إيلي عبدوبرهان غليونحازم نهارخلف علي الخلفرزان زيتونةصبحي حديديصبر درويشصفحات مميزةعمر قدورغازي دحمانغسان المفلحياسين الحاج صالح

مقالات تناولت مجزرة النظام المروعة في غوطة دمشق

مجزرة كيماوية برقابة دولية/ صبر درويش

لم يكن صباح الغوطة عادياً. نسائمه عبقت برائحة الموت المنبعثة من جريمة إبادة جماعية ارتكبها نظام بشار الأسد بدم بارد. حديث استخدام الأسلحة الكيميائية لارتكاب المجرزة طاغٍ على ما دونه، لكنه حديث لا قيمة له أمام مشاهد جثث أطفال بعمر الورود ممددة في الخلاء. جثث لا تحمل آثار دماء الشظايا الصاروخية، متسللة إلى الأجساد النضرة، التي لم تستطع مكافحة الغازات السامة. غازات يصر النظام على نفي استخدامها، لكنه بالتأكيد لا يستطيع إنكار المجزرة….

 قد لا تكون هذه المرة الأولى التي يقصف بها النظام السوري، شعبه بالغازات السامة، ولكنها المرة الأكثر هولاً، بعد تعرض بلدات الغوطة الشرقية لقصف هو الأعنف من نوعه، أسفر وفقاً لتقديرات أولية عن سقوط أكثر من 800  قتيل، تحت مرأى المراقبين الدوليين الذين يتواجدون في سوريا منذ أيام للتحقيق في استخدام “الكيماوي” في خان العسل.

 وفي ما بدا أنه تمهيد لاطلاقه حملة عسكرية واسعة لمحاولة استعادة السيطرة الكاملة على الغوطة الشرقية وريف دمشق، بدأت قوات النظام فجر الأربعاء قصفاً مكثفاً استهدف بداية بلدات حزة وعربين وعين ترما وزملكا. ومع تصاعد القصف، شوهدت صواريخ غريبة من نوعها في السماء. فحسب شهود عيان كانت الصواريخ تبدو كالمظلة في السماء، حيث تنفجر وتتوزع في الجو قبل سقوطها، بعدها بدأ القصف المكثف الذي طال، إضافة إلى البلدات السابقة، مدن دوما وحرستا وكفر بطنا وأطراف حي جوبر الدمشقي.

 ومع ساعات الصباح الأولى، بدأ هول المجزرة يتكشف، اذ بدأت النقاط الطبية بالاكتظاظ بالقتلى والمصابين، والذين كان أكثرهم من الأطفال والنساء. وفيما بث ناشطون في الثورة السورية صوراً ومقاطع مصورة تظهر قتلى وجرحى بالمئات جراء تعرضهم لغازات سامة، تضاربت الأرقام حول حصيلة القتلى والمصابين.

 لجان التنسيق المحلية تحدثت عن 775 حالة وفاة مؤكدة، مشيرة إلى أن الرقم في ازدياد، في حين أعلن ناطق باسم الجيش الحر أن أعداد القتلى بلغت 1188، موزعين على النقاط الطبية في بلدات الغوطة الشرقية على الشكل التالي: سقبا: 100 شهيد. كفربطنا: 100 شهيد. دوما: 150 شهيداً حمورية: 300 شهيد. جسرين: 16 شهيداً، بينهم 3 أطفال، زملكا: 400 شهيد، بينما احصائية نقطة بلدة المرج لم تصل بعد.

 أما في عربين، فيقول ابو اليسر وهو أحد الاعلاميين في المدينة لـ “المدن”: “وصل عدد الشهداء  في عربين في الساعات الأولى من القصف إلى 40 شهيداً، من بينهم كان 23 طفلاً و17 امرأة، والعدد حتماً سيزداد في الساعات القليلة المقبلة”. من جهته، أحصى المكتب الحقوقي الموحد في الغوطة الشرقية  1228 قتيلاً.

 وأكد الإعلامي، همام الحصري، لـ”المدن”، أنه شاهد ما يقارب خمسين طفلاً قضوا نتيجة الإصابة بالكيميائي في منطقة زملكا، وأن إحدى النقاط الطبية في منطقة دوما، حيث يتواجد، فيها ما لا يقل عن 650 إصابة بينهم 61 قتيلاً، وأضاف الحصري أنه شاهد عائلات بأكملها قد أبيدت، وأن الأهالي يبحثون بين الجثث عن أطفالهم.

 المصابون، الذين تفاوتت التقديرات حول عددهم بين الألفين و5 ألاف، ظهرت على أغلبهم الأعراض نفسها، وهي شعور بالإعياء والإغماء وحالات من الاختناق وغشاوة بالبصر إضافة لسيلان شديد باللعاب وتشنج بالعضلات، إضافة إلى حالة من الهلوسة وهي أبرز الأعراض التي ظهرت على المصابين في الغوطة الشرقية. ووفقاً لما أكده الأطباء في المشافي الميدانية، فإن الغاز المستخدم هو غاز السارين.

 من جهته، قال أحد الأطباء العاملين في إحدى النقاط الطبية في الغوطة الشرقية، ويدعى أبو اليزن، لـ “المدن”، إن المجزرة ارتكبت في الساعة الثانية والنصف ليلاً بينما “الناس نائمة والشبابيك مفتوحة”. وأشار إلى أن أصوات القصف لا يهتم لها أحد بسبب الاعتياد، لكن صوت انفجار الكيماوي خفيف، ما ساعد في انتشار الغاز ودخوله إلى البيوت”. وأضاف “أصبحت فرق الإسعاف تفتح البيوت في المنطقة وتجد الكثير من المصابين، أول ساعة كانت تأتي إصابات خطيرة بحاجة لتدبير سريع، وبعد ذلك أصبح من يأتي إما إصابته خفيفة لم تؤد لوفاته أو أنه شهيد”. وأكد أبو اليزن “أن عدد المسعفين الذي تعرضوا للإصابة كبير، وقد تم نقلهم الى إحدى النقاط الطبية للعلاج”، وأشار الى أن عدد القتلى مرشح للارتفاع بسبب كثرة المصابين وكثرة الحالات الحرجة بينهم.

 الناشطون حددوا مكان إطلاق الصواريخ، من نقطتين يسيطر عليهما النظام، وتقعان في الشمال الغربي للعاصمة دمشق. فقد انطلقت الصواريخ حسب شهود عيان من جبل قاسيون، ومن جانب البانوراما على الطريق الدولي لحرستا. وتركز القصف من هذه النقاط على عمق بلدات الغوطة الشرقية، اما الجهة الجنوبية للغوطة فقامت قوات الأسد بقصفها بشكل عنيف ومكثف بكل أنواع الأسلحة الثقيلة. بدأ الهجوم في الساعة السابعة صباحاً على أطراف بلدة المليحة وعلى بلدة عين ترما، وشنت طائرات السوخوي أربع غارات في وقت لا يتجاوز النصف ساعة، بينما راجمات الصواريخ لم تهدأ على الاطلاق، يرافقها قصف بالمدفعية والهاون.

 صحيح أن القصف  لم يتوقف على بلدات الغوطة الشرقية وريف دمشق عموماً خلال الأشهر الماضية، بيد أن القصف الذي شهدته المنطقة في الساعات الماضية هو الأعنف من نوعه، في رسالة واضحة من النظام أنه اتخذ قراراً باستعادة سيطرته على محيط دمشق الذي تقع فيه الغوطة الشرقية. وهو قرار مدفوع بأهمية المنطقة الاستراتجية نظراً لمتاخمتها للعاصمة دمشق من جهة والتقدم الذي راح يحرزه الثوار باتجاه العاصمة دمشق من جهة اخرى. كما تعتبر غوطة دمشق واحدة من أهم مناطق تجمع القوى الثورية في ريف دمشق، حيث هنا تتواجد أقوى التشكيلات العسكرية والالوية المقاتلة.

 في هذا الوقت، تعد بلدات حمورية وحزة وعربين ودوما، من أكثر مناطق الغوطة اكتظاظاً بالمدنيين نظراً لتواجد عائلات المقاتلين فيها، وبالتالي فإن النظام كان يعلم مسبقاً أن قصف هذه المناطق سيؤدي إلى سقوط مئات المدنيين.

 اللافت أن قرار النظام بارتكاب هذه المجرزة جاء بالتزامن مع تواجد اللجنة المكلفة بالتحقيق بمسألة استخدام الكيميائي، في دمشق، الأمر الذي عزز من حالة غضب المدنيين الذين أصيبوا بحالة هلع خوفاً من اقدام النظام على تكرار القصف. ابو محمد، أحد المدنيين في كفر بطنا، قال لـ “المدن”، “سنسمع بعد قليل أن العالم اجتمع وأنه ندد، وأنه قلق.. ونحن نعلم أنه لا أحد سيتحرك لنجدتنا”.

 وبالفعل، بينما تعيش سوريا في هذه الأثناء نكبة حقيقية محاولة لملمة جثث الضحايا ومعالجة المصابين بما تيسر من امكانات طبية محدودة يفاقهمها الحصار الذي يفرضه النظام على منطقة الغوطة، توالت ردود الفعل المنددة بالمجزرة. الائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية أصدر، بياناً على صفحته على “فايسبوك”، اعتبر فيه أنه “تم تجاوز جميع الخطوط الحمراء في ظل تجاهل كامل من قبل الولايات المتحدة ومن قبل الدول التي تدعي صداقة الشعب السوري، فمن حق الشعب السوري ان يعتبر ان لا اصدقاء لديه بعد اليوم في حال تم تجاوز هذه المجزرة بصمت دولي”.

 ودعا رئيس الائتلاف الوطني، أحمد الجربا “مجلس الأمن للانعقاد بشكل فوري لتحمل مسؤولياته تجاه الجريمة التي ارتكبها الأسد ضد الانسانية باستخدامه السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية”. كما طالب “فريق الأمم المتحدة المتواجد في دمشق بهدف التفتيش عن الأسلحة الكيماوية، بالتوجه إلى مكان المجزرة والوقوف عليها”.

 وأكد الجربا أن النظام السوري “هو المسؤول عن المجزرة المروعة في الغوطة الشرقية، وأن ما اقترفه هو ترجمة لما ورد في خطاب الأسد الأخير حول تعهده بالقيام بكل الأساليب للقضاء على ما سماه “التكفيريين”، موضحاً أنه لا يستهدف سوى المدنيين والأطفال والنساء. وأضاف الجربا أنه تواصل مع وزراء الخارجية العرب والغرب لتقوم اللجنة الأممية بالوقوف على ما حدث، مشيراً إلى أن إجرام الأسد الذي لا يعرف سوى لغة القوة، لا يشجع على أي مبادرة باتجاه جنيف 22 “.

وفيما طالبت جامعة الدول العربية، فريق المفتشين التابع للأمم المتحدة في سوريا بالتوجه “فوراً” الى منطقة الغوطة والتحقيق في ملابسات “الجريمة التي تشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي الإنساني ويتوجب تقديم مرتكبيها الى العدالة الجنائية الدولية.”، اكتفى رئيس فريق الأسلحة الكيماوية التابع للأمم المتحدة، أكي سيلستروم، بالقول إنه يجب التحقيق في الأنباء بوقوع هجوم بغاز الأعصاب في سوريا. ونقلت وكالة الأنباء السويدية عن سيلستروم قوله إنه لم ير سوى لقطات تلفزيونية وإن ضخامة عدد القتلى المذكور يثير الريبة.

 دولياً، أعلن وزير الخارجية البريطانية وليام هيغ أن بلاده سترفع تقريراً بوقوع هجوم بأسلحة كيماوية في سوريا إلى مجلس الأمن، مطالباً الحكومة السورية بالسماح لمفتشي الأمم المتحدة بالوصول على الفور إلى المكان. بدورها، طالبت فرنسا فريق التحقيق الدولي بالتوجه إلى الغوطة الشرقية. كذلك طالبت السعودية بعقد جلسة لمجلس الأمن.

 في المقابل، نفى التلفزيون السوري الرسمي ووكالة الأنباء السورية استخدام أي سلاح كيميائي، فيما اعتبر وزير الإعلام السوري عمران الزعبي في حديث لـ”الميادين” أن “كل الكلام عن استخدام الكيميائي هو حملة إعلامية خليجية”، مشيراً إلى أن “عناصر إرهابيّة تستخدم المدنيين كدروع بشريّة.

المدن

سورية لا عزاء ولا أضرحة/ غازي دحمان

ها هي عصابة الأسد تتجاوز كل الخطوط الحمر، وها هي غوطة دمشق تحترق بنيران الكيماوي الذي عصفها ليلاً والناس نيام، ولن يمضي وقت طويل، وأمام هول المجازر القادمة، وينسى العالم ما جرى في غوطة دمشق.

ثمة غرابة مبالغ فيها، في حالة سورية، الشعب والبلد، فنحن أمام نظام يرتهن ملايين البشر تحت خطر إبادتهم بالأسلحة المحرمة، وغير المحرمة؟، مقابل صمت العالم وانتظار التحرك بعد وقوع الفاجعة!.

لم يترك النظام مؤشراً واحداً على نيته بالذهاب إلى جريمة كبرى إلا وأظهره، بات يرتكب المجازر بشكل يومي، وصارت هذه الأخيرة، ليس فقط تحت سقف خطوط العالم الحمراء، وإنما أيضاً تحت سقف مشاعره الأدمية بكثير. ما يحصل في بانياس والقصير من مذابح، ويجري في ريف دمشق، هي محطات في الطريق إلى الفعل الأكبر، إنجاز المذبحة.

بنية المذبحة، وأدوات تنفيذها، باتت جاهزة من الناحية العملية، المعلومات بهذا الخصوص تؤكد بأن النظام وزع على قيادات الأمن والجيش المقربين والموثوق بهم من قبله، والأهم أولئك المتورطين معه والمستعدين للذهاب إلى أبعد الحدود، أسلحة كيماوية في العاصمة وخارجها، كما أن هؤلاء القادة يملكون حرية التصرف وفق تقديرهم الذاتي للأخطار التي يواجهونها، وفي الزمان والمكان الذين يرتئونه مناسباً.

واليوم يعمل النظام على إستعمال السلاح الكيماوي بشكل موضعي وانتقائي، ولكن وفق منهجية متواترة ومدروسة، الغرض منها، إضافة إلى وظيفتها الردعية والفتاكة، إحلال الكيماوي كسلاح مقبول ومباح في سياق الحرب التي يشنها ضد معارضيه، بمعنى أخر يعمل النظام على تجريب هذا السلاح على جسد السوريين ولمعرفة طبيعة الإستجابة الدولية تجاهه، إستخدام مزدوج لتركيبة من الغازات الكيماوية، كما جرى في خان العسل والعتيبة وداريا وسراقب.

ولا تكمن الخطورة هنا في غض الطرف الدولي عن هذه الممارسة وحسب، لكن تطورات الحدث وإحتمال إنهيار الجبهات، أو حصول تطور مفاجئ، كلها عوامل قد تؤدي إلى حالة هياج كبرى من شأنها أن تربك أصحاب القرار في إستخدام هذه الأسلحة، المشكوك أصلاً في عقلانيتهم ورشدهم.

وهكذا، وعلى وقع العجز والإرتباك الدوليين، تسير سورية على درب الموت وفق متوالية طردية لا نهاية لها، قتل عشرات الآلاف وإخفاء مثلهم وتهجير الملايين، كل ذلك لم يجري بين يوم وليلة، بل جرى وفق سياق عملية متكاملة كان العالم يتابع مجرياتها لحظة بلحظة، ورغم ذلك وصلنا إلى هذا الحد، وعلى ذات المنوال يجري إستخدام الكيماوي، وشيئا فشيئا تزداد جرعاته إلى حين الوصول إلى الحد الأكبر.ولا يبدو أن ثمة ضير في ذلك، فالسوريون كشعب على حواف اللعبة

الدولية، قد تكون سورية كجغرافية موجودة على خارطة اللعبه لإعتبارات مصلحيه، لكن هذه يمكن التوافق والتفاهم بشأنها، حتى وإن إقتضى الأمر إستلال مشارط التقسيم من صندوق أدوات الحلول الإستراتيجية.

العالم يبدو وكأنه قد إستنفذ كل خطوطه، ويلجأ الأن إلى لعبة جديدة في التحايل على العجز والتخاذل، عبر إحالة جريمة إستخدام الكيماوي إلى طور المستويات في إستخدامها، على ما ذهب اوباما، وهو اليوم يرحل تلك الخطوط إلى ما بعد الوصول إلى المستوى الأكبر ووقوع الأعظم، عند تلك المرحلة ستكون الأمور أسهل للتفاوض والمساومة. الواضح أن سورية وشعبها ضحايا عقدة بوش التي تلازم الرئيس أوباما.

لعل ذلك يذكرنا بموقف إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون التي ثبت أنها لم تكن ترغب في الاعتراف بأن الإبادة الجماعية تحدث في رواندا لأن الولايات المتحدة كانت ستكون ملزمة في تلك الحالة، بموجب اتفاقية فيينا لعام 1948، التي تتيح الدفاع عن السكان الذين يتعرضون للإبادة.

اللعبة التي حدد قواعدها أوباما تغيرت وشبعت تغييرا وأوباما أول العارفين بذلك. ولن يتأخر الوقت طويلا قبل أن يشاهد العالم أعدادا مهولة من السوريين يسقطون صرعى والزبد يخرج من أفواههم. أيها السادة عفوا، سورية ليست في طور الإستعداد للمذبحة، هي في قلبها، الدليل على ذلك أن عداد الموتى قد انكسر، فيما تكمل البلد رحلتها الدموية بدون عزاء، وغداً بدون أضرحة.

ايلاف

الكيماوي يخنق الإعلام أيضا/ إيلي عبدو

 لم ننتبه إلى تصاعد الرقم. الصور والفيديوهات التي إلتقطت من مسرح المجزرة، جمّدت إدراكنا. وجوه أطفال عالقين بين الموت والحياة. أجساد عارية تلفظ أنفاسها الأخيرة، تحاول أن تقاوم غاز السارين، تنبض، تتحشرج، تنظر إلى عدسة الكاميرا كمن يبحث عن الخلاص. طفلة لم تتجاوز السبع سنوات شاهدناها تصرخ بحالة هستيريا “أنا عايشة – أنا عايشة”. حالة الذعر الطفولية تلك، حاول أحد الأشخاص تخفيفها: “أنت عايشة حبيبتي، عايشة”. كانت الفتاة بحاجة كي تصدّق أنها موجودة وأن الهواء الملوث بالموت لم ينل منها بعد.

هكذا، إرتفع العداد من 400 إلى 750 إلى 1300 إلى 1600 … ويستمر بالإرتفاع من دون التأكد من رقم نهائي، وعقلنا لا يسعفنا لفهم كل تلك الصور التي توصف هول الكارثة التي وقعت في بلدات زملكا وجسرين وعين ترما وكفر بطنا وسقبا. ربما الصور سبقت الرقم في فهمنا للمأساة. الموت هذه المرة خال من الدم. مجرد أجساد تتخبط بالهواء الملوث بالغاز. لقد إختلف مشهد القتل السوري عبر شاشات الفضائيات، في السابق كنا نشاهد مذابح وفيديوهات تعذيب، تصفيات ميدانية. هذه المرة إختار النظام السوري أن يبدع صورة جديدة لموت شعبه. موت صامت.. إختناقي.

  راحت الشاشات الإخبارية تلاحق المعلومة لتصل إلى حصلية القتلى ومصدر القصف. لكنها في معظمها لم تتفرغ لرصد المجزرة ونقل صورها إلى العالم كما يجب. وبعض الفضائيات العربية احتفظت ببرمجتها الإخبارية “العادية”، فلم تسقط التقارير المنوعة، مثلاً، لصالح هواء مفتوح.

“الجزيرة” إتصلت بناشط في العاصمة دمشق، قال إن النظام يضرب بعرض الحائط وجود بعثة الأمم المتحدة، ويتحدى العالم بإرتكاب مجزرة ضد أطفال ونساء ورجال الغوطة الشرقية. لم يتمالك الناشط أعصابه حين إتصلت القناة بالمحلل السياسي الموالي للنظام شريف شحادة ليلمح إلى أن المعارضة تقف وراء المجزرة كي تستغلها سياسياً. صرخ الناشط في وجه المقدّم، كيف تستقبلون ضابط مخابرات ليتهمنا أننا نقتل أنفسنا؟ سارع المقدّم إلى إنقاذ الموقف وعاد ليسأل عن عدد القتلى؟

أما قناة “العربية”، فقد إنحازت إلى الجانب الإنساني، فإتصلت بطبيب ميداني ليؤكد أن عدد الاطفال من إجمالي عدد القتلى تجاوز الـ25 في المئة، مستعرضاً حالات الإختناق التي شاهدها وأشرف عليها. ولم تتردد “العربية” في إطلاق تسمية “مجزرة الكيماوي” على ما حصل.

في هذه الأثناء حاولت “بي بي سي” توخي الدقة في الإستعلام عن الجهة التي نفذت المجزرة، فيما تبرعت “الميادين” كعادتها لإعطاء المساحة الأوسع لتصريحات وزير الإعلام السوري عمران الزعبي، الذي نفى أن يكون نظامه هو من قصف المدنيين بالكيماوي.

القنوات اللبنانية تجاهلت المجزرة بإستثتاء بعض الأخبار العاجلة، لكن شاشة “إل بي سي” عرفت كيف تستغل وجود الخبير في القانون الدولي، أنطوان صفير، ضيفاً على برنامج “نهاكم سعيد” الصباحي، فاستهل المقدّم بسام أبو زيد حواره مع ضيفه بسؤال عن المجزرة في ريف دمشق، ليستفيض صفير بالحديث عن مواد القانون الدولي التي تنص على تحريم إستخدام هذه النوعية من الأسلحة مقترحاً وجود جهة حيادية لتحدد المسؤول عن ما يحصل.

حضور المختنقين في ريف دمشق بدا أقوى على مواقع التواصل الإجتماعي، فإنتشرت فيديوهات الضحايا وصورهم القاسية معطوفة على تعليقات تستنكر ما حصل وتوجه إتهاماتها نحو النظام السوري. بعض هذه التعليقات منح الرئيس السوري لقب “بشار الكيماوي” على غرار”علي الكيماوي” ابن عم الرئيس الراحل صدام حسين الذي استخدم هذا السلاح ضد القرى الكردية في شمال العراق.

وفيما تداول معارضون صورة طفلة سورية تحمل لافتة كتب عليها “ما بدي كيماوي.. بتحسس منو” ، كتبت مدير مجلة “الياطر”، يونا زاد، المعروفة بمواقفها المؤيدة للنظام على صفحتها: “جاري التنظيف”، في إشارة إلى ضحايا المجزرة، ليعلق أحد المؤيدين تحت كلامها “الشباب ما عم بيلحقو ديتول وفلاش وجافيل”. كما برز “ستاتوس” لفتاة مؤيدة تطلق على نفسها اسم “سارة الأسد” قالت فيه: “صارت وصارت منطالب الجيش يضربهن باليورانيوم أحسن ما يبعتهن عجهنم على دفعات، يبعتهن دفعة وحدة”.

على الموجة ذاتها، سارت تعليقات بعض اللبنانين المؤيدين لـ”حزب الله”، والذين وجدوا في المجزرة فرصة للثأر لضحايا تفجير الرويس فامتلأت الصفحات بكلمات ” فطائس “، “الله لا يردن” ، “تطهير”،”تعقيم”. من دون أن ينفي ذلك وجود مئات من التعليقات المصدومة والمتأثرة بهول المجزرة، وكتب كثيرون تعليقات إنسانية رثائية، بعيداً من إنتمائهم السياسي المؤيد للنظام السوري. وغطت اللافتة الصفراء التي تقول: “مجزرة الكيماوي في سوري” على الصور الشخصية لمشتركي “فايسبوك”.

أجساد السوريين تناثرت على شاشات الفضائيات، بعضها فارق الحياة وبعضها الآخر قاوم فكرة الموت. لم يكن الكلام السياسي قادراً على إنتشالنا من هول الفاجعة. فهمها، تحليل خلفياتها، الجميع كان يسأل عن عدد الضحايا ويتهم ويتوعد، فيما نحن كنا نتنفس ببطء وكأن الهواء المختلط بالكيماوي قد خرج من الشاشات ووصل إلينا.

المدن

أسد الكيماوي وأحمر أوباما/ غسان المفلح

(أعلن قائد الجيوش الأميركية الجنرال مارتن دمبسي أن أي تدخل عسكري أميركي في سوريا لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة. وأشار دمبسي في رسالة حصلت وكالة فرانس برس على نسخة منها، إلى أن مقاتلي المعارضة السورية لا يدعمون المصالح الأميركية في المنطقة. شدد الجنرال دمبسي على معارضته لأي تدخل عسكري في سوريا ولو حتى محدوداً، مضيفاً بأن المعسكر الذي ستدعمه أمريكا يجب أن يكون مستعداً لتعزيز مصالحه ومصالحها عندما تنتقل إليه السلطة).

إسرائيل وأمريكا أعلنتا أكثر من مرة، انهما يعلمان تمام العلم عن الاسلحة الكيماوية في سورية، وأنها في أيد أمينة طالما بقيت مع بشار الاسد، حتى عندما يتم نقل بعضها من مكان لآخر، تصرح إسرائيل بذلك. بريطانيا قدمت ملفا كاملا عن الاسلحة الكيماوية في سورية واستخدام الاسد لها في قتل المدنيين. وبناء على هذا التقرير وغيره من التقارير اضطروا جميعا لارسال فريق تحقيق لسورية الغاية منه سد الذرائع فقط، وليس التحقيق الفعلي لأنهم لا يحتاجونه اساسا.

أكثر من 1600 ضحية معظمهم من النساء والاطفال وعائلات بأكملها قضت نحبها في الغوطتين الشرقية والغربية، جراء المذبحة الكيماوية التي قام بها( أسد الكيماوي) جريمة لم يشهد التاريخ مثلها، إلا مرة واحدة عندما استخدمه صدام حسين ضد الشعب الكردي في حلبجة.

أحمر اوباما خط اصبح محفور في الدم السوري بأرض سورية، لذلك ماكان لهذه الثلة من المجرمين وشذاذ الآفاق أن تقوم بما قامت به، لولا معرفتها بأن اوباما ذاته يريد هذا الخط أن يتعمد أكثر فأكثر بالدم السوري. وليس تصريحات قائد جيوشه هذه إلا تأكيدا على نفاق باراك اوباما، يجتمعون معنا من أجل اطلاق الوعود واغراقنا بالتفاصيل، التي لاوزن لها في الجريمة الاسدية المستمرة. ديمبسي يصرح ان المعارضة لنظام الاسد لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الولايات المتحدة الامريكية، ليقل لنا السيد ديمبسي ما هي مصالح أمريكا؟

 اطفال سورية لن ينسوا من استخدم الكيماوي. لكن الاهم لن ينسوا من غطى هذا الاستخدام، أمريكا ووحدها أمريكا من تغطي على جرائم الطغمة الاسدية الطائفية الفاسدة، في الاحياء العلوية وزعت الحلوى بعد المجزرة، واقيمت الحفلات.. تحت بصر وسمع مشايخ الشام وتجارها وسمع وبصر مشايخ حلب وتجارها. تحالف طبقي فاسد، نهب الشعب السوري والمعركة التي تدور الآن تدور من أجل استمرار هذا النهب من نفس الطغمة الفاسدة، فاسدة هي ومواليها سوريا على المستوى الوطني.

يتضح من تصريحات ديمبسي أنه يبارك إجرام حزب الله وفصائل الشيعة العراقيين والحرس الثوري في قتل شعبنا. لأن هؤلاء يحققون مصالح أمريكا في هذه اللحظة.

كما أن البيان الذي اصدره مجلس الامن بعد اجتماعه إثر المجزرة، يؤكد نفاق أوباما ولا يؤكد قوة روسيا كما يتوهم بعض معارضة لدينا لأنه بيان هزيل، أمريكا في داخل موسكو، وموسكو أقل من أن تكون ذات تأثير على السياسة الامريكية من بريطانيا وفرنسا، ومع ذلك أمريكا ورغم أنهما حلفاء لامريكا طلبت منهما كف يدهم عن الملف السوري. لكن أمريكا معجبة بما تقوم روسيا بوتين.

أمريكا تحيط روسيا من كل الجوانب. لا تضحكوا على أنفسكم اوباما هو راعي الاسد، وهذا موقف تاريخي للحزب الديمقراطي الامريكي بكل رموزه. جو بايدن السيناتور الامريكي الذي احرج قليلا ادارة اوباما اخرجوه كليا من الملف..حتى مجرد تصريحات لم نعد نسمع له. مذبحة الاسد الكيماوية تمت بتواطؤ اوبامي صريح وواضح. تهديم سورية شعبا وارضا واعادة صياغتها مطلب امريكي يقوم به الاسد ومواليه دون أن يكلف أمريكا شيئا. لكن مع ذلك أوباما واهم إذ يعتقد ان التواطؤ مع الاسد وتغطية جرائمه سينساها التاريخ.

الشعب السوري لم يخرج لكي يبقى الاسد مجرما وحاكما بنفس الوقت.

مايخص دولة العراق والشام والنصرة، أكثر من يعرف في هذا العالم سر هذه التنظيمات ومن أين أتت هم الامريكان أنفسهم. فلايكذبوا علينا كسوريين.

ثمة أمر اخير يتعلق بالمعارضة الائتلافية، يتحمل مسؤولية شرذمة الفعل المعارض، وشرذمة التمثيل السياسي للثورة والعسكري أيضا. نظام القتل لن يتوقف مهما تقدم الشيخ معاذ بمبادرات، ومهما تذاكى ميشيل كيلو وكتلته، الغوطة مهددة بالانقراض بشرا وخضرة وبيئة. وهيئة التنسيق فيها قوى وشخصيات عميلة للنظام بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، وحتى شخصيات أخرى داخل الهيئة تعرف ذلك قبل أن تقوم الثورة أصلا!! فهي لم تعد معارضة. آخر تصريح لحسن عبد العظيم رئيسها أنه لايعرف من قام بضرب الكيماوي في الغوطة الشرقية!! العالم كله يعرف إلا هو وبعض من معه.

شعبنا كان يعرف جيدا ماذا ينتظره من هذا النظام، وإلا ماكان قام بثورته، لكن لم يتوقع أن معارضة هزيلة وطائفية حاقدة تنتظره لكي تساهم في قتله وتفريغ ثورته من مضمونها التحرري. اختم هذه المادة بما قاله ياسين الحاج صالح(بتقديري في حاجة اليوم لكتاب أساسي بالانكليزية أو الفرنسية، متل كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، عن الطائفية العميقة للغرب ولا شك إن هذه الطائفية المعادية للإسلام أساسا أسهمت بخفض الحواجز الأخلاقية التي تحمي حياة السوريين، ولها ضلع في تسهيل المقتلة السورية مماثل لضلع “الحداثية” التي هي إيديولوجية الغرب الداخلي عندنا).

لكن الدم السوري لن يكون رخيصا…واسدهم ساقط.

ايلاف

قبرٌ لأطفال المجزرة/ خلف علي الخلف

  هؤلاء الأطفال الذين قتلوا اليوم، ادفنوهم جميعاً بقبرٍ واحدٍ. سيتعرفون على بعض سريعاً. يصبحون أصدقاء؛ ويلعبون معاً.

ادفنوا معهم ألعابهم. الأطفال يتمسكون بألعابهم حتى وهم نيام، وموتُ الأطفال [حتى لو كانوامقتولين] مجرد نومٍ طويل.

الأطفالُ المقتولين لا يكبرون، لذلك هم بحاجة دائمة لألعابهم التي أطلقوا عليها أسماءاً وألقابًا، ويخاطبونها طوال الوقت بأحاديثٍ حميمية.

من ليس لديه لعبة، اشتروا له واحدة. لا تستخفوا بالأمر؛ فإقامتهم ستطول إلى الأبد. سيملّون من البكاء وهم ينادون أمهاتهم. الأمهاتُ اللواتي يسمعن صراخ أطفالهن لن يستطعن الذهاب لهم، ولاتهدئتهم، ولا التحايل عليهم بأكاذيب مكشوفة ليكفوا عن البكاء، لذلك يحتاجون الألعاب لتمرير الأبد الطويل، ريثما تقوم القيامة ويذهب إليهم الجميعُ..

أخمّنُ أن الكثيرين منهم يحملون أسماءاً متشابهة؛ مثل محمد وعبدالرحمن وعبدالله [الذين يخاطبهم أهلهم وأصدقاؤهم ب حمودي و عبودي]… لكن طفلاً واحداً منهم على الأقل يحمل اسماً غريباً. ربما كان بردى! ذلك أن أمه لا يعيش لها أطفال، فقالت لها العرّافة إذا رزقتِ بولدٍ سمّيه اسماً غريباً وخالداً كي يعيش. لكن “الكيماوي” يحصدُ الجميع حتى أولئك الوحيدين لأمهاتهم.

اتركوا مع الأطفال عيدياتهم، التي مازالو يحتفظون بها. فبسبب الحرب كانت الدكاكين مغلقة، ولم يشتروا شيئا. اتركوها لهم للذكرى، كي يتذكروا العيد والدنيا، فحيث أخذهم “الكيماوي” لايوجد محلات للتسوق ولاتستخدم النقود وكلُ شيءٍ مجاني.

ادفنوا معهم أماً واحدة، اختاروا أماً لم تنجب، لتعاملهم جميعاً على أنهم أطفالها، لتكن كبيرةً بالسن لتصبح جدتهم أيضاً، وتروي لهم حكاية “الأسد” الذي يخطف الأطفال ويشرب دمهم بدلاً عن الماء؛ بعد أن شاهدهم في حلمه قد تجمهروا حوله عازمين على طرده من الغابة.

ادفنوهم في قبرٍ واحدٍ؛ فبعضهم قتل جميعُ أهلهم ولن يجدوا من يزورهم أو يتذكرهم فيما لو دفنوا لوحدهم.

من يوميات الحرب القائمة

ايلاف

خطاب سياسي كيماوي/ د.حازم نهار

ظهر بعد مجزرة الكيماوي في غوطتي دمشق خطاب سياسي كيماوي لا يقل سمية عن السلاح الذي استخدم في قتل أهلنا. أصحاب هذا الخطاب الكيماوي ليسوا بالطبع من اعتاد السوريون على تسميتهم بالموالين أو الشبيحة الذين لم تعد لغتهم ومواقفهم تشكل مفاجأة لأحد منذ زمن بعيد، بل أولئك المندرجون في أطر سياسية “معارضة” أو “شبه معارضة”، إلى جانب بعض المستحاثات “الشيوعية” و”القومية”، و”اليسارية” عموماً.

على العموم، كان من بين استراتيجيات النظام الإعلامية والسياسية في مواجهة الثورة والمعارضين منذ البدايات بذل الجهد في سبيل توفير إمكانية التشكيك، مهما كان هزيلاً ومتهافتاً، لأولئك الذين يبحثون عن “مبررات” تساعدهم في تغطية صمتهم أو حياديتهم، أو لأولئك الانتهازيين الذين يبحثون عن سلاح لمعاركهم الإعلامية ضد الثورة، أو لبعض الفئات المندرجة في الثورة بقصد حثها على التموضع في مساحات قريبة منه في مواجهة “التطرف والإرهاب” أو على الأقل إلى المواقع التي تمظهرت في أشكال ومستويات ودرجات مختلفة مما سمي بـ “الطريق الثالث”. وقد تحقق ذلك للنظام بحكم المراحل المعقدة التي مرت بها الثورة، والأخطاء الجسام التي ارتكبتها المعارضة السياسية بكل صنوفها.

يلجأ أصحاب اللغة الكيماوية، بالاستفادة من عملية التشكيك الدائمة في الحوادث التي يعتمدها النظام، إلى اللعب بالكلمات والتعابير كوسيلة لتغطية العورات السياسية والأخلاقية على حد سواء، على شاكلة التعبير الشائع “أنا من حيث المبدأ ضد القتل”، وبالطبع من دون الإشارة للقاتل وإدانته في كل حادثة، على الرغم من أنه مرت محطات كثيرة كان القاتل فيها واضحاً ومعروفاً ولم يشيروا إليه بكلمة. لقد كانوا، وما يزالون، يفضلون الصورة الضبابية للقتل، فهذا أسهل لهم من حيث البقاء في حدود الحديث العام عن القتل. أو على شاكلة عبارة “أنا ضد استخدام السلاح الكيماوي من أي طرف كان” التي ظهرت في تصريحات وبيانات عديدة، من دون الإشارة مثلاً للمسؤولية السياسية عن استخدام الكيماوي في الغوطة على أقل تقدير. بالفعل ليس من الحكمة توجيه الاتهام الجنائي مباشرة، لكن من الممكن البحث في جانبين اثنين هما: التحليل السياسي للجريمة والمسؤولية السياسية، أما تحديد المسؤولية الجنائية فهي من اختصاص المحققين والخبراء.

لنفترض بالفعل أن هناك احتمال أن يكون السلاح الكيماوي قد استخدم من جانب طرف آخر غير النظام السوري وملحقاته وداعميه. لكن كي لا يصب هذا التحليل، الذي يحاول الظهور جاهداً بلباس الحكمة، في حالة من تمييع المسؤولية، فإنه يفترض على الأقل – إن كان أصحابه صادقين، أو لا يتعاملون وفقاً لمبدأ “الجكارة” كردة فعل انفعالية على الهامشية – أن يقوم بتحميل المسؤولية السياسية للنظام الحاكم، ومن دون ذلك يصبح هذا التحليل فارغاً. أما تحميل النظام المسؤولية السياسية فيعني عملياً المطالبة برحيله، فالنظام الذي لا يحمي شعبه من المخاطر لا يستحق أن يحكم على أقل تقدير.

لم نسمع أصحاب هذا الخطاب أثناء نشرهم لآيات الحكمة: “أنا ضد القتل” أو “أنا ضد استخدام السلاح الكيماوي”، يطالبون على الأقل برفع الحصار عن الغوطة وتوفير الغذاء والدواء لأهلها، أو إدانة الطائرات التي استمرت بقصف أهل الغوطة بعد استخدام الكيماوي من القوى المريخية، لتزيد من همومهم ومعاناتهم. ونعلم أن النظام لم يكتف بذلك، بل لم يفكر بحركة ذكية مثلاً تدفع التهمة عنه كأن يعلن عن حالة حداد عامة في البلاد، ولم نسمع فناني النظام ولا رجال دينه يترحمون بكلمة على شهداء الغوطة، وأظهر إعلامه أنه لا قيمة لأرواح المجزرة الكيماوية، وكانت السخرية من الدماء في مواقف وتعابير مواليه هي سيدة الموقف. ثم جاءت رواية إعلام النظام المفرطة في الغباء عن البراميل الكيماوية المكتشفة في جوبر التي كتب عليها بخط كبير ملفت وغير مبرر عبارة “صناعة سعودية”، على الأغلب انسجاماً مع انتقال “الملف السوري” –كما يقال- من قطر إلى السعودية، ولولا ذلك لكنا شاهدنا ربما “لوغو قناة الجزيرة” على البراميل بالحجم العائلي. بالتحليل السياسي، ألا يشير القاتل إلى نفسه في كل ذلك؟!

أكد النظام في إعلامه خلال اللحظات الأولى على إنكار حدوث الجريمة الكيماوية، لينتقل بعدها إلى نفي مسؤوليته واتهام “العصابات الإرهابية”، وهذا النفي يعتمده النظام بقصد تحقيق “المساواة” بين وجهتي النظر الموالية والمعارضة في الصدقية على أقل تقدير، وبما يخلق الشكوك والإرباك. إن عدم اكتراث النظام بأرواح شهداء الغوطة ليس له من معنى سوى أنه معني بالبقاء فحسب وليس ببناء دولة وشعب، فشعبه هو شعب الموالين، فيما الآخرون “حشرات”، وهذا كاف لأصحاب الخطاب الكيماوي كي يدينوه حتى لو كان هناك احتمال في رؤوسهم ببراءته من جريمة الكيماوي.

بعض أصحاب الخطاب الكيماوي الغارقون في الأيديولوجية والوهم، والانتهازية أيضاً، عاينوا موضوع المجزرة الكيماوية فخرجوا علينا بنظرية أن الإمبريالية الأميركية هي الفاعل، وذلك بالانطلاق من سؤال “المفتش جميل”: من المستفيد؟ بالتأكيد الإمبريالية وجميع الذين يدورون في ركابها هم مستفيدون، ولطالما استفادوا من غباء أنظمة المنطقة، لكن عائلة المستفيدين واسعة، تبدأ ممن خطط للجريمة ونفذها، مروراً بأصحاب الخطاب الكيماوي الذين لطالما أرادوا ستر عوراتهم وجبنهم المزمن بخطاب دونكيشوتي يحارب طواحين الهواء الإمبريالية.

بعض أصحاب هذا الخطاب استخدم مسرعاً، وبخفة سياسية غريبة، تقريراً صحفياً نشرته جريدة السفير عن “رواية روسية مدعمة بالوثائق والصور التي التقطتها الأقمار الاصطناعية لمنطقة الغوطة”، وقالوا أن “الأيام القليلة القادمة سوف تبين من استخدم الكيماوي في الغوطة الشرقية”، وروجوا لما قاله الروس بأن “قوات المعارضة لا توافق على دخول لجنة التحقيق الدولية للغوطة”، بما يخفي فرحاً ضمنياً عارماً بهذا الأمر وانتظاراً لـ “الفضيحة المجلجلة لبعض قوى المعارضة التي اتهمت النظام مباشرة”، وأمنيات خفية بـ “تغير نظرة كثير من الدول تجاه النظام السوري”. إنه تفكير “الجكارة” و”الهامشية” ليس أكثر.

ذهب البعض أيضاً نحو تحميل جريمة الكيماوي لبعض أهل المعارضة، واستخدم في خطابه تعبير “المتاجرة بالدماء” في وصفهم. أهل المعارضة جميعهم يستحقون النقد، وبعضهم عاجز يستحق الشفقة، وبعضهم يساهم بضحالته السياسية في ازدياد مأساة السوريين، وبعضهم “ركب” على الثورة كما يقال، وبعضهم قد يكون فاسداً، لكن يحتاج الأمر لتحقيق وقضاء يضعان النقاط على الحروف. كل ما سبق ممكن لكن على الأقل كان حرياً بأصحاب الخطاب الكيماوي ألا يغمضوا أعينهم عن “صناع الدماء والجرائم” ويلحقوا “تجار الدماء” فحسب إن أرادوا أن يكونوا منصفين. في العموم كانت المسيرة الاعتيادية أن النظام يرتكب “جريمة” ما، فيخطئ أهل “المعارضة” التعبير والتوصيف، فينبري أصحاب الخطاب الكيماوي فرحين بحصولهم على منفذ لراحة “بقايا الضمير”، فتضيع “الجريمة” وضحاياها، فيسعد النظام باحثاً عن “جريمة” أخرى!

لقد وجد بعض أصحاب الخطاب الكيماوي ضالتهم التي ينتظرونها عندما خرجت تعابير خاطئة ذات منحى طائفي على لسان بعض الذين فقدوا أهلهم وأحبتهم في مجزرة الكيماوي، فالتقطوا أنفاسهم وبدؤوا دروسهم الاعتيادية المثيرة للشفقة ضد الطائفية وتناسوا المجزرة. الخطاب ضد الطائفية هو خطاب صحيح وضروري لكنه كان يصدر أحياناً عن شخصيات طائفية في العمق، كالخائف الذي يريد أن يقتل خوفه في الظلمة برفع صوته، أو استخدم أحياناً أخرى من جانب البعض للتملص من الوقوف إلى جانب ضحايا النظام الذين صدرت عنهم بعض التعابير الطائفية.

ربما كان أصحاب الخطاب الكيماوي يريدون أن يأتي أهل الغوطة وهم يغنون ويرقصون، بعد قصفهم بالكيماوي، وبعد أن تابعت الطائرات والصواريخ مهمة قتلهم، وبعد الاستمرار في حصارهم وتجويعهم ومنع الدواء عنهم، وبعد المواقف الوضيعة للطبقة “المثقفة” وما يسمى العالم “المتحضر”. في الحقيقة لا نستطيع النظر للتعابير الطائفية على أنها مؤشر على توجه طائفي أصيل في ظل هذه الأحوال، ومع ذلك من المهم الذهاب نحو محاصرة التفكير الطائفي عند البعض اليوم وغداً شريطة تزامنه مع الإشارة إلى من يقتلهم وتقدير آلامهم وتضحياتهم والتوجه إليهم بخطاب أصيل في تواضعه، وعدم نسيان أن أخطاء أهل الثورة تشير بالضرورة إلى حجم ما فعله هذا النظام من سوء بالبشر والحجر على مدار أربعة عقود.

البحث عن “الأحبة” بين وجوه المقابر الجماعية/ رزان زيتونـة

أحاول استرجاع تفاصيل ذلك اليوم ببطء شديد علّي أنفجر بالصراخ والنواح كما يفترض بشخص “طبيعي” أن يفعل. يرعبني الخدر الذي أحسه في صدري والضباب الذي يلف الصور المتلاحقة في ذهني. ليس هكذا تكون ردة الفعل بعد نهار حافل بالتعثر بالأجساد التي صفت إلى جانب بعضها البعض في الردهات الطويلة المعتمة. لفت بالأكفان البيضاء أو البطانيات القديمة، لا يظهر منها إلا وجوه مزرقّة ورغوة جمدت على زوايا الأفواه، وأحياناً خيط من الدماء يختلط بالزبد. على الجبين أو على الكفن، كتب رقم، أو اسم، أو كلمة “مجهول”.

في كل نقطة طبية على امتداد بلدات الغوطة التي استقبلت الشهداء والمصابين، الحكايات نفسها تتكرر والصور نفسها. وجوه من بقي صامداً من المسعفين الذين لم ينج معظمهم من التأثر بالغازات السامة. يروون مرة تلو الأخرى، كيف قاموا بخلع الأبواب ودخول المنازل ليجدوا الأطفال نائمين في أسرّتهم بهدوء وسكينة لن يستيقظوا منها أبداً. معظم الأطفال ماتوا وهم يحلمون. قليل منهم وصل للنقاط الطبية وتمكنوا من إسعافه. الرحيل الجماعي للعائلات هو الصورة الأكثر إلحاحاً. الأم والأب وأطفالهما. نقلوا من أسرَتهم إلى قبور جماعية ضمت رفاتهم.

في إحدى مقابر زملكا، كان الأب يقف على قبر طويل يبدو بلا نهاية. هنا دفنت زوجته وطفله. وإلى جانبهما عائلة فلان، وعائلة فلان. وفكرت، إن كان بينه وبين نفسه يحسد العائلات التي ذهبت بجميع أفرادها إلى تلك القبور الضيقة ولم تترك وراءها من يعيش ألم الفقد.

ولا تزال أصوات الاشتباكات قريبة جداً وعلى أشُدّها. ولا أحد من الحاضرين يكترث، وهم منهمكون في الحفر وإهالة التراب على الأحبة. مشرف الدفن يشرح كيف تتلاصق الجثامين التي بلغ تعدادها 140 في هذه المقبرة الصغيرة.

صوّر صوًر، يقول. هنا آل فلان، ويقوم بتعداد أسماء أفراد العائلة، وهنا آل فلان.. ونحن ننظر وكأننا يجب أن نرى العائلة ونلقي التحية على الوالدين ونداعب الأطفال، لكننا لا نرى إلا تراباً غير مستوٍ وبضعة أغصان جافة من نبات الآس رميت فوقه كيفما اتُّفق.

في ردهات تجميع الجثامين في كل بلدة، تجمع الأهالي للبحث عن أبنائهم. تدخل سيدة مسنة وهي تتوسل للموجودين أن يرشدوها إلى جثمان أبنائها واخوتها إن كانوا قد استشهدوا. يساعدها الشبان في رفع الغطاء عن وجوه صف الشهداء المجهولين الذين ينتظرون من يتعرف إليهم. شهيداً تلو الآخر تمر عليهم. تشهق لدى رؤية أحدهم، ثم تتمالك نفسها وتقول ليس هو. تنتهي من البحث، وتنطق بالحمد بصوتها المتهدج لأن احتمالات موت أحبتها قلت بمعدل نقطة طبية واحدة.

في الأغلبية العظمى من الحالات، تفرق أفراد العائلة بين النقاط الطبية على امتداد الغوطة. ومن شفي منهم واستعاد قواه، بدأ رحلة البحث عن عائلته من بلدة إلى بلدة. كان الجميع غاضبين، بالكاد يتمالكون أنفسهم قبل أن ينهاروا بالبكاء. كلما فشلوا في العثور على أحبتهم في الردهات بين المصابين والشهداء، أو في قوائم الأسماء التي تمكن الإداريون من تسجيلها.

حال المصابين ليس بأفضل كثيرا، خاصة الأطفال. بمجرد التوجه بكلمة للطفل يقلب شفتيه الصغيرتين ويحاول كبت صوت بكائه وكأننا سنعاقبه إن جاهر بقهره ولعن العالم بمن فيه. يبدأ بالسؤال عن والديه ولا أحد يملك الجواب. لا أحد يقوى على الجواب.

لا أحد أصلا يستوعب كل مايحصل فعلا. هذه بلاد العجائب والصدف التي لا يفترض أن تحصل بشكل متواتر وتنقل إلى اعتياد. إلى جانب إحدى النقاط الطبية وقف شخص وهو يبكي ويلوح بيديه. قال أنه أنقذ ثلاث سيدات إلى المشفى، في الطريق وبسبب الاستعجال والارتباك دهس شخصا فقتله، وعندما وصل إلى المشفى ركن شاحنته الصغيرة أمامها بانتظار أن يبت بأمره بخصوص الشخص الذي دهس، وبعد دقائق غارت طائرة الميغ واختارت تلك النقطة بالذات التي تقف فيها الشاحنة فأحالتها ركاما! من يمكن أن تحصل معه أحداث مماثلة خلال ساعات قليلة من حياته ويبقى على إيمانه بأن الدنيا ليست على أبواب القيامة؟!

من لايزال يحتفظ بشيء من القوة والتماسك، ينفجر في موجة غضب تجاه نفسه والآخرين. لأن أحدا لا يقوى على التخيل أن المئات من الشهداء كان بالإمكان إنقاذهم، لو توفر المزيد من الدواء، لو أن “الجهات المانحة” لم تتمنع عن المساعدة في تجهيز نقاط طبية خاصة بمصابي الكيماوي. حتى الأطباء غاضبون من أنفسهم، من اضطرارهم للاختيار بين مصاب وآخر حسب قرعة الحياة والموت في سوريا الثورة. كتب الطبيب ماجد على الفيسبوك: “بكيت وبكيت اليوم وانا استقبل تبرعات الأجواد والكرماء الذين لم يقتنعوا ان المشروع الذي قدمناه منذ اربع أشهر لتجهيز نقطة للتعامل مع إصابات الكيماوي هو ضرورة واليوم اقتنعوا بعد مئات الشهداء .. بكيت وانا أوقع على موافقات بقبض هذه المبالغ التي دفعنا ثمناً لقبضها صور الشهداء”..

المشكلة ليست هنا فقط، بل في قناعتنا واعتيادنا على أن كل شيء أصبح ممكنا، وأن السبيل الوحيد لمواجهته ولو نسبيا، هو في الاستعداد له، الاستعداد للقصف، الاستعداد للجوع، الاستعداد للكيماوي! هذا أقصى مايمكن أن نفعله.

يعني أن تصبح المحادثة التالية مع أطفالنا قبل النوم من بديهيات حياتنا. ابني اغسل اسنانك واذهب إلى سريرك فقد تأخر الوقت. ولا تشرب الكثير من الماء قبل النوم! وإذا سمعت هدير الطائرة انزل إلى القبو، وإذا شممت رائحة غير طبيعية اصعد إلى السطح، وإذا لم تجد الوقت كيف تفعل أي شيء، فاعلم أني أحبك كثيرا، لكن ليس باليد حيلة. العالم قذر ومتوحش. ستفهم يوما حين تكبر، إذا أتيح لك أن تكبر! تصبح على وطن يا بني.

دمشـق/الغوطـة

لبنان ناو

“بشار الكيماوي” وعقدة قتل الأب/ صبحي حديدي

ليس سلوكاً انتحارياً، فحسب، ذاك القرار الذي دفع بشار الأسد إلى قصف الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيميائية، فأوقع أكثر من 1300 ضحية. وأسبابه لا تقتصر على اعتبارات عسكرية ميدانية، أو سيكولوجية تسعى إلى تهدئة روع الأنصار، ورفع معنويات المحازبين. كان ثمة، في الباطن البنيوي العميق للشخصية، عطب تكويني استفحلت أعراضه طيلة 13 سنة أعقبت تنصيب وريث لم يكن، ألبتة، “أهون الشرور”، بل برهن أنه أسوأها.

ذلك العطب يتمثل في أنّ النرجسية العالية (التي يردّد العارفون بشخصية الأسد الابن أنها عنصر طاغٍ في تفكيره اليوميّ)، لا تكتفي بإعادة إحياء شخصية الأب عن طريق إعادة إنتاج نظامه؛ بل لعلها تقتضي أيضاً قتل ذلك الأب عن طريق تفوّق الابن على تلك السياسات والطبائع والأفعال التي صنعت صورة أبيه المستبدّ، وأشاعت رهبته، وعمّمت سطوته. وبين مظاهر هاجس قتل الأب، ذلك التصريح الشهير الذي أطلقه الأسد الابن، في مطلع توريثه، من أنّ “حافظ الأسد يحكم سوريا من قبره”؛ إذْ يمكن للتصريح أن يحمل الوجهتين معاً، وعلى نحو متكامل: أنّ الأب حاكم رغم رحيله عن عالمنا، وأنّ قتله بصفته هذه خطوة واجبة من أجل أن يحكم ابنه!

وكان الأسد الأب قد مضى بعيداً في قمع انتفاضة حماة، 1982، التي شكّلت التهديد الأهمّ لنظام حكمه آنذاك، فأجهزت قوّاته على الآلاف (بين 25 إلى 40 ألف قتيل)، واستخدمت صنوف الأسلحة الثقيلة كافة؛ لكنها توقفت عند حدّ الأسلحة الكيميائية، ليس إشفاقاً على السوريين، بل لأنّ قواعد التغاضي السوفييتي ـ الأمريكي عن المذابح كانت تحظر اللجوء إلى تلك الأسلحة. الأسد الابن ـ ضمن خياراته العنفية المحمومة في التصدّي لانتفاضة لا تهدد سلطته فقط، بقدر ما تُنذر بتقويض النظام بأسره ـ لم يتردد في تجاوز أبيه، وحيازة لقب “بشار الكيماوي”؛ على شاكلة سيء الذكر علي حسن المجيد، أو “علي الكيماوي”، بطل مجزرة حلبجا في كردستان العراق.

وطيلة ثلاثة عقود، بين 1970 و2000، ظلّ الأسد الأب يعمل 16 ساعة كلّ يوم من أجل بناء نظام حكمه، المتراتب بدقّة شبكة العنكبوت؛ حيث تُنسج الخيوط المعقدة يميناً ويساراً، أفقياً وشاقولياً، من المربع إلى المستطيل إلى الدائرة، لكي تنتهي جميعها عند المركز الأوحد الذي يقيم في قلب الشبكة، يصنع القرار النهائي. لكنّ توريث الابن ـ على عجل، بعد تعديل المادة 83 ليصبح عمر الرئاسة مطابقاً لعمره آنذاك (34 سنة)، وترفيعه من رتبة عقيد إلى فريق، دفعة واحدة (قافزاً عن رُتَب عميد ولواء وعماد وعماد أوّل، وعن فترة في الخدمة الفعلية لا تقلّ عن 25 سنة)، وتعيينه قائدًا عامًا للقوات المسلحة ـ كان يكرّس طوراً جديداً في تغييب السياسة عن المجتمع، وتغييب المجتمع عن معطيات العصر الحديث، وإغلاق أبواب سورية أمام رياح المتغيّرات السياسية والاقتصادية والمدنية والحقوقية والتكنولوجية التي تجتاح العالم.

وكان التوريث يعني المضيّ، أكثر من ذي قبل، في سياسات الاستبداد وكمّ الأفواه وقهر الحريات وشقّ اللحمة الوطنية، وتكوين المزيد من شبكات الولاء التي ستعيد إنتاج الماضي على نحو أكثر شراسة ودموية، لأنها في الواقع إنما تنهض على بنيان أكثر هشاشة. وتلك ليست وصفة استقرار بأيّ حال، لأنها في الواقع ليست سوى اللائحة الكلاسيكية التي تسرد خصائص أنظمة شمولية استبدادية ولّى زمانها بالضرورة، ولا بدّ أن تُطوى، طال الزمان بها أم قصر. يُضاف إلى هذا أنّ التوريث لم يكن يكرّس مبدأ الحكم العائلي في بلد أقرب إلى مزرعة، كما قال بعض المتحذلقين الذين اعتبروا أنّ الجمهورية لم تكن موجودة أصلاً؛ بل في “الجمهورية السورية” دون سواها، أي تلك الصيغة السياسية التي اختارها الشعب السوري قبل زمن طويل من صعود آل الأسد، وقبلهم حزب البعث بجميع تياراته، وأخذها الشعب السوري أخذاً، ودفع ثمنها غالياً ومراراً.

وهكذا، لم يكن الأسد الابن “أهون الشرور” كما ساجل الكثيرون (وبينهم الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، مثلاً!)، بل أكثرها إنذاراً بالأخطار على سوريا المعاصرة؛ تماماً كما برهنت الوقائع اللاحقة، وتبرهن كلّ يوم!

الكيماوي السوري والقرار الروسي/ غازي دحمان *

يستشيط الكيماوي على أطراف دمشق، يضرب مناطق تكتظ بالسكان، من أهل تلك المناطق وممن لجأوا إليها من بقية أنحاء سورية المنكوبة، والتي هي في نظر قوات الأسد البيئة الحاضة لـ «الإرهاب» وللثورة.

وتأتي مجازر الكيماوي في سياق طبيعي تعمد النظام إدراجه في سياق الحدث السوري بحيث يصل إلى مرحلة يغدو فيها استخدام هذا النوع من الأسلحة أمراً طبيعياً، في ظل ميوعة الموقف الدولي وتردد القوى الصديقة للشعب السوري عن اتخاذ قرارات مهمة وحاسمة لجهة دعم ثورته.

ثمة تسريبات بدأت تفصح عن إن استخدام النظام المكثف للسلاح الكيماوي في غوطة دمشق جاء نتيجة عملية تنسيق مع حليفه الروسي، بعد أن رصدت مراكز صنع القرار الروسي بعض الإجراءات العملانية في الموقف العسكري للولايات المتحدة في دول الجوار، وخاصة في الأردن، لجهة تحريك وإعادة موضعة بعض القوات الموجودة في الساحة الأردنية، مما يشير إلى احتمال تغيير مهم في الإستراتيجية الأميركية تجاه الحدث السوري، وهو ما دفع الروس إلى الإيحاء لحليفهم بدمشق إلى تغيير المعطيات الميدانية، وخاصة حول العاصمة دمشق، لإفشال أي إمكانية لتغيير واقع سيطرة النظام على العاصمة، وإيصال رسالة إلى الأميركيين بعدم جدوى إجراءاتهم.

وإذ تشير كل المعطيات الميدانية إلى عدم حدوث متغيرات مهمة دفعت بقوات النظام إلى استخدام السلاح الكيماوي على جبهة الغوطة، وإلى أن قراراً، على هذه الدرجة من الخطورة والحساسية، لا يمكن أن يتم اتخاذه بين ليلة وضحاها، أو أن يتم تقريره من قبل مستويات قيادية ميدانية دنيا. فإن الأمر لا شك لا يخلو من أهداف سياسية مبيتة ومنسّقة، ولا شك في أن النظام، الذي بات يرتبط عضوياً بالإدارة الروسية، التي تتكفل مسؤولية تبرير أعماله والدفاع عنها، كان على تواصل لحظي، وعبر الخط الساخن، مع الكرملين في كل مراحل إنجاز عملية القصف الكيماوي على أطراف العاصمة وريفها.

نحن إذاً أمام عملية تغيير في نمط الصراع وفي تحديد سقوفه وتعريف المدى الذي يمكن أن تصل إليه، لكن هذه المرة بإرادة وإدارة دولية تحوّل أطراف الصراع إلى مجرد منفذين لتلك الإرادة ومقتضياتها ورؤاها، ومثل هذا الأمر لا شك يستدعي التجهيز الملائم لمثل هذا التغيير، من قوى عسكرية وبناء تحالفات موازية وخطاب سياسي يشرعن مثل هذه الإجراءات، ولا شك أن مثل هذا التغيير، وتلك الاستعدادات لإنجازه، أخذت وقتاً كافياً من الترتيب والتجهيز لتظهر على سطح الحدث.

كان لافتاً، قبل أيام قليلة، خروج الرئيس الأميركي باراك اوباما، عن حذره الدبلوماسي الشديد ووصفه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ «الطفل اللامبالي الذي يجلس في آخر قاعة الدراسة». ورغم أن الإعلام العالمي تعامل بتندّر مع هذا الموقف للرئيس الأميركي إلا أنه كان يحمل في طياته الكثير من المضامين والمؤشرات حول سلوك الرئيس الروسي المغامر ومحاولته تغيير الأوضاع والمواقع الإستراتيجية في العالم بمنطق انتهاز الفرص واستغلال حالة الارتباك التي تسود سياسات الدول الكبرى نتيجة المتغيرات المتسارعة التي تعصف بأكثر من مكان في العالم.

من بين الأسباب الكثيرة التي دفعت روسيا، ووكيلها في دمشق، إلى مثل هذه القفزة في التعاطي مع الحدث السوري، حالة الانقسام الواضحة في مواقف الجبهة المناصرة للثورة السورية، جراء تضارب مواقفها من الأزمة المصرية، فقد بدا واضحاً مدى التصدع الذي أصاب هذا الحلف والشرخ الكبير الناتج عن تضارب المواقف، وقد كان متوقعاً أن يجري البناء على هذا التصدع في الموقف من الحدث السوري، إذ لا يمكن أن يصل الخلاف تجاه الأزمة المصرية إلى حد القطيعة بين أطراف فاعلة ومؤثرة وتبقى موحدة في الملف السوري. هذا ضرب من الخيال السياسي، أو هو أمر لا يستقيم مع واقع الإمكانيات والقدرات السياسية لكل طرف له علاقة بالملفين المصري والسوري.

لا شك في أن هذا الواقع ألقى بظلاله الثقيلة على المشهد السوري، ودفع البعض إلى التنبؤ بإمكانية حصول تسوية دولية في الملفين المذكورين، تدفع الثورة السورية بنتيجتها الثمن الأكبر، وذلك لما لمصر من أهمية جيوإستراتيجية تفوق أهمية سورية بكثير، وخاصة لجهة الجوار الإقليمي الذي يقدّر خطر الإسلاميين أكثر بكثير من خطر إمكانية بقاء بشار الأسد ضعيفاً في بلد منكوب، أو هو على الأقل خطر يمكن التكيف معه وتأجيل مسألة التعامل معه، في حين يبدو خطر الإسلاميين داهماً وآنياً ولا يحتمل التأجيل.

روسيا أمام فرصة تاريخية، فقد هيأت لها أميركا والعالم هذه الوضعية، وها هي موسكو تلتقط الفرصة وتحاول ترجمتها عبر الحدث السوري من خلال تصعيد الموقف إلى أعلى سقوفه وإحراج إدارة الرئيس اوباما وإجباره على التوسل لها كي تخرجه من دائرة استهدافها، وخاصة أن أوباما يقع تحت ضغط هائل من قبل قياداته العسكرية والسياسية بعدم الزج بالجيش الأميركي في أتون الحرب السورية.

* كاتب سوري

الحياة

 

من دون سابق إنذار يصبح كلّ ما لدينا للحديث عنه هو أكوام من الجثث غالبيتها تعود إلى أطفال. تصل الصور والفيديوهات ويبدو بعض المشاهد وكأنّ الجنّة تعاني نقصاً مفرطاً في الفرح حتى ترسل الموت ليختار وجوهاً بريئةً وصغيرةً. وكأنّ ملائكة الجنّة استقالت كيّ تحتاج كلّ هذا الموت لتعلن القيامة في السماء. الموت نفسه لم يعد يعني شيئاً، في ظلّ كل الحاصل مؤخراً، أصبح الموت أمراً محصلاً ليس أكثر. أمر لا بدّ من إنتظاره.. ونعرف بقدومه، الكارثة بقيت في الحياة.

نحن من بقينا على قيد الحياة علينا أن نصنع القرارات ونبحث بين الجثث وبين الوجوه الصغيرة عن بعض الإنسانيّة أو الكثير من التوحش. توحش قد لا يخرج بالضرورة من القاتل فقط.

إسمه كيماوي، اسمه غاز خانق، اسمه سارين.. سمّه ما شئت من أسماء علميّة، فلن تعيد طفلاً واحداً إلى الحياة. بينما أنتَ منهمك بتحدد الإسم العلميّ الدقيق للحالة (كي لا تبدو مضللاً إعلاميّاً أو تبدو ثقافتك الكيميائيّة والفيزيائيّة ضعيفة في هذا الوقت الحرج)، كان الأطفال يستنشقون هذا الغاز مباشرة، غير آبهين باسمه الصحيح وتصنيفه الدقيق.

تقرأ القوات المسلحة بياناً صادراً عن القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة: \”إن القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة إذ تؤكد أن هذه الإدعاءات باطلة جملةً وتفصيلاً وتندرج في إطار الحرب الإعلاميّة القذرة التي تقودها بعض الدول إعلاميا على سوريا…\”.

أسمع البيان ثانية: \”إن ما تدعيه هذه العصابات الإرهابية والقنوات التي تدعمها، حول إستخدام الجيش العربي السوري، ما هو إلا محاولة بائسة لتغطية خسائرها على الأرض\”. الأسوأ من البيان نفسه هو ردّ الفعل الدولي، إذ كان يكفي أن ينفي التلفزيون السوري وقيادته العسكرية الخبر، من دون أيّ دليل يقارن بأيّ من الصور والمشاهد والجثث والألم المنتشر في كلّ مكان، حتّى يصبحَ كلامه ُ كفّة الميزان التي تأخذ بعين الإعتبار في مقابل كلّ الأدلّة الأخرى.

استخدام الكيماوي: اربع رسائل/ برهان غليون

 في آخر استخدام للسلاح الكيماوي من قبل قواته، ضد بلدات الغوطة الشرقية، ضمن خطة لاجتياح شامل للمنطقة، تجاوز نظام الأسد كل المحرمات. وبلغ في تصعيده في العنف درجة لم تشهدها أي نزاعات سياسية داخلية في أي عصر. فلأول مرة ينتقل  النظام/العصابة من استخدام غاز السارين لهدف تكتيكي يرمي إلى ارهاب المدنيين ودفعهم إلى الانقلاب على الثورة وكسر شوكة مقاتلي الجيش الحر  والفت في عزيمتهم، إلى استخدامه لهدف استراتيجي، كسلاح رئيسي لحسم المعارك من بين الأسلحة العديدة الثقيلة الأخرى. لقد تجاوز  العدد الأولي لضحايا هجوم ٢١ آب ٢٠١٣ في غوطة دمشق : ١٥٠٠ شخص، قضى معظهم اختناقاً و أغلبهم من النساء والاطفال. ومن المؤكد أن هذا الرقم سوف يتضاعف مع نفاذ ترياق غاز السارين من المشافي الميدانية.

 يضع هذا الاستخدام الاستراتيجي للسلاح الكيماوي الجيش الحر  أمام تحد هائل في التصعيد في العنف لا يمكن للمعارضة أن ترد عليه، وليست مستعدة لا سياسيا ولا أخلاقيا على مجاراته. وهو التحدي الذي يوجهه ايضا للعالم أجمع، للامم المتحدة التي ادانت استخدام الاسلحة الكيماوية وأصرت على إرسال لجنة تحقيق دولية في الموضوع، ولتجمع أصدقاء سورية الذي أعلن دعمه وتسليحه للثورة، وللمجتمع الدولي بأكلمه، وعلى رأسه مجلس الأمن الذي فرض العقوبات على النظام، ولا يزال يرفض الانصياع لابتزازه وتحرير ودائعه المجمدة.

أراد النظام السوري المحاصر أن يوجه من خلال هذه الهجوم غير المسبوق بالاسلحة الكيميائية على ريف دمشق عاصمة الدولة عدة رسائل أساسية.

رسالة  للثوار ومقاتلي الجيش الحر  الذين أثبتوا تصميما اسطوريا على الاستمرار في القتال، ومقدرة لا تقارن على مواجهة  المصاعب وتحمل مشاق لا يتحملها بشر، مفادها أن كلفة الاصرار على المقاومة وهزيمة النظام ستكون عالية فوق ما يتصور أي إنسان، وأن آفاق التصعيد في العنف عند النظام لا حدود لها، وأنه مستعد لحرب إبادة جماعية لا يمكن لأحد ايقافها وأن الجيش الحر مهما حصل عليه من سلاح وتحلى به من شجاعة لن يستطيع ان يحسم الحرب.

رسالة  للشعب السوري الذي فشل النظام في استعادته لصفه بالرغم من كل الاستراتيجيات والحيل التي استخدمها من أجل ردعه عن الانفكاك عنه، وتخويفه، ومن ضمنها بث الفوضى وتسعير النزاعات الطائفية والاتنية، وإطلاق يد حركات التطرف والتكفير العالمية، وتخوين المعارضة وتشويه صورتها، ونشر أفلام العنف والتمثيل والقتل الوحشية.  رسالة تقول للشعب أنه لا المعارضة ولا الدول العربية الداعمة لها ولا تجمع أصدقاء سورية ولا المجتمع الدولي قادرين على حمايتهم، أو منع انتقام الأسد وأنصاره منهم وتهديده لحياتهم وحياة أبنائهم.

رسالة ثالثة لمجلس الأمن، ولجنة التحقيق الدولية في الاسلحة الكيماوية، ليبين لهما عبث عملهما وتمسكهما بإجراء التحقيق  الذي فاوض مطولا على حصره في موقع واحد، والبرهنة لهما على أنه يستطيع أن يقوم بمجازر أعظم، أمام اعينهما، وعلى بعد كيلومترات من إقامة اللجنة في فندق في دمشق، من دون أن يكون لديهما أي امل في إثبات أي تهمة على النظام، بعد أن نجح في تحديد مواقع عمل اللجنة وضبط تحركاتها وتقليص صلاحياتها.

ورسالة رابعة  لأصدقاء سورية وداعمي ثورتها، مفادها أن كل الضغوط السياسية والاقتصادية والقانونية التي مارسوها ويمارسونها عليه لن تؤثر في قراره وتصميمه على الاستمرار في الحرب، وأن أحدا لا يملك الحق في أن يتدخل في شؤونه، ولا القدرة على الحد من سيادته على الشعب والبلاد.

هذا الهجوم المصمم عن سابق إصرار رسالته للجميع أنه مستمر في حربه، ومصمم على الحسم العسكري، مهما حدث، وبأي ثمن كان، وأن أحدا لا يستطيع أن يمسكه بالجرم المشهود أو يثبت عليه أي جريمة كانت، وأنه من الذكاء إلى درجة تمكنه من أن يخلط كل الأوراق ويقلب التهمة على متهميه، ويدينهم بأبشع الجرائم ويقتص منهم بدل أن يقتصوا منه.

لكن في ماوراء ذلك تعكس الفظاعة الجديدة التي ارتكبها الأسد منطقا واحدا وثابتا طبع سلوكه منذ استلامه السلطة عام ألفين، وهو عدم الاعتراف بالخطأ وعدم التراجع عن خطوة خطاها، والهرب إلى الأمام، وتغطية الجريمة بجريمة أكبر، والرد على أي اتهام باتهام، بل باستباق الاتهام الموجه إليه باتهامات أخطر للخصوم وللمنظمات الدولية وللعالم. هكذا حاول تتويه لجنة التحقيق الدولية بمقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عام ٢٠٠٥ بخلط الأوراق والقيام بمزيد من الاغتيالات، وجعل من إرهاب الدولة الذي مارسة ضد الثورة السلمية منذ بدايتها على أوسع نطاق ردا على إرهاب منظمات لم تكن موجودة إلا في مخيلته، وحول المؤامرة الحقيقية التي حاكها وأزلامه منذ عقود لحرمان الشعب السوري من حقوقه وتحييده في وطنه، إلى مؤامرة كونية تستهدف نظام الممانعة البائسة.

 اللجوء الأكثر تصميما على تطبيع استخدام الاسلحة الكيماوية في النزاع السياسي السوري، يشكل تصعيدا خطيرا من قبل نظام  يدرك اليوم أن مصيره قد حسم، ولم يعد لديه ما يخسره، ويريد أن يصدم المجتمع الدولي العاجز، ويثير رعبه بهجوم كيماوي على مدنيين في عز نومهم، لعله يعود إلى رشده، ويقبل التراجع عن مواقفه، لتجنب الفضيحة والإفلاس السياسي والأخلاقي.

بهجوماته على الشعب بالاسلحة الكيماوية، وبشكل خاص هجومه الأخير في غوطة دمشق، لا يبرهن النظام عن إخلاصه لتراثه ومنطق حكمه القائم على الابتزاز بالموت لإخضاع الشعب وتركيعه وحرمانه من تقرير مصيره، ولكنه يضع أيضا العالم، الذي قبل بدور الشاهد على المذبحة اليومية السورية المستمرة من  سنتين ونصف، أمام حقيقة جبنه وفشله، وأن يقوض مصداقية المجتمع الدولي، ويثبت عن حق بأنه ثمرة هذا الجبن وذاك الفشل الذي رعاه وانشأه ولايزال يحتضنه منذ إربعين سنة من عمر الارهاب والقتل المنظم والتنكيل بشعب بريء لا ذنب له سوى أن مصالح استقلاله وسيادته وحقوق أفراده في الحرية وتقرير المصير والمساواة، لم تتقاطع مع مصالح ضمان الأمن والسلام والرفاه والاستقرار لبعض دوله وحلفائه الأقربين.

 لا يمكن للمجتمع الدولي أن يبقى مكتوف اليدين امام حرب الابادة التي يخوضها الأسد ضد شعبه. وأمام التعطيل المستمر لمجلس الأمن الذي فشل حتى الآن في الوفاء بالتزاماته تجاه الشعب السوري، يقع على الجميعة العامة للأمم المتحدة أن تتحمل مسؤولياتها وتقوم بتفعيل البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلام في حال تهديد السلم والأمن الدوليين.

 أمام هذه  الجريمة المرعبة ضد السوريين، وضد شرف الانسانية جمعاء، لا يسعنا،  نحن السوريين، الذين لا سلطة لنا ولا مال، إلا أن  نتقدم بالعزاء لعائلات الضحايا، ونأمل أن يتمكن الشعب السوري، في يوم قادم، من إنزال القصاص العادل بمرتكبي هذه المجزرة النكراء.

وأن ندعو مقاتلي الثورة وجيشها الحر إلى التكاتف والاتحاد من أجل مواجهة أكبر تحد واجهه شعب في تاريخه، تحدي خيانة موصوفة لنخبة الدولة والسلطة وانقلابها ضد الشعب والبلاد.

نتطلع إلى شعوب العالم وندعوها للتضامن مع الشعب السوري ضد سياسة القتل الجماعي المنظم وضلوع المجتمع الدولي ورفضه التحرك لوقف الجريمة والقيام بواجبه الطبيعي.

ندعو جميع المنظمات الدولية الاغاثية للدخول الى المناطق المنكوبة وتقديم كافة اشكال المساعدات الاغاثية والطبية للازمة.

ننحني بخشوع واحترام أمام جثامين أطفالنا ونسائنا ورجالنا الشهداء، ونترحم عليهم ونعدهم بأن لا نفرط بحقوقهم ولا بحقوق أي سوري، وأن نستمر في ثورة الكرامة حتى بزوغ فجر الحرية والعدل. لن نتوعد ولن نثأر ولن ننتقم، لكننا نتعهد، نحن السوريين جميعا، الباقين على قيد الحياة، بأننا لن نتهاون في القصاص، ولن نستكين أمام الظلم، ولن نقبل الغبن والمذلة، ولن يهدأ لنا بال قبل سحق العدوان.

المدن

لا جديد في المذبحة، إنها النظام/ ياسين الحاج صالح

ليس هناك ما هو مفاجئ في أحدث مجازر النظام السوري في غوطة دمشق. للمجزرة شقيقات كثيرات أكبر سناً في درعا وكرم الزيتون والحولة والتريمسة وداريا وجديدة عرطوز وجديدة الفضل… هذا غير قصف يومي بالطيران لمناطق متعددة بالبلد توقِع كل يوم عشرات الشهداء، وغير قصف بصواريخ سكود لمناطق أخرى في حلب والرقة ودير الزور وغيرها، وغير العديد من السوابق باستخدام الغازات السامة في الغوطة الشرقية نفسها (جوبر وحرستا ودوما)، وفي حمص وخان العسل، وغير مذبحة مستمرة في ما لا يحصى من المقرات الأمنية، راح ضحيتها مئات الشهداء، وتتوفر عنه شهادات حية تزلزل النفوس، وغير اغتصاب ما لا يحصى أيضاً من أطفال ونساء ورجال في تلك الأوكار الإجرامية نفسها.

هذا كيلا نستذكر أيضاً مذابح كبرى من جيل سبق في حلب وتدمر وحماة، ذهب ضحيتها عشرات الألوف. ومنها السجن الذي كان مذبحة موصولة طوال عشرين عاماً، سجن تدمر الرهيب.

لا جديد في المذبحة الجديدة، ولا ينبغي أن تفاجئ أحداً. لقد كانت المذبحة أداة حكم دائمة بيد النظام البعثي منذ أيامه الأولى. وجذورها تمتد في نزع وطنية ونزع إنسانية محكوميه عبر الاستيلاء على معنى الوطنية، وفي جيل سبق على التقدمية، واليوم على «العلمانية»، بما يمكن النظام من خفض قيمة حياة الخونة والرجعيين والعراعير وتسهيل إبادتهم. ليس هناك شيء جديد في هذا النسق الذي يستمد زخمه من منابع انفعالية عميقة الغور، تُحيل إلى علاقات الجماعات الدينية والمذهبية، وهوامات السيادة والتبعية بينها، مما هو غير مناقَش وغير مضاء من قبل مثقفين سوريين يتراوحون بين الامتثال والجبن والتواطؤ. ليس هناك جديد في مذبحة ترسم بالنار والغازات السامة أسوار حماية نظام طغيان يحرس امتيازات مادية وسياسية ورمزية، غير عقلانية وغير شرعية وغير وطنية. حماية المليارات تقتضي، بل توجب، قتل أولئك البؤساء المتخلفين المتعصبين، الذين ينازعونا ملكنا، نحن السادة المتمدنين.

ولا يستحق التشكك بأن النظام هو مرتكب المجزرة أي نقاش إلا من زاوية دلالته على أن للمجرم العام شركاء معنويين، فاشيين صغاراً، ممن يعبدون البوط العسكري وينصبون له التماثيل، أو شركائهم الإيديولوجيون الذين لا يكفون عن إضفاء صفة نسبية على جرائم النظام بالإحالة إلى جرائم أخرى. هذا نهج شائع في سورية، والغرض منه إضاعة مبدأ المسؤولية (كلنا مسؤولون) وتقويض مبدأ الحقيقة (لكلٍ حقيقتُه).

لكن رغم التطورات المعقدة للأوضاع السورية، وظهور مجموعات جهادية غيير وطنية في بعض مناطق البلد، ومظاهر «فلتة حكم» في العديد منها، فإن ذلك كله لا يغيّر من حقيقة أن المنبع العام للجريمة والخراب الوطني هو النظام الأسدي. ينبغي أولاً إخراج السكين الأسدية من الجسد السوري كي يمكن شفاء الوطن المريض. كلما تأخر الوقت تعذر الشفاء، وربما مات البلد الذي ليس للسوريين غيره.

منذ عامين ونصف انطرح على السوريين تحدٍّ تاريخي كبير، تغيير نظامهم السياسي، إن كان لهم أن يحافظوا على وحدتهم، ويعالجوا مشكلاتهم الوطنية والاجتماعية الكبيرة. وما نراه اليوم من مظاهر انحلال وطني متولد بصورة مباشرة عن تعثر الاستجابة الفاعلة على هذا التحدي الكبير. فإذا فشل السوريون في مواجهة هذا التحدي التاريخي كان مرجّحاً أن نشهد مظاهر انحلال اجتماعي ووطني وأخلاقي أكبر بما لا يقاس، ومنها اللجوء خارج البلد، ومنها التشدد الديني المفرط، ومنها الإرهاب، ومنها الجريمة، ومنها قبل كل شيء «حكم الشبيحة»، ومنها بالتأكيد الاحتلال الأجنبي، الإيراني تحديداً. بشار اليوم مجرد وكيل محلي لسيطرة إيرانية، ليس حزب الله اللبناني غير وكيل موثوق لها.

من شأن الاستجابة المثمرة لتحدي تغيير النظام، بالمقابل، أن تحدّ من المظاهر الانحلالية، وأن تحرض على تفاعلات معاكسة، متجهة أكثر نحو البناء والتواصل والتقارب بين السوريين. نقطة التحول في المسار السوري هي تغيير النظام، حرباً أو تفاوضاً. ليس هناك نقطة تحول أخرى.

هذا النظام مذبحة مستمرة، فلا نهاية للمذابح في سورية غير نهايته.

مجموعة الجمهورية

الكيماوي بوصفه سلاحاً تقليدياً/ عمر قدور

عندما كان العالم يتلقى صور الأطفال الذين قضوا بالغازات السامة التي أطلقتها قوات النظام فجر الأربعاء 21 آب (أغسطس)، كانت الطائرات وراجمات الصواريخ والمدفعية تستكمل جرائمها في الغوطتين الشرقية والغربية، مستغلة حالة الهلع لدى المدنيين والانشغال العام بإسعاف المصابين. وعندما كان العالم يتدبر الألفاظ الديبلوماسية التي لا تورطه بإدانة مباشرة للمجزرة، كان شبيحة النظام في قلب دمشق ينصبون مكبرات الصوت ويبثون الأغاني ابتهاجاً بها، بينما شهدت منطقة المزة 86 توزيعاً للحلويات تيمناً بما فعله البعض في الضاحية الجنوبية غداة سقوط القصير.

وفي مؤشر لا يمكن فهمه بعيداً مما حدث، انخفض سعر صرف الدولار في دمشق بحوالى خمس ليرات؛ ذلك السعر الذي شهد سابقاً ارتفاعات كبيرة مع تصريحات أكثر جدية صدرت عن مسؤولين دوليين حول انتهاكات النظام. أي أن السوق السورية التقطت جيداً بورصة ردود الفعال، ورأت من خلالها انتصاراً للنظام، ما عزز قيمة الليرة، وربما كانت الأخيرة لتحقق مكاسب أكبر لو تذكر المتعاملون أن استخدام الكيماوي أتى تماماً بعد مرور سنة على تحذير أوباما من استخدامه واعتباره خطاً أحمر.

تصعب المجادلة حول انتصار النظام في هذه الجولة، فهو حقق مبتغاه بجعل موت السوريين بالكيماوي مجرد حدث عادي، أو حدث قابل للنقاش السياسي بعد أن استخدم الكيماوي قبل ذلك في شكل محدود في سبعة وعشرين موقعاً تسيطر عليها المعارضة. وهو قد مهد للانتصار الأخير بموجب البروتوكول الموقّع مع اللجنة الدولية للتحقيق في استخدام الكيماوي، إذ تنص تفاهـماته مع الأمم المتحدة على تجريد اللجنة من حق الإشارة إلى الجهة التي استخدمته. لذا لا أهمية للنقاش حول توقيت المجزرة وتزامنها مع وجود اللجنة، لأن السقف الذي يمكن أن تصله المنظمة الأممية صار واضحاً بموجب تلك التفاهمات.

قبل ليلة الكيماوي كانت التكهنات تنصبّ على أن الدول الإقليمية الداعمة للثوار قد تتراجع قليلاً بضغط من إدارة أوباما، الأمر الذي حصل مراراً كلما حقق الثوار تقدماً ميدانياً يزيد عن المطلوب، ولم يوضع في الحسبان السماحُ للنظام باستخدام أسلحة الإبادة الجماعية على النحو الذي حصل. حتى كانت ثمة مراهنات على أن الدول المترددة قد تعيد حساباتها وهي ترى تقدم الثوار في أكثر من جبهة، ولم يصل أسوأ التوقعات إلى المستوى المتدني الذي بلغته المواقف الدولية يوم الأربعاء الأصفر.

إننا نكاد نمحو أي كلام عن المجزرة لحظة كتابته، فالضمائر التي لم توقظها صور أطفال المجزرة النائمين إلى الأبد لن يوقظها الحديث عنهم، ثم إننا نركز طويلاً على صور الأطفال، وكأن قتل الكبار مستحق أو اعتيادي! هذا أمر كرّسه النظام أيضاً؛ أن يصبح قتل الكبار اعتيادياً، وأن نعوّل على الضحايا الأطفال لاستنهاض الإدانات التي تتراجع يوماً بعد يوم. غير أن حيلتنا لا تنفع لأن حساسية العالم لا تحتمل رؤيتهم، ففي كل مجزرة باتت وسائل الاتصال الاجتماعي تبادر إلى حجب الصفحات التي تبث صورهم بحجة إيذائها للمشاعر.

لم يعد مهماً استرجاع المجازر السابقة التي تجعل الغازات السامة استكمالاً لسياق متصاعد من القتل الممنهج؛ استخدام صواريخ سكود على سبيل المثال لم يعد خبراً تنقله الشاشات، ومقتل أقل من مئة سوري يومياً بمختلف أنواع الأسلحة لم يعد خبراً في حد ذاته. أما آلاف القتلى، وهو رقم متوقع في حصيلة الأربعاء بسبب انعدام الأدوية، فلن ينالوا حتى الانتباه الذي ناله أقرانهم في حلبجة العراقية، ولن يسترجع الغرب صورة صدام حسين بما يترتب عليها من تبعات.

ما هو مرجح فقط أن استخدام الكيماوي هذه المرة سيفتتح مرحلة جديدة في الصراع، وأن النظام لن يتوقف عن استخدامه أسوة بما فعل شقيقه العراقي من قبل. الكيماوي هو الورقة الأخيرة، بما أن النووي غير متوافر له، وسيوضع قيد التداول في المعارك شأنه شأن أي سلاح تقليدي. فإذا نجح ميدانياً، بعد نجاحه الخارجي، فهذا سيكون حافزاً لمزيد من الاستخدام. لندع جانباً الفرضيات السابقة عن ابتزازه العالم بالكيماوي من أجل الحصول على مكاسب سياسية؛ النظام يعي أن التسوية السياسية لن تكون قريبة، ويعي بخاصة عدم وجود إرادة قوية لإزاحته، وأن هذه الإرادة إن وجدت يوماً فلن تكون بسبب الملف الداخلي ما دام الأخير لا ينذر بإشعال الملفات الإقليمية الأخرى.

الانتقال بالكيماوي من سلاح للردع إلى سلاح تقليدي قد يعني تعميم استخدامه على كل الجبهات، فما حصل في الغوطتين هو القصف به كسلاح تمهيدي، وهو الدور الذي يُناط بالطائرات والمدفعية عادة. هذه المرة أتت الطائرات والمدفعية في ما بعد لتستكمل التدمير، وليس مستبعداً أن يعيد النظام الكرّة مراراً لإنهاك المناطق المحاصرة أصلاً، مع التنويه بأمرين؛ أولهما استنفاد مواد الإسعاف في الضربة الأولى، وثانيهما امتلاك النظام لما يُعتقد أنها أضخم ترسانة كيماوية في العالم.

قد تكـــون المرة الأولى، في أي حرب، التي يُستخدم فيها الكيماوي على هذا النحو لعدم وجود رادع من الطرف المقابل، ولعدم وجود رادع دولــي مع أن العـــالم سعى بقوة قبل عقدين لحظر إنتاجه واستخدامه. حرب النظام على السوريين فاقت التوقعات من قبل، ولـــيس هناك ما يمنعه من اللجوء إلى كل الوســائل المتاحة مع دعـــم وتواطـــؤ دوليين قلما أتيحا لنظام من قبله، أقله على الصعيد الإعلامي.

داخلياً، لن تخلخل المستجدات القسمةَ القائمة بين مؤيدين ومعارضين؛ مؤيدو النظام لن يتزحزحوا عن مواقفهم سوى باتجاه المزيد من المطالبة بالإبادة، بل إن النظام تأخر فعلاً عن مناشداتهم له بالاستخدام الشامل للسلاح الكيماوي، أما معارضو النظام فلن يكون أمامهم خيار سوى الاستسلام للموت أو القتال دفعاً له. وجود خيار ثالث بين الطرفين يضيق بإطراد؛ قبل مجزرة الكيماوي كان الشرخ هائلاً، مع ذلك كان يمكن الحديث عن آفاق لردمه. الآن تبدو الآفاق منقسمة أيضاً، فثمة من يستنشق منها الهواء، وثمة من يستنشق الغازات السامة.

الحياة

المجازر الكيميائية: الحساب في الغوطة وليس في واشنطن/ صبحي حديدي

غالبية عظمى من التعليقات على المجزرة الكيميائية، التي تعرّضت لها مناطق في الغوطتَين الشرقية والغربية، اتفقت على جمهرة أسباب ـ نابعة من منطق بسيط تماماً، في الواقع ـ ترجح لجوء نظام بشار الأسد إلى هذا الخيار الأقصى، بهذه السوية من الوحشية العمياء، وفي هذا التوقيت تحديداً. ثمة، في المقام الأوّل، ذعر النظام من التقدّم العسكري المضطرد الذي تحققه كتائب ‘الجيش السوري الحرّ’، في هذه المناطق أسوة بتخومها؛ وعجز الوحدات الموالية عن مواجهة هذه السيرورة، رغم استخدام صنوف القصف الكلاسيكة كافة، الجوية والصاروخية والمدفعية. وهذه حال ليست جديدة، بالطبع، وتتواصل بصفة حثيثة منذ سنة ونيف، وابتداءً بأولى الاختراقات ضدّ خطوط انتشار الجيش الموالي، في أحياء الميدان وبرزة وجوبر والقدم والتضامن ومخيم اليرموك.

وثمة ذلك الذعر الثاني، المتصل بالهزائم التي مُني بها جيش النظام في ريف حلب وإدلب وحماة، والتي كانت تتكامل مع هزائم أخرى في حوران والمنطقة الجنوبية عموماً، وما اقترن بالعمليات هذه من ارتسام صيغة جديدة في تناسق الجبهات القتالية بين مجموعات ‘الجيش الحرّ. ورغم أنّ الصيغة بدت، وما تزال، وليدة العفوية، والمبادرات الفردية التلقائية، ومقتضيات التطورات الميدانية الصرفة؛ فإنّ معنويات جيش النظام الآخذة في انهيار، وتردّي أداء وحداته، وتفكك خطوطها، وتبعثر جهودها، وانعدام صفة التخطيط القيادي المركزي… عوامل أتاحت، من جانب ثانٍ، الارتقاء بالصيغة هذه من مستويات الصمود في المكان، وإيقاع ما أمكن من خسائر في صفوف النظام، إلى مستويات تنفيذ هجمات مضادة ناجحة، واغتنام أراضٍ ومواقع ومستودعات سلاح.

وثمة، ثالثاً، طراز الذعر الخاصّ الذي دبّ في نفوس الفئة المتنفذة من رجالات النظام، والقشرة العليا من ضباطه بصفة خاصة، جرّاء عمليات ‘الجيش الحرّ’ في بعض قرى الساحل السوري. ولقد بدا جلياً أنّ أنساق ذلك الذعر انعكست، على نحو شرطي مباشر، في هيئة ردّات فعل عسكرية متعجلة، مرتبكة تماماً (كما في سحب وحدات من جبهة حماة، ونقلها على عجل إلى الساحل، والمجازفة باحتمال تحريرها على يد ‘الجيش الحرّ’، الأمر الذي حصل هكذا بالفعل). الوجهة الثانية لتلك المنعكسات الشرطية اتخذت منحى انتقامياً، وحشياً وهمجياً وعشوائياً، تجلى أوّلاً في مجازر الغوطة الكيميائية، وقد يتجلى ـ مجدداً، لدى أية مناسبة، ثانياً وثالثاً وعاشراً ـ في ما لا عدّ له، ولا حصر، من الأفعال البربرية العمياء.

وليس خافياً (إلا عند أنصار النظام، المتواطئين مع خياراته هذه، المتعامين عنها عن سابق قصد وتصميم، المصفّقين لها بوصفها ‘ممانعة’ أو ‘مقاومة’ ضد ‘التكفيريين’، المشاركين في تنفيذها على الأرض…)، أنّ أرباب النظام وضباطه، وبشار الأسد شخصياً على رأسهم، يؤمنون بأنّ قتل مئات السوريين، والأطفال منهم بصفة خاصة، في دقائق معدودة، هو واحد من أفضل سُبُل رفع المعنويات المنهارة. وإذْ يبدو الأمر همجياً صرفاً، وغير آدمي على أيّ نحو، في تفكير امرىء عاقل متصف بالحدود الدنيا من طبائع التفكير الإنساني؛ فإنه ليس طبيعياً وعادياً ومقبولاً، فحسب، في نظر الآمر بإلقاء سلاح دمار شامل فتاك على بشر نيام، بل هو مدعاة بهجة وفرح وانتصار. وذلك الآمر لا يفكّر في قطعان الفرحين المبتهجين إلا بوصفهم حيوانات انتقام، أو أدنى ربما، تقف خلفه لانها تفرح لسفك الدماء وتبتهج، إشباعاً لغريزتَين: تهدئة المخاوف من الآخر، حتى إذا كان رضيعاً وطفلاً؛ وإشباع عصاب الانعزال، الأقلوي أو الطائفي أو القطيعي، المريض الملوّث.

والمرء، بالطبع، يراهن على أنّ أمثال هؤلاء السوريين، حيوانات الانتقام الراقصة على جثث الأطفال، ليسوا موجودين إلا ضمن نسبة مطابقة لأولئك الوحوش الآمرين بالذبح الجماعي؛ أو، حسب رهان آخر وطنيّ أكثر، أنّ النسبة ذاتها ليست إلا تلك العابرة المؤقتة التي لا يجوز أن تُرى في صفة الظاهرة، أو تُعمم اعتباطاً على أيّة جماعة. وبهذا المعنى فإنّ المشاهد المروّعة التي خلّفتها المجازر الكيميائية في الغوطتين ينبغي أن تهزّ ضمائر السوريين، أجمعين، أياً كانت ولاءاتهم وانحيازاتهم، وأن تكون لها سمات تطهيرية عند جميع السوريين؛ ما خلا، بالطبع، أولئك الذين أمروا بتنفيذ المجازر، إذْ أنّ انتماءهم إلى الإنسانية عامة، وليس إلى الصفّ السوري وحده، أمر مطعون فيه أساساً.

وليس أقلّ سوءاً من هؤلاء، القتلة الآمرين بارتكاب المجازر، إلا ذلك الفريق الذي ينزّههم عن ارتكابها؛ أو يلقي باللوم على المعارضة في ‘استفزاز′ التسبب بوقوعها، أو حتى بالمسؤولية المباشرة عن تنفيذها، كما فعلت إيران وروسيا؛ أو، في فئة ثالثة ليست أدنى انحطاطاً، وضع النظام والمعارضة في سلّة واحدة، من حيث استخدام الأسلحة الكيميائية. أمّا الصفّ المنافق، الذي يكتفي بالإدانة اللفظية، أو ذرف الدموع مدرارة على الضحايا، أو يطالب بتحقيقات أكثر تمحيصاً لاستخدام (وبالتالي احتمال عدم استخدام!) هذه الأسلحة؛ فإنه يشمل الغالبية الساحقة من ‘أصدقاء الشعب السوري’، عرباً وعجماً على حدّ سواء، والرئيس الأمريكي باراك أوباما على رأسهم.

وهكذا، اختفى سيد البيت الأبيض، ذلك اليوم، حين تقاطرت أخبار مجازر الغوطة وتواترت مشاهدها الهولوكوستية، وتصدّرت الصحف غرباً وشرقاً؛ واختفى معه وزير الخارجية، ثمّ وزير الدفاع، ورئاسة المخابرات المركزية… فلم يظهر إلا جوش إرنست، النائب الأوّل للسكرتير الصحفي، الذي أعرب عن ‘قلق’ الولايات المتحدة إزاء تقارير الهجمات الكيميائية. الذي ظهر أيضاً، وإنْ على نطاق آخر يخصّ الكونغرس، كان الجنرال مارتن دمبسي، قائد الجيوش الأمريكية، الذي قال ـ في رسالة إلكترونية إلى النائب الديموقراطي إليوت إنجل ـ إن أي تدخل عسكري أمريكي في سورية لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة، لأن ‘المعسكر الذي نختار دعمه يجب أن يكون مستعداً لتعزيز مصالحه ومصالحنا عندما تميل الدفة لمصلحته. والوضع حالياً ليس كذلك’.

طريف، مع ذلك، أنّ أوباما هو المعنيّ الأوّل بتداعيات هذه المجازر الكيميائية، لأنه صاحب الوعد الشهير بأنّ استخدام أيّ سلاح كيميائي سوف يغيّر قواعد ‘اللعبة’، وبالتالي سوف يستدعي خطوات أخرى تصعيدية من جانب واشنطن، ضدّ النظام السوري. وقبل شهرين، فقط، كان أوباما قد أعاد التأكيد على هذا الخطّ، ثمّ تابع طرائق الالتفاف على تبعاته (التي كان هو الذي ألزم نفسه بها!)، حين أكّد: ‘مهمتي هي أن أزن المصالح الفعلية الحقيقية والشرعية والإنسانية لأمننا القومي في سورية، ولكن أن أزنها على أساس الخطّ الأساس الذي رسمته، وهو البحث عمّا هو أفضل لمصلحة أمن أمريكا والتأكد من أنني لا أتخذ قرارات مرتكزة على أمل وعلى صلاة، بل على تحليل صلب بمصطلح ما يجعلنا أكثر أماناً، ويكفل استقرار المنطقة’.

كذلك اعتبر أوباما أنّ استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية ما يزال مسألة ‘تصوّر’، أي أنه احتمال ‘انطباعي’ فقط، وليس واقعة ملموسة ومرئية، تستند على أدلة مادية قاطعة. الإدارة، استطراداً، ليست متأكدة بعدُ، أو ليست متأكدة نهائياً وقطعياً، من أنّ النظام السوري قد تجاوز ذلك الخطّ الأحمر الشهير. لهذا يصعب على البيت الأبيض ‘تنظيم تحالف دولي’ حول أمر ‘مُتصوَّر’ فقط؛ و’لقد جرّبنا هذا من قبل، بالمناسبة، فلم يفلح على نحو سليم’، قال أوباما، في إشارة صحيحة إلى الخطأ الذي ارتكبه سلفه جورج بوش الابن في العراق. كان مدهشاً، مع ذلك، أنّ ذلك المنطق التأويلي اتكأ على منطق تبريري ينسفه، أو يبطل سلامته: أنّ إدارة أوباما تقرن القول بالفعل حين تتيقّن، أو حين تعلن اتخاذ موقف محدد، والدليل على ذلك ما فعلته مع أسامة بن لادن، ومعمّر القذافي!

والحال أنّ أيّ خطّ أحمر، لأيّ سلاح كيميائي أو جرثومي، لم يكن ذريعة أوباما في التعجيل بتصفية بن لادن، أو في في قيادة تحالف أطلسي ضدّ القذافي؛ وكلا المثالين لا يضيف جديداً في تثبيت مصداقية أوباما، رئيس القوّة الكونية الأعظم؛ وليس لأيّ منهما، أيضاً، تأثير مباشر حول اتضاح أو غموض السياسة الأمريكية حول سورية، بافتراض وجود سياسة كهذه أصلاً. من جانب آخر، أما تزال إدارة أوباما تواصل التشكيك في واقعة استخدام الأسلحة الكيميائية، بعد مجازر الغوطة؛ أم أنّ مئات القتلى، اختناقاً أو شللاً، وعشرات المشاهد الفظيعة التي تفحصها خبراء الأسلحة الكيميائية وقادتهم إلى الجزم باستخدام تلك الأسلحة… لا تشكّل، بعدُ، أدلة ملموسة قاطعة؟

ولا مفرّ، اليوم، من استعادة افتراض سابق، حوّلته مجازر الغوطة الكيميائية إلى حقيقة ساطعة، أخلاقية وإنسانية وسياسية في آن معاً: إصرار أوباما على حصر الخطّ الأحمر في استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية، جعل الأسد يعطي لذاته كلّ ضوء أخضر ممكن، لاستخدام كلّ سلاح، من المدفعية الثقيلة، إلى القصف الجوي، فالبراميل المتفجرة وصواريخ ‘سكود’، مروراً بمجازر العقاب الجماعي ومذابح التطهير الطائفي. ولأنه عبر كلّ، وأيّ، خطّ أحمر في ارتكاب الفظائع بحقّ الشعب السوري، فإنّ الأسد بلغ تلك المرحلة التي بات الوصول إليها محتماً: أن يختبر إدارة أوباما في خطها الأحمر، ذاته، فلا يستخدم الأسلحة الكيميائية على هذا النحو الهمجي والوحشي الأقصى، فحسب؛ بل أن يفعل فعلته على مبعدة كيلومترات قليلة من فندق الـ’فور سيزن’، حيث يقيم الفريق الأممي المكلف باستقصاء استخدام الأسلحة الكيميائية!

وعلى شاكلة أوباما، ورهط المنافقين من ‘أصدقاء سورية’، ثمة من يتساءل ـ جاداً، بعد كلّ تلك المشاهد الهولوكوستية في الغوطتَين الشرقية والغربية ـ عن غرابة اختيار النظام لهذا التوقيت بالذات، حين تكون الأنظار معلقة على أعمال فريق التفتيش الأممي. تُنسى، هنا، اعتبارات الذعر الثلاثة التي سيقت في الفقرات الأولى من هذه السطور؛ مثلما تُسقَط من الحساب تلك الخيارات الانتحارية التي لم يتوقف النظام عن الاستقرار عليها، منذ انطلاقة الانتفاضة الشعبية، في آذار (مارس) 2011؛ وتُغفل، أخيراً، حقائق سيناريوهات التصعيد الهوجاء التي صار النظام أداة تنفيذها، لصالح موسكو وطهران، والنيران التي صارت سورية باحة إشعالها بالنيابة عن إسرائيل.

ويبقى أنّ حساب قاصفي أطفال سورية بالأسلحة الكيميائية ليس في واشنطن أو باريس أو الرياض أو الدوحة أو اسطنبول، ذات يوم آت لا ريب فيه؛ بل في عين ترما وزملكا وعربين وحمورية، وسائر القرى والبلدات والمدن السورية التي كانت ضحية مرور البرابرة الجدد، في تاريخ سورية العريق العتيق.

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

بيان من المنبر الديمقراطي السوري

قامت قوات النظام المجرم صباح اليوم بقصفٍ عنيف على الغوطتين الشرقية والغربية بصواريخ أرض أرض محملة بالغازات السامة .
مما أدى إلى إرتقاء مئات الشهداء غالبيتهم من الأطفال و النساء , وتسبب القصف بإصابة ما يقارب الألف مدني .
و يستمر النظام في بطشه و يستخدم كل ما يملك من الأسلحة الفتّاكة و المحرّمة دولياً ضد المدنيين الآمنين , متجاهلاً بذلك كل التحذيرات الانسانية التي وجّهت إليه من الأمم المتحدة و القوى الإقليمية و العالمية .
و إننا في المنبر الديمقراطي السوري نتوجه إلى فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة المعني بالخروقات الكيميائية من قبل أطراف الصراع أن يزور المواقع المستهدفة في الغوطتين و على وجه السرعة , و نطالب بفتح ممرات إنسانية لضمان وصول المساعدات الطبية التي سبب نقصها وفاة العديد من المدنيين الأبرياء كما أننا نحمل كل من يدعم النظام السوري المسؤلية الكاملة عن الجرائم البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية .
المجد لشهدائنا و الحرية للشعب السوري المناضل
المكتب الإعلامي 21-8-2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى