صفحات العالم

مقالات تناولت موقف أوباما من الثورة السورية

 

 

 

 

تجريبيّة أوباما/ زيـاد مـاجد

يبدو باراك أوباما في مقارباته السياسية الخارجية، الشرق أوسطية خصوصاً، رئيساً أميركيّاً يعتمد “التجريب” مذهباً، والتهرّب من الالتزامات والتمنّع عن تحديد الأهداف الواضحة أسلوباً.

فمنذ انتخابه قبل ست سنوات، اكتفى سيّد البيت الأبيض بوضع خطوط عريضة (فضفاضة) لسياسة بلاده في المنطقة، يصعب القول اليوم إن إنجازاً مهمّاً حصل في إطار أيّ منها.

فحديثه عن استبدال فلسفة التدخّل العسكري التي اعتمدها سلفه بفلسفة الديبلوماسية والحوار لا يبدو سياقاً ناظماً لسياسة واشنطن في باكستان وأفغانستان والعراق.

وقوله بالانسحاب من البلدين الأخيرين وتنفيذ معظم الانسحاب هذا يعقبه اليوم حديث عن أخطاء وعن احتمالات عودةٍ ولو مقنّنة (أو “أمنية”). وتشديده على ضرورة الوصول الى “تسوية” إسرائيلية فلسطينية يبدو حكياً فارغاً في ظل تمنّع بلاده عن الاعتراف بدولة فلسطينية وعجزها المتكرّر عن إقناع تل أبيب بتجميدٍ ولَو مؤقّت للاستيطان أو بتقديم “تنازلات” شكلية تُتيح إعادة “المفاوضات” مع الفلسطينيين.

أما تأكيده السعي للاتفاق مع الإيرانيين حول القضية النووية والتعاون الإقليمي، فما زال رغبةً واحتمالاً قد لا يسمح المتبقّي من عمر إدارته بتحقيقهما.

على أن الأهمّ ربما في تقييم السياسة الشرق أوسطية الأوبامية، هو الوقوف على شكل تعاملها مع المتغيّرات والأزمات في السنوات الأربع الماضية.

فمن “التدخّل الجوّي” في ليبيا وإسقاط القذافي ثم التردّد تجاه المسار السياسي الانتقالي وأطرافه وتركه ينهار، الى القبول بالأخوان المسلمين في مصر ثم القبول بانقلاب الجنرال السيسي عليهم، وصولاً الى تنفيذ عمليات قصف أسبوعي في اليمن بطائرات بلا طيّار بحجّة ضرب تنظيم “القاعدة” ثم العجز التام أمام انفلاش الأخير وتحوّله قوّة عسكرية تواجه الهيمنة الحوثية المتصاعدة بدعم إيراني وبتواطؤ جنرالات علي عبد الله صالح، تبدو الأوبامية نهجاً يقوم على ترك الأحداث تُملي سبل التعامل الآني معها.

والقول إن في ذلك تقصّداً يهدف الى تعميم الفوضى قول يستمدّ من مخيّلة “المؤامرات” زاداً أكثر منه توصيفاً للتردّد الدائم و”الالتباس الهدّام” الذي لم يعد يُتيح المحافظة على مروحة واسعة من الخيارات، يُقال في الديبلوماسية عادةً إن “الالتباس البنّاء” يسمح بإبقائها.

وإن عاينّا الوضع السوري، تبدو التجريبية الأوبامية جليّة أكثر وأشدّ تسبّباً بالأضرار. فالرئيس الأميركي الذي تمنّع عن كل تفاوض جدّي مع موسكو وترك الأخيرة تضع الفيتو تلو الآخر ضد القرارات الأممية الخاصة بدمشق، تمنّع أيضاً عن كلّ مواجهةٍ جدّية تُثني موسكو وطهران عن توسيع دعمهما للأسد وإنقاذه من التهالك الذي كاد يداهمه أواخر العام 2012.

فرفضُ البيت الأبيض تسليح المعارضة بالأسلحة المضادة للطائرات والدروع، واكتفاؤه بوضع خطوط حمر تغضّ الطرف عن أنواع القتل المختلفة باستثناء تلك المستخدمة الغاز الكيماوي، ثم صمته على خرق خطوطه الحمر نفسها وتراجعه عن “الضربة التأديبية” بعد مجزرة الغوطة في آب 2013، فاقمت الأوضاع المأساوية في سوريا وأمدّت النظام وحلفاءه بجرعات تفاؤل ضاعفت من عمليّات القتل التي نفّذوها.

كما أنها ساهمت، تماماً كما سياسات حكومة بغداد التي استقبل أوباما رئيسها وتعاون معه، في السماح لـ”داعش” بالصعود واحتلال مناطق واسعة في سوريا على حساب المعارضة السورية (في الأراضي التي كانت الأخيرة قد حرّرتها)، ثم في العراق. ولا يبدو القصف الجوّي الأميركي اليوم لمواقع “داعش” في البلدين سوى استمرار للتجريبية إياها إذ لا أفق سياسياً له ولا جدول زمنياً ولا ربط بالوضعين السياسيّين الشاذّين في دمشق وبغداد (على اختلافهما الكبير)، ولا أهداف واضحةً أو قابلة للتحقيق أصلاً…

بهذا، يمكن القول إن أوباما لم ينجح في التعامل مع أي من ملفّات الشرق الأوسط المتفجّرة حتى الآن.

وافتراض أنه استنزف إيران وروسيا اقتصادياً وعسكرياً افتراضٌ، رغم بعض وجاهته، لا يبدو كافياً لبناء سياسة ولا لإنتاج توازنات جديدة. كما أن تراجع علاقة واشنطن بحلفائها التقليديين (باستثناء إسرائيل) واعتبار الأمر مؤشّراً على استدارتها التدريجية صوب طهران في المعادلة المذهبية – السياسية الإقليمية الراهنة يحتاج الى تدقيق، إذ أن المسار هذا قد لا يُفضي الى نجاحات نتيجة معوّقات كثيرة، لن يكفي التجريب وحده للتعامل معها…

موقع لنان ناو

 

 

 

 

ليس ذنب أوباما/ حسام عيتاني

في منتدى عُقد في عاصمة خليجية قبل أسابيع قليلة، وبعد احتدام السجال بين المشاركين العرب والإيرانيين، تدخل مدير الجلسة الأميركي قائلاً: «أتمنى على الزملاء العرب أن يقدّروا أن إيران وُجدت هنا لتبقى». لم يعجب الكلام الأميركي المتحدثين العرب لكنه انطوى على تذكير ببداهات السياسة والتاريخ والاستراتيجيات في هذه المنطقة.

ومع انتهاء المدة المفترضة للتوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني الإثنين المقبل وبعد المفاوضات في عُمان ورسائل الرئيس باراك أوباما إلى مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي، لا بأس من التذكير ببعض البداهات هذه.

أولها أن إيران دولة مركزية في المنطقة، قبل ثورتها في 1979 بزمن بعيد. ومساحتها الكبيرة تضعها في قلب المعطى الاستراتيجي في المنطقة بغض النظر عن طبيعة النظام القائم فيها. يضاف إلى ذلك امتلاكها احتياطيات ضخمة من النفط والغاز وكتلة بشرية تمتاز بمستوى مقبول من التعليم والثقافة (مقارنة بالدول المحيطة) كما أن الدولة والبيروقراطية كبنية مستقرتان الى حد بعيد في الوعي الإيراني.

ومما يتجاهله الباحثون العرب هو أن طهران كانت على مدى عقود «شرطي الخليج» بتكليف أميركي ورضى عربي واضحين. وما زالت آثار ذلك الدور ماثلة في احتلال إيران ثلاث جزر إماراتية، رفضت الحكومة «الثورية» إعادتها متبنية تبنياً حرفياً موقف حكومة الشاه التي احتلت الجزر مطلع السبعينات من القرن الماضي.

من جهة ثانية، يقول المسؤولون الأميركيون إنهم لا يريدون العودة إلى الشرق الأوسط والغرق في مستنقعاته مرة ثانية. وأوباما برسائله الأربع إلى خامنئي وإلحاحه على التفاوض مع إيران في إطار مجموعة «5+1» وضمن الوكالة الدولية للطاقة النووية وفي المفاوضات السابقة في مسقط التي أفضت الى الاتفاق الموقع في شباط (فبراير) 2013 وما تبعه من رفع جزئي وتدريجي للعقوبات الدولية، أظهر في كل ذلك استعداده لتقديم تنازلات كبرى في سبيل إنجاز التسوية التاريخية مع الإيرانيين الذين، في المقابل، انتقلوا من حافة الانهيار التي تحدث عنها الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني إلى استعادة الأنفاس على المستوى الاقتصادي وتعليق الآمال على تغيير مسار الأحداث بعد فشلهم الأخير في العراق وسقوط الموصل.

من وجهة النظر الأميركية، تشكل إيران حليفاً يمكن الركون إليه في ضمان المصالح الاستراتيجية في المنطقة، فإيران تبدو حليفاً يمكن البناء على قوته العسكرية واستقرار الحكم فيه. ورغم كثرة التوضيحات الأميركية والإيرانية النافية لأي بحث خارج المشروع النووي الإيراني، لا يمكن القارئ أن يتعامى عن ارتباط المشروع المذكور بمجمل الوضع الإيراني وامتداداته في العراق وسورية واليمن ولبنان وصولاً الى فلسطين. وساذج من يظن أن الإيرانيين سيقدمون تنازلات مجانية في برنامجهم النووي من دون أن ينالوا الثمن المناسب الذي يضمن لهم نفوذهم وأمنهم في هذه المناطق.

الاستياء العربي ينبغي ألا يُوجه لا إلى الأميركيين ولا إلى الإيرانيين. فالجانبان يتبادلان الخدمات والمصالح وفق الحاجات والمعطيات الظاهرة. والخشية العربية من أن تكون أي صفقة مقبلة على حساب مصالح الدول العربية مبررة، لكن المسألة ليست هنا.

ورغم تعدد الإهانات التي اجتهدت وسائل الإعلام العربية في توجيهها إلى أوباما، يتعامل هذا الرئيس مع ما بين يديه من معطيات لتحقيق مصالح بلاده. وليس بين المعطيات شيء عربي يُذكر. وعلى العرب أن يسألوا أنفسهم مرة جديدة: أين كنا عندما جرت هذه الصفقات على حسابنا؟ وهذا سؤال لم يجد جواباً منذ وعد بلفور واتفاقية سايكس- بيكو وحتى اليوم.

الحياة

 

 

 

 

إيران والإرهاب والعلامة التي سيسجّلها أوباما في سنتي حكمه الأخيرتين/ رياض طباره

كون الرئيس الأميركي باراك أوباما قد أصبح بعد الانتخابات الأخيرة بطّة عرجاء لا يعني أنه، نظراً إلى الصلاحيات الممنوحة له دستورياً والمكتسبة عرفياً، محيّد عن القرار السياسي داخلياً وخارجياً. فلدى الرئيس في هذا المجال أسلحة هجومية ودفاعية مهمة ولو أنها أقل فاعلية من التي في حوزة رئيس يتمتع حزبه بغالبية في مجلسَي الكونغرس.

السلاح الهجومي الأول يتمثل في ما يسمى القرارات التنفيذية (Executive Orders) المعطاة للرئيس لتمكينه من تفعيل عمل الوزارات والإدارات التابعة له بوصفه رئيس السلطة التنفيذية، وتمكينه كذلك من تطبيق القوانين الصادرة عن الكونغرس. وتعتبر القرارات التنفيذية بمثابة قوانين الا إذا نقضها القضاء الفيديرالي. كما يستطيع عرفاً إصدار قوانين مشابهة تحت مسمى «مذكرات رئاسية» (Presidential Memoranda) لها الوضع القانوني نفسه. هذه الصلاحية لها تاريخ من إساءة الاستعمال من جانب الرؤساء وتاريخ من النقض من جانب المحكمة الفيديرالية العليا، وأوباما، رغم ذلك، وسّعها الى ما سماه «إجراءات تنفيذية» (Executive Actions) تشبه القرارات التنفيذية ولكن ليس لها فعل القانون، ولها وطأة نفسية أقل على المشترعين في مجلس النواب. وبين الحين والآخر، وبسبب المعارضة الكبيرة التي كان يواجهها في مجلس النواب، وضع أوباما إجراءات تنفيذية في إطار مذكرات رئاسية ليعطيها صفة شرعية ملتفاً بذلك حول القانون.

كما أن الرئيس يملك، وفق الدستور، صلاحية توقيع معاهدات دولية بعد استشارة مجلس الشيوخ وموافقته. غير أن صلاحياته أيضاً تشمل توقيع «اتفاقات تنفيذية» (Executive Agreements) من دون الرجوع الى مجلس الشيوخ على أن يُعلم المجلس بها بعد 60 يوماً من توقيعها.

دفاعياً، يستطيع الرئيس وضع فيتو على أي قانون من الكونغرس يرفع له للتوقيع ما يتطلب إرجاعه الى الكونغرس حيث يتطلب ثلثي أصوات المجلسين لكي يصبح نافذاً في الجولة الثانية. كما يسمح العرف للرئيس بتوقيع قوانين مع تحفظات تخوله عدم تطبيق بعض بنود هذه القوانين أو تعليق بعض القوانين المطلوب منه تنفيذها، ولكن من دون إمكان إلغائها.

في المقابل، إذا استعمل الرئيس هذه الصلاحيات في شكل تعسفي ومتماد يستطيع الكونغرس بمجلسيه محاكمته وإبعاده عن الحكم.

هذه بعض التداخلات الرئيسية بين صلاحيات الرئيس الأميركي وصلاحيات الكونغرس التي تصبح ذات أهمية بالغة عندما يتمتع الحزب المعارض في الكونغرس بغالبية في مجلسيه تخوله الوقوف في وجه الرئيس وقراراته في شكل يؤدي إلى مآزق يصعب الخروج منها، بما في ذلك عدم التوافق على موازنة في الوقت المحدد وبالتالي إغلاق الحكومة كما حصل مرات عدة في الماضي آخرها في أكتوبر (تشرين الأول) من السنة الماضية، أي في عهد أوباما نفسه، كما قد يؤدي في الحالات القصوى إلى محاكمة الرئيس قبل نهاية عهده وإقصائه.

لعل ما سيخفف من حدة المواجهة هو أن الأميركيين تعبوا من المواجهات وأنهم توّاقون لحكم أكثر فعالية من الماضي. فالكونغرس المنتهية ولايته كان الأسوأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من حيث عدد القوانين التي أصدرها ما جعل شعبيته بين الناس الأكثر انخفاضاً في التاريخ الحديث، إذ بلغت نسبة التأييد لعمل الكونغرس، في آخر استطلاع أجري قبل الانتخابات النصفية الأخيرة، 8 في المئة. ويطاول هذا التذمر الشعبي الجمهوريين كما الديموقراطيين، ما يفسر عدم تحول الناخبين في شكل ملحوظ في الانتخابات الأخيرة من مساندة حزب إلى آخر، بل اعتكف كثر عن التصويت ما يفسر بدوره نسبة المشاركة الضئيلة في الانتخابات، وهي الأقل منذ 72 سنة.

هدنة وفرصة

قد يحاول الحزبان الوصول الى اتفاقات على الأمور السهلة في بداية المرحلة لإعطاء الانطباع الجيد للناس وتسهيل بعض أمورهم. سيعطي الجمهوريون مثلاً أوباما الفرصة الكاملة التي يطلبها لتوقيع اتفاقات تجارية مع دول عدة كان الكونغرس قد ماطل فيها، علماً أن المعارضة والمماطلة كانتا من جهة الديموقراطيين أكثر بكثير من الجمهوريين. وتقول قيادات الجمهوريين إنها لن تحاول إلغاء نظام أوباما الصحّي «أوباماكير» كما يرغب المتشدّدون في الحزب، ولكنهم على الأغلب سيغيّرون بعض البنود الأساسية فيه علماً أن دعاوى أقيمت أمام المحكمة الفيديرالية العليا على دستورية تلك البنود كادت تطيح القانون عام 2012، وقد تطيحه كلياً أو جزئياً بعد أن تنتهي المحكمة قريباً من النظر في دعوى أخرى.

وستكون إحدى المواجهات الكبرى في مجال التعيينات الإدارية والقضائية التي على الرئيس أن ينال موافقة مجلس الشيوخ عليها، بما في ذلك تعيينات الوزراء إذا قرّر تغيير بعضهم (ولذلك قد يحجم أوباما عن أي تغيير في الحقائب الوزارية) والسفراء والقضاة الفيديراليين. كما ستشمل المواجهات ملف الإصلاح الضريبي الذي هو موضع خلاف بين الليبراليين واليمينيين، خصوصاً أن الديموقراطيين في الكونغرس الجديد سيكونون أكثر ليبرالية والجمهوريين أكثر توجهاً نحو اليمين.

أما المواجهة الكبرى في السياسة الداخلية فستكون من دون شك في ملف مراجعة قانون الهجرة الذي تسبب تأجيله بخسارة أوباما في الانتخابات الأخيرة أصوات كثيرين من مؤيديه التقليديين بخاصة اللاتين، إذ كان قد وعد بأن القانون الجديد سيسوّي أوضاع ملايين من العمال الأجانب غير الشرعيين الذي هم في بغالبيتهم من تلك الفئة (لا أحد يعلم عددهم الصحيح والتقديرات تراوح بين 5 ملايين و11 مليوناً)، وزيادة التأشيرات المعطاة للعمال الأجانب، وأنه سيضع خريطة طريق لتمكين بعضهم من حيازة الجنسية الأميركية. كما وعد بمساعدة المهاجرين القانونيين في تحسين قدراتهم ودمجهم في المجتمع الأميركي.

قانون كهذا لن يمر في الكونغرس الجديد ولذلك سيضطر أوباما لاستعمال قرارات أو إجراءات تنفيذية للوفاء ببعض هذه الوعود خلال المدة المتبقية من ولايته، تحضيراً لانتخابات الرئاسة عام 2016، وقد بدأ العمل في هذا الاتجاه، ما سيشعل أول شرارة حرب بين الكونغرس والبيت الأبيض.

السياسة الخارجية

هناك مطبات كبيرة أيضاً في السياسة الأميركية الخارجية بدءاً بمحاربة تنظيم «داعش». فالقرار الذي اتخذه أوباما بمحاربة التنظيم كان بضغط من اليمينيين في الكونغرس وطبعاً بسبب التحوّل في الرأي العام الأميركي في شأن محاربة «داعش» في العراق وسورية. غير أن المتشدّدين في الكونغرس يطالبون بتكثيف الهجمات الجوية والإسراع في تدريب المقاتلين وتسليحهم ومساندتهم على الأرض. وقال أوباما أخيراً إن الاولوية لديه هي محاربة «داعش» في العراق وإن محاربة التنظيم في سورية ثانوية هدفها إضعافه في العراق وقطع خطوط إمداداته.

هذا الموقف قد يسبّب خلافاً بين أوباما والكونغرس الجديد لأن الفكرة الأكثر شيوعاً بين الجمهوريين واليمين الديموقراطي هي توسيع رقعة الاشتباك في سورية لتشمل إضعاف النظام قبل الشروع في تسوية سلمية على أساس اتفاقات جنيف، وهذا ما يطلبه الكثير من حلفاء أميركا بخاصة السعودية وتركيا وفرنسا. أما الرسالة التي أرسلها أوباما إلى خامنئي فقد عقّدت الأمور أكثر إذ يعتبر بعضهم أنها فتحت باب التعاون مع إيران في محاربة «داعش» وهو ما ترفضه قطعاً الغالبية الكبرى في الكونغرس مدعومة من إسرائيل واللوبي اليهودي. المواجهة الكبرى في مجال السياسة الخارجية الأميركية ستكون في ما يختص بالمفاوضات على الملف النووي الإيراني. فغالبية أعضاء الكونغرس لا تثق بمقدرة أوباما وفريقه على الوصول إلى اتفاق يفكّك نهائياً البرنامج النووي الإيراني أو، على الأقل، يمنعه لعقود طويلة من إنتاج قنبلة نووية، وهذا هو مطلب الجمهوريين وعدد كبير من الديموقراطيين ويتماشى مع رغبات نتانياهو والحكومة الإسرائيلية. ويعتقد كثر أن اتفاقاً كاملاً لن يحصل في الموعد المحدد أي 24 من الشهر الجاري، وفي الوقت نفسه فالفشل الكامل غير مقبول من الجهتين، ما سيضطر المفاوضين الوصول إلى اتفاق إطار أو ما شاكل وتمديد مدة المفاوضات إلى 2015. ولكن التخوّف في الكونغرس هو أن يوقّع أوباما على اتفاق لا يجبره الحصول على موافقة مجلس الشيوخ باعتباره «اتفاقاً تنفيذياً» وليس «معاهدة» وأن يعلّق العقوبات أو أهمها من دون إلغائها، لأن إلغاءها هو من صلاحية مجلس النواب الذي وضعها في المقام الأول.

وجعل عدم الثقة المتبادل بين الكونغرس الجديد والبيت الأبيض قيادات الكونغرس تتحسّب لهذه الاحتمالات من خلال إجراءات كالتحضير لعقوبات جديدة على إيران نالت في الماضي القريب غالبية كبيرة في مجلس الشيوخ شملت عدداً لا يستهان به من الديموقراطيين، طبعاً بدفع كبير من اللوبي الإسرائيلي. أيّ تحدّ من أوباما في هذا المجال سيشعل حرباً بينه وبين الكونغرس لمدى السنتين المقبلتين ما يجعل الكثيرين يستبعدون مواجهة كهذه.

ويجب ألا ننسى تأثير الكونغرس الجديد في الحرب الباردة الثانية التي أطلقت شرارتها المشكلة الأوكرانية والتي قد تتأزّم أكثر بوجود غالبية في الكونغرس تلوم أوباما على تعامله الخجول مع الهجمة الروسية في شرق أوروبا. وكان بعضهم حذر أوباما سابقاً من سياسة مد اليد إلى الروس. لكن أيّ تشدّد في السياسة الأميركية تجاه روسيا سيرسخ الحرب الباردة ما سينعكس على العالم بأشكال يصعب توقعها حالياً.

السنتان الأخيرتان من عهد أي رئيس أميركي يخصص القسم الأكبر منهما لتثبيت الإرث (legacy) الذي ينوي الرئيس تركه للتاريخ. أوباما يبحث عن إرث ولا يجده. أوباماكير مثير للخلاف وهو في دائرة خطر الإلغاء أو التغيير الجذري. الاقتصاد تعافى على مستوى وول ستريت وخفّض مستوى البطالة ولكنه لم يرفع مستوى الأجور، بل إن مداخيل بعضهم، خصوصاً السود، انخفضت، كما توسّعت الفجوة بين المداخيل لمصلحة الأغنياء.

أراد أن يكون إرثه الانسحاب من العراق وأفغانستان فإذا به يعود إلى العراق ويفتح جبهة جديدة في سورية بعد تردّد طويل جعل الأمور أكثر تعقيداً. أراد مدّ اليد للروس ففشل وقد يكون إرثه غير المقصود في هذا المجال هو بداية الحرب الباردة الثانية. حاول أن يبني إرثاً من خلال إنجاز تقدم غير مسبوق باتجاه حل للقضية الفلسطينية وإذ بالأمور تتراجع وتتأزّم أكثر فأكثر. يحاول الآن أن يحرز تقدماً في ملف الهجرة وقد ينجح إلى حدّ ما في النهاية، إلا أن هذا الإنجاز سيوضع، جزئياً على الأقل، في خانة مساعدة الحزب الديموقراطي على استعادة بعض مؤيديه التقليديين. أراد في النهاية أن يكون إرثه النجاح في مفاوضات الملف النووي الإيراني فوجد نفسه بعد سنة من الجهد في مأزق بين اتفاق لا يرضى به الكونغرس وعدم اتفاق يترك الأمور في مهب الريح.

* السفير اللبناني السابق في واشنطن

الحياة

 

 

 

أجندة أوباما للربع الرابع/ ديفيد اغناتيوس

بدا الارتياح على وجه الرئيس أوباما في أعقاب الانفجار الانتخابي الذي وقع مؤخرا. وربما يكون أوباما هو أقل الرؤساء الأميركيين في العصر الحديث شعورا بالقلق حيال الانتخابات بدءا من الآن.

وخلال مؤتمر صحافي، قال أوباما: «هناك الكثير يشغلني على مدار العامين المقبلين»، في الوقت الذي حاول فيه التملص من الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بالانتكاسة الانتخابية التي مني بها في انتخابات التجديد النصفي. وأضاف: «في نهاية فترة رئاستي سأقول: لقد قدمنا أداء جيدا في الربع الرابع».

ودعونا نصدق كلمات أوباما، ولننظر إلى سياسته الخارجية، مثلا. ما أجندته على هذا الصعيد خلال العامين المقبلين؟ وبالنسبة لرئيس لحق به الضعف، ما الخاتمة التي ستمثل نهاية جيدة له؟

في الواقع، ما تزال الفرص المتاحة أمام أوباما كبيرة، ذلك أنه في غضون شهر يمكن أن يقر اتفاقا نوويا مع إيران، أو على الأقل إطار عمل يضم تنازلات إيرانية مهمة. أيضا، باستطاعته الاتفاق مع الصين حول حزمة مشتركة من إجراءات السيطرة على التغييرات المناخية. أما المشكلات الكبرى أمامه فتكمن في القتال الدائر مع «داعش» والذي تحول لكابوس، خاصة في ظل الغموض والحذر الشديدين اللذين يحيطان بسياسة أوباما في هذا الشأن. ومع ذلك، يبدو أن التوسع السرطاني للمتشددين توقف، وربما يستمر تراجعهم البطيء إلى ما بعد رحيل أوباما عن البيت الأبيض. من ناحية أخرى، يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمثابة نقطة مبهمة وخطيرة، ورغم ضآلة الخيارات المتاحة أمامه فإنه يعمد إلى استغلالها بأقصى درجة ممكنة، بينما يبعث دبلوماسيون روس بإشارات توحي برغبتهم في استئناف تدريجي لحوار طبيعي مع واشنطن.

أما التحدي الأكبر أمام أوباما فهو ما إذا كان سيتمكن من إعادة تنشيط الفريق المعني بالسياسة الخارجية المعاون له.

من جهتهم، أعلن مسؤولون بالبيت الأبيض أن أوباما يعي أنه بحاجة إلى ضخ دماء جديدة والاعتماد على رؤوس أموال بشرية أكثر ذكاء. إلا أنه لم يتضح بعد المعنى المقصود من وراء ذلك، ربما لأن أوباما نفسه لم يتخذ أي قرارات بعد بهذا الشأن.

وفيما يلي بعض التخمينات بخصوص أمور شخصية: البيت الأبيض يرغب في انتقال أنتوني بلينكين، نائب مستشار الأمن القومي، إلى وزارة الخارجية ليحل محل بيل بيرنز نائبا للوزير. وينطوي هذا على فرصة لتعزيز فريق الأمن القومي تحت قيادة سوزان رايس، التي لا يبدو أوباما على استعداد للتخلي عنها.

إذن، من يمكن أن ينضم لرايس على رأس مجلس الأمن القومي؟ الملاحظ أنه تم عرض المنصب بالفعل على مايكل موريل، نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) السابق، لكنه رفضه. وتشير مصادر مطلعة إلى أسماء أخرى بارزة بمقدورها معاونة رايس على إدارة السياسة، مثل الأدميرال ساندي وينفيلد نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة، ونيكولاس بيرنز وكيل وزارة الخارجية السابق.

من جانبهم، يتوقع مسؤولون بالإدارة احتمالية رحيل وزير الدفاع عن منصبه قبل انتهاء فترة رئاسة أوباما بمدة طويلة. ومن بين الأسماء التي يحتمل أن تحل محله وكيلة وزارة الدفاع السابقة ميشيل فلورنوي، التي كادت تتولى المنصب بالفعل عام 2013.

إن التحدي الذي يواجه أوباما خلال العامين الأخيرين من رئاسته ليس صياغة سياسة خارجية جديدة، وإنما تنفيذها. وهنا ستحتاج رايس إلى تحسين قدراتها الإدارية.

الملاحظ أن مساعدي أوباما وضعوا بالفعل قائمة بما يتعين فعله: تحقيق عملية انتقالية ناجحة في أفغانستان في ظل الائتلاف الحاكم الجديد، وتحويل العراق إلى اختبار لقدرة التحالف الذي تتزعمه واشنطن على محاربة التطرف، وإبرام اتفاق نووي مع إيران، والتوصل لاتفاق تجارة مع آسيا، وربما أوروبا، والتعاون مع الصين بخصوص التغييرات المناخية، مثل مكافحة الإرهاب، وكبح جماح النزعات العدائية لدى بوتين، مع الإبقاء على الباب مفتوحا أمام التعاون مع روسيا.

خلال المؤتمر الصحافي، قال أوباما: «أنا… شخص عملي». والملاحظ بالفعل رغم الرفض الكبير لحزبه وسياساته في الانتخابات التي أجريت مؤخرا، أن أوباما بالفعل يملك أجندة عملية إذا عكف على تنفيذها، فإنها قد تصبح قابلة للتحقق على أرض الواقع.

* خدمة «واشنطن بوست»

صحافي وروائي. وهو محرر مشارك وكاتب عمود في صحيفة “واشنطن بوست”. كتب ثمانية روايات، بما في ذلك الجسم من الأكاذيب.

الشرق الأوسط

 

 

 

 

 

هل يخرج أوباما من سياسة اللاقرار ويُنهي ولايته الثانية بإنجازات تاريخيّة؟/ اميل خوري

تساءل ديبلوماسي عربي: ما دامت سياسة المواجهة العسكرية التي انتهجتها إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش (الابن) لم تنجح في تحقيق أهدافها، ولا سياسة الحوار التي انتهجتها إدارة الرئيس باراك أوباما، فما هي السياسة الناجحة التي ستنتهجها الاخيرة خلال ما تبقى من ولايته الثانية؟

هذا السؤال نوقش بين سياسيين وديبلوماسيين في حلقة ضيقة. بعضهم قال إن الرئيس أوباما لم يعد يخشى خسارة تجعله يحاذر حسم ما يواجهه كما كان وهو يفكر في الفوز بولاية ثانية، وتجنّب إغضاب اليهود طمعاً بأصواتهم، في حين بات في استطاعته الآن فرض حل الدولتين تحت طائلة التهديد بقطع المساعدات المالية والعسكرية، أو بفرض عقوبات على إسرائيل لإقناعها بقبول هذا الحل، ولا يخشى نقمة العرب إذا ما حسم الأزمات في المنطقة على نحو يرضي بعضهم ولا يرضي بعضهم الآخر، كي يخرج من سياسة اللاقرار، فحل الدولتين لم يتحقّق على رغم تكرار دعوة أوباما الى تحقيقه، ما جعل المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية تدور في حلقة مفرغة وتكون جولات الموفدين الاميركيين بحثاً عن سلام شامل في المنطقة غير مجدية، فظل هذا السلام ضائعاً أو مفقوداً. ولا الحرب في سوريا تمّ التوصّل إلى حلّ لها، فكان لاستمرارها تداعيات على دول الجوار ولا سيما منها لبنان. ولم يتوصّل المبعوثون الأمميون الى حل مقبول من كل الاطراف، فبعدما كانت المشكلة تكمن بوجود نظام الرئيس بشار الأسد، أصبحت الآن مزدوجة مع استمرار هذا النظام وتعاظم نشاط الحركات التكفيرية والارهابية، ليس في سوريا فحسب إنما في عدد من دول المنطقة، ما جعل الولايات المتحدة الاميركية تنشئ تحالفاً دولياً لضرب هذه الحركات. فهل ينجح الرئيس الاميركي في تحقيق ما يصبو اليه خلال ما تبقى من ولايته في حين لم يستطع ذلك من قبل؟

ثمة من يقول في معرض مناقشة ذلك ان الرئيس اوباما الذي لم يعد لديه ما يخسره قد يتخذ من الارهاب بعبعاً يخيف به الجميع ويجعلهم يتوحدون لمواجهته مقدّمين خطره على كل خطر آخر. وقد بدأ تطبيق ذلك في العراق من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية تجعل كل القوى السياسية الاساسية فيه تتصدى للارهاب باعتباره العدو الأول، وتحاول الادارة الاميركية ان تفعل الشيء نفسه في سوريا بتجاوز الخلافات بين المعارضين لنظام الأسد والموالين له لجعلهم يوافقون على المشاركة في حكومة واحدة لتكون قادرة على ضرب التنظيمات الارهابية قبل كل شيء، ومن ثم البحث في مرحلة ما بعد ضربها بالذهاب الى انتخابات نيابية ينبثق منها مجلس يمثل تمثيلاً صحيحاً شتى فئات الشعب السوري، وينتخب هذا المجلس رئيساً للجمهورية ويتم تشكيل حكومة في ضوء ما تكون عليه تركيبة المجلس. وهذا ما يجري العمل له في ليبيا واليمن. وقد نجحت مصر وتونس في وضع آلية حكم قادرة على مواجهة الارهاب.

ولا يمكن، من جهة اخرى، إبقاء النزاع المزمن قائماً بين الاسرائيليين والفلسطينيين والعرب لأن لا سلام ثابتاً ودائماً في المنطقة ولا استقرار فيها الا بإيجاد حل جذري لهذا النزاع. فإذا لم يتمكن الرئيس أوباما من الوفاء بوعده للفلسطينيين بإقامة دولة لهم إلى جانب الدولة الاسرائيلية لتأثره بضغط اللوبي الصهيوني، فإنه أصبح الآن في حلّ من هذه الضغوط وهو في النصف الأخير من ولايته الثانية بحيث يغادر البيت الأبيض وقد حقق ما يسجل له في التاريخ.

لقد نجح الرئيس أوباما في إقامة تحالف دولي لضرب التنظيمات الارهابية في المنطقة ليحول دون انتقال خطرها الى دول الغرب، فإذا توصل هذا التحالف الى تحقيق ذلك فإنه (أوباما) يكون قد أنهى ولايته بإنجاز مهم، خصوصاً إذا نجح في إنهاء النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني، وقد يكون تأييد دول أوروبية لدولة فلسطينية والاعتراف بها حتى قبل أن تقوم، والاتجاه الى طرح الموضوع على مجلس الامن الدولي ما يجعل اسرائيل تقبل بحل الدولتين، إذ ان معظم شعوب العالم لم تعد ترى عدلاً في أن يكون للشعب الاسرائيلي دولة ولا يكون للشعب الفلسطيني دولة أيضاً. وما يجعل الرئيس الاميركي قادراً على تحقيق ذلك هو التقاء كل الدول الكبرى على مواجهة التنظيمات الارهابية، والتقاؤها أيضاً على وجوب حل النزاع مع اسرائيل في المنطقة كي تنعم بأمن ثابت واستقرار دائم، اذ ان دون حل هذا النزاع لا أمن ولا استقرار ولا ازدهار في المنطقة بل مزيداً من العنف والعمليات الانتحارية بدافع الفقر والظلم والقهر. فهل ينتقل الرئيس أوباما من سياسة اللاقرار الى سياسة القرار فيدخل عندئذ نادي الرؤساء الكبار، أم يجعل التاريخ ينساه إذا انتهت ولايته الثانية ولم يحقق شيئاً وأورث من سيأتي بعده الفشل؟

النهار

 

 

 

بين أوباما وبوتين/ حازم صاغية

ليس جورج سوروس الصوت الوحيد الذي يحذّر اليوم من «خطر روسيا» على الغرب وعلى الديمقراطية. فهو وغيره من الكتّاب والسياسيّين في أوروبا والولايات المتحدة ينطلقون مما يجري في أوكرانيا ليقولوا إن روسيا بوتين خطر على الغرب متعدد الأبعاد، وذلك بعد انقضاء ربع قرن على انتهاء الحرب الباردة وقيام وحدة أوروبا بشطريها الشرقي والغربي. فهي، من جهة، خطر ثقافي لأنها تعمل على إحلال القوة كوسيلة في التعامل الدولي محل الدبلوماسية بوصفها وسيلة التعامل بين الدول الأوروبية في زمن ما بعد الحرب الباردة. وهي، من جهة أخرى، خطر اقتصادي بسبب ثروتها الهائلة من الغاز الطبيعي واعتماد بلدان كثيرة في أوروبا الوسطى والغربية على صادراتها منه. وما يفاقم هذا الخطر أن الدولة الروسية تتحكم تحكماً تاماً بالتبادل التجاري في هذا المجال الاستراتيجي. أما عسكرياً، فالمسألة تبدو أعقد قليلا: فبوتين، ورغم تزايد إنفاقه على التسلح والعسكرة في الأعوام الأخيرة، لا يزال مضطراً لعبور مسافة طويلة جداً كي يصل إلى مستويات الإنفاق في العهد السوفييتي. وهذا يعني أن روسيا لن تستطيع خوض حرب أخرى، على نطاق عالمي، خصوصاً أنها لم تعد تملك الأيديولوجيا التي تناطح بها الديمقراطية الليبرالية، كما كان الحال في العهد السوفييتي.

لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن روسيا بوتين تشكّل خطراً إقليمياً كبيراً في نطاقها الجغرافي. وإذا كانت أحداث جورجيا تظهر ذلك بوضوح، فهو يعني إعاقة الانسجام الأوروبي والحد من موجة الدمقرطة في شرق القارة، كي لا نضيف إزعاجات أخرى مثل الحماية الروسية لنظام بشار الأسد في مجلس الأمن.

لهذا يقول المحذّرون الغربيون من الأخطار الروسية الراهنة إن الحاجة إلى إعادة تمتين الرابطة الأطلسية هي اليوم أقوى من أي وقت مضى. فبسبب التحدي الروسي لم يعد الوضع الغربي يحتمل أي تنافر كذلك الذي عرفته العلاقات الأميركية مع ألمانيا وفرنسا إبان حرب العراق (2003).

بيد أن ما تطرحه مقالات ومواقف أوروبية وأميركية لسياسيين ومثقفين وصناع رأي، إنما تصطدم بحقيقة أساسية. فهناك اليوم قائدان يختلفان في كل شيء تقريباً: بوتين وأوباما. أولهما يحاول تحويل الانتصار الصغير الذي يحققه إلى انتصار أكبر، من غير أن تحول الهزيمة التي يتلقاها دون محاولته تكرار التجربة وقلب الهزيمة إلى انتصار. أما ثانيهما فيتحاشى كل مواجهة ويعجز عن استثمار انتصاره، في حال تحقيق انتصار، بينما لا تدفعه الهزيمة إلى محاولة الرد عليها وقلبها إلى انتصار.

ووراء هاتين الشخصيتين وسلوكهما، يكمن موقفان أيديولوجيان يصطبغان بمقدمات شخصية وسيكولوجية. فبوتين، رجل المخابرات السوفييتية السابق، مهجوس باستعادة ما يعتبره عظمة روسيا السوفييتية، وقد اعتبر ذات مرة أن نهاية الاتحاد السوفييتي كانت الكارثة الأعظم خلال القرن العشرين. لذلك فالبرامج التربوية والتعليمية في روسيا بوتين تقدم ستالين بوصفه بطلاً عظيماً من أبطال الأمة، متجنبة كل إشارة إلى فظائع عهده.

وفي المقابل، يمثل أوباما نزعة التخلّص من معالم القوة الأميركية وعلاماتها. فقد دخل حلبة التنافس الرئاسي بوصفه معارضاً لحروب بوش في أفغانستان والعراق، منكبّاً على معالجة الأوضاع الاقتصادية المتردية بفعل أزمة 2008 المالية. ودائماً كان أوباما حريصاً على التوصل إلى إجماعات عريضة، داخلياً وخارجياً، متجنباً كل ما يمكن تأويله على أنه تطرف. ورغم الإجراءات العقابية التي اتُخذت مؤخراً ضد روسيا، بسبب الأحداث الأوكرانية، لا يزال الكثيرون من نقاد الرئيس الأميركي يأخذون عليه عدم استخدام السلاح الأنجع: فإذا كانت شيوعية الاتحاد السوفييتي تضعه خارج السوق العالمية وتحصّنه حيال التأثر بها، فإن روسيا بوتين لا تملك إلا أن تتأثر بهذا السلاح الذي يؤثر أوباما أن لا يستخدمه إلا بالحد الأدنى.

وإذا كانت تلك الميول الأوبامية في كسر الإمبراطورية تستقطب من العواطف النبيلة ما لا تستقطبه الميول البوتينية الإمبراطورية، فإن وضع الندى في موضع السيف لا يقل ضرراً عن وضع السيف في موضع الندى، على ما أخبرنا المتنبي. فهل تؤول الانتخابات النصفية الأميركية إلى تعديلٍ ما يستحضر شيئاً من التوازن المفقود، والمطلوب؟

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى