صفحات الرأي

مقالات تناولت وفاة المفكر جمال البنا

جمـال البنـا: رحيـل مفكـر إشكـالـي

محمد شعير

من الظلم اختصار مُنجَز الراحل جمال البنا في كونه صاحب الفتاوى الساخنة فقط، أو كونه الشقيق الأصغر لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، فالباحث في التراث الإسلامي حتى رحيله الأسبوع الماضي كان هدفه الأساسي «نحو فقه جديد» أي تثوير الفقه الإسلامي باعتباره منجزاً بشرياً لا نصاً مقدساً وتطويره بما يلائم مقتضيات العصر. وكانت أفكار البنا الصغير مثار جدل من المؤسسة الفقهية الرسمية لكونها صادرة من شخص لم يكن خارج المؤسسة، بل من داخلها، وكان قمة إدراك حقيقي أن « تثوير» الإسلام لا يمكن أن يتم من خارج هذه المؤسسة. المدهش أن الجو الذي نشأ فيه البنا (ولد العام 1920) تقريباً هو الجو نفسه الذي ولد فيه شقيقه الأكبر حسن البنا، وعاشا سوياً أكثر من ربع قرن، الأسرة نفسها والأفكار ذاتها ولكن الشقيقين اتجها اتجاهين مختلفين: أسس حسن اكبر جماعة إسلامية متشدّدة، بينما كانت دعوة البنا الصغير «إعادة قراءة التراث الإسلامي، برؤية جديدة»، بل وصف العلماء المعاصرين بأنهم ينتمون إلى عصور الظلام «لم يجددوا فكرهم وفقهم بعيداً عن آراء السابقين».

كان البنا الأب ليبرالياً «الفن بجوار الدين» في البيت، كان له ميلٌ خاصٌّ للموسيقى، الأشقاء «عبد الرحمن» و«عبد الباسط» يكتبان الشعر، وقد كتب أغنيات لكبار المطربين آنذاك أمثال عبدالمطلب، ولعل أشهرها «شفت حبيبي وفرحت معاه» ويعزفان على آلة الربابة والعود، أما «محمد» فيتغنى بأغاني «عبد الوهاب» وهو طالب في الأزهر. وكان الوالد يقرأ الروايات الغرامية والبوليسية. أتاحت هذه التربية أن يكون لكل فرد من الأسرة اهتماماته وأنشطته. في حياة شقيقه حسن أصدر جمال كتابه الأول (سنة 1945) بعنوان «ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد» سنة، وفي العام التالي أصدر كتابه الثاني «ديموقراطية جديدة»، ثم توالت مؤلفاته في الصدور حتى تجاوزت مؤلفاته ومترجماته الـ150 كتاباً. وكلها تهدف إلى التجديد وتنادي بالحرية، وحتمية الفصل بين الدين والدولة، وهو الفكر الذي يناقض ما دعا إليه شقيقه الأكبر «حسن البنا» المؤسس لجماعة «الإخوان المسلمين»!

هو لا يظنّ أن أفكار شقيقه تختلف عن أفكاره الخاصة بل كثيراً ما كان يردّد: «لو كان شقيقي على قيد الحياة لربما لم تختلف آراؤه كثيراً عن آرائي». ويوضح: «حسن البنا» لم يكن رافضاً لما كنت أعرضه عليه من آراء أختلف فيها عن مقررات الإخوان بالنسبة للمرأة أو الفنون والآداب والحريات، لقد كان يسمع ويبتسم وهو ما يشير إلى أن وجهات النظر هذه لم تكن غائبة عنه، ولكن وضعه كان يتطلب نوعاً من التدرج خاصة أنه كان يؤمن بأن الزمن جزء من العلاج».

كانت فتاوى البنا التجديدية التي آثارت جدلاً مثل: تدخين السجائر حلال في نهار رمضان ولا تفطر، القبلة بين رجل وامرأة للمرة الأولى ليس بحرام ولا ذنب فيه، حجاب المرأة ليس فريضة وغيرها من فتاوى… كان كثير من الفقهاء يتصلون به عقب حملات الهجوم عليه سراً ويحيّوه عليها، ولم يكن يغضبه الهجوم أو يستفزه لأنه كان يعتبر نفسه «رأس حربة» يحمل دعوة علم…: «وللعلم فتواي ليس من ورائها هدف، لأنني لست بشاب فأبيح لنفسي القبلات، ولست أطلب مالاً أو شهرة، الأمر ببساطة اجتهاد في الفتوى يرتقي إلى الحقيقة»، كما قال في حوار معه.

ولكن كان أشد فتاويه إثارة للجدل لدى السلفيين والإخوان عندما رأى أنه لا توجد «دولة إسلامية»… كتب في كتابه «الإسلام دين وأمة وليس دين ودولة»… مؤكداً أن الفارق بين الأمة والدولة هو أن «الأمة» هي الشعب والمجتمع، في حين أن الدولة هي الحكومة والسلطة… وأولاً «مافيش دولة إسلامية» لأنه أصلاً متى تحققت الدولة الإسلامية؟! الإجابة في السنوات العشر التي حكم فيها الرسول المدينة، وهذه لم تكن دولة كاملة وإن كان بها بعض مقوّمات الدولة لكن لم يكن بها جيش دائم ولا شرطة ولا سجون… ويحكمها الرسول ويصحّح له الوحي… والقياس على هذه الدولة صعب.

أما في عهد «أبو بكر» و«عمر»… هذه دولة ظل الرسول… واستمروا 12 سنـــة فقط، وعندما طُعِن «عمـــر بن الخطاب»، طُعِنـــت الخلافة… لأن «عثمان» عندما جاء لم يسر بسيرة الشيخين وقُتل وهـــو يقرأ القرآن، وعندما أتت زوجته للذود عنه قطعوا أصابعها بالسيف وهي صـــورة دراماتيكية شنيـــعة لا يمـــكن أن تتصوّر، وعندما أتى «علي بن أبـــي طالب» أصبح نصف المسلمين يحارب النصف الآخر… هل هنـــاك دولة إســـلامية يحدث فيـــها ذلك؟ أما في 40 هـــجرية حوّل «معاوية بن أبي سفيان» الخـــلافة إلى مُلك ضخم… وهكـــذا فـــإن ما قضى عليه «مـــصطفى كمال أتاتورك» لم يكن خـــلافة، ولكنه مُلك… الخـــلافة هي ما حدث في عهد «أبو بكر» و«عمر» وفيما بعدهما فهو مُلك فقط…

ويرى البنا أن من الناحية النظرية السلطة تُفسد الأيديولوجية… الدولة شخصية اعتبارية، لكنها في النهاية تتبلور في الحكومة… والحـــكومة تتبلور بدورها في السلطة، يعني لو لم يكن في الحكومة جيش أو شـــرطة فلا تعتبر دولة… والسلطة معناها القوة والأيديولوجية معـــناها قيم. وما أبعد المسافة بين القوة والقيم، وما بين السلطان والقـــرآن. فإذا اجتمعا مع بعضهما، ضروري أن تفـــسد السلطة الحقيقية… ضروري أن تستغل السلطة الدين. وهـــذه هي الفكرة الرئيســـية التي فتحت نيران السلفيين والأخوان علـــيه. وأظن أن رحيله أتاح للإخوان أن يتنفسوا بعمق بعد أن مات أكثر أعدائهم، وأكثرهم خبرة بهم وبأفكارهم.

محمد شعير

اكتشــاف الإســلام

عزيز رحيم

توفي جمال البنا أصغر أشقاء مؤسس الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا لكن جمال البنا الذي لم يتسم بالشيخ ولم يرسل لحيته ولم يكن في يوم عضواً في جماعة الإخوان المسلمين رغم أنه دفع الثمن عن قرابته لمؤسسها إذ اعتقل 1948 وبقي عامين في المعتقل مع الاخوان المسلمين إلا انه كان لا يرتدي كما يرتدون ولا يطلق لحيته كما يطلقونها، وفي السجن التقى بهنري كورييل أبرز مؤسسي الحزب الشيوعي المصري فاحتفى به وحادثه طويلاً. المهم أن جمال البنا أصغر أولاد الشيخ أحمد البنا وشقيق حسن البنا لم يكن أصولياً كأبيه الذي حقق مسند أحمد بن حنبل في عمل اقتضى منه خمساً وثلاثين سنة، ولم يكن اخوانياً كأخيه وظل طوال حياته مستقلاً برأيه ونظره. إلا أن الابن الصغر كان حفياً بأبيه قريباً من أخيه فلم يكن الاختلاف سبب شقاق ولا سبب نزاع. لم يرتدّ الابن الأصغر عن ابيه ولا الشقيق الأصغر عن أخيه. وإنما كان نفسه كما وجدها وكما فطر عليها. لم يتنصل من أخيه بل أرخ له ولحركته طويلاً وعدّ أحياناً مؤرخ الجماعة ومؤرخ مؤسسها، كان جمال البنا في حياته تلك واسعاً كما هو الإسلام في نظره، ولم يكن ذا بعد واحد فاحتوى في شخصه القرب والاختلاف وجمعهما وزاوج بينهما

قد تكون سيرة جمال البنا سيرة مثقف عربي ملتزم. فالشاب الذي ولد في بيت عريق في تدينه لم يتحول إلى مفكر إسلامي إلا بعد رحلة طويلة انقضى جلها في المطالعة وفي الكتب. كان أول ما بادر إليه البنا هو العكوف على تعلم الانكليزية التي لم يتقنها ليقرأ فيها الأدب الانكليزي وإنما ليقرأ كتب الاقتصاد وليتابع نظريات الاقتصاد السياسي من كارل ماركس حتى آدم سميث. فالبنا الذي استهواه الأدب وقرأ في جملة من قرأ ارثر كوستلر المحتج على الماركسية وستيفان زفايغ وأورويل والذي قرأ كتباً عدة عن الميتولوجيا اليونانية، وقرأة موسوعة جيبون عن «ظهور وسقوط الإمبراطورية الرومانية» فضلاً عن قراءة البير كامو وتولستوي. استهوته السينما أيضاً. مثل جمال البنا لا يشبه في حياته حياة الدعاة الإسلاميين، فمصادر المعرفة التي طلبها والنهج الحياتي الذي سار فيه، أمور لا تقارن بأية حال بسير الدعاة الإسلاميين. وإذا شئنا أن نتكلم عن جمال البنا الشاب قلنا أنه مثل غيره من المثقفين الفعليين غامر في رحلة بحث وسؤال، توزعت وتفرعت، قبل أن يكتشف إسلامه الذي يختلف من هذه الناحية عن إسلام الكثيرين.

أول اهتمامات وشواغل جمال البنا انصبّ على الحركة النقابية والعمالية فقد أنشأ البنا ثلاثين مؤلفاً في هذا الباب، والملفت أن أولها كان عن الحركة العمالية في انكلترا. ونحن نعلم أن تاريخ الطبقة العاملة الانكليزية هو الذي الهم كارل ماركس جانباً مهماً من المجلد الأول لرأس المال. لم يكتب جمال البنا عن تاريخ الحركات العمالية والنقابية، بل شارك في تأسيس وتكوين النقابات المصرية وهو لم يكن عاملاً. الأمر الذي جعله في مواجهة مع الزعامات النقابية التي نظرت بارتياب إلى انخراط شقيق حسن البنا غير العامل في صفوفها، ولم يكن جمال البنا صدامياً ولا مقاتلاً، فحين شعر بتحسس هذه الزعامات من وجوده انسحب من العمل النقابي.

في حياة جمال البنا محاولة وحيدة في العمل الحزبي فقد أسس «حزب العمل الوطني الاجتماعي» ورغم أن هذا الاسم يلفتنا إلى اسم الحزب النازي «الوطني الاشتراكي»، إلا أننا لا نجد هذا قرينه على ميول فاشية لدى جمال البنا، فقد التقى بأحمد حسين مؤسس حزب «مصر الفتاة» ذي النزعة الوطنية الفاشية، الذي دعاه إلى الانخراط في حزبه الأمر الذي اعتذر عنه جمال البنا. هذا الحزب «حزب البنا الذي يغلب انه كان ذا دعوة اشتراكية فكلمة اجتماعي لدى ناقد ضليع للماركسية كجمال البنا قد تكون تحايلاً على كلمة اشتراكي. هذا الحزب ضم قرابة عشرين أو ثلاثين من العمال، الذين شق عليهم برنامج الحزب التثقيفي ولم يناسبهم أن يقضوا الوقت في الجدل، ما لبث لذلك أن انفرط وحلت محله «اللجنة الشعبية لإصلاح السجون» التي اصطدمت هي الأخرى بضباط السجون الأمر الذي أدى إلى خروج البنا منها، وتحولها بعد ذلك إلى هيئة رسمية. كل ذلك نسوقه لنرى من قرب أن جمال البنا لم يختلف عن الدعاة الإسلاميين ملبساً وأفكاراً فحسب بل اختلف عنهم أيضاً سيرة حياة، فهذا المستقل الذي لم ينخرط في حزب أخيه الأكبر والذي تعلم الانكليزية، وانشغل بالاقتصاد الأمر الذي جعل في مرحلة ما مستشاراً اقتصادياً للبنوك الإسلامية، وانخرط في العمل النقابي والعمالي وألف عنه قرابة ثلاثين مؤلفاً. وإذا اختلف جمال البنا كل هذا الاختلاف فإن نظره في الإسلام أو إسلامه الخاص ليس بسوية إسلام الآخرين، بل ان هذا الإسلام في تميزه واختلافه يكاد يكون، على طول الخط، معاكساً لرؤية الإخوان المسلمين وسواهم من أهل «الإسلام السياسي» التسمية التي لا يطيقها جمال البنا ويرفضها قطعياً.

إسلام جمال البنا هو كإسلام الدكتور محمد شحرور لا يرجع إلا إلى القرآن ولا يقف عند شروحات القرآن وتفاسيره كما لا يقف عند السنة ولا عند أحكام الفقهاء فهذه، بخلاف القرآن غير مقدسة والقرآن في نظر جمال البنا كتاب فن أكثر مما هو كتاب أدب، وهو يفحم بموسيقاه التي تدخل إلى القلب بمجرد السماع، بحيث لا تكون هناك، في نظره، حاجة إلى تفسير.

وانطلاقا من القرآن يرى جمال البنا ان الإسلام ليس، كما يقال، ديناً ودولة، «فإن تتدخل الدولة في الإسلام، كائناً ما كان، لن يكون في مصلحة الإسلام» ستستغله وتسيء إليه، كما ان «كل محاولة لإقامة دولة على أساس ديني باءت بالفشل» وإذا لم يكن الإسلام دينا ودولة فهو دين وأمة بحسب البنا، هكذا لا يجد البنا العلمانية منافيه للإسلام ولا الديموقراطية مخالفة له. العلمانية قائمة في المسجد والزواج «فالمسجد ذي قطعة أرض والإمام أي فرد والزواج عقد».

لا يجد البنا في القرآن ما يبرر الحجاب ولا النقاب بالطبع، النقاب بالنسبة له وصمة عار والحجاب «ليس من عقيدة الإسلام» انه موروث تاريخي فحسب فليس للحجاب بحسب البنا ذكر في عقيدة الإسلام. انه، كما يقرر البنا، زي كغيره من الأزياء يخضع للتقاليد والعادات كما يخضع للأجواء وليس في القرآن نص على حجب مكان ما في جسد المرأة إلا فتحه الصدر.

يقرر جمال البنا ان المرأة في القرآن مساوية للرجل في كل شيء، وان لا شيء يمنع في عقيدة الإسلام المرأة من ان تقوم بالإمامة أو الإمرة أو الافتاء، وكل ما ينسب إلى الإسلام من تمييز للمرأة فمرده أحاديث ضعيفة أو موضوعة، وهي على كل حال «تخالف طريقة تعامل الرسول مع المرأة فقد كان فارساً بمعنى الكلمة، ومحباً ومقدراً للمرأة».

ثم ان الإسلام كما رأه البنا هو استخلاف للإنسان على الأرض، استخلاف ليست سمته العبودية فلو شاء الله البشر عبيداً لما خلق لهم عقولاً تميز وتختار. اما لفظه «عبد» التي تطلق على الإنسان فتعني انه مخلوق قبل كل شيء.

درس البنا التجارة ونال ديبلوما فيها لكنه ما ان حازه حتى القاه في درج ولم يعد إليه، فقد اختار ان يقضي حياته بين كتبه التي جاوزت بالعربية والانكليزية العشرين ألف كتاب، لكن دراسته الجامعية هي أيضاً امتياز وتميز عن بقية الدعاة فهو لم يتخرج من الأزهر والغريب ان اباه محقق مسند ابن حنبل لم يتخرج من الأزهر، وعاش حياته يرتزق من تصليح الساعات، كما ان حسن البنا مؤسس جماعة الأخوان المسلمين لم يتخرج هو الآخر من الأزهر.

[ [ [

حين قام الجيش بثورة 1952 احتفى بها جمال البنا وكتب عنها ولها كتابا ذا عنوان لافت «ترشيد النهضة، دراسة عن المستقبل المصري» وكان أهداء الكتاب أيضاً لافتا فقد أهداه إلى «محمد نجيب وأخوانه لكي يظلوا ابطالاً ولكي لا يكون الفجر الكاذب» يشعر عنوان الكتاب واهداؤه بنقدية صريحة وبأمل مشروط وبتحذير مبكر وكان طبيعيا ان يمنع الكتاب وان يضيق به الضباط.

ناضل جمال البنا على طريقته الهادئة المسالمة. نافح عن افكاره وكتب قرابة 150 كتابا لم تمر جميعها بسلام فقد ناضل الأزهر ضد أفكاره ومنعت بتوصية منه كتب له اهمها كتابة عن «فشل الدولة الإسلامسة» فهو يرى ان تجربة الإسلام الدولتيه تجربة سيئة اذ انقلبت الدولة إلى ملك عضوض.

لم يسلم جمال البنا ايضاً من جماعة الاخوان الذين تحرزوا بسبب قرابته للمؤسس من ان يأخذوه بالشدة فكانت انتقاداتهم له خالية من التشهير. الأمر الذي لم يلتزم به شبانهم الذين اغلظوا القول أحيانا له.

هكذا وجد البنا نفسه منفرداً ليس فقط حيال الاخوان والدعاة الإسلاميين وانما أيضاً تجاه الحركة الإسلامية المقابلة التي هي حركة الخميني. فرغم ان البنا انتقد الشيخ القرضاوي لموقفه من الشيعة واعتبر ان الحراك الشيعي والدعوة الشيعية كسب للإسلام، إلا انه اعتبر الخميني رجل دولة أكثر منه رجل دين وان ما جرى في إيران تأسيس دولة وإن تسمت بالدين. كان البنا هكذا أمينا لموقفه من الدولة الإسلامية.

جمال البنا ومعه محمد شحرور ومعهما من قبل ناصر حامد ابو زيد وأركون وسورش والجابري يشكلون فريقا مثقفا رأى إلى الإسلام بعين اخرى، لا يرتجي ان تصبح عامة وربما ستظل نخبوية لكنها تطرح رؤية آن لها ان تخرج من حبسها وان تنخرط في سجال حقيقي، وان تكون اقتراحا مشروعاً أيضاً للتجديد والإصلاح.

عزيز رحيّم

السفير

جمال البنا: الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة

    خالد غزال

رحل المفكر الاسلامي جمال البنا عن ثلاثة وتسعين عاما، ملتحقا بقافلة المفكرين النهضويين التنويريين العقلانيين من أمثال محمد اركون ونصر حامد أبو زيد ومحمد أحمد خلف الله وغيرهم، تاركا وراءه إرثاً من حوالى مئة وخمسين كتابا، كرّس القسم الأساسي منها لمناقشة الفقه الاسلامي، وقراءة النص الديني قراءة عقلانية وتاريخية، مجتهدا في قضايا متعددة بما يخالف رأي الاحزاب والتيارات الدينية، وقبلها رجال الدين.

على غرار اسلافه، ناله من المؤسسة الدينية الرسمية ومن محتكري الاسلام ومفسريه وفق اهوائهم السياسية، نصيب وافر من الاتهام بالارتداد والهرطقة والكفر والالحاد. ولأنه شقيق مؤسس “الاخوان المسلمين” حسن البنا، ظل بمنأى عن اعتداء “الإخوان” جسدياً عليه، على رغم نقده الدائم لفكرهم ومسلكهم.

سعى البنا الى تحرير الفقه الاسلامي من أسر التقليد الذي سجنته فيه المؤسسات الدينية ورجالها، وأصدر فتاوى اتسمت بالجرأة، فرأى أن للمرأة حق الإمامة من الرجال إذا كانت أعلم بالقرآن، وقال إن الحجاب ليس اصلا من اصول الدين، تالياً ليس فرضاً على المرأة، وإن القرآن الكريم خص به نساء الرسول محمد، كما رأى ان شعر المرأة ليس عورة ليفرض عليه الحجاب او النقاب. في السياق نفسه، اعتبر أنه لا يجوز للرجل ان يطلّق زوجته منفردا، وذلك كونه تزوج منها بصفة رضائية، مما يوجب رضا الطرفين على الطلاق او الانفصال.   ورأى أن المرء لدينه او تحوله إلى دين آخر لا يستوجب حد الردة او القتل  لا اكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). وذهب بعيدا في بعض اجتهاداته من قبيل أن التدخين أثناء الصيام لا يبطل الصوم وخصوصا لغير القادرين عن الإقلاع عنه.

تناول البنا في مناقشاته الفقهية، الفكر السياسي الاسلامي التقليدي الذي يشكل اساسا تنهل منه التيارات الدينية والسلفية وخصوصا منها مقولة “الاسلام دين ودولة”. مشى على خطى سلفه الشيخ علي عبد الرازق الذي كان اثار عاصفة عندما نفى ان يكون الاسلام دينا ودولة، فرأى “ان الاسلام دين وامة وليس دينا ودولة”، مشددا على ان نظرية التوحيد بين الدين والدولة انما وضعها الفقهاء المسلمون في سياق تكوّن الدولة الاسلامية منذ العهود الاولى للاسلام، وكانت بالتوافق مع المؤسسة السياسية التي ارادت من هذه النظرية اعطاء مشروعية لسلطتها المستمدة من الدين ومن الحق الإلهي. لذا شدد في معظم كتبه على ضرورة وضع حدود فاصلة بين الدين والسياسة، في زمن يوظَّف فيه الدين لصالح السياسة ويعطي المشروعية لأنظمة الاستبداد. كما قال في هذا المجال بنفي وجود الدولة الدينية في الاسلام، ودعا الى تكريس الدولة المدنية وفصل الدين عن السياسة. وذهب الى نفي حصرية البحث في شؤون الدين على الازهر ورجاله، بل من حق كل انسان التعمق في النصوص الدينية واجراء البحوث فيها استنادا الى العقل والقراءة التاريخية لهذه النصوص واسباب نزولها والظروف التي صدرت في ظلها، ومدى توافقها مع العصر الراهن وحدود ما هو صالح نأخذ به، وما تقادم عليه الزمن يرمى جانبا.

سعى البنا في تجديده للفكر الاسلامي الى نزع الأساطير والخرافات التي سجنه فيها الفقهاء على امتداد التاريخ الاسلامي، والتي استخدمتها الأنظمة السياسية في تكريس سلطتها وهيمنتها على المجتمعات العربية والاسلامية. كان يريد ان يواكب الاسلام العصر، وان يتوافق مع مقتضيات التطور العلمي والتكنولوجي. كان يرى ان تخليص هذا الفقه من القيود شرط رئيسي لازالة صفة التخلف عن الاسلام ولمنع رميه بالارهاب، وخصوصا ان هذه الصفة تلتصق به اليوم من جراء ممارسة التيارات الدينية المتطرفة التي تستند الى تفسير خاص للنص الديني لتبرر به ممارساتها العنفية، كما تستند الى فقهاء اجتهدوا في تشريع هذا العنف.

 لم يكن حسن البنا يوما على وفاق مع جماعة “الإخوان المسلمين”، وكان دائم النقد لإطروحاتهم، وعندما اندلعت الانتفاضة المصرية، استبشر خيرا بها، لكنه ظل حذرا من سيطرة “الاخوان” عليها، لذا كتب في مدوّنته التي تحمل اسمه على الانترنت نصوصا عدة تقرأ اللحظة الثورية المصرية، وفي احدها المنشور بتاريخ 15 شباط 2012 يقول ناقدا الأداء السياسي لـ”الإخوان” بعد الثورة أن “جماعة الإخوان منظمون ومؤمنون لكن الثورة لم تكن ملكهم أو أنهم قد فكروا بها، بل عندما وجدوها جادة شاركوا فيها، ولكن لديهم داء عدم الايمان إلا بفكرتهم ولا يتبعون إلا فرديتهم ولا يعملون مع الآخرين وهم الآن يفرضون وصايتهم على الأشياء”.

النهار

جمال البنا: تنويري حتــى الرمق الأخير

المفكّر الذي أسقط «الحجاب» عن العقل

اعتبر أن الحجاب ليس أصلا من أصول الدين

في أحد مستشفيات القاهرة، انطفأ أمس ربيب الجيل الذي دشّن النهضة العربية الأولى. صاحب «نحو فقه جديد» خاض معارك كثيرة، ورأى أنه لا وجود للنقاب في الإسلام، ومنح المرأة حق الإمامة، وكانت له صولات وجولات لإرساء إسلام قادر على مواكبة العصر

ريتا فرج

أتى رحيل جمال البنّا (1920_ 2013) في ذروة الحاجة الى لاهوت إسلامي إصلاحي، بعدما احتل السلفيّون ومدّعو الاعتدال في الإسلام السياسي المشهد في دول الحراك العربي. لم تكن مفاجئة طروحات الشقيق الأصغر لمؤسس «جماعة الإخوان المسلمين» حسن البنا حين دعا الإخوانيين في مصر إلى إجراء مراجعات نقدية إثر وصولهم الى السلطة، إذ كانت له صولات وجولات لإرساء إسلام تنويري قادر على مواكبة العصر. إسلامي/إصلاحي. ينطبق هذا المصطلح على صاحب «نحو فقه جديد» الذي أثار زوبعة من الردود بسبب كتاباته النقدية الجدلية حول إشكاليات إسلامية متداخلة، ما زالت تعتبر بمثابة «التابو» الديني وسط عالم عربي إسلامي عاجز عن إحداث قطيعة إبستمولوجية مع موروثه القروسطي منذ الاضطهاد الذي تعرض له المعتزلة.

البنّا الذي توفي فجر الأربعاء في أحد مستشفيات القاهرة، ربيب الجيل الأول للتيار الإصلاحي الإسلامي، أي ذاك الاتجاه الذي دشّن النهضة العربية الأولى. إلّا أنه مع اختلاف الزمان، كان أشد انحيازاً إلى الفقه الحداثوي، على القاعدة التي تقول لا تناقض بين الإسلام والحداثة، وما علينا سوى استنطاق القرآن بروح العصر، لأنّ النصّ المقدس يحمل هوية قارئه.

أبصر البنا النور في المحمودية (محافظة البحيرة _ مصر). بعدما أتم المرحلة الابتدائية، التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية، لكن الخلاف بينه وبين أستاذه في اللغة الإنكليزية دفعه الى ترك الدراسة، فقرر المتابعة بوسائله الخاصة. «ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد» عنوان الكتاب الأول الذي أصدره البنا عام 1945 وتلاه «ديمقراطية جديدة» (1946) نقد فيه الحماسة التي رافقت نجاح الإخوان المسلمين آنذاك.

لم يكتف البنا بالإنتاج المعرفي الديني. كانت له مواقف سياسية نقدية لازمته حتى آخر يوم في حياته. حالما قامت «ثورة يوليو 1952» التي وصفها بـ«الانقلاب العسكري»، وضع كتابه «ترشيد النهضة» الذي أهداه الى محمد نجيب وزملائه. وخلص الى أن النظرة الشاملة للثورات تقتضي تجديداً جذرياً تشترك فيه الجماهير. إبان المرحلة الناصرية التي دخلت في صدام حاد مع الجماعات الإسلامية، اهتم البنا بالحركة النقابية وعرّب عدداً من الكتب الصادرة عن «منظمة العمل الدولية» في جنيف و«الجامعة العمالية» في مصر كما استعانت به «منظمة العمل العربية» كخبير استشاري.

شكلت حقبة السبعينيات انطلاقته الحقيقية، فوضع كتاب «روح الإسلام» (1972)، لكن الذي صنع شهرته كـ«إسلامي متنور» كان مؤلفه «نحو فقه جديد» (صدر جزؤه الثالث عام 1999). في ثلاثيته هذه، نادى بفقه حديث وبطرح أصول جديدة للشريعة يتصدرها العقل، ما أدى الى إثارة زوبعة بلغت حدود المطالبة بمصادرة الكتاب.

تخطّت مؤلفات جمال البنا 150 كتاباً، وتعرّض بعضها للمصادرة. في عام 2004، أوصى أحد أعضاء مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر بسحب «مسؤولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث وبحوث أخرى»، رغم أنه نُشر قبل عشر سنوات. ما أثار الحفيظة ليس خلاصة الكاتب عن نموذج الدولة الإسلامية المأزوم، بل اجتهادان: الأول يتعلق بإباحة أن ترتدي المرأة المسلمة القبعة بدلاً من الحجاب في الغرب، والثاني إباحة زواج المتعة للمسلم المغترب لفترة، ولا فارق _ من وجهة نظر البنا _ بين زواج المتعة والزواج الشرعي التقليدي المتعارف عليه إلّا في كونه زواجاً محدّد المدة.

لم يتوقف البنّا عن تقديم الاجتهادات الجديدة. كعادته، أثار كتابه «الحجاب» (2007) زوبعة أخرى، وهنا تجده يقدم دراسة تاريخية شاملة للحجاب، ويعرض أثره على المرأة المسلمة وعلى المجتمعات الإسلامية. رأى أن حجاب المرأة كان الأداة الحاسمة لحجبها عن المجتمع، ولم يقتصر ذلك على المسلمين، بل كان لدى مختلف حضارات العالم، مثل الهند والصين والآشوريين واليونان والرومان وفارس والمسيحيين واليهود. لكن الأهم أنه نقد الفقه التقليدي الذي أتى به الفقهاء المتقدمون والمعاصرون، وخرج برأي فقهي مغاير، معتبراً أن الحجاب ليس أصلاً من أصول الدين، وليس في القرآن أو السنّة النبوية. وأكد أنّ النقاب لا وجود له في الإسلام و«لا يمكن القضاء عليه إلا إذا قضينا على الفقه التقليدي الذي يُعدُّ النقاب ثمرة له». ولعل الأهم في الاجتهادات التي أطلقها البنا قوله إنّ الزواج «عقد رضائي» لا يحتاج الى شهود أو مهر أو ولي «وما حصل في الزواج من هذه الأمور عملية تنظيمية لجأ إليها الفقهاء لاحقاً».

لجمال البنا آراء فقهية أخرى من بينها «أنّ المرأة أحق بالإمامة من الرجال إذا كانت أعلم بالقرآن»، وقد فصّل الكلام في هذه القضية الشائكة في كتابه «جواز إمامة المرأة الرجال» (2005) الذي أصدره إثر قيام أستاذة الدراسات الإسلامية في «جامعة فرجينيا كومنولث» الأميركية آمنة ودود بإمامة صلاة جمعة مختلطة في نيويورك.

وفي ظل سطوة الخطاب التكفيري الذي يستهدف بعض المفكرين العرب، ومع تنامي أحكام الردّة التي تطلق هنا وهناك، دخل البنّا على خط الصراع المحموم بين العقلانيين و«الشيوخ التكفيريين»، معتبراً أنّ «حدّ الردّة ليس من القرآن ولا من الرسول، بل جاء به الفقهاء. فالقرآن تكلم عن حرية الاعتقاد باعتبارها مطلقة، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر». لقد هجس البنا باكراً بالمعارك التي يخوضها اليوم إسلاميّو الربيع العربي ضد العلمانيين والليبراليين، خصوصاً في مصر وتونس قائلاً: «نحن على أبواب معركة كبيرة قد تكون آخر المعارك الكبرى في سبيل حرية الفكر الإسلامي ولا يُقاس بها ما حدث مع الدكتور طه حسين أو الشيخ علي عبد الرازق أو الدكتور نصر حامد أبو زيد، لأنّ المعركة هنا تدور حول تحرير الفكر من قيد تضمنه أحد القوانين».

لم يكن غريباً أن «يسخر منه» السلفيون

محمد خير

القاهرة | ربما لأنّه كان الشقيق الأصغر للإمام حسن البنا، لم يستطع الإسلاميون أن يفعلوا ضده ما فعلوه مع فرج فودة ونصر حامد أبوزيد، فانتهجوا ضده وسيلة أخرى: التبرؤ والسخرية من أفكاره. رحل جمال البنا أمس عن 93 عاماً، أي أكثر من ضعف عمر شقيقه المؤسس الذي اغتيل في الـ 43 من عمره. في حياته القصيرة، أسس المرشد الأول جماعة أمسكت أخيراً بحكم مصر. أما الشقيق الأصغر، فألّف ما يزيد على 120 كتاباً، وكتب آلاف المقالات، لم تترك أمراً من أمور الدين والسياسة لم تتطرق إليه، لكنّه ظل دوماً «شقيق البنا» في عيون الإسلاميين والعلمانيين معاً.

لم يُقرأ بالقدر الكافي، وربما لهذا أثار في نهايات حياته قضايا وُصفت بالإعلامية، كالتساؤل عما إذا كان تدخين السجائر يُبطل صيام الصائم. في جميع الأحوال، كتب البنا كثيراً في مواضيع تمس جذور تفكير الإسلام السياسي، بل أصول العقيدة نفسها، لكن الضوء لم يصل إلى تلك الكتابات كما ينبغي.

من أهم تلك الكتابات «نحو فقه جديد» (1990) الذي أصدره في ثلاثة أجزاء عن «دار الفكر الإسلامي» التي أسسها لإصدار مؤلفاته، ثم أعاد إصدار الكتاب نفسه بعد عشر سنوات في طبعة أكثر إيجازاً (دار الشروق) بعنوان «قضية الفقه الجديد». في الأساس، الكتاب تتويج وتحديث لمجمل الأفكار التي أصدرها قبلاً، يتطرق إلى موضوعات تبدو دينية بحت للوهلة الأولى، فينتقل من «منطلقات ومفاهيم الخطاب القرآني» إلى ضبط السنّة النبوية، وقضايا حرية الاعتقاد وطبيعته، وصولاً إلى الأمور الإشكالية في الفقه كطبيعة الإيمان ومبدأ حرية الاعتقاد وقضايا المرأة، والرقيق.

لكن تلك القضايا الفقهية كانت سياسية بامتياز. كان منهج البنا في كتابه ذاك ـ وبشكل عام ـ يعمل على أكبر ضبط ممكن لمفهوم النص المقدّس واجب الاتباع، والتمييز بين السنة النبوية «العبادية» و«الحياتية»، ما يعني بلغة أخرى، استبعاد جبال التأويلات الفقهية المتراكمة عبر العصور، بالنظر في طبيعتها «الاجتماعية – السياسية/ التاريخية». لا يعني ذلك ــ حتى لو لم يصرّح به ــ إلا أن يقتصر استخدام الدين في الاجتماع على «المبادئ»، كالعدل، والمصلحة وغيرهما من «مقاصد الشريعة». أما غير ذلك ـ العبادات ـ فلا ينبغي أن يتجاوز الحياة الشخصيّة للأفراد.

ما سبق هو موقف علماني في المحصلة. لكن جمال البنا كان «مفكراً إسلامياً» كما وصف نفسه. من هنا كان اعتراض الإسلاميين الذين اعتبروه مفكراً «لا إسلامياً». هو «يجتهد» ضد «المشروع الإسلامي»، وبالتالي «ضد الإسلام». أما العلمانيون، فقد اعتبروه إسلامياً لأنّه يحارب منطلقات فقه الإسلام السياسي من داخل الإسلام نفسه، وهو موقف لا علماني لأنه ــ حتى في اجتهاداته ــ يبحث عن حلول عصرية، لكن إسلامية تبقى في إطار «الفقه الصحيح» كما يراه.

إذن، يمكن النظر إلى حياة البنا على أنّها برهان على أنّ الفقه الإسلامي لم ينقصه الاجتهاد كما يشاع، بل نقصته الرغبة أو الإرادة في الاستعانة بالاجتهادات التي قدّم البنا منها الكثير، لكن ما قدمه كان يصب في العمق ضد كل ما يرتكز عليه الإسلام السياسي المهيمن ذو الجوهر السلفي. لا يمكن ضرب مثلٍ أفضل من «جواز إمامة المرأة الرجال» عنوان أحد أواخر كتبه الذي رأى فيه أنه يجوز للمرأة أن تصلّي إماماً للرجال إن كانت «أكثر منهم علماً». لم يكن غريباً أن «يسخر منه»، السلفيون، فماذا يتبقى من السلفية لو تساوت النساء بالرجال؟

سليل المعتزلة قاوم جمود «النص»

مدحت صفوت

القاهرة | وتقييد الفقهاء»، «الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة»، «نحو فقه جديد» مؤلفات كثيرة أصدرها المفكر الإسلامي جمال البنا وأثارت جدلاً كبيراً لتصادمها مع معظم التيارات الفقهية السائدة. شقيق حسن البنا مؤسس «جماعة الإخوان المسلمين» الذي رحل فجر أمس الأربعاء عن عمر ناهز 93 عاماً في أحد مستشفيات القاهرة، شيِّع عصر أمس من «مسجد علي بن أبي طالب» في الدقي.

البنا الذي كان مقرراً أن يلقي محاضرة ضمن ندوة تتناول «مستقبل الفكر الديني في مصر» في «المجلس الأعلى للثقافة» في القاهرة في نهاية شهر شباط (فبراير) المقبل، اشتهر بمخالفته للتيارات الإسلاموية التقليدية. وعلى رغم أنّ فتاواه عن جواز التدخين للصائم، وجواز الزواج من دون شهود أو وليّ من أبرز الفتاوى التي أثارت «ضجة» إعلامية واحتلّت عناوين الصحف، إلا أنّ موقع المفكّر الإسلامي يتعدّى هذا المستوى. لقد طرح الراحل رؤية تقدمية عن الحجاب، مؤكداً أنّ شعر المرأة ليس عورة ولا يوجد أبداً في الكتاب والسنة ما يقول ذلك. واستدل بذلك على حديث في «صحيح البخاري» يفيد بأنّ الرجال والنساء كانوا يتوضؤون في عهد الرسول من حوض واحد في وقت واحد، وهو الأمر الذي استمر طيلة حياة النبي ومن بعده حتى مجيء عمر بن الخطاب الذي فصل بين الرجال والنساء خلال الوضوء.

حارب البنا ما عرف بحدّ الردة في الإسلام. فقد أصدر «حرية الفكر والاعتقاد في الإسلام» (1972) ثم «كلا ثم كلا.. كلا لفقهاء التقليد وكلا لأدعياء التنوير» (1994)، و«خمسة معايير لمصداقية الحكم الإسلامي» (1996)… أعمال أكّدت أنّ لا عقاب لمرتدّ عن الإسلام، فثبوت الحرية الدينية للمرتد مكفولة، وعليه ليس هناك فرق في الدعوة بين المرتد، ومن لم يسبق له إسلام، فـ «كل منهما يدعى إلى الإسلام بالتي هي أحسن، وكل منهما يُكتفى بدعوته مرة واحدة، ولا يلزم في المرتد أن يستتاب أبداً» كما ذهب إليه الأصوليون وغيرهم ممن يقول بالاستتابة الدائمة، محاولاً إثبات الحرية الدينية بأدلة عقلية ونقلية تقبل النقاش كمسألة عامة ومطلقة لا تقييد فيها. واعتمد في منهجيته على النظر في نصوص القرآن، وسنة الرسول وعمل الصحابة. أما الفقهاء، على حد قوله «فليس لنا معهم كلام» على حد كلام البنا.

«التصادم مع الرأي العام» من وجهة نظر أستاذ الفلسفة الإسلامية في «جامعة القاهرة» علي مبروك، ربما كان أمراً مقصوداً من قبل جمال البنا، حتى «يلفت الانتباه إلى آرائه وكتاباته، فإذا ما ذهبنا إلى كتاباته وجدنا صاحب آراء في قضايا كبرى بعيدة عن الجزئيات التي تثير الزوبعات. وهي خطوة إستراتيجية تهدف إلى توجيه الأنظار إليه وإلى كتاباته». وأكّد مبروك أنّ البنا كان «يقدم آراءً بعيدة تماماً عن أطروحات الإسلام الشعبوي الذي لا يعمل العقل في اجتهاداته».

«يمكن تلخيص مسار اجتهادات البنا في ثلاثة أهداف، تتمثل في تجديد الفقه، وتخليص الفكر الإسلامي من العنعنة والنقل التي أثقلته طوال تاريخه عبر ما كان يسمّيه البنا «قبيلة حدثنا»». والهدف الأخير من وجهة نظر مبروك هو وضع حدود فاصلة بين الدين والسياسة، خصوصاً في الآونة الأخيرة التي يجري فيها استدعاء الدين في الشأن العام في كل كبيرة وصغيرة. وحول هجوم الإعلام على البنا، كما حدث حين اتهمه المذيع عمرو الليثي بـ«الديوثية»، أوضح مبروك أن بعض شرائح «المدنيين» المصريين فاقدة العقل والاستنارة، و«لا فرق بينها وبين التيارات الأصولية سوى في الكمّ لا الكيف، وتبدو أنها أقل تطرفاً لكنها تقليدية في بنية تفكيرها، وترى الاجتهاد شذوذاً لا يجب أن يكون».

من جهة ثانية، رأى المفكر الإسلامي أسامة القوصي أنّ البنا يعد ظاهرة كناية عن ردة فعل لما رآه من التيارات الأصولية والراديكالية على رأسها «جماعة الإخوان المسلمين» التي أسسها شقيقه الأكبر حسن البنا. و«لما رأى منهم ما هو مخالف للإسلام ولا يمت للدين بصلة، ذهب إلى ما يمكن تسميته «العقلانية المفرطة»، واضعاً نصب عينه: صحيح المنقول لا يتعارض بالضرورة مع صريح المعقول». وبالتالي بدأ في عمليات التأويل من أجل توافق «النص» مع العقل، وهو المقدم عنده، ما يجعله امتداداً للفكر المعتزلي القديم.

ويضيف القوصي أنّ من غير المنهجي أن نختصر جهود البنا في فتاوى غريبة أو تصادمية. لدى الرجل أكثر من أربعين مؤلفاً، كما أنّ «الذين أسقطوا عنه حق التفكير في الدين مخطئون، وأنا أتفق معه في أن البحث في مسائل الدين والفكر الديني لا يقتصر على رجال الأزهر أو ممن ينتسبون إلى مجال التخصص فحسب». وأشار إلى أنّ صاحب كتاب «العودة إلى القرآن» حارب في بحوثه وكتبه الجمود الذي أصاب النص الديني برؤى الخوارج قديماً وحديثاً. أما الباحث عبده إبراهيم المتخصص في الفكر السياسي الإسلامي، فقد رأى أنّ البنا ترك علامة فارقة في حقل الإسلام السياسي بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف معه. لقد كان يمثل لدى قطاع معين في الحياة السياسية المصرية وتحديداً نشطاء حقوق الإنسان، مرجعيةً دينية من خلال تبنيه رؤى الإسلام الحداثي ومفاهيمه وقيمه ونظرياته و«الكثير مما قدمه في هذا المجال أثار الجدل وخلق حالة من النقاش وهو أمر مطلوب وضروري سواء للمؤيدين له أو المختلفين معه».

على الرغم من بلوغ جمال البنا 93 عاماً، إلا أنّه ظلّ متابعاً للوضع السياسي والفكري العربي، وخصوصاً المصري. ظلت علاقته بـ«جماعة الإخوان المسلمين» التي أسسها شقيقه حسن البنا عام 1928، متوترة طوال الوقت، حتى وصل الأمر ببعض أعضائها إلى إنكار نسب المفكر الراحل بشقيقه مؤسس الجماعة، كما رمته بعض التيارات السلفية بالكفر والإلحاد ومعاداة الدين، مثلما حدث على شاشة قناة «الناس» السلفية في آذار (مارس) 2010.

أما البنا الذي أيّد ترشيح محمد البرادعي لرئاسة الجمهورية في 2009، فقد شهد موقفه من الجماعة الكثير من المد والجزر. بعدما ظل يردد أن قيادات الإخوان قد خالفوا فكر ومنهج «الإمام» الذي كان تربوياً في الأساس، واصفاً القيادات الإسلاموية بـ«طامعي السلطة»، تراجع موقف المعاداة نسبياً من الجماعة. في حوارين مع جريدتي «الشرق الأوسط» و«إيلاف» في حزيران (يونيو) وتشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، طالب البنا من المصريين «إمهال الرئيس محمد مرسي فرصة لتحقيق أهداف برنامجه».

عن دولة الخلافة والعلمانية

في آخر حوار أجراه معه موقع «اليوم السابع» قبل الانتخابات المصرية، ردّ جمال البنا على من ينادي بقيام دولة الخلافة الإسلامية قائلاً: «دول ناس بيحلموا، ومتخلّفين. التفكير في إعادة الماضي حماقة، فدولة الخلافة انتهت عندما حوّلها معاوية بن أبي سفيان إلى مُلك عضوض. ورأينا في عهده صوراً من الإرهاب، والقهر والموبقات». أما عن الذين يحذّرون من قيام دولة علمانية تحكم مصر وتوجّهها أكثر صوب أميركا والنموذج الأوروبي، فقال: «أنا مع دولة مدنية، لأننا نعيش عصر الحضارة الغربية. أنت تعيشه «غصب عنك»، فأنت لم تخترع طائرة، كل ذلك إنجازات الحضارة الأوروبية. لكن تستطيع أن تقول إن الحضارات السابقة أسهمت في الحضارة الأوروبية، فالخوارزمي «عمل الجبر». ولولاه، لما كان الإنترنت. وقد ساهم العرب والمسلمون في تعريف أوروبا التي كانت خارجة من الظلمات، على العلوم المختلفة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى