السيّاح الغربيون الذين يأتون لزيارة المدينتين لم يكونوا على دراية أو اكتراث بما يحدث في سجنيهما، وقد يكون بعضهم الآن في طليعة المتألمين بسبب سيطرة «داعش» على تدمر، بينما يقع موضوع آثارها في أخذ ورد بين سوريين تَرجح كفة الآثار لدى قسم منهم وتَرجح كفة المعتقل لدى قسم آخر. هنا تتجلى واحدة من أخطر المفارقات التي أوجدها النظام بين السوريين والعالم، تماماً في جوار السيّاح الذين يلتقطون صوراً تذكارية لهم ثمة سوريون يموتون يومياً تحت التعذيب، أو يموتون جماعياً بفعل المجازر. هكذا تنقسم تدمر، أو صيدنايا، بين العمق الحضاري المُقدَّم إلى الخارج، والأعماق المظلمة المُعدَّة للداخل. لقد كُتب الكثير عن مفارقة أن يُسمي النظام واحداً من أقذر أجهزته الأمنية باسم «فرع فلسطين»، ولئن كانت تلك المفارقة تفضح أكذوبة الممانعة فإن الاستخدام المزدوج لأشهر المعالم الأثرية يدلل على بشاعة مفادها أن تاريخكم البعيد فرجة للآخرين وسجن قاتل لكم.

كان حافظ الأسد، كما يصوّره مادحوه، ملمّاً بالتاريخ وعاشقاً له. حزب البعث أيضاً بنى أيديولوجيته على مرحلة من التاريخ. في المعنى البعيد، عملت «التربية» البعثية والأسدية على جعل التاريخ سجناً فكرياً لعموم السوريين، لأن هذا وحده كفيل بعزلهم عن التطورات الواقعية والفكرية في العالم. الصورة – المثال الذي كان يبتغيه الأسد، واستورد من أجله نماذج من كوريا الشمالية ورومانيا تشاوشيسكو، جعل السوريين أشبه بأهل الكهف، فتحت كذبة استعادة التاريخ المشرق كان ثمة سعي حثيث لإيداع هذه الكتلة البشرية في ذمة التاريخ.

باختيار تدمر وصيدنايا مقرّين لأعتى معسكرات الاعتقال تكون رؤية الأسد للتاريخ قد تجسدت فعلاً، بل إن منظر أولئك التعساء في محطة حافلات حمص لا يختلف من حيث الجوهر عن خروج بعض السوريين إلى الفضاء العام، أي ذلك الخروج المقرون بعدّة فكرية وإمكانات متواضعة تم تجاوزها عالمياً. أيضاً، لن يكون مفهوماً اليوم من الغرب قلة اكتراث شريحة واسعة من السوريين بمصير آثار تدمر، وقد تبدو هذه الشريحة غريبة الأطوار أو قاصرة فكرياً إذا لم يؤخذ في الاعتبار أنها عاشت السجن المجاور لذلك المتحف.

في ما يخص تَدْمر، تحديداً الآن، لا يظهر التاريخ في موقعه الطبيعي، فهو إما عرضة للتدمير النهائي بأيدي «داعش»، أو البقاء سجناً على المستويين الرمزي والجسدي. يمكن القول أن السوريين في حاجة ماسة إلى الشفاء من تدمر ومن صيدنايا، لكن الشفاء من التاريخ البعيد والسجن الحالي لن تحققه أيديولوجيا آتية من 1400 سنة خلت، ولن يحققه في الطرف المقابل أصحاب مظلوميات ترجع إلى الحقبة نفسها. على الصعيد الرمزي، لن يُشفى السوريون من تدمر إلا عندما يتحول سجنها متحفاً ينتمي إلى العهود الغابرة أسوة بآثارها الأخرى، أي بالسير عكس الأيديولوجيات التي تحول المتحف إلى سجن معاصر.

ربما تكون المفارقة الأصغر في أن الإسلاميين هم أكثر من اختبر بشاعة سجني تدمر وصيدنايا قبل الثورة، لا بسبب المجازر التي تعرضوا لها في السجنين فحسب، إنما أيضاً بسبب سياسة التعذيب المفرط والعزل التام. المفارقة الأخرى المتصلة بها هي تلك المقولات الرائجة عن تعمد النظام الإفراج عن الإسلاميين مع مستهل الثورة لاصطناع خصم متطرف، كأن أصحابها يضمرون تأييداً لاعتقالهم خارج أي محاكمة عادلة. فإذا كان هناك أمل ضئيل بمعالجة الأصولية من خلال الاحتكاك بالواقع والآخر، فسياسة العزل التام، حتى ضمن السجن نفسه، تتكفّل القضاء عليه.

مرة أخرى، وفي صياغة معاصرة لسيرة أهل الكهف، في منتصف التسعينات سُمح لبعض سجناء «الإخوان» بتلقي زيارات الأهل للمرة الأولى بعد عقد ونصف العقد. أحد السجناء خاطب ابنته الآتية لزيارته باسم زوجته. كانت الابنة صارت في عُمر زوجته عندما اعتقل.

 

 

 

 

داعش في تدمر.. مدرسة قائمة وتتوسّع/ سلام الكواكبي

سأل صديقي سيدة أجنبية عن أجمل موقع زارته في سورية، فقالت له بتلقائية: أقمت يومين في تدمر وعشقتها. فأجابها ببرود شديد: أقمت فيها عدة أعوام ولم تعجبني البتة. .. كان صاحبي “مُستضافاً” في سجنها الشهير.

في ثمانينيات القرن المنصرم، قرر الحاكم بأمره الصغير ووالي المدينة الذي كانوا يسمونه مُحافظاً، القيام بتدمير جزء كبير من نسيج حلب المعماري الأقدم. كما قرر إحلال “الأحجار المهترئة” بأبنية تجارية وإدارية وسياحية. وفي احترامٍ واجب للبعد العسكري/الأمني لإدارة البلاد، أوكلت المهمة إلى شركات “إعمارية” تابعة للجيش، وبدأت الجرّافات في عملها الميمون، لإزالة ما تيسّر من الحي. لم تكن العملية جزءاً من نظرة “حداثية” للتطور العمراني، كما جرت عليه العادة في المخططات التي فتحت الشوارع الكبيرة في وسط المدن الأثرية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. حينها، كان التصور مشوّها لفكرة تطوير المدينة، لكنه لم يكن حاملاً جرعة الحقد تجاه الذاكرة الجمعية، أو رافضاً للارتباط المدني بالعمق التاريخي. الانتقامات من النسيج العمراني التقليدي جرت في الحقب اللاحقة، والتي اشتد فيها عود الاستبداد، واختفت فيها نسبياً أية أدوار للمجتمع المدني المُغيّب، أو المُدجّن.

أمام هذه الهجمة الشرسة على ذاكرة المدينة، تصدت مجموعة من مثقفيها الناشطين ضمن جمعية العاديات التي تُعنى بالتراث والحفاظ عليه، في حدود الممكن. وما كان من حال الحاكم بأمره الصغير إلا أن اتهم القائمين على هذا التحرك بالعمالة للامبريالية وللمخابرات الأميركية. فنبهته الأجهزة الأمنية الساهرة على قهر البلاد بأن التهمة المقدمة غير قابلة للتصديق، باعتبار أن غالبية المنضوين في إطار هذا الاحتجاج من خلفيات يسارية أو عروبية، فطوى صفحة تدمير الحيوات، لكنه تابع مشروعه في تدمير المدينة. وكانت هذه المواجهة بداية النهاية لجمعية العاديات، والتي أسسها الحلبيون في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين.

“قيل القليل عن التدمير الممنهج بعباءة التحديث، أو عباءة الترميم. والقليل جداً أيضاً ذُكِر عما تمت سرقته بشكل منظم من خلال التنقيب العشوائي، أو من خلال بعض أفراد “عليّة” القوم الذين كانوا (وما زالوا؟) مكلفين بتصريف المسروقات من الآثار في الأسواق والمزادات العالمية” كانت المنطقة المستهدفة تحتوي، فيما تحتويه، على جزء مهم من سور المدينة. كما تم تدمير أحياء بكاملها تعود إلى قرون غابرة، بما تحتويه من أسواق وخانات، وتوسعت إمكانات الفساد والإفساد لدى مختلف الأجهزة الإدارية القائمة على المشروع. ولم يتم التوقف عن العمل في إطاره إلا بعد تصنيف اليونسكو المدينة جزءاً من التراث العالمي، ومنع القيام بأية عملية هدم فيها. ولم تكن الاستجابة إلى هذا الأمر مرتبطة باحترام القرارات الدولية، أو الإصغاء إلى النداءات الإنقاذية بقدر ما كانت جزءاً من عملية تجميل للمنظومة السياسية، التي كانت تعاني من فقدان مميت للقطع الأجنبي، وبحاجة للسياحة الجاذبة لهذا القطع.

في الفترة نفسها، قرر الحاكم الصغير، نفسه، إقامة مهرجان للرقص وللغناء في موقع حلبي تراثي، فوقع اختياره على القلعة الأيوبية، فأوعز ببناء مسرح إسمنتي مكشوف في وسطها الذي يحتوي على أهم أوابدها، وهو المعبد الحثّي. وقد قال إنه كان يود أن يحول القلعة بأكملها إلى مركز تجاري، لو قُيّض له.

كتب باحثون كثيرون عن الاستخدام السياسي للمكتشفات الأثرية من الأنظمة الديكتاتورية، وما كُتب عن سورية يعتبر الأهم والأكثر دلالة. ولكن، قيل القليل عن التدمير الممنهج بعباءة التحديث، أو عباءة الترميم. والقليل جداً أيضاً ذُكِر عما تمت سرقته بشكل منظم من خلال التنقيب العشوائي، أو من خلال بعض أفراد “عليّة” القوم الذين كانوا (وما زالوا؟) مكلفين بتصريف المسروقات من الآثار في الأسواق والمزادات العالمية. يُضاف إلى هذا كله، الجهل الممنهج الذي طغى على أجيالٍ من السوريين بالقيمة الرمزية، وليست المادية، لما يحتويه بلدهم من مواقع ومن أوابد، مما يشرح قليلاً العلاقة غير السوية الموجودة بين بعض المجتمع وهذه الآثار. وهذا يدخل في إطار أوسع للعلاقة بين المواطن والمجال العام، والتي ترعرعت في ظل الكره والخوف، وما نجم عنه من رغبة في الانتهاك وفي الانتقام من هذا العام المرتبط في اللاوعي بالسلطة المستبدة.

ما ورد من أمثلة ليس إلا شوكة من حقل صبّار، زرعته النظم المستبدة، والتي عاملت المواقع الأثرية كمصدر إثراء شخصي، أو مصدر سياحة تدرّ الدخل الشخصي/ العام، لانعدام التمييز الحقيقي بين الاثنين، في هذا الإطار. ومن نافل التذكير أن غالبية البعثات العاملة على التنقيب في سورية كانت أجنبية، وكانت المساهمة السورية فيها، إلا فيما ندر، لمراقبة شهقات وزفرات هؤلاء الأجانب المشكوك بأمرهم، حتى يثبت العكس ضمن العقلية الأمنوقراطية.

داعش يكره الآثار بمقدار ما أسست له الدكتاتوريات من إشكاليات مع المجال العام والذاكرة الجمعية، مع إضافة بعدٍ ديني مشوّه. وما قام به في العراق، وسيقوم به في تدمر، تقليدٌ استبدادي قائم في المنطقة بلبوس متلوّنة. وقد أثبت هذا التنظيم الإرهابي، وعلى أكثر من صعيد، أنه تلميذ نجيب في مدرسة قائمة. الاستبداد الديني الداعشي تعبيرٌ “حداثي” عن الاستبداد السياسي القابع على صدور الأمة، منذ فشل الدولة الوطنية في تثبيت أقدامها، إلا بالقهر والتخريب.

العربي الجديد

 

 

 

 

تدمير تدمر لو تمّ: حدث كونيّ لن يرحم/ وسام سعادة

أمام الكنوز الحضارية لمدينة تدمر بالتحديد، وقف الرحالة والمستشرق والسياسي الفرنسي الكونت دو فولني في أواخر القرن الثامن عشر، يحدّث الآثار الباقية من شرق العصر القديم، فيطيب له أن يروي كم كابد المشقات للعروج اليها، في حين ينظر اليها الشرقيون في عصره إما بارتياب وإما بانعدام مبالاة.

وضع فولني في عصره، تصوّراً «تدمرياً» لحال الشرق، جرى استثماره لاحقاً استشراقياً .. واستعمارياً.

اعتبر أن الآثار الباقية من العصر القديم فيه مفصولة تماماً عن حاضره، فناجاها، ثم تكلّم باسمها، معتبراً أنّ ما كان في الماضي حضارة مجيدة صار اليوم ركام حضارة، وأنّ ركام الحضارة الذي يفسّر حال الشرقيين، يفصلهم أيضاً عن أي تفاعل مع ركام الآثار الباقية، كحال الكنوز الساطعة وسط الصحراء، لمدينة تدمر.

اليوم، والموضوع يحتسب ساعة بساعة، تتعرّض هذه الكنوز لخطر تبديدها، بالتحطيم، مع تسييل الفتات في قنوات مافيا الآثار. الكارثة المحدقة بتدمر هي جزء من الكارثة السورية العراقية الكلية، وهي أساساً كارثة تحول نظام آل الأسد الى نظام احتضار دموي مزمن، وهي جزء من النكبة الاركيولوجية التي بدأت بتدمير الأسديين لحلب وتدمير آثار شمال العراق على يد عناصر «داعش». نحن عشية حدث كوني لا يزال الكثيرون منا لا يحتسبون خطورته، ولا ينفع مداراته بالتلهي بثنائية «البشر أو الحجر». التقاطع بين نظام أسدي متهالك، وبين حيوية تنظيم «داعش«، على تدمير تدمر، وتحويلها الى حدث كوني، الأول للبحث عن طوق لنجاته في هبّة إسلاموفوبيا عالمية، والثاني لإظهار القسمة الكونية بينه وبين باقي العالم، لا طرف ثالثاً، هذا التقاطع، وعلى أرض تدمر بالذات، يتجاوز بأبعاد، كل ما يحصل على جبهات أخرى.

لم تعد نظرة الشرقيين لآثار العصر القديم كما وصفها فولني في عصره، هذا إذا سلمنا جدلاً بما كتبه عن قلة اكتراثهم، أو تحفظهم، على هذه الشواهد الباقية. في الوقت نفسه، لم تستطع الكيانات الوطنية المشرقية في مرحلة ما بعد الاستعمار أن تتعامل مع آثار العصر القديم بشكل سليم. «العروبة»، بالشكل الذي اعتمدت، تحسست من هذه الآثار، أو حاولت «تعريب» العصر القديم نفسه، بكاريكاتيرية شعاراتية من قبيل «بابل من نبوخذ نصر الى صدام حسين». وبالتوازي، من بحث عن هويته الضائعة وراء هذه الآثار، أظهر من جهته، نزوعاً للمكابرة على الطابع العربي الإسلامي الغالب منذ قرون عديدة على هذه المجتمعات. الى حد كبير، بقيت تدمر وأخواتها مجرّد توظيفات مشهدية لمفهوم «العراقة» يستخدمه كلّ في اتجاه اعتباطي، في حين أن التوظيف العملي الغالب كان اعتبار هذه الآثار تعني السواح الأجانب أولاً.

فولني طوّر نظرة استشراقية طريفة وهو يحدّق في آثار تدمر. نظر فقال إنّه لم يبق من العصر القديم إلا ركام حضارته، وأن شعوب هذه المنطقة، عريقة في الحضارة لكنها لم تعد تمارسها، بل صارت في غفلة، ولا بدّ من إيقاظها، ولا بد أن يتم ذلك من خارجها، ومعروف كم غذّت أفكار فولني مخيلة الجنرال نابليون بونابرت وصولاً الى تنفيذها في الحملة على مصر وبلاد الشام.

لكن أن يحوّل ركام العصر القديم المتبقي من خلال آثار تدمر واخواتها الى ركام بدوره، فهذه لم يكن يحتسبها فولني. التقاطع بين نظام آل الأسد وبين تنظيم «الدولة» والذي يتجه لتدمير هذا الميراث الحضاري هو رد ثنائي على فولني. بشار الأسد يقول: «أنا الحضارة المستمرة منذ العصر القديم الى اليوم، وأنا التنوير كله، وإلا فعلى الدنيا الظلام». ابو بكر البغدادي يقول من بعده: «وأنا الحداثة المطلقة التي لا تبقي قديماً في هذه الأرض، في مقابل الحداثة النسبية التي كانت متعايشة مع هذه الآثار من أجل سائح«.

فولني كان يناجي الركام. ركامنا الآن يناجي فولني. كانت تهمة المستشرقين أن آثار العصر القديم في بلادنا تشهد على انفصال حاضرنا عن المجد القديم، فجاء التبرؤ من هذه التهمة على شكل مصادرة أسدية لـ»التنوير» في مقابل مصادرة داعشية لـ»الحداثة».

المستقبل

 

 

 

 

“داهش” الرمادي و”داهش” تدمر/ راجح الخوري

عندما يتمكن تنظيم “داعش” من السيطرة على الرمادي مركز محافظة الأنبار العراقية وعلى مدينة تدمر التاريخية في سوريا في خلال ٤٨ ساعة، لن يكون من المستغرب إذا استبدل البعض حرف العين بالهاء لنصبح امام “داهش” بدلاً من “داعش”.

ليس هذا تعليقاً على ما كتبته “الواشنطن بوست” من ان باراك اوباما أصيب بالدهشة عندما علم بسقوط الرمادي، وأنه لم يكن يتوقع ان يحرز الإرهابيون هذا الإنتصار، بل لأن “داعش” يوسّع سيطرته في مناطق عراقية وسورية ذات أهمية استراتيجية وإقتصادية، على رغم الإعلان قبل تسعة أشهر وتحديداً في ١٠ ايلول من العام الماضي، عن قيام تحالف دولي من أربعين دولة لمحاربته، فهل بات هذا التحالف من النسيان أو من الأوهام؟

“الداهش” لا بل الفاجع ان ما حصل في الموصل تكرر في الرمادي فقد فر الجنود العراقيون تاركين وراءهم أرتالاً من الأسلحة الثقيلة وهو ما أثار الغيظ في واشنطن، التي اعلنت انه كان يمكن تلافي الهزيمة لو ان الحكومة العراقية كانت أسرع في اشراك العشائر السنّية في الأنبار في معركة الدفاع عن أرضهما، ولهذا لن تتوانى عن تقديم السلاح مباشرة الى عشائر الأنبار!

يدرك العراقيون جيداً ان سيطرة “داعش” على الأنبار تشكل خطراً حقيقياً على بغداد وعلى محافظة كربلاء ايضاً، ولهذا كانت دهشة أوباما مضاعفة لأنه يعرف انه لولا مساندة الطيران الأميركي لما كان في وسع “الحشد الشعبي” الشيعي ان يدخل تكريت، ولن يكون من السهل عليه الآن دخول الرمادي.

سقوط تدمر التي تعرف بأنها “لؤلؤة الصحراء” بعد ٢٤ ساعة في يد “داعش” يجب ان يصيب أوباما وكثيرين غيره بما هو أكثر من الدهشة، ليس لأن العالم المتحضّر سينضم الآن الى زنوبيا ملكة تدمر التي هزمت الفرس عام ٢٧٠ ووصلت الى آسيا الصغرى، في ذرف الدموع على الآثار الثمينة التي ستتعرض للتدمير كما حصل في الموصل فحسب، بل لأن تدمر يمكن ان تشكل منجماً ثرياً جداً لتمويل الإرهابيين!

صحيح ان الدواعش غنموا كميات كبيرة من الاسلحة والذخائر مع اقتحامهم تدمر، ولكن الأهم انهم سيقيمون تجارة غنية جداً للآثار التدمرية في السوق السوداء ثم يدمرون ما يتبقى، لينصرفوا الى استغلال حقول الفوسفات الغنية في المنطقة.

ان سيطرة “داعش” على تدمر لها أهمية جغرافية تؤثّر في مسار المعارك لأنها تفصل شمال سوريا عن جنوبها وشرقها عن غربها وجنوبها، وهو ما يمكن ان يربك قوات المعارضة في القلمون والغوطة، فهل يعني هذا مثلاً ان النظام سلّمها كما حصل في الرمادي لحسابات تتعلق بالمعركة الدائرة في القلمون وغوطة دمشق؟

النهار

 

 

 

 

تدمر:أم سياف تخلف الملكة زنوبيا/ ساطع نور الدين

فلتقرع الاجراس الان: دخل داعش الى مدينة تدمر التاريخية. وهو لا يبدو انه ينتقم من الملكة زنوبيا بعدما اقدم الاميركيون على اعتقال السيدة أم سياف، زوجة المسؤول النفطي في تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” الذي قتل في الغارة الاميركية الاخيرة على دير الزور، والتي كانت مكلفة بشؤون التعذيب والقتل لاسيرات التنظيم وبينهن رهينة أميركية قتلت اخيراً.

من المستبعد ان يكون الاميركيون قد خطفوا السيدة أم سياف لانه ثبت لديهم أنها هي الزعيمة الفعلية للتنظيم، وليس أبو بكر البغدادي او أبو التيم او أبو سياف او سواهم من قادة داعش الذين تتردد اسماؤهم كل يوم..او لانها هي التي وضعت خطة فتح تدمر بأمل الجلوس على عرش الملكة زنوبيا.هوية التنظيم وفكره وبنيته لا تسمح بمثل هذا الترف. وتجربة اميركا وسياستها وسلوكها لا تقيم وزناً لمثل هذا الجدل.

المؤكد الان ان التنظيم سيمحو كل أثر في المدينة العريقة التي صمدت منذ القرن الاول قبل الميلاد وحتى اليوم، على الرغم من أن المعالم المتبقية من المملكة التاريخية ستكون عصية على الهدم او حتى التفكيك، كما ان موجودات متحف المدينة (التي يقال انها نقلت الى العاصمة دمشق) لا تزيد أهمية على سجلات سجنها الشهير الذي استضاف الكثيرين من المعارضين السوريين في عهدي الأسد الاب والابن تحديداً.

معركة التنظيم، الذي يرجح ان يشطب أسم زنوبيا من سجلات النفوس ويحظر على النساء التكني به، لن تكون هذه المرة مع التاريخ وحده، كما ان فتوحاته لن تكون في الجغرافيا فقط: ثمة تحول سياسي دراماتيكي في الأزمتين العراقية والسورية، يتمثل في كون دولة الخلافة الاسلامية تتوسع وتترسخ اكثر من اي وقت مضى، برغم الضربات التي تتعرض لها من كل حدب وصوب، او حتى بفعل هذه الضربات. ها هي تطل من جديد على بغداد من الرمادي، وتقترب من دمشق عن طريق تدمر-حمص.

هذا التوسع هو إنذار وإخطار في آن معاً: الحملة العسكرية العالمية التي تشن على داعش أخفقت في دحره او حتى تطويقه. السياسات والادوات التي استخدمت ضده حتى الان لم تعد مجدية. الخيار الاميركي لم يكن حاسماً لانه إستند الى منطق سياسي متردد ومشوش، والاعتماد على نظام الرئيس بشار الاسد كان يتسم بالحماقة بقدر ما كان إستفزازياً،وقد ساهم فقط في كشف المزيد من وهن النظام وفي دحض حجته الدائمة بانه النقيض لذلك التنظيم والقادر على تصفيته.

حصل العكس تماماً: منذ ان بدأت تلك الحملة إزداد داعش قوة ومنعة. ففي واشنطن، ما زال الرئيس باراك أوباما يردد ان الحل لن يكون عسكرياً- مع ان داعش ليس تنظيماً سياسياً- ولن يتم ارسال القوات الاميركية الى سوريا، مع ان احداً لم يطلب غزواً اميركياً جديداً، بل خطوات بسيطة جداً ومساعدات غير مكلفة ابداً. وفي دمشق، ما زال النظام يعتبر ان السوريين الذين سينجون من غاراته الجوية والصاروخية، سيتوسلون منه البقاء في الحكم والى الابد.

خيبتان تصنعان اليوم مجد داعش، وتساهمان في اقامة دولته السيدة المستقلة، التي لن ترسم حدودها النهائية الا بعد استكمال الفتوحات في منطقة الفراغ السياسي والعسكري. القرار الاميركي بتوفير الدعم المباشر الى الميليشيات العراقية المقاتلة على الجبهة مع داعش، في الانبار، جاء متأخراً جداً، وكذا الامر بالنسبة الى البحث الاميركي الروسي المتجدد في مرحلة ما بعد بشار في سوريا.

لا يبدو ان داعش يقاتل دولاً وجيوشاً وافكاراً، بل هو يحارب ميليشيات مثله، وضعتها الصدف في مواجهته. وهو سينتصر لان الملكة زنوبيا غير قادرة على الذود عن مملكتها التي اشتهرت بتحولها الى سجن تخرج منه كل من يمكن ان يدافع عن سوريا

المدن

 

 

 

 

 

داعش يستطلع آثار تدمر بالنيران/ علي العائد

لا مصلحة منطقياً في فتح داعش جبهة جديدة في تدمر، كونه يخوض منذ شهور، في العراق، معارك كر وفر مع الحشد الشعبي والجيش العراقي. كما يخوض معارك متقطعة في الجزيرة العليا من سوريا مع قوات الحماية الكردية. وفي الأصل، ليس للنظام السوري أولوية بين أعداء التنظيم الكثيرين والمتكاثرين.

وليس مرجحاً أن غاية داعش هي قطع طريق الإمداد البري من إيران، عبر العراق والبادية السورية، وصولاً إلى دمشق.

سيطر داعش على مدينة “السخنة”، بسهولة نسبية، قبل أن يهاجم تدمر، ويحتل الحي الشمالي منها، السبت، لكن جيش النظام تمكن بمساندة من ميليشيات الدفاع الوطني من طرد التنظيم بعد معارك ضارية.

داعش لا يفكر في المدن والمناطق التي يهاجمها ويحتلها إلا بمنطقه القادم من زاوية في التاريخ يفسر فيها فقهاؤه شبه الأميين النصوص حمالة الأوجه بما لا يعقله حتى عقل مسلم يعيش في القرن الواحد والعشرين.

وتدمر في عرف داعش ليست سوى مجموعة أوثان سيستهدفها في الظاهر ليطهرها من الكفر، وسيسرقها في الباطن، ولا منطق لتوقيت هجومه الآن سوى في هذا التفسير.

هزيمة داعش، أو انسحابه التكتيكي، الأحد، يرجح أن ما قام به التنظيم في الأيام الماضية كلها هو ما يسميه العسكريون “استطلاع بالنيران”. ولابد أنه استكشف نتيجة ذلك مناطق انتشار قوات النظام وعناصر ميليشيات الدفاع الوطني.

وقياساً على حالات مشابهة لهجمات ذئاب داعش في مدن أخرى، باستثناء عين العرب – كوباني، سيحتل داعش المدينة، ولو بعد حين.

الهدف كما ذكرنا سيكون الآثار تحديداً. ومن المعروف الآن أن مصادر تمويل داعش هي آبار النفط التي سيطر عليها في دير الزور، وفي مناطق عدة من العراق، إضافة إلى تهريب الآثار بالمشاركة مع عصابات محترفة تنقِّب وتقيِّم وتبيع الآثار لزبائنها في الدول المجاورة، من الأردن إلى العراق ولبنان، تمهيداً لوصولها إلى تجار أوروبا وأمريكا.

من المرجح أن النظام قام بنقل مقتنيات متحف تدمر إلى مكان آمن. نرجو ذلك، ونرجو أن تكون القطع جميعاً مسجلة، الأمر الذي يتيح استعادتها حتى لو قام المهربون ببيعها. نقول ذلك للإشارة إلى الفوضى التي شهدتها المناطق الأثرية غير المستكشفة، حيث ضربت عصابات المهربين ضربتها بتهريب كثير من الآثار غير المسجلة، وهذه ستتطلب استعادتها معارك دبلوماسية وقانونية شرسة لا قبل لأحد بخوضها في القريب العاجل.

مع ذلك، يتوقع أن تشهد تدمر مجزرة آثار كبرى وغير مسبوقة في المدينة – المتحف، و”معبد بل” تحديداً سيكون هدفاً مغرياً لاستعراض داعش كل همجيتها، وبما لا يقاس مع ما فعلته في متحف الموصل من تحطيم وتكسير للآثار التي لا يمكنه نقلها، أو بيعها. و”معبد بل” هو في الوقت نفسه مسرح لا يمكن حتى لفؤوس داعش الكبيرة التأثير في أعمدته، أو تفتيت أرضية مسرحه.

سيحاول النظام الدفاع عن المدينة، كما فعل في الأيام السابقة، وإن كان من غير المتوقع صمود المدينة لفترة طويلة.

فمن جهة، ليس من أولويات النظام استقدام قوات من دير الزور القريبة، أو من دمشق، والخشية أن يبدأ طيرانه بمداعبة داعش حين يحتل الأخير الشارع المستقيم في المدينة الأثرية. ومن جهة ثانية، ربما يتخلى النظام عن المدينة بعد دفاع شكلي ليحاول من جديد تقديم نفسه للعالم كمحارب شرس للإرهاب.

وفي الحالتين، تبدو آثار تدمر في طريقها كي تكون أوابد نراها في الصور فقط.

موقع 24

 

 

 

سجناء تدمر… جحيم النظام وعبودية “داعش”/ دمشق ــ ريان محمد

أحيا هجوم تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) على مدينة تدمر السورية، الذي بدأ منذ أيام، المخاوف على مصير المعتقلين في السجن المركزي في المدينة، والذي يحمل ذاكرة سوداء لدى السوريين، بوصفه أقسى المعتقلات الذي ارتكبت فيه مجازر عدة على مدى سنوات. كما يصنّف السجن من قبل العديد من المنظمات الإنسانية والحقوقية على أنه من أسوأ 10 سجون في العالم، حيث يعاني المعتقلون في داخله من ظروف صعبة نتيجة الانتهاكات التي يتعرضون لها والتي قد ترقى إلى جرائم حرب.

وعمدت قوات النظام السوري ليل الإثنين الماضي إلى نقل أعداد كبيرة من معتقلي السجن إلى فرع الأمن العسكري في مدينة تدمر، في وقت تتواصل فيه الاشتباكات بين الطرفين في الأطراف الشمالية للمدينة. وقال عضو تنسيقية مدينة تدمر خالد الحمصي لـ”العربي الجديد” إن “النظام أخرج نحو ألف معتقل من سجن تدمر العسكري، ونقلهم إلى فرع الأمن العسكري في مدينة تدمر، ليتم لاحقاً زجّهم في المعارك الدائرة في محيط المدينة مع عناصر تنظيم الدولة الإسلامية”.

ويبدو أن هذه الخطوة تأتي بعد خسارة النظام لأعداد كبيرة من عناصره وفقدان خطوط إمداده البرية والمؤمنة جراء المعارك الدائرة في المنطقة، خصوصاً في ظل اعتماد “داعش” على استهداف أرتال النظام واعتماد الكمائن على طريق حمص تدمر الدولي، الطريق الوحيد لإمداد النظام.

وكان النظام السوري قد خسر منذ بداية المعارك في تدمر أكثر من 150 عنصراً، بينهم أكثر من عشرة ضباط، وأغلب القتلى من متطوعي “مليشيا الدفاع الوطني واللجان الشعبية”، سقط معظمهم في معركة السيطرة على حقل الهيل للغاز، كونه كان يعتبر خزاناً بشرياً كبيراً لجيش النظام.

مبررات الخوف على مصير المعتقلين يعززها أيضاً احتمال لجوء تنظيم “الدولة الإٍسلامية” إلى تجنيدهم في حربه ضد النظام السوري على غرار ما يقوم به في عدد من مناطق سيطرته، بما في ذلك محافظة دير الزور.

وعلى الرغم من استمرار المعارك وخطورتها، يعبر العديد من الناشطين المعارضين عن أملهم في أن يتسبب هجوم “داعش” على المدينة في إطلاق سراح المعتقلين في سجن تدمر الذي يرسخ في ذاكرة السوريين المجازر التي ارتكبها النظام السوري فيه فضلاً عن أساليب التعذيب القاسية.

ويكاد سجن تدمر البعيد عن العاصمة السورية دمشق نحو 200 كيلومتر أن يكون أبرز معالم المدينة الأثرية على الرغم من أنه بني في ظل الانتداب الفرنسي، ليعاد افتتاحه عام 1966 كمعتقل عسكري، سجلت جدرانه بعد سنوات مجازر قل مثيلها في التاريخ.

ففي 27 يونيو/حزيران من العام 1980، شهد السجن أكبر مجزرة راح ضحيتها مئات السجناء معظمهم من تنظيم “الإخوان المسلمين”. لا أرقام دقيقة لعدد الضحايا لكن أقل التقديرات تتحدث عن 600 معتقل وهناك من يقول 1200 معتقل، لتتكرر عمليات القتل الجماعي في الأعوام الثلاثة التالية، في حين يستمر قتل المعتقلين إلى اليوم.

يروي معتقل سياسي سابق تواجد في سجن تدمر في منتصف الثمانينيات، طلب عدم ذكر اسمه، لـ”العربي الجديد” تفاصيل تلك المرحلة، قائلاً “عندما أدخلنا إلى الزنازين في سجن تدمر كانت لا تزال الجدران تحتفظ بمقاذيف البنادق، وبقايا من لحم من قضى فيها”.

ويضيف المعتقل السابق “سجن تدمر كان أبشع معتقل مررت عليه بحياتي، فهو بالإضافة إلى أنه في وسط الصحراء حيث الحرارة مرتفعة جداً، بناء قديم، صرفه الصحي مكشوف للهواء، والنظافة فيه سيئة للغاية”. ويوضح أن “التعذيب النفسي والجسدي أمر يألفه المعتقل في سجن تدمر. فأي معتقل معرض للضرب المبرح إن ارتكب أي مخالفة للنظام العسكري الصارم الموضوع للسجناء، حيث كل عمل محسوب ومقرر وتطبيقه فرض لا مفر منه”.

ويستذكر أيام اعتقاله قائلاً “كان جميع المعتقلين يتعرضون للانتهاكات نفسها، لكن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين كان لهم الحصة الأكبر، فمعتقلو الإخوان هؤلاء كانوا يودعون بعضهم البعض كلما كان هناك حمام، حيث في كل مرة تقريباً كان يقتل أحدهم جراء تعرّض الحرس له”. ويضيف “كان الحرس يُخرجون يومياً أحد المعتقلين للتسلية، وفي كثير من الأحيان كان يدفع هذا المعتقل حياته ثمن هذه التسلية، التي قد تتضمن إجباره على الشرب من الصرف الصحي أو اختبار مدى تحمله للضرب”.

من جهته، يؤكد عمران، وهو معتقل سابق في سجن تدمر خرج منه أخيراً لـ”العربي الجديد”، أن “سجن تدمر يحتوي على أكثر من 10 آلاف معتقل، بينهم سياسيون، لهم قسم خاص يمنع الاختلاط بهم، كما يحتوي السجن على محكمة عسكرية ومحكمة ميدانية تصدر أحكام الإعدام عليهم، وقد نفذت العديد من الأحكام”. وأضاف “هناك تفنن في إذلال المعتقل في سجن تدمر قد يتجاوز غيره من المعتقلات، من توزيع الطعام إلى الحمام والتنقل”، لافتا إلى أن “العسكري المنشق عن القوات النظامية يمنع من السير إلا على قدميه ويديه، في حين يحمل حذاء عسكرياً في فمه ورقبته”.

وقد سبق لمنظمة العفو الدولية أن تطرقت في تقرير أعدته قبل سنوات بعنوان “سجن تدمر في سورية: تعذيب ويأس وتجريد من الإنسانية” إلى حجم الانتهاكات، مؤكدة أن “السجناء يقاسون في سجن تدمر مستوى مروعاً من الوحشية”. ونقلت عن أحد السجناء السابقين فيه قوله “الحياة في تدمر أشبه بالسير في حقل ألغام. فقد يفاجئك الموت في أية لحظة، إما بسبب التعذيب أو وحشية السجَّانين أو المرض أو الإعدام”.

العربي الجديد

 

 

دروس من تدمر/ بيار عقيقي

أحياناً، يُعتبر وجود بعض المعايير، انطلاقاً من مبدأ “الحريات”، “إهانةٌ” للكرامة البشرية. يُمكن مثلاً تصفّح مواقع الإنترنت، أو كتب يعود بعضها لعقدٍ ونيّف، والنظر للمساحة المخصصة لما فعلته حركة طالبان في أفغانستان، بحقّ تمثالين لبوذا، أو فعله ويفعله تنظيم “داعش” في نينوى العراقية وتدمر والمناطق الأشورية في سورية. تجد الكثير مما يُمكن إدراجه في سياق “الأسف” على تاريخ وماضٍ، على أنه لا يكون بالقدر نفسه حين نتكلّم عن إنسان، يُقتل فقط لوجوده في المكان الخاطئ والزمان الخاطئ. وفي الشرق حالياً، باتت معظم الأماكن والأزمنة خاطئة، وحده الإنسان يدفع ثمنها. الإنسان الذي يغيب عن صفحات المواقع والكتب التي تأبى تخصيص المساحة الكافية له.

الحجر مهم. الآثار مهمة، من أجل تأريخ ماضينا والانطلاق منه إلى مستقبل، مفترض أن يكون مغايراً لما سبق، أو تطويراً له. وأهمية الحجر لا تُعادل أهمية البشر إطلاقاً. الخيارات محدودة هذه الأيام: البشر أو الحجر. لكن عالمنا لم يخرج بعد من التقوقع المادي الذي يرفض أي فكرة إنسانية، مهما عظُمت. وفي ذلك عنصرية لم يخترقها العقل بعد.

في تدمر، كما في المناطق الأشورية وسهل نينوى، نسي الجميع، أو تناسوا، أن هناك بشراً ينزح ويموت تحت القصف. الآثار أهمّ بالنسبة إلى الغربيين. هم اعتادوا على رؤية الأمور من منظارهم في الشرق الأوسط: بترول ونفط، والآثار ليست سوى تفصيل يُدرج في إطار سياسي محدد. هكذا يُخصص الإعلام الغربي المساحات لقضية ما، بغية توظيفها في عمل سياسي أو عسكري لاحقاً، وتنتهي القصة.

في تدمر، عَلَت الأصوات المنددة باجتياح “داعش” المدينة. كثر أبدوا تخوّفهم وخشيتهم من مستقبل مدمّر للمدينة، متناسين أن الأهم من تدمر هو الإنسان السوري الذي قُتل وشُرّد في سورية وخارجها. تماماً كما حصل في العراق العام الماضي. بماذا سينفعنا “الثور المجنّح” الذي تمّ تدميره في العراق أمام تهديم كرامة الإنسان في العراق وسورية؟ ما الذي يفيدنا لو ظلّ تمثال “الثور المجنّح” الذي يعود عمره إلى ثلاثة آلاف سنة، متألقاً في الموصل، وجحافل البشر تموت عند أقدامه؟ تبدو الصورة سوريالية، وأقرب إلى وثنية هدّامة، غير أنه واقع نرفض رؤيته.

وبدلاً من التباكي على الآثار، يجدر بنا التساؤل عن “قدرة” التحالف الدولي على وقف زحف “داعش”، فقد مرّ حوالي العام على إعلان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بدء الهجوم على “داعش”. نفّذ طيران التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، أكثر من 3000 غارة. من المُفترض أن تؤدي تلك الغارات إلى قلع فكرة “داعش” من أساسها. الأمر الذي لم يحصل، بل بات التنظيم أقوى، وسيطر على حوالي 40% من الأراضي العراقية، وأكثر من 50% من الأراضي السورية. كيف يُمكن لتنظيم يتعرّض لهذه الكثافة من القصف، في مناطق غير جبلية، وينجح في شنّ معارك هجومية، ويُسقط مواقع استراتيجية في غضون أيام، مثل تدمر والرمادي العراقية، فيما نعلم أن بضع غارات لقوات الحلف الأطلسي، على يوغوسلافيا السابقة في العام 1999، كانت كفيلة بإسقاط حكم الرئيس اليوغوسلافي، سلوبودان ميلوسيفيتش؟

لم ينتهِ دور “داعش” بعد، ومخطئ من يعتقد أنه وُجد للانتهاء منه سريعاً. بل أضحى التنظيم أشبه بمستنقع، يجذب كثيرين إلى صراعه، وفق أدبيات دينية وقومية وإنسانية واجتماعية وحتى اقتصادية. لكن “داعش” سيبقى منتصراً، بفعل تركيزنا على أهمية الحجر من دون الاعتناء بالبشر. خصوصاً إذا أدركنا أن الطعام والدواء ينفدان سريعاً في المخازن، أو غير متوفرين لمن يحتاج إليهما، بينما يبقى السلاح متوفراً في كل سانحة. لم ينفع “ثور مجنّح” إنساننا في الشرق، لحظة سقوط الموصل، ولن تنفعنا هياكل زنوبيا في استمرارها على قيد الحياة.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى