بشير البكربكر صدقيخورشيد دليصبحي حديديصفحات سوريةعمر قدورغازي دحمانلؤي حسينميشيل كيلو

مقالات لكتاب سوريين تتناول “داعش” والتطورات الأخيرة في العراق وعلاقتها بالوضع السوري

 

 

 

أمريكا و«داعش»: مَنْ مهّد أرض الإرهاب في العراق؟/ صبحي حديدي

لا يُلام هوشيار زيباري، وزير خارجية العراق (الذي يناشد واشنطن قصف «داعش»، اليوم؛ هو الذي اعترض بشدّة على قصف ألوية بشار الأسد عندما شنّت على الغوطة هجمة كيماوية همجية، الصيف الماضي)؛ إذا كانت ثلة «المحافظين الجدد» في أمريكا قد استفاقت مجدداً على ملفّ قصف العراق، وأخذ البعض يلمّح إلى جولة غزو جديدة تكمل ما ابتدأه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، سنة 2003. تعلّم زيباري، دون عناء كبير في الواقع، كيف يقتدي بأمثال ديك شيني، دونالد رمسفيلد، بول ولفوفيتز، ريشارد بيرل، وسواهم من قادة الثلّة إياها، في الكيل بمكاييل عديدة، وقلب المعاطف على أيّ قفا تقتضيه تبدلات الأحوال.

وذاك تعليم في الحدود الدنيا، كما يلوح، لأنّ زيباري تتلمذ أصلاً على يد الاحتلال الأمريكي، وخاصة بول بريمر، «المتصرّف» الأمريكي سيء الذكر والصيت، وفي كنف حكومة نوري المالكي، الفاسدة والفئوية والطائفية، أكثر بكثير ممّا لقنه إياه سيّده جلال الطالباني، أو استجمعه خلال عقود المنفى وأطوار «النضال» في سبيل حقوق أكراد العراق. ولهذا نراه اليوم في سباق محموم إلى محاكاة أصوات «المحافظين الجدد» هؤلاء، وإلى ترديد أصداء تصريحاتهم النارية التي اجتاحت وسائل الإعلام الأمريكية، وكأنّ مواقفه، بصدد رفض التدخل في الشأن السوري تحت ذريعة «السيادة الوطنية»، كانت قد صدرت بلسان زيباري آخر، طُوي لسانه أو طواه وانطوى معه!

والحال أنّ معاطف زيباري المقلوبة، مثله في هذا مثل معظم ساسة العراق، في الحكم كما في «المعارضة»، تهون كثيراً، بل لعلها تنقلب إلى طرافة فكاهية، على مبدأ شرّ البلية الذي يضحك، إذا تابع المرء المواقف الراهنة لرجل مثل ديك شيني، نائب بوش الابن، عضو الحلقة الأضيق من رجالات «المحافظين الجدد»، وأحد كبار مهندسي غزو العراق. ففي مقال، وقّعه مع ابنته ليز، ونشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» أمس، يتباكى شيني على سياسات الرئيس الأمريكي الحالي، باراك أوباما، ويرى التالي في سطور الاستهلال وفي الخلاصة القصوى: «ندر أنّ رئيساً للولايات المتحدة كان مخطئاً حول الكثير، على حساب الكثيرين»!

وإذْ لا تستهدف هذه السطور، البتة، تبرير سياسات أوباما أو الدفاع عنها، سواء في أفغانستان أم في العراق أم في سوريا؛ وتناهض، في المقابل، أي شكل من أشكال الغزو العسكري الأمريكي وقصف الأوطان والشعوب تحت ذريعة «معاقبة» الطغاة ومجرمي الحروب، فإنّ خلاصة شيني كلمة حقّ يُراد بها الباطل: لم يفلح أوباما، على نقيض ما يزعم، في «إنهاء» حربَيْ أمريكا في أفغانستان والعراق، لأنّ سحب الجيوش في ذاته لا ينهي الحرب، لأنه ببساطة لا يحلّ السلام بالضرورة، كذلك فإنّ إدارته تواصل سلسلة حروب أخرى، في أماكن أخرى، بوسائل أخرى تبدأ من العمليات الخاصة (اغتيال اسامة بن لادن)، وتمرّ بالخطف غير القانوني لمن تزعم واشنطن أنهم «مطلوبون للعدالة»، ولا تنتهي عند عمليات الاغتيال وقتل المدنيين الأبرياء بطائرات من غير طيار.

ومن جانب آخر، فإنّ أقوال شيني وابنته مردودة عليهما، وهي تدين إدارة بوش الابن في ولايتيه الرئاسيتين، وتشمل رهط «المحافظين الجدد» أجمعين؛ قبل أن تشمل أوباما ورجالاته، أو سياساته في المنطقة، أخطأت كثيراً أم أصابت قليلاً. خير للمرء، هنا، أن يرصد مفاعيل هذه الحال في العراق البلد، على الأرض وفي صفوف البشر، حيث يضرب الإرهاب جذوره الأولى قبل التنظيرات اليمينية والرجعية حول «القرن الأمريكي الجديد»، وقبل التخرصات حول «فيروس الديمقراطية» الذي توقّع أمثال ولفوفيتز وبيرل، ثمّ شيني وبوش الابن نفسه، أن ينقله الاحتلال الأمريكي للعراق، إلى سائر بلدان الشرق الأوسط. وخير أن يبدأ المرء من شهور الاحتلال الأولى، مع تنصيب بريمر حاكماً أمريكياً أوحد على العراق، كامل التفويض ومطلق الصلاحيات، فلم يتردد في سنّ القوانين الماراثونية التي ما يزال العراق يرزح تحت مفاعيلها.

على سبيل المثال، أصدر بريمر الأمر رقم 39، الذي نصّ على تأمين 200 شركة ومؤسسة وهيئة كانت تابعة للقطاع العام، فسمح لتملّك الاستثمارات الأجنبية أن يبلغ نسبة 100 في المئة، وأجاز للشركات الأجنبية تحويل كامل أرباحها ومداخيلها دون ضرائب أو اقتطاعات، ضمن تراخيص لا تقلّ عن 40 سنة. أمّا الأمر رقم 1، الأشهر بالطبع، لأنه استهدف «اجتثاث البعث» من الدولة العراقية، فقد دمّر كلّ مؤسسة حكومية صمدت بضعة أسابيع تحت نير الاحتلال، كما فكك الجيش والشرطة وقطع الرواتب عن مستخدميها، بحيث حوّلهم تلقائياً إلى ضباط في صفوف مقاومة الاحتلال، أو عاملين لدى عزت الدوري وأنصار العهد البائد، أو متطوعين لصالح العشائر، أو مقاتلين في كتائب «القاعدة» ذاتها أيام أبو مصعب الزرقاوي وقبل ولادة «داعش».

وفي خطبته عن حال الاتحاد الأمريكي، مطلع العام 2004، بعد مرور شهور قليلة أيضاً على استكمال الاحتلال؛ أطلق بوش حبال البلاغة على عواهنها، ولم يلجم حكمة فلسفية تقليدية هنا، أو يعيد صياغة شعار مكرور هناك، وغَرَف، على هواه ودون وازع، من معين خُطَب سابقة تصف حال الاتحاد، ألقاها بوش نفسه أو ألقاها سواه. وكان المسرح حاضراً أيضاً، حين أطلق رئيس القوّة الكونية الأعظم ـ حارس الديمقراطية، وصائد الأنظمة المارقة، وهادم ملذّات الطغاة، وإطفائي الحرائق ـ ابتسامة عريضة هاشّة باشّة صوب عدنان الباججي، الذي كان يومها رئيس مجلس الحكم المؤقت في العراق… المحتلّ عسكرياً!

قبلئذ، في أيار (مايو) 2003، اعتلى بوش حاملة طائرات أمريكية، فألقى خطبة قيصر معاصر وخلفه رُفعت لافتة تقول «أُنجزت المهمة»! بعدئذ، في ايلول (سبتمبر) 2004، الجمعية العامة للأمم المتحدة، قدّم بوش المزيد من البراهين على تفوّقه في فنون الخطابة وألعاب الكلام وأحابيل القول، وهو المسلك الذي طبع الجزء الثاني من رئاسته، خصوصاً بعد غزو أفغانستان والعراق، حيث بلغ تدريبه وتدرّبه مستوى لا يُقارن البتة بحاله حين رشّح نفسه للرئاسة الأولى قبل أربع سنوات. ولقد ألقى خطاباً طافحاً بالبلاغة والمجاز واللغة الخشبية، جرياً على عادته ـ وللإنصاف: عادة سواه من رؤساء وحكّام وملوك العالم في مناسبات كهذه، جوفاء احتفالية طنّانة بلا معنى.

ولكن لأنه اعتلى المنبر بوصفه رئيس الدولة التي تعتلي العالم بأسره، فقد طالب بوش البشرية جمعاء ـ وليس فقط زعماء هذه البشرية، المنتخبين منهم وغير المنتخبين، الديمقراطيين والمستبدّين والإمّعات… ـ بأن تنشر الديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان وتحارب الإرهاب، وأن تهتدي في هذه كلها بما تفعل الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان! «لأننا نؤمن بالديمقراطية، فإنّ على الدول المسالمة أن تدعم تقدّم الديمقراطية»، و»الحرية تشقّ طريقها في العراق وأفغانستان، ويجب أن نستمرّ في اثبات التزاماتنا تجاه الديمقراطية في هذين البلدين»، قال بوش؛ و شدّد على تحويلهما إلى «نموذج للشرق الأوسط الأوسع، المنطقة التي يُحرم فيها الملايين من حقوقهم الإنسانية الأساسية والعدالة البسيطة».

فإلى أين انتهى ذلك الإيمان اليوم؟ وكيف هي حال النموذج، العراقي دون سواه؟ وأية بذاءة في أن يتناسى شيني أنه، أسوة برئيسه وثلة «المحافظين الجدد» إياها، مهدوا الأرض لولادة التشدد والتطرف والإرهاب؟ ومَنْ يلوم زيباري، حقاً، إذْ يعاود الرقص على أنغام قصف العراق، اليوم وكأنّ عقارب الساعة ارتدت 11 سنة إلى الوراء!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

 

ليس بـ«داعش» وحدها ينتفض العراق/ صبحي حديدي

قبل أن تجتاح «داعش» مدن العراق، وأمام زحف مقاتليها يتفكك جيش نوري المالكي (بقدرة قادر، أو بتآمر متآمر!)؛ كانت معظم وحدات هذا الجيش قد تربّت في كنف الاحتلال الأمريكي، وتشرّبت عقيدة البنتاغون؛ ثمّ حقنها جنرالات المالكي بجرعات متعاقبة من التطييف والتمذهب والفئوية والفساد والتحلل. وكما هي حال أيّ احتلال على مدار التاريخ، لم تكن القوّات الأمريكية تخرج من مأزق، حتى تدخل في آخر جديد، يحدث غالباً أن يكون امتداداً للمأزق السابق، وسط تقاطع بانورامي يشمل الجغرافيا العراقية، بأسرها تقريباً: الفلوجة ثمّ النجف، وسامراء، ومدينة الصدر، قبيل الانتقال إلى الموصل، وبعقوبة، والرمادي…

في غضون ذلك، كان جيش المالكي لا يتعلّم شيئاً على نحو عراقي، وطني أو عسكري أو سياسي أو ثقافي، او حتى إنساني محض؛ وكان، في المقابل، يتدرّب على محاكاة المحتلّ، وإعادة إنتاج ممارساته الأمنية، والعنفية منها بصفة خاصة، حتى تحين الساعة. وحين حانت، بالفعل، قبل أشهر قليلة، في الأنبار والرمادي، وقبل أن تُعقد الرايات لـ»داعش»، بوسائل التهويل الإعلامي المتعمد الخبيث أو القاصر الجاهل؛ لم يكذّب جنرالات المالكي خبراً، فتصرّفوا مع الأهالي كقوّة احتلال، قاهرة، متغطرسة، لا وطنية، وطائفية. وانخرط المالكي، نفسه، في تشغيل الأسطوانة المكرورة إياها، فأطلق صفة «الإرهاب» على الاعتصامات الشعبية، وربطها بمنظمة «القاعدة»، واستعار من حسن نصر الله نغمة «التكفير» و»التكفيريين».

يومذاك، وكما في كلّ دورة حاسمة في تاريخ العراق، كانت الفلوجة مسرحاً دامياً ورمزاً دائماً في آن معاً، فأُخضعت لقانون طواريء غير شرعي (لأنّ فرضه مشروط دستورياً بإقرار البرلمان)، وحوصرت، وقُصفت، وهُدمت منازلها بالبلدوزرات، وقُطعت عنها وسائل الاتصال، أسوة بالمياه والكهرباء، وشحّت فيها الأغذية والمعدّات الطبية. وبالطبع، نسي جنرالات المالكي أن مدينة الفلوجة هذه ذاتها تعرّضت، في العام 1998، إلى تنكيل شديد واضطهاد وحصار على يد قوّات صدام حسين؛ لأنّ أئمة مساجدها، وهي التي تُلقّب بـ»مدينة الألف مسجد»، رفضوا التسبيح للطاغية في عيد ميلاده.

قبلهم كان جنرالات أمريكا قد تناسوا أنّ السبب المباشر لاندلاع المقاومة في الفلوجة لم يكن أبو مصعب الزرقاوي أو أسامة بن لادن أو البعثيين الصدّاميين، كما زعمت آلة الدعاية الأمريكية حينذاك؛ بل هي المجزرة التي ارتكبتها قوّات الاحتلال الأمريكية في المدينة، يوم 28 نيسان/ أبريل 2003، بحقّ الطلبة الذين تظاهروا ضدّ احتلال مدارسهم، وسقط يومها 18 قتيلاً و200 جريح. أمّا السياق السياسي فقد كان يشير إلى اقتناع واشنطن، تحت وطأة تنظيرات «المحافظين الجدد»، بإقامة المعادلة السياسية في العراق على ركيزتَين، شيعية وكردية، وإبعاد السنّة إلى الهامش بعد تطهير ما يُسمّى «المثلث السنّي» من كلّ أسباب المقاومة السياسية أو العسكرية. وبالطبع، كانت واشنطن، ومثلها يفعل المالكي اليوم، تقامر بقلب التحالفات رأساً على عقب، وتوحيد الصفّ السنّي الذي عانى على الدوام من انقسامات قديمة ومزمنة.

كذلك تناسى الجنرالات، في جيش جورج بوش الابن، وفي جيش نوري المالكي، سواء بسواء؛ درس ربيع 1920، حين نفّذت قوات الانتداب البريطاني مجزرة في الفلوجة أودت بحياة عشرة آلاف عراقي، وألف جندي بريطاني وهندي؛ ولم ينجح أحد أعظم جيوش العالم آنذاك في قهر العراق، ولا في إخضاع المدينة ذاتها. ولقد كتب ت. إي. لورانس، أو «لورانس العرب» في لقبه الأشهر: «لقد اقتيد شعب بريطانيا إلى مصيدة في بلاد الرافدين. والأمور أسوأ مما يُقال لنا، وحكومتنا أكثر دموية مما يعتقد الجمهور. هذا عار على سجلّنا الإمبريالي، ولسنا اليوم بعيدين كثيراً عن الكارثة». حينذاك، كان على رأس القتلى العراقيين وجيه المدينة الشيخ الضاري، جدّ الشيخ حارث الضاري وجيه الفلوجة الحالي؛ وأبرز القتلى البريطانيين كان الجنرال جيرالد ليشمان، الذي قد يكون جدّ أحد المقاتلين البريطانيين الذين شاركوا الولايات المتحدة في احتلال العراق.

وأياً كان حجم الأخطار الإرهابية والظلامية التي يمثّلها اختراق «داعش» للحراك الشعبي، والعسكري، الذي يتعاظم اليوم في العراق؛ ويقتضي، استطراداً، قراءات أشدّ تعمقاً في عناصر المشهد، المعقد أصلاً، على أصعدة إقليمية، سورية وإيرانية وتركية، قبل تلك المحلية؛ فإنّ الأسهل، الأقلّ عقلانية والأكثر تبسيطاً، هو الاقتصار على «داعش»، واجترار كليشيهات طنانة جوفاء، سابحة في سديم مجرد: «شرعة أهل الحلّ والعقد»، أو «دولة الأحكام السلطانية»، أو «الخلافة الإسلامية»… على سبيل المثال.

 

 

 

حقائق واوهام!/ ميشيل كيلو

ما أن بدأ الهجوم الأخير ضد مؤسسات الحكومة وجيشها في العراق ، حتى تعالى الحديث في الغرب عن تنظيم “داعش” وانفراده بالقتال ضد النظام العراقي ، وبدأت التخمينات والتقديرات تتباين بين تدخل أميركي مباشر ومحدود فيه ، وبين الاكتفاء بدعم عن بعد للمؤسسات الحكومية وأجهزتها الأمنية ، ردعا للإرهاب وضمانا لأمن واستقرار العراق، وتفاديا لحرب إقليمية .

والغريب أن أحدا لم يفكر بأحد هذين الاحتمالين بعد هجمات “داعش” المتنوعة في سورية ، ولم يقم بأية مبادرة لدعم الجيش الحر ضدها، حتى بعد أن شرع يقاتلها ويطردها من مناطق واسعة شمال سورية ، ما لبثت أن عوضتها من خلال احتلال مناطق سورية تقع في أماكن أخرى ، دون أن يتحرك أحد في العالم ، مع أن ما حدث جرى تحت سمع وبصر الغرب عامة وأميركا بصورة خاصة . والأغرب أن هذه المنظمة الإرهابية لم تعتبر خطيرة عندنا، رغم أن وضعها هنا مرتبط بوضعها العراقي، وربما يكون مساويا له أو أفضل منه ، وأن العالم لم يستنفر ضدها في العراق، بل شجل على رصيدها الخاص كل من يحمل السلاح ضد عصابة المالكي وقتلته من :

عشائر غربي العراق ، التي تعرضت لعدوان النظام طيلة فترة ما بعد عام 2003، وحرمت من حقوقها الطبيعية والسياسية ، وشن عليها جيش المالكي الحرب تلو الحرب، وقتل منها من قتل ، ونكل بمن نكل ، وأهان شيوخها وانتهك حرمات أفرادها واقتحم قراهم ومدنهم ، وسرقهم واعتقلهم ومزق أجساد الآلاف منهم ، فللا عجب أن يكون معظم الذين يقاتلون المالكي منهم ، وأنهم قاتلوه بعد أن وجهوا إليه إنذارات متعاقبة تهدده برد عنيف، إن هو لم يقلع عن قصفهم وقتلهم ، وواصل تسليم قراهم ومدنهم ل”داعش”، في سياق اتهامهم كذبا بالأصولية والإرهاب.

تنظيم بعث العراق ، الذي يقاتل منذ نيف وعشرة أعوام ، ولا يعقل أن يكون فرعا من “داعش” ، التي لا يعقل أن ترفع صور صدام حسين بكثافة على الطرق التي انسحب منها جيش المالكي. وهو تنظيم قوي تمرس على القتال خلال حقبة ما بعد الاحتلال وإسقاط رئيسه ونظامه، ولا تنقصه القدرة على التخطيط والتنفيذ ، كما لا ينقصه المقاتلون في صفوفه ، ما دام قد انفرد لفترة بالقتال ، بينما ترقب الآخرون التطورات قبل أن يقرروا مواقفهم.

ضباط وجنود الجيش والأمن الذين لا يقرون المالكي على سياساته الطائفية والتمييزية ، ولا يرغبون في الدفاع عنه ، وشوهدوا بالآلاف وهم يحملون بنادقهم جنبا إلى جنب مع مقاتلي العشائر ومقاتلي البعث وغيرهم .

“داعش” ، وهي منتشرة في صحراء العراق الغربية ومشغولة بالحرب في دولتين ، ومن المستبعد أن تكون قد احتلت بمفردها مدينة ضخمة كالموصل بكل ما فيها من مرافق عسكرية ومنشآت حكومية ، دون أن تستخدم غير عدد من مقاتليها يتراوح بين 500 و600 مقاتل ، كما قيل ،وأن تكون قد واصلت بهم هجومها نحو بغداد واكتسحت محافظات وأقضية عديدة . لا يعني هذا أن “داعش” ليست موجودة ، بل يعني أنها ليست من صنع الهجوم ، وانه ليس لديها القدرة على مواصلة الحرب وحدها ، كما توحي تصريحات غربية كثيرة تبالغ في قوتها انسجاما مع أطروحتها وأطروحة المالكي حول أصولية من يقاتلون النظام وإرهابيتهم .

هذه هي القوى التي اجبرها نظام المالكي على قتاله ، لشدة ما استخدم ضدها من عنف ، رغم أنها حذرته مرارا وتكرارا من هجوم واسع النطاق تشنه ضد جيشه بأسلحة موازية لأسلحته، وحرصها على عدم زج بلادها في حرب تعمق التناحر الطائفي فيها ، وتؤدي إلى دمار واسع يطاول جميع مدنها وقاها وبلداتها ، ورغبتها المعلنة في تسوية سياسية متوازنة تعطيها حقوقها . لكن المالكي ركب رأسه ورفض أي حل وسط سلمي معها، مستندا على حسابات طائفية وسلطوية وعلى علاقاته مع إيران، التي شجعته على التدخل العسكري في سورية ، ومقاتلة المخالفين له طائفيا في العراق ، بما يملك من جيش كبير تعداده مليون جندي ؟.

لم تفت بعد فرصة الوصول إلى حل سياسي يخرج المالكي من السلطة ، ويجعل العراقيين مواطنين يتساوون في حقوقهم وواجباتهم أمام القانون وينعمون بالعدالة . ولم تفت بعد الفرصة لتشكيل حكومة وحدة وطنية تعيد النظر في الدستور وإستراتيجيات الحكم، وتستعيد استقلالية القرار الوطني العراقي من قادة إيران، وفي ارتباطات بغداد الدولية، فيرتاح شعب العراق وتنجو المنطقة من حرب بلا نهاية لا يعرف أحد نتائجها ، يؤكد نموذجها السوري أنها لن تكون غير كارثة رهيبة لا مثيل لها في تاريخ دولنا وشعوبنا !

المدن

 

 

 

 

“داعش” أو النظام… بل “داعش” والنظام/ علي العائد

الضباع تأكل غالباً ما تصيده الوحوش «النبيلة» التي تصطاد فرائسها وتأكل منها حاجتها من الغذاء، وتترك للضباع والحيوانات الخسيسة ما يفضل من الفريسة «الفضلة».

احتلت «داعش»، في حالة تشبه صيد الضباع، المناطق التي ساهمت الكتائب الإسلامية و «الجيش الحر» في إخراجها من يد النظام، بخاصة في ريفي حلب وإدلب، قبل أن يستعيد «الجيش الحر» المبادرة، تسانده كتائب إسلامية أخرى، ويطرد «داعش» من قسم كبير من تلك المناطق، بينما تستمر مجاميع ميليشوية غير سورية في مساندة النظام في مناطق متعددة، وفي تحقيق تقدم ينسبه الجيش السوري (الضبع) لنفسه.

عدا هذا التشابه، لا دليل على تعاون أكيد بين «داعش» ونظام الأسد، على رغم توافر قرائن عديدة تضعهما في كفة واحدة مقابل الشعب السوري الأعزل، أما ما بين «داعش» والنظام من جهة، وحملة السلاح من مدعي الدفاع عن السوريين فشأن آخر، كونهما عدوين يمتلكان القوة، ومعيار الغلبة بينهما هو السلاح فقط.

صفة «الضبعنة» جعلتهما يتشابهان تالياً في اكتساب مزيد من الأعداء بين «رعاياهما» من الشعب السوري.

كلاهما يعمّق جراح السوريين مادياً ومعنوياً، وكلاهما ساهم ويساهم في تهجيرهم بفضل أساليبهما الناعمة والقاسية، من فرض الحجاب والنقاب عند «داعش»، إلى البراميل المتفجرة التي باتت السلاح المفضل لنظام الأسد.

ويقتسم الطرفان أسوأ أمثلة القسوة تجاه السوريين. «داعش» تعلن صراحة عن طمعها بكرسي الرسول لتعيد سيرة الحكم بـ «شريعته»، والنظام يتستر بعلمانية مغلفة بـ «ثارات الحسين»، ولا تنويع في كلا الإعلانين ما دام ما يصدر عنهما يتجه عكس ما خرج السوريون من أجله في ثورتهم.

وإذا كان لا بد من بحث أسباب تشابههما، فعلينا مراجعة قائمة قادة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، هؤلاء الذين كانوا في سجون النظام حتى بدايات حزيران (يونيو) 2011، حيث أطلق النظام سراح عدد يتراوح بين 900 و1200 إسلامي من خلفية أصولية، أو قاعدية، بعد إلغائه قانون الأحكام العرفية «استجابة» لمطالب الشعب، وتنفيذاً لنصائح أصدقائه.

لا أحد يلوم النظام في ذلك، فهو يطبق مفعول إلغاء الأحكام العرفية، وهؤلاء سجناء قدامى، ومنهم من حوكم وأطلق بالاستفادة من ربع المدة. لكن معتقلين سياسيين آخرين ما زالوا في السجون، ونقصد بهم من سجنوا قبل قيام الثورة في 15 آذار (مارس) 2011. فلماذا أطلق النظام الإسلاميين، وبصفة انتقائية، واستثنى آخرين، لو لم يكن في نفس الضبع ما في نفسه، ولماذا أطلق سراح قادة التنظيم العراقيين الذين كانوا معتقلين في العراق بين 2003 و2011، وهل يمكن ربط توقيت إطلاق المجموعتين في الدولتين، كتنسيق بين نظامي المالكي والأسد، أم أن المالكي والأسد ينفذان أوامر إمبريالية في انسجام مع معكوس نظرية المؤامرة الكونية التي أطلقها الأسد نفسه؟

ينقل كمال شيخو في موقع «قنطرة» في 8 كانون الثاني (يناير) 2014 عن المعارض دياب سرية، الذي اعتقل في سجن صيدنايا العسكري بين 2006 و2011، أنّ عدد الإسلامويين الذين أطلقهم النظام السوري خلال النصف الأول من عام 2011 بلغ قرابة 900 سجين، معظمهم كانوا على علاقة بالقتال في العراق، سواء من تنظيم «الدولة الإسلامية في بلاد الرافدين»، أو من خلال تنظيم «فتح الإسلام».

ووفق سرية، كان أبرز هؤلاء أبو محمد الجولاني قائد «جبهة نصرة أهل الشام»، الذي كان معتقلاً في فرع فلسطين لدى المخابرات العسكرية بدمشق منذ 2008، وأطلق سراحه عام 2011، وأن المطلق سراحهم شكلوا النواة الأولى والخلايا الأساسية للمجموعات الأصولية المتطرفة الأساسية التي تقاتل النظام الآن.

ويضيف سرية في تقرير آخر نشرت «القبس» الكويتية ملخصاً له (17/11/2013) نقلاً عن «الأوبسرفاتور» الفرنسية: «النظام السوري ليس غبياً، فقد أطلقهم ليفعلوا بالضبط ما هم يفعلون اليوم. فأبو محمد الجولاني، وأبو طه، وجميل زين المعروف بأبي الحسين، خرجوا ليشكلوا «جبهة النصرة»، بينما انتمى أبو حفيظة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. والمجموعتان متصلتان بالقاعدة، وتتحكمان بشمال سورية. أما أحمد عيسى الشيخ فيقود لواء صقور الشام، بينما يقود حسن عبود لواء أحرار الشام، ويرأس زهران علوش جيش الإسلام… وكل هؤلاء كانوا نزلاء سجون النظام».

أمام كل ذلك، لا يزال يجادل متابعون للشأن السوري، من أخوة عرب ممانعين، فضلاً عن سوريين ممانعين، أو مترددين، في أن المسألة هي الاختيار بين «داعش» والنظام، من دون أن يعلموا أنهم اختاروا «داعش» والنظام معاً.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

سورية تحت أنظار “داعش”/ لؤي حسين

ما أظهره تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام («داعش») من قوة ومقدرة وتنظيم في اجتياحه مساحات ومناطق عراقية كثيرة في زمن قياسي كان باهراً ومباغتاً ومربكاً لجميع الأطراف ولجميع المراقبين. ظهر وكأنه شيء من السحر.

فبغض النظر عن صحة أو خطأ التحليلات الكثيرة التي حاولت تفسير الحالة، فإن أهم الدلالات التي أظهرها الحدث أن أهالي العديد من المناطق العراقية والسورية باتوا جاهزين للقبول بحكم مجموعات مثل «داعش»، نتيجة سياسات السلطات المحلية وسياسات المجتمع الدولي. ولم تعد «داعش» وغيرها من المجموعات الأصولية المتطرفة تشكل جسماً غريباً ودخيلاً على مجتمعاتنا. وما الرهان على هذا التصور من قبل السلطات المحلية في سورية والعراق إلا رهان فاشل. فسرعة وسهولة تقدم «داعش» في اجتياحها المناطق العراقية دليل على قبول وتبني الأهالي لها توهماً بأن يزيحوا عنهم الغبن الذي يطاولهم، بخاصة من ناحية التشكيك بانتمائهم الوطني، ما لم يظهروا الولاء للسلطات المركزية.

فحتى لو لم يتمكن «داعش» من الاحتفاظ بالمناطق العراقية التي سيطر عليها، أو تمكن من ذلك، فأغلب الظن أنه لن تطول الأيام حتى يحاول اجتياح مناطق في سورية أسوة بما فعله في العراق. والخشية أن يحقق انتصارات مفاجئة لمن يراهن على ممانعة أهلية في المناطق السورية، أو على مقدرة الجيش السوري من صد هجومه. فقطعات النخبة التي تتميز بولائها الكامل لبشار الأسد، والتي يعتمد عليها النظام السوري كلياً وحصرياً في صراعه مع المجموعات المسلحة المناوئة له، لم يسبق لها أن واجهت خلال السنتين الماضيتين مجموعات منظمة ومدربة ومسلحة مثل «داعش»، بل اقتصرت مواجهاتها على مجموعات مسلحة متفرقة لا تمتلك التدريب أو السلاح أو التنظيم أو العقيدة ك«داعش». ومع ذلك لم تتمكن من تحقيق انتصارات ذات أهمية على هذه المجموعات إلا في المناطق التي شاركها فيها مقاتلو «حزب الله» اللبناني (القصير مثلاً).

تنظيم «داعش» يقوم على عدم الاعتراف بالحدود بين العراق وسورية، ويعمل على أنها غير موجودة، فهدفه أساساً هو تحقيق دولة إسلامية واحدة في كلا البلدين. وهذا يعني بأن التنظيم واحد في كلا البلدين، وأن أهدافه وممارسته واحدة أيضاً في كليهما. ومع ذلك فإن المجتمع الدولي ينظر إلى «داعش» في العراق بطريقة مختلفة عن نظرته له في سورية. فروسيا ترى أن وجود «داعش» في العراق وقدرته على ما قام به من اجتياح ناجم عن سياسات السلطات العراقية وعدم اعتماد الحوار الوطني في البلاد. في حين تنظر إليه في سورية على أنه وافد من خارج البلاد مدعوم بتوجهات إقليمة ودولية للنيل من النظام السوري المستوفي الشروط الشرعية والوطنية والديموقراطية والسلمية. في حين أن الولايات المتحدة تعتبر أن تنامي نفوذ «داعش» في العراق يشكل خطراً على مصالحها الإقليمية، وتعتبره عدواً عنيفاً، وتعلن استعدادها لمساعدة السلطات العراقية عسكرياً في مواجهته. في حين أنها لا تنظر إليه في سوريا على هذه الصورة، ولا تراه يشكل خطراً على مصالحها الإقليمية.

النظام السوري من ناحيته لا يبدي أي انزعاج أو قلق من تنامي تنظيم «داعش» والتنظيمات المشابهة في سورية، ولا يستشعر أي خطر من ذلك لا على الوطن ولا على سلطته حتى. فعدم تقدير الأخطار صفة رئيسية في بنيانه وفي تفكيره. وبدل أن يتصدى للحيلولة دون وقوع الأخطار، بما فيها الجلية، يعمل على مفاقمتها وتسهيل وقوعها. لهذا لن نراه في الأيام القادمة يفعل أي شيء لمواجهة «داعش»، بل على العكس تماماً، سيعمل كل ما من شأنه أن يعزز انتشار «داعش» في المناطق السورية. فسيستمر مثلاً في قصف المناطق المأهولة، موقعاً المئات من الضحايا المدنيين، حتى يزيد من استعداد الأهالي للترحيب ب«داعش» أو بسواه أملاً بالخلاص من الموت جراء البراميل المتفجرة.

النظام السوري يعتبر أن «داعش» يشكل خطراً على المصالح الغربية، والأميركية تحديداً، لهذا يأمل بأن يستفيد من تنامي «داعش» بأن يحظى بشرعية دولية بوصفه أفضل من «داعش» وأمثاله، وأن يتم التعاون معه للتصدي لـ «داعش» والمجموعات المتطرفة.

لكن الولايات المتحدة وروسيا والدول المعنية بالوضع السوري لا ترى أن تنامي مجموعات إرهابية في سورية يشكل خطراً على مصالحها إطلاقاً. وكل ما يقلقها من وجود تنظيمات مثل «داعش» أنها خارجة عن السيطرة المباشرة للدول، وبالتالي هي تنظيمات مارقة لا يمكن تحميلها هي أو أطرافاً من المفترض أن تكون راعية لها مسؤولية أعمالها. لهذا لن نراها تفعل أي شيء جدي للحد من هذا التنامي، بل جل ما تفعله محاولة اختراق هذه التنظيمات بطريقة استخباراتية لا أكثر. ولهذا سنجد هذه الأطراف الدولية، وبحجة العمل على الحد من التنامي الإرهابي، تدفع إلى تأجيج النزاع المسلح في البلاد من خلال دعم الطرف المرتبط بها. فسنجد أن واشنطن ستنحو أكثر باتجاه دعم وتمويل مجموعات مقاتلة ترتبط بها ارتباطاً عضوياً، وفي المقابل ستزيد موسكو من دعمها للنظام السوري في تفرده بالسلطة واستمراره بنهج العنف والقمع.

والآن، حتى لو تمكنت القوات العراقية من الانتصار على مقاتلي «داعش» وإخراجهم من المدن الرئيسية فهذا لن يكون كفيلاً إطلاقاً بإخراج الأمل ال«داعش»ي من أذهان فئات واسعة من السوريين الذين ما عادوا يشعرون بحاجتهم إلى دولة مركزية لا تفعل لهم شيئاً سوى تقديم الخدمات مقابل القبول بقمع واضطهاد بشريين دنيويين، بل يرون أنه تكفيهم إمارات تقدم لهم الخدمات مقابل قمع واضطهاد إلهيين يمكن أن يكونا ثواباً في الآخرة.

* رئيس تيار بناء الدولة السورية

الحياة

 

 

 

 

الفشل رئيساً/ عمر قدور

من المؤكد، حتى الآن، أن ما حدث من اجتياح لمناطق الأغلبية السنية في العراق جاء هدية من السماء لرئيس الوزراء نوري المالكي. إيران لم تتأخر في إرسال المقاتلين لمساعدته، والمرجعية الروحية متمثلة بالسيستاني سارعت إلى إعلان الجهاد، ومنافسو المالكي من الكتل الشيعية الأخرى تناسوا خلافاتهم معه واتجهوا لرص الصفوف ضد العدو “الخارجي”، حتى أن عمار الحكيم ظهر وهو يلبس البزة العسكرية وكأنه يسترجع إرث ميليشيات “بدر”. بدوره الزعيم الشيعي مقتدى الصدر يبدو أنه تخلى عن انتقاداته الحازمة للمالكي دعماً للاصطفاف الشيعي المدعوم إيرانياً، وحتى غربياً.

ذلك لا يعني بالضرورة أن ما حصل هو تنفيذ لأجندات إيرانية. وإذا كان تنظيم “داعش” يثير شبهات عديدة حول علاقاته الاستخباراتية فالقوى الأخرى المشاركة معه في القتال تُعرف بعدائها الشديد للنفوذ الإيراني، بل ربما لا يوحّدها شيء بقدر العداء المشترك لإيران ورجلها “المالكي”. يجوز في المقابل القول بأن التركيز على داعش يحقق مصلحة إيرانية أميركية في الدرجة الأولى، لأنه يصرف النظر عن سنوات من النفوذ الإيراني الذي همّش سنّة العراق، ولأنه أيضاً يصرف النظر عن فشل الإدارة الأمريكية التي وجدت في تسليم العراق إلى إيران أسهل سبيل للخروج منه.

قبل اجتياح محافظة نينوى، وصولاً إلى مشارف سامراء، كان المالكي يعاني أزمة سياسية حادة على الرغم من تقدم كتلته في الانتخابات البرلمانية، ولم يكن متوقعاً أن يشكل الحكومة الجديدة بيسر أو في وقت قريب بسبب فشله خلال ولايتين سابقتين. لكن الراعي الإيراني لم يقدّم أدنى إشارة تنبئ عن نيته الإقدام على مساومة كبرى في العراق، تتضمن تنحية المالكي وتقاسم السلطة بين مختلف المكونات العراقية، تماماً مثلما رفضت إيران الدخول في صفقة مشابهة في سوريا. الرئيس الإيراني “المعتدل” روحاني ظهر مصراً على التصلب إذ صرّح بإمكانية التعاون مع أميركا في مواجهة “الجماعات الإرهابية” في العراق، مشترطاً ضمناً أن يشمل التنسيق سوريا، متجاهلاً في الوقت نفسه دعوة الإدارة الأميركية إلى اتفاق السياسيين العراقيين فيما بينهم كشرط لإرسال الدعم؛ أي أن نظام الملالي مصرّ على نهجه في “الاستكبار” الذي أوصل سوريا والعراق إلى ما وصلتا إليه.

إذا استثنينا ما يُقال عن حقد إيراني طائفي يُشبع بتدمير هذين البلدين، وإذا أخذنا بالحسبان ما يُشاع عن حنكة ودهاء تتمتع بهما الدبلوماسية الإيرانية، سيكون من المستغرب حقاً إصرار القيادة الإيرانية على التمسك بممثليها الفاشلين. فالمالكي أثبت فشلاً منقطع النظير، وإذا لم يكن أداؤه السياسي مصدر استياء في إيران فإن أداءه الأمني أثبت فشلاً ذريعاً، أقله بانسحاب قواته الدراماتيكي من الموصل. وما مسارعة قاسم سليماني بالذهاب إلى بغداد مع إرسال حوالى ألفي مقاتل من الحرس الثوري الإيراني سوى دليل على عدم الثقة بقدرة المالكي على المواجهة بجيشه وبإستراتيجيته الخاصتين.

في سوريا أيضاً، تبرّع عدة قادة إيرانيين بالتأكيد على فشل النظام، وعلى إنقاذهم إياه من السقوط، مع أن أغلب التأكيدات تشير إلى تدفق المساعدات الإيرانية إليه منذ بدء الثورة. خلال حوالى ثلاث سنوات من القتال لم يثبت النظام قدرة على إدارة الدعم الكبير المقدم له، الأمر الذي حدا بالحليف الإيراني إلى قيادة العديد من المعارك المهمة في سوريا مباشرة. لكن ذلك كله عزز التصلب الإيراني في شأن تنحية رأس النظام والوصول إلى تسوية مقبولة دولياً وإقليمياً لا تقصي الإيرانيين، بل تضمن مشاركتهم في صياغة البديل وإقراراً دولياً واضحاً بنفوذهم.

على الضدّ من منطق المحاسبة والمراجعة السياسية، يُرجّح أن يزداد الدعم الإيراني للمالكي، مثلما ازداد لنظيره السوري، الأمر لا يتعلق بتحدٍّ يخوضه النظام الإيراني هنا وهناك، ويدفعه إلى عدم التنازل خشية تأويله ضعفاً وانهزاماً. السياق العام لوكلاء القوى الخارجية يقتضي غالباً أن يكون الممثل المحلي ضعيفاً وفاشلاً، وألا يمتلك من القوة ما يؤهّله للعب دور خاص به، وكلما أصبح الوكيل خارجياً أكثر عن بيئته المحلية أضحى أكثر ارتهاناً لإرادة حلفائه. هكذا كانت أنظمة المنطقة، طوال العقود الماضية، تنال مباركة الخارج وتمعن في قمع شعوبها كأنها قوة احتلال لا تمتّ إليها بصلة.

السياسي أو العسكري الذي ينجح في إثبات ضعفه وفشله هو المرشح الأوفر حظاً ليكون رئيساً. لندع جانباً تلك السردية القديمة عن الملايين التي خرجت رفضاً لاستقالة عبدالناصر بعد هزيمته في حرب 1967 لأن غاية تلك السردية تحميل الشعوب المسؤولية المطلقة عن حكامها، مع أن المصريين لم يأتوا بعبد الناصر إلى سدّة الحكم بانتخابات ديمقراطية. استتباعاً لما حصل في مصر، كان من المنطقي أن يأتي وزير الدفاع الذي أعلن سقوط القنيطرة قبل وصول الإسرائيليين إلى مشارفها ليتسلم الرئاسة في سوريا بانقلاب عسكري. سيكون من المنطقي أيضاً أن يبقى من تسبب في تقسيم السودان في سدة الرئاسة، وأن تتوقف الضغوط الدولية عليه بعد موافقته على التقسيم.

بالطبع لم يهبط أولئك الرؤساء من مكان آخر، أو بمحض مؤامرة خارجية، لكنهم جميعاً لم يأتوا بإرادة وتمثيل شعبي أيضاً، وفي غياب القوى الداخلية الفاعلة يصبح وجودهم مرهوناً للمصالح والتجاذبات الخارجية فحسب. في المقابل، ليست مصادفة أن يتفق الخارج على وأد الداخل عندما يطالب بالتغيير، وأن ينحاز إلى القيادات الفاشلة ويعدّها ممثلة لمجتمعاتها، في إصرار على القول بأنها مجتمعات فاشلة أساساً، وبأن الفشل وحده يصلح ليكون عليها رئيساً.

المدن

 

 

 

بغداد و«داعش»: خيارات المواجهة والدور السوري/ محمد صالح الفتيح

رغم أن العراق دولة كبيرة الحجم وعظيمة الموارد، مع سكان يبلغون 36 مليوناً وناتج قومي يصل إلى 250 مليار دولار سنوياً، إلا أن القدرات العسكرية والأمنية للحكومة العراقية اليوم، بعد 11 عاماً على حل الجيش العراقي السابق والأجهزة الأمنية وإعادة تشكيلهما، ما زالت محدودة وغير قادرة على مواجهة التحديات المتصاعدة التي ظهر أبرزها أخيراً في سيطرة الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» على مدينة الموصل، ثاني حواضر العراق ومركز محافظة نينوى التي تهاوت في اليوم نفسه على أيدي التنظيم المتطرف.

ما يزال غامضاً كيف كتب لداعش مثل هذا الانتصار السهل؛ وفي ظل غياب التفسير المنطقي لهذا الانتصار لا يمكن تقديم توقع منطقي دقيق للأحداث المقبلة. تحديداً، إذا كانت داعش فعلاً قادرة على الاستيلاء على محافظة نينوى وهي تنوي فعلاً التوجه شرقاً نحو محافظة صلاح الدين شمال بغداد فلماذا تقوم بسحب الآليات التي استولت عليها باتجاه الغرب عبر الحدود السورية؟ هل كان الانتصار في نينوى مجرد ضربة حظ تستبعد داعش إمكانية تكرارها، وربما تتحسب للخروج من نينوى، فقررت لذلك التصرف بشكل براغماتي من خلال التهديد بالتقدم بحيث تكون هذه التهديدات مظلة مناسبة لها لكي تسحب بأمان العتاد والغنائم التي استولت عليها من نينوى. يقال إن بين هذه الغنائم عدد من المروحيات والصواريخ والمركبات المدرعة جرى الاستيلاء عليها في القواعد العسكرية إضافة إلى حوالى 450 مليون دولار كانت في أحد مصارف نينوى.

بقيت المعارضة

تعوّل على خطاب «الثورة» الذي أفلس عملياً

غموض خطوة داعش المقبلة تجعل من الصعب على الحكومة العراقية التحرك لمواجهة داعش: فالتحرك الدفاعي لصد هجوم داعش في مدن بيجي وتكريت وسامراء في محافظة صلاح الدين يختلف عن التحرك الهجومي لاستعادة نينوى. والأكيد، على أي حال، أن الجيش العراقي ما زال يفتقر للقدرات اللازمة لمواجهة داعش والفصائل الأخرى التي قد تنشط مستغلة حالة الفراغ الناشئة، مثل بقايا البعثيين الذين يقال إنهم انتشروا أيضاً في الموصل، أو البشمركة الذين يقال إنهم طردوا الجيش العراقي من مقاره في مدينة كركوك، في محافظة التأميم، التي كانت دوماً موضع خلاف بين بغداد وأربيل. فالجيش العراقي اليوم، ورغم ميزانيته الكبيرة البالغة نحو 18 مليار دولار وبأفراده الذين يناهزون نحو 300 ألف، ما زال يفتقر للعتاد البري والجوي المناسب إذ يوجد اليوم حوالى 350 دبابة فقط، وبضع طائرات مروحية مقاتلة لا يزيد عددها على عدد أصابع اليد الواحدة، وطائرة وحيدة من طراز إف-16 وصلت منذ حوالى أسبوع واحد فقط، ولن يصل عدد هذه الطائرات إلى خمس إلا مع نهاية هذا العام. إن ضعف إمكانيات الجيش العراقي، من ناحية العتاد، مع الغموض المهيمن على ما يحصل في محافظات نينوى وصلاح الدين والتأميم، يقود إلى استنتاج شبه أكيد مفاده أن الحكومة العراقية بحاجة للاستعانة بقوة عسكرية خارجية، وعلى وجه الخصوص بقوة جوية خارجية. فغياب التغطية الجوية التي تؤمن سماء المعركة وتؤمن استهداف أرتال داعش كانت هي السبب الرئيسي في انسحاب القوات العراقية التي وجدت نفسها وحيدة فجأة في وجه داعش. والحكومة العراقية كانت قد طلبت، على لسان المالكي، بشكل غير مباشر، المساعدة من الدول الصديقة للتصدي لداعش. وهناك أربع قوى على وجه التحديد قادرة على تقديم مثل هذه المساندة العسكرية وهي: الولايات المتحدة وتركيا وإيران وسوريا.

أولاً، إن الولايات المتحدة ما تزال مرتبطة باتفاقية أمنية مع الحكومة العراقية وهي تملك قوات جوية قريبة جداً في القواعد التركية في أنجيرلك وغيرها، إضافة إلى قواتها في قاعدة السيلية في قطر. ولكن إذا ما وضعنا جانباً تعقيدات النقاش حول إمكانية أن تستعين بغداد بالقوات الأميركية وما يمكن أن يثيره هذا من عواصف سياسية، وقررنا أن نركز حصراً في الناحية العسكرية، فإن هذه الناحية لها أيضاً تعقيداتها المركبة. فالخصم الذي يجب استهدافه اليوم، بالدرجة الأولى، هو داعش الذي تمتد مناطق نفوذه بين نينوى والأنبار العراقية وصولاً إلى دير الزور والرقة السورية. كيف يمكن استهداف مثل هذا التنظيم من دون أن تدخل الطائرات الأميركية – سواء المأهولة أو غير المأهولة – المجال الجوي السوري؟ خصوصاً أن داعش، بحسب آخر الأخبار الإعلامية، قامت بإزالة السواتر الرملية في أكثر من موقع على الحدود بين نينوى والحسكة وأن القوات العراقية، أو بعضها على الأقل، قد انسحبت من الحدود مع سوريا عند القائم. من المستبعد أن تثق سوريا بمثل هذه الخطوة الأميركية حتى إن تمت ضمن إطار قرار من مجلس الأمن، فالسابقة الليبية ما تزال حاضرة في أذهان الروس قبل السوريين. إضافة إلى أن الولايات المتحدة نفسها لم تظهر حماساً ملموساً للتحرك لمساعدة بغداد ولا يعلم إن كان السبب هو أن واشنطن ليست متحمسة لانتشال المالكي، الذي لم يبدي حرصاً على حماية المصالح الأميركية، أو أن واشنطن لا تريد فعلاً إضعاف داعش لكي لا تساعد، ولو بشكل غير مباشر، الحكومة السورية، أو أن واشنطن، كما عرفناها، ما تزال تنتظر ثمناً ما لكي تتحرك.

ثانياً، أما تركيا فقد أظهرت حالة من التأهب عقب الأنباء عن اختطاف قنصلها في الموصل، ومعه ما يصل إلى حوالى 70 من المواطنين الأتراك، على يد داعش، وطالبت الناتو بالانعقاد لتدارس الوضع في العراق. التدخل التركي إن حصل في العراق فسيكون عنوانه وسقفه إنقاذ الرهائن الأتراك، وهذه مهمة تحتاج إلى عملية للقوات الخاصة التركية على الأرض، ومثل هذه المهمة صعبة الآن في ظل الغموض الميداني السائد. أما التدخل التركي الجوي، من خلال ضرب مواقع داعش، فهو مستبعد لأنه يعني المخاطرة بحياة المختطفين الأتراك. والأغلب أن تركيا ستلجأ إلى المخابرات وقنوات التفاوض مع داعش لضمان إطلاق سراح المختطفين على نحو شبيه بما فعلته لإطلاق سراح الطيارين التركيين المحتجزين في لبنان. وفي كل الأحوال، لا يبدو أن التحرك التركي، إن حصل، سيصل إلى حد المشاركة في عملية سقفها استعادة نينوى وحماية بغداد.

ثالثاً، لا يخفى على أحد أن إيران هي الحليف الأقوى لحكومة المالكي وهي تنظر بقلق إلى عمليات داعش الأخيرة الساعية إلى التقدم باتجاه بغداد وباتجاه سامراء. هذه الأخيرة تعرضت الأسبوع الماضي لحملة من داعش كانت تسعى لاحتلال مرقد الإمامين العسكريين، وتعتبر إيران هذه العمليات محاولة من بعض القوى الإقليمية لاحتواء النفوذ الإيراني في العراق من خلال إغراقه بالحرب الأهلية السنية ـ الشيعية. ولكن خيارات إيران لإنقاذ المالكي، عسكرياً، محدودة وصعبة بالنسبة لإيران ومكلفة سياسياً بالنسبة للمالكي، الذي ما فتئ يحاول خلال السنوات الماضية أن ينفي التهم الموجهة له بأن أداة إيران في العراق وأن فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني وغيرها تعمل في العراق بغطاء منه. فكثير من العراقيين مازالوا يعتبرون إيران خصماً لهم ولم ينسوا الحرب المريرة التي دارت معها في الثمانينيات. ودخول سلاح الجو الإيراني بشكل مباشر إلى ساحة المعركة قد يثير الكثير من تلك الحساسيات القديمة. وهذا التدخل إن نجح في هزيمة داعش على المستوى التكتيكي القصير الأمد فهو سيقدم لها، ولباقي التنظيمات السنية المتطرفة، خدمة استراتيجية على المدى البعيد. الاستعانة بإيران، عسكرياً، قد تنجح في توفير التغطية الجوية التي يحتاجها الجيش العراقي ولكنها قد تعني القضاء على آمال المالكي السياسية في البقاء على رأس الحكومة في بغداد.

رابعاً، سوريا هي شريك العراق في مصابه وفي صراعه مع داعش التي تسعى لاقتطاع أراضي من سوريا والعراق لإقامة دولتها المنشودة، والتي أصبح اسمها يذكر اليوم متبوعاً بعبارة «باقية وتتمدد»، ولذلك فإن سوريا، من بين القوى الأربع المذكورة، هي صاحبة المصلحة الأولى في كبح تقدم داعش، الآن، واحتوائها والقضاء عليها، لاحقاً. فالتدخل بالعراق اليوم هو مصلحة سوريا. ورغم أن الجيش السوري منشغل، إلى حد كبير، بالحرب الجارية على الأرض السورية، إلا أنه قادر على تقديم المساعدة الجوية، أو الصاروخية، اللازمة للقوات العراقية البرية لكي تباشر عملياتها ضد داعش. والتدخل في العراق يخدم المصالح السورية التكتيكية والاستراتيجية على حد سواء. فهذا التدخل سيظهر أن الجيش السوري، وبعكس ما يروّج إعلامياً، ما زال قوياً ومتماسكاً وقادراً على العمل حتى خارج الحدود السورية. ومثل هذه المشاركة ستظهر أن سوريا ما تزال قادرة على لعب دور إقليمي فاعل وقادرة على تحقيق التوازنات التي يعجز الغير عنها. والتصدي لداعش في العراق يعني تأكيد أن الجيش السوري إنما يواجه الإرهاب، على أرضه وفي العراق، وأن هذا الإرهاب قد أصبح يشكل خطراً تعجز الدول التي ساندته عن احتوائه. وبالطبع إن التصدي لداعش في العراق يعني إضعافها في سوريا وفي هذا مصلحة استراتيجية لسوريا. وأخيراً، ولو كان هذا موضوعاً ثانوياً للغاية، ستثبت مشاركة الجيش السوري بالتصدي لداعش داخل الأراضي العراقية أن هذا التنظيم ليس من صنيعة النظام السوري، طبعاً في حال كان هناك من يعتقد بهذا.

في الختام، لا بد من التأكيد أن المذكور أعلاه لا يعتمد على تسريبات أو مصادر خاصة بل هو مجرد تحليل للوضع الراهن في العراق ولموازين القوى ولخيارات الحكومة العراقية. خيارات الحكومة العراقية بالاستعانة بالخارج ستكون مكلفة لها ولكن الخيارين الأقل كلفة بين الخيارات الأربعة السابقة هما خيارا الاستعانة بالولايات المتحدة والاستعانة بسوريا. هما خياران متناقضان تماماً، ولكن أليست هذه هي طبيعة عالمنا اليوم؟

* كاتب سوري

الأخبار

 

 

 

إرهاب “داعش”: الجذور لا السطوح/ صبحي حديدي

في وسع المرء أن يعدّ، فلا يستنفد مهما أحصى، سلسلة الجرائم التي ارتكبتها “داعش” في العراق، أوّلاً، ثمّ في سوريا بعدئذ، وأن يسرد مجلدات في جرائم هذه المنظمة الإرهابية، وفظائعها ومباذلها، وأن يختار من سجلّها الحافل أية واقعة شنيعة، مهما خفّت بشاعتها، لكي يستخلص أنّ “داعش” ليست من الإسلام في شيء، وأنها ـ على نقيض تامّ ممّا تعلن ـ ظهيرة الطغاة وأنظمة الاستبداد والفساد.

ليس هذا هو المطلوب الملحّ، مع ذلك، على أهمية ممارسته دائماً، ودون كلل أو ملل. ما يطلب على نحو أهمّ، وأشدّ إلحاحاً، هو التيقّظ على العوامل المختلفة، السياسية والاجتماعية والثقافية، التي أتاحت صعود “داعش”، وتتيح وضعها في القلب من معظم سيناريوهات التخريب والتفكيك والتقسيم، فضلاً عن التجهيل والاستغلال والتحريف، التي يتعرّض لها الاجتماع الوطني في كلّ من العراق وسوريا على حدّ سواء. وبعض أنجع الوسائل في سبيل صدّ هذه المنظمة الإرهابية الظلامية، وردّ جرائمها إلى نحور قادتها ومنظّريها، وكذلك إلى سادتها ومحرّكيها ممّن يتقنعون خلف أستار شتى، هي تلك التي تضرب عميقاً نحو الجذور، ولا تكتفي بخدش السطوح وحدها.

خذوا، على سبيل المثال، دور رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، في تأمين حاضنة السخط الشعبي التي تتعذى عليها “داعش”، وتحسن استغلالها حين تحرف مضامينها، أو حين تتستر خلفها لكي تخترق صفوفها، بل وتنجح أحياناً في تصدّرها. فبدل الالتفات إلى مشاكل العراق الداخلية المتزايدة، وعلى رأسها توتر علاقات الحكومة مع شرائح شعبية عريضة، ليس مع الشارع السنّي في طول العراق وعرضه، وكذلك مع الأكراد، فحسب؛ بل، كذلك، مع فئات واسعة من الشيعة، جماعة مقتدى الصدر أوّلاً، ثمّ السيستاني، وشرائح التكنوقراط والليبراليين، يلجأ المالكي إلى مزيد من سياسات التمييز، واتهام الشارع الشعبي الساخط بالاتهامات ذاتها التي سبق أن ساقها أمثال معمر القذافي وبشار الأسد.

وبدل تكريس جهود الحكومة لخدمة المواطن العراقي، وتوظيف قسط من عائدات النفط لتحسين مستواه المعيشي، يقوم المالكي بترحيل مشكلات العراق الداخلية إلى الخارج، وتحديداً إلى سوريا، فيسمح للطائرات الإيرانية بعبور أجواء العراق، ونقل العتاد الثقيل إلى جيش النظام السوري. أكثر من هذا، رأيناه يركن إلى تنظير فلسفي وسوسيولوجي (نعم!) حول سوريا: “الحقيقة أنهم منحوا العلويين شجاعة اليأس، ولذلك هم يقاتلون بنسائهم وبرجالهم من أجل البقاء”، وأيضاً: “الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد ستحارب إلى جانب الأقليات الأخرى ضدّ المقاتلين، ومن بينهم متشددون إسلاميون سنّة”!

يتناسى المالكي، إذْ يصعب أن يكون قد نسي، كيف دخلت “القاعدة” إلى العراق عن طريق أجهزة النظام السوري، بادىء ذي بدء، وأنّ “داعش” هي الجنين الذي تخلّق عبر تلك الترتيبات التي ساهمت فيها الأجهزة الأمنية الإيرانية أيضاً. ويريدنا أن ننسى ذلك الزمن، غير البعيد البتة، الذي شهد اتهامه للنظام السوري بالوقوف خلف الأعمال “الإرهابية” في العراق، ومطالبة الأمم المتحدة بتشكيل محكمة، أو على الأقلّ لجنة تحقيق دولية، لمحاسبة منفّذي التفجيرات الذين أرسلهم “البعثيون” و”التكفيريون” جماعة النظام السوري… حسب تعبيراته الشخصية دائماً!

وهل الحال الراهنة ـ حيث “أشباح الحرب الأهلية”، و”كوابيس اقتتال السنّة والشيعة”، و”انقلاب العراق إلى مرتع للإسلاميين المتشددين” من كلّ حدب وصوب، واستفحال صنوف “الإرهاب” وما يقابله من “إرهاب مضادّ”… كما قالت، وتقول تنميطات “خبراء” الشأن العراقي، في الغرب عموماً، وأمريكا بصفة خاصة ـ مرّدها تحوّل “داعش”، في غفلة من الزمن، إلى قوّة خارقة تلحق بالجيش العراقي، الذي درّبته أمريكا وسلّحته، أفدح الخسائر؟ أم أنّ المسؤولية تقع، أيضاً، وربما في المقام الأول، على عاتق حكومة المالكي، لأنّ الأخير مرتهن لمعادلات حزبية وبرلمانية ومذهبية ضيقة ولاوطنية، داخلية وخارجية؟ أم هي، كذلك، بالتكافل والتضامن، ثقافة النهب والفساد والإفساد، التي دشّنها الاحتلال العراقي، قبل أن يتولى متابعتها أتباع الاحتلال من ساسة العراق؟

ثمة، في كلّ حال، معيار حاسم يطبع أية إجابة على هذه الأسئلة، ولعله يصنع الفارق الجوهري: إما أن يذهب المرء إلى جذور المشكلة، والإشكال، أو أن يكتفي بخدش السطح، و… تعداد قبائح “داعش”!

موقع 24

 

 

 

العراق بين الحل السياسي والتقسيم/ بشير البكر

لا تبدو الخيارات أمام العراق كثيرة، في هذه اللحظة التاريخية. فهو يقف عند مفترق طرق، فإما أن تغلّب كل الأطراف نداء العقل، وتتفق على حل سياسي راسخ، أو يستمر القتال الدائر حتى النهاية، وحينها سيصل الجميع إلى طريق مسدود، لن يجدوا في نهايته غير أشنع الخيارات وأمرّها، وهو التقسيم.

يبدو الطريق الأول صعباً، ولكنه سوف يقود البلد إلى مخرج توافقي، يناسب كل الأطراف، وهناك أكثر من شرط يجب توفرها من أجل تقريب هذا الخيار وجعله ممكناً. الشرط الأول هو الاعتراف بأن رئيس الوزراء الحالي المنتهية ولايته، نوري المالكي، هو الذي قاد البلد إلى هذا الوضع المزري، وأن الحراك العسكري الذي شهدته مناطق الغرب والشمال أسقط ورقة هذا المسؤول الفاشل، في صورة لا تقبل الجدل. وكان من الممكن الاعتراف بهذه الحقيقة من دون انتظار هبة مسلحة، وقد مثلت الانتخابات التشريعية الأخيرة وجهاً من وجوه هذه الحقيقة، حيث اتفقت الأطراف الرئيسية في المعسكر الشيعي (مقتدى الصدر وعمار الحكيم) مع أبرز الكتل السنية والأكراد على مسألة واحدة، هي عدم منح المالكي ولاية ثالثة. وكان الأكراد أكثر صراحة، عندما أعلنوا على لسان رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، أنهم سيذهبون إلى الانفصال، في حال أصر المالكي على البقاء، ولكن رئيس الوزراء وضع نفسه فوق الإجماع على رحيله، وقرر أن يظل مهما كان الثمن. واليوم، تبين أن الثمن كبير، يصل إلى حد انفجار العراق وتشظيه.

الشرط الثاني هو الاعتراف بأن الحراك المسلح أسقط مسألة التمييز الطائفي الذي قام عليه حكم العراق منذ الاحتلال الأميركي في سنة 2003. ومن دون أدنى شك، تشكل السياسة التي اتبعت تجاه مكون العراق السني سبباً رئيسياً في انحدار الوضع إلى ما هو عليه. ولسنا بحاجة للذهاب إلى سنة 2003، حين تم حل الجيش العراقي، بل يكفي استعادة شريط الأحداث التي شهدتها محافظات الأنبار والموصل وسامراء، منذ بداية سنة 2013، عندما خرج مئات الآلاف في تظاهرات واعتصاماتٍ، يطالبون حكومة المالكي بوقف سياسة التمييز، التي ذهبت إلى توليد أحقاد طائفية، ولم تراع أسس التعايش بين أبناء البلد الواحد.

الشرط الثالث، أن يتوافر موقف إقليمي دولي يضع حداً للأجندة الإيرانية في العراق. وهذه الأجندة ليست تهمة، بقدر ما هي واقع قام منذ سنة 2003، وأساسه تفاهم إيراني أميركي، آل، في نهاية المطاف، إلى تطويب المالكي راعياً لمصالح الطرفين.

على العموم، لا تبشر مجريات الأيام الأخيرة بأن الوضع في العراق سائر نحو الانفراج والحل السلمي، وتكفي عملية استعراض سريعة للموقفين الإيراني والأميركي، حتى يتقين المراقب من أن المرحلة المقبلة مرشحة لأن تكون حافلة بالانهيارات. فبدلاً من أن تتعظ طهران وواشنطن بدروس الفشل العراقي الذي تسببتا به طوال عشرة أعوام، فإنهما سلكتا خيار إسناد المالكي.

ومن مفارقاتٍ مثيرة للاستغراب أنه في موازاة إقدام إيران على رمي ثقلها العسكري إلى جانب المالكي، يتم الانفتاح عليها من طرف القوى الغربية المسؤولة عن المأساة العراقية منذ عام 1991، وتحديداً الولايات المتحدة التي تتحمل التبعات السياسية والأخلاقية عن تدمير العراق كبلد، وتبديد ثرواته، وهي التي جاءت بجيوشها الجرارة من أجل كذبة إقامة الديموقراطية، لكنها تركت الشعب العراقي في أتون حربٍ طائفية، وسلمت مقادير بلاده للأطماع الإيرانية.

واشنطن مطالبة، اليوم، بالكثير حيال العراق والعراقيين، فبدلاً من أن تنصر المالكي من جديد، عليها مراجعة سياساتها التي سببت الانهيار الحالي، وباتت تنذر بالتقسيم، خياراً لا مفر منه.

العربي الجديد

 

 

 

المشهد العراقي من أنقرة/  بكر صدقي

وقعت أخبار سيطرة مقاتلي «داعش» على الموصل وكامل محافظة نينوى على الرأي العام التركي وقوع الصاعقة. ازداد الأمر تعقيداً مع احتجاز مسلحين طاقم القنصلية التركية مع أُسرهم، إضافة إلى سائقي الشاحنات الأتراك. وبدت الحكومة التركية عاجزة أمام الحدث، تكتفي بتصريحات مطمئنة إلى سلامة الرهائن. هناك أيضاً مصير التركمان في تل عفر الذين تعتبر تركيا نفسها معنية بهم، بعدما وقعت المدينة في أيدي المسلحين، بخاصة أن سكان المدينة التركمان ينقسمون مذهبياً بين سنّة وشيعة، ما يعني خطراً جسيماً على الشيعة من جانب جهاديي «داعش».

انتقدت الصحافة المعارضة موقف الحكومة المشلول إزاء موضوع الرهائن، مقارنة بحشد خمسة وعشرين ألفاً من قوات الأمن لمنع تظاهرة معارضة في اسطنبول قبل أسابيع.

غير أن الأمر يتجاوز مجرد العجز المفهوم أمام جماعة مسلحة تحتجز رهائن، إلى نقد مجمل السياسة الخارجية التركية في سورية والعراق وكامل الجوار العربي. وفي العراق خصوصاً، طورت الحكومة التركية، على مدى سنوات علاقات وطيدة ونشطة مع كل المكونات الاجتماعية العراقية، بمن فيها الشيعة، وإن كانت علاقتها مع حكومة نوري المالكي مرضوضة منذ بعض الوقت، سواء بسبب ضخ النفط من اقليم كردستان إلى تركيا من دون موافقتها، أو بسبب احتضانها الزعيم السني طارق الهاشمي، النائب السابق لرئيس الجمهورية، بعد اتهام المالكي له بإدارة أعمال إرهابية.

لدى الرأي العام التركي قراءتان للأحداث الأخيرة في العراق، تركز إحداهما على أن «داعش» التي هي أحد تفريخات تنظيم «القاعدة»، هي التي تقود الحرب ضد حكومة المالكي، في حين تخفف الثانية من العامل الداعشي لمصلحة سردية المظلومية السنّية في عهد المالكي الذي همّش المكوّن السنّي وحارب حراكه الاحتجاجي السلمي بالعنف، تماماً كحليفه بشار الأسد.

مفهوم أن تتبنى المعارضة القراءة الأولى، والحكومة القراءة الثانية.

في كل الأحوال، تجد تركيا نفسها أمام الحدث العراقي وقد أمسك بها على حين غفلة، بعدما استثمرت في المشهد السياسي العراقي، منذ سقوط نظام صدام حسين، كثيراً من الجهود السياسية والاقتصادية والتجارية، وعقدت ما يشبه التحالف الاستراتيجي مع زعامة اقليم كردستان، وأرست علاقات قوية مع العشائر السنّية، لتجد نفسها اليوم أمام خطر ظهور أفغانستان طالبانية على حدودها الجنوبية الشرقية، وما ينطوي عليه ذلك من أخطار شديدة على أمنها القومي.

ومن المحتمل أن تندلع حرب فرعية بين «داعش» وحلفائه من المجموعات السنّية المسلحة من جهة، وبيشمركة إقليم كردستان من جهة أخرى، بسبب استيلاء القوات الكردية، بلا قتال، على مدينة كركوك المتنازع عليها. هذه الحرب المحتملة لن تترك لتركيا ترَفَ الوقوف جانباً مكتوفة الأيدي.

تضاف أحداث العراق الأخيرة إلى الحرب الدائرة في سورية منذ ثلاث سنوات، لتضع الحكومة التركية أمام تحديات تعتبر سابقة، وذلك في ظل وضعٍ داخلي مضطرب بسبب الاستقطاب الاجتماعي – السياسي الحاد بين أنصار الحكومة وخصومها الكثر، وقبيل أقل من شهرين على أول انتخاب لرئيس الجمهورية التركية مباشرةً من قبل الشعب. وإذا كانت الحرب في سورية دفنت سياسة وزير الخارجية أحمد داود أوغلو الموصوفة بـ «صفر مشاكل مع دول الجوار»، فحرب «داعش» وحلفائها ضد حكومة المالكي تنذر بإعادة النظر في خرائط سايكس بيكو، كما جاء في بيان للمنظمة الإرهابية بعد استيلائها على معبر القائم الحدودي الذي يربط العراق بسورية. وانتشرت في الصحافة التركية خريطة لـ «الدولة الإسلامية» المفترضة بقيادة «داعش» تشمل مساحة واسعة وموصولة من العراق وسورية، بما في ذلك لواء الإسكندرون الذي قدمه الفرنسيون لتركيا عام 1938، وأجزاء من منطقة كيليكيا.

الواقع أن استراتيجية «داعش» تتطابق مع هذه المخاوف التركية. ففي سورية لم يقاتل التنظيم قوات النظام، بل اكتفى بالاستيلاء على المناطق المحررة بجهود فصائل «الجيش السوري الحر» حيث عمل التنظيم من فورها لإقامة نظامه المتشدد وفرض قيمه الطالبانية. أما في العراق، فمن الطبيعي أن تكون الخطوة الأولى طرد جيش المالكي من المناطق السنّية تمهيداً لإقامة دولة الخلافة. بكلمات أخرى: «داعش» ليس معنياً بإسقاط نظامي بشار والمالكي، لأن الإطار الجغرافي – المذهبي الذي ينشط فيه لا يتطابق مع الكيانين الوطنيين القائمين في سورية والعراق، بل يخترق حدود البلدين ويشمل قسماً من كل منهما، والمناطق ذات الكثافة السكانية السنّية على طرفي الحدود. ولعل ما يفسر بعض مفارقات استراتيجية داعش في سورية وارتباكه، إنما هو التداخل الديموغرافي المعقّد الذي لا نرى مثيلاً له في العراق.

إن احتمال قيام دولة الخلافة على أجزاء من أراضي العراق والشام، يحمل معه تقسيم البلدين إلى كيانات جزئية متناحرة، وليس ثمة أي ضمانة تحول دون امتداد تقسيم الأمر الواقع هذا إلى لبنان وربما تركيا.

ظهرت أخيراً كتابات معادية للسنّة على جدران حي «أوك ميداني» العلوي في اسطنبول، قابلتها شعارات معادية للعلويين في أحياء سنّية مجاورة، وقتل شاب علوي بالرصاص أمام دار عبادة علوي في ذاك الحي. وهذا إذا لم نذكر التوتر الدائم في مدينة أنطاكيا بين سكانها العلويين واللاجئين السوريين.

رجب طيب أردوغان المنغمس في صراعات سياسية داخلية على أكثر من جبهة، والطامح إلى تتويج حياته السياسية في قصر تشانكايا الرئاسي، يجد نفسه مباغَتاً مكتوف اليدين أمام الأخطار الكبرى الآتية من الجنوب.

الحياة

 

 

 

ماذا وراء الصمت التركي عن أحداث العراق؟/ خورشيد دلي

صدمة الاعتقال

حسابات تركيا

إستراتيجية الحرص

ثمة أسئلة كثيرة عن حقيقة الموقف التركي مما جرى في العراق، ولعل ما زاد من حساسية هذه الأسئلة هو أن هذا الموقف اتسم بصمت نسبي خلافا للنبرة الدبلوماسية التركية التي اعتادت ومنذ ثورات الربيع العربي على رفع الصوت عاليا حتى لو تسبب ذلك بانتقادات ومشكلات لها.

فهل السبب هو الحرص على إتمام عملية الإفراج عن المعتقلين الأتراك في الموصل؟ أم إن ما جرى يتجاوز في تداعياته المشهد العراقي إلى المنظومة السياسية للشرق الأوسط والتي ترى تركيا أنها في قلب قيادة من يرسم مسارها المستقبلي على وقع التطورات الدراماتيكية الجارية؟ أسئلة ربما لن تتضح الإجابة عنها إلا بعد جلاء طبيعة المشهد السياسي المقبل في بغداد.

صدمة الاعتقال

شكل اقتحام عناصر داعش (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام) القنصلية التركية في الموصل واعتقال القنصل التركي أوزتورك يلماز ومعه 49 موظفا، وثلاثون سائق شاحنة تركية صدمة للرأي العام التركي، وأثار في الوقت نفسه انتقادات داخلية واسعة لوزير الخارجية أحمد داود أوغلو.

ومعيار الصدمة هنا له علاقة بسياسة الحكومة التركية التي بدت وكأنها لا تعرف تنظيم داعش، والقناعة بأنه كان ينبغي إجلاء القنصلية من الموظفين قبل اقتحامها، كما أن طريقة التعامل بعد الاعتقال أوحت بأن الدبلوماسية التركية مرتبكة تعاني من التخبط -وفي العمق- الخوف من تداعيات الإقدام على خطوة عملية للإفراج عن المعتقلين.

فالمسألة هنا تتعلق بكيفية التصرف مع تنظيم قوي، باتت له دولة تمتد من منبح بالقرب من حلب على الحدود السورية التركية إلى مشارف بغداد الحيوية جدا لأمن الخليج وإيران معا.

في جميع الأحوال، للقيادة التركية حساباتها الدقيقة في كيفية الإفراج عن موظفيها ورعاياها، فهي ربما لا تريد أن تظهر بمظهر الدولة المتوترة والمنفعلة، وتؤمن بقدرة دبلوماسيتها وعلاقاتها على إنجاز مثل هذه المهمة، خاصة أن أي خطأ قد يكلفها الكثير عشية الانتخابات الرئاسية المقررة في 10 أغسطس/آب المقبل والتي ستكون معركة حاسمة بين حزب العدالة والتنمية وخصومه في الداخل، إذ إنها المرة الأولى التي سيتم فيها الاقتراع بشكل مباشر من قبل الشعب.

لكن في ضوء ما جرى، فإن السؤال هنا لا يتعلق بمصير المعتقلين الأتراك، بل بالسياسة التركية تجاه العراق، ولا سيما تجاه الموصل التي ترى تركيا تاريخيا أنها جزء من الأمن القومي التركي، حيث لا تزال اتفاقية عام 1926 بين تركيا وبريطانيا والعراق حاضرة في السياسة التركية، وهي اتفاقية وافقت عليها تركيا وقضت بإلحاق ولاية الموصل بالدولة العراقية الوليدة (ولاية الموصل تاريخيا تشمل المناطق الحالية إضافة إلى كركوك) على أساس شرطين.

الأول: الحفاظ على وحدة العراق، والثاني: عدم إقامة دولة كردية، وإلا فإن تركيا تستطيع إلغاء الاتفاقية واستعادة ولاية الموصل، مع أن ما جرى هو تاريخ إلا أن طبيعة الأحداث وتفجر الجغرافيا على شكل ردم لاتفاقية سايكس بيكو، وولادة دولة كردية على الأرض، كل ذلك يجعل من السياسة التركية تجاه العراق محملة باعتبارات الجغرافيا والأيديولوجيا والصراع الإقليمي والدولي.

حسابات تركيا

مقابل التوتر الكبير في علاقة تركيا بحكومة نوري المالكي لأسباب عديدة ثمة شراكة قوية تأسست بينها وإقليم كردستان لأسباب سياسية واقتصادية بعد أن كانت هذه العلاقة تخضع لجملة من اللاءات، لعل أهمها عدم السماح للأكراد بالسيطرة على كركوك التي تشكل قيمة تاريخية وقومية واقتصادية، نظرا لغزارتها بالنفط، حيث تقدر كمية النفط الاحتياطي في حقولها بأكثر من عشرة مليارات برميل وبقدرة إنتاجية 750 ألف برميل يوميا، ويعيش فيها الأكراد والعرب والتركمان والآشوريون، حيث رأت تركيا نفسها تاريخيا معنية بحقوق الأقلية التركمانية هناك.

اليوم وبعد معركة الموصل ثمة أمور حسمت، وثمة حسابات تركية أبعد من اللاءات السابقة، ولعل ما يدقق في ما جرى لا بدَّ أن يتوقف عند مسألتين:

الأولى: لقد أدت سيطرة داعش وباقي الفصائل المسلحة المنتفضة ضد سياسة المالكي إلى منح الأكراد فرصة السيطرة على مدينة كركوك التي كانت محط نزاع مع بغداد طوال العقود الماضية، ففور الهجوم وانسحاب القوات العراقية من كركوك سارعت قوات البشمركة الكردية إلى بسط سيطرتها على كامل المدينة، جاء ذلك بعد نحو ثماني سنوات من عجز القيادة العراقية عن تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي والتي نصت على (تطبيع الأوضاع وإجراء إحصاء سكاني واستفتاء في كركوك وأراضٍ أخرى متنازع عليها لتحديد ما يريده سكانها قبل 31 من ديسمبر/كانون الأول عام 2007).

ولعل التطورات تشي بأن السيناريو نفسه سيجري في مدينة تلعفر التي تسكنها أغلبية تركمانية من الطائفة الشيعية. والسؤال المثير والملح هنا هو: لماذا لم تتحدث تركيا بكلمة واحدة عن مصير كركوك بعد أن كانت ترفض علنا في السابق سيطرة الأكراد عليها؟ وكذلك الأمر بالنسبة لمصير الأقلية التركمانية في كركوك وتلعفر وخانقين وطوزخورماتو وغيرها من البلدات التي فيها وجود تركماني لطالما انبرت تركيا في السابق للدفاع عنها؟

هل هي قوة الدبلوماسية التي تنأى بنفسها عن التورط في مثل هذه القضايا، أم موافقة تركية ضمنية على ما جرى على أساس أنه لا بد منه لتغيير المعادلة السياسة في العراق والمنطقة؟

الثانية: حضور البعد الطائفي إلى سطح المشهد السياسي، إذ يرى كثيرون -من بينهم تركيا- أن داعش لم تكن سوى العنوان الإعلامي لما جرى في الموصل، فيما على أرض الواقع كانت هناك انتفاضة سنية ضد سياسة المالكي التي انتهجت سياسة الإقصاء والتهميش ضد هذه الطائفة في العراق، وأن الصراع الطائفي في المنطقة ليس بمعزل عن صراع الدول الإقليمية ولا سيما إيران وتركيا والسعودية حيث تحولت سوريا والعراق إلى ساحات للحروب بينها.

وعليه، ثمة من يرى أن الحسابات التركية تجاه ما جرى في الموصل تتجاوز خطر تنظيم داعش، وقضية المعتقلين الأتراك، وحتى مسألة تعزيز خيار إقامة الدولة الكردية إلى قضية ترتيب إقليمي جديد توجهان ضربة للثقل الإيراني في المنطقة من بوابة تغير المشهد السياسي في بغداد، ووضع نهاية للسياسة التي اتبعتها حكومة نوري المالكي وقطع الطريق أمام ولاية ثالثة له.

إستراتيجية الحرص

لطالما سعت تركيا إلى إسقاط النظام السوري وتغيّر المشهد السياسي في بغداد، وهي تدرك أن النار المشتعلة في جوارها السوري والعراقي قابلة للانتقال إليها مع تعاظم نفوذ داعش وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات المسلحة التابعة للقاعدة، وتدرك أيضا أنه بعد معركة الموصل باتت المنطقة أمام استحقاقات جديدة تتطلب أدوات جديدة للتعامل معها.

وعليه، فإن الحرص التركي يحمل طابع تحقيق الأهداف السابقة من خلال السير فوق النار، والنار هنا بالنسبة لتركيا تحمل مجموعة من العناوين، لعل أهمها: كيفية دعم مطالب العراقيين السنة دون الظهور بمظهر الداعم لداعش والإرهاب، وكيفية التعامل مع تطلع الأكراد إلى دولة مستقلة قد تغير خرائط الشرق الأوسط التي تركيا جزء منها في النهاية، وكيفية التحرك نحو الأهداف السابقة دون الصدام مع إيران أو انتقال النار إلى الداخل التركي.

لكن مقابل هذا الحرص تدرك تركيا أن “الستاتيكو” السائد في المنطقة لم يعد بالإمكان أن يتغير في ظل الاصطفاف الإقليمي والدولي الحاصل، وأن الغرب الذي رسخ من سياسة استنزاف الدول الإقليمية أكثر من هدف الانتقال إلى مرحلة جديدة لن يتحرك نحو الحلول ما لم تحصل تغيرات وتحديات حقيقية على الأرض.

وعليه، فإن إستراتيجية الحرص التركي هي سياسة بحد ذاتها، وهي تقوم على المساهمة في تحريك المشهد على الأرض حتى لو اختلطت الأوراق وقاربت الأمور لحظة الخطورة، ونسج تحالفات سياسية مع القوى المؤثرة والفاعلة حيث إقليم كردستان الذي تظهر سياساته وكأنها موائمة للسياسة التركية، فيما يبقى الهدف الأساسي هو امتلاك الأوراق الأساسية لتغيّر المشهد السياسي في العراق عبر جهود وصيغ للتوافق المحلي والإقليمي على هذا التغير.

بمعنى آخر، إن السياسة التركية ما بعد معركة الموصل تستنفر المكونات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والسياسية على شكل حرب دبلوماسية ناعمة لتحقيق هدفها المتمثل بوضع نهاية لسياسة المالكي والبحث عن صيغة توافقية للحكم.

الصمت التركي الرسمي ربما يفسر من قبل المعارضة التركية وخصوم أردوغان في الخارج بتورطه في دعم داعش وغيره من التنظيمات المسلحة لتحقيق أجندته، فيما يراهن هو على دبلوماسية تحمل قوة ناعمة، لها أدواتها وأولوياتها لتحقيق ما تصبو إليه.

الجزيرة نت

 

 

 

 

أزمة المنطقة، مقيمة وتتمدد/ غازي دحمان

كثيرة تلك المعطيات التي يمكن توظيفها في سياق تحليل الحدث العراقي، الحدث بالعموم كبير وصادم. وينطوي على عناصر متنافرة، تكشف خليطا من الوقائع والحقائق، التي لا يمكن لها الاندراج ضمن سياق واحد، وتحقيق تلك السوية من الانسجام والانسيابية. إذ كيف يمكن لعدد بسيط من المقاتلين تفكيك جيش يعتبر من أكثر جيوش المنطقة تحديثا، سواء لجهة بنيته التنظيمية أم لجهة أدواته القتالية وأساليبه الحديثة!

الإجابة على هذا التساؤل، تكشف مدى الرهانات المغلوطة التي بنتها بعض الأطراف على مضمار القوة وحده، بوصفه الأداة القادرة على حل الإشكاليات التي تواجهها مجتمعاتنا، والركون إليها تاليا، ليس بهدف تحقيق الأمن والاستقرار، كما تدعي تلك الأطراف، ولكن لضمان الغلبة وإدامة القهر، فالحلول هنا للمعضلات التي تواجه تلك الكيانات، تكمن بداية ونهاية في قدرتها على الإخضاع إلى حد الانمحاق، وجدواها في رفد فائض القوة لدى الطرف المقابل وتعظيمه ما أمكن.

ولعلّ ذلك ما يكشف سر الهالة في تمجيد الجيوش والتغني بها، وتعظيم السلاح إلى حد تقديسه، ورصد الموارد الكبيرة لاقتنائه، وصلت في العراق إلى حد إنفاق مليارات الدولارات، التي يقول المختصون في الشؤون الإنمائية، أن صرف جزء منها على احتياجات العراقيين ومعاشهم كان كافيا لتحقيق الرضاء الشعبي وتدعيم أسس الوطنية العراقية، وتصيير العراقيين، كل من موقعهم، حماة لمكاسبهم المشتركة، من دون الحاجة لسلاح يخبأ في المخازن؟

على ذلك، تصبح داعش، كظاهرة، طرفاً مكشوفا عنه الحجاب، هي عنوان فرعي لحدث كبير أو لسياق لا يمكن إلا أن ينتج غير هذه التشكيلات ، بل يمكن المجازفة بالقول أنه محكوم إنتاج تلك الأنماط ما دام التحدي المطروح من ذات الصنف، إضافة إلى انه لم يكن متوقعا من بيئات تقليدية قبلية إنتاج أشكال أخرى في بيئة صراعية مشدودة إلى منطق الغلبة، وطالما أن الخيارات محصورة بين حدين، الاستسلام الكامل أو الموت، من يتأمل في مسار الصراع السوري سيرى تلك الحقيقة بادية للعيان، فالصراع الذي أنتج موتا بلا مبررات، في السجون وبالبراميل لم يترك خيارات كثيرة، على مدار ثلاثة أعوام من الموت المستمر أصرت الجماعة الحاكمة على تثمير تلك الخيارات. لم تقدم حتى تنازلاً سياسياً واحداً، لم تبذل جهدا لحل جذور الأزمة. كل ما أقدمت عليه كان مزيدا من التمسك بموقفها ومزيدا من القهر والكسر للجماعة الأخرى.

ماذا ستنتج تلك الظروف إن لم تنتج داعشاً؟ دعونا نخرج من حالة المكابرة، ورغم كل الظروف المحيطة بصعود داعش ونموها وتشكلها، إلا أن فيها بعداً سنياً استجابياً، طرحه التحدي الشيعي المنفلت من كل عقال، والذي لا يرضى بغير الرضوخ المطلق للمكون السني، بعد استتباب السلطة له في دمشق وبغداد، ربما لا تنم تلك الاستجابة لداعش في أساسها عن تبني أيديولوجيتها الإرهابية المتشددة، بقدر ما هي ردة فعل على سياسات ألغت كل البدائل الأخرى. الواقع يقول إننا بتنا أمام بيئة صارت منتجا وضامنا لظهور أنماط مختلفة من التطرف، لم تعد الإشكالية في القضاء على جماعة أو طرف معين، المشكلة أعقد من ذلك بكثير، البحث عن الجذور، ثم التأسيس لعلاقات بعيدة عن منطق الغلبة والقهر، قد يكون ما حدث صدى لصرخات الاحتفال بالنصر في الضاحية وطهران ودمشق، ألم تقل إيران انتصرنا وصارت حدودنا عند صور؟ هل ثمة شك في أننا نعيش مرحلة التداعيات، وهي المرحلة الأخطر لمن يعرف بالحسابات السياسية.

ولعلّ ما يزيد من حدية إشكالية المسألة ورفع درجة تعقيدها، انهيار فكرة الدولة في سوريا والعراق، وظهورها كفكرة أداتية يجري توظيفها في عملية القهر ضد مكونات بعينها، هكذا كانت دولة العراق في عهد صدام حسين واستمرت في عهد نوري المالكي، وهكذا كانت الدولة السورية في عهد الأسدين المديد. ويتزاوج ذلك مع عدم توفر تراث وطني ومشتركات يمكن البناء عليها للخروج من الأزمة القاتلة، التي تترنح مجتمعات المشرق في مساربها الضيقة.

بعد ذلك لا يبدو منطقيا ولا منسجما مع الوقائع الحديث عن مؤامرات واستهداف وشبهة تقسيم وتفكيك، إذ لا يعدو مهما حينها كل تلك النتائج ما دام الواقع يفيض بما هو أسوأ، بل حين تصبح تلك السيناريوهات بمثابة بوابات فرج وخلاص من الواقع المأسوي، حين يتم إغلاق منافذ المستقبل والخلاص، الحقيقة الثابتة، إلى حين، أن شعوب المشرق كلها تعصف بها أزمة مقيمة وتنذر بالتمدد أكثر وأكثر، في ظل سيطرة منطق الغرائز وسلوك القطيع، مقابل حالة جدب كبيرة في الأفكار والرجال.

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى