صفحات سورية

مقالات تناولت عيد المرأة العالمي

 

8 آذار 2013 الـثــورة أنـثـى

فواز طرابلسي

شاركت المرأة العربية في الثورات العربية على مدى السنتين الماضيتين بأشكال وأدوار مختلفة. ومع ذلك، يطل عيدها وسط محاولات حثيثة لاعادتها الى البيت والى «بيت الطاعة» مع ما يرافق ذلك من استخدام للتشريعات وللممارسات الاجتماعية ضدها.

كل ما يرمي الى الارتداد على الدولة المدنية يصيب المرأة. وهذا الارتداد يتجلى على انه الدأب المركزي للحركات الاسلامية في السلطة او خارجها. فتعميم قوانين الاحوال الشخصية الشرعية والمذهبية يكرّس ويعمم التمييز ضد النساء في الحقوق والاحوال الشخصية (في الاسلام والمسيحية معا). والسعي لتغليب التشريع الديني على التشريع المدني – وعلى الديمقراطية! – يلقى ترجَمته في الانقلاب على مبدأ المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين وعلى المساواة بين الرجل والمرأة على حد سواء. ومن اشكال التمييز هذه حرمان الام من الحق في منح جنسيتها لاولادها، المستمرة في لبنان رغم الحملات ضدها.

يجب الاعتراف بأن ثمة إطباقا تدريجيا لحالة من المحافظة الاجتماعية والضبط الديني التحريمي على نواحي الحياة المختلفة يطاول منع الاختلاط بين الجنسين في البيت (بين الرجل وابنته!) والعمل (إرضاع الزميل!) والمدرسة والحقل العام، قبل ان يلقي الحرم على صوت المرأة وشَعر المرأة وجسد المرأة بما هي «عورة». في تونس، قرّر وزير التعليم معاقبة طالبات احدى الثانويات لانهن رقصن في باحة المدرسة. وفي تعزّ وصنعاء يكفّر مشايخ اصوليون الصحافيات والناشطات اليساريات، ويحللون دماءهن، فيما زملاؤهم في سوريا يفرضون الحجاب والعزل الاجتماعي على النساء بقوة السلاح حيث تسنّى لهم ذلك.

ولا يستغربن احدٌ ان يأتي الجواب «الشرعي» على مشكلات البطالة بإخراج النساء من سوق العمل. السابقة الجزائرية شاهد على ذلك. ما بالك ! ثمة حل ديني لكل شيء عندما يكون «الاسلام هو الحل». فقد أفتى وزير المالية التونسي بأن مشكلة البطالة «لا تحلّها الا معجزة»!

التزويج المبكر يبلغ ذروته في يمن «المبادرة الخليجية» المرعية اميركيا، ولكن تطبيقاته الاخرى منتشرة من المحيط الى الخليج. ارتفعت نِسَب تعدّد الزيجات مع مجيء الاسلاميين الى الحكم. ومعها تصاعدت موجات العنف ضد النساء بمختلف الأشكال. والتحرّش الجنسي لا يعفي المتحجبات. تريد نظرة غربية استشراقية ان تنسبه الى الكبت الجنسي عند الشباب. مع ان الجرأة على التحرّش وانتشاره والتمادي فيه تتغذى ايضا وخصوصا من الاطمئنان الى التواطؤ الاجتماعي الواسع على اعتبار المرأة كائناً دونياً وغياب التشريعات والعقوبات الرادعة لمثل تلك الاعمال. ولا تزال حياة المرأة تزهق، على اعتبار أن حياتها، بل الحياة بذاتها، أرخص من «شرف العائلة» و«عرض» الرجل. وهنا ايضا يتشجع القتلة بالتواطؤ الاجتماعي والاحكام التخفيفية في القوانين على ما يسمّى «جرائم الشرف».

وإذ يستعر الاقتتال الاهلي في بعض الثورات، يصير الاغتصاب سلاحا حربيا. وتنتشر مع الحروب واللجوء ظاهرة تسليع الجسد النسائي ابتداء ببيع الفتيات من ذُكور ميسورين، غالبا من الخليج العربي، وصولا الى البغاء.

وهكذا فيما جذور الاستبداد السياسي والسلطوي تتخلخل، تتكاثر وتتراكم محاولات المحافظة على جذور الاستبداد الذكوري في المجتمع. ولكن حذار ! ان الذكورية المتسلطنة في المجتمع قابلة لاعادة انتاج الاستبداد السياسي بسرعة الضوء.

تقاوم النساء ويقاوم الشباب، ذكورا واناثا، وكلاهما ضحايا التهميش والعزل والتمييز بحقهم من قوى الردة بقدر ما هما شريكان في مقاومتها. وكم هو معبّر ان يتحدى الشباب التحريمات الملقاة على الاجساد بواسطة رقصة «هارلم شايك» المستوحاة من رقصة منتشرة في احياء الافارقة الاميركيين الفقراء والمتمردين في ضاحية «هارلم» بنيويورك.

ثمة مقاومات وانتفاضات متفرقة ترهص ببصيص امل يضيق عنها هنا المجال وتقصّر دونها المعلومات المتوافرة. ولكنها تنبئ بأن «اول الرقص حنجلة».

والمؤكد انه مثلما اطاحت الثورات بأفكار وممارسات واشكال تنظيمية كانت مهيمنة وسائدة خلال ربع القرن الاخير، كذلك تلحّ الضرورة لاجراء مراجعة جذرية لما تضمنته تلك الافكار والممارسات والاشكال التنظيمية المخصوصة بتحرر المرأة. فإذ عمّدت السيّدة هيلاري كلنتون المرأة في مصر «أقلية» (مع انها الاكثرية العددية) أجازت وضع النساء تحت رعاية ووصاية «الاكثرية الذكورية» المتمثلة بالسلطة الاخوانية! هذا اكتشاف جديد يبدد وهما آخر من الاوهام المعلّقة على السياسات الاميركية تجاه الثورات. من جهة ثانية، تبيّن ان «تمكين المرأة»، الشعار المركزي للامم المتحدة حول المرأة، جعلها مفعولا به لا فاعلا في عملية تحررها. فما كان أسهل من الالتفاف على هذا «التمكين» من علياء الابوّة الذكورية تكتفي بتعيين نساء في مراكز ادارية او سياسية عديمة الاهمية والتأثير كما في حال الوزيرات او المديرات العامات في الخليج. هذا حتى لا نتحدث عن تعيين نساء في مجلس الشورى السعودية في الوقت الذي لا يستطعن المجيء لحضور الجلسات الا برفقة «محرم».

«الثورة انثى». تقول اليافطات في الثورات والهتافات. وحري بالثورة الانثى أن ترشد النساء الى الدرس الرئيس الذي تعلمته ملايين النساء والرجال في الثورات. اعني التمكن الذاتي للشعوب إن هي ارادت انتصار الحياة والحرية والعدالة والمساواة.

فهل تكون سنة ٢٠١٣ سنة الثورة النسائية والنسوية داخل الثورات؟

هو الامل الذي نأمله بالتي «تنتج الحياة الحقيقية» في عيدها.

السفير

زهرة وسط الجفاف

محمد زهير كردية *

تنتصب قضايا الاعتقال والخطف والاغتصاب بحق المرأة السورية التي قدمت الغالي والرخيص في سبيل سورية حرّة، معوقات أساسية في وجه حريّة المرأة ونضالها التحرري.

ذلك أن المرأة السورية وقعت اليوم في مرمى نيران وحشين متصارعين لا يكلان ولا يملان، وهمهما الوحيد هو إغراق سورية بالدماء النقية وتدمير بناها التحتية بكل الطرق، من دون أي هدف معلوم، وبطرق ممنهجة: إنهما النظام الأسدي والجماعات التكفيرية المتطرفة.

وإذ تستوقفنا بعض المشاهد التي تبعث على القلق والحيرة، والإعداد لمخطط جديد للخلاص من هذا الكابوس، كمشهد خطف ثلاث فتيات من مدينة السلَمية العصية على التطرف واللون الواحد، والتي أدخلها النظام ضمن مخططه الطائفي محاولةً منه تفكيك تلك اللحمة الواحدة، بخطفه هؤلاء الفتيات واتهام مجموعات إرهابية وسلفية بهذا العمل. أو مشهد آخر نلحظه بشكل واضح على وسائل التواصل الاجتماعي كحجب النظام لمواقع سياسية معارضة وأخرى معنية بالنشاط الثوري الميداني وعدم حجبه مواقع أباحية، لا بل بث فيديوات على يوتيوب لعمليات اغتصاب نساء سوريات على يد الجيش والأمن والشبيحة، قبل أن تقوم إدارة الموقع بحذفها بعد دقائق، أو إنشاء صفحات على فايسبوك من قبل شبيحة النظام لمعارضات وناشطات سوريات، ونشر أرقام هواتفهن المحمولة وصورهن، إن وجدت، والتشهير بهن وبسلوكاتهن وما إلى ذلك من اتهامات قذرة.

أضف مـــشهد تلك الفتاة «سلمى»، والذي نشــره موقـــع بـــي بي سي الإخباري، حيث قالت: نحن نحمل في أحشائنا أبناء الاغتصاب من قبل جنود بشار الأسد.

وفي الجانب الآخر، نرى مشاهد التظاهرات وعمليات الإغاثة التي شهدت دوراً بارزاً ومهماً للمرأة منذ بداية الثورة، وهو الدور الذي غاب عن بعض المناطق التي سيطرت عليها جماعات متطرفة كجبهة النصرة وأخواتها، بسبب قمع هذه الجماعات لهنّ، على أرضية تطبيق الشريعة الإسلامية وبناء دولة الخلافة في سورية ما بعد الأسد.

مع ذلك، لم تقف المرأة السورية عند هذه المشاهد المرعبة، بل تابعت طريقها إلى الحرية والمساواة في كثير من المجالات والمناطق الأخرى، محاوِلةً تجاوز تلك المعوقات وتحقيق المساواة بينها وبين الرجل، عبر مشاركتها له في معركة حرية سورية وخلاصها. فلتتفتح براعم الربيع السوري، وتزهر الحرية قي حدائق سورية الجديدة، ولو بعد أمَد.

* ناشط سوري

الحياة

“أنا هي”.. أنا نصف سوريا

راشد عيسى

“أنا هي”. بهاتين الكلمتين اختار السوريون الاحتفال بالمرأة، فقد حان الوقت لتحتفل المرأة السورية بنفسها، وأن يحتفل السوريون بنسائهم. “أنا هي” صفحة على موقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك” تفسح المجال للمرأة كي تقول ما تريد أن تكون، وما تكون عليه حياتها ودورها في سوريا.

أصوات عديدة احتوتها الصفحة، ولم تقتصر على النساء، فقد كتب زكريا تامر وبرهان غليون وسميح شقير كذلك يتضامنون مع المرأة. ولعل أبرز ما يلخص صوت المرأة السورية اليوم، على ما ظهر في تلك الحملة، ما كتبته رباب البوطي، وهي واحدة من أبرز الأصوات وأصفاها وأقواها تعبيراً “أنا هي. أنا أنثى البلاد. أنا نصف سوريا. ومربية النصف الثاني. أنا الــمرأة السـورية”.

كذلك تكتب خولة يوسف “أنا هي التي تحلم وتمشي في طريق الحلم حتى تحققه. أنا هي المرأة السورية التي تحضن في عيونها المستقبل. أنا هي التي تعرف كيف تجعل من المكان الذي تعيش فيه بيتا .. أنا هي المستقبل لسوريا أينما كنت .. وكيفما كنت. أنا الأنثى الثورة. أنا هي. سوريا”.

معظم ما قيل ليس مجرد أشعار وخواطر أدبية، بل مشاريع، وبحث عن دور ومكانة، أو تأكيد لهما. لذلك كانت الثورة السورية دائماً هي المحور، والبوصلة. تقول ندى الخش: “ثورة لا تكون النساء فيها في واجهة كل تعبيراتها، كما هي في عمقها متحملة القلق والوجع والحرمان ستظل ناقصة وستظل إمكانية الانفجار قائمة”.

لذلك فإن سهى رحال‎ تكتب وكأنها تتابع ما بدأته الخش، وبخصوص مسألة عملية طازجة، هي اختيار مجلس محلي لمحافظة حلب “نساء سوريا بيطلعوا مظاهرات، وبيخلصوا الشباب بالمظاهرة من أيدي رجال الأمن، وبيعتقلوا وبيتنكل فيهن وبينضربوا وبيشاركوا بكل أعمال الاغاثة، وبيتطوعوا بالجيش الحر، وبيشيلوا الحمل بكل كفاءة في مصاعب التهجير واللجوء، بيعملوا كل شي بينعمل بالثورة. و لما بتوصل على انتخابات مجالس محلية.  قال هلأ مو وقتها!”.

وتضيف رحال “المجلس المحلي لمحافظة حلب زلم عالحل، ناشف ومر وحامض”.

لكن قبل حملة “أنا هي” كانت المرأة السورية قد قالت في السنتين الماضيتين من هي، الصور تروي الكثير من تلك القصص. وقد يكون من المفيد إضافتها إلى الصفحة. من ينسى عجائز درعا، بالوشوم المدقوقة بروعة وقوة على الوجوه، من ينساهن فوق النعوش. وصباياها يسعفن الجرحى بجرأة نادرة. نساء بانياس وهن ينتفضن من أجل أبنائهن، ثم لا يتورع النظام عن إطلاق النار عليهن وسفك دمائهن على الاسفلت. تظاهرة الصبايا في ساحة عرنوس مرتديات أجمل ما عندهن، وبالكعوب العالية، كما لو أنهن أردن أن يبددن في ذلك الوقت شائعة “الثورة السلفية”.

قبل ذلك من يستطيع أن يتهم مروة الغميان الشامية المحجبة التي اعتقلت، واعتقالها مسجل في فيديو متداول، بالسلفية؟ وقد تلا اعتقالها اعتقال والدتها وأختها. مروة وملك الشنواني وساشا أيوب ودانا بقدونس وعلا رمضان وناهد بدوية (واسم ناهد يذكرنا بأجيال من النساء العظيمات اللواتي قلن من هن قبل الثورة وبعدها)، ومي اسكاف التي اعتقلت إثر تظاهرة المثقفين التي لم تتمكن من الانطلاق من أمام جامع الحسن في حي الميدان الدمشقي، وتلك وحدها كانت علامة، إذ لا يمكن أن ينسى المرء كيف جاء جيل من الشباب والشابات يداً بيد كما لو أنهم جاؤوا إلى احتفال.

أما ريما الدالي فتلك حكاية لوحدها، الفتاة التي وقفت أمام البرلمان، منتصف الطريق في شارع مزدحم، بفستان أحمر ترفع لافتة تقول “أوقفوا القتل، نريد أن نبني وطنا لكل السوريين”، لتعتقل إثر ذلك. ثم تعيد المرة ثانية في سوق الحميدية حيث ارتدت مع صديقاتها لبنى الزاعور ، و كندة الزاعور، ورؤى جعفر فساتين فرح بيضاء حاملين لافتات تنادي بإيقاف القتل، مما أدى إلى اعتقالهن جميعا.

 لكن ريما التي اعتقلت مرتين لم يشفع لها ذلك في مواجهة الثوار أنفهسم أحياناً، فجرأتها على الدين استنفرت تنسيقية الميدان ولم يكن من السهل تهدئة عاصفة الجدل التي اشتعلت إثر ما كتبته على صفحتها واعتبر تجديفاً. وصولاً إلى مشاركتها على صفحتها لصورة التقطت لغرافيتي اعتُبر إباحياً، وصادماً بصراحته.

ريما الدالي، مثل كل النساء السوريات، لا شك أنها لم تثر على استبداد النظام وحسب، بل على ما يمثله من انتهاك للعدل والكرامة الانسانية، وقد تلخص ندى محمد في مشاركة على صفحة “من هي” بالقول: بعد اندلاع الثورة كلمتني وقالت “ندى أي ساعة المظاهرة؟ بدي إطلع معكن”. كنت بدي إسألها إذا أخدت الإذن بس اتذكرت إنو الثورة مو بحاجة لإذن حدا. قررت صديقتي أن تكسر كل الأبواب المقفلة على روحها وصوتها فكانت كلمة لاء عندها مضاعفة وحريتها حريتين”.

المدن

قـصــة نســاء مـن حـلــب

عزيز تبسي *

محاولة لإسقاط السلطة في أواخر الليل ومن شرفة المنزل

سيبدو الأمر غريباً، حين خرج «مواطن» إلى شرفة منزله في أواخر الليل ليسقط السلطة بصوت عال، مطلقاً عليها أوصافا شنيعة. لم يُسَمِّ رموزها بأسمائهم الحقيقية بل بما يدل عليهم، ويستطيع معرفتهم عموم السوريين دون عناء. لن يسأله أحد من أبناء حيّ «بستان الباشا»: لماذا لا يخرج في تظاهرة، من تلك التي يسمونها «طيارة»، وهي لفرط طيرانها لن يشعر بها من تصادف عبوره بقربها، ومن تستوقفه يخالها نمطاً من المشاجرات المحدثة أو من التشجيع الذي تحظى به الفرق الرياضية المحلية بعد هزائمها أمام بعضها. لكن ربما يسأله من هو غريب عن الواقع السياسي السوري، ويعظه بأهمية الالتزام بالنضال السلمي، مشدداً على حسناته الملموسة كتخفيض «الكوليسترول» وتنشيط الدورة الدموية، وإدرار البول المشبع بالأملاح السامة. حينها تكون التظاهرة هي شكل من الرياضة السياسية، ونمطاً يحاكي الدوري العام للألعاب الرياضية.

يخرج أبو «حرب»، وفي تسميات أكثر دقة «أبو سلام» إلى الشرفة، كاسراً حاجز الجرأة بربع ليتر من العرق الممدد بمياه الفرات وثلجه، مجاهراً بإسقاط السلطة وموبخاً جيرانه النائمين، بكونهم قطيع خراف وهب حياته للطعام والتناسل والنوم والتهيؤ الديني الافتراضي للتضحية بما تبقى من حيواتهم على موائد الآلهة وولائمهم الباذخة.

يزداد غيظاً، لا لأن أحداً لم يرم بطانية الصوف ويرتدي ملابسه على عجل لينزل إلى التظاهرة، أو يخرج للشرفة من فوره، كما فعل «المواطن» ويبدأ بالهتاف التوكيدي، بل لأن أحدهم خرج إلى شرفة منزله وصاح به: «حاجة علاك فاضي، بدنا ننام!!» (ترجمة: يكفي ثرثرة فارغة نريد أن ننام).

لم يصغ لتحذيرات زوجته ونداءاتها المتوسلة، هي التي كانت تملأ البيت بأكياس المعونة من الثياب والأحذية والأطعمة والأدوية، التي تجمعها بدأب وصبر مع متطوعات أخريات، وتسعى بمجازفات كبيرة لإيصالها إلى من يحتاجها في الأرياف: «سلوكك أرعن وغير مسؤول، يفتح علينا أبواب جهنم، حين يستدعي مخبرو الحي دوريات الأمن ويبدأون أقله بتفتيش البيت ليجدوا ما يجدون، بعدها سيأخذوننا جميعاً إلى السجن وينسوننا هناك، إن لم يقتلونا من فورهم».

وحين كرر احتجاجه بعد أسبوع، سمع صوتاً هادراً يطالب بإيقاف هذا المجنون عن الكلام!! مما عنى أن المطالبة بإسقاط سلطة سياسية في هذه البلاد ،عمل يشبه الجنون. العاقل من يتكيف معها، ويتمسح إلى الأبد كقط ذليل بحذائها الأسود الطويل.

هذا كله قبل نهاية شهر أيلول من عام ألفين واثنتي عشر. بعدها سيغادرون البيت ويتبددون في أطراف البلاد وخارجها، لن يصعد «المواطن» إلى الشرفة وينادي على النيام بضرورة الثورة، لأنه لن يجد أحدا من سكان الحي باقيا ليسمع كلامه، ولن يجد شرفة، يخرج إليها آخر الليل ويقبض بكلتا يديه على سورها المعدني قبل أن ينادي على الخلائق. كل هذا وغيره سوي بالأرض.

***

أراد الصراخ أمام السابلة:

ماذا تفعلين هنا يا أمي!!

على إفريز السور الذي يطوق «حديقة السبيل» الهانئة، جلست مكورة أمام صندوق خشبي، من تلك الصناديق التي تحمل بها الفاكهة من البساتين إلى الأسواق، وضعت فوق قاعدته المقلوبة بضاعتها: بضع قطع بسكويت وشوكولا وجوارب نايلون نسائية. نرى معطفها الثقيل من فرو الفيزون، ويديها المحميتين بقفازين أنيقين من الشاموا الناعم الأنيس، قبل أن نرى وجهها المعجون بخلائط الحليب والعسل ونسغ الخزامى، رأسها المغطى بمنديل حريري بلون سكر غير صاف، حذاءها المرتفع الحواف اللبادية والمنتهي بسوار صوفي يضيق على ساقيها…

نستدل أنها من طالبات الفرنسيسكان في الستينيات، وتتقن الفرنسية كما العربية، وتلفظهما بثقة المعلمين المكرسين لأداء مهمة تربوية متقنة. قرأت فولتير وراسين بلغتهما، بعد أن قرأت نثريات خليل مطران وجمال الدين الأفغاني وطه حسين. وزارت مع أسرتها باريس والإسكندرية وإسطنبول في تلك الأصياف المبهجة التي كان يكرسها الأبوان لأولادهما. وصافحت الممثلة ماجدة الصبّاحي حين حضرت مع الفيلم الذي شخّصت فيه دور المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد. وعبرت على قبر من كان يوماً أميراً للشعراء ويستعيد المتظاهرون هذه الأيام في المدن والقرى بيت قصيدته «وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق» ووضعت بيديها باقة زهور بيضاء فوق ضريحه الحجري.

لكنها الآن وحيدة وبلا معيل. لم تلب نداءات الهاتف عن ضرورة الخروج من المدينة والالتحاق بإخوتها وأولادهم وترك «الجمل بما حمل». الحوالات المالية التي يرسلها أولاد إخوتها من فيينا تتعثر ولا تصل، وهي لا تقبل مد يدها إلى المحسنين، تفضل عليها الجلوس على الإفريز الحجري لسور الحديقة في برد «المربعانية»، لتحصل في نهاية النهار الثقيل على ما يعادل ثمن وجبة طعام، وعلى ذاك الإيناس البهيج الذي يحمله العابرون والفضوليون. قليل من يعرف أن عوائد عمل سنة كاملة، لن يعادل ثمن المعطف الذي ترتديه.

قبل حلول العتمة، تحمل صندوقها وتفرغ بضائعها في كيس أسود وتصعد بتعب إلى شقتها العالية الواسعة المظلمة. تضع الصندوق والكيس قرب الباب وتغلق أقفاله، وترمي عنها كل الألبسة الثقيلة. تغسل يديها وقدميها وتجول بنظرات غزال متوجس في أطراف البيت وزواياه قبل أن تمضي إلى سريرها وتتدثر بأغطية ذكرياتها الصوفية.

***

سلملي عليه وبوس عينيه!!

جلست بثبات وصمت، كأنها تمثال رخام، ووضعت أمامها على الرصيف، كل ما كانت قد أعدته بحنان أمومي لأولادها وأحفادها، ويفيض عن حاجة من بقي معها، مربيات الفواكه ومخللات الخضار البلدية، أوراق العنب ورب البندورة. لم يأت أحدٌ منهم ليأخذ حصته من تعبها ورائحتها وأنفاسها، ولن تصل لأحد هذه الحمولات من الأطعمة المثقلة بزجاج الآنية الأنيقة. ويبدد انقطاع الكهرباء الطويل المتواصل تعب الأيام وساعات التحضيرات الطويلة، ويدفنها بخشونة في سلال النفايات. الأمل وسواه يذوبان في ثلاجة بلا طاقة الكهرباء الضرورية. كل ما هو قابل للبيع يباع تباعا، الأقراط الذهبية وسلسال التهنئة بالوليد البكر، الطنافس الفارسية، التذكارات الأنيقة المصنوعة من الخشب والخلائط المعدنية والخزف والزجاج الملون. ليست وحيدة في هذا البيت الواسع في حي «الفرنسيسكان»، بشرفاته العريضة التي حولتها بدأب ومثابرة إلى حديقة معلقة، معها شقيقها العازب، المحتاج لجلستين أسبوعيتين لغسيل الكلى، وإبنتها المهندسة الأربعينية، التي دفعها الخوف من مخاطر الطرقات لطلب إجازة طويلة من العمل.

تستقبل الشاري العجول والجشع الذي يتصنع الانفعال والتقوى، وتعد له فنجان قهوة قبل أن تكلمه عن تلك الأشياء الثمينة بحمولاتها العاطفية وثقلها الوجداني. وتختم الكلام: أرجو أن تحافظ عليها، كأنما تأمل أن تستردها في يوم ما. في أعماقها تعلم تماماً أنها تبيع ضحكاتها الحليبية المنطفئة، ودموعها الساخنة الراهنة وأفراحها المخبوءة، أي كل ما هو غير قابل للاسترداد…

ـ حذاري !! إن لم تبيعيهم، سيأتي عاجلاً من يسرقهم برعونة وخسة. خير أن تتنعمي بالأموال التي تعود عليك.

وترتبك أمام محدثيها، لا لعجز في الرد أو استكمال الحوار، بل لأن ثمن المقتنيات يذهب تباعاً للمشفى ولندرة من يقدّر الأشياء المعروضة للبيع ويدرك أهميتها، ويملك مالاً لذلك. وهناك من يتفهم مخاوفها الافتراضية غير المصرح بها، ويغمغم «تخافين من سرقتها، لكن من يحمني أنا كذلك من السرقة بعد أن أشتريها». يومها، قال الطبيب المشرف على غسيل الكلية، أن اللقاء التالي سيكون اللقاء الأخير، إدارة المشفى ستغلق شعبة غسيل الكلية لعدم توفر الأدوية الضرورية للغسيل، واقترح عليها مشفى في بيروت لإتمام الجلسات وأعطاها رقم هاتف مقسمه، ووعدها بالتوصية بالمريض والتعريف على أحوالهم.

أمسكت بيد أخيها ولفتها حول كتفها، عبرت البوابة الخارجية ونزلت ببطء على الدرج الحجري، وهي تفكر بما بقي في مدخرات البيت لتبيعه.

***

رغم ذلك كنا في بيتنا

في «كرم الطراب» حيث الطريق إلى المطار الدولي، ارتفع بيتها من قرميد رطب وأعمدة إسمنت تنوء بحمولة الأسقف. توفي زوجها منذ زمن تاركاً لها ثلاثة شبان وفتاة، بلا أي إعالة، تتسرب خلسة عنهم لتغسل أدراج البنايات وتنظف البيوت في الأحياء الراقية والمتوسطة، وتعود نظيفة وأنيقة بحمولات متواضعة من الألبسة المستعملة والأطعمة البائتة والقليل من المال الذي يتكفل بحلّ صدأ حديد العوز، في آلة حياتها المعطلة.

لكنها الآن في القبو الرطب المظلم، وهو المعادل للزنزانة الضيقة في مكان آخر يغلق إلى الأبد. بعد أن سمح رب عمل الشبان الذين صاروا جميعهم عمال خياطة في ورشة لصناعة الملابس، بالإقامة فيها والعمل، موفراً على صندوقه زيادة الأجور التي طالبوا بها للتعويض على ارتفاع تكاليف النقل والجنون المهول في أسعار المواد الغذائية وتكاليف الحياة.

في الليل تتدثر بأغطيتها ولا تنام، ترى الجرذان تبحث عن أطعمتها فوق مواسير الصرف الصحي للبناء، وتربكها الصراصير الكبيرة تحت لحافها، وفي الصباح تتحدث مع أولادها عن غياب الضوء ونقص التهوئة المعززين بالانقطاع الطويل للكهرباء، وتسرب الأوساخ من فتحات القبو المحاذية للرصيف، وعن ضرورة العودة لتفقد بيت العائلة.

وبعد الانقطاعات الطويلة للكهرباء، ألغى المعلم أسبوعيتهم، وحسم أمر محاسبتهم على القطعة، وذلك قبل توقف إنتاج معامل صناعة الأقمشة والمعامل المكملة للإنتاج من طباعة وتطريز وسواهما، والارتفاع الكبير في أسعار الأقمشة المتبقية في المستودعات، والقابلة للنقل والبيع بعد عمليات النهب والحرق التي طالت المناطق الصناعية والأسواق التجارية: «بإمكانكم أن تبقوا في الورشة حتى تعودوا إلى بيتكم لكني لن أستطيع أن أوفر لكم عملاً بعد الآن»، خاطبهم من نافذة سيارته. وأكمل: «لعلّ الأمور تتحسن في الأسابيع القادمة». نزلوا إلى القبو وتحدثوا عن السبل والكيفيات التي تخولهم تأمين طعامهم وبعض حوائجهم، وجلست أمهم قربهم تسمعهم. بعدها صعدت أصوات نحيب متقطع من عمق القبو المقطوعة عنه الكهرباء.

* كاتب من سوريا

المرأةُ  هي البوصَلة

وهيب أيوب

أرى من واجبي وفهمي لمعناها، أن أضعها بين هلالين، “الثورة”، فيما خصّ ما يجري في دول ما سُمّي “الربيع العربي”، محصورة بين هلالين أيضاً؛ حتى يبان الخيط الأبيض من الأسوَد، وحتى يتضّح وضع المرأة في هذا “الربيع” المزعوم. وفكُّ الهلالين مرتبط بشكلٍ أساسي بمدى ما قد تؤول إليه تلك “الثورات”، وإن يكن حتى الآن، أن ما نشاهده ونسمعه لا يُبشِّر بالخير!

لو نظرنا إلى واقع الدول المتقدمة والمُنتِجة في كافة شؤون الحياة: أوروبا، أميركا، اليابان، كوريا الجنوبية، الصين، وسواهم، لوجدنا أن دور المرأة في تلك المجتمعات دور أساسي ومساوٍ للرجل، وأن مستوى الأميّة فيهم منخفض جداً، بخلاف ما نطالعه حتى الآن في العالم العربي التي تبلغ نسبة أميّة النساء فيه نحو 60% ونسبة الفتيات خارج نطاق التعليم 70%، وذلك بحسب دراسة أجرتها الدكتورة ماجي الحلواني عميدة كلية الإعلام في جامعة القاهرة، ناهيك عن ارتفاع مستوى الأميّة عموماً بين الذكور والإناث إلى 30%، في ظل غياب برامج جدية لتقليص النسبة إلى مستويات تواكب الدول المتقدمة، سواء في العالم الغربي أو الشرقي، مِما يُدلّل على فشل الأنظمة القومية والملَكية الشمولية الديكتاتورية التي سادت العالم العربي في العقود السابقة.

المُثير للصدمة أيضاً، تعاظم انتشار ظاهرة التحرّش بالنساء والاغتصاب والزواج من القاصرات في المجتمعات العربية، وكأن المرأة هي دائماً مكسر عصا للذكر ولللأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولمعضلة الكبت الجنسي المستشرية في تلك المجتمعات والتي تدفع المرأة فيها الثمن، من خلال إيذائها نفسياً وجسديّاً والحطّ من شأنها ودورها في بناء الأسرة والمجتمع. ما يدعو للدهشة أكثر، أن نسبة المُحجبات ممَن يتم التحرّش بهنَّ تبلغ 72%، بحسب تقرير المركز المصري لحقوق المرأة، الأمر الذي يفقأ عين الإخوان والسلفيين بأن أسباب التحرّش تعود للباس الفاضح الذي ترتديه النساء، ويوضح بشكلٍ قاطع أن الأزمة أعمق من ذلك بكثير، وهي تتعلّق أساساً بالتربية الذكورية الشائعة في المنازل والمساجد والمدارس، والتحريض الدائم على المرأة ومحاولة إخضاعها للرجل وحصر مهامها في إطاعة أوامره. ثم لا يمكن ربط تلك الظاهرة الخطيرة إلا بجملة أسباب مُجتمِعة، الجهل والفقر والبطالة والتخلف السياسي والاجتماعي والاقتصادي وفشل التنمية وتردّي مستوى ومناهج التربية والتعليم.

 صعود الإسلاميين إلى الحكم وإعادة اجترار الماضي السلفي، سوف يؤديان إلى تعميق هذا الكبت الجنسي وزيادة ازدراء المرأة وتهميشها وإقصائها عن القيام بدورها في المجتمع بكافة المجالات، وهذا يُعدّ انتكاسة للخلف ورِدّة خطيرة.

إن تحرير المرأة من تحرير الرجل، ولا يُمكن السير في مسألة تحرير المجتمع بقدمٍ واحدة، ولا يمكن تحرير المرأة كما الرجل سوى بنضال مُشترك، فالعلاقة جدلية ولا يُمكن الفصل بينهما. إلا أن مضاعفة الجهود بين كافة التيارات اليسارية التقدمية والقوى الليبرالية والعلمانية الديموقراطية لمواجهة هذا المد الأصولي الإسلامي الظلامي، بات ضرورة أكثر من أي وقتٍ مضى، وتلك المواجهة ليست من أجل تحرّر المرأة فحسب بل من أجل تحرير المجتمع برمّته وخاصة الحريات الشخصية والتي هي أساس كل تحرّر.

تخيّلوا ما قاله قاضي قضاة قرطبة الفيلسوف ابن رشد قبل ثمانية قرون:

“في رأيي، أن النساء ما دُمن من أفراد الجنس البشري فهُنّ يشتركنَ بالضرورة في تحقيق غاية الإنسان، وهي تعمير الأرض والارتقاء بالحياة البشرية، ولن تختلف النساء عن الرجال في تحقيق هذه الغاية، إلا من حيث الدرجة الأكثر أو الأقل مثلما تختلف بين الرجال، ويستطعنَ أن يُصبحنَ من القضاة والفلاسفة والحكّام أسوة بالرجال”.

التكفيريون الذين أحرقوا بالأمس البعيد كُتب ابن رشد في ساحة قرطبة وطردوه بعد أن أحرقوا بيته أيضاً، مُهتدين بتعاليم شيخهم أبو حامد الغزالي في تكفير الفلاسفة، يقوم أحفادهم اليوم بإعادة إحياء تلك الهمجية التي كانت في الماضي أحد أهم الأسباب في انحطاط العرب والمسلمين وصعود الحضارة الغربية.

في الحقيقة، لا يُمكن تحقيق أي تقدّم سواء على صعيد حريّة المرأة أو سواها في ظل حكم المتعصبين الجهَلَة الذين يعلنون عداءهم جهاراً نهاراً للحريات، ويكفّرون أعمال الإبداع وكافة أنواع الفنون من رسم ونحت وموسيقى وسينما ورواية وفكر، لا بل يقومون بتدمير الرموز القديمة وتشويه بعضها الآخر. في مصر، قاموا بتدمير تمثال عميد الأدب العربي طه حسين، ثُمّ غطّوا وجه تمثال أم كلثوم بالنقاب، كما اعتدوا على أوابد فرعونية قديمة. وفي سوريا، قامت جهة أصولية متطرفة أيضاً بقطع رأس تمثال فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة أبي العلاء المعري في معرّة النعمان.

شيوخ الظلام هؤلاء، يقومون بإصدار الفتاوى بالقتل والتحريم والتكفير دون أي رادع أخلاقي أو قانوني وقضائي، فهل يمكن بناء دولة حضارية متقدّمِة بعقولٍ رجعية متخلفّة، وهل للمرأة دور ومكان بين هؤلاء…؟

يبدو لي أن الصراع سيستمر في تلك المجتمعات، وسيأخذ أشكالاً ومضامين تختلف عمّا كان في مرحلة إسقاط الأنظمة الديكتاتورية، فقد ثبت أنّها مجرد البداية، وأن الصراع الحقيقي حول بناء دولة علمانية ديموقراطية حقيقية وفصل الدين عن الدولة قد بدأت بوادره الآن، وإن لم تكن بهذا الوضوح، فالطريق خطرة ووعِرة وقد تُكلّف أرواحاً ودماءً أكثر مما يتوقعه البعض، وعلى ضوء مستقبل هذا الصراع المرير سوف ينقشع وجه المرأة الذي سيكون البوصلة الحقيقية في وجهة تلك المجتمعات.

الجولان السوري المحتل

المرأة السورية وجحيم الموعد

    فلورنس غزلان

    للمرأة السورية سنديانة المشرق، ملكة الأمومة …وسيدة الأحزان..المرأة …التي لاتحتاج لإقناع العالم بجدارتها ولا بأنوثتها …لم تعد بحاجة إلى من يعترف أنها سمكة فقدت بحرها…أنها طريدة حيث تذهب…تجد أمامها شباك الصيادين …أنها سبية تارة وبطلة أخرى…أنها ضحية تارة …وقوية أخرى…أنها لاجئة بلا وطن…أنها امرأة بلا زوج…أنها أم تحمل كفن ولدها…أنها فريسة لكل وحش كاسر جائع فاقد لإنسانيته…فكيف تعيش عيدها اليوم …وبماذا تشبه نساء الأرض؟

    إنها لاتشبه سوى وحدها…إنها من حَلِم بأن يكون إنساناً ذا معنى…إنساناً بحقوق وكرامة…ثارت مع ابن وطنها…رضيت أن ترسل ابنها للموت…رضيت أن تفقد حبيبها …لأنها ولدت وتربت على أن الأوطان لاتبنى دون تضحيات …لكن ماقدمته فاق أساطير الكون وكتب التراث والتاريخ…العالم يعيش في همومه أو في أبراجه…لكنها تعيش في جحيمها..تشد حزام العفة وحزام الأمان …تشد أزر الوطن وأزر الأخوة …تشد على لحم بطنها …وتعض على نواجذ الألم ..تخشى أن يراها أطفالها دامعة …تريدهم أن يصبحوا رجالاً ..أن يجتازوا السنين ..تريدهم أن يكبروا بمحبة وسلام… دون عنف أو ألم…تخفيهم عن عيون العسس …تخفيهم عن القناصة …عن آلات الحديد التي تجوب الشوارع وتزرع الرعب في جسدها…عن صواعق السماء وحممها…لكن جفونها …ثوبها … لايمكنه أن يكون خيمة مضادة للرصاص…تجمع ماتركه لها صُناع الفضيحة من ” حماة الديار ” تعبر كل الشراك والألغام …تعبر حواجز الموت…لتنقذ واحداً أو إثنان لم تستطع يد الكراهية أن تصلهم ولن تستطع هي بعد أن تنجب غيرهم…تدق أبواب الحدود …تدق أبواب الرحيل…تتقدم بأقدام عارية …خالية من أصفاد الأسد …ترفل بأصفاد الهجرة …وقيود الذل خلف الحدود…إنها تدفع ضريبة الوطن بمقادير مضاعفة عما يقدمه الرجل…فهي من أنجب الطفل الذي خط بطباشير المدرسة أول مفردات الحرية…وهي من قدم أول طفل يقضي تحت سياط وآلات أجهزة التعذيب في أقبية الأمن لنظام الأسد…هي أم حمزة الخطيب…هي أم هاجر…هي أم ثائر…هي أم الشهيد، وأم المعتقل..والجريح والمعاق..هي القلب الكسيح.

    فأي تكريم يمكن للمرء أن يجده مناسباً لقامتها الباسقة…؟ أي تكريم في عيد المرأة يليق بالمرأة الأسطورة؟

    المرأة التي كتبت ونقشت ودونت ..تاريخ ثورة خرافية الحكاية…المرأة التي تعطي ولا تبحث عن أوسمة، المرأة التي سينهض يوماً ضمير الكون ليغسل قدميها فوق تمثال الحرية…المرأة التي توقظ يوماً بعد يوم ضمير أرصفة عالمية تجاهلت شوارع وحارات بلدها…المرأة التي تكشف عورات طُهاة السياسة في فنادق العالم ومطابخ الدول…وهي فقط من يشم رائحة الخميرة في عجينة الحل…هي وحدها من يرفع الميزان ومن يخفضه…هي الأولى والأجدر …بأن يكون لكلمتها دور الفصل كمواطنة، كأم ، كزوجة ، كمناضلة …ككاتبة …كصحفية كمساوية لمن يحاول أن يقصيها عن درب القرار بمصير الوطن…مَن يحاول أن يضعها على الرف …أو في الدرجة الأدنى…معتقداً أن بندقيته من يصنع السلم الأهلي والنصر! أو أن احتكاره للأدوار في ملاعب السياسة سيضمن له القيادة!…متناسياً أن رأسه المملوءة بالانتقام والحقد والتمييز…لم يأت من حليب أمه السورية، بل من عنف البندقية ومن عقم الأيديولوجيا التي تضع المرأة أسفل السلم، وأنه في نهاية المطاف سيحبو ليكسب صوتها…أمه أرادت أن تصنع منه الانسان ، المواطن الحر …المحب للآخر…المتسامح …العاقل، الصبور …أمه اليوم تُذّكِرُه بحكايات الجدة قبل النوم …عن آفة الكذب وآفة الحقد، عن آفة التفرقة والأنانية، تريده أن يتذكر كل ماهو جميل في وطنه…أن يعود لرشده …أن يعيد الابتسامة لبيته والسلام لوطنه جنباً إلى جنب مع شقيقته …لأن أعمدة الوطن لاتقوم إلا على تعاون واعتراف الجنسين دون تمييز كل منهم بالآخر.

    ــ باريس 6/ آذار / 2013

الـمــرأة بـيـن آذاريــن

سوسن جميل حسن

بعد خمسين عاماً من المسافة الزمنية التي تفصلنا عن حدث صار، لكثرة ما احتفلنا به وكتب عنه وألّفت الأبحاث والكتب حوله، صار ملتصقاً في ذاكرتنا كدمّل ينبض بألم الصديد المحتقن الذي لا يسكن إلا بتفريغه. الحدث كبير وعظيم وخارق وخالق، إنه «ثورة» والتاريخ هو «الثامن من آذار لعام 1963»، فهل هي مصادفة عبثية كما نعتقد بشأن كل مصادفات القدر، أن يحمل آذار بين جنباته انتفاضة أخرى تطمح إلى تصحيح المسار وليّ عنق التاريخ وتطويع تجاربه الفريدة والطافرة عن مساراته أحياناً بعظمتها ونيلها رتبة النبوة والرسالة؟ هل نحن في حالة «حركة تصحيحية» بعدما هزت أركاننا وبعثرتنا أبواق التصحيح الذي لحق بثورة بيضاء جاءت على شكل انقلاب عسكري بترتيبات سريعة ومتسارعة حدّ دفعها بفارس واحد ووحيد ممن أجادوا ترويض حصان الثورة المزعومة إلى انقلاب آخر يطيح من امتطى حصان الثورة ويعيد الأمور إلى نصابها الذي ابتدأه بتعديل دستوري يؤسس لمرحلة مقبلة كان يرسمها على نية الأبدية؟

كانت المناسبة التي تستقطب الزمن بالاحتفال بها وإحياء ذكراها التي تشتغل القيادات الجماهيرية كلها وأركان الدولة والمؤسسة العسكرية والأمنية والتربوية والتعليمية وغيرها، على إبقائها ماثلة في أذهان الناس كي لا ينسوا أن مقومات الحياة بالمطلق هي من إنجازها، فلولاها لما كان هواء ولا ماء ولا خبز ولا لباس ولا أمل ولا طموح، هي الحركة التصحيحية، التي تمرّر كل عام يوماً واحداً ترصد فيه وسائل إعلامها لتحية كسولة ملولة لذكرى الثورة التي جاء التصحيح ليقوِّمها، ثورة الثامن من آذار، معيدة إنتاج نفسها إعلامياً حتى تصبح كل المناسبات الأخرى، حتى لو كانت عالمية، هي من صنع التصحيح وإبداعاته، إلى أن وصل بنا الأمر أن اعتقدنا أن اليوم الذي يحتفل فيه عالمياً بالمرأة هو أحد إنجازات الحركة التصحيحية المباركة.

الثامن من آذار «يوم المرأة العالمي»، فأين هي المكانة المنشودة لنصف المجتمع، ولفرد من اثنين يفترض أنهما ينتميان إلى فصيلة الإنسان؟

إن كانت ثورة الثامن من آذار نادت بأهمـية دور المرأة ومسـاواتها مع الرجل، وإتاحة فرص التعليم والعمل لها وتبوّء المناصب وشغل المراكز الإدارية بكل مراتبها، فإن الواقع واستقراء التاريخ، الذي نقرأ إرهاصات نتائجه اليوم، يظهر لنا أن المرأة لم تتساوَ في مواطنتها وإنسانيتها بشكل كبـير إلا في انعـدام هويتها كفرد من أفراد المجتمع وذوبانها في الهوية الشمـولية التي فرضها نظام سعى لتوحيد كل مناحي الحياة في شكل نمطي شامل يسلب كل فرد خصوصيته وإرادته المستقلة ورأيه الحر، وبالتالي يفقده القدرة على إبداع أي شيء حتى حياته الخاصة.

تلك الغربة عن الذات والإحساس بالقهر والذلّ والخوف المقيم في النفس وصدى الصوت الواحد والحلم الواحد والتفكير الواحد، إذا سمح بالتفكير، جعل من النفس أرضاً عطشى تلوب خلف ماء الحياة لتدرك وجودها، ولم يكن متاحاً لها غير الحفر في بطون الدين والتنقيب عن ماء الحياة، بمباركة من النظام الذي راح يكرّس بلعبة محبوكة تماماً أدواراً لرجال الدين، منهم من يستعملهم أبواقاً له، ومنهم من يتواطأ مع مرجعياتهم فيعقد الصفقات ويترك لهم مساحات من الأرض يمارسون عليها التبشير بدعواتهم شرط ألا يقتربوا من عرشه، بعد أن كان النقاب والحجاب وكل السواتر قد غلفت العقول التي تشكل الخطر الأكبر على سيادته.

أين هي المرأة التي كان النظام يحتفل في يومها العالمي في الثامن من آذار وقد حفلت السجون، وما زالت، بنساء معتقلات على الشبهة أحياناً، ولأنهن تبنين رأياً نقدياً لممارسات سلطة تمعن في إذلال الإنسان وقهره؟ أو لأنهن أنجبن أبناء عصاة قالوا لا للطغيان؟ أو لأنهن أحببن فرساناً ربما كانوا يحاربون طواحين الهواء في معظم حالاتهم؟

أين هي المرأة التي يحتفل بيومها العالمي ولم تشتغل الحركة الواثبة على سدة الحكم على تمكين بيئة ثقافية واجتماعية توفر للمرأة مكانها الإنساني؟ هل كان يكفي أن تكون رفيقة حزبية أو شبيبية أو تقفز في المظلة لتحطم الرقم القيـاسي في معـدلات القبول الجامعي، وفي المقابل يتلقفها مجتمع ما زال غارقاً في جاهليته وثقافته الذكورية لينعتها بألقاب أكثرها احتشاماً أنها «أخت الرجال» في محاولة لإظهار حسن نية بأن رفعها إلى مرتبة أخت الرجال، هذا إذا لم يقل عنها «مسترجلة». أين هي المرأة التي يحتفل بعيدها وما زالت قوانين الأحوال المدنية المستمدة من الشريعة تضعها في الخانة الأدنى وتضيّق عليها إنسانيتها، تعدد زوجات، الطلاق، الإرث، حتى المهر بمفهومه الذي يكرّس دونيتها ويحوّل العلاقة الحميمة بينها وبين الزوج إلى مقايضة لا تليق بكرامتها؟

عقود والمرأة ترزح تحت تهديد العنف بأشكاله المتنوعة، ويرزح معها الرجل أيضاً كمواطن في دولة ينسحب فيها القانون إلى كواليس الغرف المظلمة دافعاً مكانه قانون الظل والعتمة ذا السطوة المباركة بقوة الأجهزة الأمنية والمحسوبيات المسنودة إلى رموز السلطة بدوائرها التي تضيق، كلما ارتفعنا درجة في سلم السلطات، إلى أن تحتكر أكبر قبضة في يد عائلة واحدة.

ويأتينا ربيع واعد يجتاح المنطقة بأسرها كان لا بدّ له أن يصرخ معلناً عن قدومه، لكنه يسقى بالدم بدلاً من ماء الحياة، يتخلق العنف بأبشع صوره، وتدفع المرأة النصيب الأكبر من الموت. تموت في الميدان، يموت أبناؤها، يموت أطفالها يموت زوجها، تموت هي معهم وبهم وعليهم.

المرأة والحرية توأمان يبحثان منذ آلاف السنين بعضهما عن بعض، المرأة صاحبة البطن الخلاقة التي تمنح الحياة، لا يمكنها أن تصنع حياة كريمة مزدهرة بدون حرية، فيتحوّل الربيع الواعد بالحياة، بالتوصيف البسيط له بما يحمل من تفتح لبذور الأرض، يتحول إلى قمقم يهدد بحشر المرأة مرة أخرى مع أحزانها وأحلامها المجهضة وطموحاتها الموءودة وهي جنين.

نزلت المرأة منذ بداية الانتفاضات العربية إلى الميدان، نزلت بسلميتها وسلامها، لكنها دفعت الثمن الأكبر، دفعت أطفالها قرباناً أولياً، ثم تتالت القرابين، وشيئاً فشيئاً بدأت تباشير المكانة الجديدة التي تنتظر المرأة في الحياة البديلة، فتاوى تنهال من هنا وهناك، تكرّس ثقافة كانت تنمو في عتمة نفوسنا وقد حوّلها الاستبداد السياسي إلى مستنقعات تنمو فيها الطحالب واهمة إيانا بأننا نحيا، اتهامات للنساء والفتيات اللواتي نزلن إلى التظاهر بشرفهن، الوسيلة الأجدى لطعن كرامة المرأة، حجاب يفرض على الطفلة من سن الحضانة، نقاب يكون بديلاً من اللباس الموحد الذي حاصر أجساد وأحلام فتيات المرحلة السابقة، فتاوى تبيح بدعاً جديدة للزواج تتبناها بعض الجهات التي هجمت على ثورات الربيع العربي وتسوقها مستغلة وسائط الثورة الرقمية، مدعية خدمتها للجهاد.

آن أن تكون لهن، ثورتهن المبشرة بالحياة.

هكذا اضطهد “البعث” المرأة السورية

سلام السعدي

ليست المرأة السورية في أحسن أحوالها في “قلعة العلمانية الأخيرة” على ما وصف الرئيس بشار الأسد سوريا في مقابلته الأخيرة مع صحيفة “صاندي تايمز” البريطانية. إذ أن علمانية البعث كاشتراكيته تقريباً، ضرب من أيديولوجيا سلطوية، ابتغت التغطية على ميل جارف لإحكام السيطرة على الدولة والمجتمع، فكان أن حدث في ظل هذه العلمانية، إيقاف الجدال الأيديولوجي والثقافي في كل شيء، خصوصاً في العلاقة بين الدين والدولة. ما أدى إلى ضمور علمانية الدولة كما لم يحدث في تاريخ سوريا الذي تلا الاستقلال، كما تراجعت مرتبة المرأة ومشاركتها في الحياة الاقتصادية والسياسية.

ويوضح “التقرير العالمي للفجوة الجندرية 2012” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس)، تراجع سورية إلى درجات سحيقة في الفجوة الجندرية للعام 2012، إذ احتلت المرتبة 132 من أصل 135 دولة، بالمقارنة مع المرتبة 124 للعام 2011 ، وتعني فجوة الجندر ظاهرة عدم المساواة بين الرجل والمرأة.

 احتلت سوريا المرتبة 61 في مؤشر الصحة والحياة. إذ يبين التقرير أن العمر المتوقع لحياة المرأة يبلغ 65 سنة، وفي مؤشر التحصيل العلمي احتلت المرتبة 107، إذ بلغ معدل الإلمام بالقراءة والكتابة لدى الإناث 77 في المئة ولدى الذكور 90 في المئة، أما معدل الالتحاق في التعليم العالي فقد سجل لدى الإناث 12 في المئة ولدى الذكور 17 في المئة.

فيما تكشف الإحصائيات الرسمية عن حجم المعاناة المديدة للمرأة السورية مع الأمية في ظل حكم البعث، حيث زادت معدلات الأمية لدى النساء (15 عاماً فأكثر) عن 73 في المئة العام 1970، وتراجعت هذه النسبة في العقود اللاحقة حتى وصلت إلى 22 في المئة العام 2006 وفقاً للتقرير الوطني الثالث للأهداف التنموية الألفية 2010، وهي نسبة ليست هيِنة على الإطلاق.

الحديث عن المشاركة الاقتصادية يطول، نبدأ بمسح القوة العاملة للعام 2009، إذ شكلت الإناث نسبة متواضعة جداً من مجموع القوى العاملة، وهي 14.8 في المئة. ما يؤشر إلى ضآلة مساهمة المرأة في قوة العمل، مساهمة دأبت على التراجع المستمر، مع العلم أن معدلات الأمية للمرأة تراجعت في هذه السنوات، وبينما تفترض زيادة التعليم للمرأة زيادة نسبة مشاركتها في سوق العمل، حدث العكس!

 وبالعودة إلى تقرير الفجوة الجندية، نجد سوريا وقد سارت بصورة انحدارية في مؤشر الفرص والمشاركة في الاقتصاد، من المركز 103 العام 2007، إلى 107 في العام 2008، تلاه المركز 124 للعام 2009، ومن ثم المركز 124 لعامي 2010-2011، وأخيراً توجت انحدارها في العام 2012 باحتلال المركز الأخير.

ويفسر التقرير هذا التراجع الحاد، بزيادة فجوة الجندر في الدخل المتوقع، ذلك أنه يبلغ لدى المرأة 1.362 ألف دولار، ولدى الرجل 9.071 ألف دولار، في حين تبلغ نسبة كبار المسؤولات والمديرات 10 في المئة فحسب.

 هي أرقام مفزعة للمرأة السورية على صعيد عالمي، غير أن مقارنتها مع الدول العربية لا تجعل من الصورة أقل سوداوية، وإذ يكشف تقریر التنمیة الإنسانیة العربیة للعام 2005 أن مشاركة المرأة العربیة نسبة إلى مشاركة الرجل هي الأقل في العالم ولا تتجاوز 42 في المئة، (یبلغ المعدل العالمي 69 في المئة)، تسجل سوريا 27 في المئة فحسب.

إلى ذلك، احتلت المرأة السورية مرتبة متأخرة في مؤشر التمكين السياسي وهي المرتبة 111. إذ بلغت نسبة المرأة إلى الرجل في البرلمان 14 في المئة، ونسبة مشابهة في الوزارات، كما انخفض تمثيل المرأة في الدورة الحالية لـ”مجلس الشعب” إلى 30 من بين 250 عضواً.

أخيراً، وبعد استعراض هذا السجل الحافل بالجور على حقوق المرأة السورية، يبدو بديهياً ومفهوماً أن نضيف أن أي امرأة سورية، لم تتسلم موقع رئاسة الحكومة طوال عقود حكم البعث.

تاء مربوطة حرة

روجيه عوطة

ما عادت المرأة في العالم العربي ترضى بحصر زمنها في يوم ٍ احتفائي واحد،  يتذكرها الناس خلاله ببعض الكلمات والأفعال التقليدية، قبل أن يستأنفوا التعامل معها، في اليوم التالي، كأنها طرف اجتماعي ناقص. بعد اندلاع الثورات في الشرق الأوسط، وحضور المرأة في صلبها، كمتظاهرة وناشطة ومعتقلة، صار من الضروري أن لا تخضع النساء للسلطة ورزنامتها وكل ممارساتها القمعية.

انطلقت معارك انتزاع الزمن والكلام والحقوق من السلطات، وباشرت النساء في البحث عن وسائل غير كلاسيكية، للتحرر من وطأة العادات والتقاليد، والقوانين السياسية والاجتماعية. فانقسمت الوسائل إلى نوعين. الأول، واقعي، يتضمن الاحتجاجات والتحركات الشارعية، فضلاً عن حلقات النقاش والحملات وورش العمل. والثاني، افتراضي، تمثل بتأسيس الكثير من الصفحات “الفايسبوكية” التي تُعنى بحقوق المرأة العربية ومعركتها ضد الديكتاتوريات المختلفة. وهذا لا يعني أن نوعيّ الوسائل منفصلان، بل أنهما يتكاملان، ويساهمان في تطوير النضال في الواقع والإفتراض على السواء.  على الرغم أن بعضها بقي إفتراضياً، هلامياً، من دون أي ربط بالواقع وبالجمود المُكرس، بل وجاء مضمونها دون المستوى.

كثيرة هي الصفحات التي أنشأت من أجل إلقاء الضوء على القضايا النسائية في العالم العربي. لا يغيب أي بلد عنها، إذ تلاحق كل الأحداث والوقائع التي تحضر المرأة فيها إيجابياً أو سلبياً. فمن الخليج إلى المغرب، مروراً بالشرق الأوسط، تنشط النساء افتراضياً، ويحاولن تنسيق جهودهن كي يحققن في المطاف الأخير هدفهن الأساس، أي حرية المرأة على كل المستويات.

انتزاع الحرية لا المطالبة بها

الميزة اللافتة في معظم الصفحات الناشطة نسائياً على “فايسبوك” هي راديكالية خطابها، وجذرية نشاطها الالكتروني. فالأهداف التي تعلن عنها، والصور والبوستات التي تنشرها، لا تطالب السلطة بإصلاح بعض القوانين أو إعادة النظر في بعض الأعراف، التي تسيء إلى المرأة. بل أنها تتوجه إليها بلغة ثورية، لا تهادن أو تساوم، وذلك لأن المرأة أثبتت خلال الثورات الأخيرة على الأقل أنها ليست طرفاً اجتماعياً ضعيفاً، يحتاج إلى حماية الرجل، كما ليست كائناً معيباً، دائم الحاجة إلى ستر خطاياه وتلقف فضائحه.

 فبالنسبة لصفحة “الاتحاد النسائي المصري”، يعود نجاح ثورة 25 يناير إلى اندماج كل مكونات المجتمع الشعبي في فضائها، لا سيما النساء، فقد برهنّ أنهن من القوى البارزة في الميادين، التي لا تنتظر اعطاءها حقوقها بل تبادر إلى أخذها بقوة الوعي والعمل والتنظيم. كما جاء في تعريف صفحة “مشاغبات كادحات” بأنها “صفحة نسائية ثورية ضد الجتمع الذكوري الرأسمالي المتعفن”. أما  صفحة “حركة بنت مصر” فتعلن أن هدفها الرئيسي هو التصدي لكل سلطة في المجتمع.

 وفي نص التعريف الذي نشرته صفحة “نساء سوريات لدعم الانتفاضة السورية”، يُذكر أن هدفها الأساسي هو “دعم الانتفاضة السورية بكافة الأشكال التي تصب في مصلحة استمرارية الثورة حتى تحقيق أهدافها في إسقاط النظام، وقيام دولة الحرية والديمقراطية، دولة المواطنة والقانون واحترام حقوق الإنسان”. وتعلن صفحة “ثورة البنات” أن هدفها هو الإطاحة بكل ما هو متخلف.

 أما صفحة “مساواة” السورية فتهدف إلى “المساهمة في عملية التغيير الجذري الديموقراطي وصولا إلى بناء الدولة العلمانية الديمقراطية الحديثة.” كما لا تخفي صفحة “انتفاضة المرأة في العالم العربي” راديكاليّتها،  في دعوتها إلى استكمال الثورة على الأنظمة من خلال الإطاحة بالذكورية التي تحول كل رجل إلى ديكتاتور في المؤسسات الاجتماعية كافة،  فـ”الثورات التي بدأت في العالم العربي، علينا نحن النساء أن نكملها. لا أولويات مزعومة لنخضع لها، لا رقابة ذاتية، ولا مساومة على حقوقنا. إما أن تكون الثورات كاملة بنا أو لا تكون”.

 مجموعة “سافرات”

يدل التشابه الراديكالي بين أهداف معظم الصفحات إلى الظروف القمعية المشتركة التي تعيش المرأة العربية في ظلها. وفي بعض الأحيان، لا يظل هذا التشابه خطابياً فقط، بل أنه يؤدي إلى توحيد الصوت الثوري للنساء، والتشبيك بين نشطاتهن، وذلك، من خلال إطلاق مجموعات وصفحات عابرة للحدود الفاصلة بين البلدان، بالاستناد إلى غاية مشتركة. ففي هذا الإطار، تندرج تجربة مجموعة “سافرات” التي تدعو إلى الثورة على السلطات الظالمة، لا سيما الدينية منها، وإلى تأسيس “وعي أنثوي حديث يضمن الحرية والعدالة الاجتماعية للمرأة في شتى المجالات”.

تنتشر هذه المجموعة في كل بلد من بلدان اللغة العربية، فإمكان المرء أن يلاحظ وجود عشرات الصفحات التابعة لها، كـ”سافرات تونسيات”، “سافرات سعوديات”، “سافرات لبنانيات”، “سافرات سوريات”، “سافرات فلسطينيات” إلخ. وينشط جميعها في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، لا سيما تلك المتعلقة بحرية التعبير عن الآراء والمعتقدات، التي لا تتوقف السلطات الدينية عن لجمها عبر الركون إلى حجج وبراهين قروسطية واهية.

 الحق في الجسد

من أشهر تلك الحجج الظلامية أن “المرأة عورة”. وهي حجة تؤسس للتعامل مع جسد المرأة كأنه مخلوق ناقص أو مصدر عيب، لا بد من تغطيته أو ستره، إما بالحجاب أو بالجسد الذكوري، الذي غالباً ما يتطرف في الستر حدّ الاغتصاب.

لكن النساء المتحررات دائماً بالمرصاد. إذ أطلقن عدداً من الصفحات “الفايسبوكية”، التي تهدف إلى الدفاع عن جسد المرأة وحقه في الحضور الحر والكريم داخل كل المجتمعات. وذلك، بعيداً من السلطة الاجتماع والدين عليه، ومن الانتهاكات التي يتعرض لها في الأسواق والمؤسسات الإقتصادية، بسبب ظروف العمل القاسية.

 فترفع صفحة “لست عورة” شعار “يا نساء العالم اتحدن”، كما تهدف صفحة “المرأة ثورة لا عورة” إلى رصد كل كل التدابير القمعية التي تتعرض لها النساء، لا سيما التعنيف الأسري والتحرش الجنسي. وقد نشأ عدد من الصفحات بغاية الدعوة إلى مكافحة العنف والاغتصاب والتحرش، خصوصاً في مصر، التي شهدت موجة من الانتهاكات الفيزيقية بحق المرأة في الشوارع والميادين. ومنذ مدة قصيرة، رد الناشطات على هذه الموجة بـ”تظاهرة السكاكين” الشهيرة. من تلك الصفحات المتخصصة في مكافحة التعدي الجسدي، صفحة “لا لأشكال العنف ضد الفتيات والنساء”، و”لا للتحرش لا للعنف”، “ثورة على المجتمع الذكوري”، “نفسي”، بالإضافة إلى صفحات رصدية، كـ”الصفحة الرسمية لرصد انتهاكات مترو الأنفاق” في مصر.

ثورة مضادة

ومثلما أن الفضاء الإلكتروني متاح للمدافعين عن حقوق المرأة وحرياتها، فهو مفتوح أمام الذكوريين والظلاميين وغيرهم من السلطويين. وهذا ما يؤدي إلى مواجهة الثورة النسائية في العالم “الفايسبوكية” بتحركات مضادة لها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، شهدت السعودية معركة افتراضية بين المدافعات والمدافعين عن حق المرأة في قيادة السيارة، ومعارضات ومعارضين لهذا الحق.

 فمن أجل الرد على حملة “سأقود سيارتي بنفسي”، التي أطلقها عدد من الناشطات السعوديات عام 2012، أنشأ شاب سعودي صفحة “العقال”، وأطلق حملةً مضادة بعنوان “حملة العقال يوم 17 حزيران/يونيو لعدم قيادة المرأة”. وقد دعى إلى عدم السماح لأي امرأة بقيادة السيارة يوم 17 حزيران، ومعاقبة اللواتي يتجرأن على ذلك بالضرب، فـ”العقال سيكون بانتظار أي شاب وفتاة مع قيادة المرأة للسيارة”.

 غير أن النساء السعوديات لم يقفن مكتوفي الأيدي أمام هذه الحملة المسيئة لحقوقهن، بل أنشأن صفحة “فايسبوكية” جديدة، وهي “معاَ ضد حملة العقال”. كما توجهن إلى كل السعوديين بدعوتهم إلى نقاش هادئ ومنطقي حول حقوق المرأة في السعودية، وفي كل العالم العربي، وذلك على صفحتهم في “فايسبوك”. علماً أن الموقع الأزرق ليس دائماً إلى جانب النساء وحرياتهن. فقد عمد مثلاً إلى إزالة عدد غير قليل من الصور التي نشرتها صفحة “انتفاضة المرأة في العالم العربي”، والتي تظهر فيها نساء يدافعن عن حقوقهن، خلال حملة “أنا مع انتفاضة المرأة لأنني”.

 من المؤكد أن واقع المرأة في مرحلة ما قبل “الربيع العربي” مختلف جداً عن واقعها بعد الثورات. فنتيجة القمع الممارس ضدها على كل المستويات، وبسبب انغلاق الفضاء العام أمامها، نزحت المرأة إلى الفضاء الإفتراضي كي تبدأ بثورتها الواقعية، التي تتوازى مع حراكها الإلكتروني. وذلك، بوصفها إنسانة تمثل كل معزول ومقموع ومهمش يطمح إلى القضاء على كل أنواع وأشكال السلطة، وذلك، بعيداً من هويته الإديو-جنسية، على قول الفيلسوفة سيلفيان آغاسنسكي.

ثورات لا تكتمل إلا بنا

نضال أيوب

في اليوم الذي تحتفل فيه ملايين النساء بيوم المرأة العالمي، ما زال وضع المرأة في العالم العربي من سيء إلى أسوأ. ورغم مشاركة النساء باللحظات التاريخيّة المفصليّة التي يمر بها العالم العربي إلا أن الثورات التي قامت على أساس المطالبة بالكرامة الإنسانية والحريات والعدالة الاجتماعيّة غفلت عن حقوق النساء ولم تضعها حتى على هوامش مطالبها، الأمر الذي زاد وضع المرأة سوءاً في العديد من البلدان.

الآمال التي كانت معقودة على هذه التحولات بما يخص وضع المرأة خُيبت، بعد أن اختصر الأمر على الإطاحة بالأنظمة فقط. ولأن أهداف الثورة الأساسية لا يمكن أن تتحقق إن وضع ملف المرأة جانباً، كان من الضروري إيجاد مساحة خاصة تعنى بقضايا المرأة وتعيد تسليط الضوء عليها. وهذا ما دفع ثلاث نساء، هن ديالا حيدر ويلدا يونس من لبنان، وفرح برقاوي من فلسطين، إلى إطلاق صفحة “انتفاضة المرأة في العالم العربي” .

هي واحدة من أبرز الصفحات في مجال المطالبة بحقوق المرأة. ولأنها تجرأت على طرح العديد من القضايا التي لم تتطرق لها الصفحات الأخرى وكانت المنبر المفتوح بشكل كامل وعلني دون أي قيود، استطاعت أن تستقطب أكثر من مئة ألف متضامن مع قضيتها. وتميّزت أيضاً بتنوّع المشاركات فيها لتطال جميع الدول العربيّة، من دون أن يكون الطابع الأنثوي هو المهيمن. ولم تنحصر في فئات عمريّة محددة.

من هنا كان للصفحة دور في توحيد صرخات النساء وإعطائهن مساحة من الحريّة لقول ما يردن دون رقيب. في وقت قصير وبعد أن بدأت الصفحة حملتها الأولى القاضية بأن تحمل كل مشاركة لافتة تشرح سبب كونها مع الانتفاضة، استطاعت أن تثير جدلاً عبر بعض اللافتات التي وجدها البعض مستفزة لما يعتبرونه هم من المقدسات. الأمر الذي دفعهم لشن هجوم بكافة الوسائل الممكنة، من تعليقات ساخرة إلى شتائم وتهديدات ومحاولات لإزالة الصورة. الهجمات التي شنّت على بعض الصور استرعت انتباه الصحافة والإعلام، وقد وُجدت في الصفحة مادّة دسمة يكتب عنها باستمرار، مادة لا تنتهي بفترة زمنيّة محددة, عكس التظاهرات.

القائمون على الصفحة لم يسكروا بنشوة الانتشار الذي حققته الحملة الأولى، بل كان ذلك حافزاً لهم كي يكملوا بأفكار وحملات جديدة. الحملة الثانية كانت “احكي قصتك”، وأتت تزامناً مع اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، وفيها دعوة لملء العالم ضجيجاً بحكايا النساء، لأن الفضيحة هي فعل المعتدي لا المعتدى عليه، والصمت هو حماية للمعتدي وجريمة بحق المعتدى عليه. الدعوة هذه أيضاً لاقت تفاعلاً من كل البلدان العربيّة فدوت القصص المخبأة وخرجت إلى العلن.

الإرهاب الجنسي الذي تعرضت له النساء في ميدان التحرير جعل العالم الافتراضي يضيق أمام آلالام النساء التي توحدت وكان لا بدّ بعدها من الخروج إلى الضوء. هكذا، نظم أول تحرك خارج العالم الافتراضي، وكانت الوقفة التضامنية أمام السفارات المصرية في 35 دولة عربيّة. وكما في العالم الافتراضي، كذلك في الواقع، استطاعت الصفحة أن تحقق نجاحاً وصدى في العالم العربي.

اليوم، في ذكرى يوم المرأة العالمي، ستخرج صفحة “انتفاضة المرأة في العالم العربي” مرّة أخرى إلى الشارع لتفاجئ جماهيرها بصور النساء على المباني الضخمة في تسع من العواصم العربيّة (بيروت، القاهرة، تونس، رام الله، بنغازي، طنجة، وعمان). ستحكي الصورة عن حقوق المرأة، إلى جانب كلمات القائمات على الصفحة اللواتي يرين أن “الإطاحة بالدكتاتوريات هي الجزء الأسهل، لكن لكي تكتمل الثورة، علينا الإطاحة بالذكورية التي تجعل من كل رجلٍ دكتاتوراً… علينا نحن النساء أن نكمل الثورات، إما أن تكون الثورات كاملة بنا أو لا تكون”.

تشويه المرأة السورية

محمود الحاج

حرفت الدكتاتورية التي حكمت سوريا منذ خمسة عقود، التطور الطبيعي لهوية المرأة السورية عن مساره المفترض، المتأثر بالتطور التعليمي، والتكنولوجي، والثقافي. عزْل سوريا عن العالم، والركود السياسي الذي شهده البلد، ومحاولات تغريب المجتمع على نحو مفاجئ بما يخدم صفقات النظام السياسية،  كلها عوامل أضافت ومحت بعض ما تحمله هوية المرأة السورية. وحين سعى النظام، مضطراً، إلى ممارسة الانفتاح، في السياسة والتكنولوجيا والإعلام والثقافة، وقعنا على تشويه أكثر حدّة لصورة المرأة السورية، وتكفي هنا ما باتت تُسمى “مسلسلات بيئية” كمثال.

  تحولت المرأة في سوريا، بوصفها كائناً “مقدساً” لدى شرائح واسعة من المجتمع، إلى واحدة من أهم أيقونات المقاومة الرمزية لسياسات نظام “البعث”. مثلاً، قابلتْ سعي الأسد الأب إلى تنميط صورته كـ”أب” لكل للسوريين، مقاومة اجتماعية ناعمة (بعد قمع المقاومة الخشنة: “أحداث الثمانينيات”) كانت المرأة عاملاً مركزياً فيها. وتمثلت هذه المقاومة في العودة إلى التقاليد، وإلى العائلة الأساس، بما في ذلك من أسلوب وشكل عيش يومي “محافظ” ومغلق على ذاته.

 وعلى هذا، لم يعد ممكناً الحديث عن امرأة سورية واحدة، أو نساء سوريات يحملن هوية وجودية واحدة، في ظل هذا النظام السياسي. فقد نجحت الدكتاتورية البعثية، على نطاق واسع، في خلخلة المجتمع، ودفع أفراده إلى عوائلهم، إلى إثنياتهم ومعتقداتهم الدينية، بما يعنيه ذلك من اختلاف واسع بين عائلة (بما فيها من نساء) تعيش في حلب أو دمشق، وأخرى تعيش في السويداء أو طرطوس أو القامشلي. كل ذلك كان على حساب السعي إلى صهر كل السوريين في بوتقة “المجتمع الواحد رغم تنوعه”.

هذا المجتمع الذي يمكن أن يستخدمه النظام  ويحمله ما يمكنه تحميله من خطاب سياسي جامع (مجتمع مقاوم، ممانع، الخ). والنظام هنا لا يغزل على منوال النوايا الحسنة؛ إذ أن من خرب مجتمعاً، واشتغل على مبدأ فرق تسد حتى بين أفراد العائلة الواحدة، لا يمكنه أن يكون نقيض نفسه ومصلحاً وجامعاً فيما بين السوريين، الذين لا ينقصهم إلا رحيل هذه الدكتاتورية، كي يستعيدوا ما فقدوه من خصائص هوياتهم، أو ربما: “هويتهم”.

 بعدما اعتقد النظام بخلوده، ووطد قواعده الأمنية والإعلامية ظاناً أن مسيرة التفرقة بين السوريين قد اكتملت داخلياً تحت شعار “المجتمع الواحد رغم تنوعه الديني والإثني والطائفي”، بدأ مرحلة تصدير هذه الشعار إلى الخارج، مستغلاً كل الأدوات التي تساعده في ذلك. وكانت الدراما إحدى أهم الأدوات التي استخدمها النظام لتقديم السوريين، ولاسيما المرأة، إلى العالم بالصورة التي يراها مناسبة.

وفتح النظام باب رضاه واسعاً أمام أعمال درامية، “بيئية”، تقدم للعالم ملامح مختلفة، خاطئة، بل بائدة أحياناً، عن المرأة السورية. ولنا أن نتخيل سعادة النظام بـ”النجاح” الذي يفترضه حليفاً له حين يمهر بختم رضاه مسلسلات “بيئية” بطرياركية تشوه السوريات، وتقدمهن إلى العالم في الصورة التي يريدها، مثل “باب الحارة”. لقد كان هذا المسلسل، وبعض المسلسلات التي تشبهه خلاصة خمسة عقود من الاشتغال على قولبة السوريين بما يرضي “البعث”، الذي يفخر بأن نساء “باب الحارة” و”ضيعة ضايعة” و”الخربة”، مثلاً، ينتمين إلى مجتمع مقاوم واحد، رغم اختلافاتهن التي تسوقها الدراما.

عندما انطلقت الثورة، عادت قضية المرأة السورية إلى الشعب، بعدما صادرها النظام لعقود بمسلسلاته ومجلس شعبه واتحاده النسائي العام وعدد من الجمعيات والمؤسسات البعثية الأخرى. وقد تظاهر عشرات الآلاف، في بدايات الثورة، مطالبين برفع الحظر عن المعلمات المحجبات والسماح بعودتهن إلى عملهنّ، بعد أن حرمهن من ذلك النظام الذي يدعي “علمانية” خاصة به لا تشبه العلمانية المعروفة. كما أن غضباً عارماً تجلى لدى كثير من السوريين حين استغل النظام “قداسة” المرأة، وحاول ربح جولات ضد المعارضة بلعبه على هذا الوتر في الإعلام، بدءاً من ترويجه لقصص خيالية ورديئة الحبكة مثل قصة “المغتصبات” في مخيمات اللاجئين في تركيا، وليس انتهاء بفتاوى ابتكرها جنوده الإلكترونيون وادعوا فيها أن “شيوخاً” أفتوا وأحلوا “ستر” السوريات بالزواج منهن.

وتتسق مثل هذه التصرفات، العلنية، مع ما نفترض أنه كان يدور في عقلية النظام عندما كان يوزع صكوك الغفران والفخر على “دراماه” ومسلسلاته ويستغلها لخدمة مصالحه. كما أن هذه التصرفات، التي واجهها المعارضون بمادرات وطنية وأخلاقية مضادة، تؤكد ما بات معروفاً عن النظام اليوم، من أنه دخيل على السوريين وتديره عقلية عائلية متفلتة من أي انتماء وطني أو اجتماعي أو ديني أو حتى عقائد.

 لقد بات ممكناً، اليوم، توقع عودة هوية المرأة السورية إلى مسار تطورها الطبيعي بعد الخلاص من هذا النظام وأدواته السياسية والعسكرية والإعلامية. صحيح أن الثورة لن تنقل المجتمع السوري، بين ليلة وأخرى، إلى عالم ورديّ؛ إلا أنها المفتاح الذي كان ضائعاً في العقود الخمسة الماضية، والذي تُفتح به أقفال صدئت على أبواب حياة أفضل.

نحن “العاديات

جهينة خالدية

 ليس الزهر الخاصية الوحيدة للربيع، بل الإعتدال أيضاً. الإعتدال الذي لم يعرفه موقع المرأة في “الربيع العربي”، وما تلاه من “فصول متطرفة” أغرقت صورة المرأة الواقعية والإعلامية في مستنقعين حادين.

لعلها ثورة جديدة لابد أن تجد طريقها إلى الضوء. ثورة على المتطرفين والمتطرفات. إنتفاضة لا بد منها، على إنقسام حاد بدأت ترتسم معالمه ما بين الإسلاميين المتشددين والإسلاميات المتشددات وما بين الليبراليين المتطرفين والليبراليات المتطرفات.

خلف كل من هذين الطرفين ستصطف نساء على جبهتين، وما بينهما ستقف نساء معتدلات، ليبراليات، متعلمات، تؤمنّ بالشراكة وبالإعتدال وبالنضال لحقوقهن قبل كل شيء. نساء نافذات. نساء “عاديات” يتميزن بما يقدمن من إضافة نوعية في الفكر، لا نساء يظهرن إبان إضافة “نوعية” في الخلع أو المبالغة بالحجب.

ليست معركة ما بين الدين والكفر. ولا معركة ما بين السفور والنقاب. إنها معركة ضد تنميط صورة المؤمنات وأؤلئك المتحررات المعتدلات المطالبات بالقوانين المنصفة والرافضات للذكورية. معركة ضد تنميط صورة النسويات. معركة ستكون النساء واجهتها الأساس. هن في مواجهة نساء ذكوريات. وهن في مواجهة نساء اختصرن وسائل تعبيرهن بالجسد، من دون أن يملكن ما يقال أبعد من التعري كحق. من دون أن يملكن الثقافة الكافية لتجذب الرأي العام إلى قضيتهن، لا إلى أجسادهن فقط.

قد يكون من المبكر الحديث عن ثورة، إنما لا بد أن يشكل إعلان منظمة “فيمن” نيتها افتتاح “فرع” لها في تونس، جرس إنذار. إنذار حول إرتفاع منسوب الإنقسام. هو تطرف سيقابله تطرف أكبر. هي “حرية”، ستقابلها رغبة بممارسة “حرية” أكبر: حرية التشدد، حرية القمع، حرية المنع. والحرية الأخيرة هذه ستتحول إلى حق بالحجب، لنشهد على زمن تُقفل فيه قنوات تظهر فيها سافرات، أو زمن يسطع فيه الفوتوشوب كالمخلص من الأكتاف العارية والأعناق الظاهرة. لنصل إلى عصر سيظن البعض أنه يتقدم فيه إلى الأمام، في حين أن كل ما يفعله هو عودة مغرقة في الجهل.

المعادلة بسيطة، كلما إزدادت “الفيمنيات” اللواتي لا يجدن مكاناً ليكتبن رسائلهن إلا على صدورهن، كلما إنفجرت في وجهنا أزواج العيون المتلصصة من خلف نقاب ومن خلف رجل أو رجال. سيحصل هذا، من دون أن يكون له أي علاقة بالحقوق. لن يحقق أي من الطرفين مكتسبات ومساواة وإعتدال. ولن يشكل أي منهما “ماين ستريم” نسوي عربي عاقل.

المبالغة بكل شيء، لها ثمن. ثمن غال تدفعه أساساً الوسطيات. سيدات في الحركات النسوية، شابات في مواقع فاعلة في مجتمعهن، جميلات بمعايير غير منمطة ولا مبهرجة، مثقفات بلا إدعاءات.

لسنا كلنا علياء مهدي، ولسنا سعاد عبد الرحيم ولا عزة الجرف ولا ميريام كلينك، بما تمثله كل منهن في موقعها اليوم. كلهن “حرائر”. لا حكم عليهن. إنما لا تريد كل النساء أن تكون راقصات أومغنيات في المجالس النيابية. ولسنا كلنا متشبثات بسخفنا الذي تروج له كلينك كجزء من شخصيتها، ومن حقها علينا أن نتقبلها كما هي: “هذه أنا، هذه شخصيتي، وما بدي إتغير”. الجملة التي خاضت فيها معركتها السطحية ولعبتها المكشوفة في برنامج “الزعيم”. من حق العارضة أن تكون هي، ومن حقنا أن نقول إنها لا تمثلنا. ولها علينا أن نتقبلها جيداً في مجالات هي أكثر براعة فيها.

الخشية الأكبر من الحال الذي وصلنا إليه هي خشية من الأحكام المطلقة. الحكم بالتخلف، على كل من يرفض “الحرية” المطلقة، وتصويره على أنه رافض للآخر، ورجعي. هو خوف من أن يُتهم كل رافض للشقراء الضحلة، بأنه “غير منفتح” ولا مقدر للمواهب السياسية.

المدن

“سكربينة” حمراء

حنين الأحمر

في يوم المرأة العالمي اختارت مجلّة ماري كلير الفرنسية أن تضع على غلافها رجلاً ينتعل حذاءً نسائياً أحمر بكعب عال (سكربينة) في نداء رمزي منها للمساواة بين الرجل والمرأة، وتوكيداً لدعمها حقوق المرأة في العالم.

في خطوة مماثلة، يركض كل سنة، رجال منتعلين أحذية ذات كعوب عالية معظمها أحمر اللون، في ماراثون في كندا.

علياء مهدي. الفتاة المصرية التي تعرّت اعتراضاً على حكم الإخوان المسلمين في مصر. لم تكن عارية بالكامل. كانت تنتعل “سكربينة” حمراء. اختارت أن تغطي قدميها، مركز قوّتها بحسب فرويد. أما اختيارها، مع “ماري كلير” والعدائين الكنديين، اللون الأحمر فله دلالات كثيرة.

فالحذاء النسائي الأحمر، في بعض الثقافات، يرتبط بالإغراء والجنس، وعبثاً تحاول أن تعثر على أي إيحاء جنسي في ملامح وجه علياء مهدي. لها وجه لاعب بوكر. وطبعاً لا يمكن العثور على إغراء في وجه الرجل الذي اختارته ماري كلير نجماً لغلافها. لا وجود للإغراء، فلماذا الأحمر إذاً؟ هل هي الثورة؟

 علياء اختارت انتعال حذاء بهذا اللون لأنها متضامنة مع المرأة في إيران التي يمنعها النظام من ارتداء أي حذاء ذو كعب عالٍ أحمر اللون لما يحمله من إغراء وشغف جنسي. هذا ما صرحت به، الكترونياً، حينما سئلت عن سبب إختيارها هذا اللون. هل يحدث ذلك حقاً في إيران؟ قد يكون ذلك صحيحاً، يصعب التأكد.

وإذا عدنا بالتاريخ، سنرى أن الحذاء بكعب عال لم يكن محصوراً انتعاله بالنساء، والأحمر منه خصوصاً كان دليل ارستقراطية وعلو مرتبة. حتى أن ملك  فرنسا لويس الرابع عشر أصدر قراراً في العام 1700 يقضي بحصر ارتداء الكعب العالي الأحمر بأفراد الطبقة الإرستقراطية فقط، وعدم السماح لأحد بانتعال كعب أعلى من كعب الملك.

 أن تختصر صورة المرأة بـ”سكربينة” حمراء أمر مؤذٍ بكل المعاني. فالحذاء العالي، يؤثّر سلباً على صحة عظامها ويزيد الضغط على مفاصل رجليها ويؤدي إلى إصابة قدميها بتشوّهات في الأصابع، وآلام في الظهر. ولطالما كان ارتداء “السكربينة” بهدف إثارة الرجل وإغرائه جنسياً، خصوصاً من يتملكهم “فيتيش” القدم الجنسي.

 وتؤكد مقولة أن “الكعب العالي يبرز جمال المرأة ويجعلها مثيرة في عين الرجل ويزيد من ثقتها في نفسها”، أنه مجرّد وسيلة للتعويض عن نقص نفسي عند المرأة، وأنها تستعين به لتزيد طولها ورشاقتها وبالتالي ثقتها بنفسها. وظهوره في شكله الحديث صمّم لرتق هذا النقص. فقد ظهر لأول مرة في تصميمه الحديث في عهد ملكة فرنسا كاثرين عام 1533، حيث صُنع لها زوج من الأحذية العالية الكعب لبسته يوم زفافها لأنها كانت قصيرة، وأرادت أن تزيد من طولها لتزيد ثقتها بنفسها.

 تحاول المرأة اللحاق بالرجل في الأزياء حتى تندمج في سوق العمل الذكوري، فتلبس الجينز والأحذية الرياضية والجاكيتات وتقص شعرها قصيراً. واليوم تحاول “ماري كلير” بغلافها خلق نوع من التوازن لصالح المرأة المائلة نحو الذكورة لتحقيق نفسها، عبر إلباس الرجل “سكربينة” حمراء، وكأن هذه “السكربينة” تلغي الفوارق الجندرية والإجتماعية بين الجنسين.

على كل حال، يحيى جابر سبق “ماري كلير” إلى قول ما هو أكثر توازناً: “نحن الرجال، نساء هذا الكوكب”، لكن ذلك يبقى دائماً رهن النساء، فكما قال شارلز بوكوفسكي: حين تكف النساء عن حمل المرايا إلى كل مكان يذهبن إليه، فعندئذ ربما، يمكنهن أن يحدثنني عن التحرر.

على تلك الدرب، ابتسامة أيهم بوصلتي… لا موته

هيلنا ناصيف* ومزنه المصري*

لم أكن قد أكملت أعوامي العشرة حين قرأت رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف. لم يكن هناك في أدب الأطفال ما يكفي لإشباع رغبتي في القراءة أو لمقاومة الملل في مدينة تحاصرها الحروب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي، فشرعت بقراءة ما استسهلت من مكتبة والديّ.

أمي التي هالها أن تراني قد أكملت الرواية – كأنها تظن أنّ الواقع الذي كنا نعيشه كان أقل ألماً أو سوريالية – سألتني رأيي في الكتاب:

عادي

ما زعجك؟

مش عارفة…

شو؟

في ناس عنجد بتعمل هيك؟ يعني معقول في سجون متل هيك؟

لم أتمكن من إعادة قراءة الكتاب منذ ذلك الحين، ولم يبق في ذاكرتي منه إلا بضعة مشاهد لا أستطيع الجزم إن كانت فعلاً قد وردت في الرواية. في أحدها، يوضع رأس سجين سياسي داخل كيس مع قطط عدة، ومن ثم تجلد القطط لتنهش وجهه. هالني حينها قدرة سجاني «شرق المتوسط» على ابتداع وسائل تعذيب كهذه.

■ ■ ■

وقفت أمام المرآة لدقائق اتفحص تجعيدة القلق التي بدأت تظهر على جبيني، وأمارس تقنية استرخاء عضلات الوجه التي نصحتني بها صديقتي. تقنية الاسترخاء لا تفيد، فالتوتر يأكل معدتي وكل الدموع التي تنهمر يومياً لا تكفي لتغسل إحساسي بالذنب والعار. لقد وقفت أمامهم عاجزة وهم يقتلونه. نظرت إلى عينيه، وكان كأنه لا يراني. شاهدتهم وكان بحوزتي مسدس، لكنّي من شدة الخوف لم أقوَ على انتشاله. كان اسمه أيهم، وكان يحب أكل الفشار بالزبدة، وكنت أحب أن أعانده كلما أراد أن يشاهد التلفاز.

■ ■ ■

وصلني منذ فترة خبر موته تحت التعذيب في أحد معتقلات شرقيّ المتوسط. شاب كنت قد التقيته سريعاً في بيروت، أياماً قليلة قبل اعتقاله. بسنواته العشرين وابتسامته الهادئة، بدا أكثر براءةً من أن يدخل السجن. قضى أيهم بعد ثلاثة أيام من اعتقاله فقط. لم يحتمل جسده خيال سجاني الرواية. لبطل رواية منيف في خيالي اليوم، داخل ذلك الكيس، وجه أيهم.

■ ■ ■

ذلك لم يحصل، لكنه حصل. أنا لا أعرفه، ذاك الذي استشهد مرتين. أنا أبكي دون أن أشهد على اغتيال أحد إلا إلكترونياً. أنا أبكي على نفسي وعلى العمر الذي يمضي وعلى مجرد الفكرة التي مرت، أنني من الممكن أن أحقن عضلاتي بالبوتوكس لكي لا يرى من حولي، أنّي قد كبرت أكثر من عشر سنوات في السنتين الأخيرتين. نعم، أريد أن أغشكم جميعاً لتخالوني بطلة فيلم هوليوودي، بينما أنا ابنة المخيم الأول الذي تأسس عام ١٩٤٨ والمخيم الثاني الذي دُشِّن عام ٢٠١١.

■ ■ ■

لم أعد في العاشرة من العمر، بل قد بلغت ــ ربما أياماً فقط بعد موتك ــ سنّ «الحكمة» التي ما زلت أبحث في هذه السطور عنها. رفاقك، في ذلك المكان الذي أتمناه أجمل، أصبحوا عشرات الآلاف. تزورني وجوههم جميعاً وهي تحمل ابتسامتك. تسائلني في عملي، وتطلّ على كتابتي. تحاسبني عمّا اقترفت يداي، وما تقاعست عنه. ما الذي بإمكاني أن أقدمه لجيل العشرينيات، أنا وجيلي ممن عاشوا العديد من الحروب التافهة وشاهدوا تفكك إيديولوجيات ثورية وخيانة قادتها كما تغيُّر هوى مناصريها؟ لا يبدو أنّ في جعبتي الكثير، رغم فلسطين وانتفاضاتها، ولبنان وحربه، كما حراكنا الذي تخطى حدود دويلات شرقي المتوسط على مدى عشرين عاماً.

■ ■ ■

توقفوا عن الصراخ وعن الضجيج، فلم يبق من الانسان فينا شيء سوى الغواط. لنتغوط جماعة علّ التراب يعلو الباطون، فنسمح للياسمين أن يبني له جذراً. بل ربما «اتبع طريقة رجب ذاتها: أن أدفع الامور الى نهايتها… لعل شيئاً بعد ذلك يقع». لقد وقع الانفجار حتماً ولا مكان للاختباء. كل المدن مفتوحة على المستحيل وكل القرى جبهات قتال. أنا لا أحبّ المتاريس ولا أصدّق بأنّها تحمي من تأتي ساعته. رأيتني أمشي معك وسط الشارع ونحن نغني اغنية الطفولة «هيا طر يا غرندايزر». لدينا نقص هائل في أغاني الأطفال ايضاً. ربما لاننا نختصر الطفولة بسرعة هول المصيبة عند سقوط القذيفة وعند اكتشاف قصص رعب المعتقلات في عمر العاشرة.

■ ■ ■

في شرقيّ المتوسط اليوم، مَن يقتل باسم النظام، ومن يقتل باسم الثورة ومن يهلل لهذا وذاك، وفي جنوبيّه أيضاً وفي امتداده في الصحراء. في صفحات الرأي وفي جلسات المنظرين هناك من يقول: «أنا نبيكم فاتبعوني»، فأرفع رأسي، أشكر السماء أنّها لم تفض بنبوتها على النساء. لا قدرة لي على امتلاك اليقين وفي حالة عدم الوضوح، لا رغبة لي في الوصول إليه. القلق أكثر صدقاً وتواضعاً اليوم. ليس في داخلي من الغرور ما يكفي لأقول إنّ هذا هو الدرب فاتبعوه.

■ ■ ■

لا يموت أحد، إنّها كلها فبركات الإعلام المزيف. إننا شعوب لا تموت بل تصعد مباشرة إلى السماء. أنا لا أريد أن أصعد إلى السماء! أريد أن أحفر مترين في الأرض لكي أضع رأسي بين روائح الزعتر البري والقصعين وليأكلني الدود. أريد أن أندثر بسلاسة من دون أن يبكيني أحد. إنّ دموع المارة على شبكة الإنترنت تشعرني بالانتهاك والفشل والإرهاق. هذه الصور التي لا تمنع الموت، لا تقوم إلا بتمجيد القتل والقاتل. يا ليتني مت خلال تلك الأيام حيث لم يكن هناك إضاءة. كااااات. توقفوا عن التصوير.

■ ■ ■

بحثت عن الرواية، لتذكرني بأنّ رجب، بطلها، كان قد خان رفاقه في السجن، وبذلك ضمن خروجه بعد خمس سنوات ولم يضطر إلى إكمال حكماً بأحد عشر عاماً. لم يكن ذاك السجين بطلاً إذاً، أو كان؟ هل وددت لو تحمل أيهم، وعاش ربما لسنين خمس تحت التعذيب؟ هل تمنيت لو أنه أفضى بما يعرف فعاش؟ أي خيار ثوري ذلك الذي لا نختار فيه الحياة، بل موتاً أكثر رحمة؟ ولماذا ما زلنا، جيلاً بعد جيل، الآن هنا، أربعين عاماً بعدما قضى رجب على صفحات رواية منيف؟

■ ■ ■

لسنا وحدنا ضحايا لعنة الجغرافيا وميثولوجيا طائر الفينيق. أمك ما زالت تحوك لك شالاً تلو آخر بانتظار عودتك لتعيش أو تموت مجدداً، ها هنا عند الناصية حيث كنا نأكل شاورما الدجاج مع الكثير من الثوم. أتذكر حوارنا عندما أهديت إليك «سأخون وطني» للماغوط! أتذكر أنّك وعدتني بأنّنا لا ننتمي إلى خواء البطولة هذا، وبأننا لا نتعاطى السياسة كما تفهم في مجتمعاتنا… سياسة الكذب. ماذا أفعل أنا الآن؟ يا ليت هذا المقال عنك ليس بمقال سياسي. يا ليتنا نستطيع أن نصنع سياسة خارج أقطاب اليقين، سياسة إدارة الحلم في لحظات القلق. سياسة الوجود اليومي خارج سطوة من يحمل الحقيقة مهما كانت جميلة. ما هي الحرية يا أيهم؟ هي عندما كنا نتسابق لنلامس وجه القمر. كيف أعرف الحرية وأنا في حداد؟ حجر مكان قلبي وعقلي يشعر بدوار لا يتوقف! كيف أحميك من موتنا؟ كيف أسامح نفسي؟

■ ■ ■

في الرواية، ينصح أحدهم رجب قائلاً: «يجب أن تحوّل أحزانك إلى أحقاد، وبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تنتصر. أما إذا استسلمت للحزن، فسوف تهزم وتنتهي». لا أحب الحقد، لا أحترمه. لا أحب الحقد، فالحقد يغذيه اليقين والغرور. وربما لا أحب الحزن أيضاً. لكني أجلس إلى جانب هذا الحزن وأرعاه، قد يحميني من الافتتان برأيٍ ما، قد يحميني من اليقين.

يتحول حزني قلقاً، قلقاً أحمله بمشاعري وفكري في آن واحد. قلق يخشى خسارة أيهم آخر، فيتساءل ويُسائل. قلق ينتصر على الاصطفاف والعداء. قلق يدرك أن الدرب اليوم ما زال أطول من أن نتلمس تعرجاته. قلق متواضع لا يدعي امتلاك الحقيقة، ويستمر في البحث والتساؤل. على تلك الدرب، ابتسامة أيهم بوصلتي لا موته.

(*) باحثة، لبنان

(**) باحثة وناشطة، فلسطين/ لبنان

ليس بالنسوية وحدها تنجو النساء

هبة عباني*

منذ مدّة، قالت لي إحدى الصديقات إنّ مجموعة عربية تعمل على قضايا النساء بحاجة إلى مساعدة النسويات اللبنانيات من أجل إنجاح حملتها. فلا شك في أنّ تلك النظرة إلى الحركة النسوية اللبنانية ظهرت من جراء الإطلالات الكثيفة عبر صفحات الصحف، والوسائل المرئية والمسموعة. ويشتد بريق الحركة وإنجازاتها من خلال تزايد الاعتصامات والتحركات التي تحمل في الغالب سقفاً عالياً من الشعارات والخطابات.

من المؤكد أنّ هذه الضجة والحراك ذا اللهجة الحادة والحاسمة يسهمان في بناء وعي مجتمعي ويسعىان إلى وضع قضايا المرأة على جدول أعمال القضايا المجتمعية التي تستلزم تدخلاً سريعاً لإيجاد العدالة المفقودة. ولكن، هذه الضجة ـــ وعلى الرغم من أهميتها وأحقيتها ـــ تبتعد بالحركة النسوية عن واقعها المحدود التأثير، غير القادر على كسر الحاجز الجليدي بينه وبين عامة النساء، والمنهمك في مشاكله الداخلية وطموحاته الشخصية. في الواقع، تعبّر الصورة المنعكسة عن الحركة النسوية بقدر ما تعبّر وسائل الإعلام ووزارات السياحية المتعاقبة عن صورة المرأة في لبنان.

بطبيعة الحال، لا يهدف هذا الرأي إلى التقليل من شأن النضالات المختلفة والضرورية للنسويات في لبنان، ولا إلى تهميش الإنجازات المحققة على مدى سنوات. ولكنّه يسعى إلى التعبير عن هاجس حاضر دائماً في ذهني، وتخوّف من سقوط النشاط النسوي في فخَّي الانبهار والغرور الذاتيين والمبنيين على أسس هشّة لا تعبّر عن الواقع، بل تبقينا أسرى في فقاقيع تختزل العالم بكليته. وأرجو أن تكون هذه المساحة مكاناً لنتشارك ونفكر معاً في الأسئلة الآتية:

لماذا تبتعد الأغلبية الساحقة من النساء عن حراكنا؟ لماذا نحن غير قادرات على إنتاج لغة مشتركة؟ ولماذا لا يجد الخطاب النسوي الخلاب والراديكالي أي صدى وامتداد خارج الدوائر الضيقة التي لا تتعدى شارعين إلى ثلاثة من شوارع العاصمة؟ هل فعلاً النساء في لبنان يجهلن تماماً حقوقهن وقدراتهن؟ أم أنّهن مازوشيات بطبيعتهن كما يقول فرويد؟ وهل هن سلبيات وعاجزات تماماً ينتظرن عمليات الإنقاذ البطولية؟

لماذا لا تنتشر عدوى المبادرات والعمل النسائي إلا في حالة واحدة: الانشقاق على ذاتها؟

لا أملك صفة أكاديمية ولا بحثية ولا تمثيلية تخولني الإجابة عن تلك الأسئلة، ولكن أليس لكل امرأة الحق في مساءلة الحركة التي تتكلّم باسمها؟ وفي ما يلي بعض الأفكار التي أود مشاركتها.

ــ لا تعاني الحركة النسوية اليوم من مشكلة مرتبطة بالأدوات فحسب. فالخلل يكمن أيضاً في الاستراتيجيات التي ابتعدت تماماً عن إشراك النساء في هذا النضال، علما أنّهن صاحبات القضية والمعنيات الأساسيات في تحديد الأطر والأشكال والتوجهات الخاصة بالحركة. وفي الوقت الذي تزداد فيه الحاجة إلى مخاطبة النساء والعمل معهن، لا من أجلهن، نرى أنّ غالبية الاستراتيجيات ترتكز حصراً على التوجه إلى المؤسسات الحكومية والتشريعية من أجل إصلاحها لتصبح أقل تمييزاً بحق النساء، أو أنّها تتجه إلى المجتمع عموماً لجعله حساساً لهذه الظاهرة. وعلى الرغم من كون هذا التوجّه أساسياً وضرورياً لجهة استجابته لمشكلة تمسّ غالبية النساء، إلا أنّه سيبقى عالقاً في دائرة محدودة التاثير إذا لم يقرن بمقاربة أخرى تعمل على توسيع الحركة وجعلها فضاءً يتسع لنساء ذوات تجارب وخلفيات وبيئات مختلفة. ولا شك في أنّ وجود مؤسسات تعمل من خلال هذا التوجه يُعَدّ أمراً ملحاً، ولكن ينبغي أن تبادر المجموعات غير الممأسسة إلى سد الفراغ والتوجه إلى العمل مع النساء مباشرة. ولعل هذا الأمر من أبرز المعوّقات التي تحول دون تثمير الحركة. من جهة، هو يفقد شرعيته، ومن جهة أخرى يستنزف الطاقات والقدرات الإبداعية، وأخيراً يجمد الخطاب السياسي النسوي وقد يحوله إلى مجموعة من الشعارات غير القادرة على التأثير.

يحمل الخطاب النسوي إلى حد كبير نفساً تضامنياً مع النساء أكثر من كونه خطاباً عضوياً ــ ندياً. هذا الخطاب يلغي إمكانية الالتقاء والاندماج مع النساء، ويعزز لوجود معادلة «نحن وهن». تصبح العلاقة معهن شبيهة بالعلاقة مع الآخر وكأننا من خارج النساء، فنحن مجرد رسل ونخبة مصطفاة ومهتدية تطلب منهن تبنّي رسالتنا لأنّها طريقهن إلى الخلاص المحتم.

وهنا علينا أن نسال أنفسنا: هل ما ينقص النساء هو مجموعة أخرى ترسم لهن نمطاً جديداً للتفكير والتصرف؟ وإلى أي حدّ يتماهى فرض هذه الأنماط المنزلة كنموذج للتحرر مع المفهوم الذكوري للسلطة الذي يبرر استخدامها من أجل ضمان مصالح الآخرين وحقوقهم؟

على الرغم من تنوع خلفيات وطبقات النساء الناشطات في الحركة، لكن ترتفع أصوات صاحبات الامتيازات الطبقية والإعلامية في الكثير من الأحيان على حساب النساء الأقل امتيازاً. مثلاً، من الصعب جداً أن تجد المرأة العاملة والمنهمكة في تسديد حاجاتها اليومية مساحةً تمكنها من تصدير همومها. يبقى فضاء الحركة النسوية حكراً على اللواتي تمكنهن ظروفهم المعيشية من التفرغ، وتعلم المصطلحات ــ المفتاح، وإتقان اللغة الأجنبية، وفي النتيجة إبراز خطابهن السياسي من دون التوقف للتفكير في امتيازاتهن.

على الرغم من إدراكنا كنسويات أنّ الذكورية منظومة كاملة تعتمد على ديناميات ومعايير ومفاهيم معينة، إلا أنّ مقاربتنا للذكورية تقتصر على أنّها خلل حقوقي بين الرجال والنساء، ينتج منه تمييز يضع النساء في الخانة الأضعف. يجرّنا هذا التغاضي عن التعاطي مع الذكورية كنمط مرفوض، إلى انزلاقنا جميعاً، وأُولاهُنّ أنا إلى اعتماد المعايير والديناميات ذاتها التي نشهدها على سبيل المثال لا الحصر في: إنتاج قيادة تمثل السلطة، سواء بشكل معلن أو غير معلن. تقوم هذه القيادات برسم الرؤى المناسبة وتصدر المشهد واحتكار الصوت. ولكن مهلاً، ألا تعتمد العائلة بمفهومها الأبوي والسلطوي على قمع فتياتها بحجة الحفاظ على مصلحتهن؟ ونلمسها أيضاً في عدم اكتفاء القيادات بإبراز صوتها، بل اعتمادها على الإقصاء والعزل للأصوات المختلفة، ولو تطلب ذلك حملة لتشويه السمعة. أليست سمعة البنت وشرفها ينغصان عيشتها في هذا المجتمع الذكوري؟ ليس المقصود أن نكون ملائكة لا تخطئ، لكن علينا امتلاك الجرأة الكافية للتعلم من هذه الأخطاء والاعتراف بها.

ما نحتاجه أكثر من أي وقت مضى هو التعلم من أخواتنا العربيات في خوضهن النضال مع زميلاتهن الناشطات، والأمهات، والعاملات. فالذي يبقى في الأذهان ويحدث التغيير هو التجربة، لا الإنجاز. بالتجربة وحدها نجد المساحة الكافية لخلق أرضية ولغة مشتركة تجمعنا بالمرأة العاملة، والأم، وعارضة الأزياء، والسحاقية، وغير المتعلمة. وبالتجربة وحدها نستحدث الأدوات ونتعلم ونخلق تفاصيل ومفاهيم جديدة ومعيشة.

* من «صوت النسوة»

في «يوم المرأة العالمــي»… الفضاء الرقمي لنا

ريتا فرج

يأتي يوم المرأة العالمي (8 آذار/ مارس) في العالم العربي على إيقاع خطاب سلفي إخواني مناهض للنساء. وفي ظل ربيع عربي قيل عنه الكثير، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي ظاهرة جديدة نهضت من رحم الانتفاضات. أصبح للمرأة الثائرة مدوّنات وصفحات إلكترونية شكلت الخط المضاد للبنى النيوبطركية المستفحلة.

النساء العربيات هنا في الفضاء الرقمي، ثائرات يعبّرن عن مواقفهن بشجاعة لم يشهدها التاريخ النضالي للمرأة العربية. هنّ يقارعن مجتمعات مأزومة لم تتصالح بعد مع «الجنس الثاني» على حدّ تعبير رائدة التيار النسوي الفرنسي سيمون دو بوفوار.

للثائرات العربيات حراك اعتراضي من نوع آخر. لقد أصبحن في صلب العالم الافتراضي القادر على تجاوز كل الطبقات والحدود الجندرية. فرضية واحدة أفرزتها النتائج الأولية للثورات الهادرة والصامتة من المحيط إلى الخليج، المحاولات الحثيثة لإعادة المرأة إلى المجال الخاص، بعدما شاركت وما زالت في الساحات والميادين، لكن كثيرات رفضن الذكورية الإقصائية قائلات: الشارع لنا.

يعكس الفضاء الرقمي جدلية الخاص والعام، ويبرهن في المرتبة الأولى عن تشابك محموم بين الرؤى المتناقضة. ما إن انطلقت قاطرة الاحتجاجات العربية الداعية لإسقاط الأنظمة العسكرية/ الأبوية حتى بدأت الثورة الرقمية النسائية، وأولى محطاتها أتت مع ظهور «سافرات عربيات» (كانون الثاني/ يناير 2011) و«انتفاضة المرأة في العالم العربي» (أكتوبر/ تشرين الأول 2011) الذي عرف نسبة تأييد عالية من الجنسين، وتبعته مواقع أخرى بينها «أنا امرأة ولست عورة». الأخير يوجه رسالة واضحة إلى الذين لا يرون المرأة إلّا عبر عورتها. وإذ تحمل هذه المواقع وغيرها رسائل متآلفة ومتباينة أحياناً، إلّا أنها تريد التعبير عن رسالة مشتركة عمادها حرية المرأة وإقرار حقوقها السياسية والاجتماعية والمجالية.

تضج المواقع النسائية بمشهدية مضطربة، وما نقصده أنّها حين تنشر بعض التصورات الذكورية، إنما تهدف إلى معاكسة البنى الفحولية، وللفحولة حيّزها السياسي والاجتماعي والنمطي. في الغالب، تطرح الصفحات الثلاث المشار إليها قضايا تعنى بالمرأة العربية وقلقها الوجودي المزمن، وتتبنى وتناصر كل ما له علاقة بالعنف المتمادي ضد النساء العربيات، كمناهضة التحرش الجنسي والحقوق السياسية والحق في التعبير عن حرية الجسد الأنثوي/ المقموع بفعل عوامل دينية (في طليعتها فوضى الفتوى) ومجتمعية من دون التقليل من سطوة الثقافة الشعبية.

ومع تعدد الأفكار المطروحة في الفضاء الرقمي النسائي الثائر على نكسة الربيع العربي، وما آلت إليه من نتائج، شكلت الفحولة السياسية أولى تجلياتها كردّ على الحضور الأنثوي اللافت في المجال العام، اشتدت إرهاصات الاعتراض داخل هذه المواقع الرقمية وغيرها.

يُعرف موقع «انتفاضة المرأة في العالم العربي» عن نفسه بأنه يطالب بحرية الفكر والتعبير والاعتقاد والجسد والقرار والزواج والطلاق والاستقلال والتعلم والعمل وحق التصويت والترشح والحماية من العنف الأسري، كما تضمنت صفحته «الإعلان العالمي لحقوق الانسان». المؤشر النوعي الأول الذي يلحظه مشاهد الموقع، خصوصاً في بدايات تأسيسه قيادة حملة من داعميه على فيسبوك، وذلك بالكتابة على ورقة بيضاء أو على شاشة الكمبيوتر «أنا مع انتفاضة المرأة في العالم العربي» مع إضافة سبب تأييد الانتفاضة، ومن ثم التقاط صورة لهم ولهن مع هذه الجملة وإرسالها إلى صفحة. واللافت أنّ المشاركين كانوا من الجنسين، فضلاً عن أن الحملة شهدت حضوراً للنساء المحجبات وحتى المنقبات، وهذا يدل على تقاطع بين المباح والممنوع، بين المقدس والدنيوي، خصوصاً إذا جرت مقاربة الحجاب الرقمي من بعض التأويلات الدينية الفقهية التي تمنع المرأة عن اختراق المجال العام وتريد حصر دورها داخل منزلها، أي ضمن الحريم المكاني.

ومن المهم القول إن الفضاء الرقمي النسائي، يحمل قدرة إفصاحية ضد كل ما هو مضاد للمرأة، وإن دل على شيء، فعلى الفعل السياسي أولاً. لا يحق للأنثى العربية (من دون تعميم) اختراق الفضاءات العامة، وإذا فعلت يُقال إنها وقحة أو فاجرة، وربما عاهرة، فتُحارَب بالجسد نفسه، ولعل ظاهرة الاغتصاب والتحرش الجنسي بالنساء المصريات إبان «ثورة 25 يناير» وبعدها، تفصح عن الأدوات الذكورية/ القمعية المستخدمة من السلطة/ الأبوية التي تعتبر نفسها وصية على كل الهرم الاجتماعي. لكن للفضاء الرقمي لغته أيضاً، فقد انطلق موقع مصري ضد التحرش بالنساء ولم يقتصر دوره على رفض هذه الظاهرة القديمة الجديدة، فقدم الحماية للناشطات في الميادين والساحات.

وكلما اشتد الاهتياج السلفي المتزايد في دول الربيع العربي، عبر الفتوى العابرة لأجساد النساء حيناً وممارسة الإقصاء الديني حيناً آخر، تفاعلت الصفحات الافتراضية النسائية كمّاً ونوعاً. على سبيل المثال، توضع بعض الفتاوى على أحد المواقع، ويُعلَّق عليها بأسلوب ساخر ومستنكر. لا يقتصر نشاط الفضاء الرقمي النسائي على مقارعة بعض رجال الدين الذكوريين، ثمة عناية بمسائل أخرى تشغل في الغالب الرأي العام كالاغتصاب وختان الإناث (رسوم المصرية دعاء العدل على الفايسبوك تتمحور حول قضية ختان الإناث المنتشرة في الريف المصري وبعض الدول العربية) وتراجع التمثيل السياسي للمرأة في حكومات الإسلاميين، وما إلى ذلك من موضوعات حظيت بحضور لافت.

مقابل الإضاءة على العنف الذكوري في المجتمعات العربية، تضيء الصفحات الإلكترونية النسائية على الإنجازات التي حققتها النساء العربيات في المجالات كافة (الميديا الاقتصاد التنمية العلم). وتحاول المنتسبات إلى الفضاء الرقمي إجراء المقارنات بين أحوال المرأة الغربية ونظيرتها العربية، وهنا يبدأ تسجيل المقارنات، وقد احتل موقع «سافرات عربيات» وموقع «أنا امرأة ولست عورة» الصدارة، فتوضع صورة امرأة منقبة مقابل امرأة غربية لها موقعها في المجالين العلمي أو المهني. بعض الرسائل المنشورة على هذه المواقع لها طابع مطلبي، كالتعسّف في فرض الحجاب أو النقاب على المرأة، ورفض إختزال النساء بأجسدهن وشن حملات رقمية على الاعتداءات الجنسية، والمناداة بوضع تشريعات مدنية في قانون الأحوال الشخصية تؤدي الى تكريس المساواة وتمنع التمييز على أساس النوع.

لا ينأى الجسد الأنثوي نفسه عن لعبة اكتساب الحقوق، فتنشر بعض الصفحات صوراً لنساء شبه عاريات، وهذه الصور عموماً رسومات خيالية تحمل إلى حد ما الأنماط الإسقاطية تجاه المرأة، ولا سيما ما يتعلق بالبعد الجنسي/ الأنثوي الشيطاني في اللاوعي الذكوري، الطبيعي ربما في القدرة التفاعلية. هنا يدخل التعري في معركة الفضاء الرقمي الجندري الذي دشنته علياء المهدي التي شُنّت عليها حرب ذكورية عربية، فلم تنجُ حتى ممن يدعون أنهم مع حرية المرأة. ما أقدمت عليه المدونة المصرية بصرف النظر عن رفضه أو تأييده هو في الأساس فعل طفولي اعتراضي/ سياسي، فمتى تصالحت المجتمعات العربية مع أجساد النساء اللاتي يخترقن منذ عقود الفضاء العام، يعود العري إلى مجاله الخاص من دون أن ننفي أنه شكل ويشكل دائماً آلية من آليات الرفض الأنثوي الذي خبرته الدول الأوروبية أيضاً، وكانت آخر مشاهده قيام ناشطات نسويات أوروبيات بالرقص عاريات أمام كاتدرائية Notre Dame de Paris احتفاءً باستقالة البابا بنيدكتوس السادس عشر من منصبه.

يذكر أنّ شركة «كومسكور» الأميركية المتخصصة في أبحاث السوق، أعدت تقريراً بعنوان «المرأة على الإنترنت: كيف تشكل النساء الشبكة» خلصت فيه إلى أن النساء محور أساسي في الثورة الرقمية، وأكثر انخراطاً من نظرائهن الرجال، ووجدت أنه فيما تشكّل الإناث أقل من نصف عدد السكان العالمي على الشبكة العنكبوتية (46 في المئة)، غير أن سلوكهن الرقمي متميز عن الرجال بشكل كبير.

يحمل الفضاء الرقمي في العالم العربي صوت المعارضة النسائية. نتائج الربيع العربي لم تفلح في إرضاء النساء. تراجع دورهن في مواقع القرار، وهنّ محاصرات بهجوم سلفي/ ذكوري غير مسبوق يريد إعادتهن إلى المنزل. لا تقل خطورة الاسلام السياسي الذي يدعي الاعتدال عن مخاطر السلفيين، وإن حاول تهذيب خطابه تجاه المرأة والادعاء أنه مع حقوقها كمواطنة. فهل يُقرّ الإخوان المسلمون في مصر بأحقية المرأة في رئاسة الدولة.

أدوار النساء العربيات تبدلت قبل الربيع العربي وبعده. لم تكن النساء المسلمات والعربيات يوماً خارج النشاط المجالي، والتاريخ يشهد على ذلك. هنّ اليوم حاضرات بقوة وإن لم يسجلن أرقاماً مشجعة في المجالين الاقتصادي والسياسي، لكن المنظومة البطركية غير قادرة على هضم تغير أحوال المرأة العربية، وهي مدفوعة بشكل دوري لاتخاذ ردود أفعال عنفية، يمكن مقارنتها بالصدمة النفسية التي يتعرض لها الإنسان فتترك آثاراً جرحية عميقة في اللاوعي، ما يفرض معالجات عيادية تسمح بتجاوز مؤثرات ما بعد الصدمة.

تخوض الناشطات العربيات ثورة متعددة الجوانب، بدأت بالميادين ولن تنتهي بالفضاء الرقمي. ومن دون الدخول في منطق المبالغة بفاعلية الصفحات النسائية، ومدى قدرتها على مواكبة حقوق المرأة، وكسر الحواجز بين الجنسين، من الأهمية بمكان القول إنّ الثورة الحقيقية إنما هي ثورة الوعي الذاتي، فكيف يمكن تخطي حال الاستلاب العقائدي؟ ونتساءل مع الباحث اللبناني مصطفى حجازي، لماذا تتقبل كثيرات من النسوة وضعية القهر، ويقتنعن بدونيتهن تجاه الرجل، ويعتقدن جازمات بتفوقه، وتالياً سيطرته عليهن؟

تونس: انتفاضة النساء

نور الدين بالطيب

اليوم، يشهد مقر «الإتحاد العام التونسي للشغل» ولادة أوّل إئتلاف نسائي تونسي في مناسبة يوم المرأة العالمي بعد اجتماعه التأسيسي يوم ١٣ شباط (فبراير) الماضي. «ائتلاف حرائر تونس» هو الإسم الذي سيطلق على المولود الجديد المتألّف من جمعيات نسائية وحقوقية. ينظم الإئتلاف اليوم مؤتمراً صحافياً يقدّم خلاله برنامج الإحتفال بـ«يوم المرأة العالمي» أبرزه ندوة حول إدراج حقوق المرأة في الدستور. وغداً ينظّم «إئتلاف حرائر تونس» تظاهرة تشارك فيها الجمعيات النسائية والأحزاب السياسية والنقابات تحت شعار «حقوق المرأة ومجلة (قانون) الأحوال الشخصية» التي تتعرض لهجوم منظّم منذ صعود الترويكا للحكم. تسعى الجمعيات المقربة من حركة «النهضة» إلى إلغاء المجلة، وخصوصاً الفصل المتعلق بمنع تعدد الزوجات. ولا تخفي هذه الجمعيات إصرارها على السماح بتعدد الزوجات الذي تعتبره نساء تونس خطاً أحمر.

دلائل الأمور التي لا ترى

ليلى غسان *

في الآونة الأخيرة، تصيبنا كآبة جرّاء الأخبار القادمة من مصر حيث الاغتصابات الجماعية، ومن لبنان حيث غياب القانون الذي يوفّر الحماية للمرأة. أعلم أنّ عليّ لوم المجتمع البطريركي لوجودها، لكن اليوم أفضّل التوجه إلى النسويات المتزوجات والأمهات والمثليات والعزباوات

يصيبنا جميعاً كناشطات في الآونة الأخيرة كآبة جرّاء الأخبار القادمة من مصر تحديداً (الاغتصابات الجماعية) ومن لبنان نفسه (اعتبار قانون حماية النساء أمر غير ملحّ). الكآبة هذه غالباً ما تكون السّمة الأساسية التي تلاحقنا كنسويات بعد كل حادث أمني، وبعد كل اقتراح يفضي إلى تعزيز الطائفية وتكريسها واقع الحال ومصيراً. وعلينا أن نفهم لم تصيبنا دائماً وتتمكن منّا، لنستطيع استعمالها مصدراً للعمل بدلاً من الخضوع لها.

رغم أنّ الواقع النسوي في المنطقة، وتحديداً في لبنان، يشي بأمر أو اثنين من أمور تعيد ترتيب الخطاب النسوي الذي يحاول استيعاب ما يجري حوله من دون أن يساوم على فكرة أنّ أصوات النساء ستعلو فوق أي معركة، هناك ما يبدو كأنه مطفئ off حول الخطاب النسوي. وكأنّه يصل دائماً إلى نقطة ذروة وينحدر تدريجاً. وبالتالي تكون مؤشرات خطاباته عبارة عن خطوط حادة بين الذروة والهاوية بدل أن يكون تعرجات خفيفة تُراكم الصعود بطريقة صحية أكثر.

هناك أمور لا نستطيع أن ننكرها كنسويات في لبنان، لكننا أيضاً لا نستطيع أن نُسميها، كأنّ علينا دائماً أن نحتفظ بأمور خاصة فينا كسرّ أو نشرها بطريقة فضائحية تشبه تماماً مؤشرات الخطاب النسوي في حاضرنا. كأنّ علينا اللجوء دائماً إلى ردود فعل مبالغ فيها لاحتواء أي موقف داخلي أو خارجي. الكآبة هذه تدفعني إلى إعادة النظر في الكثير من الأمور، وأعلم أنّ عليّ لوم المجتمع الذكوري البطريركي لوجودها أصلاً، لكن اليوم أفضّل التوجه إلى النسويات المتزوجات والأمهات والمثليات والعزباوات وغير اللبنانيات بمختلف المبادرات والمجموعات، وانطلاقاً من التجربة الخاصة والعامة ومن منطلق أنّ الشخصي هو حتماً سياسي وأنّ النسويات يخضعن لامتحان صعب، ونضال بدأت طريقه الوعرة بالظهور.

النسوية هوية؟

نجحت النسوية في شقّ طريق صعبة في الوصول إلى شارع الناشطين في الحركات الاجتماعية، وينضم عدد لا بأس به منهم إلى التظاهرات التي تنظَّم وتتعلّق بالمطالب النسائية، سواء بالحق في الجنسية أو القانون المنتظر لإقرار الحماية المتعلقة بالنساء، كذلك انضم الآلاف منهم إلى صفحات الفايسبوك الداعية بمختلف مقاربتها إلى المساواة التامة والرافضة للتحرش الجنسي وغيره. رغم هذا، جاء هذا النجاح على حساب وصول مجتزأ لماهية الممارسة النسوية وكيف نستعملها لفهم العناصر المحيطة بنا. وصلت كأنها هوية إضافية نحملها حين نتوجه للنساء حصراً، وهذا ما يشلّ في الكثير من الأحيان قدرة الناشطين في الحركات الاجتماعية على خلق فضاءات آمنة للنساء الناشطات من العنف الرمزي الذي يتعرضن له، وأتكلم تحديداً عن غيابهن في مواقع القيادة واستعمالهن كمؤشر على أنّ الحركات «غير تقليدية» على المستوى البطريركي، فتصبح الهوية النسوية مختصرة بوجود إيمان نظري بالمساواة بين الرجال والنساء من دون الحاجة للغوص في الأدوات الأساسية للنسوية، وتحديداً في الديناميكيات التي تحكم العلاقة بينهما.

من جهة أخرى، وفي افتراض أنّ النسوية هوية، فإنّ هذه الهوية تتعرّض لاختصارات في التعريف ولإعادة قولبة لتتناسب مع المقبول قوله. مثلاً، رأينا نسويات يعترضن على قيام علياء المهدي بالتعري بسبب عدم تمثيلها «للنسويات» المصريات. بدورهن، انقسمت هؤلاء النسويات بين الداعمة لعلياء واللامبالية والرافضة، غير أنّ الاعتراض اللبناني جاء على أسس تتعلق بأن العُري ليس تتحرراً. النسوية هي مجموعة أدوات تبحث في العلاقة بين الجندر والطبقة الاقتصادية والعرق والجنسية والاستعمار والسلطة والعديد من المفاهيم لتنتج معرفة تقترح على النساء كيف يصبحن مرئيات وتقترح تقنيات في الأمان وممارسة الحرية والتصالح مع جسد وغيرها من الأمور التي تجعل النساء أكثر عرضة للعنف والاستغلال.

هناك سوء فهم للممارسات النسوية وغياب المعرفة النسوية التي تبني جسوراً بين النساء والمجموعات والمؤسسات والحركات الاجتماعية. النسوية ليس فولكلوراً أو هوية تبرّر لحامليها ممارسات ضارة بالمفهوم نفسه، وهي ليست مبرراً للنساء اللواتي يردن منبراً. لا تعتمد النسوية على مفهوم «الإفتاء»، بل على القدرة على فهم ماهية أن تكوني امرأة في عالمك وكيف تنجين من عمليات الخضوع والتخويف الممنهجة التي تتعرضين لها.

المحاسبة والتطهر

حين يدعي ناشط أنّه نسوي، نفترض تلقائياً أنه قد قام بعملية خاصة به تفكّك ممارسته الذكورية وتحلّل الامتيازات التي يحملها. غير أنّ سوء فهم الواقع في ماهية النسوية كممارسة، يكفي أن يقوم الناشطون الرجال تحديداً بالتعريف عن أنفسهم بأنّهم نسويون، فيصبحوا غير معرضين للمحاسبة والمسؤولية. يحصل ذلك أيضاً مع الناشطات صاحبات الامتيازات والمجموعات النسوية والمثلية التي تمثل مصالح الفئات الأكثر عرضةً للتهميش والقمع والعنف في مجتمعنا. يصعب على أيٍّ كان أن يقوم بمحاسبتهن أو محاسبتهم إن تفردوا بقرارات أو استراتيجيات أو عمموا أساليب خاضعة للجدل في دوائر جماعتهم، وتصعب محاسبتهم أو محاسبتهن، لا لأنّهم محصّنون، بل لأنّ حركاتنا الاجتماعية والنسائية لم تعمل على وسائل للمحاسبة بين الناشطين والناشطات، وأيضاً لأنّ عادة ما تكون الأدوات المنويّ استعمالها للمحاسبة عبر قرار خارج عن إرادة الجماعة أو نشاط لا يُمثل الرأي الأغلب. أدوات تستعمل للتطهر من الأخطاء السابقة.

في مجتمع من الناشطين والناشطات الصغير نسبياً، تتقاطع المصالح الخاصة والشخصية. وفي غالب الأوقات، تكون الأدوات التي قد يفيد استعمالها كوسيلة للمحاسبة عادلة وشفافة، دعوة إلى التطهّر من قرارات شخصية وممارسات سلوكية قد تم السكوت عنها في الماضي. ينتج من هذا كلّه، عصبيات هشّة، وفترات من الصمت والتزام السكوت وانتظار اللحظات الأمثل للانطلاق مجدداً إلى النشاط السياسي كأنّ شيئاً لم يكن مع فارق بسيط في توسيع رقعة الشرخ بين المجموعات والجماعات التي لا تتحاور في ما بينها، إلا في كيل بعضها الاتهامات (التطهر) لبعضها الآخر.

على هامش الحركات والمجموعات هذه، أدرك حجم الأزمة وكيفية امتدادها إلى حياتنا الشخصية والمهنية و«النشاط» السياسي. لا شك في أنّه الوقت الأمثل لجميع المجموعات والناشطين والناشطات في التأمل بما أنتجناه في السنوات الماضية، والقبول بأنّ هناك فرزاً في الحركة النسوية والمثلية والمدنية التي تتقاطع. وهذا الفرز بدأ ينتج منه خطابان متوازيان: الأول لا يزال غير قادر إلا على رؤية نفسه كممثل وحيد في الفضاءات الناشطة. وبناءً على هذه الرؤية، لا تزال تُرتكَب أخطاء تفضي إلى انسحاب الكثير من الناشطين فيه إلى أماكن أخرى أكثر حميمية وتواضعاً في ما تريد فعله. والثاني هو خطاب أقل شهرة وانتشاراً بين الناشطين، ولكنه قادر على بناء معارف قادرة على فهم سيرورة الحركات الاجتماعية والسياسية الماضية وإنتاج أدوات قادرة على توثيق الخطاب الأول وتفكيكه من دون أن تضطر إلى تغيير روايتها عن الحركة أو تخويفها بالأساليب التي تستعمل بين منتجي الخطاب الأول. للخطابين الحق في الوجود، لكنه وجود عليه أن يكون واعياً لما هو عليه، لا يُمثل مجمل المعنيين أو يختصرهم، بل يترك مساحة دائماً للآخر ليتفاعل معه من دون أن يفترض أنّه يملك الحق في توجيه النقد للآخر من منطلق «الصح والخطأ» أو من منطلق «مسالم وعنيف».

الاهتمام كفعل سياسي

هناك أمل أصرّ على رؤيته. أمل في بناء جسور واضحة المعالم بين الجيل الأكبر والأوسط والحاضر من الناشطات والمهتمات في العمل النسائي والنسوي في لبنان والعالم العربي… في التوقف لبرهة وفهم ما تريد كل واحدة منّا أن تراه في حياتها ومجتمعها الخاص وعلاقاتها الخاصة، في أن نفهم تجربة الجيل الأكبر من دون أن نسقط عليها أحكاماً بالتقليدية، وأن تفهم عملنا كنسويات من دون أن تقلل من أهمية خطابنا وأن تخاف من تحررنا الجسدي والجنسي. أن لا أكتب أنّ العاملات، بل أراهن في وسطنا. هناك أمل في النجاة من القادم، إذا قمنا بإعادة تعريف لما نريد وما هي العلاقات التي نود أن تحكمنا، كيف نجعل من الحركة النسوية والنسائية فضاء يسهل الانتماء إليه ونهتمّ في المحافظة عليه. هذا الأمل موجود إذا تعاطينا مع الاهتمام كفعل سياسي، ينطلق من التجربة الشخصية إلى العامة. يعلّمنا هذا الفعل السياسي الاهتمام بالذات وبالآخر وبالفضاءات التي نشغلها، وبالأخطاء التي نرتكبها. الاهتمام فعل سياسي، يبدأ في خلع طواقي الإخفاء عن رؤوسنا، أن نكون مرئيات تجاه بعضنا، أن نهتم كيف تؤثر أفعالنا السياسي فينا جميعاً، وخصوصاً في اللواتي نودّ سماع أصواتهن.

* من أسرة «صوت النسوة»، والعنوان مستوحى من جايمس بالدوين

في العراق بعد ٢٠٠٣… «ناقصة عقل ودين»

نوف عاصي ورسل كميل *

قد يكون التحدث عن فترة ما بعد الاحتلال الذي تعرّض له العراق سنة 2003 يتحمّل السرد الطويل وذكر تفاصيل عديدة تتعلق بالوضع الأمني، والسياسي، والاجتماعي والاقتصادي، لكننا سنركز على وضع النساء في شتى المجالات والتحديات التي واجهتهن خلال هذه الحقبة الزمنية إلى يومنا هذا.

كأي امرأة عربية في بلد محتل تحكمه دائرة الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي غالباً ما تكون فيها المرأة مهمشة وتعاني تمييزاً وتقيّد حريتها حيث هناك صعوبة في اجتيازها الميادين (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية). ولعلّ من المهم ذكر التجربة التي خاضتها المرأة العراقية في العملية السياسية ما بعد سقوط النظام 2003 حيث شاركت في الانتخابات النيابية وحصلت على ما يقارب 25% من المقاعد ضمن نظام الكوتا وما زالت تعاني من سلطة رئيس القائمة أو الكتلة السياسية ضمن مبدأ «الراعي والرعية». في بعض الكتل السياسية، أصبح وجود المرأة تكملة للعدد لا غير. دفع ذلك بعض النساء البرلمانيات إلى الانتفاض ورفض هذا الوضع الذي لا يلبي طموحهنّ. فقد شكلت بعض النائبات في البرلمان العراقي تحالفاً وتكتلاً سياسياً نسوياً داخل البرلمان، رداً على تهميش قادة الكتل لدور المرأة في العملية السياسية. ومن خلال هذا المنطلق (غياب دور المرأة في العملية السياسية)، تزايدت حالات العنف (القانوني، الأسري، الجنسي) وغاب دور السلطات التشريعية في سن قوانين تحمي النساء من العنف. صارت هناك ظواهر عديدة ومألوفة في المجتمع ولا يتخذ إزاءها أيّ إجراء قانوني كـ: ختان الإناث، التحرش الجنسي، قتل النساء بدافع ما يسمى «قضية شرف» وغيرها.

كثيرة هي المشاكل التي تعانيها النساء، وفي الوقت نفسه هناك جهود حثيثة من قبل منظمات المجتمع المدني والحراكات النسوية لمناهضة العنف ضد المرأة ومشاركتها مع السلطات التشريعية لغرض سنّ القوانين المهمة لحماية النساء، وآخرها إمرار قانون الحماية من العنف الأسري في البرلمان العراقي، ونحن في انتظار مناقشته إلى هذه اللحظة! ما لفت انتباهي قبل فترة قراءة مقالة عن ميشيل وباراك أوباما حينما طلب محادثتها صاحب المطعم الذي يتناولان فيه العشاء. وحينما سألها باراك أوباما عن السبب، قالت إنّه زميل دراسة قديم وقد أفصح بأنّه قد أحبها… حينها، ابتسم باراك أوباما وقال لها: لو أنك تزوجته، لكنت الآن صاحبة هذا المطعم اللطيف، فما كان منها أن أجابت: كلا سأكون زوجة رئيس الولايات المتحدة الأميركية. في هذة القصة لفت انتباهي ثقة المرأة بنفسها وكيف أنّ مقولة «وراء كل رجل عظيم امرأة» تنطبق هنا. لكن الأمثال تضرب ولا تقاس، وهي بعيدة كل البعد عن المرأة السياسية في العراق التي لم تثبت وجوداً واضحاً تماماً كالمرأة البسيطة. وضع المرأة البسيطة في العراق لم يختلف كثيراً عمّا قبل سقوط النظام في عام 2003. ما زالت مستضعفة وجاهلة بحقوقها، بل حتى أبسط حقوقها في الحصول على عقد زواج مصدق. لكن الفرق أنّه بعد 2003، صارت الكثير من منظمات المجتمع المدني تسلّط الضوء على تلك الفئة من النساء وتعرّف المجتمع بالنوع الاجتماعي أو كما يسمى «الجندر»، وتوضح أنّ العنف ليس فقط عادة توارثتها الأجيال ضد النساء، بل هو يسمى «العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي». هذا النوع من العنف لا يظهر ما لم يكن هناك عدم توازن في كفة السلطة في المجتمع، وهي مائلة إلى جهة الرجل الذي أصبح يشعر بالانتقاص حين يذكر اسم المرأة، فنراه يقول دائماً: «عفواً زوجتي». وبالرغم من ظهور أكثر من نشاط وحملة لناشطات نسويات يدفعن المجتمع إلى الاعتراف بدور المرأة كنصف وجزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، إلا أنّ هؤلاء الناشطات ما زلن في عيون الكثير من الناس وحتى السياسيين (منهم نساء) ناقصات عقل ودين. المرأة ناقصة عقل ودين نراها اليوم مغيبة عن أكثر الميادين الجديدة والقديمة في المجتمع العراقي. فعراق ما بعد 2003 يسير عن طريق عمامة وأحاديث لرجال ماتوا قبل آلاف السنين. وكأبسط مثال على ذلك، القانون العراقي الجديد (قانون عراق ما بعد 2003). نرى أنّ أكثر بنود هذا القانون جاءت من الدين والعادات والتقاليد. وأبسط مثال على ذلك هو نص المادة 41 أولاً من قانون العقوبات العراقي التي تنصّ على أنّ لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالاً لحق مقرر بمقتضى القانون ويعتبر استعمالاً للحق: «تأديب الزوج لزوجته وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم الأولاد القصر في حدود ما هو مقرر شرعاً أو قانوناً أو عرفاً». لذا، حين يسألني أحدهم عن وضع النساء في العراق بعد عام 2003، أجيب: المرأة العراقية مبدعة مفكرة، عالمة، سياسية، لكنها ما زالت ناقصة عقل ودين.

* ناشطتان نسويّتان من العراق

نحو ترسيخ الحركة النسويّة

ديما قائد بيه *

وردة هي شهيدة النضال العمالي اللبناني، وسقطت في مواجهة قطاع صناعة التبغ عام 1946. في مناسبة يوم المرأة العالمي، بحثنا عن كل شيء يتعلق بالناشطات العربيات في القرن العشرين: من ظروف المرأة في السجون، إلى السياسة والحقوق الجنسية

بالنسبة إليّ، يحلّ يوم المرأة العالمي ليدلّ على أهمية المجتمعات النسوية. لكنني لطالما أحببت في يوم المرأة العالمي الفرصة التي يقدمها لتثقيف هذه المجتمعات. المرة الأولى التي قرأت فيها عن وردة بطرس إبراهيم كانت أثناء إعدادنا لنشاطات يوم المرأة العالمي. وردة هي شهيدة النضال العمالي اللبناني، وسقطت في مواجهة قطاع صناعة التبغ عام 1946. في مناسبة يوم المرأة العالمي، بحثنا عن كل شيء يتعلق بالناشطات العربيات في القرن العشرين: من ظروف المرأة في السجون، إلى السياسة والحقوق الجنسية.

أرجو أن نتمكن في المستقبل من إدراج هذه النظريات والمعلومات النسوية في الكتب المدرسية وفي مؤلفاتنا القصصية الخاصة.

قد يبدو هذا التوق إلى المعرفة بمثابة ترف في زمن الحروب. عندما تشن الحرب على المرأة، وعلى الثورات وحتى على الطبيعة، كيف يمكننا التوجه إلى المكتبة بدلاً من الشارع؟ بيد أنني أؤمن بمسؤولية اكتساب المزيد من المعرفة، لا من الكتب فحسب، بل مما خُطّ بين تجاعيد النساء وندوبهنّ في حياتنا. الشوارع والمنازل، واليوميات والمكتبات، جميعها تحمل معلومات غنية. كلما سمعت قصصاً من مختلف النساء، ازددت رغبة في معرفة المزيد. إن مشاركة النساء في الثورات الحالية في شمال أفريقيا وغرب آسيا، يدفعني إلى التنقيب عن تاريخ مساهماتهن في نضالات التحرير المناهضة للاستعمار. كذلك تدفعني معيشة العاملات الأجنبيات في ظل العنصرية والتمييز الجنسي إلى التساؤل بشأن حياتهن التي توجب عليهن تركها خلفهن في بلادهن.

على سبيل المثال، حثتني القراءة عن العاملات السريلانكيات في الخدمة المنزلية في لبنان على إجراء بحث عن الحركة النسوية السريلانكية. فأن تكون نسوياً مناهضاً للعنصرية معناه أن تثقف نفسك بشأن المجتمعات المقموعة. بعض المعلومات التي اكتسبتها من بحثي عن النسوية السريلانكية، مثلاً، أنه: في الستينيات والسبعينيات، ازدهرت الحركة النسائية السريلانكية تحت شعار «الشخصي هو السياسي»، وعملت على قضايا الجنس، والعدالة الإنجابية، والتحالفات الطبقية، والرغبة في إعادة كتابة التاريخ من وجهات نظر نسائية. تعرفت إلى أول مجلة نسوية سريلانكية صدرت في الثمانينيات وتدعى «صوت النسوة»، وقد تأسست على أيدي نساء اشتراكيات من مختلف الأعراق. كذلك تعرفت إلى منشور آخر صدر في الثمانينيات من قبل نساء عاملات وحلفائهن الناشطات واسمه «دابندو» (قطرات من العرق)، ويتضمن قصصاً وشعراً ومقالات سياسية تتعلق بحياة النساء العاملات؛ كانت تصدر هذه المنشورات خلال حقبة الصراع العسكري والرقابة وقوانين العمل المتقهقرة، برعاية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وقرأت أيضاً عن مجموعات مثليات الجنس، والنساء الثنائيات الجنس والمتحولين جنسياً في كولومبو وعن الأعمال التي قاموا بها.

اكتشفت أيضاً، أنه رغم دخول المرأة السريلانكية الميدان السياسي بسبب موت أو هزيمة أحد أقاربها الذكور، فإن حضور النساء في المجال السياسي في سريلانكا بارزٌ أكثر من لبنان. عام 1960، أصبحت سيريمافو باندرنايك أول امرأة تتسلم منصب رئاسة الحكومة. لا يعدّ ذلك بالضرورة إنجازاً نسوياً، لكنه حدث جدير بالمعرفة. في عام 1996، «ستراون»، وهي مجموعة تقودها النساء، انتقلت من كونها منظمة اجتماعية تنشط بين العمال الزراعيين في الريف إلى حزب سياسي مستقل في مقاطعة نوراة إليا. لم يفز الحزب بسبب الاحتكار والتلاعب والترهيب الذي مارسته الأحزاب المهيمنة. في السنة التالية، ترشحت مجدداً ويمالي كارونارتني، رئيسة «ستراون» لمنصب رئاسة الحكومة، متحالفة مع أحد الأحزاب المهيمنة الذي كان قد هددها ومارس عليها ضغوطاً في السنة السابقة؛ لكنها لمرة أخرى، لم تُنتخب.

وهذا الحد الأقصى الذي بلغته الأمور. عادة، يكون التعرف إلى الحركات النسوية الأوروبية والأميركية/ البيضاء أسهل، ذلك لأن الأمركة والاستعمار سهّلا وصولها إلينا. لكن هذا يعني أنّ علينا بذل جهد أكبر لنشكل تحالفات مع الحركات النسوية في العالم الثالث التي تملك تجارباً شبيهة لتجاربنا. لأن النسوية تعني عملاً شاقاً.

ثمة دائماً الكثير لنتعلمه، ونُعلمه. لكن ما هي الطرق التي يجب أن نتبعها بحيث لا تتكرر هياكل السلطة نفسها؟ إن أردنا أن نعرف المزيد عن الحركات النسوية السريلانكية أو الفيليبينية أو الإثيوبية أو النيبالية، فما هي العواقب السياسية المترتبة جراء تدريس «مختص» لبناني لهذه المعلومات مقابل شخص من سريلانكا على دراية بتاريخه بشكل أعمق؟ ومن سيستفيد من هذه المعلومات؟ المجتمع المدني اللبناني، أم ربات المنازل أم العاملات السريلانكيات وغيرهن من العاملات ممن قد ينشئن أشكالاً هجينة جديدة من الحركة النسوية، وخليطاً من الدروس المسيسة من البلد الأم ولبنان؟ كيف سنشكل تحالفات مع عاملات أجنبيات خارج بيروت؟ كيف نستمر بتحدي أنفسنا لتخطي مشكلة الوصول هذه؟

خصخصة المعرفة والسلطة

النسوية تعني عملاً شاقاً. وواحد من أصعب الأمور التي ينبغي لنا دائماً فعلها هو التأمل في حياتنا وممارستنا الخاصة. لذا، سأقدم هذا النقد لمشاركتي في حركة نسوية شبابية (وأصر على تسميتها حركة)؛ لأن الإخفاقات الشخصية تسلط الضوء على المشاكل البنيوية. إن الأخطاء التي ارتكبتها، ولا أزال أرتكبها أحياناً، هي أنماط سلوك يصعب كسرها. إخفاقاتنا لا تعني أننا أشخاص سيئون، بل تظهر الجهد الذي نبذله لكسر عادات أجسادنا، وعقولنا وتفاعلنا مع بيئتنا وكل من حولنا. ولا يتعلق الأمر دائماً بالأيديولوجيات السياسية. في بعض الأحيان، ننسجم سياسياً، لكن انقساماتنا (الطبقية والمناطقية) حقيقية وتفرق بعضنا عن بعض.

تتعلق المسألة بديناميكيات السلطة. وهذا لا يعني فقط الزعماء المحتكرين للسطة؛ بل يعني أن الكثير منّا لا يطالبون ولا يسعون إلى الحصول على سلطتهم الخاصة، ولا يواجهون ولا يعبرون عن أنفسهم علانية. كان من السهل لي أن أكون ضعيفة، وأنتقد من خارج الدائرة، بدل أن أغير سلوكي أو أحاسب أحدهم. أحياناً أتساءل إن كنا نخشى، إن كنا في مواقع شبيهة في السلطة، أن نكرر الأخطاء التي ننتقدها.

من جهتي، كنت متواطئة في خصخصة المعرفة والسلطة حتى ضمن دوائر الناشطين. لدى المعرفة ـــ أو ما تعتبره المجموعات والحركات معرفة هامة وفعالة ـــ وسيلة للبقاء أحياناً ضمن دوائر صغيرة آمنة، أي بين أشخاص يتشابهون بالتفكير. لا يستفيد الجميع من المعرفة التي تُنتَج، ولا يتفاعل الجميع مع معالم الأمر الذي نبتكره.

بالطبع، التعميم قد لا يكون دائماً الحل المناسب، إذ نرى كيف يمكن تعميمَ الجندرة أن يجتث من تطرف النسوية ويبسّطها. أعلم أن التنظيم، مثل أي شيء آخر، بحاجة إلى الدخول في مراحل عدة؛ كما تقول سامية أبي سمرا، هذه المراحل تتمحور حول ما هو الأكثر فعالية في فترة معينة: الأفكار الجديدة قد تتطلب ولادة في بيئة آمنة قبل أن تصاغ بشكل جيد وكاف لمواجهة بقية العالم. ومع ذلك، «صودف» في هذه الدوائر الصغيرة، بصرف النظر عن نقدنا للهرمية، أن نمتلك نحن الحائزين شهادات أكاديمية عليا من جامعات اوروبية وأميركية الأصوات الأكثر فعالية. شهدت فقط الحب والاحترام من الحركة. لكن اعيد وأكرر، لم ازعج أحداً قطّ. يعود ذلك بنحو كبير الى شخصيتي. بيد أن شخصيتي ترتبط عميقاً بجنسي (كنساء، تربينا أن نكون لطيفات ومرحبات)، وبنشوئي في الطبقة الوسطى (حيث كان علي أن اتصرف «باحترام»)، وبتعليمي الجامعي، وباطلاعي على المعلومات والشبكات. ولأنني لم أعمل يومياً على كسر هذه الأعراف، فإنني قد أسهمت في ترسيخ النظرة السائدة عمّا يجب أن تكون عليه النسوية من ناحية المظهر والتصرف والسلوك، وفي المقابل ترسيخ النظرة الموحدة إلى ما لا يجب أن تكون عليه النسوية. اختبرت أفضل ما يمكن المجتمعات والحركات أن تقوم به. ملأوا حياتي بالحب، والإحساس بالغاية، والصداقات المذهلة. إنه أمر أتمناه للجميع، هذا التواصل والانتماء. لكنني اختبرت أيضاً عزل المجتمعات التقدمية للناس، ودفعهم خارجاً. أظن أننا سنكرر الأخطاء ذاتها، مرة تلو الأخرى، إذا لم نكن أكثر حباً وصراحة مع بعضنا (وأنفسنا أيضاً)؛ وإذا لم نتخذ كلاً من الدعم والمساءلة ليكونا العمل اليومي التأسيسي للحركة النسوية.

* ناشطة نسويّة، لبنان

في غمرة غضبي… نسيتُ أن أحبّ!

لميا مغنية

«لديّ شيء لكِ»، قالت لي أنّا، في شقةٍ صغيرةٍ في برلين، حيث جلسنا ليومين متتاليين نرتشف القهوة ونتكلم. ركضت إلى غرفتها وأتت بكتاب لبيل هوكس اسمه «كلّ شيء عن الحب»: إقرئيه. نظرت إليها وإلى الكتاب وتصنّعت الحماسة. الحبّ؟ ما علاقة الحبّ بكل الأشياء التي تكلمنا عنها ليومين متواصلين؟ ما أسذج الناشطات في أوروبا وأميركا، يتكلمن دائماً عن الحب والاعتناء بالنفس. الحبّ؟ لا أرى إلا العنف واليأس في لبنان. في منطقتي في العالم، لا يوجد مكان للتكلم عن الحب.

كنت قد أمضيت الليل كله أتكلم مع أنّا عن استحالة التغيير في لبنان وعن موتي البطيء منذ رجوعي للعيش هناك. لا أتكلم مع أحد ولا أحد يتكلم معي. أخبرتها كيف أنني ألاقي صعوبة في التواصل والترافق مع الناس «لا يمكنني حتى أن أصنع رفيقاً أو رفيقة لي يا أنّا…».

أقرأ في الكتاب لبعض الوقت، وأفاجأ باكتشافٍ يسود جسمي كله: لا حبّ في حياتي اليومية في لبنان. في غمرة كل شي، في غمرة غضبي وانتقادي لكل شي فاسد ومسيء لي كامرأة في لبنان، نسيت أن أحبّ. أن أحب نفسي والآخرين. من الصعب عليّ أن أحب في معظم الأحيان.

أنّا ناشطة نسوية فلسطينية ألمانية. هي صديقتي. تأخذني معها إلى اجتماعاتها في برلين. تخبرني عن اليمين المتطرف في ألمانيا. في الاجتماع، أجلس جنب امرأة تترجم لي كل ما يحدث من الألمانية إلى الإنكليزية. نذهب بعدها إلى حفلة ضد التمييز العنصري والجندري نرقص، نتكلم، نتلو شعراً، نناقش خبراتنا ونروي قصصنا… التآخي هناك يشعرني بالامتلاء… والحبّ.

الحبّ ليس مفهوماً ساذجاً. ليس شعوراً فردياً أنانياً يكتمل بالزواج. ربما أصبح ذلك بعدما اختطفته البورجوازية الأوروبية في القرن التاسع عشر وأحاطته بخطاب أخلاقي فردي لتنظيم الشعوب. الحب مفهوم تحليلي، وجودي وعلائقي. هو تحليلي لأنّنا نفهم عالمنا ونكوّن رؤية عن واقعنا من خلاله. وجوديّ لأننا نحس عبره بوجودنا كأفراد ذوي طاقة إنتاجية وابتكارية. علائقي لأنّه وسيلة تآخٍ واتصال سياسي بامتياز.

تعاني جمعياتنا النسوية اليوم من العنف ومن أزمة حبّ. من أزمة تلاقٍ وتشابك. ربما لأننا نحارب العنف الطبقي والسياسي الاجتماعي التي تُعرِّضُنا له الهيكلية اللبنانية الأبوية، والفساد الكامن في مؤسساتنا الاجتماعية والاقتصادية، فتحول بعضنا إلى معنِّفات ومعنِّفين لبعضنا. لا أعلم. لكن الواقع الآن أننا لا يحب بعضنا بعضاً. لا تآخي حقيقيّاً قوياً بين التحركات النسوية اللبنانية المختلفة. يبدو لي أننا خلال هذا الصراع، بأسلوبه الحالي، قد فقدنا العديد من الأشياء المهمة. أو أنها قد أُسقِطت، ربما لضيق الوقت، أو من الإحساس بالخيبة واليأس من تحقيق ثورة نسوية واضحة. ربما أيضاً لأننا وقعنا في فخ «الفعل ــ ردّ الفعل» في تحركاتنا النسوية.

ما أعنيه بتحرك «الفعل ــ ردّ الفعل» هو هذه المنهجية السياسية للتغيير التي تعمل كردّ معاكس، مباشر وطارئ لفعل أو حدث ما «غير نسوي». تسود هذه المنهجية في التدخّل عادة، عمل المؤسسات الإنسانية والمؤسسات غير الحكومية التي تعمل على إبطال وتفشيل أعمال وقوانين وتشريعات معينة لدى الدولة. وقد يبدو أنّها طغت على عمل العديد من التحركات النسوية اليوم في لبنان التي بدأت تعمل على التغيير عبر هذه المؤسسات الإنسانية. وبذلك، أضحت النسوية مهنةً إنسانيةً تكتسب ذات تقنيات ومهارات وطرق محددة للتصرف. تفترض هذه المنهجية أنّ الفعل الاحتجاجي يجب أن يأتي كردّ معاكس يصارع أو يصادم الفعل غير النسوي الذي سبقه، وأنّ هذا التصرف الاحتجاجي الذي قد يتخذ وجوهاً عدة، هو تصرف طارئ بتوقيته، أي إنّه يجب أن يكون آنياً وكرد معاكس ومباشر على الفعل غير النسوي.

كذلك تسقط العديد من الأشياء ويعلّق العديد من القوانين والحقوق في حالة الطوارئ التي تطلقها عشوائياً مؤسسات الدولة اللبنانية التي نشهدها وشهدناها يومياً إلى أن أصبحت أمراً طبيعياً نتعايش معه كأنّه أمر مفروغ منه. تسقط العديد من الأشياء من سلم أولوية الجمعيات والمؤسسات النسوية عندما تفترض أنّ تحركها طارئ وآني. أشياء كالحب والتآخي والتحاور والعمل على التلاقي. هكذا نقع في فخ «الفعل ــ ردّ الفعل» ونبدأ بالارتكاز على منطق الـ«هذا التحرك أفضل من عدم التحرك مطلقاً».

نحن لسنا في حالة طوارئ. المؤسسات الإنسانية هي المسؤولة عن هذا الوهم. النظام الطائفي اللبناني بهيكليته الأبوية والبطريركية قد صارعته أمهاتنا وجدّاتنا وأسلافنا باستعمال شتى الوسائل «غير المهنية» منذ الأزل. وأحياناً، عدم التحرك والجلوس معاً للتفكير والتحدث أفضل بكثير من «أيّ تحرك ما».

نحن في حاجة إلى الحبّ في لبنان. هذه ليست دعوة ضد العنف والغضب. هذه دعوة للتآخي والتلاقي والاشتباك الحركي في تحركاتنا النسوية.

الحب هو العمل معاً على خلق مساحات آمنة ومريحة للتأمل والتفكر، مساحات تستوعب وتتقبل وتطالب بالنقد والتحليل. ليس بالانتقاد والتجريح. هو التلاقي والتشابك عبر الاختلاف، لا عبر التشابه. هو نتاج معرفي مشترك يجلّل ويحترم الأنماط المعرفية لجميع الطبقات النسوية الاجتماعية ــ الاقتصادية، ولا يفضّل نتاجاً معرفياً طبقياً معيناً على آخر. هو الاعتراف والوعي على الامتيازات الطبقية والمعرفية التي تحدّ من تحركاتنا النسوية وتجبرنا على التعلم والإفادة من خبرات نسوية مختلفة جداً عنا.

هو القدرة على التعلم من أنماط المقاومة النسوية «الثانوية» في لبنان، تلك التي قد تتّحد وتعارض المفاهيم الليبرالية التي ترتكز عليها حقوق الإنسان في تعريفه «للمرأة المتحررة»، تلك التي تمارسها يومياً النساء التي نلقي عليهنّ اسم «المهمّشات». هذه رسالتي للتحركات النسوية اللبنانية. رسالة حب وتقدير في عيد المرأة العالمي، لكل ما في كلمة ومفهوم نسوية من معانٍ متضاربة ومختلفة. أمضيت وقتاً طويلاً لا أرافق فيه النساء ولا أحب صحبتهنّ. الآن أجد نفسي محاطة بنساء رائعات وملهمات كل يوم. عاملات اجتماعيات فلسطينيات ولبنانيات. لاجئات عراقيات وسوريات يشاركنني قصصهنّ غير المعقولة إنسانياً. أمّي ورسائل حبها اليومية لي، جدتي وماكينة خياطتها وأكلها وقصصها. أمهات فلسطينيات يدافعن عن حقوق أولادهن في أزقة الأونروا اللزجة البيروقراطية، وغيرهن كثر يعلمنني كل يوم معنى التآخي والصراع النسوي اليومي والحتمي مع النظام، ويعلمنني أن أحبّ أكثر وأن أستاء أقل.

* ناشطة نسوية فلسطينية ألمانية

عن التمييز الجنسي الليّن

ندى إيليا

التمييز الجنسي الليّن شبيه بالصهيونية الليّنة، هو أيضاً يسمح بانتهاك حقوق بعض الأشخاص وكراماتهم، وخصوصاً النساء والمثليين جنسياً. وكما أن ّالصهيونية الليّنة خاطئة وعنصرية، كذلك هو التمييز الجنسي الخيري والودود. التمييز الجنسي الليّن قد يكون مغلفاً في إطار جميل، ولكنه لا يزال تمييزاً جنسياً

في الكثير من الأحيان، تكرّس مجتمعات الناشطين تركيزها لتصحيح الأخطاء في المجتمع إلى درجة أنها قد تتجاهل بعض الديناميكيات القمعية التي تجري في دوائرها الضيقة. فـ«جعل العالم مكاناً أفضل» ينطلق من أنفسنا. علينا نحن أن نقدم النموذج عن المجتمع الذي نسعى إلى بلوغه، ذلك المجتمع الذي يسوده السلام والمساواة اللذين نطمح إليهما.

كُتب هذا المقال من وجهة نظر منظمة فلسطينية على مستوى القواعد الشعبية تقيم في الولايات المتحدة. هي نفسها كانت شاهدةً وسمعت روايات من زملائها، لتدرك الديناميكيات الجندرية القمعية في صفوف الطلاب الناشطين اجتماعياً والساعين إلى تحقيق العدالة في فلسطين. يستند هذا المقال إلى حديث مع مجموعات من «الطلاب من أجل العدالة في فلسطين» شاركت في المؤتمر السنوي الوطني للطلاب من أجل العدالة في فلسطين الذي أقيم في ميشيغان عام 2012.

أن تكون ناشطاً يعني أن تكون ملتزماً تجاه العدالة والسلام، وإحداث تغيير نحو الأفضل. أن تكون ناشطاً ليس بالهواية اليسيرة. هو التزام النضال. بالطبع، ما كان ليسمّى «نضالاً»، لو كان سهلاً. يبدأ هذا «النضال» من مجتمعاتنا الصغيرة ودائرة الناشطين. لذا، قبل أن نواجه ديناميكيات القوى العالمية، من الصهيونية والعسكرة والطائفية الخبيثة والعنصرية المتفشية في ثقافتنا وبيئتنا، علينا التعامل مع هذه المشاكل في عقر دارنا.

نريد جعل العالم مكاناً أفضل، نحن ملتزمون النضال لأننا «ندرك» المشكلة؛ فنحن لسنا في وضع نحتاج فيه لمن يشرح لنا عن انتزاع الملكية والتهجير وانتهاك الكرامة الإنسانية. لا نحتاج لأحد كي يشرح لنا عن مساوئ العسكرة. نحن نفهم جيداً هذه المساوئ، ونعرف هذه الأنظمة التي تميّز البعض عن الآخر، «نحن ندرك» كلّ ذلك.

لكن ما لا يدركه كثيرون منّا هو بما أن الناشطين لا يعيشون في فقاعة واقية، علينا أن نحرص على عدم استنساخ ديناميكيات القوة السائدة في المجتمع الأكبر الذي نعيش فيه، في دوائرنا الداخلية. نحن جزء من مجتمع أشمل، ونمتصّ قيم هذا المجتمع من دون أن نقصد. هكذا تعمل التنشئة الاجتماعية؛ فنحن نمتصّ القيم السائدة في المنزل والمجتمع الأشمل. مثلاً، بما أنّ التوجه السائد في الولايات المتحدة هو أورو ــ أميركي، ترانا متحمسين لعيد الشكر رغم أنه ليس جزءاً من ثقافتنا المجهرية (الميكرو)، بما أنه احتفال بـ«تطبيع» الاستيطان الاستعماري. نحتفل أيضاً بعيد الاستقلال الأميركي في 4 تموز (يوليو)، رغم أنّ استقلال الولايات المتحدة يساوي استقلال إسرائيل، هو نكبة السكّان الأصليين لهذه القارة. هذان الاحتفالان مثال على الثقافة الكليّة (الماكرو) التي نعيش فيها التي تؤثّر على ثقافتنا المجهرية (الميكرو). بالطبع، يمكننا مقاومة هذا التيار، إن تعمّدنا ذلك وكنّا سياسيين تجاهه. فيما نركز على أجندتنا المحددة، قد ننسى معالجة أخطاء أخرى تكون خطرةً بقدر العوامل التي نحاربها، خصوصاً إن كانت تجتاح ديناميكياتنا الداخلية. بمعنى آخر، إن بقينا كناشطين فلسطينيين في الولايات المتحدة نركّز فقط على السعي إلى تحطيم التوجه الصهيوني، قد لا نعالج خطأً اجتماعياً متفشياً، هو التمييز على أساس الجنس. وبما أن هذا الخطأ الاجتماعي يحيط بنا، وهو جزء من ثقافتنا الكلية، قد نمتصّه، لأن جلّ تركيزنا مكرس للصهيونية.

نحن، كمجموعات مختلفة مؤيدة للحقوق الفلسطينية في الولايات المتحدة، مجتمعات مجهرية، تنشط في البيئة الكلية الشاملة، أي في المجتمع الأميركي الأكبر. رؤيتنا ومهمتنا وهدفنا، تركز على مواجهة ووضع حدّ لبعض القيم والأنظمة القمعية المحيطة بنا، ونحن نبلي حسناً في هذا المجال. ندرك أن التمييز الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين يستند إلى العنصرية، ولهذا نحن نناهض العنصرية. ولأننا ندرك أن إسرائيل دولة استعمارية استيطانية تنتزع ملكية السكان الأصليين، نتحالف مع الأميركيين الأصليين، سكان هذه الأرض الأولين. ولأننا عانينا من التمييز العنصري، نحن نناهض العنصرية.

لقد رحّب معظمنا بالبيان الصادر عن ناشطين فلسطينيين في تشرين الأول (أكتوبر) 2012، جددوا فيه تأكيد التزامنا النضال ضد العنصرية. حمل البيان عنوان «النضال من أجل حقوق الفلسطينيين يتناقض مع أي شكل من أشكال العنصرية والتعصّب». وجاء فيه: «نحن الموقعين أدناه، كفلسطينيين نعيش في أرض فلسطين التاريخية والشتات، (…) نكتب لنجدد تأكيد مبدأ أساسي من حركتنا في سبيل الحرية والعدالة والمساواة: النضال من أجل حقوقنا غير القابلة للتصرف، يتعارض مع أشكال العنصرية والتعصّب، بما فيه وليس حصراً معاداة السامية ورهاب الإسلام والصهيونية، وغيرها من أشكال التعصب ضد أي شخص كان، وعلى الأخص ضد أصحاب البشرة الملونة والسكان الأصليين. نضالنا مثبّت في حقوق الإنسان الدولية والقانون الدولي، على عكس الاحتلال العسكري والاستعمار الاستيطاني ونظام الفصل العنصري (الأبارتايد). هو نضال يقدر كلّ صاحب ضمير أن يدعمه إلى أي إثنية أو عرق أو دين انتمى. (…) إن أي نضال أخلاقي في سبيل العدالة والمساواة في الحقوق يتضمن عدم تقبل أي تمييز على أساس عنصري في أي مكان».

تشكّل الجمل المقتبسة أعلاه، جلّ البيان. لقد أحببت النصّ المقتضب وتوجهه إلى صلب الموضوع، فيسمي الأشياء بأسمائها. يحدد البيان أنظمةً قمعيةً تحيط بنا، نمتصّها في دوائرنا القريبة، إن لم نتعمّد رفضها. من الأنظمة القمعية الأخرى التي نشهدها ظاهرة تفضيل الأصوات اليهودية على الأصوات الفلسطينية. لقد كتبت أنا بالتزير (حليفة يهودية قوية لنا) بياناً في هذا الموضوع حين طلب منها التكلم أمام لجنة مؤلفة من يهود.

تشرح بالتزير: «مع نموّ الدعم اليهودي للحقوق الفلسطينية، تبان ظاهرة خطرة، تتمثل في تغطية الأصوات اليهودية على الأصوات الفلسطينية. لطالما جرى تجاهل الأصوات الفلسطينية، ونظر إليها على أنها غاضبة وغير منطقية ومتحيزة. حتى من يؤيدون العدالة للفلسطينيين، غالباً ما يقولون إنهم يفضلون خطيباً يهودياً يتحدث إلى مجموعتهم (..). حدث مثل هذا الذي نشارك فيه اليوم يجذب جمهوراً أكبر من لجنة من فلسطينيين يتحدثون عن نضالاتهم. وإن قصدنا ذلك أو لم نقصد، ما يحدث هو أننا، فيما نحاول كسر اختلال التوازن في القوة والتفضيل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، نستنسخ اختلال القوّة ذاته الموجود في السياق الأميركي. فلا يجب أن نتحدى إساءة معاملة إسرائيل للفلسطينيين فحسب، ولكن العنصرية بحدّ ذاتها، التي تجعل اليهود بطريقة ما أكثر أهميةً من الفلسطينيين. يجب أن ندرك أن تفضيل الأصوات الأميركية اليهودية بدل تقديم الأصوات الفلسطينية والاستماع إليها هو أمر متأصل في العنصرية».

يدرك «الطلاب من أجل العدالة في فلسطين» في الولايات المتحدة أنه يجري تفضيل اليهود ويعاد إحداث خلل في توازن القوى، وهم يحاولون محاربة ذلك، فنحن نصرّ على استضافة أصوات فلسطينية في المناسبات التي نقيمها. ولكن يوجد نظام قمعي في بيئتنا الكلية لم نذكره في أيّ من بياناتنا، وهو لا يتعلق في جوهر مهمة «الطلاب من أجل العدالة في فلسطين»، ولهذا، قد ننزلق إلى استنساخه. هذا النظام هو التمييز الجنسي المتعلق بالديناميكيات الجندرية، وهو نظام قمعي تسلل إلى «الطلاب من أجل العدالة في فلسطين» من دون أن تلاحظ المجموعة ذلك؛ لأن الكثير من الأعضاء لم يشعروا بالحاجة للتشكيك فيه.

لقد وصلنا إلى مرحلة يتعين علينا أن نعالج مسألة التمييز على أساس الجنس قبل أن ننتقل إلى «إصلاح العالم». لأننا إذا رغبنا في تأسيس مجتمع خال من كلّ الأنظمة القمعية، علينا تأسيس مجتمع خال من التمييز الجنسي. يبدأ الأمر من مجموعاتنا الخاصة. لا يمكن أن نشدد على ذلك بما يكفي: كمنظمين على مستوى القاعدة الشعبية، لا نؤمن بأنّ التغيير يأتي من الأعلى، بل منّا نحن. فلا ترتكز جهودنا على تغيير القادة السياسيين، بل على تغيير الناس الذين نلتقيهم في حياتنا اليومية.

للأسف، التاريخ يزخر بأمثلة عن ناشطين (من رجال ونساء) يقدمون أولويات على أخرى، حيث تكون تلك «الأولويات» ربحاً سياسياً يُفصَل بطريقة ما عن الأشخاص الذين نحارب من أجل تحصيل حقوقهم، كما لو أن الكرامة البشرية والحقوق الفردية والأمان الشخصي ليست حقوقاً إنسانيةً مهمةً لا يمكن الإنسان أن يكون حرّاً تماماً بدونها. وحين يجري تجاهل هذه الحقوق الأساسية، من أجل قضية أوسع لا يمكنها أن تخدم إلا بعض المتميزين، غالباً ما تجد النساء أنفسهن في الدرجة الثانية عند تحقيق أهداف النضال. ولكن نحن النساء من كلّ الميول الجنسية، جزء من هذا الحركة. نحن لسنا عرضاً جانبياً، بل نحن في قلب الحراك، نقولبه ونصنعه. أينما نظرنا في مجموعات الناشطين، يمكن القول إن نحو نصف المنظمين على الأقل هم من النساء. فلا يمكننا إنشاء مجتمع عادل دون أن نعيش العدالة في ما بيننا أولاً.

يمتد التمييز الجنسي على خطّ متواصل، أحد جوانبه يعرف بـ«التمييز الجنسي الخيري» أو «التمييز الجنسي الودود» ويشمل التمييز الجنسي المستوحى من جملة «خلّي عنك» إلى وضع المرأة على قاعدة تمثال وإلباسها ميزات طبيعية إيجابية، مثل المربية والحريصة في المجتمع والكريمة والدافئة. هذا التمييز الجنسي الناعم، يشمل النساء في نوع واحد، «اللطيف والمربي»، ويشير أيضاً، حتى إن لم يسمّ ذلك صراحةً، إلى نوع من «الضعف»، مثل الحساسية والاعتماد على الآخرين والرقّة والهشاشة والحاجة. لكن في المقلب الآخر نجد العنف الجنسي: رهاب المثلية والاعتداء الجنسي والاغتصاب. هذه انتهاكات خطرة تحصل في المجتعات الأكبر حجماً، وتحصل أيضاً في داخل مجموعات الناشطين. شخصياً، أجد عبارة «التمييز الجنسي الليّن»، الأكثر قرباً للواقع في المجتمع الفلسطيني. معظمنا يفهم الفرق بين «الصهيونية اللينة» و«الصهيونية الصلبة». الصهيونية الصلبة هي الإيديولوجية التي نربطها بحكومات الصقور من الليكود، مع استمرار المستوطنين العنيفين في سرقة الأراضي الفلسطينية واقتلاع أشجار الزيتون وتوسيع المستوطنات لأنهم يريدون إقامة «إسرائيل الكبرى».

أمّا «الصهيونية اللينة»، فتشمل مبدئياً الموقف الليبرالي القائل «بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية، لكن ما تقوم به في الضفة الغربية وقطاع غزة خطأ. على إسرائيل أن تنهي احتلالها». الآن، حين نفكر في الصهيونية اللينة، علينا أن ندرك أنها لا تزال عنصريةً ولا تزال عنفيةً: الإيمان بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية في أجزاء من فلسطين التاريخية هو إيمان بأن التهجير والاستحواذ على الأملاك والتطهير العرقي وانتهاك حقوق الإنسان بما فيها حقّ العودة، كلّها موافق عليها؛ لأن هذا ما يتطلبه الأمر لقيام دولة يهودية وإعطاء إسرائيل حقّ الوجود كدولة يهودية.

إذاً، الصهيونية الناعمة نوع من العنصرية، تؤثّر في كلّ الفلسطينيين، رغم أنها تختلف في تظهراتها الخارجية عن الصهيونية الصلبة. في الواقع، كانت الصهيونية اللينة لا الصلبة المسؤولة عن تهجير العدد الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين. بحلول عام 1994، أصبح 80 في المئة من إجمالي الشعب الفلسطيني لاجئين بسبب الصهيونية اللينة. والتمييز الجنسي اللين شبيه بالصهيونية اللينة، يشير إلى أنّ من المقبول انتهاك حقوق بعض الأشخاص وكراماتهم، وخصوصاً النساء والمثليين جنسياً. وكما أنّ الصهيونية اللينة خاطئة وعنصرية، كذلك هو التمييز الجنسي الخيري والودود. فالتمييز الجنسي اللين قد يكون مغلفاً في إطار جميل، ولكنه لا يزال تمييزاً جنسياً، وهذا النوع من التمييز انتهاك لكرامة الإنسان.

يجب علينا تجاوز التمييز الجنسي بكلّ تظهراته، لأنه يعوق نشاطنا، ويقدم مثالاً خاطئاً عن المجتمع الذي نطمح إلى إنشائه. فإن أردنا العدالة لفلسطين، علينا البدء بتحقيق العدالة بين الناشطين المؤيدين لفلسطين. يجب أن نشكل نحن نموذجاً للمجتمع الذي نريده. فإن عجزنا عن ذلك، يعني أننا غير قادرين على تحقيق العدالة في فلسطين.

يقوم نشاطنا في «طلاب من أجل العدالة في فلسطين» على الإيمان بأن التغيير لا يأتي من الأعلى، بل من الجذور. نحن القاعدة الشعبية، والتغيير يبدأ معنا. يعني أن التغيير موجود في قدرتنا على التشكيك والحدّ من العنف الشخصوي الذي قد ينتشر في حركتنا. إن الثورة تنبع من دوائر ناشطينا التي يبدأ منها أيضاً وضع حدّ للعنف. وهنا الجزء الصعب. إن التعرّف إلى المشكلة أمر أساسي. يجب أن نتعرّف إلى التحرش والتمييز الجنسي اللين والتمييز الجنسي الودود في مجتمعاتنا، لنتمكن من إصلاحها. أنا أؤمن بأنّ الإنكار هو العائق أمام تغيير الوضع الراهن، لأنني على اقتناع بأننا كلّنا ملتزمون العدالة والمساواة، وإلا فما كان علينا أن نكون منظمين على أساس القاعدة. علينا الاعتراف بأن بعضنا يمارس التمييز الجنسي والتحرش ورهاب المثليين. لذا، أدعو كلّ مجموعة إلى اتباع التمرين الآتي:

1. بما أن من مظاهر التمييز الجنسي، إلغاء تجارب النساء، على كلّ فرد من المجموعة تسمية ناشطة واحدة أسهمت في النضال لمصلحة حقوق الفلسطينيين. كرروا هذا التمرين، على أن تجدوا مثالاً أعلى جديداً في كلّ مرّة، فكّر في أمك أو حتى في جارتك الغريبة الأطوار. ستذهل لعدد النساء اللواتي عبّدن الطريق أمامنا، وكم يندر ذكر إنجازاتهنّ. اعترف أيضاً بالمثليين ومساهماتهم تجاه قضيتنا.

2. كمجموعة، فكروا في حالات ظهر فيها التمييز الجنسي في مجتمعكم. كيف تعاملتم معه؟ هل نجح الأمر؟ هل تتعاملون معه بنحو مختلف اليوم وكيف؟

3. أضف مكافحة التمييز الجنسي إلى بيان مهمتك.

أنصحكم بممارسة هذه التمارين البسيطة بانتظام. عليكم تسمية إنجازات بعض النساء دوماً، لكن لا تغفلوا النشاط الجنسي والفروق الجنسية. مثل الصهيونية والعسكرة والعنصرية، التمييز الجنسي خطأ اجتماعي يستمر في الإطلالة برأسه، فعلينا التيقظ منه.

في النهاية، احرص على الوفاء لبيان مهمتك الجديد، ذلك الذي لا يضع في سلم أولوياته الأمور التي تقلق بعض أعضاء المجتمع فحسب، فيما يبقى أولئك الذين كانوا تاريخياً في الدرجة الثانية في مكانهم.

عليك التفكير بأولئك الذين ليسوا ميسورين بما يكفي ليكونوا في «الدرجة الثانية» حتى. لأننا إن كنّا في صراع مع الصهيونية، فعلينا أن نفهم أننا في صراع لوضع حدّ للقمع والتمييز والعنصرية وكافة أشكال الديناميكيات الجندرية القمعية. هيا لنسمِّ المجموعات المقموعة ونعمل بحق من أجل تحرر شامل.

* باحثة وناشطة فلسطينيّة مقيمة في الولايات المتحدة

بين الكيتش النسوي والقائد الـ «سوبرستار»

دعاء العدل ـــ مصر

ردت أن أكتب أنْ لا حركة نسوية مصرية معاصرة حقيقية. لكنني شعرت بعدم الرضى وبشيء من المبالغة، وربما بالتخلي عن القليل من الاندفاع الناتج من غضب، سببه الاستياء من حركة لا تتقدم وبفقدان الاهتمام بالانتماء إلى حركة تحمل نفس مساوئ النظام المجتمعي الذي يُفترض أن يُحارَب. ربما بقليل من الهدوء قبل الشروع في الكتابة، ستأخذ من يُعرفن بناشطات نسويات هذا على محمل الجد وسيمرّ في عقولهن أنّ النسوية ليست تجربة حياتية شخصية لفرد تطبق بحذافيرها وتصبح درساً مُسلّماً بيه لتخلق كائنات فضائية متشابهة.

وبالتالي، يجب إدراك أنّ الحركة النسوية تعاني مشاكل كبيرة. التعميم غباء حتمي. بالطبع، هناك نسويات مصريات؛ ليس بالضرورة أنّهن يطلقن على أنفسهن اسم نسويات، لكنهن يبعثن الأمل ويخففن من حدة العدمية التي تطبق على أنفسنا في هذه اللادولة العبثية.

في 2012 في وسط القاهرة، أقيم اجتماع نسوي هدف إلى لمّ شمل الحركة النسوية. يحتل المكان سيدات أغلبهن تقدمن في السن ولم تتقدم أفكار أغلبهن معهن ولا خطابهن، فبدون قمة في الانفصال عن الواقع، يتحدثن منذ نحو ربع قرن عن «الخلع» و«الختان»، ويتحدثن عن أنّ فتات الحقوق التي حصلت عليها النساء في عهد مبارك ستزول في عصر الإخوان، وأنّ النساء لن يصلن إلى البرلمان. القاعة يتخللها القليل من النسويات الشابات اللواتي لا يشعرن بالانتماء. وبالنسبة إلى بعضهن، فإنّ أسوأ كوابيسهن أن يصبحن مثل من يشغلن المنصة.

في هذا المشهد، أنا لا أنتقد النسويات أنفسهن، بل خطابهن الذي يسبّب ــ للأسف ــ تعاسةً في سطحيته وجهله. مثلاً، أغلب النسويات الأكبر سناً، اختصرن مشاكل المرأة في تجريم الختان والحق في الخلع. أما النسويات الشابات فموضوعهن المفضل هو التحرش الجنسي الذي تفاقم فوق أجسادنا جميعاً بشكل موجع. بالطبع، نقدي هذا ليس استخفافاً بالقضايا، لكن غضباً من نوعية الخطاب ومحدوديته واستخدام ما يجلب بروباغندا وقبولاً اجتماعياً وتعاطف المجتمع مع المرأة لأنها «ضحية» مجتمع عنيف عدائي، لا لأنّ الحقوق والواجبات لا تختلف بمجرد نوع جندر.

■ ■ ■

في مقارنة سريعة بين الوضع الحالي للنسوية وبعض الرموز النسوية المصرية وتحديها للسلطات، بما فيها الدين، نرى كمثال نوال السعداوي وكتبها التي تحدثت عن أنّ ختان الإناث جريمة إنسانية تتم ممارستها ويجب تحريمها قانونياً. خطابها هذا كان في أول السبعينيات حين كان الختان ممارسة اجتماعية تستند بشدة إلى الدين، وخصوصاً الإسلام وتجرى لأغلب الأناث. نرى أنّها تحدّت السلطة الأبوية مروراً بالأديان جميعاً والمجتمعات العربية والغربية. ونرى درية شفيق ونضالها للحصول على حق المرأة في التصويت. وكمثال أخير، نرى من لم تطلق على ذاتها نسوية: أروى صالح مؤلفة كتاب «المبتسرون» تنتقد ذاتها أولاً ثم رفاقها في الحركة الطلابية في السبعينيات والسلطوية التي تُمارَس داخل الحركات. وقد مرت كذلك على ذكورية وازدواجية رفاق النضال من الرجال. حللت في الكتاب جيل السبعينيات وسياساته. والجدير بالذكر أنّها انتحرت بعد انتهائها من هذا الكتاب ضيقاً من الحياة وفقداناً للأمل. تلك الأمثلة من مناضلات قدرن على تحقيق تغيير بتحديهن.

لكن بخصوص خطاب التقبل المجتمعي الحالي، فرواد الحركة النسوية المصرية المعاصرة، فعلياً لا يتحدون السلطة، سواء اجتماعية أو سياسية. يتلخص الفعل النسوي في مصر في كونه رد فعل. تحدث كشوف عذرية للمتظاهرات وتتم تعريتهن أثناء تظاهرهن، فتدعو الناشطات إلى مسيرات. يتفاقم الاعتداء الجنسي الذي وُجد بأشكال أخف في أول أيام في الثورة، ثم وصل إلى اعتداءات جنسية جماعية تصل إلى اغتصاب المتظاهرات في ميدان التحرير، فتدرك الناشطات حجم الكارثة. ثم يبدأن في أخذ رد فعل يُحترم، فتتأسس قوة ضد التحرش تتطوع فيها نساء ورجال لحماية الميدان. لكن تسييس خطاب الحركة النسوية بأكملها تجاه الاعتداءات الجنسية التي تحدث بعشوائية شديدة وتلخيصها في أنّ سياسة الإخوان هدفها إرهاب المتظاهرات وإبعادهنّ عن المجال العام، أمر يبدو كخلق واقع أرحم في قبحه من واقعنا: تجاهل أنّ العنف الجنسي ذاته حدث في ظل حُكم المجلس العسكري بأعداد أقل. وحدث في عصر مبارك. وكذلك كوننا نعيش في مجتمع عنيف جنسياً، فإنّه يحدث ذلك يومياً. وكنتيجة تضامنت العديد من دول العالم مع «متظاهرات مصر»، لا «نساء مصر».

وعندما يوجَّه الخطاب إلى الإعلام والسلطة، تنعدم حدة الراديكالية للناشطات ثم تتجلى بجمال في الجلسات الصغيرة للدوائر الناشطة. فعند ذكر الحقوق الجسدية والجنسية، يتلخص الأمر في أنّ ختان الإناث جريمة، ولا أعتقد أنّه طُرح قبلاً حق التصرف في الجسد؛ كالإجهاض أو توجه الميول الجنسية. وعندما يأتي الحوار على العنف الجنسي، يُكتَفى بالعنف الموجه إلى المرأة، كالضرب والتحرش الجنسي، ويُتجاهَل الاغتصاب الزوجي مثلاً. لا يتحسن وضع المرأة في مصر، لا سياسياً ولا اجتماعياً. فمثلاً، تجري حالياً مناهضة الحركات الإسلامية المتشددة كالحكومة الإخوانية والتيار السلفي، لكنّ العبث يتجلى عندما نرى ناشطات وناشطين يعرفون أنفسهم كعلمانيين يريدون دولة مدنية، ويدعون إلى الدين الوسطي ــ الإسلامي بالطبع ــ فيدعون مؤسسة الأزهر إلى مساندتهم، متجاهلين أنّ أيديولوجية تلك المؤسسة أنّها مع مساواة المرأة، لكن بالطبع بما لا يخالف شرع الله.

كرؤية شخصية، النسوية تعني عملية حياتية مستمرة لا درساً مسلَّماً به يؤخذ ويعاد ويكرر ورؤيتنا الشخصية تختلف اعتماداً على تجاربنا الحياتية. وبالطبع، هي عملية تحررية من السلطة أياً كانت. فرؤية مجتمعات صغيرة تحمل نفس مساوئ المجتمع العام، تسبّب تعاسة غير عادية. فلماذا نريد دائماً القائد الـ«سوبر ستار»، ونعمل على التأليه والاتباع لنصبح «زومبي»، كائنات يشبه بعضها بعضاً وتتبع نفس الخطاب. ومع الوقت، تنفصل عن الواقع. تُتَجاهَل المشاكل، ولا نُنتقَد، ونعلن على الملأ بأنّ التنوع هو المفعل الأساسي للاستمرار، لكن لا يُطبق هذا. تصبح الدوائر صغيرة تشمل أناساً متشابهين تماماً لمجرد الانتماء إلى الحركة.

* ناشطة نسوية، مصر

ممارسة الحرية في ظل الأزمة البــطريركية

دعاء العدل ــ مصر

دول ما بعد الاستعمار، فشل اليسار الاجتماعي السياسي، الصراع العربي الإسرائيلي،الإمبريالية الأميركية والحرب على «الإرهاب»، والمد الإسلامي السلفي، والديكتاتوريات العربية وحكومات القمع… كلها حجج مقنعة لهذه الردّة، ولكن

تقول الدكتورة النسوية من تركيا، دنيز كانديوتي، في مقال حمل عنوان «عنف وغضب: النساء وعنف ما بعد الثورة» الصادر في مجلة «أوبن ديمقراسي» في أوائل هذا العام، إنّ البطريركية في أزمة. عندما قرأت مقالها، شعرت بأنّها تتحدث بلساني؛ إذ كنت، منذ فترة، مشغولة ببعض هذه المواضيع. كنّا كلما تحدثنا أنا والرفيقات من مصر ولبنان وغيرهما من الدول عربياً ودولياً في ما يجري في المنطقة العربية، وخصوصاً في مصر وتونس، وما يحصل من قتل نساء وإجرام في بعض دول أميركا اللاتينية، كنّا نجد أنفسنا أمام سؤال نحاول أن نتهرب منه، أو أن لا نلفظه علناً، علّه يختفي.

كان السؤال يدور في حلوقنا وأفكارنا، وتتشعب منه أسئلة أخرى عديدة. وعندما لا نستوفي أي إجابة مقنعة أو قطعية، نشعر بالإعياء التام ونتنهد تنهيدة قوية، ثم نحاول لم أشلائنا المبعثرة لنعود إلى واقعنا الكاذب الذي نخترعه يومياً لكي نستطيع أن نثابر في معاركنا اليومية مع أمة، بل أمم، تعمل جاهدة كي تضعنا في علبة مُحكَمة المعالم. ولا تعتقدن أنّ هذا السؤال مثلاً هو السؤال المفصلي؛ فقد كانت هناك أسئلة عديدة نحاول جاهدات أن لا نطرحها علناً، لمعرفتنا بأنّ الواقعة ستكون وخيمة.

كان السؤال الذي يدور في ذهني يبدأ بطبيعة الحال بـ: لماذا؟ لماذا يحصل ما يحصل من عنف جسدي وجنسي بشع؟ لماذا الآن؟ وكيف نفسره؟ هل هو هو، يعيد التاريخ إنتاج نفسه بأساليب مختلفة؟ وكيف رغم كل ما قامت وتقوم به رفيقاتي، وأمهاتي، وجداتي، وجدات جداتي من عمل دؤوب ونضال رائع لكي أستطيع اليوم أن أعيش حياتي بمعطيات مختلفة؟ لماذا نجد، ما يسميه كثيرون وكثيرات «الردة»، مستساغاً من قبل العديدين والعديدات؟ بطبيعة الحال، هناك إجابات عديدة ممكنة تمرّ في بالي وعلى لساني: سياق دول ما بعد الاستعمار، فشل اليسار الاجتماعي السياسي والحركات القومية العربية، الصراع العربي الإسرائيلي، الإمبريالية الأميركية والحرب على «الإرهاب» وما تبعه أو سبقه من نمو المدّ الإسلامي السلفي، الديكتاتوريات العربية وحكومات القمع، التبعية الاقتصادية، وبطبيعة الحال الدين، التقاليد، البطريركية وإلى ما هناك من نقد ذاتي للحركات النسوية/ النسائية. وهي كلها حجج مقنعة ولكن…

ماذا على الصعيد الإنساني؟ ألوك الأفكار ولا أجد ملجأً. كيف يمكن أي إنسان أن يتعامل مع إنسانة أخرى بهذه الوحشية ويكمل يومه بنحو عادي؟ ما الذي يقوم به بعد ذلك؟ هل يذهب إلى القهوة، يطلب كوب شاي و«شيشة»، أم إلى وكر مع أصدقائه للحديث عن حصيلة اليوم (ضربنا 3 بنات، هزأنا 7 ستات)، أم يذهب إلى بيته يقبّل جبين ابنته كي تنام مطمئنة؟ أعرف، ما تفكرون فيه، هل يعقل؟ لا أريد أن أتخيل؟ طيب، ولكننا سمعنا شهادات عديدة لنساء وشابات، نعيد ونلوك قصصهن وشهاداتهن على برامج التلفزيون وصفحات الجرائد من دون أي احترام لما يمررن به من معاناة ومن دون نتيجة في معظم الأحيان. كأنّ ما حصل لهن كان على أيدي أشخاص جاؤوا من المريخ؟ نكتفي أن نسميهم الوحوش، لكنهم دائماً مجهولو الهوية. هل نعتبر هذا الإنسان مجرماً، وهناك دراسات عدة عن مكونات الإجرام اجتماعياً ونفسياً؟ كيف بنا بمئات من الرجال يحطون بامرأة، يحاولون نهش جسدها فعلاً كالوحوش التي تهجم على ضحية (ولكن الوحوش تنساق من غريزتها لكي تعتاش، فما بالنا بهذه الوحوش؟). وما بالكم بمئات آخرين يقفون متفرجين؟ وما بالكن بآلاف من مؤسسات الشرطة والجيش والقضاء تنضم إلى مرتكبي الجرائم وتشاركها في جرائم جديدة؟ وما بالكم بملايين يعيدون إنتاج الجريمة حينما يصفون النساء بأنهنّ استحققن مثل هذا العقاب لكونهن نزلن إلى الشارع، أو لبسن «لبس» (يعني مش على بعضو)، أو تكلّمن مع رجال، أو أو…

ترى كانديوتي أن ّهناك ظاهرة جديدة تسميها masculinist restoration، ترميم نظام الأبوية الرجولي (البطركية) وهي نتيجة لأزمة البطركية. وهذه الظاهرة نجدها عندما لا يعود النظام البطركي مُؤَمِّناً نفسه (أي قادراً على إعادة إنتاج البطريركية بأساليبه المعتادة). وبالتالي هو يتطلب مستويات أعلى من الإكراه واستخدام الدولة لوسائل إيديولوجية متعددة لتأمين إعادة إنتاجه. «إن استخدام العنف (أو تأييده) لا يدلنا على عمل البطريركية العادي أو الدوري، أو إلى العودة إلى التقاليد؛ بل إلى التهديد بوفاتها، في مرحلة أصبحت مفاهيم وأفكار خضوع النساء غير مُحكَمَة الهيمنة». تعطي أمثلة عديدة لهذا النوع من أساليب العنف الجديد مثل اغتصاب النساء من قبل العسكر في مصر (تحت غطاء ما يسمى فحص العذرية)، وقصة اغتصاب جماعي من قبل الشرطة في تونس لامرأة في أيلول (سبتمبر) 2012، بعدما أوقفتها مع خطيبها في سيارتهما، فقامت بضرب الخطيب وتكبيله، ومن ثم اغتصابها. وكأن الاغتصاب لا يكفي، قامت المحكمة باتهام الفتاة بالإخلال بالآداب حين قدمت شكوى. ولم تُسقَط القضية إلا بعدما ثارت النساء وانتفض الرأي العام. هناك العديد من حالات ضغط على النساء لكي لا يرفعن دعوى أو يقدمن محضراً. وفي العديد من الشهادات من مصر، نجد أنّ النساء يتعرضن للتحرش والاغتصاب في أقسام الشرطة. ولكن شعور القضاء أنه يستطيع أن يحمي المجرمين من العقاب ويجرّم الضحية في بلد مثل تونس ربما هو دليل على الأزمة وعلى ما قد يحمله المستقبل القريب. وقد نظرنا تاريخياً إلى التحرش الجنسي كوسيلة قمعية لتحديد معالم الحيز العام، وإفهام النساء بأنّ موقعهن «الطبيعي» هو المنزل، وبالتالي محاولة قمع وتغييب دورهن السياسي، الاقتصادي العام. وهذا عادة ينمو في مراحل مفصلية تظهر فيها النساء في الحيز العام بشكل أكبر، مثل نمو معدلات مشاركتهن في سوق العمل وغيره. وفي إطار ما يحصل في مصر، فإن الواقع ما زال كذلك، إضافة إلى محاولة نهيهنّ عن الحراك السياسي مباشرة.

لكنْ هناك شيء آخر يحصل. كل هذا العنف البشع يحصل في وضح النهار وأمام مرأى كثيرين والكاميرات التي ترى وتصور ما يحدث. كأنّ من يرتكب مثل هذه الجرائم ليس لديه أدنى شك في أنه ربما كان يقوم بشيء خاطئ. وبرأيي، إنّ التعبئة الإسلاموية الحاصلة في شاشات التلفزة والجوامع وغيرها من الأطر، تنتج وتعييد إنتاج صور ومفاهيم حول من هنّ هؤلاء النساء وما هو دورهن، فتطغى على المناخ العام بغض النظر عن إيمان أي فرد. بطبيعة الحال، هذا يقع على موروث فكري ذكوري ليس حكراً على المسلمين أو التيارات الإسلامية؛ إذ إن التيارات السياسية أو الدينية الأخرى أيضاً متواطئة في تنميط النساء. فالتيارات اليسارية مثلاً لم تكن إلا على بعد بسيط ربما من هذه الأفكار، تتحدث عادة في المساواة، ولكن تعيد تطبيق الاستعباد بطرق شتى. وبرأيي أيضاً، إنّ حقيقة عدم معاقبة أي من مرتكبي الجرائم ضد النساء من رجال الشرطة والجيش أرسل رسالة تواطؤ تام يبرئ مرتكبي هذه الجرائم مستقبلياً. رغم الثورة النسائية والعامة أيضاً من خلال استنكار ما يحدث الذي أدى إلى إقرار الجيش بأنّ «فحص العذرية» لم يعد ساري المفعول، وهو ما عدّه كثيرون إنجازاً، فإن الوضع فعلياً لم يتغير ولم تنل أي من النساء اللواتي تعرضن لمثل هذا العنف أي عدالة. أولاً، لم يُعاقَب أي مرتكب جريمة. ثانياً، لم توضع أي آليات لمراقبة الجيش والشرطة ومدى تطبيق قرار الجيش. فهل لدينا برهان على أن مثل هذه الجرائم فعلاً لم تعد تحصل. بل بالعكس، يبدو من الشهادات العديدة أنّ النساء يتعرضن في أقسام الشرطة وفي الشارع لتحرش ومضايقة. وثالثاً إنّ مقولة «فحص العذرية» لم يُشَكَّك فيها، بما معناه أولاً أنّ مفهوم العذرية ما زال ساري المفعول وتقويم النساء على أساسه. وثانياً، إنّ مفهوم نوعية المرأة التي تعنى بالشأن العام أو تدخل المعترك السياسي أو المدني أيضاً لم يتغيّر. تتعرض النساء في لبنان يومياً أيضاً لتحرّش جنسي وعمليات اغتصاب وقتل تتنامى، ولا تزال الحكومة اللبنانية ترفض إعطاء النساء العديد من حقوقهن الإنسانية، فتماطل في قانون الجنسية وقانون العنف الأسري وغيرها. وربما كان هذا أمراً متوقعاً من دولة ليس لديها العديد من مكونات الدولة، بل قد يصح وصفها بالعزبة، دولة الدويلات الطائفية الدينية تكون فيها مصلحة الطوائف، البطريركية بامتياز، فوق مصلحة المواطنات (ذوات المواطنة المنتقصة). لكن اللافت في الأمر في إطار ما نتحدث عنه هو الهجمة النوعية للدفاع عن السلطة الأبوية للطوائف، للتأكيد أننا فعلاً لسنا مواطنات تُحقَّق حقوقنا القانون، بل رعية تحمينا الطوائف من طريق قمعنا، أو في حالة مصر وضعنا في علب مخصصة لنا في محطات القطار أو في البيوت. تؤكد كانديوتي «أنّ عملية الأسلمة (بمعنى معطيات الإسلام السياسي في الواقع الاجتماعي والقانوني أيضاً) قد تستطيع أن تعطي هذه الهيمنة دفعاً، لكنها لن تستطيع أن توقف النساء عن المطالبة بالمساواة والكرامة ولا التقليل من حراكهن، كما يبدو واضحاً في إيران». هي تلاحظ أن معطيات ما كان يمنح الرجال «القيامة» أو السلطة على النساء، قد أضحت عموماً مهددة تماماً، بل ربما مهشمة تقريباً في الواقع، وإن ليس في المخيلة بعد: من فكرة الرجل المعيل الأساسي للأسرة (في ظل معدلات البطالة الفقر المرتفعة)، أو الرجل الحامي للعرض والدار (نجد انهزامات عديدة رغم محاولات المسلسات التلفيزيونية تصوير عكس ذلك، إلى الرجل المرتكب للجريمة)، أو فكرة الرجل السياسي، العارف، المقرر في المنزل وخارجه (بتوافر وسائل الاتصال وإن ليس في أطياف المجتمع كافة، أصبحت المعرفة والتواصل مع الخارج ممكنين؛ خارج الذات، المنزل، البلد). تقول كانديوتي أنّنا «نشهد أزمة رجولة بامتياز تؤدي إلى إصرارات عنف وإكراه أكبر تأكيداً لامتيازات الرجال، حيث يصبح الاعتداء على النساء رياضة دموية»

يمكننا للأسف أن نتوقع مزيداً من الألم والقتل، فالنساء (وبعض الرجال) يدفعن ضريبة كبيرة من أجل الحرية والمساواة. يبدو لي أنّ هناك حرباً معلنة وعلينا أن نكون مستعدات للمواجهة. قد تكون هذه دعوة إلى التفكير معاً في طرق وأساليب جديدة للنضال. بطبيعة الحال، سيتطلب منّا كنسويات إيجاد أساليب جديدة للتعامل مع هذه الظاهرة والمفاعلات الجديدة المستخدمة لتكريس البطريركية وإعادة إنتاجها. هناك من يرى ضرورة مراجعة عمل ونجاحات الحركات التحررية العالمية الأخرى، وقد يستنتج من ذلك ضرورة قيام تنظيمات سرية أو استعمال أسلحة أو أدوات جديدة لتوضيح خطورة ما يجري وفرض تغيير. من الضروري أيضاً التفكير في سبل الدفاع عن النفس، من دورات تدريبية، إلى معدات. من المهم أيضاً أن نسائل الرجال أين هم من هذا الصراع. فقد حاربوا للوصول إلى حريتهم من الاستعباد أكان في معسكرات الاستعمار أم في ساحات التحرير وسجون الاحتلال، فهل الحريات والحقوق مجتزأة؟ أليست المساواة والكرامة مستقبلاً أفضل لنا ولهم؟ وبما أن الدولة تبدو متواطئة عمداً أو عرضاً، فإن من حقنا أن نسائل أصحاب القوى عن ضمنية هذا التواطؤ وتداعياته؛ إذ ليس من المعقول أن تشارك قوى دينية مثلاً في حملة على العنف ضد النساء ليوم أو يومين أو أسبوع، وترفض قانون حماية النساء من العنف الأسري وتعمل على تكريس السلطة الأبوية فكراً وفعلاً في الخطب والمحاكم والمحافل الدينية في باقي أيام السنة. يبدو نفاقاً غير مقبول. ومن غير المقبول أن تستنكر العنف ضد النساء في سوريا أو العراق أو البحرين أو مصر حكومات عربية، وأحزاب سياسية، ومؤسسات وحكومات أجنبية ثم ترفض هي نفسها قوانين تعطي النساء حقوقها تحت شعار الخصوصية الثقافية، أو ترفض ترشيح نساء وطرح أجندة نسائية بحجة توقيت الاستراتيجية سياسياً، أو تعلن أنّ الانتخابات حرة نزيهة حين تكون نسبة المرشحات ضئيلة ويتعرضن للتهديد والتحرش تحت ضرورة تحقيق انتقال السلطة واستتباب الأمن، أو تقدم دعماً مادياً وسياسياً لمرتكبي هذه الجرائم من مذاهب وقبائل وأحزاب وجيوش في ظل تحالفات وموازين القوى. برأيي، إن كان الاستعباد والعنف والاستغلال هي مكونات هذه الخصوصية الثقافية، فلتذهب إلى الجحيم. لا أدّعي استحواذي على إجابات، ولكنني أعتقد بأن المرحلة مفصلية وأنّ انتقالاً نوعياً في نمط البطريركية وأسلوبها وسبل إنتاجها هو ما نشهده حالياً. ولا أدعي أن علينا أن نهجر كل أساليب نضالنا السابقة ونقع في حوار عدمي محبط. بل بالعكس، فإنه يمكننا أن نكون أكيدين وأكيدات من أنّ الحركات النسوية ـــ بكل ما قد ينضوي تحت لواء هذا البند العريض من ناشطات، كاتبات، صحافيات، مناضلين ومناضلات ـــ قد أدت إلى زعزعة حتمية النظام الأبوي وأعطتنا العديد من الحقوق وجعلتنا نحلم ونؤمن، ونحاول أن نعيش حياتنا اليومية كما نؤمن. ويمكننا أن نكون أكيدين من أنّ النساء وحلفاءهن من الرجال لن يتوقفوا عن المطالبة بالمساواة والعدالة والحرية. وربما علينا أن نجرب إجابات جديدة، واستراتيجيات مبتكرة، ونتجرأ أكثر في ممارستنا للحرية.

(*) باحثة ومحاضرة، صيدا ــ أوكلاند

من مصر إلى تونس… هل قلتَ ثورة حقاً؟

هلا الدوسري *

هل نجح الحراك العربي على اختلاف صوره من مطالبات إصلاح ومظاهرات وثورات وقلب لأنظمة الحكم بعد عامين على الثورات والمطالبات الشعبية في تحسين أوضاع النساء؟ وهل أصبح هاجس النساء اليوم هو مجرد الحفاظ على المكتسبات القليلة المنتزعة على مدار عقود من النضال؟ ما تكشفه إزاحة قمة الهرم الحاكم في دول الثورات هو واقع مرعب من الجهل والاستقطاب والتهميش المتزايد للفئات الأضعف بمن فيها النساء. يبدو الحراك العربي مجرد إعادة ترتيب للقوى نفسها في نفس مراكز النفوذ أكثر من تمكين المهمّشين والمهمّشات.

وتبدو أسئلة الهوية والموقف حول مكانة المرأة والإنسان عموماً من أهم إفرازات الثورات والمطالبات. موجة استهداف وترهيب المدافعات السلميات ورائدات التغيير لتمكين النساء كانت حاضرة في كل البلاد العربية تقريباً. القتل والتحرش والاغتصاب في مصر، وسوريا، وليبيا، واعتقال المتظاهرات في عُمان، أو اعتقال وتعذيب طبيبات وممرضات لأداء واجبهن في البحرين أو اعتقال سائقة سيارة أو الحكم بجلد أخرى… مشاهد عكست موقفاً سياسياً صارماً من الحراك النسوي. موقف شديد التناقض مع ادّعاءات الضعف والخصوصية المرتبطة بتبرير التهميش الرسمي للمرأة، مشاهدات المواجهة مع السلطات تناقض ما روّجت له السلطات دوماً عن ضعف المرأة وهشاشتها وخصوصية التعامل معها…

«ارحل» لم تكن ضمانة لحقوق النساء، لكنها كانت مجرد كشف للغطاء عن واقع سياسي هشّ لم يسمح له بالتطور والنضج. كشفت الثورات العربية عن ضعف التنظيمات السياسية والمدنية وعن عدم وضوح رؤيتها في الموقف من المرأة. السياسي العربي يعيد مراراً تقديم وتدوير نماذج فاشلة من أنظمة الحكم، إما ديموقراطية صامتة، وإما سياسة الباب المفتوح، وإما إسلامية شوروية. تبدو النماذج دوماً أكثر اختلالاً عندما تصل إلى المرأة. يسمح السياسي للنساء والأقليات بممارسة بعض حقوقهن ما دام لا تؤثر على مصالحه. في مصر ما بعد الثورة، تطرح برلمانية ختان البنات والولاية التعليمية على النساء، وتقييد حق الخلع عن المرأة كقضايا مهمّة تحت ذريعة حماية النساء والحفاظ على الأسرة. وهو دوماً حفاظ يكون عبر تقييد حقوق المرأة لا الرجل، هل كان يمكن تخيّل أن تكون هذه هي مطالبات البرلمانيات في عام 1951 عندما اعتصمت 1500 امرأة من رياديات العمل النسائي في مصر أمام أبواب البرلمان مطالبات بمنح النساء حق الترشّح والانتخاب للنظر بجدية في قضايا النساء من تعليم ومشاركة، حتى أقرّ البرلمان بعد أسبوع واحد منحهن هذا الحق؟

ترفض برلمانية مصر الثورية الكوتا النسائية وتطالب النساء في مجتمع قمعي طالما عارض وضعهن في المناصب العامّة والقيادية أن يدخلن البرلمان عبر صناديق الاقتراع في منافسة غير عادلة ومحسومة شعبياً لمصلحة الرجل. عندما ناضلت نساء العمل الحزبي في مصر من مدافعات ومتظاهرات ومتحدثات من أجل الثورة، لم يتوقعن أن تختفي أسماؤهن من أعلى قوائم الترشيح حتى لا يخسر الحزب في المجتمع الديموقراطي الوليد فرص الترشّح للبرلمان بسبب اسم مرشحة امرأة. المرأة سياسياً أيضاً مطالبة بالتنازل لمصلحة المرشح الرجل للابتعاد عن الصدام وإثبات حسن النيات. لم تختلف الأوضاع في تونس الثورة ولم يكف وضع اشتراط قانوني بتماثل عدد النساء والرجال في مرشحي كل حزب سياسي لمنح النساء الفرصة نفسها. ومن بين 150 مرشحاً في القوائم الانتخابية الحزبية، لم يكن هناك سوى 7% من النساء على رأس قوائم الترشيح، بينما احتل الرجال 93% من المراكز في أعلى القوائم، الكوتا في عالم دأب تاريخياً على التمييز السلبي للنساء تبدو اليوم الإجراء الإيجابي الوحيد لرفع التمييز وإعادة توازن الكفة بين الجنسين…

الواقع يكتبه المنتصر، والمعركة الأهم تأثيراً من اختيار مرشّح لمرحلة جديدة هي صياغة العقد الاجتماعي. الدستور هو الوثيقة الأعلى مرجعية في قوانين الدولة، وإدراج تفاصيل حماية حقوق النساء وتأكيد المساواة وعدم التمييز في الدساتير، تمهّد لتعديل كافة قوانين الدولة بموجبها. والدساتير العربية المكتوبة بلا تمثيل حقيقي من الشعوب لم تتغير كثيراً بعد الثورات، ولم تتحول في معظمها إلى منهج وقوانين ملزمة. اللجان المكلفة صياغة الدستور المصري لم تشتمل بداية على تمثيل نسائي مرضٍ، وأسهمت في ترسيخ نمطية الأدوار المتوقّعة من المرأة في الأسرة. المادة العاشرة في الدستور الجديد تنص على مسؤولية الدولة في التوفيق بين واجبات المرأة نحو أسرتها وبين عملها العام، مع العناية الخاصة بالمرأة المعيلة والمطلقة والأرملة. تفترض المادة أنّ الأسرة مسؤولية نسائية فقط بلا مشاركة من الرجل. لا تعكس المادة مساواة في علاقات الأسرة، ولا ثورة في معنى العقد الاجتماعي ومفاهيمه. وهذا الدستور متشابه مع الدساتير العربية كلها ــ إن وجدت ــ في احتوائه على تفاصيل سلطات الدولة وصلاحياتها وغموضه في تقرير وضمان الحقوق الفردية والشخصية للجنسين. لا نصّ يحمي النساء من التمييز والعنف ولا تجريمهما. المرأة تابعة في الوطن كما هي تابعة في الأسرة. حقوقها في الجنسية ونقلها لأسرتها مقيدة ومشروطة كما حقوقها داخل مؤسسة الأسرة. الحفاظ على العقد الاجتماعي ما زال يؤيد تقييد حقوق وصلاحيات المرأة ودعم حقوق وصلاحيات الرجل. ما زال هناك مَن يبرر نقصان المرأة واكتمال الرجل ذريعة للتمييز. تبرز هنا أهمية الثورة الشاملة: اجتماعية، قيميّة، معرفية، و سياسية…

الشائعة الأكثر خبثاً كانت حول دور الإعلام الجديد في صناعة الثورات. صناعة الثورة ــ لو صحّ استخدام التعبير ــ لم تكن إلا على قدر شجاعة الأفراد، ليس فقط عبر الاعتصام والتظاهر، لكن عبر شجاعة التصريح بأكثر الحوادث ألماً وإحراجاً. الثورة على واقع النساء أسهمت فيها وثائق كشوف العذرية وكشف ممارسات العنف مع المتظاهرات المطالبات بالتغيير. ما كشفته وسائل الإعلام الجديد من شهادات مرئية ومكتوبة أيقظ الضمير الجمعي، وأصبح تحطيم التابوهات التقليدية فعلاً ثورياً صادماً. أحد تجلّياته كان تظاهرات التعرّي أو التهديد به. في المجتمعات العربية المحافظة، ظهرت الأجساد العارية كرد فعل مؤلم على ممارسات استعباد أجساد النساء. لكن قمة الجبل الجليدي كانت واضحة للعيان منذ عقود. منطقة الشرق الأوسط هي الأكثر تمييزاً في العالم ضد النساء. في عام 2005، وضع تقرير التنمية العربية التمييز ضد النساء كإحدى أهم ثلاث مشكلات تؤثر في التنمية في العالم العربي، وعكست معدلات الجهل والفقر المتفشية بين النساء خصوصاً ممارسات تقييد المصير بين النساء والتمييز ضدهن بمباركة دينية. وحتى يتعدى التغيير تبديل الأشخاص إلى تغيير القيم وتفكيك مبررات التمييز وإعادة ترتيب موازين القوى، تبقى الثورة وتحدياتها عملية تراكمية ومستمرة…

* كاتبة وناشطة من السعوديّة

الواقع ثرثار ولا عذر للمشرّع

عزّه شرارة بيضون *

حين نطالب، نحن المواطنين والمواطنات، بالتشريع لقانون يحمي النساء من العنف الأسري، فإننا ننطلق من الواقع، بل من إلحاح هذا الواقع. ونطلب من المشرّع أن يفعل ذلك أيضاً. فالتشريع لا يسعه أن يقوم على معتقدات ولا على أعراف، ولا حتى على مواثيق ومعاهدات… فقط. إن التشريع في المجلس الذي «ينوب» عنّا ــ نحن مواطِنات ومواطِني هذه الجمهورية ــ يتعيّن عليه أن ينظر، أساساً، إلى الواقع بوصفه الحامل الرئيسي للحجج المسوّغة لذلك التشريع.

وواقِعُنا ثرثار… ويكفي أن نصغي إلى ما يقول. هذا الواقع يقول أوّلاً، إن العنف ضد النساء في إطار أسرهن قائمٌ وما عاد بالإمكان نكران وجوده. وقد بيّنت فظاعاته الشهادات التي تقدّمت بها نساء شجاعات بُحْنَ بالعنف من على المنابر ومن على شاشات التلفزة والأفلام الوثائقية، كما في جلسات مغلقة لدى أطباء وممرضات ومعالجين نفسيين ومرشدات اجتماعيات ودينيات ولدى محامين وقوى أمن إلخ. وباتت المعلومات المتعلّقة بهذا العنف موثّقة في أعمال باحثين وباحثات في دراسات منشورة ومتاحة في كل وسائط نشر المعلومات، القديمة منها والجديدة.

والواقع يقول ثانياً، إن الأغلبية الساحقة من ضحايا العنف من الراشدين داخل الأسرة هي نساء. ونسبة النساء اللواتي يلجأن إلى العنف ضد أزواجهن (أو رجال من الأسرة) لا تتجاوز 5%، وإن هؤلاء النساء لا يلجأن إليه إلا دفاعاً عن النفس.

وهو يقول ثالثاً إن العنف ضد النساء داخل أسرهن ــ إذا لم يُمنَع أو يُردَع بقوة القانون ــ قد يصل إلى حدّ القتل؛ فينتج من عدم ردع العنف بسلطة القانون احتمال تحوّل آباء (أو إخوة) الضحية إلى مجرمين قتلَة من جهة، واحتمال تحوّل أطفالهم إلى يتامى واحتمال تحوّل أسرهم إلى مجموعة من الناس موصومة بعار الجريمة، من جهة أخرى.

ويقول هذا الواقع رابعاً إنّ النساء يعنّفن لأنهن نساء؛ فهن يتعرّضن للعنف، لا لكونهن فاقدات للامتيازات الصحية أو الاجتماعية، ولا لكونهن طفلات أو ضعيفات أو عاجزات أو مسنّات أو معوّقات أو حتى من دون سند اجتماعي. قد تكون الواحدة منهنّ قويّة ومقتدرة وشابّة وذات مهنة… لكنها تعنّف على كلّ حال. فلا يشفع لها اقتدارها ولا قوتها ولا سلامة جسدها ولا شبابها ولا استقلالها المهني بالأمن والسلامة داخل أسرتها. فالنساء ــ بعكس سائر أفراد الأسرة ــ يعنّفن لأن المعتقدات والأعراف قد جعلت هذا العنف «طبيعياً»، فلا يُنظر إليه على أنه عنف.

ويقول خامساً إنّ المرأة المعنّفة من قبل زوجها (أو أي رجل من أسرتها) لا تجد في محيط الأهل والأقارب، غالباً، سنداً لردع العنف عنها، فلا يمكن الاعتماد على الدائرة العائلية لمنعه عنها. كما أن أكثر رجال الدين، وبعض القيادات المحلية والأمنية، وحين تلجأ المرأة المعنّفة إليهم طلباً لحمايتها من العنف، يطلبون إليها الصبر على العنف «حفاظاً على الأسرة» أو «طمعاً بالجنّة في الآخرة». ويسهمون، بذلك في تمادي العنف عليها.

ويقول واقعُنا سادساً، إن رجل الأمن والمحامي والطبيب والمرشدة الاجتماعية وزملاء المهنة والجيران والأصدقاء ورجل الدين …. وكلّ الشهود المحتملين على العنف الذي تتعرّض له امرأة داخل أسرتها غير مُلزَمين بالتبليغ عن العنف، وهم لا يملكون الأهلية ولا الحماية القانونيتَيْن للقيام بذلك. لذا هم أيضاً، ومن دون سلطة القانون، عاجزون عن الإسهام في منع العنف ضد المرأة.

ويقول الواقع سابعاً، إن المواطِنين والمواطِنات قد عبّروا في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من وسيلة، عن شجبهم لهذا العنف؛ وهم توجّهوا في تحركاتهم إلى مجلس النواب، دون غيره، للعمل من أجل التشريع لردع المعنّف ولعقابه ولحماية المرأة منه، ومن أجل أن تحمل الدولة، دون غيرها، المسؤولية القانونية والتنفيذية عن تلك الحماية.

استناداً إلى هذا الواقع الثرثار، فإننا نقول للمشرّع أولاً: لأنه مسؤولٌ أمامنا، نحن المواطِنات والمواطِنين في هذه الجمهورية، ولأنه مخوّلٌ منّا التشريع لضمان أمننا وسلامتنا، ولأنه مسؤول أمام المجتمع الدولي عن حماية حقوق النساء، بما في ذلك حقهنّ بالأمن والسلامة داخل أسرهنّ، فإنه يتعيّن عليه أن يترجم هذه المسؤوليات بإقراره قانون يضمن أمن النساء وسلامتهن في أسرهن؛ وذلك، وفق ما تقتضيه تعبيرات الواقع: كون العنف الممارس عليهن محمولة تبريراته على كونهن نساء.

ونقول له ثانياً إن تطبيق القانون المدني مسؤولية الدولة اللبنانية وأجهزتها القضائية والأمنية والاجتماعية، فلا يجوز له تخويل هذه المسؤولية لأي جهة أخرى.

ونقول له ثالثاً، لأن الواقع ينبغي أن يكون قاعدة أساسية للمشرّع عامّة، ولقانون يحمي المرأة من العنف في داخل أسرتها، ضمناً، فإن المشرّع مُلزمٌ بتفحّص الواقع، فلا يسعه الاتكاء على المعتقدات والأعراف والتصوّرات الشائعة حول أوضاع النساء عندنا.

ونقول له رابعاً إنّ الحقائق حول واقع تعنيف النساء في أسرهن مُثبتة ومتاحة للجميع في دراسات وأبحاث وتحقيقات صحافية وفي تسجيلات صوتية وبصرية، وفي كلامٍ شفوي يمكن المشرّع الاستماع إليه باستدعاء نساء معنّفات، أو بمقابلة من شاهد آثار تعنيفهم، أو شهد عليها من اختصاصيين صحيين ونفسانيين وتربويين وباحثين ومن حقوقيين ورجال أمن ومن أشخاص في منظمات حكومية وغير حكومية…. مستعدّين ومستعدات جميعهم، لتوفير معلوماتهم له.

ونقول له أخيراً: لا عذر لمشرّع يتوانى عن اشتمال ما ينضح به الواقع لدى قيامه بالتشريع لقانون شامل يحمي نساء يعنّفن داخل أسرهن لأنهنّ نساء. ولن يُعفى نائبٌ من مساءلة النساء له، إذا تخلّف عن تحمّل مسؤوليته تجاههن، «الآن الآن وليس غداً»، لأن «أمن النساء أهم من كرسيه» وفق الشعارات التي أطلقتها التظاهرة الأخيرة المطالِبة بإدراج مشروع قانون حماية المرأة من العنف الأسري على جدول أعمال جلسات مجلس النواب القادمة. ونذكّره بأنّ ضمان حصول مرشّح (ة) لمقعد في المجلس النيابي على صوت النساء في الانتخابات القادمة، هو رهن إعلانه (ا) الصريح عن انتصاره (ا) للنساء في نضالهن من أجل مناهضة العنف والتمييز ضدهن.

* كاتبة وناشطة نسويّة، لبنان

حفلات اغتصاب جماعي بالأصابع و”المطاوي” لردع متظاهرات مصر

القاهرة – ريّـان مـاجد

“كنّا مجموعة من 20 سيّدة في طريقنا الى ميدان التحرير للمشاركة في الذكرى الثانية للثورة يوم 25 كانون الثاني/يناير من هذا العام. كنت أمسك بيد راوية، سيدة في السابعة والستين من عمرها. وعندما اقتربنا من الميدان، أخذ يندس بيننا عدد كبير من الرجال محاولين فصلنا عن بعضنا. وكنا كلما سرنا أكثر، كان الخناق يضيق من حولنا. أخذوا مني راوية والرعب بادٍ على وجهها. أصبحت وحدي، محاطة بـ5 رجال، وحولهم نحو 10 آخرين، وأيادٍ تعبث فيّ. يحملون “مطاوي” وسكاكين ويتحرّشون بي، ويقولون في الوقت ذاته إنهم يريدون حمايتي؛ “ما تخافيش إحنا معاكي” يقول أحدهم، ويلمسني. بدأوا يتدافعون ليوجّهوني الى جهة معتمة أكثر. أَصبت بالذعر. المشهد ذاته يتكرّر من حولي، شمالاً ويميناً، مجموعات من الرجال، تلّفها مجموعات أخرى، ونساء في الوسط يصرخن. تحرّكت مع قوّة الدفع واستطعت التوّجه نحو مصدر نور. الضوء هو الذي أنقذني، انكَشَفت وجوههم. رأيت وجه زميل لي يحاول التوجّه نحوي، واستطاع أخيراً إخراجي من حلقة الجنون هذه. كل هذا حصل في دقائق، بينما هناك حالات بقيت فيها النساء ساعة وأكثر يتعرضن لهذه الاعتداءات ويتمّ تقطيع ثيابهنّ بالسكاكين. ما تعرّضت له لا يُذكر أمام ما حصل يومها مع كثيرات غيري”.

تغيّرت ملامح وجه الناشطة السياسية دالية الأسود وهي تروي تفاصيل ما حدث معها في ذاك اليوم “المشؤوم”، حيث رصدت “قوّة ضدّ التحرّش” حصول 19 حالة اعتداء جماعي، نقل على أثرها نحو 6 بنات الى المستشفى. واحدة منهنّ تمّ اغتصابها بالأيدي، وإثنتان تمّ إدخال آلات حادة في أعضائهما التناسلية، ما استدعى إجراء عمليّات لهنّ، واستئصال رحم إحداهنّ.

ابات وشباب يتطوّعون لمكافحة التحرّش في “الميدان”

“قوّة ضّد التحرّش” هي واحدة من المبادرات المدنية العديدة التي أُطلقت أخيراً في مصر لوضع حدّ للاعتداءات الجنسية الجماعية التي تحصل خلال الاعتصامات والتظاهرات، في ظلّ الفوضى وانفلات الأمن و”انعدام الاحساس بالأمان”، تحديداً في ميدان التحرير. تأسّست هذه القوّة في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، بعد العنف الجنسي الجماعي الرهيب الذي تعرّضت له ياسمين البرماوي ومتظاهرات أخريات شاركن في 23 من الشهر ذاته في “مليونية رفض الإعلان الدستوري” الذي أصدره الرئيس محمد مرسي قبل يوم واحد، “محصّناً فيه سلطاته وقراراته لتصبح غير قابلة للطعن، ومُقصياً مشاركة باقي الأطراف”، بحسب دالية الأسود.

“نعمل ضمن مجموعات صغيرة في “التحرير”. هناك مجموعة التدخل، مؤلفة من بنات وشباب يحاولون فك “الكوردون” الذي يلفّه المتحرشّون حول البنت، لإنقاذها وإخراجها بأسرع وقت. يكون في انتظارها أشخاص من مجموعة الأمان، حاملين ثياباً وإسعافات أوّلية. وفي المقابل، هناك مجموعة تتواصل مع الإعلام وتُنزل الفيديوات المصوّرة على يوتيوب، وأخرى تتابع وضع البنات اللواتي أنقذنّ”. يُخبر ليل زهرة، المتطوّع في هذه المبادرة تفاصيل مرافقة شابة الى المستشفى اعتُدي عليها. “يستمرّ القهر والتخويف حتى في المستشفيات الحكومية. البنت التي نقلناها كانت تنزف، لكن المسؤولين رفضوا التعامل مع جروحها طالبين منّا الانتظار حتى الساعة السادسة صباحاً، إلى حين وصول الطبيب الشرعي. أمضينا ثلاث ساعات نفتّش عن مستشفى آخر يوافق على استقبالها. نتعلّم ونحن نعمل. الآن، لدينا لائحة بأسماء المستشفيات والأطبّاء الذين يريدون التعاون”.

إختار “ميدو” العمل ضمن “قوّة ضدّ التحرّش” لأنها، وعلى خلاف باقي المبادرات كما يقول، قائمة على فكرة أن النساء يردن التصدي للعنف الموّجه ضدّهن والدفاع عن أنفسهنّ، والرجال يساندونهنّ ويساعدونهنّ لاسترجاع حقوقهنّ. “أفضلّ ألا تكون المعركة ذكورية بين من يتحرّش ببنت لأنها أضعف وبين من يتدخلّ لأنه يشعر أنه أقوى وعليه أن يحميها. هذا الأسلوب يعطي نتيجة على المدى القصير فقط. يجب الاعتراف بأن المرأة المصرية ليست طرفاً ضعيفاً. هي شاركت بكفاءة وشجاعة في الثورة، وكانت في الخطوط الأمامية، على الرغم من امتعاض بعض الثوّار أنفسهم من هذا الأمر. لذلك، ستبقى النساء في الشارع ويأخذن حقوقهن بأنفسهن ونحن الرجال الى جانبهنّ”.

جلسات النقاش ضمن “قوّة ضدّ التحرّش” يصفها ميدو أنها علاجية للشباب المشاركين فيها. “طُرحت مواضيع مهمّة، من بينها حالات التحرّش البشعة التي حصلت يوم تنحّي مبارك وتغاضى الثوار عنها حفاظاً على سمعة الميدان، وقضايا المرأة التي تمّ تهميشها وتجاهلتها الثورة بحجّة “مش وقتها””.

تُخبر إباء التميمي، المتطوّعة في “قوّة ضدّ التحرّش” والتي تعمل مع مجموعة “خريطة التحرّش”، عن ازدياد أعداد المنتسبين الى المبادرة بعد آخر اعتداء جماعي حصل في “التحرير” ومشاركة البنات الكثيفة في كل الاجتماعات ورغبتهنّ في النزول الى الشارع على الرغم من المخاطر التي قد يتعرّضن لها والعنف الموجّه ضدهنّ.

حركة منظمّة تتحوّل الى حالة “كرنفالية”

“موجة العنف هذه منظّمة”، يقول ليل. شهادات السيدات اللواتي تعرّضن لاعتداءات جنسية في ميدان التحرير (وكان أولّها في 8 مارس 2012، خلال مسيرة نُظّمت بمناسبة يوم المرأة العالمي، حيث تم الاعتداء الجماعي على العديد من المشاركات ومن بينهنّ صحافية أميركية) كلها متشابهة، فهنّ مررن بالتجربة ذاتها.

“بعدما كانت الداخلية في عهد مبارك تستعين بالبلطجية وتزوّدهم بالأسلحة البيضاء ليمنعوا الناس من النزول الى الميدان، أصبحت الداخلية ومعها الأخوان، يستعينون بالفئة ذاتها، لمنع النساء من المشاركة في التظاهرات وإرعابهنّ”، بحسب دالية.

“ليس هناك إرادة سياسية لحلّ مشكلة التحرّش بشكل عام في مصر، فالأمن استخدم التحرّش مع الصحافيات عام 2005، واعتمد أيام المجلس العسكري أسلوب كشوفات العذرية”، لإهانة المتظاهرات، تقول إباء التميمي.

ياسمين البرماوي، الملحّنة وعازفة العود، والتي تعرّضت خلال 70 دقيقة لعنف جنسي جماعي وضرب وسحل خلال مليونية رفض إعلان الدستور، تصف ما يجري بالهستيري. تقول إن سلاح التحرّش تطوّر في ظلّ حكم الأخوان المسلمين، ويُستعمل لمنع السيّدات من النزول الى “التحرير” والمشاركة السياسية. “في التحرير، معاهم سلاح، وآلات حادّة بدخّلوها في البنت. بقطّعوا هدومها وهمّ بقولوا: حرام عليكم دي أختي. 40 بنتاً روت الحكاية نفسها. المشكلة الاجتماعية مش بالعنف ده. وما يمارس في الميدان مختلف عن التحرّش الجماعي الذي يحصل خلال الأعياد. هو ليس شهوة، هو عنف ممنهج. لكن المتحرّشين العاديين، الموجودين في كل مكان في مصر، يساعدون الأفراد المنظّمين في مهمّتهم”.

بالنسبة لكل الناشطين والناشطات الذين تكلّمنا معهم، إن العنف الجنسي الجماعي هذا مبني على ظاهرة اجتماعية متفشّية، في القاهرة تحديداً، بشكل يومي، تحضن المتحرّش وتستوحي منه.

إذ يكفي إطلاق مجموعة من “البلطجية المنظّمين” حتى تنتشر حالة التحرّش وتتحوّل الى كرنفال شبيه بما بدأ يحصل سنوياً منذ عام 2006 خلال الأعياد والموالد، يحتفل خلاله المئات بطقس الاعتداء، وفقاً للصحافي هاني درويش. “هناك حالة من الجنون الذكوري وعدوى التحرّش. يبقى الفاعل الحقيقي ضمن المئات هذه مجهولاً. مشاعية العمل هذه هي التي تحمي الفاعلين”.

“الشارع لينا”

يبدو أن محاولات الإقصاء والتخويف والعنف الموّجهة ضدّ المتظاهرات بهدف إذلالهنّ وقمعهنّ وإجبارهنّ التزام بيتوتهنّ، زادت من شجاعتهنّ ومن جرأتهنّ على المواجهة وعدم الرضوخ مجدّداً لأي استبداد، تقول دالية الأسود.

تتواصل ياسمين البرماوي مع مجموعة بنات تعرّضن للاعتداء وصمتن عن معاناتهنّ، وتنوي الالتحاق  بدورات تدريب لاكتساب خبرة في مجال حقوق المرأة، وهي ستقيم دعوى قضائية على وزير الداخلية ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، لأنهم مسؤولون سياسياً عن الذي يحصل.

كما ورفعت مجموعة من الناشطات والناشطين دعوى ضدّ “الشيخ” أبو إسلام، بسبب تصريحاته المسيئة والمهينة لنساء مصر، والتي يصف فيها المتظاهرات بأنهنّ صليبيات وأرامل وبأنهنّ ينزلن الى الشارع ليتمّ التحرّش بهنّ. “يتمّ التحضير أيضاً لنشاط خارج ميدان التحرير وبوجه السياسيين وبعض أعضاء مجلس الشورى الذين حمّلوا السيدات مسؤولية ما يتعرّضن له”، كما يقول ليل زهرة.

شاركت ياسمين برماوي ودالية الأسود وإباء التميمي وليل زهرة وميدو ومئات غيرهم في مسيرة “الشارع لينا” يوم 6 فبراير 2013، من ميدان السيدة زينب الى ميدان التحرير، معلنين رفضهم العنف الممارس على نساء مصر ونفاد صبرهم وإصرارهم على المتابعة.

“في 8 آذار/مارس من هذا العام، سنحيي يوم المرأة العالمي في مصر تحت عنوان، لا مساومة على حقوق النساء. ستنطلق مسيرة من “طلعت حرب” في وسط القاهرة الى نقابة الصحافة. سنعرض أيضاً أفلاماً بعنوان “الأخوان الكاذبون”، كما كنّا نفعل عن “العسكر الكاذبون””، تُخبر دالية، “سنستفيد من هذه الصحوة غير العادية حول قضايا المرأة”.

“يا ريت اتكلّمنا قبل كده، ليه كنّا خايفين كل الوقت ده؟”، تختم ياسمين البرماوي حديثها إلينا.

موقع لبنان الآن

كليشيهات “ثورية” عن المرأة

عامر أبو حامد

“المرأة – الثورة” و”الثورة – الأنثى”، مقولتان سادتا على مواقع التواصل الاجتماعي في عيد المرأة العالمي. تبدوان سطحيتين مشابهتين جداً لمقولات بعثيّة طالما تكررت في أدبيات النظام السوري. وهي أدبيّات تدور في فلك الاتحاد النسائي العام وسيّداته، اللواتي يشكّلن وحدهنَّ نصف المجتمع!

هذه اللغة تجاه المرأة التي يتبناه ناشطو الثورة وناشطاتها، هي مواربة أُخرى كمواربة مشاركة الأقليّات في الحراك الميداني. وتذهب أيضاً إلى مكان شبيه بشعارات الوحدة الوطنيّة على المحطّات السورية. محاولة لإخفاء عيب بشعارات واسعة ورنانة، واستمرار لكليشيهات سمعناها عن الإسلام الذي أنصف المرأة، والمسيحية التي أعلت من رمزها، والقائد الذي حررها، والثورةُ أخيراً التي ردّت لها اعتبارها.

هكذا يبدو أنّ السؤال عن حال المرأة في مجتمعاتنا سؤال عقيم، لأنه يستفسر عن مشكلة غير موجودة في الأصل.

 فالمرأة السورية شاركت بالثورة لكن ليس بوصفها نصف الجسد أو مكمله. بل شاركت شهيدةَ وأمُّاً ثكلى ولاجئة ومُغتصَبةً. صحيحٌ انَّ عدداً لا بأس به من الناشطات السوريات وصلنَ إلى مراكز وازنة في المعارضة السياسية والتشكيلات المدنية، وأن بعضهنَّ حصل على جوائز ومُباركات دوليّة. لكن عددهنَّ قد لا يتجاوز عدد الشهيدات في الشهر الثاني من عمر الثورة في مدينة بانياس الساحلية.

ولسنا هنا نُعلي من شأن امرأة ونقلل من شأن أخرى، إنما نحاول أن نُفكك قولاً عن تحرّر المرأة السوريّة في الثورة، قولاً يستندُ إلى ناشطاتٍ مُقيمات في الخارج يظهرن في وسائل الإعلام وتبرزُ صورهنَّ على الفايسبوك اختزالاً لصورة المرأة السورية. علماً أن لهن الدور الفاعل في تقديم وجه حضاري للثورة وفي المُساهمة مثل الرجل في صنع القرار وتفعيل الحراك. ولهن حيز معين في المُشاركات الميدانية المحدودة مع تمدد الوجه الإسلامي للثورة.

لكن هذا الدور لا يختزل المشهد، لأن المشاركة الحقيقية على أرض الواقع كانت في الموت والكارثة، وبحمل زائد على أكتاف الأمّهات اللواتي كُنَّ في الأصل يعانين من ظلم الرّجل والنظام. وللأسف ما زلن يعانين من هذا الظُلم، فيُغتصبن في السجون ويُقتلن على أيدي أخوتهنَّ وآبائهن. وهنا حتّى المُساواةُ في المأساة غير عادلة، إذ لا تخرجُ المرأة من المُعتقل كما يخرج الرجل.

 وفي تحقيقٍ للصحافي حازم الأمين من مدينة سراقب في ريف إدلب (ابتسام انشقت عن زوجها “الشبيح” وشقيقها “الثائر”) نُشر في الحياة بتاريخ 12/8/2012، يروي قصّة ابتسام التي هربت من زوجها الموالي في مدينة حلب إلى أهلها في سراقب. هربت السيدة لأن زوجها كان يضربها بسبب معارضتها للنظام. أُخوة ابتسام المقاتلون في الجيش الحرهددوا أختهم بالقتل إن لم تعود لبيت زوجها. فالثوارُ هنا، عند قضيّة أختهم التي ستجلبُ العار، هم على استعداد ليتحالفوا مع النظام! وبحرقةٍ تقول ابتسام في التحقيق: “أعطتني الثورة دفعاً لأفلت من ظلمه. ها هم السوريون كلهم يسعون الى التخلص من الظلم فلماذا لا أسعى أنا الى ذلك؟”

سؤال ابتسام يحيلنا إلى صلب ما نتحدثُ عنه. إذ أن المرأة العربية بشكل عام والسوريةَ بشكل خاص، يتحتّم عليها أن تقوم بعدّة ثوراتٍ حتّى تحصلَ على حريّتها ومساواتها مع بقيّة أبناء جنسها البشري. ثورةٌ على نظام سطَح قضيتها في شعارات الاتحاد النسائي ومن ثم نكّل بها. وثورةٌ على الرجل الشرقيّ الذي يقيد حريتها ويتحكّم بمصائرها. وأخيراً الثورةُ الأهم: الثورة المعرفيّة، التي علينا نحن من ندعي وقوفنا إلى جانب المرأة، أن ندعمها فيها، في حين نحن، ومن خلال شعارات ثورية (إعلامية) زائفة، نتجاهلها ونكرّس حالتها ونزيد من وضعها سوءاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى