صفحات العالم

مقالات حول العدوان الاسرائيلي على غزة


غزة والجولان اختباران لـ”انتهاء” النظام السوري

وتوالي الاعترافات بالمعارضة يبدِّل في الواقع

    روزانا بومنصف

على رغم سرقة غزة والاعتداء الاسرائيلي عليها الاضواء من الحرب المستمرة بضراوة في ما اعتبره كثر خدمة للرئيس بشار الاسد، وعلى رغم التطورات السياسية التي حصلت منذ توافق المعارضة السورية الاسبوع الماضي على الانضواء الى ائتلاف واحد، شكلت الحرب على غزة امتحانا صعبا للنظام السوري وحلفائه.

 وثمة من يقول إن النظام السوري بات يفتقر الى أي حجة في الانتصار لغزة مع سقوط قتلى من أبناء شعبه يومياً على يد قواته، في حين ان اسرائيل كعدو ليس معروفاً عنها إلا استهدافها الشعب الفلسطيني وسواه من الشعوب بكل فئاتها من دون تمييز.

والامتحان القاسي الآخر الذي برز في الايام الاخيرة هو تصعيد اسرائيل قصفها الاراضي السورية عبر الجولان المحتل في ردود تقول انها تقوم بها على ما يطاولها من ملاحقة قوات النظام السوري للثوار، وذلك وسط اعلان اسرائيلي واضح عن فقدان النظام السوري سيطرته على اراضيه وعلى حدوده بحيث تسمح اسرائيل لنفسها بالرد العسكري والتهديد بالمزيد في ظل الواقع الجديد الذي بات يفرض نفسه على سوريا. وتفيد كل المعطيات بأن النظام لن يبقى ولا يستطيع ان يفعّل سيطرته او يستعيدها وفقا لمؤشرات باتت تثبت اكثر فاكثر صعوبة، لا بل استحالة، العودة الى الوراء، خصوصا ان النظام السوري بدا غائبا كليا عن التطورين في ترجمة قاسية لما بات عليه من الوهن السياسي. وهذا العنصر عززته مشاركته في اجتماع نظمته طهران للحوار بين النظام والمعارضة كما تقول، انما المعارضة التي يقبل بها وليس المعارضة التي انضوت من ضمن ائتلاف واسع، بما يؤشر الى افتقاد النظام الصدقية أيضاً في تنظيم أي حوار، وافتقاره الى القدرة على المبادرة، حتى لو كان كثيرون يعتبرون خطوة طهران ردا على رعاية الدول العربية والغربية لمؤتمر المعارضة السورية وتوحيدها في الدوحة الاسبوع الماضي.

هذه التطورات اضافت الكثير الى الاعتراف الذي محضته دول عدة للائتلاف السوري المعارض. اذ ان اعتراف فرنسا ومعها ايطاليا وتركيا بالائتلاف ممثلا شرعيا وحيدا للشعب السوري وقبول باريس بتعيين سفير له لديها يعد خطوة كبرى على طريق المزيد من الضغوط الديبلوماسية والسياسية على النظام السوري، علماً ان هذا التعيين يحرج الدول العربية التي لم تصل الى هذا الحد في الاعتراف بالائتلاف المعارض، كما يحرج الدول الغربية والاوروبية تحديدا ويحضها على السير على الطريق نفسه. وفي الوقت نفسه تتحدث معلومات عن آلية مرسومة للتطورات ستؤدي الى امرين: احدهما هو الضغط على الائتلاف المعارض للسير قدما في الخطوات المطلوبة من اجل توسيع شبكة دعمه والاعتراف به دوليا، وذلك من خلال اقناع المعارضات الليبرالية في الداخل بالانضمام اليه، والآخر توفير التزام الداخل العسكري بالخارج السياسي المعارض. علماً أن تأمين هذين الشرطين سيوفر للائتلاف اعتراف واشنطن ويتيح لها تالياً امتلاك الاوراق من اجل التفاوض مع موسكو على تغيير موقفها والتعاون من اجل تحديد المرحلة الانتقالية على رغم ان روسيا اظهرت تشبثها بموقفها في اللقاء الاخير الذي عقده وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليحي. الا ان كثرا يعتقدون ان روسيا لن تبيع موقفها في اي حال للدول العربية متى اقتنعت بوقف دعمها للنظام، بل ستبيعه لواشنطن نظرا الى جدول الاعمال الكبير بين الدولتين.

النهار

المتاجرون بالقضايا.. غزة.. أم سوريا؟!

تركي الدخيل

ليس من الضروري التأكيد المستمر والدائم على حق الفلسطينيين بالتحرر من أعباء الاحتلال الإسرائيلي، غير أن التأكيد على ضرورة أخذ مبادئ الحكمة في رئاسة الأحزاب التي تتخذ المواقف وقرارات السلم والحرب يمكن أن نكررها كثيراً لضرورة ذلك.

الأحزاب الشمولية التي أخذت من القضايا تكأة لترسيخ شعبيتها العربية والاجتماعية في الداخل والخارج مثل حماس وحزب الله عليها مسؤولية كبيرة أن تكون ضمن سياق الاحتياجات البشرية فهي أولى من الطموحات الأيديولوجية والأحلام الحزبية. يمكن للأحزاب أن تكون منتجة لمجتمعاتها وهي في ذات الإطار ضمن حالتها السياسية وطموحاتها في التحرر أو الانعتاق من الاحتلال أو الغزو. حالة “حماس” الأخيرة أوضحت كم أن هذه الأحزاب أو بعضها لا ترى في القضايا إلا مواضع للمتاجرة.

منذ أول هجمة من قبل إسرائيل على غزة بادر حزب الله بإدانة الهجمات، وحقّ له ذلك، غير أن حزب الله نفسه لم يدن حتى الآن قتل النظام السوري لأكثر من أربعين ألف قتيل، بل تشير التقارير إلى تورطه الميداني والأيديولوجي والتحريضي الإعلامي من خلال وسائله على الشعب السوري. استطاع حزب الله أن يحول فلسطين إلى منجم ذهبي يكسب من خلاله المواقف من قبل الفئات الشعبوية أو الأقليات التي تشعر نفسياً بالمظلومية، غير أنه لم يستطع حتى الآن أن يدين أي هجمة من النظام السوري ضد الشعب السوري الأعزل، ولا أدري ما الفرق بين طهارة الدم الفلسطيني والدم السوري، إنها السياسة الإيرانية التي تحرك الحزب نحو أي وجهة تريدها.

حزب الله يمكنه أن يدافع عن النظام السوري ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، غير أنه يحاول أن يدّعي مهاجمة إسرائيل والوقوف ضدها، بينما إسرائيل هي شريكة للأحزاب بالغزو على البلدان واسترخاص النفوس، ولا عجب فهي الأحزاب التي تعطيها المبررات لأن تضرب أكثر وأكثر بمباركة دولية وعالمية.

بآخر السطر، فإن إدانات حزب الله لن تكون مصدّقة من الناس إلا حين يجرؤ على إدانة القتل والسفك في سوريا، وما مقتل 40 قتيلا في فلسطين بأقل من مقتل 40 ألف قتيل في سوريا. ليس مستغرباً أن يقتل العدو الإسرائيلي منا الأبرياء وهو النظام الغاشم، لكن المستغرب أن يصمت حزب الله عن النظام السوري الذي ادعى أنه من أنظمة “الممانعة” هذا هو الإشكال الكبير!

غزة لا تنصرها الأوهام

ماجد الشّيخ *

ها هي غزة مرة أخرى تجابه وحدها همجية العدوان الإسرائيلي الإجرامي، فما تغير شيء مما جرى التعويل عليه أن يتغير، فلا الموقف المصري في عهدة «الإخوان» ولا الموقف العربي في عهدة الأشقاء المشغولين والمنشغلين بأوضاعهم الذاتية تغير؛ بما يمكنه من تغيير المعادلة التي بقيت على حالها؛ برغم أوهام التغيير لدى «قيادة غزة» وهي الأوهام التي استندت إليها قبل بدء الإسرائيليين لحربهم (عمود السحاب) والتي انطلقت من فرضية أن أياماً عدة كافية لتدمير المخزون الاستراتيجي من الصواريخ في قطاع غزة. بينما انطلقت قيادة غزة من فرضية أن تدخلاً مصرياً منذ الأيام الأولى يمكن أن يوقف العدوان، يلي ذلك تدخل جهود التهدئة بهدف فرض معادلة جديدة يرفض الإسرائيليون أن تكون بغير شروطهم ولغير مصلحتهم، فيما كانت «أوهام التغيير» تلعب برؤوس «قيادة غزة» بأن الصواريخ يمكنها أن تعيد ترسيم المعادلة، استناداً إلى مصر، بحيث يفرضون شروطاً جديدة للهدنة والتهدئة تكون ربحاً صافياً لهم من دون الإسرائيليين، لا سيما أن الزمن الانتخابي في إسرائيل لا يعمل إلا لمصلحة نوع أو أنواع من التطرف غير المسبوق.

هكذا في موسم انكشاف الأوهام وحصادها المر، تتعرض غزة اليوم لأبشع الجرائم الوحشية، في ظل استمرار أوهام أن يثمر واقع الانقسام السياسي والجغرافي «دولة موقتة»، وذلك في حد ذاته ضربة مصيرية مؤلمة للمشروع الوطني الفلسطيني، وهو الهدف الدائم لرواد المشروع الصهيوني؛ وليس جديداً في أن ما تتعرض له غزة، إنما هو جزء من مخطط سلب شرعية وتدمير الحقوق الوطنية الفلسطينية الواحد بعد الآخر، وشرذمة الواقع الوطني الفلسطيني لتكريس انقسام الوطنية الفلسطينية وتقاسمها حصصاً ومغانم سلطوية وزبائنية.

من هذا كله يمكن تبين أن المشروع الوطني الفلسطيني، لا يمكن اختزاله بخطوة جزئية هنا أو هناك أو هنالك، إنما هو مجموع ومحصلة خطوات استراتيجية يجري تجاهلها للأسف لصالح خطوات تكتيكية، يجري التعويل عليها وكأنها نهاية مطاف العملية الكفاحية التي يمكن أن تؤول إلى إقامة دولة فلسطينية لم تعد ركائزها الأرضية قائمة، بمعنى غياب أي ركائز سيادية لها على الأرض وعلى الحدود؛ فالاستيطان العامد إلى تغييب جغرافية الأرض، يعمد اليوم كذلك إلى تغييب ديموغرافية أرض الدولة المفترضة، ليزرعها مستوطنات ومستوطنين على حساب أصحاب الأرض الحقيقيين.

لذلك ومهما كان عمق التكتيك السياسي بعيد النظر في قبول فلسطين دولة غير عضو في التصويت المعول عليه في أروقة الأمم المتحدة، فإن استفراد إسرائيل بقطاع غزة، هو الوجه الآخر لاستفراد الوضع الوطني الفلسطيني برمته، في ظل وضع عربي رديء، فقد الكثير من روحية التضامن الشعبي، عوضاً عن الرسمي، بخاصة في فترة من أحرج فترات الكفاحات الشعبية ضد الاستبداد والتغول السلطوي الحاكم في العديد من البلدان العربية القريبة والبعيدة.

إن استمرار أوهام العديد من القوى السياسية والشعبية، في شأن الأوضاع السياسية في المنطقة والعالم، لن يقدم لأهل القطاع ما يوقف استمرار وتواصل العدوان الإجرامي الإسرائيلي، وتحويل حياتهم إلى جحيم يضاف إلى جحيم العيش في ظل سلطة تفتقد مقومات السلطة والسيادة، وإن حملت تسمية المقاومة، حتى وهي لا تحمل في سيماء مقاومتها أي خطة أو مخطط إستراتيجي يهدف لمقاومة عنف الاحتلال وعنف ممارساته الوحشية ضد المواطنين الآمنين؛ وما دام الانقسام السياسي والجغرافي سيد المصالح غير العليا لطرفي الانقسام والمستفيدين منه، واستمرار تحميله أوهاماً لا يقرها العقل السياسي ولا الفكر السياسي، فلن تجد غزة من ينصرها فعلياً وعملياً، وكفى وهم أن تتحول مصر إلى وكيل لغزة، فمصر الدولة (المفترضة) هي بالتأكيد غير مصر «الإخوان» وهم يحولون رئاستهم لمصر إلى سلطة تتحول بهم إلى معادل لسلطة استبدادية سقطت؛ بفعل كفاحات شعبية كان من المؤمل أن تكون معادلاً لثورة تغيير حقيقية، وإذ بها تتحول على أيديهم إلى ثورة تكريس ما كان بأدوات وبوجوه أخرى.

* كاتب فلسطيني

الحرب الإسرائيلية تكشف هشاشة معينة في الربيع العربي

وسام سعادة

في مكان ما، استمرّ الربيع العربي لعامين “متجاهلاً” المسألة الفلسطينية أو “مهمّشاً” لها. لم يملك أهل هذا الربيع المتعاقب من بلد إلى بلد ما يطرحونه على الفلسطينيين، اللهم غير الاحتجاج بالتفاؤل العام، الفضفاض، المجرّد، الذي يراهن على أن الشعوب الحرّة ستكون أكثر قدرة على إيفاء القضية قسطها مما يمكن أن تقدّمه شعوب رازحة تحت نير الاستبداد. وهذه معادلة صحيحة بلا أدنى شك، لكنها حين تطرح بشكل معزول ومطلق تأتي على جانب كبير من الغموض والالتباس، ويمكن أن تفيد الشيء ونقيضه، وأخطر ما يمكن أن تبرّر له هو الموقف “التأجيليّ” لقضية الفلسطينيين إلى مرحلة تاريخية لاحقة، أي إلى حين استتباب الربيع العربي من حولهم.

في مكان آخر، ما إن انطلقت العملية الحربية – التدميرية الإسرائيلية على قطاع غزة، حتى ظهرت الهشاشة الثقافية للربيع العربي، انزلاقاً إما الى “نظرية المؤامرة” أو إلى “خطاب الممانعة”. كمثال على الانزلاق إلى “نظرية المؤامرة” هذه المسارعة إلى الحديث عن مؤامرة مشتركة لبشار الأسد وبنيامين نتانياهو ضد الشعبين السوري والفلسطيني. وهذا ليس واقعياً لسبب بسيط، أن إسرائيل لم تعد تطرح على نفسها كيفية التعامل مع استمرارية نظام آل الاسد، إنما تطرح على نفسها، من جملة محاور أخرى، كيفية التعاطي مع تداعيات ما بعد سقوطه. كذلك، فإن التفسير الآخر الذي يبالغ في أن هذه الحرب ستزيد انفصال “حماس” عن إيران، وبالتالي إبعاد إيران نهائياً عن الساحة الفلسطينية، هو أيضاً تفسير يحوي على شيء من الاعتباطية، ذلك أن المسارين الحربي والديبلوماسي المواكبين هما اللذان سيقرّران في الأيام المقبلة، ما إذا كانت هذه الحرب ستعزّز أو تزعزع النفوذ الإيراني في ساحات الصراع العربي – الإسرائيلي. ليس هناك أي حرب في التاريخ تجيء كناية عن تصميم هندسي يجري تطبيقه ميدانياً كما هو. ورغم كل ما نكبنا به من حروب في العقود الماضية، لم نعط أي جهد، لا في التفكير ولا في التعاطي السياسي، لوعي حيوية ظاهرة “الحرب” وعدم قابلية أن تختصر في “تفسير تآمري” جاهز سلفاً.

أما عن الانزلاق إلى “خطاب الممانعة” وثقافتها فحدّث ولا حرج. كما لو أنه كتب على أهل الربيع والليبراليين من العرب أن يكونوا كذلك في أوقات السلم ثم يستقون تعابيرهم ومقولاتهم من معجم حسن نصر الله في أوقات الحرب. وهكذا، وبدلاً من تحكيم العقل لأجل إدانة لجوء إسرائيل إلى القوة العدوانية التدميرية المفرطة التي لا تتناسب مع القدرات العسكرية للمقاتلين الفلسطينيين، جرى إطلاق العنان للهوى، فاللاعقلانية وحدها هي التي يمكنها تصوير الإسرائيليين والفلسطينيين كمتعادلين استراتيجياً على مستوى التسلح، كما أن اللاعقلانية وحدها هي التي يمكنها أن تلغي الفارق بين مضاعفات الهلع في مجتمع صناعي وبين مضاعفاته في مجتمع تقليدي. واللاعقلانية كذلك الأمر هي التي يمكنها أن توهم الناس بأن كل طرف يخوض حرباً يضع لنفسه معياراً ذاتياً خاصاً للربح والخسارة، لا بل يجعله معياراً متحركاً، بحيث يكفي أن يقول أنا لست مهزوماً مهما حصل، كي ينتصر.

الخطأ الأوّل هو تصوّر أنّ الوقت ليس للفلسطينيين الآن وأن لقضيتهم موعداً يفترض أن يتأجل إلى يوم ينضج فيه الربيع العربي نفسه. هذا الخطأ يستكمل بشكل آخر، شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” وهو يتهرّب من طرح مقاربة ربيعية جديدة للصراع العربي- الإسرائيلي، ولدور الشعب الفلسطيني في إعادة صوغ المشهد الإقليمي في اتجاه التطور الديموقراطي والاستقلالي، فضلاً على كونه يتهرّب من القضية المركزية بالنسبة إلى أفق أي تطور ديموقراطي، أي قضية تحقيق السلام الإقليمي الشامل. إذ لا يعقل أن تكون هناك مرجعية مدريد ومبادرة بيروت للسلام قبل الربيع العربي، ثم لا يكون لهذا الربيع أي التزام في هذا الاتجاه.

أما الخطأ الثاني فهو اعتبار أن شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” يمكن أن يتحول إلى معادلة سحرية لحسم الصراع العربي- الإسرائيلي أيضاً. لأجل ذلك هناك من يصرّ على تكرار الأخطاء نفسها، مع تذييلها بختم “الربيع”: خطأ “صوت العرب” في حرب 1967، وخطأ الانتظارات الخلاصية لـ”سكود صدام حسين” أيام حرب الخليج الأولى، وخطأ الانزلاق وراء الوهم الذي تخصّص في تسويقه “حزب الله”، بأن الهوة التكنولوجية بيننا وبين العدو قد ضاقت ما دامت المسافة الصاروخية قد زادت. في أقل تقدير لا يمكن تسويق هذا كمعطى بديهي، ثم تخوين الناس على أساسه.

ما بين الخطأين، الأول (خطأ تأجيل قضية الفلسطينيين الى ما بعد الربيع) والثاني (خطأ الانزلاق الى ثقافة الممانعة)، لا بد أيضاً من طمأنة الذات: لا يمكن لنظام آل الأسد أن يستفيد من هذه الحرب مهما تكن نتائجها. التضامن المطلق مع الشعب الفلسطيني هو أمر ينسجم تماماً مع ساعة الثورة السورية، ومع قيمها، ومع أهدافها. الكل – باستثناء سيرغي لافروف – صار يتصرّف مع هذا النظام كما لو أنه دخل في مرحلة احتضاره الأخيرة.

المستقبل

التضامن مع غزّة بعد «الربيع العربي»

سامر فرنجيّة *

لا بد، في لحظة إجرام كالتي تعيشها غزّة اليوم، من التضامن الكامل مع أهاليها لوقف عملية القتل المنهجية التي أطلقتها الحكومة الإسرائيلية. فالتضامن هذا لا يحتاج إلى سياسة، بل إلى مجرّد إحساس بالإنسانية، الذي لا يمكن أن يترجم إلاّ دعماً مطلقاً لشعب مهمّش وفقير ومقموع ومعرّض لأبشع أنواع القتل والذبح، أي إنه الضحية بكل معنى الكلمة.

لن يختلف إثنان في العالم العربي على هذا التوصيف الذي لا يحتاج إلى شجاعة أو بطولة، كما يعتقد بعض «الثوار». فمسألة غزّة واضحة على الصعيد الإنساني، لا تتطلب سجالاً أو إقناعاً أو دفاعاً. التضامن تلقائي. وهنا مشكلته. فعلى عكس التضامن مع غزّة في الغرب، حيث يمكن أن يكون لوجهة نظر مختلفة دور في التأثير في الرأي العام. ففي العالم العربي المسألة محسومة، ما يضع التضامن في مستوى ما دون السياسة، يتشارك فيه الأعداء، وكأن لا ترجمة سياسية له. فالكل مع غزّة، ما ينعكس سياسياً، لسوء الحظ، في أن ما من أحد، في النتيجة، معها.

فالتضامن صفة مبالغ فيها، فهو غالباً ما يكون محاولة لإراحة ضمير من لا يشارك الضحية مآسيها، أو قضية لمراهقين يبحثون عن إثارة تُقدّم بعض المعنى لحياتهم «الطبيعية»، وإن على حساب ضحايا لا يطالبون إلاّ بهذه الحياة الخالية من الإثارة. هنا، يلتقي «الإنساني» بـ«الراديكالي» في نفيهما للسياسة وتحويلهما الضحية كائنا خارج التاريخ، ضحية مطلقة أو ثائرا دائما. فالأول ينفي السياسة من خلال البحث عن بعد إنساني جامع، لا يتخطى شعار «وقف القتل». أما الثاني، فينظر إلى الضحايا كجزء من سيرورة ثورية، تتعايش مع القتل باسم هدف أسمى، ثمنه يكمن في مكان آخر. وهذا ما يظهر في مقولة «الردع» البائتة، التي تقبل ضمنياً بالنظرة الدونية الى حياة الفلسطينيين، عندما تعلن انتصار الردع وإن كان في مقابل مجزرة تحلّ بغزّة وأهلها. ومن يزال يؤمن بتلك النظرية ليس عليه إلاّ الالتفات إلى وضع لبنان بعد تحقيق توازن الرعب المنشود.

أنواع التضامن الرثة هذه نتيجة لسياسة ما قبل الثورات. أي ما قبل حكومات شرعية وحقول سياسية محرّرة. إنه نوع من التضامن عالق بين تواطؤ مبارك واستغلال الممانعة، والرديف الأخلاقي لتلك المنظومة. أمّا التضامن في المرحلة الربيعية، فيواجه تحدّيين: الأول يتصل بالحكومات الجديدة التي عليها ابتكار سياسة أكثر فاعلية من التي سبقتها وأكثر واقعية من كذب الممانعة. أمّا التحدي الثاني فهو ضمني ويواجه الحقل السياسي في مجتمعات ما بعد الثورة، ويتعلق بتحديد موقف الدول من القضية الفلسطينية وحدود أو أشكال التضامن معها. فلا بد هنا من الاعتراف بأن قطبي الإنسانية والراديكالية قد يكونان مغريين، غير أنهما غير كافيين في المرحلة الجديدة، إن لم تكن لهما نتيجة عكسية. كذلك، فأشكال التضامن الحالي ما زالت تنتمي إلى مرحلة ما قبل الثورة السورية وضحاياها الذين بات عددهم يفوق الأربعين ألفاً. فإذا كانت مقارنة المجازر مرفوضة أخلاقياً، أمكنت مقارنة أنواع التضامن، أو اللاتضامن، التي تحركت تجاه هاتين القضيّتين. ففي وجه التضامن شبه الكامل مع غزّة وممثلها السياسي، أي حماس (الإسلامي والممول قطرياً، وفق تعابير الممانعة)، لا يمكن إلاّ التوقف عند الشعور بالحرج والتضامن الهزيل الذي ناله الشعب السوري بعد سنتين من المجازر المتواصلة. فحتى التضامن الإنساني واللاسياسي لم يُقدمّ لضحايا بشار الأسد، وكأنهم لم يستحقوا أبسط الاعتراف بإنسانيتهم، لمجرّد ارتكابهم خطيئة الإخلال بالخرائط الأيديولوجية للسياسة العربية. هكذا يبدو غريباً هذا المشهد من التضامن هنا واللامبالاة هناك، وكأن تلك المجازر لا تقع في البقعة نفسها من الأرض وفي اليوم ذاته.

لقد قدّم البعض مقولة الوضوح لتفسير توزيع التضامن هذا. فالوضع في سورية معقّد، وفق تلك المقولة، لا يحتمل تضامناً مع أي طرف. أما في غزّة، فهو واضح، وهوية الضحية والجلاد معروفة لا لبس فيها. لكن تلك المقولة تجسد أزمة التضامن أكثر مما تفسّرها. فأخلاقياً، الوضع في سورية في وضوح الوضع في فلسطين، ومن لا يرى هذا الوضوح لا يحق له التضامن مع أي من تلك القضايا. أما في السياسة، فالتعقيد هو نفسه، ومن لا يرى صعوبات الحل السياسي في الحالتين فاقد لأدنى وعي سياسي. وضوح فلسطين قائم عند داعمها في اللاسياسة التي يفرضونها عليها. أمّا غموض سورية عند اللامبالين فقائم في الأخلاق التي ينكرونها عن قضيتها.

وربّما كمن في هذا المشهد الجواب عن معضلة التضامن ما بعد الثورات. فالثورة السورية استطاعت الهروب من قطبي التضامن الإنساني والراديكالي لتحافظ على مخزونها السياسي، الذي يسيّس الإنساني ويرشّد الراديكالي. وربّما لأن التضامن مع الثورة السورية لم يكن جامعاً، وبالتالي فارغاً، استطاع أن يحافظ على حد أدنى من الفعالية والمعنى، وبقي مشروطاً ونقدياً وواعياً للأخطاء والأهداف، ما يجعله أقل فولكلورية من غيره وأكثر فاعلية.

إن الثورات العربية لن تُستكمل إلاّ بتوسيع رقعة «الربيع العربي» بمدّها إلى جميع أنظمة القمع والاستبداد في المنطقة وبابتكار موقف من القضية الفلسطينية يحوّل هذا التعاطف إلى موقف سياسي. ولا مهرب من هذا التحدي، الذي يتطلب قبل كل شيء تحرير هذه القضية من بعض داعميها المفترضين. وفي انتظار هذا الموقف، سنبقى كلنا مع غزّة، وكأن لا أحد مع غزّة.

* كاتب لبناني

الحياة

..والمستفيد الأسد!

طارق الحميد

بكل تأكيد، إن المستفيد من التفجير الذي استهدف حافلة نقل ركاب داخل تل أبيب يوم أمس هو نظام بشار الأسد، وخصوصا أن التفجير جاء في توقيت كان الجميع يترقب فيه الإعلان عن الهدنة، أو التهدئة، بين كل من إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة بقيادة حماس، وبرعاية مصرية، دولية.

جاء ذلك التفجير والجميع مقتنع بأنه لا بد من وقف العدوان الإسرائيلي، ووقف الصواريخ المطلقة من غزة، هذا ما أراده المصريون، حتى إن البعض بدأ يعلن عن انتصار «دبلوماسية مرسي». كما جاء ذلك التفجير وخالد مشعل نفسه قد عبر عن رغبة حركته بالتزام التهدئة، حتى إنه قال: «لا نريد تصعيدا، حماس شجاعة ولكنها ليست متهورة».

الجميع أراد، ويريد، هذه التهدئة، بمن فيهم الإسرائيليون، والقصة ليست قصة تعنت طرف ضد آخر، حماس وإسرائيل، وإنما كل طرف يريد تحقيق مكاسب من الاتفاق المنتظر لكي يروج قصة انتصاره، إلا أن هذا التفجير جاء لاستهداف «اللحظات الأخيرة» من جهود التوصل لاتفاق التهدئة. وهذا التفجير الذي لا يقدم ولا يؤخر في الصراع على غزة، بل إنه سيؤدي إلى تعنت إسرائيلي، كما أدى إلى قلب موازين التغطية الإعلامية دوليا، حيث بات الحديث الآن عن «عملية إرهابية» وليس عن حرب، أو عدوان، أو معاناة أهل غزة، المستفيد منه هو من دون شك الطرف الذي يريد إطالة هذه الحرب.

وأكبر مستفيد من هذه الحرب اليوم هو نظام طاغية دمشق، حيث علا صوت حرب غزة فوق صوت حرب الأسد على شعبه، وها هي إيران، وحزب الله، يحاولان الاستفادة من حرب غزة لتلميع صورتهما السيئة، ولإطالة عمر نظام الأسد، حيث نجد حسن نصر الله يقول، إن «إيران والأسد وحزب الله لن يتخلوا عن غزة»، ونجد علي لاريجاني، رئيس البرلمان الإيراني، يقول بلا حياء، إن على دول المنطقة أن «توجه قوتها إلى فلسطين لكي تقاتل الكيان الإسرائيلي بدلا من توجيه القوة وإرسال السلاح إلى سوريا»، وكأن مقتل 36 ألف سوري على يد قوات الأسد ليس ذا قيمة! ولذا فقد كان مهما جدا تصريح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس الذي حمل فيه إيران «مسؤولية كبرى جدا» في نزاعات الشرق الأوسط، وخصوصا في غزة، حيث يقول فابيوس: «نجد إيران في لبنان وسوريا والعراق وغزة، وفي كل مرة بنوايا سلبية جدا، ثم هناك المسألة الكبرى المتعلقة بملفها النووي»!

وعليه، فيجب ألا يساورنا أدنى شك بأن من يقف خلف تفجير حافلة تل أبيب هو من يريد إطالة أمد العدوان الإسرائيلي على غزة، وضرب الجهود المصرية، وإشغال العرب، والمجتمع الدولي، بأزمة غزة بدلا من التركيز على حرب الأسد ضد شعبه. ملخص القول، وكما قلنا من قبل، إن أهم عامل من عوامل استقرار هذه المنطقة هو إسقاط الأسد، وحرب غزة الحالية أكبر دليل على خطر هذا النظام، وحلفائه، على المنطقة ككل، وعلى القضية الفلسطينية نفسها.

الشرق الأوسط

غزة بين غزوتين وعَرَبين

أمجد ناصر

الرصاص المصهور 2008

ليس رصاصاً هذا الذي ينهمر على قطاع غزة. إنه أطنان من القذائف والصواريخ. ترسانة كاملة من الديناميت والحديد المصهور والنار. اسم العملية الاسرائيلية مضلل، مثل أهدافها المضللة، مثل واضعي خطَّتها الدموية، مثل فكرتهم الخطأ عن نهاية القصة. المسمّيات هناك لا تتخذ أسماءها الفعلية عندما يتعلق الأمر بـ االغوييمب (الآخرين). فلتسمَّ بأيِّ اسم، قريباً كان أو بعيداً، فليس الاسم مهماً ما دام يتعلق بدمٍ آخر غير االدم اليهوديب الذي يحقُّ له وحده أن ينعم بالاسم الصحيح. مقذوفات الفلسطينيين، في المقابل، تسمى اصواريخب. اطلاقها على المستوطنات يسمى اارهاباً’. وقعها على المستوطنين يدعى ارعباب. التلفزة الغربية، المنحازة حتى العظم لأخبار القلعة الأمامية، ترينا اجلاء المستوطنين. ترينا ملاجىء. ترينا أناساً يتحدثون الانكليزية مثل الانكليز. ترينا الحفر البائسة التي أحدثتها مقذوفات فلسطينيي غزة، ولكنها تتلكأ كثيراً في أن ترينا الدم والأشلاء والهياكل العظمية النخرة للبنايات والأسواق والجوامع والسجون والمقار الحكومية التي تسويها الطائرات الاسرائيلية بالأرض، أو تتركها شاهداً على االافراط في القوةب. تلك الصور نادراً ما نراها. تتركها التلفزات الغربية للبث العربي الذي ايعظب المؤمنين. إن حدث ورأينا صوراً كهذه، لا بدَّ أن تكون مقرونة بصور مقنعين وشبان يلوحون ببنادقهم في غضب وناطقين يتحدثون انكليزية ركيكة. فالصور، هي أيضاً، تحاربُ. الصورُ تقول شيئاً وتصمت، بلؤمٍ وانحيازٍ، عن شيء آخر. كلامهم الفصيح، وكلامنا المتلعثم مقصودان كذلك. الأول يوحي بالألفة والامتداد والثاني بالغرابة والقطيعة.اسرائيل تقول إنها تريد الاستيلاء على منصات الصواريخ الفلسطينية التي تُطلق على مستوطناتها من القطاع. كذلك قالت عندما اجتاحت لبنان عام 82 تحت شعار اسلامة الجليلب. أهداف كاذبة ومراوغة. فهي لم تغادر لبنان رغم مغادرة منظمة التحرير. لم تتراجع وراء الحدود إلا بعد أن أجبرتها المقاومة اللبنانية على ذلك. والآن تعيد الأكذوبة ذاتها. دورة الدم والدمار نفسها. مثل مصاصي الدماء في السينما لا تكتب لهم حياة من دون دمٍ حيّ. هذه هي اسرائيل: افامبايرب. بالدم لا بالخبز تعيش، بالحرب لا بالسلام تبقى على قيد الحياة. ليست هناك ادولةب في العالم يقتلها السلام كما هي حال اسرائيل. إنها تعرف تلك الكأس ولن تتجرعها قط.

أي انجاز اسرائيلي، بعد هذه التجريدة الدموية، أقل من احتلال قطاع غزة بالكامل وفرض الاستسلام على اجرحه المكابرب لن يكون نصراً. فالنصر الذي لا يحقق تغيير اقواعد اللعبةب (على حد تعبير المجرمة الشقراء ليفني) بعد كل هذا الدمار والدم والفضيحة السياسية والاخلاقية لن يكون نصراً. نصر القوي غير نصر الضعيف. نصر المدجج بكل أسباب القوة وبالقدرة، المطلقة السراح، على استخدامها، غير نصر المحاصر. هل هذا هدف سهل المنال؟ لا يبدو الأمر كذلك. لأن القصة لا تنتهي هكذا. كل القصص التي تشبهها لم تنته هذه النهاية. ينسى الاسرائيليون أنهم لا يغيرون على جيش. لا يضربون خطوطا ثابتة تتلقى أوامر من جنرالات مثقلة أكتافهم بأوسمة مزيفة. إنهم يواجهون شعباً لم يعد لديه ما يخسره، شعباً جوعوه وأذلوه وحاصروه في أضيق رقعة في العالم، ولكنه لم يرفع الراية البيضاء. ينسى الاسرائيليون، كذلك، أن القصة لا تنتهي برفع الراية البيضاء، وأن الرواة، الذين لم يستمعوا إليهم جيداً، لم يتوقفوا عن الكلام بعد اسلامة الجليلب ولا اعناقيد الغضبب ولا االسور الواقيب ولا اأمطار الصيف’، ولا االرصاص المنهمرب أو االمصهور’.إن كان الاسرائيليون لا يعرفون أن الشعوب لا تُكْسر بسهولة ولا تموت بكسة زر، فالفلسطينيون يعرفون أن للقصة نهاية أخرى غير تلك الخرائط التي يفردها اجيش الدفاعب على الأرض المحروقة. قد لا يكون فصل الختام قريبا في القصة القديمة المتجددة ولكنه لا ينتهي على هذا النحو.

عمود السحاب 2012

التكرارُ ممكنٌ في الأدب ولكنه مستحيل في الواقع. الكتابة الأدبية (البلاغة العربية تحديداً) تستخدم تقنية التكرار للتأكيد على الموضوع الذي تعالجه أو لمضاعفة التأثير في المتلقي، كما هو الأمر في مستهل هذه الوقفة غير الطللية. لكن التكرار في الواقع (الزمن، الأحداث، ظواهر الطبيعة) غير ممكنٍ عملاً بمقولة هيروقليطس الشهيرة: إننا لا ننزل الى النَّهر مرتين. لا نستحم بمياهه مرتين. فمن دأب مياه النهر التغير والجريان. وهذا ما يحدث في غزة اليوم مع ‘عمود السحاب’.

القصة القديمة تبدو كأنها تتكرَّر. كأنَّ الحكاية تعود لتروي نفسها مجدداً على نظارة ضجرين يعرفونها من الألف الى الياء: الطائرات التي تغير وتقصف، أعمدة الدخان التي تتعالى من رأس المدينة المنكوبة، الدمار الهائل الذي تحدثه صواريخ الإف 15 والإف 16، الضحايا، مدنيون في الغالب، تغصُّ بهم المستشفــيات، العرب الذين يشجبون ويندِّدون، الضفة الغربية التي ترى وتسمع ولكنها لا تنتفض في قفص السلطة الحديدي..

كلُّ هذا صحيح، وكله متوقع، كأنَّ لا شيء يفاجئنا مع هذا الكيان السرطاني ولا نحن قادرون على مفاجأة أنفسنا.. ولكن مهلاً، يبدو أن الأمر مختلف هذه المرة. نعم، هو كذلك. فلم تدفع ‘مقذوفات’ المقاومة في غزة الإسرائيليين، من قبل، الى إطلاق صفارات الانذار في القدس وتل أبيب. هذا لم يحصل سابقاً. فالمقذوفات شبه البدائية التي ألقتها فصائل المقاومة الفلسطينية على المستوطنات والبلدات الاسرائيلية القريبة من القطاع في المواجهات السابقة صارت صواريخ بعيدة المدى. الهلع المصطنع والتباكي خوفاً والكاميرات التي تتلكأ بالقرب من الملاجىء لاستدرار العطف أصبحت حقيقة، فهناك أكثر من مليون اسرائيلي هرعوا الى الملاجىء أو أقاموا فيها. العالم الذي يكاد أن يبوس ذقون قادة كيان الحرب والعدوان كي يكفوا طائراتهم المسعورة عن سماء غزة لم يفعل هذه المرة، بل لعلهم هم الذين يوسِّطون العالم لوقف اطلاق النار وتوقيع اتفاق تهدئة طويلة المدى مع المقاومة. النزهة الجوية المريحة على مدينة تشهد أكبر اكتظاظ سكاني في العالم، وربما أكبر بؤس وحرمان وشوق الى حياة عادية، لم تكن مريحة هذه المرة. ولا على أي صعيد. فهناك مياه أخرى جرت تحت جسر الزمن والواقع مذ صبَّت إسرائيل رصاصها المصهور على غزة عام 2008.

المفاجأة في القصة القديمة، التي تعود لتُرْوى، أن هناك غزة مختلفة اليوم وواقعاً عربياً لا يشبه أيام ‘الرصاص المصهور’ كما تشير إليها، بوضوح، الفقرة السابقة من هذا المقال. ‘عمود السحاب’ لم يرتفع فوق غزة وحدها بل ارتفع فوق عاصمة اسرائيل ومدن عاشت في عصمة أمنية عقوداً طويلة. فإن كان لا بدَّ من دخان يتصاعد من رأس غزة فليتصاعد الدخان، إذن، من رؤوس مدنهم ومستوطناتهم. هم أصحاب قانون العين بالعين والسن بالسن ولا يفهمون غير هذا القانون.

متغيرات كثيرة حصلت منذ آخر غزوة اسرائيلية كبيرة على غزة، منها أن المقاومة لم تنم على ‘حرير’ التهدئة فعملت على تهيئة نفسها لجولة تعرف أنها قادمة، فمع اسرائيل، ما لم تهزم نهائياً، هناك دائما جولة قادمة، ومنها أيضا أن حسني مبارك، كنز اسرائيل الاستراتيجي، يقبع سجينا في سجن ‘طرة’ ولم تعد قواه الأمنية والاستخبارية تعمل كقصَّاص أثر في صحراء سيناء لمصلحة اسرائيل.. والأهم من كل ذلك أن هناك ثورات حصلت في مصر، تونس، اليمن، سورية. العالم العربي الذي تجسُّ نبضَه طائرات نتينياهو تغير كثيراً في العامين الماضيين وهو في سبيله الى مزيد من التغير . هذا هو الفارق الجوهري، في رأيي، بين عدوان اسرائيلي على غزة في ظل الاستبداد وعدوان في ظل انتفاضات عربية تختلط مقاصدها واستهدافاتها بين ما هو وطني وقومي، داخلي وخارجي.

لا نجادل بقدرة اسرائيل على التدمير. فهذا ما تجيده وتبدع فيه ولكن السؤال يظل، رغم كل هذا الدمار الذي الحقته بالمدينة الاكثر اكتظاظا في العالم، قائماً: هل غير هذا الدمار ‘قواعد اللعبة’ وأرسى واقعاً جديداً (لصالحها) في غزة؟

الجواب: كلا. لأن القصة القديمة المتجددة لا تنتهي هكذا.

لتلك القصة نهاية مختلفة لن تكتب أسطرها الأخيرة الـ إف 15 و الـ إف 16.

القدس العربي

معركة تأهيل «إخوان» غزة

زهير قصيباتي

انفجار الباص في تل أبيب إن كان مشروعاً لتفخيخ مسودة اتفاق وقف النار بين إسرائيل و «حماس»، فالأرجح أن الأنظار سرعان ما تحوّلت إلى إيران والفصائل الفلسطينية التي تدور في فلكها، لإطالة عملية «عمود السحاب» الإسرائيلية، ونزع ورقة التفرد بالإشراف على التهدئة من يد «حماس»… والضامن المصري.

وحديث الإسرائيليين عن «اعتراف دولي قوي» تكسبه حركة «حماس» من خلال اتفاق التهدئة الذي تأخر إعلانه، يشبه إلى حد بعيد إعتراف الغرب والأميركيين بصعود «الإخوان المسلمين» بعد «الربيع العربي»، وحتمية التعامل معهم عبر حكوماتهم. وأما التعقيدات الأخرى المرتبطة بطبيعة النزاع الفلسطيني– الإسرائيلي، والانقسام بين الفلسطينيين، فتجعل مصر «الإخوان» الحاضنة الأولى لـ «تأهيل» حركة «حماس» وتكليفها منع إطلاق الصواريخ على إسرائيل من قطاع غزة، أي منع إيران من استخدام بعض الفصائل في عروض القوة التي تستغلها كلما احتاجت الى توجيه رسائل إلى واشنطن وتل أبيب. والرسالة هذه المرة، المدموغة بالضربات الصاروخية على تل أبيب والقدس، لا تتوقف عند حدود تحويل الأنظار عن معركة مصير النظام السوري، بل تأتي- بعد طائرة «أيوب» التي أطلقها «حزب الله»- بمثابة عرض «ردعٍ» للمقايضة مع أي مشروع حرب يفكر اليمين الإسرائيلي بشنّها، لتدمير المنشآت النووية الإيرانية.

يفرض منطق الرسائل بالتالي، عدم تمكين «حماس» من التحكم بقدرة الفصائل الأخرى الفلسطينية على تحريك الصواريخ، كلما شاءت طهران، لحسابات تتعلق ببرنامجها النووي، وتمسكها بموطئ على البحر المتوسط… في انتظار ما ستؤول إليه الحرب في سورية. وما نُقِل عن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك في شأن تفاهمات تضمنها مصر وتضع «حماس» أمام «اختبار جدي» لفرض سيطرتها على التنظيمات، إذ يكلّف الحركة منع ما يستهدف «أمن إسرائيل»، يختبرها كذلك محاوراً بديلاً لسلطة محمود عباس… إن لم يتراجع عن طلب صفة الدولة – المراقب لفلسطين في الأمم المتحدة.

تتعارض إذاً مصالح إيران ومصر في قطاع غزة، و «حماس» خارج المظلة السورية- الإيرانية لم تعد «حماس» التي خاضت حرب 2008. للقاهرة مصلحة في استعادة دور إقليمي تحت صورة «الإخوان المسلمين»، والتجاوب مع طلب الأميركيين تدخّلاً للتهدئة في غزة، أصرّ عليه الرئيس باراك أوباما في اتصالاته بالرئيس محمد مرسي المشمئز من «مهزلة العدوان الإسرائيلي» على غزة.

ليست كزلّة لسان مرسي في حديثه عن «المهزلة» المجزرة في غزة، هرولة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الى المنطقة، لتبلغ الإسرائيليين ان التزام واشنطن أمنهم «صلب كالصخر»، ولتشدّ على يد مرسي برسالة «تأهيل اخوان غزة»، فالبديل «اضطراب» إقليمي وعجز عن غلّ يد نتانياهو. ولكن، رغم ظلال الشكوك التي أرخاها تفجير الباص ليتمدد غباره الى مشروع التفاهمات، لم يكن يحتاج عناءً كثيراً كشف عقدة رفع الحصار عن قطاع غزة. صحيح ان «حماس» تريده لتعلن تحقيق «انتصار»، لكنّ الأكيد ايضاً أن نتانياهو عشية الانتخابات الإسرائيلية، لن يُقدِم على «تنازل» بهذا الحجم. وبمخرج التسعين يوماً، فترة «اختبار» لقدرة «حماس» على منع إطلاق الصواريخ، سيمكنه تأجيل ملف فتح المعابر إلى ما بعد الانتخابات. أما الحركة فسيمكنها إعلان انتزاع موافقة إسرائيلية على وقف الغارات والاغتيالات.

واضح ان القتل الإسرائيلي للفلسطينيين في غزة، صرف الانتباه موقتاً عن قتل السوريين في سورية، رغم الفارق الكبير في الحصيلة اليومية لأعداد الشهداء. على الهامش، إيران «توبّخ» العرب لتلكؤهم في تسليح غزة، وأميركا «توبّخ» أردوغان لقسوته في التنديد بإسرائيل. والحال أن حكومة نتانياهو التي تريد «خمس سنوات من الهدوء» مع قطاع غزة، ستستفيد من دروس «الردع الصاروخي»، واختبار «الربيع العربي» فيما تبتلع أراضي الضفة، وقرار السلطة الفلسطينية، وتترك إلى حين مصير الملف النووي الإيراني في عهدة واشنطن.

في الظاهر، يذكّر رفض واشنطن مشروع بيانٍ روسياً لمجلس الأمن حول «عمود السحاب»، بالفيتو الروسي في الملف السوري، لكن الفوارق هائلة، وبينها أن سورية تشهد حرباً لإنهاء نظام، فيما تشهد غزة جولة لتأهيل «نظام إخوان حماس» في الحاضنة المصرية الجديدة. وما بين دمشق والقطاع، تتقلب أحوال «الربيع»، وتُشذَّب معه الأصابع الإيرانية. فهل ترضخ حركة «الجهاد الإسلامي» لـ «حماس»، وهل يطمئن عباس الى ما وراء التهدئة الطويلة بين إسرائيل وغزة؟

سُحُب أزمة طويلة بين القاهرة ورام الله.

نظاما سورية وإيران خارج المعادلة في غزة

عبدالوهاب بدرخان *

الفارق بين غزة اليوم وغزة 2008 هو كالفارق بين سورية اليوم وسورية ما قبل الخامس عشر من آذار (مارس) 2011. القتل الإسرائيلي هناك، والقتل الأسدي (هل يمكن وصفه بـ «السوري»؟) هنا، يؤكدان أن النظامين وثالثهما الإيراني لا تؤمن إلا بعقيدة واحدة: القتل. وهذه أنظمة بات تحالفها الضمني عبئاً على المنطقة وشعوبها. لم يكن نظام دمشق قد فرغ بعد من مداهمة مكاتب «حماس» ولم يجد فيها «شبّيحته» ما يستحق أن يُنهب، حتى كان النظام الإسرائيلي يستعد لاختبار صواريخه مجدداً في أجساد أطفال غزة، فيما طلب «الحرس الثوري» من المرشد الإيراني أن يصدر له الأمر بـ «تحرير القدس».

أما الفارق بين «حماس» و»حزب الله» فبالغ البساطة وجدير بالملاحظة. إذ إن «حماس» اختارت أن تغادر سورية لئلا تضطرها ضغوط النظام إلى القتال إلى جانب قواته، أما «حزب الله» فاختار بكامل وعيه وتصميمه المشاركة في قتل السوريين، بل اعتبرها «واجباً جهادياً». وفيما تعمّد الأمين العام لهذا الحزب أن يخصص بعضاً من خطبه لبثّ احتقاره للشعب السوري وحقده على ثورته، متحدياً بأن النظام «لن يسقط»، فضّل قادة «حماس» التزام الصمت لئلا يتهموا بالجحود و«إنكار الجميل» إلا أن عدداً من قادتهم في غزة ومنهم إسماعيل هنية تمايز بتأييد الشعب السوري، علماً بأنه أحد الذين يرتبطون بإيران وقد زارها بعدما جهر بهذا الموقف، ذاك أن إيران واصلت النظر إلى «حماس» على أنها حليف تعوّل على خدماته لمواصلة العبث بالملف الفلسطيني في إطار استرتيجيتها الإقليمية.

كانت «حماس» وجدت، كجميع الفلسطينيين في سورية، أن النأي بالنفس عن الصراع الداخلي، على صعوبته، حق وواجب. حقٌ لأن النظام منحها لجوءاً عليها أن تحترمه. وواجبٌ لأنها عاشت احتضاناً متبادلاً مع الشعب ولا بدّ أن تتعاطف مع توقه إلى الحرية. وكان زعيم «حماس»، خالد مشعل، استبق الثورة السورية بأسابيع محذراً بشار الأسد مباشرةً، بعدما سأله إذا كان يتقبّل الصراحة، من أن رياح التغيير العربية لن توفره. وبعد ذلك أبلغه عبر وسطاء من النظام أن «الإخوان المسلمين» السوريين فوّضوا إليه نقل اقتراح مبكر لحوار يركّز على «إصلاحات». ولم يأته ردّ أو قل جاء الردّ بافتتاح حملة التقتيل، فسحب «الإخوان» عرضهم، ثم جيء إلى مشعل بـ «طلب خاص من الرئيس» بأن يردّ على تصريحات للشيخ يوسف القرضاوي من قطر يبشّر فيها بـ «نهاية نظام بشار»، لكنه تملّص ناصحاً بأن يأتي الرد على عالم دين من عالمٍ دين بمرتبته. ثم طُلب من مشعل أن يقوم بحملة داخلية للدفاع عن النظام، وكان العنف قد حصد بضعة آلاف من المدنيين، فأجاب أن قادة آخرين في «حماس» يقومون ذلك لكنه استشعر الضغط خصوصاً أن الأسد لم يعد مهتماً باستقباله والاستماع إليه، فرأى مشعل آنذاك الاستنجاد بحسن نصرالله لعله يساعد في نصح بشار بالتعجيل في الحوار وفي طرح «إصلاحات حقيقية»، وبالفعل قصد نصرالله دمشق واجتمع بضع ساعات مع الأسد، ثم بعث برسول إلى مشعل ليبلغه «السيّد يقول لك مشي الحال»، أي أن الأسد متجه فعلاً إلى الحوار. ولم يمشِ الحال طبعاً إذ تصاعد العنف واجتيحت حماة وبوشر حصار حمص (صيف 2011) وبدأت الانشقاقات من الجيش، فارتأى مشعل أن يتغيّب مبتعداً عن دمشق بعض الوقت، ولما عاد جاءه أحد الاستخباريين البارزين ليقول له إن الرئيس يريده أن يقوم بحملة يزور فيها مناطق محددة لعقد لقاءات مع الناس والدعوة إلى وقف الثورة و»بعد ذلك الرئيس سيستقبلك»، واعتذر مشعل عن عدم تلبية الطلب وقال «يؤسفني أنني لم أعد قادراً على مقابلة الرئيس في هذه الظروف»، ثم اتصل بعدد من المسؤولين السوريين يبلغهم بما حدث فاستهولوا الأمر لكنهم لم يلوموه، وبعد بضعة أيام غادر دمشق نهائياً.

وتشير الطريقة التي اغتيل بها الكادر الحمساوي كمال غناجة إلى عملية انتقامية بحتة لا تقلّ وحشية عما فعله «شبيحة» النظام ويفعلونه ضد سوريين عاديين يصوّرون عمليات تعذيبهم قبل ذبحهم أمام الكاميرا، إذ فصل رأسه عن جسده الذي حمل آثار تعذيب بالغ الشدّة. كان غناجة تخلّف في دمشق ولم يغادرها مع بقية أعضاء المكتب السياسي، ربما لأنه قائد عسكري يطارده الإسرائيليون وكان نائباً لقائده محمود المبحوح الذي اغتاله «الموساد» الإسرائيلي في دبي (كانون الثاني/ يناير 2010). لكن انتقام النظام من «حماس» لن يتوقف عند هذا الحد، خصوصاً أن غناجة تولّى بعد المبحوح تهريب الأسلحة إلى غزة، وقد استولى قتلته على كمبيوتره وملفاته.

في أي حال أكد التصعيد الجديد في غزة أن النظام السوري بات خارج المعادلة، وكذلك إيران رغم أن وجود الصواريخ في أنحاء القطاع يُنسب إليها. هذه المرّة، خلافاً للعام 2008، لم يتبارَ محورا «الاعتدال» و«الممانعة» على النفوذ الإقليمي فوق جثث غزة ودمارها. وفي حين أن بعض تظاهرات الجمعة الماضية في سورية رفع شعارات مؤيدة للغزّيين في مواجهتهم العدوان الإسرائيلي، كان النظام يتساجل مع إسرائيل بقذائف وطلقات طائشة لا يُعرف ما ترمي إليه. لعل الموقف الشعبي انتزع من النظام فرصة بدت سانحة لإحياء مقولة الأسد إن النظام والشعب متوافقان ومتلاقيان في «الممانعة»، فهو دفع بهذه الحجة ليستبعد احتمال قيام ثورة شعبية ضدّه. لكن الوقائع بيّنت أن الشعب في محنته ظلّ أكثر وفاءً لنصرته التاريخية للفلسطينيين من النظام الذي انشغل دائماً باللعب بـ «الورقة الفلسطينية».

ورغم أن الحدث الغزّي استرق بعض الأضواء من الحدث السوري، خصوصاً لأنه أظهر مصر مستهدفةً، سواء في سياستها «الجديدة» الراغبة في التمايز عن نهج نظام مبارك أو في العلاقة الأيديولوجية بين حكامها الجدد و»حماس»، إلا أن النظام السوري لم يجد سبيلاً إلى استغلال الاحتجاب الجزئي للأضواء الإعلامية عنه لا في الداخل ولا في الخارج. وفي ذلك دلالة إلى الحال التي بلغها، وبلغتها إيران معه. ولا شك في أن طهران قرأت التغيير السلبي الحاصل، والخسارة الملموسة التي نجمت عنه، ذاك أنها تستطيع الاستمرار في تسليح «حماس» وأخواتها في غزة، إلا أن شلل سورية النظام وتعطّلها باتا يحولان دون تحقيق مكاسب أو جنيها. فحتى اندفاع «حزب الله» لإسماع المعنيين عربياً ودولياً بأن له (لإيران) دوراً في مفاجأة ظهور صواريخ «الفجر 2» الحمساوية، وأنها عينة مما لديه، يبقى أقلّ بكثير من الاستقطاب الذي أمكن اجتراحه مطلع 2009 لمناهضة المحور المصري – السعودي. فتركيا وقطر هذه المرّة إلى جانب مصر، وفيما كان الاستقطاب السابق تحوّل حرباً سياسية بين محوري «الاعتدال» و»الممانعة» انتهزتها إسرائيل للذهاب في عدوانها على غزة إلى الهدف الذي رسمته مسبقاً، فإن «الممانعة» بدت في التصعيد الراهن وكأنها تنتقل ولو جزئياً إلى القاهرة التي لن تخوضها على الطريقة الإيرانية – السورية، ولن تمكّن طهران من الاستثمار فيها.

* كاتب وصحافي لبناني.

الحياة

«حماس» والمعادلة السورية

علي بدوان *

تُعتبر حركة «حماس» في نهاية المطاف العنوان الفلسطيني لحركة «الإخوان المسلمين». ومن المعلوم أن الحركة الإخوانية في العالم تماهت عموماً مع الحدث السوري، وانطلقت في موقفها مؤيدة ومساندة لحركة الشارع، انطلاقاً من موقفها النقدي والمعارض عموماً للنظام السوري، وانطلاقاً من إرث معقّد من الخلافات التي كانت قد دبت في سورية بين الحركة الإخوانية المحلية والنظام وقد توجت تلك الأزمة بالإفتراق النهائي بين النظام السوري والحركة الإخوانية المحلية عام 1979.

هذه المعادلة الصعبة انعكست على حركة «حماس»، وانهارت معها كل الجهود التي كانت قد بذلتها الحركة بشخص رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل قبل اندلاع الأزمة السورية أصلاً، من أجل المساعدة على رأب الصدع «العتيق والمتقادم» وتجسير الهوة بين دمشق وعموم الحركة الإخوانية وفي المقدمة منها الحركة الإخوانية السورية وقادتها الموجودون في الخارج، وقد بُذلت جهود مضنية على هذا الصعيد كان يمكن أن تُثمر في المرحلة التالية لولا وقوع بعض الإشكالات، ووقوع سلسلة من التحولات التي أفضت إليها الأزمة الداخلية في البلاد، كما تشير معلومات من مصادر مختلفة.

في هذا السياق، جاءت مغادرة معظم قيادات حركة «حماس» وتحديداً أعضاء مكتبها السياسي لسورية منذ بدايات الأزمة، انطلاقاً من عدة أسباب، منها أسباب لها علاقة بالفضاء العام السياسي والأيديولوجي لحركة «حماس». ومنها أسباب تعود في جانب هام منها إلى اتساع الهوة في سورية ودخول الأزمة أنفاقاً مجهولة مع ازدياد وتيرة العنف وحالة الانفلات الأمني.

ومع هذا، تدرك «حماس» في قرارة نَفسها أهمية الساحة السورية بالنسبة لها بغض النظر عن أي نظام في سورية، وانطلاقاً من ذلك فهي على الأرجح حريصة على التواجد فوق الأرض السورية وبين جموع الفلسطينيين هناك الذين يبلغ تعدادهم حوالى 700 ألف مواطن فلسطيني منهم حوالى 511 ألفاً من لاجئي العام 1948 (فلسطيني سورية)، يُشكلون كتلة واحدة مع فلسطينيي لبنان البالغ تعدادهم حوالى 420 ألفاً.

أن شواهد تلك المعادلة التي تَضبط رؤية حركة «حماس» لعلاقاتها مع دمشق وموقفها وتكتيكها، والروح البراغماتية، تتجسد الآن في:

1- حرص الحركة على تجنب إطلاق تصريحات غير مدروسة أو مستعجلة أو غير ضرورية في شأن الأزمة السورية، والاعتناء الدقيق باختيار العبارات في أي من تصريحات قادة صفها الأول وخصوصاً أعضاء المكتب السياسي، على رغم إغلاق ثلاثة مكاتب قيادية لها بالشمع الأحمر (مكاتب خالد مشعل وموسى أبو مرزوق وعزت الرشق). فـ «حماس» ليست كيان دولة متبلورة في كيان نهائي، إنها في نهاية المطاف جزء أساسي من حركة التحرر الوطني للشعب الفلسطيني، وهو ما يملي عليها اتخاذ مواقف عالية المرونة وعالية البراغماتية.

2- استمرار تواجد عدد لا بأس به من كوادر «حماس» في سورية، خصوصاً منهم ممن يطلق عليهم مسمى «فلسطينيي سورية» وغيرهم من أنصار الحركة.

3- استمرار الاتصالات اليومية وعلى أعلى مستوياتها بين قيادة «حماس» ممثلة بالمكتب السياسي وباقي الفصائل ومنها فصائل قوى التحالف الوطني الذي تنضوي «حماس» في إطاره، وخصوصاً الاتصالات بين طلال ناجي نائب الأمين العام لـ «الجبهة الشعبية/القيادة العامة» وقيادة حركة «حماس» وبالأخص مع خالد مشعل. فطلال ناجي يُعتبر من المرجعيات الفلسطينية المُعتمدة والمسؤولة في دمشق، والقادرة على التَحرك والتأثير والضبط والربط في ميدان العلاقات السورية الفلسطينية بشكل عام.

4- استمرار وجود عدد من مقرات عائدة لحركة «حماس» لم يغلق أي منها، ومنها مقرات العمل الشعبي في المواقع الفلسطينية في سورية (مخيمات ومناطق) وإن خفت وتيرة عملها كما هي حال مختلف النشاطات الوطنية الفلسطينية لعموم الفصائل التي باتت تصب باتجاه واحد تقريباً في مسار مساعدة الناس في ظل الأزمة التي تعيشها البلاد.

5- بروز دور عناصر وكوادر «حماس» في لجان الإغاثة الاجتماعية في شكل لافت جداً وملحوظ، وفي مخيم اليرموك على وجه الخصوص، وهي اللجان التي أخذت على عاتقها مهمة تقديم وتوفير المساعدات الممكنة للمواطنين السوريين والفلسطينيين على حد سواء، الذين لجأوا إلى المخيم من المناطق المجاورة التي تعرضت وما زالت تتعرض للعنف الدائر. فمخيم الیرموك يستضيف حوالى 25 ألف نازح في مراكز اللجوء في مدارس وكالة «الأونروا» وحتى داخل مقرات حركة «حماس» ومنها المقرات الشعبية المنتشرة في مخيم اليرموك والمسماة بالمضافات. كما يستضيف مخيم اليرموك نحو مئة ألف مواطن نزحوا إليه في المنازل. وما يقارب 300 ألف وافد في منازل أقاربهم يتقاسمون الرغيف بين جدران المخيم. وفي هذا الميدان فإن جهود الهيئات المجتمعية والفصائل الفلسطينية تبدو مرتفعة وتتقدمها جهود لجان الإغاثة التي يديرها نشطاء من «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و»فتح» وباقي القوى الفلسطينية.

* كاتب فلسطيني

الحياة

من حلب الى غزة

الياس خوري

لا ادري ما هي فلسفة الأسماء التي تطلقها اسرائيل على حروبها؟ هل هناك جهاز خاص بانتقاء الأسماء، ام ان المسألة محض مصادفات؟ من ‘عناقيد الغضب’ في لبنان الى ‘عمود سحاب’ في غزة الى آخره… يبدو ان هناك اصرارا على مزج الخيال المُحبَط بالجنوح الدموي، وان ‘جيش الدفاع’، يسعى دائما الى تغليف الجريمة بالأدب!

في حرب تموز 2006 نسي القادة الاسرائيليون اطلاق اسم على حربهم، لأنهم اعتقدوا انها ستكون نزهة طائرات فوق لبنان، لكنهم تداركوا الخطأ في حربهم على غزة 2008-2009، فاختاروا اسما رديئا ينم عن فقر في الخيال. فكانت ‘الرصاص المصبوب’ كارثة سياسية واخلاقية على اسرائيل، واليوم تحترق غزة تحت اسم شاعري ‘عمود عنان’، كأن السحاب وهو يتعومد يغطي النار بماء الكلام!

بصرف النظر عن الإسم الذي يسعى الى اخفاء المسمى فإن اسرائيل دخلت عشية انتخاباتها في حرب هي اشبه باستطلاع بالنار للمتغيرات التي تحيط بها، بهدف وضع حدود مبكرة لأثر الثورات العربية على الصراع في فلسطين.

التزامن بين اشتعال الجنوب الفلسطيني في غزة مع اشتعال الشمال السوري، يشير الى ان مصير المشرق العربي يتحدد في القوس الذي ترسمه بلاد الشام وهي تنفض عنها الاستبداد في سورية، ويتشكل على ايقاع موازين قوى جديد بدأت ترتسم اولى ملامحه في مصر.

من السابق لأوانه الخلوص الى استنتاجات سريعة، لكن القراءة الأولى لحرب ‘عمود سحاب’ تشير الى ان طرفي الصراع يسعيان الى رسم قواعد اللعبة من جديد:

الاسرائيليون يريدون افهام المصريين والاسلام السياسي الصاعد ان القواعد الصـــــارمة التي ارتسمت في كامب دايفيد لا يمكن تغييرها. وحماس ومعها التيار الاسلامي يريــدان فرض قواعد جديدة، تبدأ برفض الوضع الراهن الذي يعني تعفنا فلسطينيا وعربيا شاملا، وتمتد لتشمل اعادة رسم ملامح التوازنات الفلسطينية الداخلية، واستعادة مصر لقرار الحرب والسلم.

من هنا تتخذ حرب غزة مسارات متعددة، مفاوضات بدأت منذ اليوم الأول يقودها المصريون، وتلويح باجتياح بري تلجأ اليه اسرائيل من اجل ايصال الحرب الى ذروة تعتقد ان مصر بقيادتها الاخوانية لا تستطيع تحمّل نتائجها.

اهمية المواجهة الراهنة في رسم مستقبل المنطقة عبر عنها وصول رئيس الوزراء التركي الى القاهرة، واعلانه عن اهمية التحالف المصري-التركي، واصراره وعلى الانخراط التركي الذي لا يزال غامض الملامح.

نجحت المقاومة، عبر صمودها وقدرتها على الردع، في فرض اجندة جديدة مؤهلة لقلب مفهوم محور الاعتدال الذي صاغته مرحلة حسني مبارك في تحالفها مع العربية السعودية، والذي سعى الى تهميش الصراع العربي- الاسرائيلي واستبداله بأولوية الصراع ضد ايران، ما اطلق يد اسرائيل بشكل مطلق في فلسطين، ودمّر قدرة العالم العربي على الامساك بمصيره، وقام عمليا بتلزيم القضية الفلسطينية لما اطلق عليه اسم محور الممانعة.

مهما كانت نتائج الحرب، فانها لن تنقذ اسرائيل من ورطتها الاحتلالية، وستكشف ان فائض القوة الصهيوني لا يستطيع تحقيق انتصار على شعب قرر ان يقاوم.

ما علاقة الشمال السوري المنتفض ضد الاستبداد بما يجري في الجنوب الفلسطيني؟

بالطبع هناك علاقة وجدانية بين الدم الفسطيني والدم السوري، من مخيم اليرموك الى مخيمات غزة. لكن هناك ايضا ما هو اكثر من ذلك، فاستعادة السوريين لحريتهم سوف تعني ان استمرار هدوء الاحتلال في الجولان لن يعود ممكنا، وان تحرير الجولان هو جزء من معركة الفلسطينيين والسوريين ضد الاجتلال.

مرة اخرى نكتشف صحة المقولة التي اقترحتها الثورة الفلسطينية عند انطلاقتها عام 1965، ففلسطين هي البوصلة العربية، وحرية المجتمعات العربية هي الطريق الى فلسطين.

لا اريد ان اوهم نفسي بأن المعادلة العربية الجديدة ارتسمت، فالمشرق العربي لا يزال في بداية مسار جديد بدأته الثورات العربية، ودونه معوقات كبرى. لكنني لا اريد ايضا ان اقلل من اهمية الاشارات التي ترسلها مواجهات غزة اليوم، والتي تقول ان صفحة جديدة من الصراع مع الاحتلال باتت ممكنة، وهي صفحة لا علاقة لها بزمن العتمة الذي صنعته اوهام التسوية مع محتل لا يرتوي من دماء ضحاياه.

هذه الصفحة الجديدة لن تتبلور ملامحها الا بعد سقوط الاستبداد في سورية، ورسو الثورة المصرية على معادلة سياسية متوازنة داخليا، عندها يمكن ان يتشكل مركز عربي جديد يستعيد القيادة ويضعها حيث يجب ان تكون، ويعلن ان العالم العربي يستطيع ان يستعيد قراره.

بلاد الشام هي مسرح هذه الحرب، وفيها سترتسم ملامح المرحلة.

والشعبان الفلسطيني والسوري هما ضحاياها وابطالها.

في غزة تبرز الحاجة الى افق فلسطيني جديد يتجاوز الوهم الذي اعقب اوسلو والوهن الذي جاء بعد هزيمة الانتفاضة الثانية، والخراب الذي حلّ بعد الانقسام الفلسطيني. وفي سورية يتبلور احساس بأن على الثورة ان تقبض على زمام مصيرها، كي تعجّل في سقوط النظام، وتخفف من آثار الدمار التي خلفتها آلة القتل الأسدية.

الآن تعود الأمور الى نصابها، فالمحتل يستفيد من المستبد الذي لا همّ له سوى الاحتفاظ بسلطته، والمستبد يستفيد من المحتل كي ييبرر قمعه بضرورات المواجهة مع العدو.

قناعان يسقطان معا في الجنوب والشمال.

الاسرائيليون لم يتعـــــلموا شيئا من حروبهم السابقة، وسيجدون انفسهم مرة جديدة عاجزين عن شراء امن احتلالهم بالدم.

المهم ان يعي الفلسطينيون درس غزة الجديد، وتحصل معجزة الوحدة التي بات غيابها فضيحة سياسية، وتستفيق حركة فتح من سباتها السلطوي قبل فوات الاوان.

اما المستبد فإنه مهما قتل ودمر ذاهب الى السقوط مخلفا وراءه ذاكرة العار والجريمة.

القدس العربي

تعهّد المسألة الفلسطينيّة

حازم صاغيّة

حين امتنع خالد مشعل، في مؤتمره الصحافيّ الذي عقده إبّان القتال، عن شكر إيران وسوريّة، كان يعلن عن تحوّل خطير مفاده أنّ المشكلة الفلسطينيّة – الإسرائيليّة خرجت من يد الأطراف الممانعة في غزّة، بعدما خرجت أيضاً في الضفّة الغربيّة. وهذا ما لا يعوّضه استدراك أبدته حركة «الجهاد الإسلاميّ» بتنويهها بإيران، أو امتعاض قد يبديه محمود الزهّار في وقت لاحق. بل يبدو، إذا ما أخذنا في الاعتبار الفعاليّة العسكريّة الضئيلة لصواريخها، أنّ «حماس» رمت على إسرائيل آخر مادّة إيرانيّة ارادت التخلّص منها.

وتلك انتكاسة كبرى للقوى الممانعة كرّستها «التهدئة» الأخيرة، وهي التي زعمت أنّ الموضوع الفلسطينيّ علّة وجودها الأولى، كما أقامت باسمه أنظمة طغيان وحالات تحكّم استبداديّ بشعوبها. ولنا أن نلاحظ في رصد انهيار القوى الممانعة كيف انضاف تحوّل «حماس» إلى تصدّع النظام السوريّ وأزمة الحصار الذي تتعرّض له إيران. لكنْ فوق هذا، وأهمّ على المدى الأبعد، أنّ هناك ملامح في خريطة النزاع التي تتشكّل اليوم تشبه الملامح التي ارتسمت عليها الخريطة قبل الانقلابات العسكريّة العربيّة في الخمسينات. بمعنى آخر، سيكون الحاضن العربيّ والإقليميّ للفلسطينيّين شبيهاً بحاضنهم في الأربعينات، أي الأنظمة المحافظة التي صاغت النظريّة القائلة «أعط الغرب وخذ من إسرائيل».

صحيح أنّ القضايا والقوى التي تنطوي عليها هذه الخريطة تغيّرت كثيراً: فالمسألة الفلسطينيّة لم تعد كما كانت، والنزاع الذي تعنيه تلك المسألة تغيّر مسرحه وتراكيبه السكّانيّة، كما تقلّص رصيده إلى أبعد الحدود بفعل الأخطاء الضخمة المتراكمة. وصحيح أيضاً أنّ محمّد مرسي ورجب طيّب أردوغان ليسا نوري السعيد وعدنان مندريس لأسباب لا تُحصى. كما أنّهما ليسا أنور السادات الذي حاول إحياء النظريّة التقليديّة بطريقة راديكاليّة وفي زمن احتقان القوى الراديكاليّة وقيام الثورة الإيرانيّة.

مع هذا فالواضح أنّ شيئاً اساسيّاً حصل في تلك الغضون هو الذي يعيد الربط بين قوى الرعاية السابقة وقوى الرعاية الحاليّة. وهذا الشيء هو، تعريفاً، ذاك السقوط المدوّي لفكرة أنّ العزلة عن الغرب والصراع معه هما الطريق إلى التقدّم والاستقلال الفعليّ. فإذا كانت حكمة المرحلة السابقة تفيد بأنّ النزاع على فلسطين هو بعض من المواجهة المديدة لكسر «التبعيّة»، فإنّ حكمة المرحلة الراهنة مفادها التوفيق بين حلٍّ ما للمشكلة الفلسطينيّة وبين إزالة العوائق من طريق الاندماج الاقتصاديّ في العالم الأوسع.

وتصوّر كهذا يمكن أن يساعد في تفسير ظاهرات عدّة في عدادها الدور الإقليميّ لتركيّا الساعية، في الوقت نفسه، إلى دخول النادي الأوروبيّ، أو الموقع المؤثّر الذي باتت تلعبه دول الخليج، وهي التي دمجها الاقتصاد النفطيّ إلى أبعد الحدود في الاقتصاد العالميّ، في مجريات المنطقة على عمومها.

وهذا مناخ لا يكتم شبهه بمناخ آخر مجاور تنطوي عليه ثورات «الربيع العربيّ»، أكان ذلك لجهة «تصحيح التاريخ»، أي العودة بنا إلى ما قبل الانقلابات العسكريّة، أم لجهة الاستعداد لإنشاء نوع من المصالحة مع الغرب، بعد اكتشاف أنّ العلّة في المستبدّ المحلّيّ قبل أن تكون في «المستعمِر» الأجنبيّ.

بيد أنّ التحوّل المذكور ليس مجرّد مكافأة للمحافظين، ولا هو مجرّد سدّ لفراغ أنشأه طرد الممانعين من «الساحة الفلسطينيّة». إنّه أيضاً مسؤوليّة حيال الفلسطينيّين لا بدّ أن تلاقيها مسؤوليّة الفلسطينيّين عن استعادة وحدتهم في منتصف الطريق، ومن ثمّ مسؤوليّتهم عن تغليب الاندماج في العالم من موقع وطنيّ متماسك.

ولنتذكّر أنّ ما يُسمّى بالاعتدال العربيّ سلبيّ أكثر منه إيجابيّاً، ومنفعل بالحدث أكثر منه فاعلاً ومبادراً. فإذا صحّ أنّ صعود الراديكاليّة ترافق مع كوارث امتدّت من هزيمة 1967 وصولاً إلى يومنا هذا، فإنّ صعود «الاعتدال» ما بعد الاستقلاليّ ترافق أيضاً مع هزيمة 1948. وما غرض التذكير هنا سوى القول إنّ المطلوب عقل أكثر إبداعاً وجسد أشدّ ديناميّة، في مصر وفي سواها، من أجل أن تُعالَج مشاكل اليوم بذهنيّة اليوم.

الحياة

غزة: خلفيّات وتقاطعات

حازم صاغية

لا يملك المراقب لأحداث غزة الدموية الأخيرة إلا أن يلاحظ تقاطعاً عريضاً بين إرادتين، واحدة إسرائيلية وأخرى إيرانية- سورية. وإنما بسبب من هذا التقاطع في المصالح، يُدفع أهل غزة، بأطفالهم وشيوخهم، إلى معاناة الموت والهلاك، ويأتي الدمار الإسرائيلي، مرّة أخرى، على بيوتهم وأرزاقهم وجنى أعمارهم.

أمّا الإرادة الأولى، أي الإسرائيلية، فأغلب الظنّ أنها محكومة، جزئياً أو كلّياً، بعناصر خمسة:

فأولاً، هناك نوع من رسم مبكر لوضع منطقة الشرق الأوسط يُراد منه تنبيه الرئيس الأميركي أوباما، مع ابتداء ولايته الثانية، إلا أنّ السنوات القليلة المقبلة لن تكون سنوات للتسويات والانفراجات، بل سيكون فيها التصعيد والتوتر سيّديْ الموقف. والراهن أنّ السلوك حيال إيران واحتمال تطويرها سلاحاً نووياً، وهو ما كان موضع سجال متصل بين واشنطن وتلّ أبيب إبان ولاية أوباما الأولى، لا يزال يحتل موقعه في قلب السجال الضمني الحالي.

وثانياً، هناك امتحان دقيق لطبيعة العلاقة مع مصر ما بعد مبارك، أو بالأحرى، مصر التي يحكمها «الإخوان المسلمون»، مع الأخذ في الحسبان ما يربطهم فكرياً وتنظيمياً بحكّام غزة الإخوانيين. فإلى أيّ حدّ ستتطابق اللفظية الراديكالية لـ«الإخوان» في ما خصّ الموضوع الإسرائيلي- الفلسطيني مع سلوكهم العملي وقد غدوا في قمة السلطة. وغني عن القول إنّ غزة، ولألف سبب، هي دائماً المسرح الأمثل لامتحان هذه العلاقة التي تنعكس حكماً على صلة القاهرة بواشنطن، والمساعدات الأميركية وأوضاع الاقتصاد والاستثمار في مصر، وطبعاً معاهدة كامب ديفيد الموقعة في 1979.

وثالثاً، هناك الانتخابات العامة في إسرائيل المقرر إجراؤها في يناير المقبل، حيث يخوض نتنياهو وحزبه “ليكود” معركته بالتحالف والائتلاف مع وزير خارجيته الحالي ليبرمان وحزبه «إسرائيل بيتنا». وهذا بمثابة استعراض غير مسبوق في تطرفه اليميني وتماسك أطرافه وحدة شعاراته التي يحتل فيها الموضوع الأمني موقع القلب. فالائتلاف اليميني ينوي، إذن، قطف الانتخابات على وقع الأناشيد العسكرية وصرخات التعبئة والإجماع، مع ما يعنيه ذلك من طي ملف الأزمة الاجتماعية التي سبق أن هددت بإسقاط الحكومة.

ورابعاً، هناك تحويل الأنظار عن محاولة الرئيس محمود عباس وسلطته في رام الله الحصول لفلسطين على مقعد عضو مراقب في الأمم المتحدة. وردّاً على تمتع هذه المحاولة بالأكثرية العددية المطلوبة، يصار إلى وصمها وتسخيفها عبر دمجها بما يفعله «الإرهابيون» في غزّة.

وخامساً وأخيراً، هناك امتحان لفعالية النظام المضاد للصواريخ الذي بدأ تشغيله في 2011، والمعروف بـ«القبة الحديدية». وجدير بالذكر أنّ النظام هذا، الذي مولته الولايات المتحدة الأميركية وصنعته الشركة الإسرائيلية المعروفة بـ«رافاييل للأنظمة الدفاعية المتقدمة»، إنما هو مُصمّم لاعتراض وتدمير الصواريخ التي يبلغ مداها 70 كيلومتراً (44 ميلاً). وقد كان لافتاً، في غضون القتال، أنّ إسرائيل بادرت إلى نشر بطارية للقبة الحديدية قريباً من تل أبيب. وبينما كان إيهود باراك يطالب بالإسراع في نشر البطاريات في المناطق السكنية المأهولة، حرص الناطقون بلسان الجيش الإسرائيلي على توكيد نسب نجاح مرتفعة يحرزها السلاح المضاد الجديد هذا.

وفي المقابل، فإن الإرادة الثانية، أي الإيرانية- السورية، محكومة، كلّياً أو جزئياً، بالعناصر التالية:

أولاً، الرغبة الحارقة في تحويل الأنظار عن الثورة السورية عبر إعادة الاعتبار القسرية لـ«أولوية» الصراع مع إسرائيل. والواقع أنّ الأمر، إذا ما نُظر إليه من زاوية الأطراف الممانعة، هو أكثر من مجرّد تحويل أنظار. ذاك أنه في مناخ “الأولوية” تلك، يتمّ تقديم ثوار قوى الثورة في سوريا على أنهم «متواطئون مع العدوّ الصهيوني» وضد النظام الذي يدعم حركة “حماس”. وهذا مع العلم أنّ مكاتب الأخيرة قد أُغلقت في دمشق قبيل الضربة الإسرائيليّة الأخيرة (وهو ما بات الممانعون يتكتمون عليه مستعيدين اللغة القديمة عن “التحالف الاستراتيجي”!).

-ثانياً، إرباك “حماس” نفسها، هي التي انقطعت علاقتها بالنظام السوري وتردّت علاقتها بالنظام الإيراني و”حزب الله”، فيما بدا أنّ الزيارة التي قام بها مؤخّراً أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني إلى غزّة قد استكملت نقلها إلى ضفة أخرى غير التي كانت تشغلها من قبل. ولا يُستبعَد، في هذا الإطار، أن يكون محمود الزهّار، وزير خارجية “حماس” السابق والقطب الحمساوي الذي احتفظ بعلاقاته مع طهران و”حزب الله”، قد لعب دوراً ما من وراء ظهر القيادة الرسمية لحركته التي كانت تتجه إلى الاعتدال.

-ثالثاً، إرباك مصر، وهو الهدف الذي يشكل ذروة التقاطع مع مثيله من الجانب الإسرائيلي. فقاهرة ما بعد ثورة يناير لا يُراد فحسب إحراجها، بما في ذلك حيال “الشارع الإسلامي” الذي صعد الرئيس محمد مرسي من صفوفه، بل يُراد أيضاً زجّها وتوريطها في الصراع إن أمكن. أمّا انعكاسات ذلك على الاقتصاد المصري ومعاهدة كامب ديفيد والعلاقة بكلّ من واشنطن والعواصم الغربية فآخر ما يعني أطراف الممانعة وقواها.

-رابعاً، إرباك محمود عبّاس، وهنا أيضاً يبدو التقاطع في أوضح أشكاله مع الاستهدافات الإسرائيلية. ذاك أنّ الرئيس الفلسطيني الذي يتعثر في نهجه السلمي والدبلوماسي، يُراد له إمّا السقوط والابتعاد عن المسرح أو الانتقال (المستحيل، كما تجزم الوقائع كلها) إلى صفّ الممانعين ومعاركهم ذات الأفق المسدود. وتمتدّ “استراتيجية” الإرباك من مصر ومحمود عبّاس إلى الأتراك، حيث برزت أنقرة مؤخّراً بوصفها الظهير الاستراتيجي الإقليمي للثورة السورية.

خامساً وأخيراً، استغلال المواجهة مع إسرائيل في غزّة (وربّما لاحقاً في لبنان؟!) لإضافة أوراق جديدة توضع في اليد الإيرانية وتستخدَم في تقوية الموقع التفاوضي لإيران حيال الولايات المتحدة وباقي البلدان الغربية.

هل ثمّة، بعد ذلك، حاجة للاستخلاص والتعليق؟

شيء واحد لا يملك المرء إلا أن يعيد توكيده والتشديد عليه، هو أنّ أهل غزة هم الضحايا الدائمون لتقاطعات كهذه!

الاتحاد

«حماس» أيضاً تؤسس سلطتها الجديدة على «هدية» من إسرائيل

حازم الأمين

«النصر» ليس ايديولوجياً على ما شرعنا نُفسر الانتصارات التي راحت تتهاوى على رؤوسنا في أعقاب الحروب الأخيرة مع اسرائيل. ليس ايديولوجيا تستعيض بها الأطراف التي خاضتها عن هزائم ضمنية وداخلية وعميقة ألمت بها. «النصر» ذروة البراغماتية، لكنها براغماتية من نوع عنيف ودموي، ذاك أنها تُصَرِّف الدماء المسالة سلطةً.

ما ان انتهت الحرب في غزة حتى أًُعلن النصر. لا بأس ربما، انها الحرب ولا بد من منتصر حتى تكتمل. ومواجهة «النصر» بالأرقام لم تعد مجدية، اذ ان الضحية في كشفها عن حجم التمزق الذي أصابها تكون تُمعن في دورها كضحية، وفي حروبنا لا يفيد ذلك بشيء. الدروس والعبر التي تعقب الهزائم ليست لعبتنا، فقد خسرنا الحرب تلو الحرب من دون عبرة واحدة، الى ان جاء من قال لنا إننا انتصرنا… اذاً انتصرنا، وما الضير في ذلك؟

لم ننتبه الى حقيقة ان من أعلن «النصر» أراد له وظيفة، فالسلطة لا تستقيم عقب هزيمة. السلطة تحتاج الى نصر لكي تؤبّد سلطتها. البعث في سورية «أبّد» سلطته المترنحة اليوم في أعقاب «نصر» العام 1973. ختم الجبهة بالشمع الأحمر وتحول الى الداخل. حالة طوارئ ومجتمع يُعد للحرب المقبلة وسلطة عنيفة وفئوية وجائرة، وخطاب النصر يُتوج مرارة السوريين في سجونهم الصغيرة، وفي سجنهم الكبير. لقد كان نصراً من دون استعادة الجولان، انه نصر فقط، لا الأرقام تؤكده ولا الإنجازات ولا الغنائم، لكنه نصر ومن يقول غير ذلك فهو خائن. وقد أنشئت حول هذا النصر مؤسسات ومناهج تعليم، وأنيط به تأديب المشاغبين والمعارضين، كما صارت له عصبية طائفية، وهُزمت على اثره مدن بأكملها.

في لبنان أقفل «حزب الله» الجبهة بعد «نصر تموز» الإلهي، فأدار الحزب وجهه الى الداخل. وعقب حرب تموز أيضاً احتل الحزب وسط بيروت عبر اعتصام «مدني»، وبعد ذلك نظم حملته العسكرية الشهيرة المسماة «7 أيار» فاحتل مزيداً من الشوارع والمناطق في العاصمة. واذا أردنا ان نؤرخ لظاهرة القمصان السود بصفتها وسيلة «ديموقراطية» في تشكيل الحكومات، فمن الممكن القول إنها جرت بعد «النصر الإلهي». و «حزب الله» يُمسك اليوم بالمجتمع اللبناني عبر حكومته أولاً، وعبر سلطته الممتدة على مناطق واسعة في لبنان، والأرجح انه ما كان له ان يستكمل مهمته هذه من دون هذا «النصر».

حرب غزة الأولى (2008- 2009) توجت بـ «نصر» من هذا النوع، فقد دُمر القطاع بأكمله وانتصرت «حماس»، لا بل إن الدبابات الإسرائيلية وصلت الى مسافة مئات الأمتار من مستشفى الشفاء حيث كانت قيادة «حماس»، وعلى رغم ذلك انتصرت الحركة. ومرة أخرى ما كان ل«حماس» ان تستمر سلطة في قطاع غزة من دون هذا «النصر»، لا بل ان السلطة التي كانت انتزعتها عنوة قبل نحو سنتين من نصرها، تضاعفت وطأتها بعد هذا النصر، فصار هناك سجناء سياسيون، وقوانين للمدارس من خارج منهاج السلطة الوطنية.

قد يُبادر بعض المنتفضين لكرامة «المنتصرين» في دمشق وبيروت وغزة الى القول بأن تفسير «النصر» على هذا النحو جزء من خطاب الهزيمة في أحسن الأحوال، أو انحياز الى العدو وإهدائه «نصراً» مجانياً. لكنْ، فلنراقب الموقف الإسرائيلي، لا بل المصلحة الإسرائيلية من «انتصارات» البعث في 1973 و «حزب الله» في 2006 و«حماس» في 2009. لقد أمنت هذه «الانتصارات» الحدود مع اسرائيل على نحو لم تؤمنه اتفاقيتا كامب ديفيد ووادي عربة للسلام مع مصر ومع الأردن. ثم إن اسرائيل على ما لاحظ مراقبون كثيرون لم تبذل جهداً يُذكر لتسجيل هزائم خصومها. لم تكشف عن أهداف أصابتها ولم توجه الى معنويات أعدائها أي سهم. فعلى عادتها كان الخبث ديدنها في تقويم نتائج حملاتها، وشعرت ان في امكانها ان تستثمر في انتصاراتـ «نا».

قالت خذوا انتصارات واعطونا انجازات. في حرب تموز 2006 تمكن «حزب الله» من إيذائها، فعضت على الجرح وأعطته ما يريد من غير كيسها، وهو نصر توّجه الحزب بسلطة، وأخذت في مقابل ذلك 15 ألف جندي دولي ليحموا لها حدودها مع لبنان.

اليوم يبدو ان «حماس» وبغض النظر عن انتقالها في عمقها الإقليمي من محور الى آخر، في صدد تحصين موقعها في غزة بمزيد من «الشرعية» التي أهدتها إياها اسرائيل في حربها الأخيرة على القطاع. النتائج الأولى لهذه الحرب انتزاع «حماس» شرعية اقليمية ودولية بموافقة اسرائيل، ومزيد من الوهن أصاب السلطة الوطنية في رام الله، وتجاوز اتفاقيتي مدريد وأوسلو في عمليات المفاوضة. غزة صارت دولة «حماس» في حين لا يبدو ان الضفة هي دولة فتح، فالإسرائيليون الجدد من المستوطنين يقضمون الأرض هناك، في حين فكك الإسرائيليون «الأوائل» مستوطناتهم في دولة «حماس» في القطاع. اسرائيل شريكة أكيدة في انتصاراتـ «نا»، ومن يزور القطاع يتحقق من ذلك بأم عينه على نحو أوضح مما يلمسه في جنوب لبنان وفي الجولان. ففي غزة المهمة ليست حماية الحدود، انما تأمين قبر لائق لاتفاق مدريد. وهذه مهمة لا تُخفي «حماس» في خطابها المعلن رغبتها في القيام بها.

انتصر البعث في 1973 في الحرب من دون ان يستعيد الجولان، فهو ثبّت سلطة كانت مهددة بمنطق الإنقلابات التي شهدتها سورية على مدى ربع قرن قبل «النصر». وانتصر حزب الله في حرب تموز 2006 في لبنان، والدليل ان الحزب اليوم هو السلطة وهو الحكومة وهو الأقوى. وانتصرت «حماس» في حربي 2009 و2012 في غزة. اسرائيل لم تُهزم في هذه الحروب، فأي دولة تتحمل أربع هزائم في ظرف ثلاثين سنة؟ لا بل إن اسرائيل وباعتراف خصومها وأعدائها أقوى اليوم من أي وقت مضى.

اذاً، هناك منتصر غانم واضح ومعلن في هذه الحروب… بقي علينا ان نُحدد هوية المهزوم.

الحياة

المحصلة: إسرائيل أمام تناقضاتها

نهلة الشهال

الفرح المنفجر في شوارع غزة ليل الأربعاء الفائت، لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار، لم يكن فحسب احتفالاً بالانتصار في المعركة المحددة التي اندلعت قبل ذلك بأسبوع، بل كان أيضاً، وخصوصاً، فرحاً مشروعاً تماماً بالحياة، بالفسحة المتاحة فجأة لاستمرارها كمقابل للموت الذي حمله القصف الرهيب للطائرات والمدافع، ووعَد به التهديد باجتياح بري. وهذا صحيح، بالرغم من أن الفلسطينيين لا يمتلكون بالدرجة الأولى سوى حيواتهم يقدمونها، أو يُبدون الاستعداد لتقديمها من أجل تصحيح الاختلال في توازن القوى، وأن ما تهابه إسرائيل فوق كل شيء هو الدخول في مواجهة مباشرة، لأن الارواح التي ستتكبدها، حتى لو عادلت واحداً بالمئة مما يتكبده الطرف الآخر، تبقى حكماً غير مقبولة ولا تطاق بالنسبة إليها. وثمة من يظن ذلك حرصاً على الحياة من قبل الإسرائيليين، واحتراماً لها كقيمة عليا، وثمة من لا يرى فيه إلا جبناً موصوفاً. ولكن هناك احتمالاً ثالثاً غالباً ما يتم تجاهله، مع زعمي أنه الأساس: كون الأمر يدل على وصول المشروع الإسرائيلي/الصهيوني إلى نهايته.

فما يُدْعـى اليـــوم الإسرائيليون للدفاع عنه لم يعد ذا صلـــة بفترة التأسيس، حين بدت هناك ضرورة لإيجاد ملجأ آمن ليهود العالم بمواجهة اضطهاد تاريخي في أوروبــــا تكلل بالمحرقة النازية. وحين مُزج ذلك بنجاح مع الأساطير التوراتية عن المنفى والسبي والعودة، وهو مزج جرى تحديثه ليلائم ولادة إسرائيل، ترافق التبريران كـــلاهــما مع مفهوم عن الذات مساواتي إلى حد بعيد، يبتــــدع نموذجاً متفوقاً أخلاقياً (انظر الكيبوتس)، وإن كان ذلك بالمعنى الكولونيالي الذي يتغاضى عما يتسبب به من عــــذاب واضطهاد «للسكان المحليين». ولم يكن من الممكن تخـــــيل القادة المؤسسين لإسرائيل وهم يلاحَقون بتهم من قبيــــل الفساد والاحتيال واغتصاب السكرتيرات المجندات.

أما اليوم، فنتانياهو وباراك وليبرمان يشحذون همم الإسرائيليين للقتال بحجة ضعيفة للغاية ومبتذلة، وهي توفير الحماية لهم من قذائف الكاتيوشا المنطلقة من غزة، والتي إن أصابت أحداً فهي تصيب سكان المستعمرات المحيطة بالقطاع، وهم حصراً أفقر الفقراء في إسرائيل. وفي خلفية الحجة كلام مضمر عن إسرائيل التي لا تتحمل أي هزيمة من أي نوع، والتي يحاصرها الأعداء وينتظرون اللحظة المناسبة للفتك بها، وتحتاج لتأكيد تفوقها في كل لحظة وبصورة مطلقة. وفي ذلك تناقض مربك، فإسرائيل الأولى التي تنزعج من الكاتيوشا دولة «عادية»، من واجبها ومن حقها -كما قال قادتها (ومعهم باراك أوباما وقتها وبان كي مون والعديد سواهما)- أن «تدافع عن نفسها». أما إسرائيل الثانية، تلك التي تُرى من بين السطور التهويلية، فهي القلعة المحاصرة التي إن تساهلت مرةً سقطت.

لكن تظهير «الاسرائيليَن» معاً عملية شاقة، بل محفوفة بالمخاطر، أقله أن ذلك بلا نهاية، أي أن الإسرائيليين موعودون وفق هذه الصيغة بأن يبقوا مقاتلين جيلاً بعد جيل، ومقتولين بالضرورة، بينما تزدهر طبقة من المترفين الذين يضعون ابناءهم وأموالهم في مأمن من الخطر. ومن لم يقرأ خطاب قائد الأركان الإسرائيلي للجنود حين استدعاء الاحتياط فاته الكثير، فقد ذكّرهم في بيانه إلى الأمة، بأنهم استعدّوا وتدربوا من أجل هذا، ويعرفون أنه ضروري، فكان خطابه أشبه بالاعتذار، أو أنه كان يسعى إلى ربطهم بالتزام أعطوه وتمنوا في سرهم ألا يضطروا أبداً لاحترامه.

لذا غلبت الصيغة الأولى، تلك المتعلقة بمنع الكاتيوشا! وبدا أنه من الصعب إقناع المجندين وذويهم بالذهاب إلى غزة وتطهير كل حي فيها. فذلك مخيف وهو مجهول النتائج والثمن… لا سيما إن كان الامر سينتهي حكماً، ومهما نجح، بانسحاب وبعودة الأمور رويداً إلى ما كانت عليه.

من المرجح أن الإسرائيليين لا يريدون الموت من أجل هذا. ولاستطلاعات الرأي التي أجريت بينهم في عز أيام القصف دلالة أكيدة على هذا الاتجاه، فقد أيدت أغلبية ساحقة تماماً (87 بالمئة) العملية واستمرار القصف الجوي وتكثيفه، مقابل أقل من 30 بالمئة أيدوا اجتياحاً برياً.

لكنْ عوضاً عن الكاتيوشا، انهالت على تل أبيب وعلى ضواحي القدس آلاف الصواريخ سميت بعيدة المدى (مع أن المسافة لا تصل في أي حال لمئة كلم)، وقد عطلت القبة الحديدية معظمها، ولكن بضعة منها سقط. ومن جهة أخرى، فإن هول أصواتها وهي تنفجر في الجو لم يكن قليلاً. قالت القيادة الإسرائيلية إنها ضربت منصات هذه الصواريخ في اللحظة الأولى من العملية، وهذا إنجاز، لكن القلة التي لم تدمر انطلقت. وتقول الاجواء العامة في إسرائيل اليوم، إن الناس استبطنوا وجود تلك الصواريخ، ويعرفون أن الفصائل الفلسطينية ستعود للتزود بها حتى لو أغار الطيران الاسرائيلي مراراً وتكراراً على مصانع الأسلحة في السودان وعلى القوافل الناقلة، وعلى الأنفاق المسربة لها. وهم عادوا يتأسفون على حقبة مبارك، وأدركوا بشكل ملموس التغيير الذي وقع، وأن براغماتية الإخوان المسلمين مهما بلغت، ومهما اهتمَّت بكسب حسن الظن الاميركي، فهي تكويناً ووظيفة معاً، مضطرة من جهة أخرى للتعامل مع موضوعات غزة وفلسطين وإسرائيل … إلخ بـ «توازن». وهذا لا تطيقه إسرائيل. فما هي فاعلة؟

بهذا المعنى، يحق للفلسطينيين أن يشعروا بأنهم حققوا انتصاراً، وأن يحتفلوا به في شوارع غزة بذلك الفرح المؤثر. وبهذا المعنى يُنظر إلى الهتاف الحماسي الذي صاحب إطلاق الصواريخ نحو تل أبيب، فالفلسطينيون يعرفون حدود هذا الحدث، ولكنهم بخبرتهم التاريخية بإسرائيل يعرفون أيضاً، وبالمقدار نفسه، أنها لا تتحمل حتى تلك الجزئية، ولا بد من توقع نشاط استخباراتي وعسكري محموم من قبلها لتعديل هذه المحصلة. وقد ترتكب إسرائيل حماقات وجرائم في فلسطين وخارجها، مما لا بد من التحوط منه، ولكنها في نهاية المطاف وحقيقة الأمر، ومهما فعلت، اكتشفت «حدود القوة». لذا، ولأنه بعد 64 عاماً من التأسيس تبدو الأمور عند خط بدايتها بلا رجاء، فهي تظهر كحلقة مفرغة: ليس التطبيع ممكناً ولا الغلبة المطلقة ممكنة، ولن يكون مستغرَباً أن يقوى بشكل خطير ذلك الميل الانتحاري الكامن في أساس فكرة إسرائيل نفسها: عليَّ وعلى أعدائي يا رب!

آخر تحديث:

السبت ٢٤ نوفمبر

الحياة

الهدنة وسط قراءات متصارعة للربيع العربي

حسن شامي

الإعلان المشترك المصري – الأميركي، ومن القاهرة تحديداً، عن التوصل إلى هدنة غزة بين الفصائل الفلسطينية المسلحة، وفي مقدمها حماس، وبين إسرائيل لم يكن أمراً عصياً على التوقع. والهدنة التي ابتهج بها عشرات الألوف من الغزاويين منذ لحظة دخولها حيز التنــفيذ، وقد لا تكون سوى صيغة لوقف النار، تفتح بالضرورة باب الأسئلة والمساءلة.

سنضع جانباً مبالغات الخطاب الحمساوي في حديثه عن انتصار وعن فشل العدوان الإسرائيلي في تحقيق أهدافه، وإن كانت هذه المبالغة لا تعدم وجود ما يسوّغها، بما في ذلك تهنئة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لإسماعيل هنية بالنصر، وادعاءات نتانياهو بأن الهجوم حقق أهدافه لجهة تدمير آلاف الصواريخ واغتيال القائد العسكري أحمد الجعبري. فالسؤال الكبير للمواجهة والهدنة الناجمة عنها بفعل ضغوط هائلة ووساطات عاجلة، يظل يتعلق بالسياق الإقليمي والدولي المستجد والمتولد عن الربيع العربي ومــوقع المسألة الفلسطينية فيه. ومن الطبيعي، في هذا الإطار أن تتوجه الأنظار منذ اليوم الأول للمواجهات إلى مصر التي تشد سلطتها الإخوانية الإسلامية روابط قوية مع حماس ذات الجذور الإخوانية.

فعندما اندلعت الانتفاضة التونسية وانتقلت إلى مصر، سارع مراقبون وإعلاميون ومثقفون، شرقاً وغرباً، إلى لفت أنظارنا إلى غياب أو ضمور الشعارات القومية وقضاياها المركزية وفي طليعتها القضية الفلسطينية. وحرص بعض هؤلاء على تذكيرنا بهذه الواقعة تذكيراً إرشادياً ما يجعل إصرارهم وتشديدهم عليها أقرب إلى التمني منه إلى الملاحظة والتشخيص. وجرى رفع هذا التذكير إلى مصاف الإعلان عن قطيعة كاملة مع زمن ولغة سياسية يرقيان إلى الخمسينات. ولا نعلم ما هي مقدمات هذه القطيعة ولا وجوهها الفعلية، إذ لا نجد منها سوى الرطانة النخبوية لدعاة جدد يتخذون في طبيعة الحال وضعية المنقذين من ضلال مفترض ومقيم. صحيح أن الحراك المصري لم يخل من استهداف للسفارة الإسرائيلية ومن لعبة عض أصابع بين الإدارة الأميركية وتشكيلات سياسية مرشحة لقيادة السلطة والدولة معاً في مصر كما هي حال الإخوان. لكن ذلك يبقى، في عرف المنقذين من الضلال، أدنى بكثير من الجعجعة القومية العروبية في كل نسخها الناصرية والبعثية والفتحاوية… إلخ. من هذا الافتراق عن أدبيات الخمسينات، أي بالتعريف السلبي على طريقة تعريف الطاولة بأنها ليست كرسياً، يستدل المرشدون الجدد على ولادة وعي وطني، داخلي ومحلي، يقطع مع شياطين الماضي القريب وحربه الباردة، ويتعرف الى هويته الوطنية ويتحصل على علامات الرشد والصحة التاريخيين بالاستناد إلى هذه القطيعة المفترضة.

وبطريقة مشابهة أو موازية، حسب المرشدون الجدد أن خروج حماس من محور الممانعة، أو ما يوصف فولكلورياً بهذه الصفة، على خلفية الأزمة السورية والحراك الشعبي ضد نظام سلطوي واستملاكي، خروج ليس على فكرة ما يسمى الممانعة فحسب، بل على جملة المواصفات الدائرة على المسألة الفلسطينية وتحولاتها وسط سياقات إقليمية ودولية مضطربة شهدت ولا تزال تبدّلات يكتنفها مقدار من الغموض وعدم استقرار الوجهة والمآل. وجاءت زيارة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني إلى غزة مسبوقة بإقفال مكاتب حماس في دمشق وتنامي العلاقات مع مصر الإخوانية واستمرار العلاقات الطيبة مع تركيا الأردوغانية لتزيد التعويل على اصطفاف حماس ضمن منظومة إقليمية تسبغ عليها صفة الواقعية الحميدة والمحمودة. ولا تخفي هذه القراءة رهانها على ضرورة خروج المسألة الفلسطينية من المخيلة السياسية العربية كثمن لاكتشاف الداخل الوطني وإعادة بنائه.

والحال أن السياسات العروبية والقومية لم تغفل أصلاً الداخل الوطني، فهو مادة السلطة التي شرعت في تكوينها أو الاستيلاء عليها. وهي لم تول أهمية للمسألة الفلسطينية إلا بقدر ما كانت هذه مقيمة في الداخل الوطني والتاريخي. ذلك أن العرب يتحملون مباشرة منذ «نكبة» 1948 قسماً كبيراً من المسؤولية عن النكبة وتبعاتها، ناهيك عن وظيفة الدولة العبرية في ترجيح منطق السيطرة الاستعمارية كما حصل في العدوان الثلاثي على مصر الناصرية.

الصراع على حمولة «الربيع» العربي وقراءات دلالاته مفتوح. وهذا طبيعي، إذ يتعلق الأمر بصراع على تحديد وجهته، داخل كل بلد وداخل المنظومة الإقليمية الآخذة بالتشكل وسط غموض يشرّع بلدان المنطقة وفي مقدمها مصر على المجهول وشتى الاحتمالات. وتستطيع كل قراءة أن تضع القطيعة مع السابق حيث تشاء. وقد لا يكون هناك توافق على تعيين السابق الذي تجرى القطيعة معه. يبقى أن الفلسطينيين لن يقبلوا بأن يكونوا «الجثة الحية» لسياسات لا تعترف لهم بصفة الوجود السياسي. وهذه المسألة ليست بلا مفاعيل داخل الكيانات الوطنية العربية، خصوصاً البلدان الأكثر احتكاكاً وتأثراً بالمصير الفلسطيني. بهذا المعنى يبدو الأداء المصري في معركة غزة أكثر قطعاً مع حسني مبارك وأنور السادات منه مع عبدالناصر. لكن للقطيعة حدوداً هي غير الحدود المفتوحة التي يتوهمها ويوظف فيها المرشدون الجدد.

مع أن السباق بين التصعيد والتهدئة ظل جارياً طوال الأيام الثمانية من العدوان على غزة، فحظوظ الإعلان عن هدنة بين طرفي النزاع بقيت قوية وراجحة. صحيح أن التفجير الذي استهدف حافلة ركاب إسرائيلية في تل أبيب، معطوفاً على تواصل سقوط صواريخ على أطراف مدن وبلدات إسرائيلية، عزز فرص الخيار الشمشوني الداعي إلى عملية برية واسعة لضرب قوى المقاومة بعد أكثر من ألف غارة جوية يفترض أنها أنهكت الجناح المقاتل في غزة ودمرت قسماً لا يستهان به من القدرة الصاروخية وذخائرها ومنصاتها. وكان معلوماً علم اليقين أن ميزان القوى العسكري بين الطرفين، في حال تقابلهما وسط عزلة كاملة، يشبه الموازنة بين النملة والفيل. ومن المؤكد أن المتصارعَيْن، في غزة وسواها، يعلمون، علم اليقين أيضاً، أن صراعهما عصي على العزل الكامل بالنظر إلى تشابك المجتمعات ومصالح الدول المحيطة وذات العلاقات المركّبة، على تفاوت أهميتها، مع هذا الطرف أو ذاك. وكان واضحاً أن الهدنة هي بالضبط حصيلة تقاطعات وتوسطات إقليمية ودولية تخشى كثيراً إرباك مصر أكثر مما تحتمل الآن. فهي في غليان مفتوح، وسيولة النزاعات والمواجهات المدنية فيها كبيرة. ولا تناقض بين البناء الوطني وأن يردد المرء «أنا لا أنساك فلسطين».

الحياة

وراء الأكمة ما وراءها

محمد الحدّاد

الشعور الرئيسي الذي ينتاب المراقب للعدوان على غزة هو شعور الإحباط، لتكرُّر السيناريو عينه بصفة دورية، في ظل عجز عربي ودولي عن التدخّل، فحلقات السيناريو هي دائماً نفسها: عمليات غير محسوبة ضد مدن إسرائيلية لا يُعلم على وجه اليقين من يقررها ويقف وراءها، ثم ردّ همجي وحشي إسرائيلي تكون ضحاياه النساء والأطفال والرضع، ثم ردود كلامية وانفعالية عربية لا تسمن ولا تغني من جوع، ثم صمت دولي رهيب، ليس فقط على وحشية العدوان ولكن أيضاً على تواصل هذا الجرح الدامي في الشرق الأوسط منذ أكثر من ستين سنة.

مع الأسف، لم تغيّر مناخات «الربيع العربي» حلقات هذا المسلسل المتكرّر واللاإنساني، ففي مصر كانت خطابات الرئيس مرسي «ناصريةَ» النبرة، وديبلوماسيتُه «مباركيةَ» المنزع، وانتهت المحصلة بتدخل مصر وسيطاً -كالعادة-، وبالاستفادة من خبرة ديبلوماسييها العالية من أجل تحقيق هدنة موقتة. وفي تونس، منطلق الربيع العربي، عاد الوفد الحكومي لدعم غزة فرحاً مسروراً، واصطف أمام عدسات الكاميرات لالتقاط الصور التذكارية، وكأن الزيارة قلبت موازين القوى أو شدّت أزر المقاومين بالعتاد والسلاح. أما جامعة الدول العربية، فأثبتت مجدّداً أنها مجرد جثة هامدة لا أمل منها، فالتنسيق الديبلوماسي بين دولها كان كالعادة شبه غائب، بسبب المناخ الإقليمي السائد، فلم يكن قادراً على حشد الدعم الدولي أو التأثير في قرارات مجلس الأمن أو زحزحة الموقف الأميركي، فيما لوحظ تنامي الدور التركي في القضية الفلسطينية وغلبة صوت رئيس الوزراء التركي في الساحة الدولية على كلّ الأصوات العربية.

إن أخشى ما نخشاه اليوم، أن تكون القضية الفلسطينية إحدى ضحايا الربيع العربي.

لا يمكن طبعاً أن نحاسب الثورات العربية، لأنها ما زالت غضة وغير مهيأة للتأثير في القضايا الدولية، لكن ينبغي أن نحذِّر من اتجاهين يمكن أن يترسخا شيئاً فشيئاً: أولهما تحويل القضية الفلسطينية مجردَ رقم داخلي يُستعمل في المزايدات بكل أنواعها للحصول على الأموال وتعبئة الأتباع وأخذ الصور التذكارية لرسم المواجهات الانتخابية الداخلية، باستغلال غلبة الجوانب الانفعالية في ردود الفعل العربية… وبذلك نعود إلى مناخ الخمسينات والستينات واللاءات المشهورة وإذاعة «صوت العرب» وكل الخطب الرنانة آنذاك، التي كما لم تحرّر فلسطين فهي لن تنفعها اليوم أيضاً.

الاتجاه الثاني الاقتصار من القضية الفلسطينية على جانبها الإنساني، بإرسال الإعانات ورثاء الأموات، بدل وضع استراتيجيات للمقاومة واضحة ودقيقة وناجعة تتطلب مصارحة الجماهير بما هو ممكن وما هو غير ممكن.

واليوم، بعد الهدنة التي تحققت بفضل الديبلوماسية المصرية، إذا ما كُتب لهذه الهدنة الاستمرار، فمن المنتظر أن يتواصل السيناريو المعهود، وأن نشهد كل طرف في النزاع يتباهى بالانتصار، وهي مباهاة ستستمر طالما لا يوجد أحد قادر على أن يخبرنا الخبر اليقين ما كانت نوايا نتانياهو من هذا العدوان، كي نحكم عليه بالنجاح أو الفشل. لا شكّ في أنه سعى إلى الاستفادة انتخابياً من الحدث، وعليه سنحكم على نجاحه أو فشله بما سيكون مصيره في الانتخابات المقبلة المقررة شهر كانون الثاني (يناير) المقبل، لكن من المستبعد أن تكون الحسابات الانتخابية وحدها هي الدافع، وأن يتحرك الجيش ويقبل المخاطرة لمجرد إرضاء نزوات رئيس وزرائه الانتخابية، فينبغي علينا والحالة هذه، أن نرى أيضا ما وراء الأكمة، ونتابع بدقة ثلاث قضايا على الأقل ستبيِّن لنا خيوط اللعبة الإسرائيلية:

أولاها: هل ستسهّل أحداث غزة مشروع الفلسطينيين لدخول الأمم المتحدة بصفة مراقب، أم أنها ستزيده تعقيداً؟ فقد تكون إسرائيل قايضت قبول الهدنة المصرية بوعد أميركي صارم بالتصدي لتلك المبادرة الفلسطينية. ثم إن حركة «حماس» لن ترضى بأن يذهب رصيد نضالاتها لتقوية غرمائها في رام الله وتقوية سلطة فلسطينية منهكة ومحاطة بالعجز والفضائح من كل جانب.

ثانيتها: هل كان الكلام الأميركي عن الالتزام بأمن إسرائيل مجرد مجاملات بروتوكولية أم أنه يؤشر لأمر خطير، وهو إقرار برنامج عملاق للدفاع الصاروخي تقوم الولايات المتحدة بتمويله وتنفيذه لصالح إسرائيل، حماية لها من «حماس» وإيران وكل التطورات الممكنة في منطقة تعيش مخاضاً ضخماً؟ فكل الخبراء الاستراتيجيين يتفقون على وجوب تكريس التفوق النوعي الإسرائيلي، الذي لا ينقصه اليوم سوى مجال الدفاعات الصاروخية، الذي يمثل نقطة ضعف إسرائيل، التي تعمل على تأكيد ذلك لحلفائها، مستغلة الأحداث الأخيرة وكونها لا تقدر على تدارك الأمر من دون التكنولوجيات والتمويلات الأميركية.

وثالثتها: إمكانية أن يكون الهجوم على غزة نوعاً من التمرين على هجوم محتمل على إيران، فهو فرصة لاختبار الصواريخ ذات الصنع الإيراني، وفرصة تثبت فيها إسرائيل لحليفتها الأميركية أن التعاون العسكري بين «حماس» وإيران قد بلغ شوطاً متقدماً رغم الحصار على غزة، وأن المصالح الإسرائيلية والأميركية تلتقي حول التخلص من العدوّين في آن واحد.

ومن المعلوم لدى الجميع أن أي رئيس أميركي تكون حريته للتحرك في القضايا الدولية أكبر أثناء ولايته الثانية، فهي الأخيرة، وبعدها سيغادر الحلبة السياسية. وقد انتظر كثيرون بعد فوز باراك أوباما بولاية ثانية أن ينفذ وعوده بالتدخل لحل القضية الفلسطينية، لكن يبدو أن نتانياهو سارع إلى تحويل وجهته لمسالك أخرى، فعلى الفلسطينيين حينئذ ألا يشعروا بانتصارات زائفة، وأن يسارعوا من دون تردّد إلى توحيد صفوفهم ووضع خطط عمل واضحة أثناء السنوات الأربع المقبلة، وعليهم ألا يقبلوا من العرب الخطب الرنانة، وألا يسمحوا لهم بالاستفادة الداخلية من قضيتهم، بل عليهم أن يطالبوهم بالعمل الناجع، في ظل خططٍ هم (أقصد الفلسطينيين) واضعوها.

الحياة

غزة: أثمان «الانتصار»

حسام عيتاني

جانبان من اتفاق التهدئة الجديد بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة يمكن الحديث عنهما بعد ساعات من دخول الاتفاق حيز التنفيذ.

الجانب الأول: تتجاوز أهمية الاتفاق بأشواط صيغته المباشرة. إنه يتعلق بإعادة صوغ قوانين الصراع حول غزة، ويشكل ذلك الاعترافَ العربي والدولي (والاسرائيلي ضمناً) بسيطرة حركة «حماس» على القطاع وتحولها مرجعية سياسية وأمنية لشؤون أكثر من مليون ونصف المليون من الفلسطينيين المقيمين هناك.

يضاف إلى ذلك، أن الاتفاق يحمل الثمار الأولى لتشكل صورة العلاقات الإقليمية في مرحلة ما بعد «الربيع العربي». ورغم أن هذه لم تستقر على وضع نهائي بعد، إلا أنها تنطوي على ميزات، منها الحضور الديبلوماسي المصري الكبير بالتنسيق مع تركيا والفصائل الإسلامية في غزة وقطر، مقابل غياب السلطة الوطنية الفلسطينية والدول العربية الأخرى. ويتلخص دور الولايات المتحدة التي فقدت الكثير من نفوذها في المنطقة منذ غزو العراق، كوسيط (منحاز) مع الجانب الإسرائيلي.

على الخلفية هذه، يساهم الاتفاق في إضفاء قدر كبير من الاستقرار والهدوء على غزة والسماح لسكانها بالتقاط الأنفاس والالتفات إلى عملية إعادة البناء المؤجلة منذ نهاية عدوان 2008-2009، وترميم ما يمكن ترميمه من مؤسسات تربوية واستشفائية. بيد أن الاستقرار الموعود لن يكون بلا ثمن، فامتناع الفصائل في غزة عن أي عمل عسكري ضد إسرائيل انطلاقاً من القطاع، وفي الوقت الذي لا تشارك الفصائل في أطر منظمة التحرير ولا في أجهزة السلطة، ولا تعنيها أي عملية سياسية تهدف إلى تحقيق تسوية مع إسرائيل، يعني أن القطاع وقواه خرجت عملياً من الصراع وباشرت رحلة البحث عن دور في فضاء أوسع قد يكون مصرياً-تركياً.

في المقابل، ليس من مؤشر واحد يقول إن السلطة في رام الله قادرة على الالتزام بمصالحة وطنية حقيقية مع «حماس» تعيد توحيد الصف الفلسطيني. ويبدو أننا أمام مرحلة جديدة من الانقسام، الهادئ لكن الثابت، حيث سيقنع الطرفان بواقعهما وينصرفان إلى تحقيق مكاسب في الجبهات التي ينشطان فيها: معالجة المشكلات الاقتصادية، التنمية، البطالة وغيرها من أشكال العمل ما دون السياسي. نرى هنا ملامح «الحل الاقتصادي» الذي كان بنيامين نتانياهو يدعو اليه عشية وصوله إلى الحكم.

هذه إحدى الزوايا التي يمكن النظر إلى الاتفاق الفلسطيني-الإسرائيلي الأخير عبرها.

الزاوية الثانية «ثقافية»، إذا جاز التعبير، خلاصتها الإصرار على وصف الاتفاق «بالانتصار»، فرغم أكثر من مئة وثلاثين ضحية فلسطينية قسم كبير منهم من الأطفال، ورغم الدمار الواسع، ورغم الأبعاد السياسية المقلقة للاتفاق ولمستقبل القضية الفلسطينية عموماً، إلا أن ذلك لم يحل دون الاحتفال بالاتفاق باعتباره نصراً جديداً يضاف إلى انتصارات المقاومة. وإذا قال قائل إن إسرائيل لم تفقد سوى خمسة قتلى، وإن المنازل الألف التي تضررت بالصواريخ الفلسطينية ستعود إلى حالتها السابقة قبل أن تنتهي عمليات رفع الأنقاض في غزة، وان «المستوى السياسي الإسرائيلي» سيوظف الحرب لتحقيق المزيد من التقدم على حساب الفلسطينيين، سيظهر من يكيل الاتهامات -على الطريقة البعثية- «بإيهان نفسية الأمة».

إن «السياسة الظافرية الانتصاروية»- بلغة ياسين الحافظ- ما زالت شديدة الحضور في «العقل السياسي» العربي (او اللاسياسي)، وما زالت تنجب أجيالاً من الممانعين الجدد الذين يرون في سقوط صاروخ في ضواحي تل أبيب ذروة الإنجاز المقاوم، سيان بعده ظلَّ الفلسطينيون في مخيماتهم وشتاتهم أو فنوا عن بكرة أبيهم، ذاك أن «الكرامة» استُعيدت…

الحياة

تقويمات اسرائيلية: الحرب على غزة كانت اختباراً للجبهة الداخلية والسلطة المصرية

    رندى حيدر

قد لا يكون اتفاق وقف النار بين حركة المقاومة الاسلامية “حماس” وإسرائيل الذي انهى حرب غزة موضع اجماع وقبول لدى جميع الإسرائيليين لا سيما الجمهور اليميني الذي كان يرغب في المضي في العملية العسكرية حتى القضاء عسكرياً على “حماس” واقتلاعها من جذورها مهما كان الثمن. لكن الائتلاف اليميني الحاكم الذي وافق على الاتفاق يعتبر نفسه قد حقق كل الاهداف المعلنة التي وضعها للعملية العسكرية من دون ان يكبد الإسرائيليين ثمناً باهظاً في الارواح، ومن دون ان يعرض حياة جنوده للخطر. وفي استطاعة اكبر تحالف انتخابي “ليكود- بيتنا” ان يقول للناخبين انه لقن “حماس” درساً لن تنساه وأنه بعد الانتخابات سيكون على الحكومة الجديدة تولي اتمام المهمة.

بيد ان المؤكد ان ما جرى في غزة خلال الأيام الماضية شكل اختباراً مهماً لعدد من المسائل الاساسية المتعلقة بأمن إسرائيل، بعضها ذو طابع عسكري استراتيجي مثل اختبار مواجهة الجبهة الداخلية الإسرائيلية لهجوم صاروخي، ومدى نجاعة المنظومات الدفاعية الجديدة في هذه المواجهة، والبعض الآخر ذو طابع سياسي مثل اختبار مستقبل العلاقات مع مصر في عهد حكم “الإخوان المسلمين”، ومسار تطور العلاقات الإسرائيلية – الأميركية خلال الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما.

وفي الواقع فان القصف الصاروخي الذي تعرضت له المدن والبلدات الإسرائيلية من جانب التنظيمات الفلسطينية في غزة  شكل نموذجاً مصغراً لما يمكن ان يحدث في حال قررت إسرائيل شن عملية عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية. إذ يتوقع القادة العسكريون ان تتعرض الجبهة الداخلية الإسرائيلية لهجوم من ثلاثة انواع من الصواريخ: صواريخ بعيدة المدى من إيران، وأخرى متوسطة وقصيرة المدى من “حزب الله” و”حماس”. ومنذ سنوات عدة تنكب القيادة العسكرية في إسرائيل على تحصين الجبهة الداخلية والدفاع عنها بعدما تحولت الساحة الاساسية للمواجهه والاكثر عرضة للخطر في زمن الحروب الصاروخية على المدن.

من هنا يمكن القول انه من الخلاصات المهمة المتعلقة بالحرب الأخيرة على غزة مدى نجاح الجبهة الداخلية في الصمود ومدى فعالية المنظومات الدفاعية المنوط بها حمايتها. ولقد نحت التحليلات الإسرائيلية نحو تضخيم الدور الذي قامت به منظومة “القبة الحديد” لاعتراض الصواريخ المتوسطة المدى. بيد ان الارقام الرسمية الإسرائيلية تظهر انه من مجموع 1500 صاروخ وقذيفة سقطت على إسرائيل نجحت منظومة “القبة الحديد”، وعددها خمس بطاريات، في اسقاط 421، ومهما قيل عن نجاعة هذه المنظومة فان الكلفة الباهظة لها في اسقاط صواريخ محلية الصنع يجعل نجاحها نسبياً للغاية. ومع ذلك فمن المتوقع ان تبني إسرائيل على ما حدث خلال الايام الثمانية سيناريوات المواجهة مع إيران.

الدرس الثاني المهم هو مستقبل اتفاق السلام مع مصر. فقد شكلت عملية “عمود السحاب” اهم تحد لحكم الرئيس المصري الجديد محمد مرسي ولسياسة “الاخوان المسلمين” في مصر. ويبدو ان مصر نقلت خلال ايام القصف رسالة الى إسرائيل مفادها انها في حال شنت هجوماً برياً على غزة فانها ستعلق اتفاق السلام معها. وبالاستناد الى مصادر مقربة من رئيس الوزراء الإسرائيلي فان هذا الموقف المصري كان من بين الاسباب التي دفعته الى عدم اتخاذ قرار بالعملية البرية.

من جهة أخرى، اختبرت إسرائيل خلال جولة العنف الاخيرة توجهات إدارة الرئيس أوباما في ولايته الثانية. وقد اثارت مواقف أوباما الداعمة لحق إسرائيل في الدفاع عن أمن مواطنيها الارتياح داخل إسرائيل، واستغلت حكومة نتنياهو الفرصة لترميم علاقاتها المضطربة مع البيت الأبيض من خلال تجاوبها مع المطلب الأميركي بعدم شن هجوم بري على غزة وضبط النفس.

ولا يمكن تجاهل الفائدة السياسية المباشرة لعملية “عمود السحاب” على صعيد المعركة الانتخابية داخل إسرائيل، إذ وفقاً لأكثر من معلق إسرائيلي نجحت حكومة نتنياهو في تحويل النقاش الانتخابي عن الضائقة الاجتماعية والمطالب الحياتية، التي كانت جوهر الاحتجاج الشعبي في إسرائيل صيف 2011، نحو قضايا الأمن والحرب. وحتى الان لا تزال استطلاعات الرأي تتوقع فوز تحالف “ليكود-بيتنا” بـ37 مقعداً.

بالطبع يحاول المسؤولون الإسرائيليون ابراز اتفاق وقف النار مع “حماس” على انه انجاز، في حين ان ما هو معلن في الاتفاق يظهر بوضوح ان “حماس” استطاعت ان تفرض شروطها للتهدئة التي، الى جانب وقف الاغتيالات ورفع الحصار وفتح المعابر تجبر إسرائيل على التراجع عن المنطقة المحاذية للسياج الحدودي والتي شكلت الدوريات الإسرائيلية داخل غزة سبباً مباشراً للتصعيد.

وتعتقد إسرائيل اليوم ان الرعاية المصرية والأميركية لاتفاق وقف النار مع “حماس” سيجعله فعالاً بحيث يمكن ان يسود على الحدود مع غزة الهدوء الذي يسود الحدود مع لبنان منذ انتهاء حرب تموز 2006.

النهار

كأنها استنساخ «حرب السادات» و«ثغرة كيسنجر»

فؤاد مطر

تكاد الموقعة الحمساوية – النتنياهوية التي وضعت بعض أوزارها يوم الثلاثاء 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 بعد جولات استغرقت أسبوعا صاروخيا بامتياز ومن طرفي المواجهة (قطاع غزة المستحوذ عليه من حركة «حماس» وشقيقتها لجهة الوالدة «حركة الجهاد الإسلامي» وإسرائيل المعتدية ماضيا وحاضرا ودائما) تشبه في بعض ملامحها وظروفها ومساراتها حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. فكما أن الحرب الساداتية بدأت بعد خدعة بالغة الذكاء من جانب الرئيس أنور السادات فإن المغامرة من جانب مثلث العدوان الإسرائيلي على غزة (نتنياهو – ليبرمان – باراك) حدثت على خلفية خدعة. وللتذكير فإن الرئيس السادات سرب إلى وسائل الإعلام فيما ساعة الصفر محددة والأبطال جاهزون للعبور من الشاطئ الحر إلى الشاطئ المحتل من قناة السويس، وحيث خط بارليف المكهرب الذي طالما حذر محذرون أبرزهم الأستاذ محمد حسنين هيكل من مخاطر اقتراب الجنود المصريين منه، نبأ مفاده أن مئات من القيادات العسكرية المصرية ستتوجه إلى الديار المقدسة في مكة المكرمة لتأدية العمرة، فإن نتنياهو وطاقم الخارجية والدفاع في إسرائيل عمموا وبشكل لافت معلومات بثتها الإذاعات ونشرتها الصحف ومفادها ما معناه أن إسرائيل وضعت في إضبارات أمر تنفيذ القضايا الملحة مسألة التعامل العسكري مع «حماس»، وعزز هذا التعميم أن الرئاسة المصرية في شخص «أخي» الغزاويين الحمساويين محمد مرسي ومعه جهاز المخابرات الذي هو من اختيار العهد الإخواني الجديد في مصر نشطت من أجل تحقيق تهدئة بين «حماس» وإسرائيل تغنيها عن تعقيدات التدخل مضطرة كنصيرة «حماس» في حال حصل تصعيد في الموقف.

قادة إسرائيل في عام 1973 بلعوا الطعم الساداتي وكانت المباغتة التاريخية التي انتهت بأن مصر بدأت المرحلة العملية لإزالة آثار العدوان. وقادة «حماس» ومعهم أهل الحكم في مصر اطمأنوا إلى أن الموقف لن ينفجر استنادا إلى ما عممته إسرائيل وترك انطباعا بأن إسرائيل ستحترم كلامها فلا تفجير للموقف وبالتالي لا إحراج للحكم المصري الذي لم تستقر أموره بعد فضلا عن أن مشكلة المتشددين في سيناء مصدر قلق له وإلى درجة أن انطباعات استشرت ومفادها أن إسرائيل ستدفع بالغزاويين إلى سيناء وهذه تصبح بالتالي دولة لهم بموجب توافقات دولية في هذا الشأن.

في المحصلة النهائية خرج الطرفان مثخنين بأنواع من الجراح والخيبات. ودخل الجانب الأميركي على خط المعضلة كي لا تضطر مصر إلى أن تضع موضع التنفيذ ما قاله رئيسها حول إن مصر الحالية هي غير مصر الماضي وبما معناه أن محمد مرسي هو غير محمد حسني وأن النجدة من جانب «إخوان مصر» «إخوان غزة» بمثابة واجب لا بد من تأديته وإلا فإن أدبيات الحركة التي ينتمي الجانبان إليها وكذلك شعارات العقيدة لا تعدو أكثر من هتافات في مسيرات. ولقد جاء الدخول الأميركي وفي شخص وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في لحظة بدا فيها أن جراح الغزاويين تتحول إلى صمود مضاف وأن ورقة الصواريخ طويلة، بدليل أن الذي يطلق ألف صاروخ لا بد أنه يمتلك أضعاف هذا العدد وأن الوعيد «نار جهنم» ليست مجرد كلام من دون فعل. ومن الجائز الافتراض أن هيلاري كلينتون استحضرت في لحظة تأمل مبنية على تحليلات للموقف ومعلومات دقيقة تلقتها من وزارة الدفاع ومن إدارة الاستخبارات ومن السفارة في تل أبيب، الأجواء التي عاشها الدكتور هنري كيسنجر عندما أمضى لحظات من التأمل كوزير للخارجية في زمن حرب أكتوبر 1973 بين مصر السادات وإسرائيل في ما لديه من معلومات ورأى أن الموقف قد ينتهي إلى أن القوات المصرية لن تكتفي بسيناء وإنما قد تتوغل أكثر وأكثر وفي هذه الحال لا يعود في استطاعة إسرائيل أن تبقى على تفوقها وتسيدها، بل وربما ينتهي بها الأمر إلى أنها ستصبح مجرد جالية مضمونة حق البقاء والحماية في مجتمع فلسطيني استعاد حقه. وفي ضوء هذا الافتراض جاءت «ثغرة الدفرسوار» لتنتهي حرب السادات منقوصة النصر الأكبر. وبالنسبة إلى الحالة الجديدة فإن «ثغرة الدفرسوار» الجديدة تتمثل في مسارعة هيلاري كلينتون إلى لي عناد نتنياهو وليبرمان وباراك وفرض مبدأ القبول بالتهدئة.

وبصرف النظر عن التبريرات التي قيلت في هذا الشأن فإن إسرائيل مثلث العدوان الجديد «نتنياهو – ليبرمان – باراك » خرجت مثخنة بالإحراجات والخيبات وهي من النوع الثقيل الوطأة على نفس الجيل الإسرائيلي الحالي الذي لا بد ستتبدل رؤاه بالنسبة إلى وجوده. وهذا الجيل يريد أن يستقر ويهنأ بالعيش وحسن الجوار وهذا ما يمكن أن تحققه له «المبادرة العربية» التي واصلت عدم الالتفات والاهتمام بها ثلاث حكومات إسرائيلية متعاقبة منذ أن حظي صاحب المبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز بموافقة كل الدول العربية عليها. وفي هذه الأيام حيث يتعافى خادم الحرمين الشريفين من عملية جراحية أجريت له في عموده الفقري واستغرقت إحدى عشرة ساعة يدعو الغزاويون، كما سائر الوطن الفلسطيني المحتل وشعوب الأمتين العربية والإسلامية وبالذات الشعب اللبناني الممتن للمساعي الطيبة من أجل الوفاق والرفق بالوطن يبذلها دون كلل، كما السلف الطيب الدكتور عبد العزيز خوجه بتكليف من ولي الأمر، السفير المتميز علي عسيري وتتمثل بزيارات وتمنيات ونصائح لمن يحتاجها وهم كثيرون، بالمزيد من التعافي وطول العمر للملك عبد الله لكي يسقي بالحنكة والحكمة المبادرة التي كان من شأن التفاف الحكومات الإسرائيلية حولها بدل الالتفاف عليها، أن توفر على المنطقة هذه الفوضى التي لا طائل تحتها. ففي نهاية المطاف لا بد من القدس عاصمة لدولة فلسطين وإن طال زمن النضال بشقيه السياسي والعقلاني والإيماني وحتى بعد دخول المواجهة الصاروخية بندا في مقتضيات المواجهة.

وتبقى المسألة الأهم وهي أن المكسب الحقيقي للفلسطينيين مما حدث هو في الاستفادة من الدروس وعدم تبديد الفرص المتاحة لتوحيد الصف وبلورة الرؤية.

ونجد أنفسنا نتساءل هنا: هل لو أن الطرفين الفاعلين في الصف الفلسطيني التزما بما تحقق لهما في لقاء مكة المكرمة (من 6 إلى 8 فبراير/ شباط 2007) الذي رعاه الملك عبد الله بن عبد العزيز شخصيا فلم يرتد هذا الطرف على ذاك ويتبعثر تبعا لذلك الصف والتنكر لحلفان اليمين، كان سيصيبهما ما هو حاصل لهما الآن حيث يعتدي على «حماس» ويتوعد المعتدي بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا كان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس سيطرح موضوع الدولة الفلسطينية كعضو مراقب في الأمم المتحدة.

جوابنا أن ذلك كان على الأرجح لن يحدث. وفي حال حدث هذا الذي يحدث فإن الأمتين ستكونان سياسيا ونفطيا بالنخوة التي كانت عليها حالهما في القمة العربية الاستثنائية في الخرطوم عام 1967.

عسى ولعل يستخلص أهل المأساة الفلسطينية العبرة وعسى ولعل يترجم الرئيس أوباما ورموز القرار في المجتمع الدولي وعودهم إلى تنفيذ وبذلك لا يتكرر العدوان وتتراجع لغة الصواريخ أمام لغة التوافق التي بموجبها تعيش شعوب المنطقة في سلام وهذا ما أبلغته هيلاري كلينتون وباسم رئيسها باراك أوباما إلى مثلث العدوان الإسرائيلي بعدما استحضرت أجواء السبعينات واقتنعت بأن الأسبوع الصاروخي بين غزة الحمساوية وإسرائيل المتجنية كان يستوجب التهدئة التي جاءت مثل «ثغرة الدفرسوار» الكيسنجرية علاجا لتداعيات احتمال قوي بنصر كبير للجيش المصري في معركة مهد لها الرئيس السادات بخديعة. لكن خديعة السادات محقة ونبيلة المقاصد فيما خديعة مثلث العدوان الإسرائيلي على غزة كانت من النوع الساذج.. أو هي إحدى ألاعيب المحتالين.

الشرق الأوسط

أما الدم السوري فحلال

إبراهيم الزبيدي

بكل المقاييس والاعتبارات لا يمكن أن نعذر الجامعة العربية، سواء بأمانتها العامة أو مجالسها الدائمة والطارئة. ليس الآن وحسب، بل من أكثر من نصف قرن من الزمان. فعلى امتداد سنوات الذبح الصهيوني لأهلنا في فلسطين لم تفعل هذه الجامعة شيئا يمكن اعتباره موقفا رجوليا حقيقيا يجعل العدو، أو على الأقل يحفف استهتاره واحتقاره لهذه الأمة، ويخاف، ولو قليلا من غضب قادتها الشجعان.

ولكي لا تطول المقدمة أدخل في صلب موضوع هذه المقالة دون تأخير. والمرجو من قرائنا الكرام غير المخدرين بالعروبة المغشوشة أن يستعيدوا شريط القضية الفلسطينية، من ألفها إلى يائها. فلم يمر يوم من الأيام العادية الرائقة الهادئة في الضفة والقطاع والمخيمات دون هجمات واغتيالات واعتقالات، أو قنابل ودبابات، صهيونية أو عربية، على السواء. واليوم الذي لا يموت فيه سوى عشرة فلسطينيين فقط في الضفة أو القطاع أو المخيمات، وفي سجون الاحتلال ومعتقلات الإخوة الأشقاء، يكون يومَ رحمة وهناء وسعادة، فلم يمت فيه من أهلنا لا مئة ولا مئتان، والحمد لله. أما العشرة فأمر سهل ومقدور عليه، والأمة ولادة.

وعلى طول السنين السود الغابرة التي مرت على الفلسطينيين، سواء في الأرض المحتلة، أو خارجها، في المخيمات البائسة في دول العروبة الشقيقة لم تنجز الجامعة العربية سوى بيانات مواساة، وبطانيات، ومعلبات، ومفرقعات ورصاصات لا تنفع حتى في صيد الأرانب والغزالات.

لكن فجأة ودون مقدمات، هبت جامعتنا العربية من غفوتها، هبة رجل واحد، وصاح كبيرها: لا وألف لا لقتل أشقائنا الفلسطينيين، ولا وألف لا لقصف مقرات حماس والجهاد والجبهة الشعبية بالراجمات والطائرات. وهتف الباقون: نعم، إننا نشجب ونحتج وندين. ثم حزم مجلس الجامعة أمره وارتدى كل واحد فيه درعه وحمل سيفه وقام قومة واحدة ليزور غزة، ساعات وبضع دقائق، تعبيرا عن تضامن الأمة مع حماس، واستنكارا لقتل المجاهدين، وردا على رئيس وزراء قطر على اتهامه، وإثباتا له أنهم ذئاب، وأن غيرهم نعاج.

ليس هذا وحسب. بل إن الأخ نوري المالكي خرج عن صمته، ووقف مع ومندوبه لدى الجامعة قيس العزاوي بشمم، هاتفا: وا فلسطيناه، وقرر استخدام ما تبقى من نفطنا المسروق سلاحا في المعركة، إلى أن تركع إسرائيل ومن لف لفها، وواردعها ومنعها من أن تريق ولو قطرة واحدة من الدم العربي الفلسطيني الزكيِّ، أو تدك منزلا واحد على رؤس ساكنيه.

كل هذا مقبول، ومهضوم ومشكور. ولكن يا أبناء التي واللتيا، أين كنتم طيلة الشهور الثمانية الأولى من عمر انتفاضة الشعب السوري البطل، ورفيقـُكم وحليفـُكم وشقيقـُكم بشار يذبح المتظاهرين المدنيين العزل بالسكاكين والخناجر، وبالقنابل والصواريخ وهم يهتفون، سلمية سلمية، ولا من مجيب؟

وأين كنتم يا أولاد التي واللتيا، وقد جاوز الشهداء في سوريا الأربعين ألفا، والمعتقلون مئتي ألف، والمشردون في المنافي ثلاثة ملايين، والمفقودون مئات الأوف، وقرى سوريا ومدنها وحواريها، من ألبو كمال إلى دمشق، ومن درعا إلى الحسكة، أصبحت محض ركام وخرائب ومدافن؟ وأين كنتم وقنابلُ البطل المغوار، أخيكم في الجهاد والممانعة، وصواريخُ طائراته السمتية والمقاتلة تمطر على الأسواق والمدارس والمستشفيات ودور العجزة، حجارا من سجيل، ليلا ونهارا، ولا تتوقف؟

إن الذي أعجبنا، في الأمين العام لجامعتنا العربية الزاهرة، هذه المرة، يقظتـُه (الغزاوية) المفاجئة، وحميته وحرقة فؤاده. فهو، هذه المرة، لم يقترح أن يرسل إلى غزة مراقبين عربا يقودهم (دابي) جديد، أو دوليين يقودهم (كوفي) إضافي، ولا (إبراهيمي) بائس آخر، للمراقبة والتأكد من أن نتياهو، وليس غيره، يقصف غزة ويغتال شبابها، ويدمر منازل أهلها، ومراكز الحكومة. لم يقف نبيل العربي، هذه المرة، كما وقف حين أبلغوه بأن عدد شهادء سوريا بلغ عشرين ألفا ليقول: يا شباب، لوا على النبي، واجنحوا للسلم، وتحاوروا مع السلطة الشرعية، وفخامة الرئيس، وعفا الله عما سلف. بل إنه هذه المرة وقف غاضبا يرتجف، وهو ينادي: لا والف لا، لابد لنا أن نرد، فهذه إهانة للأمة كلها لا تغتفرـ وإن جامعتنا ليس فيها نعاج.

طبعا لا أحد منا سيغضب من نبيل العربي، ولا من باقي القادة العرب النشامى لأنهم خصوا غزة بهذه الحمية والشهامة، ولكن كل من لديه شرف وكرامة وإنسانية ودين من قراء هذه المقالة غاضب جدا من الأمين العام ومن رفاقه الميامين لأنه ولأنهم لم يجتمعوا من أول رصاصة أطلقها الفاجر الأسد على أطفال درعا الصغار الأبرياء، ولم يجتمعوا من أول صاروخ، ولا من أول طائرة، ولا من أول مدينة يساويها بالأرض. كما لم يجتمعوا بعد ذلك وقد غمرت دماء الشهداء سهول سوريا ووديانها، وساحت فيها حتى بلغت أقاصي حدودها مع دول الجوار.

غاضبون، نعم، لأن العربي لم يتكرم ولم يتجرأ ليقول إن نظام بشار الأسد سوف يزول إلا بعد عام ونصف العام من التذبيح والتشويه والتدمير والتهجير، وإلا بعد أن حكم العالم كله برحيل هذا الوحش القميء، وإلا بعد أن طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى.

هنا نسأل، هل طائرات بشار تلقي مَنا وسلوى على أطفال حلب وحماة ودرعا واللاذقية ودمشق، وطائرات نتياهو، وحدها، ترمي حمما من نار؟ وهل مدافع بشار التي تمطر على السوريين قنابلها العنقودية، كل يوم وكل ساعة، حلال، وقنابل نتياهو حرام؟ أم إن القتل بردٌ وسلام بيد الأخ القريب، ومؤلم ومُوجع فقط حين يأتي من غريب؟. وهل في شرايين السوريين ماء، وفي شباب غزة وحدها دم، يا أيتها الجامعة التي ما جمعتنا ذات يوم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى