صفحات العالم

مقالات تناولت ما يحدث في مصر

إنقاذ مصر مسؤولية… المتعاطفين مع «إخوانها» أيضا/ جورج سمعان

في غياب السياسة وسيادة قرار المواجهة في الشارع يخيم شبح الحرب الأهلية في سماء مصر. استقالة الدكتور محمد البرادعي وغسل إمام الأزهر الدكتور أحمد الطيب يديه مما يجري، كانا مؤشراً إلى استنفاد المحاولات الداخلية لتسوية الأزمة بين «الجماعة» وخصومها. كانا إشعاراً بإغلاق الباب أمام المصالحة أو إبرام صفقة. لم يبق سوى الخارج، مهما حاولت الحكومة الانتقالية إدانة التدخل من وراء الحدود. واشنطن وشريكاتها الغربية دانت قرار فض الاعتصامات. ومجلس الأمن بدأ تحركه وإن لم يخرج منه أي قرار. اكتفى حتى الآن بإيفاد الأمين العام للأمم المتحدة مساعده للشؤون السياسية جيفري فيلتمان إلى القاهرة. والاتحاد الأوروبي يتنادى لإعادة النظر في علاقاته مع مصر. هذا التدخل يعزز محاولات «الإخوان» تجييش المجتمع الدولي للوقوف إلى جانبهم، ويدفعهم إلى التشبث بمواقفهم. لكنه في الوقت عينه يكبدهم المزيد على المستوى الشعبي. وفي مواجهة هذا التعاطف الدولي مع «الجماعة» ثمة شبه إجماع عربي على تأييد الخطوات التي تتخذها حكومة حازم الببلاوي وإجراءات المؤسسات العسكرية والأمنية.

من المبكر التكهن بمآل الأوضاع. خيار «الجماعة» خوض المواجهة في الشارع لن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. لن يعيد الرئيس محمد مرسي إلى كرسيه. لن يعيدها إلى مواقع القرار ولن يعيد إليها أرجحيتها أو شعبيتها التي كانت لها عشية الانتخابات الرئاسية قبل سنة ونيف. في المقابل لن يكون بمقدور المؤسسات العسكرية والأمنية أن «تشطب» 10 أو 25 في المئة من مجموع المصريين. ولن يكون بمقدور الحكومة الحالية إلغاء وجودها بقرار حلها أو حل حزبها «التنمية والعدالة». حلها النقراشي باشا عام 1948 لكنها بقيت. ودفعتها «ثورة يوليو» عام 1952 إلى «الأنفاق» والسجون والمنافي. لكنها بقيت بعدما استولدت جماعات تكفيرية وجهادية لا تزال تقاتل في سيناء إلى اليوم. وإذا قدر لخصومها أن يعيدوها إلى العمل تحت الأرض فإنها ستستولد مزيداً من أمثال هذه الجماعات المتطرفة.

اختارت «الجماعة» المواجهة المباشرة والمفتوحة. هدفها إرهاق المؤسسات العسكرية والأمنية واستنزافها والحؤول دون تحقيق «خريطة المستقبل». فهي تدرك أن تمثيلها الذي جنت بعد رحيل نظام الرئيس حسني مبارك لن يتكرر. ولعلها تستذكر اليوم عنادها في صم آذانها عن مناشدات خصومها السياسيين ونصائح العسكر. وتستذكر خطأها الكبير عندما تعامت عن رؤية الملايين التي نادت بسقوط حكمها يوم الثلاثين من حزيران (يونيو) الماضي، ولم تعِ مضمون التفويض الشعبي الواسع للمؤسسة العسكرية. وهي ترى إلى غرق البلاد في الفوضى فرصة لدفع الناس إلى التململ من مفاعيل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتفاقمة، مستفيدة من التعاطف أو الدعم الأميركي والأوروبي والتركي والإيراني حتى النهاية.

تحار أكثرية المصريين حيال أسباب هذا التعاطف الدولي. تخشى أن تؤدي ردود الفعل الأميركية والأوروبية، وانتقاداتها للمؤسسة العسكرية إلى نقيض ما تتوخاه العواصم الغربية، وما تأمله هذه الأكثرية التي ملأت الميادين بالملايين في 25 يناير ثم في 30 يونيو. تخشى أن تدفع الجيش إلى إحكام قبضته على الحياة السياسية برمتها فتغيب كل الآمال التي علقت على الثورة. ويعاد إنتاج النظام العسكري السابق. فعندما قامت «ثورة 23 يوليو» عام 1952 التف الشعب المصري حولها ورحب بتسلم الجيش مقاليد الحكم. لكن الحصار والضغوط الخارجية التي تعرض لها حكم «الثورة» دفعها إلى تشديد قبضتها على الحياة السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية والاجتماعية… وغابت الحياة الديموقراطية في مصر طوال ستة عقود ونيف، وإن بقي لها فولكلور الانتخابات والاستفتاءات المعلبة سلفاً. والواقع أن فض الاعتصامين في رابعة العدوية والنهضة وما تلاه من مواجهات في الأيام الأخيرة أتاح عودة «مظفرة» للشرطة. عاد إليها دورها في مواجهة أي تحرك مدني في الساحات والميادين. بل إن أوامر حكومية صدرت لها باستخدام الرصاص الحي إذا ما تعرضت لمواجهة بالنار من جماعات «الإخوان» أثناء تأدية واجبها في فض التجمعات. ألم يكن بين أهداف شباب الميادين قبل سنتين ونصف السنة «تطهير الأجهزة» وعودتها إلى حضن السلطة السياسية ليظل دورها تحت الرقابة المدنية؟ ألم يكن على رأس دعواتهم خروج العسكر من الحياة السياسية إلى ساحات الثكن والحدود؟

إن اتساع دورة العنف في مصر سيطيل عمر المرحلة الانتقالية التي يعول عليها خصوم «الجماعة» أكثر مما يتمنون ويستعجلون، وإن كررت حكومة الببلاوي تمسكها بـ «خريطة المستقبل». وهذه وصفة ناجعة لبقاء الجيش في سدة القرار الأول والأخير في أي نظام حكم مقبل، لبقائه شريكاً أساسياً في الحكم، أياً كان شكل النظام المدني الذي ستخرج به المرحلة الانتقالية الحالية، إذا توصل المصريون إلى وقف دورة العنف. أو إذا نجحوا في تحقيق نوع من المصالحة التي تعيد إلى أهل الميادين بعض طموحاتهم التي نادوا وينادون بها منذ 25 يناير.

قرار وقف العنف يظل في أيدي «الجماعة» وجميع الذين يبدون اليوم تعاطفاً معها، من واشنطن إلى أنقرة. لا شك في أن موقف الإدارة الأميركية يقدمها على الصورة التي أراد نشرها الرئيس باراك أوباما منذ وصوله إلى البيت الأبيض، عندما عرض المصالحة مع المسلمين من القاهرة ومن أنقرة. لكنها تدرك جيداً أن موقفها الأخير لم يقنع المصريين، بل سيدفعهم إلى التراص خلف الجيش. لقد خرج الرئيس أوباما بعد اندلاع «ثورة 25 يناير» داعياً الرئيس مبارك إلى الرحيل بلا تأخير. وهو ما لم يفعله في 30 يونيو بعد خروج أضعاف أضعاف الذين خرجوا في يناير مطالبين الرئيس محمد مرسي بالرحيل. هؤلاء خرجوا بعدما ظلوا لأشهر يؤكدون رفضهم المطالبة برحيل الرئيس «الإخواني» المنتخب. كان مطلبهم وقف «أخونة» الدولة وتغيير هويتها. وكان مطلبهم تقريب موعد الانتخابات، أو إجراء استفتاء على حكم الرئيس، كما حاول وزير الدفاع إقناعه عبثاً. ولكن، بدا واضحاً أن مرسي لم يكن يملك حرية القرار. كان القرار في يد المرشد وإدارته التي كانت تستعجل تمكين قبضتها على كل شيء، من دون أن تلتفت إلى معاناة الناس الذين اختاروها بعد معاناة طويلة مع النظام السابق. ومن دون أن تلتفت إلى وجود شركاء في التحولات التي شهدتها البلاد. كأن «الثورة» التي التحق بها «الإخوان» قامت لتمهد لهم سبل الاستيلاء على السلطة إلى الأبد… حتى وإن أدى ذلك إلى حرب أهلية وتفكيك النسيج الاجتماعي لمصر، على غرار ما يتعرض له الأقباط ومؤسساتهم هذه الأيام.

لا مبالغة في أن مآل الأزمة في مصر سيترك آثاره البالغة على خريطة العلاقات المعقدة والمتصارعة في المنطقة كلها، وعلى شبكة المصالح المتداخلة إقليمياً ودولياً. سيساهم في تعميق التباعد بين سياسات يفترض أنها تلاقت طويلاً. المواقف الدولية من الأزمة السورية أحدثت تباعداً مع كثير من الدول العربية. ومثلها المواقف الحالية مما يجري في مصر تعمق هذا التباعد. دول عربية عدة على رأسها المملكة العربية السعودية جاهرت علناً بدعمها الحكم الانتقالي الحالي في مصر سياسياً ومادياً. ذلك أن تجربة «الإخوان» في السنة الوحيدة من حكم الرئيس مرسي لم تكن مطمئنة لهذه الدول. الغزل الذي دار بين الحكم الجديد في القاهرة وإيران فاقم مخاوف دول الخليج ودول عربية عدة من احتمال قيام تحالف بين الطرفين يدفع ثمنه هؤلاء الذين يخوضون صراعاً مفتوحاً مع الجمهورية الإسلامية للحد من تمدد نفوذها في الإقليم. وما عزز المخاوف أن تعود تركيا التي لا تزال ذكريات كثير من العرب عن دورها قبل مئة عام حية ومؤلمة، إلى قيادة هذا المشروع «الإخواني» في المنطقة كلها. في حين كان هؤلاء العرب يتوقعون أن تكون أنقرة عوناً لهم في مواجهة التمدد الإيراني. وفوق هذا وذاك ما كشفته دوائر أمنية خليجية، في دولة الإمارات وغيرها، عن خطط يعدها «التنظيم الدولي للجماعة» لتحريك الأوضاع في دول مجلس التعاون تمهيداً لـ «وضع اليد» على اقتصادات هذه الدول، على طريق قيام سلطة «الإخوان» في المشرق كله.

المطلوب أن تبادر تركيا إلى تصحيح الخلل الذي يكاد يقضي على آخر ملامح سياستها ومصالحها المتداعية في المنطقة، من العراق إلى سورية ولبنان… والخليج. عليها أن تمارس دالتها على «إخوانها» في مصر للعودة إلى المسار السياسي الذي وحده يحقق أهداف «ثورة 25 يناير» ويعطي لكل القوى أحجامها الطبيعية. وعلى واشنطن وشريكاتها، بعد هذا التعاطف مع «الجماعة»، استخدام هذا الرصيد بالسعي لإقناعها بوقف الانجرار إلى دورة العنف. لأن في ذلك السبيل الوحيد والناجع لاستعجال عودة العسكر إلى ثكنهم، ولإحياء المسار الديموقراطي… وللحفاظ على الأقباط ومؤسساتهم بدل الدعوات إلى حمايتهم وما تثيره في نفوس المصريين من مخاوف على الهوية والكيان! المطلوب من المتعاطفين مع «الجماعة» التحرك السريع لإنقاذهم من أنفسهم من أجل إنقاذ مصر أولاً كياناً وشعباً، واستعجال المصالحة ليس بين المصريين فحسب، بل بين… الشركاء الدوليين والإقليميين في المنطقة الذين يقع على عاتقهم الحؤول دون سقوط أكبر الدول العربية ومعها الإقليم كله في الفوضى القاتلة، لأنهم لن يكونوا بمنأى عن هذا السقوط وأكلافه وتداعياته.

الحياة

عزل مرسي.. جزء من سيرورة سقوط بشار الأسد وليس العكس/ ماجد عزام()

تعاطى أنصار الرئيس السوري بشار الأسد مع سقوط الرئيس المصري محمد مرسي بمزاج متشف وثأري وحاولوا الإيحاء بأن عزل مرسي يثبت نظريتهم عن بقاء الأسد وتجاوز القلق الاستراتيجي له ولنظامه، ويؤكد من جهة أخرى سقوط الإسلام السياسي ليس فقط في مصر، وإنما في عموم المنطقة، بما في ذلك سورية طبعاً، وعلى قاعدة أسلمة أو أخونة الثورة السورية ونزع الطابع المدني الديموقراطي عنها.

هذا التعاطي يعبر حقيقة عن الأمنيات أكثر مما يعبر عن الوقائع، عوضاً عن تجاوزه المتعمد والمنهجي لمغزى انتفاضة 30 حزيران/ يونيو بوصفها إحدى روافد ثورة 25 كانون الثاني/ يناير. كما لدلالات ميدان التحرير المتنقل من دولة عربية إلى أخرى الذي وضعه أنصار الأسد في سياق المؤامرة الخارجية المتنقلة، والهادفة إلى إضعاف وحتى تقسيم وتفتيت الدول العربية، وخاصة الممانعة منها خدمة للأهداف الأمريكية الصهيونية في المنطقة.

مثلت ثورة 25 كانون الثاني/ يناير – كما الثورات العربية الأخرى – رفضاً جماهيرياً مليونياً لفكرة التوريث السياسي، كما للنظام العربي في مرحلة ما بعد الاستقلال الأول، والتي امتدت لستين عاماً تقريباً، نظام القهر والاستبداد الاستئثار والفساد الذي أمّم كل شيء لصالح السلطة الحاكمة قبل أن يخصخص ما أمّمه لصالح العائلة الحاكمة، هذا النظام الذي تم تأسيسه في مصر مع انقلاب يوليو 1952 قبل أن يتم استنساخه في جمهوريات العالم العربي، ومنها بالطبع سورية وبناء على ذلك فإن سقوط النظام الأصل في القاهرة جعل من سقوط أنظمة التقليد في الجمهوريات العربية الأخرى مسألة وقت فقط، وهذا هو الاستنتاج الأهم برأيي الذي تم الهروب المنهجي منه عبر شيطنة الثورات وتلطيخها بالدم ووضعها في سياق المؤامرة الخارجية الهادفة التي تستهدف وحدة الدول العربية واستقرارها.

أسقطت ثورة كانون الثاني/ يناير فكرة التوريث السياسي، كما االنظام الملكي المقنع بقناع جمهوري، أما انتفاضة 30 حزيران/ يونيو المليونية، فلم تأت بغرض العودة إلى الماضي أو بهدف نسف مكاسب ثورة كانون الثاني/ يناير، وإنما للحفاظ عليها والتأكيد على فكرة الدولة المدنية الديموقراطية كبديل للنظام الأحادي الاستبدادي ورفض أي استبداد آخر فكري أو حزبي ما يعني أن لا مجال لبقاء نظام الأسد في العالم العربي الجديد، لأن التأسيس لنظام عربي مدني ديموقراطي عادل في القاهرة يعني حكماً يصبح استنساخه في العالم العربي مسألة وقت فقط تماماً، كما كان الأمر مع انقلاب 1952، وبالتالي فلا مجال للشك أن لا مكان لنظام الأسد في العالم العربي الجديد الذي ظهر أول ملامحه مع ثورة كانون الثاني/ يناير، ثم تبدى بشكل أكثر وضوحاً مع انتفاضة حزيران.

الاستنتاج الآخر من انتفاضة حزيران والذي يثبت أن احتفال جماعة الأسد ليس في محله، يتعلق بالمواقف العربية من عزل مرسي وتجاوز الموقف الأمريكي المتلعثم والمرتبك من التطورات المصرية، علماً أن الأمر نفسه يمكن قوله أيضاً عن المقاربة الأمريكية للثورة السورية.

وضعت إدارة أوباما ما يشبه المحددات تجاه التطورات في مصر وتحديداً منذ وصول الرئيس محمد مرسي للسلطة العام الماضي، وتضمنت تلك المحددات الحفاظ على الاستقرار العام في مصر، وعدم تحولها إلى دولة فاشلة وضمان استمرار معاهدة السلام مع إسرائيل والحفاظ على الاستقرار والهدوء على الحدود بين البلدين، وكل ذلك على قاعدة الانفتاح والتعاون مع الإخوان المسلمين في سياق مواجهة أوسع مع التنظيمات الإسلامية السلفية االجهادية، مثل تنظيم القاعدة والأطر الأخرى المتفرعة عنه أو المتساوقة معه فكرياً.

بناء على تلك المحددات تعاطت الإدارة الأمريكية مع التطورات العاصفة في القاهرة، وهي لم تر ضرراً في بقاء الرئيس مرسي ونظامه، طالما أنه لم يكسر الخطوط الحمر، وهددت باتخاذ إجراءات عقابية رداً على عزله بحجة الالتزام بالقوانين الأمريكية، التي تمنع تقديم أي نوع من المساعدات أو الحماية لمن ينقلب على نظام ديموقراطي منتخب، وعلى طريقتها حاولت الهروب من المأزق بتلافي أي تعريف محدد لعزل مرسي سواء أكان ذلك انقلاباً عسكرياً أو تدخلاً منطقياً من الجيش لدعم حركة شعبية واسعة، كما لمنع حرب أهلية بين أنصار الرئيس المعزول ومعارضيه، ما قد يحول مصر فعلاً إلى دولة فاشلة، وهو ما تخشاه واشنطن حفاظاً على مصالحها القومية التي تمثل الأساس لموقفها من التطورات والأحداث العاصفة في المنطقة.

هذا الموقف الأمريكي المتلعثم والمرتبك والإحجام، ولو المرحلي عن تقديم الحماية السياسية والاقتصادية للنظام المصري الجديد دفعت دولاً عربية عدة إلى أخذ زمام المبادرة وتقديم الحماية السياسية والاقتصادية اللازمة والضرورية للقاهرة، وتجاوز أو حتى عدم المبالاة بالموقف الأمريكي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار إلا المصالح الأمريكية وبغض النظر عن مصالح المنطقة وأهلها.

أمر مماثل يمكن توقّعه في السياق السوري، أيضاً لجهة تجاوز المحددات أو اللاءات الانعزالية الأمريكية التي طرحها الرئيس الأمريكي ببرود في مقابلته التلفزيونية الشهيرة مع قناة سي بي أس – الاثنين 15 حزيران/ يونيو – والتي لا تهتم بإحراق الأسد سورية أو حتى للمنطقة كلها، طالما أنه ذلك لا ينال من المصالح القومية الأمريكية أو يؤثر بشكل مباشر وسلبي على أمن إسرائيل واستقرارها، كما أن واشنطن ترفض ممارسة أي ضغوط فعلية، وحتى تقديم تنازلات جدية لموسكو لإقناعها بالضغط على حليفها السوري من أجل التنفيذ الأمين الدقيق والعادل لإعلان جنيف لجهة إجراء انتقال سلمي وجدي للسلطة، عبر تشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات ما يعني ليس فقط نهاية نظام الأسد وإنما نهاية المأساة التي تعيشها سورية منذ عامين ونصف تقريباً.

التجاوز العربي المبادر والجريء للموقف الأمريكى على قاعدة وقف المعادلة المجنونة القائلة الأسد أو نحرق سورية والمنطقة، وتقديم دعم عملي وملموس للمعارضة السورية عبر قيادتها المدنية الديموقراطية وجناحها العسكري لإجبار الرئيس السوري على الاقتناع بتسليم السلطة، وإن لا أمل له بالنجاة حتى عبر الكيان الطائفي والممر الآمن من دمشق إلى الساحل مروراً بحمص، علماً أنه خيار انتحاري له ولنظامه وغير قابل للحياة على المديين المتوسط والبعيد.

عزل مرسي عبّر إذن عن المعطيات الفكرية والسياسية السابقة مجتمعة ما يعنى أن سقوط الأسد هو حتمي وأكيد ومسألة وقت فقط، علماً أن هذا حدث نظرياً منذ يوم 15 آذار، عندما كسر الشعب السوري حاجز الخوف وحطم جدار الصمت، وربما منذ يوم 25 كانون الثاني/ يناير عندما أسقط الشعب المصري فكرة التوريث السياسي ولو بأثر رجعي ليس في مصر، وإنما في المنطقة العربية التي تأخذ تاريخياً صورتها وهو ما تبدى بصورة لا تقبل أي شك في العقود الستة الأخيرة.

() كاتب فلسطيني

المستقبل

الوصول إلى دمشق عبر بلغراد: ‘الطرف الثالث’ إذ يستولي على السلطة في “المحروقة”/ د. عبدالوهاب الأفندي

لم نكن في أسوأ كوابيسنا نتخيل أن تنجرف مصر إلى السيناريو السوري بهذه السرعة. فقد تحدثنا عن ‘السيناريو الجزائري’ وحتى ‘السيناريو الصومالي’، ولكن السيناريو السوري لم يكن من الاحتمالات المرجحة عندنا. لذا نتابع بفزع متزايد تقمص القاهرة هيئة دمشق بما يذكر بتحول العذراء إلى وحش كاسر في أفلام الرعب. فخلال أيام معدودة شهدنا كيف استخدمت القوة بوحشية ‘مدروسة’ ضد المتظاهرين السلميين، وبصورة متصاعدة بلغت ذروتها في فض اعتصام رابعة العدوية. قبل ذلك وبعده شهدنا استخدام نفس وسائل الإعدام المنهجي للمتظاهرين عبر القناصة ثم الاعتداء على الكوادر الطبية والصحافية بنفس الطريقة ‘الدمشقية’ الفاقدة لكل حس أخلاقي. هكذا كانت البداية في درعا: قتل المظاهرين عمداً لإرهاب كل من يتجرأ على المعارضة.

ولم يطل الوقت بمتحدث رسمي مصري ليسارع بترديد النغمة التي سمعناها من دمشق إلى حد الملل منذ انطلاق ثورة الأطفال في درعا: البلاد تتعرض إلى حرب من قوى متطرفة و ‘تحارب الإرهاب’. وكان من المتوقع أن تنتظر القاهرة بعض الوقت قبل أن تتحفنا بلازمة ‘المؤامرة الكونية’ التي ظلت غالب قوت الإعلام الأسدي منذ أن تفكك جيشه وانقلب بعضه عليه، مفضلاً قتال المجرمين على قتل الأبرياء. ولكنها لم تمهلنا حتى لثوان معدودات. فخلال نفس المؤتمر الذي صدح فيه مغنوها بموال مكافحة الإرهاب (بلسان إنكليزي مبين، ربما لفائدة المصريين الذين لا يفهمون اللغة العربية!)، عبر المتحدث عن ما وصفه بـ ‘مرارة الشعب المصري’ تجاه تغطية الإعلام الغربي لأحداث مصر، وضم صوته إلى أصوات كثيرة تراوح بين التوسل للغرب بأن ‘يفهمنا’، وبين كيل الشتائم للدول الغربية لأنها بنظرهم تنحاز إلى الإخوان!!

ذكرني هذا بمشهدين مختلفين، لهما نفس المنطلق والنتيجة: أولهما مؤتمر صحافي للرئيس المصري الراحل أنور السادات في سبتمبر عام 1981غداة أن قرر وضع مصر كلها في السجن بعد أن فشل في إقناعها بسياساته. فقد ووجه وقتها بأسئلة محرجة عن خطل هذه السياسات الرعناء التي تعبر عن الفشل وتكرسه. ولم يجد السادات إجابة على سؤال كهذا من مراسل صحيفة ‘لوموند’ الفرنسية إلا بأن يصرخ في وجه السائل: ‘متى تفهمون أنني أفعل كل هذا من أجلكم أنتم!’ (يعني الغرب والأوروبيين). في المشهد الثاني، عبرت عن نفس مشاعر الحب المجروح قيادات الصرب في البلقان، حيث كانوا يصرخون بأن حروبهم في البوسنة وكوسوفو هي دفاع عن الحضارة الأوروبية المسيحية ضد البربرية الإسلامية: فلماذا لا تفهموننا وتساعدوننا ضد العدو المشترك؟

ولم يتأخر بشار الأسد، الزعيم المحترم المحبوب لثلاثة وعشرين مليون سوري، عن التعبير عن ألمه وتوسلاته للحبيب الغربي المتمنع: أليس هو خط الدفاع الأول عن ‘العلمانية’ والحضارة ضد التطرف الإسلامي؟ وثنى خازن بيت مال الأسرة رامي مخلوف بتوسل أكثر صراحة: أليس نظام آل الأسد وزبانيتهم هو خط الدفاع الأول عن أمن إسرائيل، ولو سقط فلن يكون لها أمن؟

وإذ تتحول مصر بسرعة إلى صربيا جديدة (مع الفارق بأن قبطان صربيا إلى هلاكها وذلها السيد ميلوسوفيتش كان يتمتع بدعم شعبي لا يحلم به المتشبهون به في مصر ‘المحروقة’) قبل أن تلحق بسوريا، فإن أعراض ذاك المرض الفتاك بدأت تظهر عليها بوضوح. فكما حدث في صربيا، احتشدت جموع يوحد بينها سم الحقد القاتل ضد من يطالب بحقه في الحرية والأمن في وطنه، والتفت حول قيادات ديماغوجية تصور لها أحلام المجد والمستقبل الوردي في سفك الدماء وقمع الأبرياء. سكرت الجموع بهذه الأساطير، وتابعت الجيش الصربي المغوار في غزواته التي آلت إلى نهايتها المعروفة، جالبة الخزي والعار والهزائم.

المفارقة هي أن الصرب -وهم من أكثر من اكتوى من نيران الفاشية والنازية- كانوا يصورون غزاوتهم الصليبية ضد جيرانهم من المسلمين والكروات بأنها استعادة لنضالهم المرير ضد النازية. ولكن ممارسات الصرب كانت أقرب إلى ممارسات هتلر منها إلى القيم التي سادت أوروبا والعالم بعد هزيمة النازية، وجسدتها مواثيق الأمم المتحدة. فهذه القيم والتاريخ الذي ولدها تجعل المجتمعات الحديثة شديدة الحساسية تجاه مثل تلك الممارسات، وتولد ردة فعل تلقائية رافضة لها.

هذا ما لم يفهمه السادات، ولم يفهمه الصرب وقتها، ولم يفهمه حكام مصر الجدد وبطانتهم من المصفقين. فالقوم سادرون في غي وسكر من أوهام تصور لهم أن الفتك بالأبرياء بطولة، ومعاقبة من كسب الانتخابات على شعبيته تجسيداً للديمقراطية. وهم في غيهم هذا يصبون جام غضهم على وسائل الإعلام التي لا يسيطرون عليها هم ومناصروهم في إمارات الخليج، ويرون في كيل الاتهامات لها بديلاً عن النظر إلى المرآة حتى يروا وجوههم وهي تكتسي مسحة دراكولا مصاص الدماء. فالغرب الحبيب المتمنع لا يفهم أن إزاحة النظام الديمقراطي بالقوة ليس انقلاباً، ولا يتفهم ضرورة قتل المدنيين حتى يرتدع الإرهابيين (مع أن تعريف الإرهاب هو قتل الأبرياء لإرهاب بقية المجتمع).

لا يرى هؤلاء أن مصر السيسي وأنصاره الذين استخفهم فأطاعوه هي ظاهرة فاشية بامتياز، تفيض بحقد مخيف وفزع يائس. وكما حدث في صربيا ورواندا، ويحدث اليوم في سوريا، وقبل ذلك في ألمانيا النازية، فإن مثل هذا الحقد السام الفتاك هو جحيم لا يطفئه إلا شلال عظيم من الدماء، ونار تحرق أصحابها وتهري أكبادهم قبل أن تمس ضحاياهم، وتبقى تفري قلوبهم لحقب طوال بعد أن يذوق ضحاياهم طعم السلام الأبدي. ولا يجدي مع هذه العلة وعظ واعظ ولا تحذير نذير مشفق، حتى يبلغ الكتاب أجله ويقضي الله أمراً كان مفعولاً. ولا عبرة هنا بكثرة من يحمل هذا الحقد، فقد كان عباد كل من هتلر وفرعون هم الأغلبية، ولم يعصمهم ذلك من عذاب ربك.

ومن حكمة الله تعالى أن هذه الفئة الناس من الناس تعاقب نفسها بنفسها عبر هذا الحقد الذي يحرقها مثل نار تلظى، وعبر التخلص بصورة منهجية لا فكاك منها عن كل شبهة فضيلة. فعند البداية، تكون لهذه الفئة شعارات براقة تجذب البعض (مثل التحدث عن عظمة ألمانيا وحضارتها والتنادي إلى شروط نهضتها، أو التغني بتاريخ الصرب وتضحياتهم ومجدهم، أو التفاخر بأمجاد العروبة، أو التعبير عن أشواق ديمقراطية وقيم ‘ليبرالية’). ولكنها سرعان ما تتجرد من لوازم هذه الدعاوى إذ توغل في الإجرام. ثم يسوقها الإجرام إلى ما هو أبشع منه، حتى تفقد إنسانيتها فتكتمل مقومات هلاكها وتسقط كل الأقنعة. وحين يأتيها ذلك المصير، تكون كراهيتها انقلبت عليها فأصبح العالم كله يكرهها. فكما جاء في القرآن عن فرعون وجنوده: ‘فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين’.

وفي مصر ‘المحروقة’، بدأ الأمر بتحالف بعض من زعموا أنهم يحاربون استئساد الإخوان بالأمر في مصر (وهي تهم باطلة، لأن الإخوان كانوا ضيوفاً على الدولة وجيشها ومخابراتها وشرطتها وقضائها وإعلامها) مع فئات من البلطجية ومحترفي الإجرام ممن شهد الجميع بإثمهم وشرهم. فكان هؤلاء يقدمون مظاهرات خصوم مرسي من أدعياء الديمقراطية كما يقدم فرعون قومه يوم القيامة فيوردهم النار وبئس الورد المورود. ويرتكب هؤلاء من الجرائم ما يندى له الجبين من حرق وقتل وقنص، ليس فقط تحت سمع الشرطة وبصرها، بل تحت سمع وبصر العالم أجمع. والحمدلله على نعمة الكاميرات التي تذكرنا بأن هناك تكنولوجيا سماوية سابقة على كل هذا لا تترك كبيرة ولا صغيرة إلأ أحصتها في كتاب مرقوم. وقد دأب أولئك ‘الديمقراطيون’ على إطلاق تسمية ‘الطرف الثالث’ على هذه الفئة الإجرامية، وهو إسم الدلع لفئة مجهولة معلومة اختار البعض التغابي عنها وهم يعلمون.

في مصر اليوم، أصبح ذاك ‘الطرف الثالث’ هو الطرف الأول اليوم، حيث تسنم قمة السلطة. سفر ‘البلطجية’ عن وجوههم فإذا بهم رجال الأمن ومخبريهم وتوابعهم ممن يقبضون رزقهم من دافع الضرائب المصري الذي ذاق بأسهم إذلالاً وتقتيلاً وتدميراً للمؤسسات. هؤلاء القوم يصولون اليوم ويجولون في خيلاء فرعون وجنوده، وهناك من يحملهم على الأكتاف ويفخر بإنجازتهم كل ما أنهوا غزوة جديدة ضد مدنييين عزل كل ذنبهم أنهم أووا إلى مسجد أو تظاهروا في ميدان. ولم يعد هناك سر، ولم تخف بعد خافية. لقد أصبحت المحروسة/ المحروقة اليوم هي ‘جمهورية البلطجية’ كما أمست سوريا الجريحة قبلها ‘جمهورية الشبيحة’. الآن حصحص الحق، وغابت كل شبهة، وصدق وعد الجبار الحليم في إنفاذ إرادته في أن يميز الخبيث من الطيب ثم يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه في جهنم.

وكنت قد حذرت في مقالة الثلاثاء الماضي من رحب بانقلاب مصر من ‘المنزلق الخطير’ الذي سبقهم إليه انقلابيو السودان وأدى إلى كارثة دارفور وانقسام البلاد ومصائب أخرى لا تحصى. وقد طالبت عندها القوم بأن ‘يسارعوا بالخروج من قاع البئر، لا إلى الغوص أكثر في المستنقع.’ ولم يكد يجف حبر المقال حتى كان الجميع قد غاصوا حتى الركب في مستنقع الدم. وكما حدث في سوريا، فإن حكومة البلطجية تعتقد أن باستطاعتها إرهاب الخلق على طريقة زياد ابن ابيه حتى يقول قائلهم: ‘انج سعد فقد هلك سعيد!’ وقد نسي هؤلاء خطأ دكتاتور سوريا الذي قتل أكثر من مائة ألف نفس وشرد نصف سكان البلاد ودمر كل ما فيها، ولم يركع له إلا عبدة الأصنام إياهم ممن ارتضوا الذل واشتروه. أما أحرار سوريا فما زالوا يرددون: ‘الموت ولا المذلة.’ وليس أحرار مصر بأقل شجاعة من أحرار سوريا، ولا قتلة مصر بأجرأ على سفك الدماء من جلادي دمشق، وإن كان من العدل أن نعترف بأن هؤلاء قد سفكوا في يوم واحد ما يحتاج جزار سوريا إلى شهر كامل لإنجازه. فهنيئاً لهم هذا التفوق!

أما لسان حال القوم فيردد مقولة ماكبيث الشكسبيري: ‘هل تستطيع كل محيطات نبتون أن تغسل هذا الدم من يدي؟ كلا، بل إن يديّ هاتين ستلونان بحار العالم الزاخرة، محولة الأخضر منها إلى الاحمرار.’

وهذا أيضاً حال ألسنة الكذبة من سحرة فرعون الذين يبدأون بإنكار أن أي شخص قد قتل، ثم يثنون بان عدد القتلى قليل لا يكاد يذكر، قبل أن يؤكدوا بعد ذلك أن من قتل لم يكن بريئاً، بل كان مستحقاً للقتل، وهم على كل حال المتسببين في قتل أنفسهم. فهذه أيضاً ألسنة لا تغسل رجسها بحار الدنيا.

‘ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

القدس العربي

كل شيء أو لا شيء/ عبد الوهاب بدرخان

أصبح واضحاً الآن، في ضوء الحدث المصري خصوصاً، ماذا عني ويعني صعود ما يسمى «الإسلام السياسي». أما الأكثر وضوحاً فهو فضيحة «الاقتناع الأميركي – الغربي» بأن هذه الجماعات التي قفزت إلى الحكم مؤهلة فعلاً لبناء الدولة أو لإدارتها. لم تطرح العواصم الغربية على نفسها السؤال: نعم، وصلوا عبر صناديق الاقتراع، لكن ألم ننخدع بهم، ألم يكن لهم وجه قبل الانتخابات وظهر وجههم الآخر بعدها؟ ونعم، سعوا جاهدين للوفاء بتعهداتهم حيال مصالحنا، لكن ألم يفشلوا في ممارسة السلطة فاستثاروا فئات الشعب ضدهم بمن فيها كثيرون ممن صوتوا لهم؟ فكما أن جماعة «الإخوان» ليست مقبلة على مراجعة أخطائها التي صارت جرائم إرهابية، يبدو أيضاً أن الدوائر الدبلوماسية الغربية لا ترغب في مراجعة هفواتها التي صارت وقوداً لشحذ التعنت «الإخواني».

كان ولا يزال هناك تقصير غربي فادح في تشخيص المسار التصاعدي الذي بلغ ذروته في الثلاثين من يونيو الماضي، وتواصل التقصير في فهم الخطوات والإجراءات التي تلته وصولاًَ إلى انتهاء الاعتصامات بالقوة.

حتى الإعلام الغربي انقاد وراء حكوماته التي لم تشأ الاعتراف بأن الأزمة التي نشأت لم يعد ممكناً حلُّها بفتح كتب العلوم السياسية لتلاوة التعريفات الأكاديمية لمقومات الديموقراطية، أو لتوضيح عدم جواز تدخل الجيش. فلا «الإخوان» يقرُّون بما في هذه الكتب، ولا الجيش كان يرغب أساساً في التدخل كما يعرف كل من التقى قادته من مصريين وعرب وأجانب.

طبعاً، كان لابد من حل سياسي، وهذا ما جرّبته الأطراف المصرية منذ الإعلان الدستوري في (نوفمبر 2012)، فالاستفتاء على الدستور (ديسمبر 2012)، لكن «الجماعة» صفّدت كل الأبواب وأوصدتها وواصلت عملية «الأخونة». وعندما اقترب موعد 30 يونيو كان جلياً أنهم ليسوا بصدد العمل على حل سياسي، ومع ذلك لم ينشط أحد في الغرب لإنذارهم بأنهم ولغوا في الخطأ بحيث تصعب مساندتهم. وكما كانوا في الحكم، كذلك في الاعتصام، أرادوا كل شيء أو لا شيء، كل السلطة أو يحرقون البلد، على طريقة بشار الأسد، ملهمهم وحليف «صديقهم «الإيراني».

كل السلطة تعني لهم كل الدولة، كل الجيش، كل الشرطة، كل المؤسسات، وكل الفن والثقافة والسياحة … فالمشكلة عند المرشد ومكتبه أن ثمة دولة وجدت من قبل، بل إنها من أقدم الدول، وبالتالي فإن الهدف المنشود، أي «كل شيء»، يتطلب جيلاًَ أو أكثر لتحقيقه، ولا تكفي ولاية رئاسية واحدة، لكن اتضح الآن أن العجلة جعلت «الإخوان» يعتمدون على تنظيمهم السري وارتباطاته مع عصابات التطرف والإرهاب، إذ إنه يستطيع افتعال أحداث لهز المؤسسة العسكرية – الأمنية وهيبتها والتلاعب بقياداتها لتصبح «على السمع والطاعة» في خدمة «دولة الجماعة» وأنصارها.

ليس فقط أن الإعلام والحكومات في الغرب تجاهلت خطورة أهداف هذه الجماعة، بل تعامت أيضاً عن اتجاهين بالغي الخطورة. أولهما السعي إلى تفكيك الدولة، والآخر إعادة إنعاش مجموعات الإرهاب التي وجدت نفسها في وضع يمنحها نوعاً من الشرعية ما كانت لتحصل عليه في أي دولة على الإطلاق. فهل أن مثل هذين الاتجاهين يحققان للغرب مصالح في مصر، أي هل يريد لها أن تغرق في الإرهاب، وألا تكون هناك دولة متماسكة؟ تساؤلات مشروعة تفرضها ضرورة فهم حقيقة السياسات التي اتبعها الغرب في مقاربته للأزمة المصرية.

التطورات أكدت أنه لم تكن هناك تجربة أو عملية ديموقراطية صحيحة يتفاعل «الإخوان» معها، وإنما كانت هناك محاولة للاستحواذ على الدولة واستخدام الإرهاب لتطويع الشعب.

في أي حال، لم يخرج «الإخوان» من الاعتصامين كما دخلوهما. كانت لديهم مظلومية «إطاحة الشرعية»، وأصبحت أيديهم ملطخة بالدم. انتهكوا حرمات المساجد، واعتدوا على المؤسسات، وأحرقوا الكنائس، ويريدون مواصلة التوتير لإدامة عدم الاستقرار وشل الدولة. دخلوا الاعتصامين ومعهم شيء من التعاطف، وخرجوا مدانين ملعونين لا يمكن أن يكون لهم أي وجود في أي مصالحة إلا بعد محاسبتهم، ولا أي وجود في المشهد إلا بعد أن يقرروا ما إذا كانوا حزباً سياسياً يعمل بالمعايير القانونية، أو أنهم جماعة دعوية لا علاقة لها بالعمل السياسي. سيكون أمامهم طريق طويل قبل أن يعيدوا تأهيل أنفسهم ليستعيدوا شيئاً من القبول من جانب المجتمع المصري.

الاتحاد

هل يستفيد الأسد من أحداث مصر؟/ الياس حرفوش

تستدعي تطورات الازمة المصرية اسئلة كثيرة تتعلق بارتداداتها المحتملة على حركة التغيير التي شملت عدداً من الدول العربية، وكان يؤمل ان تؤدي الى ثبات عملية التحول الديموقراطي في هذه البلدان. غير ان السؤال الاكثر إلحاحاً اليوم يتصل بتأثير هذه التطورات في مسار الثورة السورية.

ومثلما ينظر كل من الاطراف الداخلية في مصر الى تطوراتها الاخيرة من زاوية مصلحته، اذ يعتبر الفريق الموالي للجيش أن حركته جاءت تصحيحاً كان لا بد منه للاهداف من وراء عملية التغيير الذي حصل في 25 كانون الثاني (يناير) 2011، واستعادة لتلك «الثورة» من يد المتطرفين و «الارهابيين» (كما يصفهم النظام الحالي) الذين ارادوا سرقتها، بينما ينظر فريق «الاخوان المسلمين» وأنصارهم الى التطورات الاخيرة على انها تراجع عن اهداف تلك الثورة، كذلك تختلف اطراف المشهد السوري في قراءتها لما حدث في مصر وانعكاساته عليها.

كان النظام السوري في طليعة المسارعين الى اعتبار انهيار حكم «الاخوان المسلمين» في مصر تأكيداً لشرعية المواجهة التي يخوضها مع من يسميهم «الارهابيين» في بلده. لم يتأخر الرئيس بشار الاسد في التعليق على احداث مصر الاخيرة ليؤكد نهاية الاسلام السياسي في المنطقة، مستفيداً من الحملة القائمة على فشل الرئيس المعزول محمد مرسي بعد سنة في الحكم. فالرئيس السوري يعتقد ان عقارب الساعة عادت الى الوراء، الى ما قبل آذار (مارس) 2011، وأكدت بالتالي صدق تحليله لأسباب انفجار الازمة في بلده على انها مواجهة بين النظام و «المجموعات الارهابية». فهو يجد في بعض اللغة التي يستخدمها قادة الجيش المصري، ما يعزز صدق تحليله هذا. ويزيد من اعتقاد الاسد بصحة موقفه، المواجهة القائمة بين الجيش المصري والحكومات الغربية على خلفية موقف هذه الحكومات من التطورات الاخيرة. فالاسد يرى نفسه، هو ايضاً، في موقع المدافع عن سيادة بلده وعن حرية قرارها، اسوة بالشعارات المرفوعة في مصر هذه الايام، والتي تطالب الحكومات الغربية بعدم التدخل في الشأن المصري.

غير ان الرئيس السوري، في سعيه الى توظيف الحدث المصري لمصلحة بقاء نظامه، يتجاهل التناقض الواضح بين اهداف العملية التي قام بها الجيش المصري، والتي قال انها كانت استجابة للتظاهرات الحاشدة التي خرجت تطالب بإنهاء حكم «الاخوان»، وبين ما قام به الجيش السوري منذ بداية الثورة ولا يزال، من اعمال قمع للتظاهرات الحاشدة التي خرجت في المدن السورية تطالب بإسقاط النظام. بكلام آخر، كان رد الفعل الشعبي على نطاق واسع في مصر هو الترحيب ودعم عملية التغيير التي قام بها الجيش، فيما ادت اعمال العنف التي يرتكبها الجيش السوري ضد شعبه الى نقمة واسعة على هذا الجيش والى انشقاق عدد واسع من كبار ضباطه عنه. هكذا وبقدر ما سعى الجيش المصري الى اعطاء نفسه صورة «الجيش الشعبي»، زادت اعمال القمع والمجازر التي ارتكبها الجيش وقوات الامن السورية من فقاعة الصورة التي تكونت عنها كقوات تعمل في خدمة الحزب الحاكم والطائفة المهيمنة ضد مصالح البلد وأهله.

لا يلغي ذلك حقيقة ان النظام السوري يجد نفسه مستفيداً من الضربة التي تلقاها «الإخوان المسلمون» في مصر. فقد شكلت الصورة السائدة في المنطقة عن فشل هذه التجربة هزيمة لا شك فيها لـ «الاخوان» في سورية. ومع ان «الاخوان» السوريين لم يعلقوا على تطورات الاحداث في مصر، فإن المخاوف من مشروعهم في سورية لا تقتصر على النظام الذي عاداهم وحاربهم لعقود كما فعل النظام المصري، بل إن أطرافاً واسعة في المعارضة السورية، تمتد من الذين يصفون انفسهم بالعلمانيين الى الحركات الاسلامية المتطرفة، تعادي «الاخوان»، كل لحساباته ومصالحه. فضلاً عن ان هناك شكوكاً في اتساع حجم القاعدة الشعبية لـ «الاخوان» في سورية، بالمقارنة مع الحجم الذي لا يستهان به لـ «اخوان» مصر، والذي سيكون صعباً تجاهله في اي معادلة مقبلة سيرسو عليها الوضع المصري.

قد تكون للنظام السوري حساباته وقراءته الخاصة للحدث المصري، غير ان توظيف هذا الحدث لمصلحة هذا النظام يبقى بعيداً عن الواقع، في ظل اتساع حجم المعارضة في وجهه وازدياد الضغوط الدولية التي تحاصره وتطالب برحيله. يضاف الى ذلك ان التغييرات الاخيرة التي تمت داخل «الائتلاف» السوري كفيلة بتوحيد صفوف المعارضة وبرنامج عملها، بما يقطع الطريق على سيطرة فئة واحدة عليها، وهو ما يعتبر استدراكاً للهيمنة التي انتهى اليها حكم «الاخوان» في مصر على شؤون البلد ومقدراته.

الحياة

هل يستفيد الأسد مما يحدث في مصر؟/ طارق الحميد

هناك حالة فرز شديدة في المواقف؛ عربيا وإقليميا ودوليا، حيال ما يحدث بمصر، وهو فرز ينطوي على تناقضات من شأنها إحداث انقلابات حادة في المواقف، فهل يستفيد بشار الأسد من ذلك؛ خصوصا أن هناك محاولات لتصوير ما يحدث بمصر على أنه مشابه لما يحدث في سوريا؟

هذا ما تفعله قطر وتركيا الآن، إضافة لبعض المواقف الغربية المدفوعة إما بجهل أو تخبط، أو لأسباب أخرى منها الاستثمار الطويل في العلاقات مع «الإخوان»، التي تعمقت في فترة أوباما بجهود تركية. ومما عزز التقارب الأميركي – الإخواني أيضا جهل بعض دوائر واشنطن بحقيقة «الإخوان»، حيث من السهل خداع الأميركيين بشعارات براقة مثل الديمقراطية والحريات وغيرها دون ضمانات جادة للتنفيذ، كما فعل «الإخوان» مع واشنطن، أو كما يفعل نوري المالكي الآن! والأهم في العلاقات الأميركية – الإخوانية بالطبع هو ضمان أمن إسرائيل بصبغة إسلامية، وهو ما أجاده «الإخوان» طوال عام من حكمهم لمصر. والحق أن «الإخوان» نجحوا مطولا في خداع واشنطن؛ حين قدموا أنفسهم كـ«معتدلين» بعد أحداث سبتمبر (أيلول) الإرهابية بنيويورك، رغم أن جل قيادات «القاعدة» كانت إما من المنتمين لـ«الإخوان» سابقا، أو قريبة منهم، وها هي طالبان اليوم تدين إسقاط «الإخوان»! وبالطبع نجح الخداع الإخواني بذريعة «النموذج التركي» الذي لم يخدع الغرب فحسب؛ بل وكثرا بمنطقتنا ممن تناسوا أن «انفتاح» أردوغان لم يتبلور في الأروقة السياسية، بل في السجن بسبب «عصا» الجيش التركي!

حسنا، تذكر الآن كل الجهود التي يبذلها الأسد لتصوير ما يحدث بسوريا على أنه إرهاب، وأنه، أي الأسد، آخر معاقل العلمانية بالمنطقة، لتجد أن الصورة باتت أشد تعقيدا! كيف نفسر معاداة تركيا وقطر للأسد ومعاداتهما في الوقت نفسه لمصر الآن؟ كيف تشرح للغرب وسط هذا التضليل والصراخ، كالذي يفعله بعض الساسة في تركيا، أن ما يحدث بمصر هو محاولة للحفاظ على الدولة من الإرهاب الإخواني؟ وكيف تشرح هبة الغرب لنجدة «الإخوان» ضد رغبة ملايين المصريين بينما يتخلى الغرب عن السوريين الرافضين للأسد الذي قتل ما يفوق المائة ألف سوري؟ بل كيف يطالب الغرب المعارضة السورية بنبذ الإرهابيين، بينما يدافع الغرب عن إرهاب «الإخوان» بمصر، متجاهلا، مثلا، صوت مؤسسة بحجم الأزهر؟

إنها صورة قاتمة شديدة التعقيد، ويزيدها سوءا التشنج والتضليل الذي يقوم به «إخوان الخليج»، حيث يضفي ذلك بعدا سيئا على الثورة السورية، ويكفي ملاحظة أن أحدا لم يكترث بتصريحات حسن نصر الله الطائفية حيال قتال حزبه بسوريا، بما في ذلك الغرب الذي يدعي الخوف على مصر الآن! ومن هنا، فإن المؤكد هو أن ما يحدث بمصر لن يكون طوق نجاة للأسد، لكنه مضر بالثورة السورية دون شك، وهذه معادلة معقدة، ولكي ندرك أبعادها فعلينا أن نتساءل، مثلا: كيف سيكون بمقدور تركيا التعامل الآن مع حلفائها العرب ضد الأسد بعد كل تصريحات أردوغان الأخيرة حيال مصر؟

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى