صفحات العالم

مقالات تناولت موقف أوباما الأخير من الازمة في المنطقة

 

 

لولا الملامة..يا هوى أميركا/ محمّد علي مقلّد

، ومن يريد الاستقواء بها من دون مقابل ، ومن يرى فيها شرا لا بد منه ، الخ ، الخ . شبكة معقدة من العلاقات والمواقف يدخل حابلها بنابلها و تبدو كأنها غير متناسقة وخالية من أي منطق .

في بداية الربيع العربي بدا الموقف الأميركي مرتبكا بفعل المفاجأة ، إذ لم يكن ما حصل في تونس وبعدها في مصر في حسبانهم. ثم تأكد ارتباكهم حين رحبوا بمجيء الاسلاميين إلى الحكم ، وحين حصروا تدخلهم في ليبيا في نطاق ضيق جدا وغير مباشر ، ثم حين حل الجيش محل الإخوان . مع أن هذه الأحداث أربكت مواقفهم فقد كانوا مطالبين بتقديم الدعم لحركة التغيير الديمقراطي.

لم يكن الارتباك حالة أصابتهم وحدهم، بل أصيب معهم تيار الممانعة بقيادة النظام السوري. ذلك أن هوية الربيع لم تكن واضحة في البداية، وتوسمت الحركة القومية واليسارية خيرا في انتفاضتي تونس ومصر، واغتبط الرئيس بشار الأسد وظن نفسه ونظامه في منأى عن حركة الشارع المطالبة بإسقاط النظام، أو ظن أنها تستهدف الأنظمة “الاستسلامية” دون تلك التي تعتمد نهج الممانعة، الاسم المستعار للاستسلام المؤجل.

أخذت تتضح شيئا فشيئا أهداف الربيع المتمحورة حول فكرة الديمقراطية ومحاربة الاستبداد وإسقاط أنظمة الجمهوريات الوراثية، ويتوضح بالتوازي موقف أميركي متضامن، لكن بحذر، مع موجة الربيع التي بلغت ربوع الشام ، وأشعلت النار في ثوب النظام البعثي الذي تحصن وراء بقايا محنّطة من الحركة القومية واليسارية المحلية والعالمية ، وقاد أوركسترا لم تجد برنامجا لها غير التشنيع على الديمقراطية وشتم دعاتها والمروجين لها ومموليها ومؤيديها، فنالت الولايات المتحدة الأميركية القسط الأكبر من الشتائم ، وقسما كبيرا من الملامة على عدم انخراطها الجدي في مساعدة الثورة السورية، وعلى ممالأتها النظام وسعيها إلى إطالة عمره استجابة لرغبة اسرائيلية، وعلى تراجعها عن قرارها بتوجيه ضربات جوية ضد جيش الأسد، مكتفية بتدمير ترسانة سلاحه الكيميائي .

ظل الموقف الأميركي بليدا حتى بعد رجحان كفة التيارات الأصولية أو بحجة ذلك ، ولم تُجده خشيته إلا الوقوع ضحية المفاجأة بإعلان دولة الخلافة الاسلامية وتنصيب خليفة على مساحة من الأرض شاسعة بين باديتي الشام و العراق، حتى أنه لم ينج من تهمة المساعدة على قيام هذا التيار السلفي الأصولي، وهي تهمة طالت الجميع ، الخليج العربي وإيران والنظامين العراقي والسوري ، في معمعمة من التحليلات المتضاربة التي لا تستقيم مع أي منطق. لكن غبار المواقف انجلى عن قرار أميركي بمواجهة خجولة للتمدد الأصولي وبالمساعدة على وضع حد له.

أميركا الأمبريالية، رأس النظام العالمي الاستعماري، قائد عمليات النهب المنظم لخيرات الأرض، وكل ما قيل وما يمكن أن يقال فيها، هل يمكن أن تكون هي المنقذ ! قيل إنها هي التي أنقذت الكويت من سطوة صدام حسين ثم أنقذت العراق من استبداده ، وها هي اليوم تخوض حربها الثالثة هناك، بحسب تعبير ساطع نور الدين. لكنها هي ذاتها كانت قد سلمت السلطة للأصوليات ، وهي التي تواطأت مع النظام الإيراني على تعيين المالكي ثم على سحب التغطية عنه. كيف تكون مع الأصولية وضدها، وكيف تكون مع الديمقراطية ولا تعتمد الآليات المناسبة لتطبيق الديمقراطية، وكيف تكون مع حكم الإخوان في مصر ثم ضده ، وضد النظام الإيراني وتنسق معه إلى حد إغضاب حليف أساسي لها في المنطقة، المملكة العربية السعودية ؟ في غمرة هذه المواقف المتناقضة، هل يمكن أن تكون منقذا؟

الذين يروجون لعداوة أميركا هم أصحاب البراميل المتفجرة على رؤوس الشعب، وأصحاب السلاح الكيماوي البعثي في سوريا والعراق ، والاشتراكيون الذين لم يروا إلا وجه الرأسمالية البشع ، والقوميون الذين تجمدت ذاكرتهم عند مرحلة استعمارية من تاريخنا الحديث، والأصوليون الذين يعشش الجهل في رؤوسهم .

أميركا ليست عدوا ولا صديقا. هي دولة عظمى يعرف حكامها كيف يدافعون عن مصالحها، أما نحن فحكامنا مشغولون بتنظيم حروبنا الأهلية. مع أنها الحليف الدائم للدولة الصهيونية ، إلا أنها حليف محتمل لسواها ، فهي لم تجد حرجا في احتضان الاسلام السياسي ومساعدته في مواجهة المد الشيوعي ، ولا في تشجيع العراق على شن حربه ضد إيران، ومساعدة إيران للنهوض من كبوتها العسكرية أمام العراق ، ولا في تقديم كل الدعم لوصاية سورية على لبنان عملت على تدميره شعبا ودولة وكيانا، الخ ، الخ .

لم تعد مقنعة أساليب التهويل والتخويف من الرأسمالية والاستعمار والامبريالية، لأن هذه قد تكون مخاطر محتملة وقد لا تكون، ولا هي مقنعة نظرية المؤامرة وتحميل الآخرين وزر ما يصنعه التخلف السياسي في بلادنا. الماثل أمامنا اليوم هو خطر البراميل المتفجرة والسواطير والعقول المتعفنة وعودة شريعة الغاب ولغة السحل والمحق والسمل والإبادة والتصفيات الجماعية الدينية والاتنية. هذا الخطر هو العدو حتى لو كان عربياً . والصديق هو من يساعدنا على درئه ، حتى لو كان أجنبياً.

المدن

 

 

 

رعاية أميركية للإرهاب…/ خالد غزال

تدعي السياسة الأميركية، جمهورية أكانت أم ديموقراطية، بأن استراتيجيتها الأمنية والسياسية تقوم على مكافحة الإرهاب في العالم. تبلورت هذه النظرية بعد هجمات أيلول (سبتمبر) 2001، مما استوجب إعلان الإدارة الأميركية ان التصدي للإرهاب يجب ان يكون في عقر داره، بما يستدعي حرباً مسبقة عليه قبل ان يعود الى الأرض الأميركية. واستناداً الى ذلك، خاضت الولايات المتحدة ومعها المعسكر الغربي معركة احتلال افغانستان وإسقاط نظام طالبان، ثم احتلال العراق وإنهاء نظام صدام حسين. فهل صحيح ان الولايات المتحدة مناهضة للإرهاب؟ وهل أمكن لحربي افغانستان والعراق إبعاد شبح الإرهاب عن الاميركيين والأوروبيين؟ الجواب يشي بالسلبية ويطلق اتهامات في وجه الولايات المتحدة في وصفها راعية أساسية للإرهاب، بل ومولّدة له.

اذا كان تنظيم «القاعدة» قد شكل رأس الحربة الإرهابي ضد الولايات المتحدة، فإن هذا التنظيم ولد وترعرع ونما واشتد عوده برعاية أميركية صافية. رعت أميركا هذا التنظيم واستخدمته في الحرب ضد الاتحاد السوفياتي السابق في افغانستان، ونجحت في تمكينه من توجيه ضربات أساسية ساهمت في إسقاط النظام. وظفت العداء للشيوعية والدفاع عن الإسلام لخلق أوسع تأييد اسلامي «للقاعدة». بعد انتهاء الحرب التي خلفت وراءها آلاف من أعضاء التنظيم الذي يحتاجون الآن الى عدو، فتوجه هؤلاء الى الأميركي الذي انتج التنظيم، وخلق الوحش، فاذا بهذا الوحش يرتد عليه ويسبب له الخسائر المعروفة.

على امتداد عقود سابقة، مارست السياسة الأميركية دعماً مطلقاً للأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، ولم تستنكر يوماً سياسات القمع والإبادة التي مارستها أجهزة الامن العربية ضـــد الشعوب والمعارضين للنظام. هذه السياسات العربية كانت تؤسس لدى أجيال من الشباب روح الكراهية والحقد على الأنظمة وداعميها، يعزز هذا العنف الداخلي حالات الفقر والتهميش والبطالة والأمية، وهي كلها تربة خصبة لإنتاج التمرد والإرهاب.

رعت الولايات المتحدة إرهاب الدولة في أكثر من مكان. في اسرائيل مارست الولايات المتحدة سياسة دعم مطلق للإرهاب الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني منذ قيام الدولة العبرية، عطلت أي قرار يصدر عن الأمم المتحدة في إدانة جرائم اسرائيل، ولم ترَ في قتل الآلاف وجرح مئات الآلاف سوى عملية دفاع عن النفس، فيما يمثل النضال الفلسطيني من أجل الحد الأدنى من حقوقه بالنسبة الى أميركا أعمالاً إرهابية. كان مثيراً للسخرية استنكار اميركا لضرب مدارس الأونروا في العدوان الأخير على غزة، فيما وضعت اميركا جسراً جوياً لإرسال السلاح الثقيل لاسرائيل لتواصل قصف المدنيين في غزة. فهل من الغريب ان تفرز هذه السياسة إرهاباً في المجتمع الفلسطيني والعربي؟

تحت حجة كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، احتلت الولايات المتحدة هذا البلد، ودمرت مؤسساته العسكرية والمدنية والإدارية خصوصاً الجيش وأجهزة الشرطة. خلقت الفوضى في كل مكان في العراق، ومارست سياسة تغليب فئة على فئة، مما أيقظ أحقاداً طائفية ومذهبية واثنية. في المقابل، كان انهيار الجيش فرصة ذهبية لخروج عصابات وقتلة جرى استخدامهم من هذه الفئة او تلك في الصراع الذي انفجر خلال السنوات الماضية، وكان الإرهاب ممارسة مشتركة من جميع الأطراف، عبر السيارات المتفجرة وعمليات القتل والنهب وغيرها.

تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية مركزية في الإرهاب المنفجر على الأراضي السورية. وضعت السياسة الأميركية هدفاً مركزياً يقوم على تدمير سورية وتمزيق مجتمعها وإنهاء جيشها، خوفاً من سقوط النظام ومجيء نظام يكون معادياً فعلاً لا قولاً لاسرائيل. اعتمدت سياسة التدمير على تصعيد الحرب الأهلية في سورية التي كان بشار الأسد قد اتخذها وسيلة لإنهاء الانتفاضة. عملت المخابرات الأميركية على تشجيع انتقال التنظيمات الإرهابية الموجودة في العالم العربي وخارجه، لتأتي الى سورية وتتقاتل على ارضها ضمن مبدأ ليفنوا بعضهم بعضاً بدل ان يأتوا الينا. خلافاً لادعاءات كاذبة عن التخلي عن بشار الأسد، كانت السياسة الأميركية، ولا تزال، الداعم الأول له، لأن وجوده ضمانة لتواصل الحرب الأهلية في سورية.

اما الدعم الفاقع للارهاب فهو ما ظهر في السنوات الأخيرة خصوصاً بعد قيام انتفاضات في بعض الأقطار العربية. منذ سنوات دخلت الإدارة الاميركية في علاقات مع تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، وفق نظرية ترى ان مصالح الولايات المتحدة تتحقق من خلال دعم الإسلام السياسي في الوصول الى السلطة. هكذا أعطت دعمها المطلق لحكم «الإخوان» في مصر، وعندما سقط نظام «الإخوان»، ظل الأميركيون على دعمهم لهم في وجه النظام الجديد. على رغم انتقال «الاخوان» الى ممارسة إرهاب عار في مصر بعد سقوطهم، إلا ان الموقف الأميركي ظل مراهناً على عودتهم الى السلطة، فتغاضى عن أعمالهم الارهابية.

اذا كانت الولايات المتحدة ترى اليوم في تنظيمات الإسلام السياسي، المنتشرة في كل الأرجاء العربية، المصدر المركزي لتفشي الإرهاب، فإن هذه التنظيمات بمختل اتجاهاتها هي الأبنة الشرعية لتنظيم الإخوان المسلمين، وهي جميعها ولدت من رحمها. ان المراهنة على «الإخوان» وتنظيماتهم هو مدخل لتصعيد ظاهرة الإرهاب الذي لن تنجو منه اميركا وحلفاؤها.

* كاتب لبناني

الحياة

 

 

أوباما الرئيس المربّي/ دلال البزري

في الأمس، عندما كنا خارجين إلى المستقبل عبر استقلالنا من الإستعمار القديم، كانت أميركا، وريثته، تفعل كل ما يلزم لكي ننضم إلى محورها: تهديدات عسكرية، ضغوط اقتصادية أمنية وعسكرية… كل شيء من أجل ان نتخلى عن فكرة الإستقلال وننضم إلى محورها، إلى مناطق نفوذها، التي كانت تحسبها بدقة وبقوة، لتواجه النفوذ السوفياتي المنافس لها. كان هذا مع نهاية الحرب العالمية الثانية واستقرار الكوكب الأرضي على توازن بين كبار المنتصرين فيها، أميركا وروسيا؛ سميت حربا باردة، تخلّلتها جهود أميركية، وروسية، حثيثة، لشلّ قدراتنا عل بناء دول، كما كنا نتمنى. فكانت تنضم دول وحركات سياسية من بيننا إلى قافلة طويلة من مقدمي الولاء لأميركا، والمتنعمين بكرمها الإمبريالي.

الآن، تغيرت الأوضاع. الولاء لأميركا، وليس العداء لها فقط، لم يعد ينفع شيئاً. ليس لأن أميركا دخلت في طور الكمون فحسب، إنما أيضاً لأنها لم تعد ترى فائدة من تدخلاتها العسكرية أو الديبلوماسية، خصوصا في المشرق والمغرب العربيَين:

في مصر، أيدت الإخوان المسلمين، لأنها وجدتهم أصحاب شعبية ساحقة، انتصروا على كل خصومهم في انتخابات نظيفة. ولكن الإخوان كانوا جاهلين في التعامل الديموقراطي إلى حدّ أن العسكر، منافسيهم، تمكنوا من انتزاع الإجماع الشعبي حولهم، فأسقطوهم، بلمحة بصر، بعنف شديد يؤسس لعنف مقبل ابشع منه، ولاقتصاد مترنح، يحقن بمساعدات مالية ضخمة تقوض كل قراراته.

في ليبيا، أشركت أميركا أوروبا في حملة عسكرية جوية صارمة، لا نعرف حتى الآن عدد قتلاها، كانت ترمي إلى إسقاط القذافي؛ فخرج “المجاهدون، السلفيون”، الموزَّعون بين عصبيات مدن ومناطق وقبائل، وكان أول انتصاراتهم الهجوم على السفارة الاميركية في بنغازي، وقتل سفيرها كريستوفر ستيفنز، المحبّ لليبيا والعرب، ومعه موظفين في السفارة؛ ومذذاك والميليشيات الجهادية والسلفية تقاتل بعضها البعض، وتقاتل “البرلمان” المنتخب.

وبعدما غزت قواتها العراق وحطمت جيشه، المحطم أصلاً، تعبيراً عن آخر نفس امبريالي ما زال قابعاً في دفاترها القديمة، تركته لحكومة أحبت أن تعتقد بانها موالية لها، او غضت الطرف عن صلة رجالاتها التاريخية بإيران… ها هو هذا العراق يتخبّط بين حكومة غالت في مذهبيتها حتى كانت سببا في احتضان السنة العراقيين لـ”داعش”؛ فكان ما يعرفه كلنا من أهوال بين تقسيم وتهجير وجرائم كبرى ضد الإنسانية. ماذا تفعل أميركا بهذه البلدان، بعدما سخت بالغالي والنفيس من أجل “ترتيب” أوضاعها ووضعها على سكة أشبه بالطبيعية؟ بالكاد تتفاعل مع صرخات إنسانها المنكوب على يد “داعش”، أو تنصت، أخيراً، إلى رجاء الكرد بدعم البيشمركة التي تواجه “داعش” على مبعدة من أربعين كلم بعيدا عن عاصمتهم. ولكنها هذه المرة، تمسك الشوكة والسكينة، وترسل طائرات بلا طيار لقصف مواقع داعش، فضلا عن بضع مروحيات تسقط الماء والأغذية للأيزيديين، اليائسين المحاصرين في جبل سنجار. فتخلط بذلك اوراقا كثيرة، منها ورقة النظام السوري، الذي وجد نفسه فجأة في حلف موضوعي مع أميركا في حربه ضد الإرهاب.

كانت أميركا في ما مضى كريمة مع حلفائها، أو المذعنين لمشاريعها. تضخ عليهم الأموال والاستثمارات والمشاريع، تقتل خصومهم، خصومها، وتقدم الخبرات والتقنيات العالية. كانت أميركا عطوفة على التابعين لها، شرسة مع أعدائهم. الآن صارت أميركا غير مبالية بحلفائها، تكاد تسمع أصواتهم، ولا تتردد في تقديم الدعم الموضوعي أو غير المباشر لخصومها التقليديين؛ وللمرة الأولى في تاريخها، وبضمير مرتاح على ان لا تكون قد “أخطأت” أيضاً، هذه المرة، في تدخل عسكري تكرهه الشعوب والرأي العام الدولي. لم يبق حليف أكيد لأميركا الآن غير إسرائيل، وربما في المستقبل، إيران، المرشحة المحتملة: ذلك ان الأولى قوية بذاتها واقتصادها وعسكرها، معتمدة على نفسها وعلى شبكاتها الخارجية المنظمة، هي الأخرى؛ وإيران، التي حلت بمفردها صراعها الداخلي على السلطة، واستقوت بالنووي وفلسطين، فأحرزت دورا في بلداننا، ضعف قليلاً بعد “انتصارات” داعش الميدانية… ولكن مع ذلك، لا يمكن لأميركا غير أن تقع في إغراء إشراكها في دورها.

نحن أيضا ساعدنا اميركا على أن تتغير، وليس فقط الضعف الذي انتابها. في مقابلة مع الصحافي الأميركي توماس فريدمن (صحيفة “نيويورك تايمز”)، يكرر باراك أوباما لثلاث مرات فكرة ان أميركا لا “تستطيع ان تفعل لهم (أي العراقيين) ما هم غير مستعدين أن يقوموا به من أجل أنفسهم”؛ وذلك ردا على الصحافي الذي ألحّ عليه بدوره عن سبب عدم تدخل أميركا في العراق أو سوريا أو غيرهما من أوطان الحديد والنار. وعن العراق أيضاً، يردد بصراحة بأنه لن يكون شريكا لحكمه إلا إذا استطاع أن يبني قوة أمنية غير طائفية، وتأليف حكومة جامعة للشيعة والسنة والكرد (بعدما كان بول بريمر، حاكم العراق الاميركي بعد غزوه، رتب فيه حكم التقسيم الطائفي والعرقي…). هذه اللهجة التربوية البالغة الحكمة والتبصر، أين منها تهديدات جورج بوش الابن باجتياح العراق لمجرد اليقين الكاذب بأنه يملك أسلحة دمار شامل…؟ مفارقات أميركا لن تنتهي إلا عندما تلبس صراحة ثوب زمنها الجديد، ولا نكون مجرد مستنكرين له، لمجرّد اننا اعتدنا ان نكرهها

المدن

 

 

أميركا وظل الخليفة/ مصطفى زين

تنازل المالكي. تنفس الأكراد والولايات المتحدة وإيران وتركيا والمرجعية… إلى آخره. انتقل الحكم من زعيم إلى آخر في حزب «الدعوة». هو العرف في عراق ما بعد الاحتلال. عرف كرسته المحاصصة وتوازن القوى الطائفية والإثنية. وتحرص عليه القوى الداخلية والخارجية. ويقاتل تنظيم «داعش»، بدعم إقليمي لتغييره. فهل تغيير المالكي سيحوّل العراق إلى واحة للديموقراطية، وسط هذا البحر من الدماء في الشرق الأوسط الجديد؟

لنبدأ بالوضع العراقي في عهدي المالكي. وصل الرجل إلى السلطة بدعم مذهبي طائفي. كان الأميركيون ما زالوا في العراق يتحكمون بكل شيء. بنى بمساعدتهم جيشاً من العاطلين عن العمل لاستيعاب الشارع. طبق نصاً دستورياً يقضي باجتثاث البعث، جسدياً وفكرياً. أحال الضباط القدماء على البطالة. شكل عدد كبير منهم تنظيمات مسلحة. بعضهم قاتل القوات المحتلة. وبعضهم انضم إلى عصابات القتل والترويع. واجه «القاعدة» بالتعاون مع «الصحوات» والأميركيين. لكن زعماء الطوائف رأوا في «الصحوات» منافساً لهم على الزعامة فقاطعوه أو حاربوه. في فترة حكمه الأولى كان الأميركيون يضبطون إيقاع الحراك السياسي والاقتصادي مباشرة في بغداد. كانوا يشرفون معه على توزيع «الغنائم»، حتى عمّ الفساد كل مفاصل الدولة. وزراء ونواب ومسؤولون أثروا على حساب الشعب. في فترة حكمه الثانية كان إشرافهم من بعيد، أو بواسطة سفارتهم و»أصدقائهم». وهذا لم يكن سراً لا في العراق ولا في الولايات المتحدة.

في معنى آخر، ليس الفساد ولا سوء الإدارة ولا التفرد بالسلطة ولا السلوك المذهبي ما أغضب الأميركيين وجعلهم ينقلبون على المالكي، فهذا آخر همهم، وهم شركاء فيه. أغضبهم رفضه توقيع اتفاق لإقامة قواعد لهم في بلاد الرافدين، ورفضه إعطاء حصانة لجنودهم. وإصراره على التحالف مع النظام السوري، وبالتالي مع إيران. ثم رفضه تحويل العراق إلى حديقة خلفية لتركيا. وعدم تطبيقه المادة 140 من الدستور التي تنص على إجراء استفتاء في المناطق «المتنازع عليها» مع الأكراد لإلحاقها بإقليمهم، خصوصاً كركوك… وكان أن أفلت تنظيم «داعش» من القمقم ليجتاح ثلث العراق، من دون أن يتحرك أحد، حتى وصل خطره إلى إقليم كردستان فبدأ التسابق على تزويد الأكراد ما يحتاجونه من أسلحة في صفقات ستدفع ثمنها بغداد.

الآن تنحى المالكي، وعلى العبادي الذي حلّ مكانه تنفيذ مطالب داخلية وخارجية كثيرة. داخلياً المطلوب منه تشكيل حكومة منسجمة، أي إرضاء كل الطوائف والكتل والعشائر والأحزاب. عليه أن يرضي آل النجيفي في الموصل. والحركات الإسلامية في الأنبار، والأحزاب الشيعية وآل الصدر والحكيم في بغداد والجنوب. والعشائر وبطونها وأفخاذها، فضلاً عن حزبه وزعمائه. وعليه أن يحرر البلاد من «داعش» وأخواتها. وأن يحارب عزة الدوري والبعث وتنظيم الضباط في الجيش السابق. وأن يتنازل للأكراد عن كل ما يضمن للعراق سيادته على أرضه ونفطه وثرواته. وقبل كل ذلك، وبعده، فك التحالف مع الأسد وإيران، والسير بالحلف الذي تشكله تركيا أردوغان. أي المطلوب منه أن يكون شيعياً، كردياً، سنياً، أميركياً، تركياً، إيرانياً. أن تكون له كل هذه الهويات كي لا يكون عربياً من العراق. فهل يستطيع؟

الحقيقة أن المطلوب في العراق، كي يكون وطناً مستقلاً للجميع، ليس تغيير الشخص بل إعادة النظر في الدستور والأنظمة، وإلغاء المحاصصة الطائفية والإثنية، وإلا فـ»داعش» سيفرخ «دواعش»، وظل الخليفة سيمتد إلى كل الإقليم، فيما أميركا ستبقى وراء المحيطات لكنها موجودة في كل بيت في بلاد ما بين النهرين.

الحياة

 

 

 

الضرب في العراق لا يعوّض الرسوب في سورية/ خير الله خير الله

كان رسوب باراك أوباما في سورية وليس في أيّ مكان آخر. فالعراق بتعقيداته ورثه عن سلفه جورج بوش الابن. أمّا سورية، فقد تطورّت أزمتها في عهده ولم يحسن في أي وقت التعاطي معها. ففي مثل هذه الأيام، قبل سنة بالتمام والكمال، استخدم النظام السوري السلاح الكيميائي في حربه على شعبه الثائر منذ ثلاث سنوات وخمسة أشهر.

لم تكن تلك المرّة الأولى التي يلجأ النظام إلى هذا النوع من السلاح. لكنّها كانت المرّة الأولى التي لم يكن هناك أدنى شكّ من أيّ نوع كان لدى المنظمات الدولية المختصة بأن النظام استخدم هذا السلاح. استخدمه بوقاحة ليس بعدها وقاحة، وقتل مئات السوريين في وقت بدا فيه أنّ الثورة السورية كانت على قاب قوسين أو أدنى من تحرير دمشق.

تجاوز النظام ما سمّي «الخط الأحمر» الذي وضعه له الرئيس باراك أوباما الذي تبين لاحقا أن كلّ تحذيراته من استخدام السلاح الكيميائي كانت كلاما بكلام. كانت تحذيرات أوباما كلاما فارغا لا أكثر. قبل اوباما الاستعاضة عن توجيه ضربة للنظام السوري بوعد روسي يقضي بتخلي النظام عمّا يملكه من اسلحة كيميائية. ماذا كانت نتيجة ذلك؟

كانت النتيجة أن الجميع فهموا الرسالة التي يعنيها «الخط الأحمر» في مفهوم أوباما. فحوى الرسالة أنّ هذا الخط يمكن أن يكون بكلّ الألوان باستثناء اللون الأحمر. فهم الجميع أن أوباما رسب في الامتحان السوري وأنّ رسوبه كان ذريعاً.

يحاول الرئيس الأميركي هذه الأيّام استعادة هيبة أميركا في العراق عبر ضربات جوّية يوجّهها إلى «داعش» في العراق. مثل هذه الضربات صارت بدلا عن ضائع، ليس إلّا، في ضوء ما حصل في سورية منذ قرّر باراك أوباما الاستسلام لفلاديمير بوتين بدل الانتهاء من بشّار الأسد ونظامه الذي تسيطر عليه ايران سيطرة كاملة.

ليست «داعش» سوى ابن غير شرعي ولد من رحم السياسة الأميركية. الوالدان معروفان وهما الأجهزة السورية والإيرانية. الأكيد أن الكلام الذي ورد عن اعتراف هيلاري كلينتون بذلك في مذكراتها التي صدرت حديثا لا ينمّ سوى عن جهل صادر عن ناشري الكلام. إنّه جهل ناجم عن شغف معظم اللبنانيين، بسطيحتهم المعروفة، بالثقافة السمعية التي تغنيهم عن القراءة ومحاولة معرفة ما ورد حقيقة في كتاب يصدر عن هذه الشخصية الأميركية المهمّة أو تلك.

لم تتحدث هيلاري كلينتون عن هذا الموضوع المرتبط بـ «داعش» في أيّ شكل من الأشكال. لكنّ ما لابدّ من ملاحظته أن السياسة التي اتبعها باراك أوباما ساعدت في قيام مثل هذا النوع من التنظيمات التي باتت تهدّد دولا معيّنة في الشرق الأوسط في مقدّمها العراق، بل تهدّد المنطقة كلّها بتركيبتها السكّانية التي عمرها مئات السنين.

كان تراجع أوباما عن توجيه ضربة إلى النظام السوري نقطة تحوّل. في اللحظة التي قرّر فيها تسليم أمور النظام السوري إلى فلاديمير بوتين، فهم الروسي والإيراني من هو الرئيس الأميركي. فهما أن لا معنى لكلّ ما يقوله وأن تهديداته وتحذيراته لا تقدّم ولا تؤخّر، بل هي للاستهلاك الداخلي الأميركي. لذلك لم تتردد روسيا لحظة، بعد فترة قصيرة، في احتلال شبه جزيرة القرم ولم تتردد بعد ذلك في اسقاط طائرة الركّاب الماليزية عن طريق الانفصاليين الأوكرانيين.

تبين بكلّ بساطة أن أوباما ليس رئيسا للقوة العظمى الوحيدة في العالم. يبدو همّه محصورا بالانتهاء من ولايته الثانية والقول للأميركيين انّه لم يدخل مغامرات عسكرية جديدة كما فعل سلفه جورج بوش الابن في افغانستان والعراق.

لم يدرك باراك أوباما أن لا شيء اسمه لا غالب ولا مغلوب في الشرق الأوسط. إذا لم تستخدم اميركا نفوذها لن تكون تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في يوم من الأيّام ولن يتوقّف حتى القتال في غزّة. من دون لجوء الولايات المتحدة إلى ما تمتلكه من قوّة ونفوذ، سيتابع النظام السوري قتل شعبه يوميا بدعم مباشر من ايران مستخدما الأسلحة التي يحصل عليها من روسيا…والبراميل المتفجّرة!

من دون القوّة الأميركية، لن يكون سلام في العراق في يوم من الأيّام. هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ستكون قادرة على المحافظة على وحدة الأراضي العراقية، بمقدار ما يعني أنّ العراق لن يكون قادرا على اعادة ترتيب أوضاعه الداخلية بطريقة سلمية في اطار فيديرالي. ستتسبّب السياسة الأميركية في مزيد من المجازر في العراق… حتّى لو لجأت إلى توجيه مزيد من الضربات إلى «داعش».

ما كان لـ «داعش» أن تتمدّد بالطريقة التي تمدّدت بها لو سمحت الولايات المتحدة بانتصار الثورة السورية بدل السير في ركاب روسيا وايران ومساعدتهما في قمع السوريين من منطلق طائفي ومذهبي بحت.

استيقظ باراك أوباما فجأة على وجود «داعش». لم يستيقظ إلّا بعد اقتراب هذا التنظيم الإرهابي من اربيل الكردية. حسنا، أن يستيقظ متأخرا خير من ألا يستيقظ ابدا. رسبت الإدارة الإميركية في الامتحان السوري. لا يمكن أن تعوّض عن هذا السقوط في أيّ مكان آخر.

هناك بكلّ بساطة ادارة أميركية لا تعرف شيئا عن الشرق الأوسط. قرّرت ادارة ظهرها له طوال سنوات. ليست «داعش» سوى نتيجة لهذا الابتعاد الأميركي عن الشرق الأوسط الذي تمثّل في الاعتقاد أن لبّ مشاكله الملفّ النووي الإيراني. الملفّ النووي ليس سوى حيلة تستخدمها ايران لتنفيذ سياسة توسّعية، قائمة على اثارة الغرائز المذهبية في كلّ اتجاه على حساب كلّ ما هو عربي في المنطقة.

كذلك، الملفّ النووي الإيراني ليس سوى ذريعة تستخدمها اسرائيل لتفادي أي تسوية من أيّ نوع كان مع الجانب الفلسطيني وللتصرّف من منطلق أنّها قوة اقليمية لا يوجد من يطرح عليها أي سؤال من أيّ نوع كان.

إننا أمام ادارة أميركية لا تفقه بألف باء الشرق الأوسط وتعقيداته. كان السقوط في الامتحان السوري دليلا على ذلك ودليلا على أنّ ليس أمام العرب بعد الآن غير أخذ امورهم بيدهم. فلو اتكل العرب، على سبيل المثال فقط، على حسن نيّة الإدارة الأميركية لكانت مصر في خبر كان… لكانت مصر الآن في يد الإخوان المسلمين الذين على استعداد لعقد كل نوع من الصفقات مع ايران ومع غير ايران من أجل البقاء في السلطة… والمساهمة في تفتيت المنطقة.

نقلا عن صحيفة “الرأي”

 

حين لا ينفع الرتق والترقيع/ نهلة الشهال

فَقَدَ الجميع، من أبناء المنطقة، كما من المتـــعاطـــين بشــــؤونها، تماسك ما يدلون به أو يقررونه بخصوصها… هذا عدا عن فقدان الحياء.

يقول الرئيس الأميركي باراك أوباما إن بلاده ستوقف العمليات الإنسانية في جبال سنجار غرب الموصل، لأنه لم يعد من حاجة لها، ليس لأنه لم يتبق ملتجئون في الجبال من الأيزيديين الذين فروا من قبضة «الدولة الإسلامية» ومن سواهم، وإنما لأن «عددهم أقل من المتوقع». حسناً! المنطق يملي العكس، والله أعلم. فقلة عددهم يُفترَض أن تسهّل مهمة إجلائهم كما خُطط له للحظة. ووجودهم، ولو كانوا بضع مئات أو بضعة آلاف، يَفترِض الاستمرار بإلقاء المساعدات لهم (من الجو!). سيُترك إذاً هؤلاء التائهون الذين لم ينجحوا في الوصول إلى أماكن آمنة فــي كردستان أو تركيا، يتدبرون أمرهم، بعدما تبين أن الخطر لا يهدد عشرات الآلاف. ما المعيار، وما الرقم المقبول لوقوع ضحايــا؟ هذا ما لم يوضحه خطاب أوباما المستند الى نتائج البحث الميداني لبعثة أرسلها البنتاغون إلى تلك الجبال الأربعاء الماضي لتقويم الموقف، وتألفت علاوة على خبراء من «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، من عشرين عسكرياً (ولمن عايش فترة الستينات، فالعسكريون الأميركيون هؤلاء يتبعون القوات الخاصة، وقد عادت إلى التداول تسميتهم بـ «القبعات الخضر» المتخصصة بـ «تدريب الجيوش المحلية» وبحروب العصابات، وكانت اكتسبت رمزياً صيتها السيء بعد تدخلاتها آنذاك في أميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا).

قرر إذاً الأميركيون ومعهم البريطانيون الذين يتحملون مسؤولية كبيرة عما آلت إليه الأمور في العراق، التوقف عن لعب دور المسعفين الإنسانيين، على الأقل، وتعويضاً، وطالما هناك عجز تام حيال الموقف. ولكن لا…

في المقابل يعلن الرئيس الأميركي استمرار القصف لإبعاد قوات «الدولة الإسلامية» عن… أربيل. أو فلنقل لرسم حدود بالنار لما يَنظر إليه الأميركيون كخط أحمر. واللعبة هنا عقيمة، حيث تُترَك السيطرة لمجموعات «الدولة الإسلامية» على مناطق واسعة من محافظة نينوى، وفي القلب منها الموصل، كما تُترَك طليقة في التوجه نحو محاور أخرى، وهو ما يبدو أنها تتهيأ له. كأنما الإدارة الأميركية استجمعت كل طاقاتها لتقول: «يمكن اللعب مع العرب، وأما الكرد فحصتنا، وهي لا تمس». وعلى أية حال، برر الرئيس الاميركي التدخل العسكري الجديد بأنه «لحماية المصالح والمنشآت الأميركية في المنطقة».

الحقيقة الساطعة تتعلق بالعجز عما هو سوى ذلك. فما يجري من أحداث كما أدوات «معالجتها»، هما معاً وفي آن، محصلة سياق كامل، ولا يقومان كمعطيات بذاتها. لذلك لا يجدي تناول الموقف من «ذنبه»، ولا انطلاقاً من اللحظة الراهنة. فمثل هذه المقاربة لا تفسِّر ولا تعالِج. وما يجري اليوم في شمال العراق مثال جيد لتبيان قصور ذلك المنطق المتكامل الذي اشتُغِل على جعله مهيمناً في شكل مطلق (في كل الميادين وليس في السياسة فحسب، ولا في ما يخص مصائر الشعوب). منطق يكتفي باستحلاب حلول «عملية»، مباشِرة وفورية، للمآسي التي يطرحها الواقع، ويطالب باقتراحات قابلة للتطبيق، عوضاً عن «التنظير». لكنه يتكشف عن عجز مهول حتى في صدد الحيز الذي اقتصر عليه، ويبدو شكلياً أو استعراضياً على عكس ما يدّعيه من براغماتية. وتميزه فعلياً قدرته المدهشة على قلب الصفحات، متجاهلاً تراكم وتفاقم المشكلات المموَّهة بهذه الصورة، إلى أن تنفجر بعنف متعاظم. يصح هذا على المشكلات العالمية، الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وهو يعلن أننا أمام مشهد أزمة كبرى وشاملة، وأنه، وربما للمرة الأولى في التاريخ الحديث، يجري التسليم باحتمال النكوص إلى الخلف والتراجع إلى وضعيات بربرية. وليس توحش «داعش» أكبر من توحش الولايات المتحدة التي ألقت آلاف الأطنان من اليورانيوم المنضب فوق العراق واستباحته بواسطة قواتها (ومرتزقة بلاك ووتر وسواها) في مجازر مشهودة (هل نسينا؟)، أو من توحش إسرائيل، الدولة المتحضرة والغربية التي تريد «اختفاء» الفلسطينيين، وتقصف تكراراً مدارس/مــلاجئ لـ «انروا» في غزة المحاصرة منذ سنـــوات، ولا أكبر من توحش الأنظمة التي تلـــقي الـــبراميــــل المتفجرة طوال أشهر أو سنوات على رؤوس السكان، أو تلك التــــي ترتكب مجازر بسيناريوات مختلفة… إلى آخر سلسلة لا تنتهي كان من الصعب قبل عقود تخيل وقوعها على هذه الصورة المتفلتة من أي ضابط، ولو كان تمويهياً.

وهذا تراجع عام قياساً الى القناعات والأفكار الإيجابية الليبرالية، والتقدمية. وهو لا يخص حالنا فحسب، على رغم دراماتيكيتها ووصولها الى مستوى الأخطار الوجودية، فلا يمكن الاستخفاف ببــــؤس الناس، المتعدد الأشكال، في البلدان المسيطرة والمتقدمة وما يعين كفقدان المعنى… وهذا موضوع أشمل، لا يهم هنا إلا بما يكشفه من تشارك في منطق واحد «بيننا» و «بينهم» (على رغم كل الفروق) يقوم على الإنكار والعجز، ويتوسل الرتــــق والترقيع، ويأمل بالنجاح بمقدار ما في تأجيل انفجار المشكلات ليس إلا.

يتأمل «الإستراتيجيون» ملياً خريطة سورية والعراق، ويلقون استنتاجاتهم عـــلى مسامع مذعورة أو يائسة. وبعضها أخــــرق يتكلم عن تقسيم جديد للمنطقة وفق تـــوافقـــات تحل محل سايكس بيكو، كأن ما يجري يخضع لخطة محكمة، مهندسة في دهاليز سرية… بينما يتكشف الواقع عما هو أخطر بكثير من «المؤامرة»، عن جدب في البنى العقلية والخيال السياسي والمجـــتمعي، وعن اهتراء في المؤسسات كافة، عسكرية ومدنية، ما يمكِّن تنظيمات كـ «داعش» وسواها، تمتلك حداً من التماسك حول فكرة (مهما بدت متهافتة أو اختزالية)، ومحركاً يستحضر السماء، من امتلاك فعالية ميدانية عالية، وجاذبية لموجات من الشباب وجدوا أنفسهم وسط خراب لا اسم له ولا أفق أمامه.

… وللنكتة، أليس من دلالات هذا الإدقاع، مسلك نوري المالكي حين واجه نفور الجميع منه (أميركا وإيران معاً، والشيعة قبل السنّة) فساوم على خروجه من السلطة شرط عدم ملاحقته ومحاكمته! وقبلها رفع لافتات في شوارع بغداد تعلن التمسك به لأنه… «ساحق داعش»، بلا خوف من المسخرة… بينما تواجه السلطات المصرية تقـــرير منظمة «هيومن رايتس ووتش» الذي توصل الى تحميلها المسؤولية عن مجزرة ميدان «رابعة» قبل عام، بالقول إن المنظمة مشبوهة (مفهوم!)، و «منحازة إلى الإخوان المسلمين». كيف؟ الله أعلم.

الحياة

 

 

 

 

 

الرئيس أوباما يتحدث إلى توماس فريدمان عن العراق وسوريا وليبيا وإسرائيل

توماس فريدمان

لا شك في أن شعر الرئيس أوباما أصبح أكثر شيباً هذه الأيام، ومن المؤكد أن محاولة إدارة السياسة الخارجية في عالم يزداد خللاً واضطراباً هي السبب في ابيضاض نصف تلك الشعرات على الأقل. (“حزب الشاي” مسؤول عن ابيضاض النصف الآخر).

لكن بعدما سنحت لي الفرصة تمضية ساعة معه أجرينا خلالها جولة أفق في قاعة الخرائط في البيت الأبيض في ساعة متأخرة من عصر يوم الجمعة [8 آب الجاري]، اتّضح لي أنه لدى الرئيس نظرة ثاقبة إلى الشؤون العالمية استمدّها من دروس كثيرة على امتداد الأعوام الستة الماضية، ولديه أيضاً أجوبة تنطوي على تحدٍّ لجميع منتقديه في السياسة الخارجية.

لقد أوضح أوباما أنه لن يدفع بأميركا نحو تدخّل أوسع نطاقاً في أماكن مثل الشرق الأوسط إلا إذا وافقت الجماعات المختلفة هناك على سياسة لا غالب ولا مغلوب التي تقوم على إشراك مختلف الأفرقاء. لن تكون الولايات المتحدة القوة الجوية لشيعة العراق أو أي فصيل آخر. وحذّر من أنه على الرغم من العقوبات الغربية، “قد يجتاح” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا في أي وقت، وفي حال فعل ذلك، “فإن محاولة استعادة علاقة تعاون ناجحة مع روسيا خلال ما تبقّى من ولايتي ستكون أصعب بكثير”. واعتبر أوباما أن التدخل في ليبيا لمنع وقوع مجزرة كان عين الصواب، لكنه أضاف أن التدخل من دون متابعة كافية على الأرض لإدارة الانتقال الليبي نحو سياسة أكثر ديمقراطية قد يكون أكثر ما يندم عليه في سياسته الخارجية.

وقد اعتبر الرئيس أنه في نهاية المطاف، التهديد الأكبر لأميركا – القوة الوحيدة التي تستطيع فعلاً إضعافنا – هو نحن. تشهد بلادنا الآن تطوّرات كثيرة – من موارد الطاقة الجديدة مروراً بالابتكار وصولاً إلى الاقتصاد الآخذ في النمو. لكنه أردف أننا لن نحقق أبداً كامل طاقاتنا إلا إذا اعتمد الحزبان الأميركيان النظرة الاستشرافية نفسها التي نطلبها من الشيعة والسنّة والأكراد، أو من الإسرائيليين والفلسطينيين: لا غالب ولا مغلوب، والعمل معاً.

وقد قال الرئيس: “تعاني سياستنا من خلل وظيفي”، مضيفاً أنه علينا أن نرى في الانقسامات المروّعة في الشرق الأوسط “تحذيراً لنا: لا تعمل المجتمعات كما يجب إذا اتّخذت الفصائل السياسية مواقف متطرفة. وكلما كان البلد أكثر تنوّعاً، يصبح أقل قدرة على اتخاذ مواقف متطرفة”.

في حين حمّل أوباما صعود اليمين الجمهوري المتشدّد مسؤولية انهيار عدد كبير من التسويات المحتملة، أقرّ أيضاً بأن الغش، وبَلْقَنة وسائل الإعلام الإخبارية، والمال غير المضبوط في السياسة – التي تشكّل المكوّنات الأساسية في منظومتنا السياسية اليوم – تقوِّض قدرتنا على مواجهة التحدّيات الكبرى معاً، أكثر مما يفعل أي عدو أجنبي.

بدأت بسؤاله، إذا كان وزير الخارجية الأسبق دين أتشيسون “قد شهد على إنشاء” منظومة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما كتب، فهل يشعر أوباما بأنه شهد على “تفكك” هذه المنظومة؟

أجاب: “أولاً، أعتقد أنه لا يمكنك التعميم في مختلف أنحاء العالم، لأن هناك عدداً من الأماكن التي تصلنا منها أخبار جيدة” مضيفاً: انظر إلى آسيا، وبلدان مثل أندونيسيا، وعدد كبير من البلدان في أميركا اللاتينية على غرار تشيلي. تابع أوباما: “لكنني أعتقد أن ما نشهده في الشرق الأوسط وأجزاء من شمال أفريقيا هو بداية انهيار منظومة تعود إلى الحرب العالمية الأولى”.

لكن أما كانت الأمور لتبدو بحال أفضل لو أننا سلّحنا الثوار السوريين العلمانيين في بداية الأحداث أو أبقينا القوات الأميركية في العراق؟ يجيب الرئيس، لو أن الأكثرية الشيعية هناك لم “تهدر فرصة” تقاسم السلطة مع السنّة والأكراد، لما كانت هناك حاجة إلى الاحتفاظ بوجود للقوات الأميركية في العراق، معلّقاً: “لو انتهزت الأكثرية الشيعية الفرصة لمدّ اليد إلى السنّة والأكراد بطريقة أكثر فاعلية، [ولم] تقرّ تشريعات على غرار اجتثاث البعث”، لما كانت هناك حاجة إلى قوات خارجية. أضاف أنه نظراً إلى عدم استعدادها للقيام بذلك، كانت قواتنا ستصبح عاجلاً أم آجلاً في مرمى النيران.

أما “في ما يتعلق بسوريا”، فقد اعتبر الرئيس أن مقولة أن تسليح الثوار كان ليحدث فرقاً “هي مقولة واهمة منذ البداية. نتوهّم إذا قلنا إنه يمكننا إرسال بعض الأسلحة الخفيفة أو حتى الأكثر تطوراً إلى معارضة كانت تتألف في شكل أساسي من أطباء سابقين ومزارعين وصيادلة وما شابه، وإنهم سيتمكّنون من محاربة دولة مدجّجة بالسلاح، لا بل أكثر من ذلك، مدعومة من روسيا وإيران وحزب الله المتمرّس في القتال”.

أردف الرئيس أنه حتى في الوقت الحالي، تجد الإدارة الأميركية صعوبة في إيجاد كادر كافٍ من الثوار السوريين العلمانيين وتدريبه وتسليحه: “ليست الإمكانات بقدر ما نتمنّى”.

أضاف أن “النقطة الأوسع التي ينبغي علينا أن نركّز عليها هي أننا أمام أقلية سنية ناقمة في العراق، وأغلبية سنية ناقمة في سوريا، في مساحة تمتد في شكل أساسي من بغداد إلى دمشق… إذا لم نقدّم إليهم صيغة تلبّي تطلعاتهم، سوف نواجه حتماً مشكلات. … لسوء الحظ، في مرحلة زمنية معينة، لم تدرك الأكثرية الشيعية في العراق هذا الأمر كما يجب. لكنهم بدأوا يفهمونه الآن. وهناك، للأسف، تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق والمشرق الذي لا يلقى، كما أعتقد، ترحيباً في أوساط السنّة العاديين”. لكنهم “يملأون فراغاً، والسؤال بالنسبة إلينا ليس فقط كيف نتصدّى لهم عسكرياً إنما كيف نخاطب الأكثرية السنية في تلك المنطقة. والتي هي الآن منفصلة عن الاقتصاد العالمي”.

هل تقدّم إيران المساعدة في هذا المجال؟ يجيب الرئيس: “أظن أن الإيرانيين أدركوا وأخيراً أن اعتماد الشيعة موقفاً متشدّداً في العراق سيكون مصيره الفشل في المدى الطويل. وهذه بالمناسبة أمثولة أوسع نطاقاً موضوعة برسم جميع البلدان: عندما تسعى للاستحواذ على كل شيء عملاً بمبدأ أن المنتصر يحصل على كل المغانم، ستنهار الحكومة عاجلاً أم آجلاً”.

قلت للرئيس إن الدول التي تسير أمورها على ما يرام، مثل تونس، نجحت في ذلك لأن فصائلها المختلفة تبنّت مبدأ لا غالب ولا مغلوب، فلم تعد بحاجة إلى المساعدة من الخارج.

علّق أوباما: “لا يمكننا أن نفعل لهم ما ليسوا مستعدّين لأن يفعلوه لأنفسهم” في إشارة إلى الفصائل في العراق. وأضاف: “يتمتع جيشنا بقدرات هائلة، فإذا دعمناه بكل ما نملك، يمكننا السيطرة على المشكلة لبعض الوقت. لكن كي يتمكن المجتمع من تسيير أموره كما يجب في المدى الطويل، على الناس أنفسهم أن يقرروا كيف سيعيشون معاً، وكيف سيستوعبون مصالح الطرف الآخر، وكيف سيتوصّلون إلى تسويات في ما بينهم. عندما يتعلق الأمر بمسائل مثل الفساد، على الشعب وقادته أن يحمّلوا أنفسهم مسؤولية تغيير تلك الثقافات… بإمكاننا مساعدتهم وبناء شراكات معهم في كل خطوة يقومون بها. لكن لا يمكننا القيام بالأمر بالنيابة عنهم”.

عندئذٍ، طلبت من الرئيس أن يشرح قراره باستخدام القوة العسكرية لحماية اللاجئين الهاربين من “داعش”، وحماية إقليم كردستان الذي يشكّل جزيرة فاضلة في العراق.

أجاب: “في الظروف الفريدة من نوعها حيث يكون هناك خطر وقوع إبادة، ويكون البلد مستعداً لقبول وجودنا على أرضه، ويكون هناك إجماع دولي قوي على وجوب حماية أشخاص معينين، وحيث نملك القدرة على القيام بذلك، عندئذٍ من واجبنا أن نتحرّك”. لكنه أضاف، بما أن الأكراد بنوا جزيرة فاضلة، علينا ألا نكتفي بالسؤال، “كيف نتصدى لداعش، بل كيف نحافظ أيضاً على المساحة المتوافرة أمام خيرة الاندفاعات في العراق. لطالما استحوذ هذا الأمر على جزء مهم من تفكيري”.

تابع أوباما: “أظن أن الأكراد أحسنوا الإفادة من التضحيات التي قدّمها جنودنا في العراق، والإقليم الكردي يُسيِّر شؤونه بالطريقة التي نتمنّاها. فهو يتحلّى بالتسامح حيال المذاهب والأديان الأخرى، وهذا ما نرغب في رؤيته في الأماكن الأخرى. إذاً نحن نعتبر أنه من المهم الحرص على حماية تلك المساحة، لكنني أشرت على نطاق أوسع إلى أنني لا أريد أن نصبح بمثابة قوة جوية موضوعة في تصرّف العراق، ولا قوة جوية للأكراد، في غياب التزام من الشعب على الأرض برص صفوفه والقيام بما يلزم سياسياً للشروع في حماية نفسه والتصدي لتنظيم داعش”.

أضاف الرئيس أن السبب وراء “عدم مبادرتنا إلى تنفيذ غارات جوية في مختلف أنحاء العراق ما إن دخل تنظيم “داعش” البلاد، هو أن ذلك كان ليؤدّي إلى رفع الضغوط عن [رئيس الوزراء نوري كمال] المالكي”، الأمر الذي كان ليشجّع، بحسب أوباما، المالكي وسواه من الشيعة على التفكير على النحو الآتي: “لسنا مضطرين في الواقع إلى تقديم تنازلات. لسنا مضطرين إلى اتخاذ أي قرارات. ولسنا ملزمين بتحمّل عناء التفكير في الأخطاء التي ارتكبناها في الماضي. جل ما علينا فعله هو ترك الأميركيين ينقذوننا من جديد. ويمكننا أن نستمر في القيام بالأمور كالمعتاد”.

أضاف الرئيس أن الرسالة التي يوجّهها إلى جميع الفصائل في العراق هي الآتية: “سنكون شركاءكم، لكننا لن نقوم بالأمور بالنيابة عنكم. لن نرسل جنوداً أميركيين من جديد لإبقاء الأمور تحت السيطرة. عليكم أن تثبوا لنا أنكم مستعدّون وجاهزون للمحاولة والحفاظ على حكومة عراقية موحّدة ترتكز على التسوية، وأنكم مستعدون لمواصلة العمل على بناء قوة أمنية غير مذهبية تعمل كما يجب وتخضع للمساءلة أمام حكومة مدنية. لدينا مصلحة استراتيجية في التصدّي لتنظيم “داعش”. لن نسمح لهم بإنشاء خلافة في سوريا والعراق، لكن لا يمكننا القيام بذلك إلا إذا كنا نعلم أن لدينا شركاء على الأرض قادرين على ملء الفراغ. كي نتمكّن من التواصل مع القبائل السنية، ومع الحكّام والقادة المحليين، يجب أن يشعروا بأنهم يناضلون من أجل قضية معينة”، وإلا “قد نتمكّن من إبعاد “داعش” لبعض الوقت، لكن ما إن ترحل طائراتنا حتى يعودوا من جديد”.

سألت الرئيس إذا كان قلقاً بشأن إسرائيل.

أجاب: “من المدهش أن نرى ما أصبحت عليه إسرائيل خلال العقود الماضية. لقد أخرجتْ من الصخر بلداً نابضاً بالحيوية وناجحاً وثرياً وقوياً إلى درجة مذهلة، وهذا شاهدٌ على عبقرية الشعب اليهودي وطاقته ورؤيته. وبما أن إسرائيل تتمتّع بإمكانات عسكرية هائلة، لست قلقاً على بقائها. أظن أن السؤال المطروح فعلياً هو كيف تؤمّن إسرائيل بقاءها؟ وكيف يمكن أن تحافظ دولة إسرائيل على تقاليدها الديمقراطية والمدنية؟ كيف يمكن الحفاظ على دولة يهودية تعكس أيضاً القيم الفضلى لمؤسّسي إسرائيل؟ وبغية تحقيق ذلك، لطالما اعتبرت أنه يجب إيجاد طريقة للعيش جنباً إلى جنب بسلام مع الفلسطينيين. يجب الإقرار بأن لديهم حقوقاً مشروعة، وبأنها أرضهم ومناطقهم أيضاً”.

ولدى سؤاله إذا كان عليه أن يُظهر حزماً أكبر في الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، من أجل التوصل إلى اتفاق على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام، قال إنه يجب أن تبدأ الضغوط من الداخل. فقد أشار إلى أن رئيس الوزراء نتنياهو “يحقق نسبة تأييد في الاستطلاعات أعلى بكثير من نسبة التأييد لي”، كما أن “هذه النسبة تعزّزت كثيراً نتيجة الحرب في غزة”، مضيفاً: “لذلك إذا لم يشعر ببعض الضغوط الداخلية، فمن الصعب أن يتمكّن من تقديم بعض التنازلات الصعبة جداً، بما في ذلك معالجة مسألة المستوطنات. فهذه مهمّة صعبة. أما في ما يتعلق بأبو مازن، فالمشكلة مختلفة قليلاً. فمن بعض النواحي، نتنياهو قوي جداً، أبو مازن ضعيف جداً بحيث يتعذّر جمعهما معاً والتوصّل إلى قرارات جريئة على غرار تلك التي أبدى السادات أو بيغن أو رابين استعداداً لاتّخاذها. يتطلّب الأمر قيادات تتطلع إلى أبعد من الغد، في صفوف الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء. وهذا هو أصعب شيء بالنسبة إلى السياسيين، أن ينظروا إلى المستقبل البعيد في مقاربتهم للأمور”.

من الواضح أن جزءاً كبيراً من مواقف الرئيس في موضوع العراق نابع من الاضطرابات التي تشهدها ليبيا جراء القرار الذي اتخذه حلف شمال الأطلسي (الناتو) بإطاحة العقيد معمر القذافي إنما من دون تنظيم مساعدة دولية كافية على الأرض لمساعدة الليبيين على بناء مؤسساتهم. وفي هذا الإطار، علّق أوباما: “سأعطيك مثالاً عن درس تعلّمته ولا تزال تداعياته مستمرة حتى يومنا هذا. إنه يتعلق بمشاركتنا في التحالف الذي أطاح القذافي في ليبيا. كنت على يقين تام من أن ما نقوم به هو عين الصواب… لو لم نتدخّل، لكان الوضع في ليبيا الآن مشابهاً على الأرجح لما يجري في سوريا. إذاً كنّا لنشهد على مزيد من القتل والخراب والتدمير. لكن الصحيح أيضاً هو أننا قلّلنا مع شركائنا الأوروبيين من شأن الحاجة إلى التدخل بكامل قوّتنا بعد رحيل القذافي. عندما يشعر الجميع بالسعادة ويرفعون لافتات كُتِب عليها: “شكراً أميركا”. كان يجب بذل مجهود أقوى بكثير لإعادة بناء المجتمعات التي لم تكن تمتلك أي تقاليد مدنية… إذاً هذا هو الدرس الذي أطبّقه الآن كلما طرحت على نفسي السؤال الآتي، “هل علينا التدخّل عسكرياً؟ هل نملك جواباً لما سيحدث بعد ذلك؟”.

المصدر: ترجمة نسرين ناضر “نيويورك تايمز”

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى