سلام الكواكبيصفحات سوريةعلي العبداللهميشيل كيلو

مقالات لكتاب سوريين تناولت الموقف الروسي من الثورة السورية

أوكرانيا نهاية المغامرة الروسية/ علي العبدالله

مع نهاية الحرب الباردة (قمة مالطا بين الرئيسين بوش الأب وغورباتشوف، 1989) وانهيار الاتحاد السوفياتي (1991)، شهد العالم توجهاً سياسياً دعا إلى تصفية بؤر التوتر والحروب وإقرار السلم العالمي. فقد سادت، لفترة وجيزة، أدبيات البيريسترويكا التي بشر بها الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، وتدعو إلى إقامة نظام دولي يعتمد «توازن المصالح» قاعدة له، وتعطي الأولوية للتعاون الدولي، ما يعني تراجع العامل العسكري وإعطاء الصدارة في العلاقات الدولية للعاملين السياسي والاقتصادي.

قاد هذا المناخ إلى بروز دعوات أوروبية إلى حل حلف الناتو بعد أن غدا، بفعل نهاية الحرب الباردة وحل حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفياتي، بلا معنى أو هدف، والى قبول دعوة غورباتشوف لإقامة أوروبا واحدة من الأورال إلى الأطلسي، والى حل النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية، وتقديم يد المساعدة للدول الفقيرة لإخراجها من حالة الانهيار الاقتصادي والصراعات العرقية والسياسية.

غير أن الولايات المتحدة رفضت هذا التوجه وقاومته بقوة، فالمحافظة على «توازن القوى» قاعدةً للعلاقات الدولية، وعلى حلف الناتو وتوسيعه وتعديل استراتيجيته وساحة عمله اعتبرت مصلحة أميركية. لذا تبنت سياسات مراوغة ودفعت باتجاه تأزيم النزاعات ودفع أطرافها إلى اعتماد الخيار العسكري، ولعل ما حدث في يوغسلافيا آنذاك خير مثال على هذا السلوك، حيث كشفت «هيرالد تريبيون» (15- 16/5/1992) ما قاله جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي، عام 1990 للرئيس اليوغسلافي ميلوزوفيتش: «إن واشنطن مع يوغوسلافيا موحدة أرضاً وشعباً»، وهذا شجع الأخير على الاندفاع في حرب مجنونة دمرت بلاده وشعبه وقادته إلى محكمة جرائم الحرب (يذكرنا هذا بلقاء السفيرة غلاسبي مع الرئيس العراقي صدام حسين قبل اجتياح الكويت، وإعلان ريتشارد ارميتاج، مساعد وزير الخارجية الأميركية، في دمشق عام 2004 ان قضية التمديد للرئيس اللبناني اميل لحود قضية تحل بالتفاهم بين سورية ولبنان).

لم يستمر حلف الناتو ويوسع ساحة عمله فقط بل واندفع بتوسيع عضويته بضم دول اوروبا الشرقية والاقتراب من الحدود الروسية أكثر فأكثر، مستغلاً ضعف روسيا وارتباكها ودخولها في حالة انعدام وزن خلال فترة حكم يلتسين، وقد جاء نشر أجزاء من الدرع الصاروخية في تشيخيا ورومانيا وتركيا، واجزاء أخرى متحركة على ظهر ناقلات في دول البلطيق ليثير مخاوف روسيا، لأنه يمنح أميركا فرصة توجيه الضربة الأولى ويشل قدرتها على الرد. ففي ذهن الروس مقولة هنري كيسنجر «روسيا ما زالت كبيرة لذا فهي خطيرة».

مع رئاسة فلاديمير بوتين تبنت روسيا، مدفوعة بنزوع قومي روسي لإعادة الاعتبار لنفسها والثأر من مرحلة الضعف والاحتقار الغربي، استراتيجية هجومية بهدف فرض هيبتها ودورها الاقليمي والدولي عبر السعي للهيمنة على الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي غلفته بمشروع سياسي اقتصادي: الاتحاد الأوراسي، وأطلقت، مستفيدة من تحسن سعر النفط والغاز الذي مكنها من تجاوز حالة العجز التجاري والمالي وحولها الى وضع ايجابي مع احتياطي نقدي كبير سمح برفع الموازنة العسكرية، برامج اقتصادية وعسكرية لإعادة التوازن لوضعها الداخلي وزيادة قدرتها على التحرك الإقليمي والدولي.

وهذا أجج الخلافات مع الغرب بعامة وأميركا بخاصة، وقد جاءت تحولات الربيع العربي والتصرف الغربي في ليبيا، وانفجار الثورة السورية على الضد من هوى الكرملين، لتزيد في سخونة المواجهة، في ضوء خشية موسكو فقدان آخر معاقلها في المتوسط، فتبنى موقفاً منحازاً للنظام في محاولة لتحقيق هدفين الاول حماية مصالحه وتواجده في المتوسط (قاعدة طرطوس) والانتقام من حرمان روسيا من الكعكة الليبية.

تزامن هذا التحرك مع ادارة أميركية تبنت لاعتبارات داخلية الرفض الشعبي للحروب الخارجية بسبب الضحايا والتكلفة المالية العالية، حيث قدرت خسائر الحرب في افغانستان والعراق بـ 8 تريليون. وظهر خلل مالي ومشكلات اقتصادية: بطالة تضخم، تآكل البنى التحتية. وكان لخيارات الحد من التدخل الخارجي، والتعاون والعمل المشترك لمواجهة المشكلات ومحاولة تحقيق المصالح بطرق أقل تكلفة مادياً وبشرياً، أن منحت التحرك الروسي فرصة تسجيل نقاط تفوّق ظاهرية عززت اندفاعة بوتين ورفعت من اسهمه الداخلية والدولية، ودفعته الى الرفع من نبرة التحدي والتوسع بعرض العضلات واستخدام القوة ضد خصومه الداخليين والخارجيين. وقد أغراه غياب الرد المباشر بالعمل على تحقيق نصر على الغرب في سورية عبر دعم النظام بأسباب البقاء وتغطيته اعلامياً وحمايته سياسياً.

ردت واشنطن على التشدد الروسي في سورية وإفشاله لـ «جنيف2»، عبر عدم قيامه بالدور المطلوب والضغط على النظام لدفعه للانخراط في مفاوضات جادة، بتشجيع المعارضة الاوكرانية وإشعال حريق في الحديقة الخلفية لروسيا.

لعب رد الفعل الروسي على سقوط يانوكوفيتش بالهجوم على القرم وضم الجزيرة الى روسيا الاتحادية، لمصلحة التوجه الغربي لضم اوكرانيا للاتحاد الأوروبي ورسم الحدود الشرقية للاتحاد وإبعاد روسيا عن دول البلطيق وبلغاريا ورومانيا.

لقد وقع بوتين في الفخ وارتكب الخطأ القاتل الذي نسف ادعاءه تبريرا لموقفه في سورية بتمسكه بسيادة الدول ورفض التدخل في شؤونها الداخلية والحفاظ على وحدة اراضيها، وعزل روسيا دولياً وخلق حالة عداء مع أوكرانيا أعطاها مبررات قوية للانضمام الى الاتحاد الأوروبي، وربما الى حلف الناتو ايضاً. وروسيا من دون اوكرانيا لن تكون دولة عظمى، وفق قول لبريجنسكي مستشار الامن القومي الاميركي الأسبق. فما حدث أعطى الغرب ما كان يسعى اليه ببسط نفوذه على جغرافية اوروبا بالكامل، وغدت على مفترق طرق: اما القبول بأوكرانيا دولة اوروبية او الدخول في صراع مديد سينعكس سلباً عليها بسبب التكلفة المادية التي ستترتب على العقوبات الاقتصادية وعلى الدخول في سباق تسلح وصراع على مناطق نفوذ في العالم في ضوء اقتصاد هش يعاني من نقطة ضعف بنيوية ثابتة وهي اعتماده على تصدير النفط والغاز.

ستعيد المواجهة التي انفجرت، والتي ستأخذ وقتاً طويلاً قبل اقتناع بوتين بالتراجع، تظهير الاوزان والأدوار وتعيد روسيا الى حجمها وتكشف وهم القيادة الروسية بالتحول الى ند لأميركا وإعادة العالم الى نظام ثنائي القطبية.

* كاتب سوري

الحياة

الدب الروسي والعسل الدولي/ سلام الكواكبي

مريحٌ أن يتم التطرّق إلى السياسة الروسية في العالم، وكيفية تعاملها مع القضايا والأزمات الدولية، من زاوية تحصر الأمر بأطماع إمبراطورية، ورغبات توسعية، ونهم تسلطي. ومن السهل شيطنة القيادة الروسية، في مقاربتها الحقوق الإنسانية، وعسفها في معاملة الجمهوريات الداخلة في تركيب اتحادها. ومن الطبيعي أن تُدان الانتهاكات المحلية والإقليمية التي تقوم بها الإدارة السياسية والأمنية الروسية، ودعمها النظم الفاسدة والمفسدة في أصقاع العالم، بهدف زعزعة سيطرة القطب الواحد، القائمة منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي. هل يكفي هذا، لكي نغلق الملف الروسي المتفجّر، راضين عن استنتاجاتنا؟

عرف التاريخ الحديث، على الأقل، عديداً من انتقامات الدول الجريحة، عندما تسنى لها ذلك. وأشهرها إطلاق ألمانيا النازية، في ثلاثينيات القرن الماضي، الحرب العالمية الثانية، بعد شعور عميقٍ بالإذلال والخضوع الذي فُرض على الأمة الألمانية، في الاتفاقية التي أنهت الحرب العالمية الأولى، باستسلام مهين لبرلين. وإن كان يمكن الاعتقاد بأن هذا العمل الانتقامي أَسفر في المحصلة عن هزيمة جديدة لألمانيا سنة 1946، لكن هذه الحرب أودت بحياة الملايين، ودمرت الدول، وزرعت في ذاكرة البشرية أبشع المذابح التي ارتبطت بالتطهير العرقي. وأثبتت بأن المنتصر في كل الحروب لا يكون إلا الموت، موت البشر كما العمران، كما الزرع، كما الضرع.

ومراقب تسلسل أحداث العشرية الأخيرة من القرن المنصرم يرى، بشكل جليّ، أن تكاثر السكاكين على الدب الجريح لم تترك له مخرجاً، إلا أن ينبثق كطائر العنقاء من تحت رماد الرغبة القطبية الواحدة.

روسيا، ومنذ تدمير اتحادها السوفييتي بغلاسنوست ميخائيل غورباتشوف الذي فككها، قبل أن يتحوّل إلى تمثيل الدعايات لحقائب الأثرياء، عرفت رئيساً سكّيراً بشخص بوريس يلتسين، أجمع كل من التقى به من زعماء العالم على أنهم تمتعوا بفكاهته، وضحكوا منه وعليه، ولم يتحدثوا معه بأي أمر جدي يذكر. روسيا التي عرفت مجداً غابراً، بكل مساوئه التسلطية، وبعض محاسنه الثقافية، أو الاجتماعية، إن كان في حقبة القياصرة، أو فترة البلاشفة، تشعر بأنها تُهان في المحافل الدولية، وفي اقتسام الكعكات الاستراتيجية. ويتم ذلك بدءاً من التفاف جمهوريات السوفييت السابقة حول الغرب، وانضمام أغلبها إلى الحلف الأطلسي، مروراً بطرد مذلّ، تضافرت فيه جهود ديمقراطية ودينية ومافياوية، أَخرجها من أفغانستان. وتلاه، في سنوات التسعينيات، إعادة ترتيب البيت البلقاني، بعيداً عن مصالحها الإقليمية، ومخاوفها الأمنية وتطلعاتها الاستراتيجية. ومن ثم، أتى الغزو الأميركي لطرد حليف لها، كان في فترات سابقةٍ حليفاً للغرب، وهو من أعتى طغاة التاريخ الحديث ومستبديه في العراق. وتلاها ثورات ديمقراطية في بلدانٍ، حافظت نسبياً على علاقة جيدة معها، كجورجيا وأوكرانيا، في بداية الألفية الثانية. وأخيراً وليس آخراً، ولم يتأخر الأمر، فكانت حروب ليبيا، وثورات عربية، عزّزت مخاوفها من صعود للإسلام السياسي، وتطور المطالبات الديمقراطية في مجتمعاتٍ، لديها ما يشبهها في جمهوريات اتحادها الروسي الإسلامية، وإقصاءات “مُذلّة” من ساحات الوغى الدبلوماسي.

أتى ضابط الاستخبارات، فلاديمير بوتين، إلى الحكم، لينتقم من كل هذه الخيبات، ليس في إطار موقف وطنيٍ محض، بل، وأيضاً، في إطار فهم حديثٍ، ومستحدث، للاستبداد القائم على المحسوبيات والفساد. مدرسة عرفها العرب جيداً، وخصوصاً من يستميت بوتين في الدفاع عنهم، بحيوات شعوبهم اليوم. ولقد حاول صاحب العقلية الأمنية، المشككة في أقرب من حوله، أن يعقد قران مصلحة بين الشعور الوطني الروسي الجريح والطموح الذاتي الاستبدادي الجارح. ويبدو أنه نجح نسبياً في هذا الطريق، إذ منحته العنجهية المبرمجة، وكانت آخر مظاهرها في القرم، شعبيةً هائلةً لدى الطبقة الفقيرة الروسية، المتطلعة لانتصار رمزي ومعنوي، يعوضها عن شعورها بالعجز التام، منذ انهيار النظام الاجتماعي السوفييتي. كما لدى أصحاب الثروات الطفيليين، والذين استفادوا من عمليات التخصيص العشوائية، خير سند، أيضاً، للدب الروسي الخارج من سباته الطويل.

هل يكفي هذا للحكم، وتفسير الموقف الروسي العدائي تجاه الحقوق الأساسية للشعوب، وتجاه تحررها، كما تجاه تخلّصها من هيمنة اقتصادياتٍ، مشوّهة بالاستبداد والفساد، كالاقتصاد الروسي؟

يمكن القول إن بوتين حاول أَن ينفتح، بطريقة ماكرةٍ اقتصادياً وسياسياً، على الغرب في النصف الأول من الألفية الثانية، وقد جوبه بالبرود الذي قارب حدّ الرفض. ومصدر ذلك شعورٌ خاطئ بأن الجراح المتراكمة في جسد الإمبراطورية الروسية، على مدى طويل، ستودي بها إلى الانصياع. خطأ كبير في الرؤية والتحليل، أدى بنا إلى ما نحن اليوم عليه، من خروج الدب معافى نسبياً إلى حلبة الرقص الدولي، فارضاً شروط “الموسكوف”،  ومستمتعاً بإدارة أميركية غائبة، وبسياسة خارجية أوروبية منقسمة.

الدبلوماسيون الروس يدرسون ملفاتهم جيداً، بكل السوء الذي يمكن أن توصم به نواياهم. غيرهم، يحتفظون بسوء النوايا، من دون أن تكون لديهم ملفات يدرسونها.

العربي الجديد

نظام تشبيح دولي/ ميشيل كيلو

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إنه لا يسعى إلى اقامة قطب دولي جديد، لكنه يتطلع إِلى ممارسة قيادة تستطيع الإفادة من متغيرات الوضع الدولي، باستغلال ما تتيحه لها من فرص تختلف من حالة إلى أخرى، تخدم مصالح بلدانها، على غرار ما حدث في أزمة أوكرانيا.

قيل هذا الكلام في سياسةٍ، تنبأ كثيرون بتخلقها، منذ بعض الوقت، داخل إطار الواقع الدولي الراهن، والذي يبدو وكأنه يتسم بقدر كبير من الاضطراب على مستوى أحداثه، وبتوازناتٍ متفرقةٍ في ما يتصل بتوزع قواه وعلاقاته، تتيح له الإفادة من فرصه وأزماته، وتكريس نفوذه فيه، ومنع الآخرين من التأثير الفاعل على وقائعه ومجرياته.

يرى كثيرون أن ما يحدث في سوريا كان لحظةً فارقةً ومفصليةً في تشكل ما سمّاه بوتين “القيادة الجديدة”، ليس فقط لأنه قدم مكاناً لاختبار السياسة الجديدة، وبيئةً وفرت لها قبول دول قوية، أهمها عالمياً روسيا والصين، وإقليمياً إيران، بما أحدثته هذه من اختراقاتٍ طائفية: تنظيميةٍ وسياسيةٍ داخل الجسد العربي، أهمها ميليشيا حزب الله في لبنان، وميليشيات مسلحة عديدة في العراق، إلى جانب نظام الأسد في دمشق: الاختراق الاستراتيجي الوحيد على مستوى الدولة الذي حققته طهران في الدول العربية. وينفرد، لهذا السبب، بأهمية خاصة بالنسبة لها، تفسر استماتتها في القتال إلى جانبه، ودفاعها عنه بكل ما تملك من سلاحٍ ومالٍ ومقاتلين، وما أولته إياه من مكانةٍ، باعتباره خط الدفاع الأول عن طهران، إِذا سقط سقطت، لذلك من غير الجائز السماح بسقوطه، مهما بلغت تكلفة ذلك من دماء السوريين الأبرياء وممتلكاتهم.

تقوم “القيادة” الدولية التي يبشر بوتين بها على مبدأين متكاملين، ظهر أثرهما الواضح في المعضلة السورية، هما: الخروج على النظام الدولي، وتعطيل ما فيه من شرعية، تعطيلاً تاماً، والعمل خارج أي قانون دولي، أو شرعية محلية، أو قانون وطني من جهة، وممارسة العنف سياسةً وحيدةً موجهةً ضد كل من يشق عصا الطاعة، أَو تتعارض مصالحه مع مصالح الدولة التي يتبع لها، أَو تمس الحاجة إلى اختراقه، والسيطرة عليه.

بعد تجربة هذا النمط بنجاح في سوريا، جرى تكراره في القرم، حيث انقضَّت روسيا على دولة ذات سيادة، هي أوكرانيا، واستولت بقوة السلاح على جزءٍ استراتيجي من أراضيها، هو شبه جزيرة القرم، بحجة أنه كان جزءاً من الاتحاد السوفياتي تارة، وحماية الناطقين باللغة الروسية تارة أخرى. متجاهلة تجاهلاً مطلقاً مجلس الأمن والأمم المتحدة.  ومنتهكةً مبدأ عدم التدخل في الدول الأجنبية، والسعي إلى تغيير أوضاعها، والذي تتذرع به لتعطيل أي حل دولي أو محلي في سوريا، وضاربةً عرض الحائط بحق التدخل الإنساني، غير المسلح والسلمي، لحماية شعب تجري إبادته، ومواصلة تزويد النظام بأنواع متقدمة جداً من الأسلحة، كان آخرها أسلحة حرارية فتاكة، إلى درجةٍ يصعب تصورها. في هذه الأثناء، لم توقف لحظةً واحدةً تعاونها مع إيران في كل ما يتصل بإدارة الحرب ميدانياً، فكأن تدخل حرس إيران الثوري وجيشها وتدخلها هي، والذي قام على تقويض الشرعية الدولية، ووضع الحال السورية خارج أي قانون دولي أو وطني، ليسا تدخلاً في الشأن السوري، بينما تمثل قرارات مجلس الأمن بشأن وقف العنف ضد الآمنين من الناس عدواناً على سيادة سوريا، تمس الحاجة إلى إحباطه بأي ثمن، بما في ذلك عمليات القتل المنظمة، وإطالة أمد الحرب، وتغطية من انخرط من الغزاة الخارجيين في الحرب ضد سوريا والسوريين.

 نجحت سياسات التشبيح الدولي في سوريا، وحققت نتائج سريعة في أوكرانيا. وكشفت تهافت سياسات الغرب القائمة على مصالح تتسم بالأنانية، وتتجاهل بصورةٍ تكاد تكون تامة القيم والمعايير الضرورية، لتفعيل نظام دوليٍ، يلبي مصالح الشعوب ويحميها. وأثار هذا التناقض بين سياسات دول التشبيح الدولي الهجومية وتصرفات أوروبا وأميركا المتحفظة رعب دول وسط أوروبا وشرقها، والتي وجدت نفسها أمام أشباح ماضٍ مرعبٍ عاشته تحت الاحتلال الروسي، واحتمال تدخل عسكريٍّ مفتوح ضدها، يشجع وقوعه افتقارها، كأوكرانيا إلى حماية، وتركها وحيدةً في مواجهة قوةٍ لا قبل لها بها، وسياسة هجومية، مافياوية الطابع، يمكن أن تتذرع بأي شيء تريده، بما في ذلك حماية اللغة الروسية، لكي تفرض إرادتها عليها، أو تقتطع أجزاء منها كدول سيدة ومستقلة، كان ذنبها الوحيد في أوكرانيا أنها تجرأت، وقامت بثورة أطاحت رئيساً عرف بالعمالة لموسكو. في المقابل، حافظت على رئيسٍ يقتل شعبه في سوريا، لأنه تجرأ وثار عليه، بل وطالبه بما لم يرق لها: التنحي عن السلطة.

يتخلق، منذ أعوام قليلة، نظام تشبيح دوليٍّ، عبرت مسارات المعضلة السورية والأوكرانية عن وجوده وفاعليته. إنه، كما سبق القول، نظام عنفٍ وخروجٍ على الشرعية والقانون، يمسك بالمبادرة في مناطق تشهد صراعاتٍ ستلعب دوراً مهماً في تحديد نمط العلاقات الدولية سنوات عديدة مقبلة، وتؤكد أنه سيكون لانتصاره، كنظام، عواقب وخيمة في زمنٍ تشي ملامحه بأنه سيكون زمن دماء وعنف، سيقوض النظام الدولي، وسيخضع خضوعاً مفتوحاً لانعدام الأمان والقانون!

العربي  الجديد

لكنْ هل ستسمح روسيا بإعادة انتخابه؟/ نائل حريري

يبدو موعد استحقاق الانتخابات الرئاسية في سورية أقرب مما يتخيله البعض إذا تناولناه بالمفهوم السياسي. فعلى مجلس الشعب السوري الاجتماع في التاسع من نيسان (أبريل) المقبل على أبعد تقدير لبحث موضوع فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية من عدمه، معطياً المجال الدستوري لفترة الحملات الانتخابية التي يجب ألا تقل عن شهرين. طبعاً ثمة خيارات متعددة تصب نتيجتها في بابين اثنين: انتخابات الآن، أو التأجيل حتى إشعار آخر.

كانت الفترة الماضية قد حفلت بكثير من الإشارات والتلميحات إلى إصرار النظام على المضي قدماً في مسألة إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها على العكس من موقفه في السنوات الأولى للانتفاضة السورية. في ذلك الوقت جهد النظام وحلفاؤه على طي وتجاوز أي طرح لمسألة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، مع الإلحاح على ضرورة منحه مجالاً زمنياً حتى موعد الاستحقاق في عام 2014. في هذه الفترة استطاع النظام قيادة الدفة لمصلحته والحصول على شعبية أكبر لانتخابه مقدماً نفسه بصورة «أهون الشرين»، ولم تدخر قوى المعارضة السياسية والعسكرية والإعلامية جهداً في دعم مسعاه هذا.

وخلال الأسابيع القليلة الماضية، أوعز النظام إلى المؤسسات المختلفة والفعاليات الاجتماعية و «حزبه الذي لا يزال قائداً» بالقيام ببعض الحركات الشكلية التسويقية لحملته الانتخابية القادمة تلميحاً إنما دون أي تصريح رسمي أو خطواتٍ فعلية، من خلال توزيع الأعلام وإخراج المسيرات المعلبة والتوجيه بتغيير واجهات المحلات التجارية إلى العلم السوري. في مقابلاته الأخيرة المتتالية قام الأسد بالتأكيد على أن من حقه الترشح للانتخابات الرئاسية وأنه سيترشح، من دون أن يحدد زماناً لهذا الاستحقاق. ومن ثم اجتمع مجلس الشعب لإقرار قانون الانتخابات العامة، مؤكداً أن هذه الخطوة تجري ضمن جدولها الزمني المحدد منذ سنواتٍ عديدة في إطار «عمليات الإصلاح»، ولا تتعلق سلباً أو إيجاباً باقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.

من وجهة نظر النظام، يبدو واضحاً أن الأسد أصبح مستعداً تماماً لخوض التجربة، لقد قام بطرح قوانين تناسبه تماماً وتمنع أي عملية ديموقراطية شفافة للانتخاب، كما قام بدفع المجتمع الدولي للقبول بورقته التي طرحها في مؤتمر جنيف 2، والتي تؤكد على سيادة الدولة وتلمح تلميحاً مباشراً إلى رفض القبول برقابة دولية. أما الوضع على الأرض فهو الأمر الأكثر تطميناً للنظام، بوجود ربع السوريين نازحين خارج البلاد وربع آخر في مناطق خارجة عن سيطرة النظام في مناطق أغلبها محاصر بالإضافة إلى مئات آلاف المعتقلين المعارضين لسلطته. إنه الظرف الأكثر أماناً ومناسبة لإجراء انتخابات رئاسية.

يوحي المناخ العام لتفكير السلطات السورية في هذه الفترة أنها لا تريد أبداً إعلان التمديد للرئيس السوري أو تأجيل موعد الانتخابات، معتبرة خطوة كهذه نوعاً من الاعتراف بالأزمة التي لا تريد أن تعترف بها. فالمؤامرة بالنسبة له قد انتهت وجيشه يحقق الانتصار تلو الانتصار، والصورة التي يتم تسويقها الآن بعد معارك القصير ومن بعدها يبرود تدل تماماً أن تأجيل الموعد بحجة الظروف الأمنية للبلاد أمر مستبعد، وستعتبره السلطات رضوخاً لعدو تعتبره قد انتهى، وتحسباً لأزمةٍ لم تعد موجودة.

لكن النقطة التي تعتبر الأكثر حرجاً في المسألة تتعلق بموقف النظام الروسي الداعم لمواقف وتصرفات النظام السوري على الدوام. وعلى رغم أن الروس لم يقفوا أبداً ضد مسألة ترشح الرئيس الأسد، إلا أن ترشح الأسد واكتسابه لشرعية انتخابيةٍ هي الأولى منذ بداية الثورة السورية تعني أنّ باب المفاوضات سيغلق تماماً مع القطب الأميركي إذ لن يبقى ما يمكن التفاوض عليه. إذا كان النظام السوري يعتبر أن جميع أحداث الانتفاضة السورية لم تهزّ شرعيته السابقة، فهو الآن قادر على تقديم اعتباره هذا كحقيقةٍ ديموقراطية خادعة. وهكذا لا داعي للحديث عن أي حل سياسي أو سلمي، أو أي تشاركية أو انتقال للسلطة، بل لا داعي للحديث عن أي تغيير في سياسة النظام السوري الذي سيقدم خياراته جميعها على أنها خيارات الشعب السوري الذي انتخبه. يريد الطرف الروسي أن يستمر باللعبة التفاوضية على أساس حل سياسي توافقي يضمن أكبر قدر من المصالح الروسية عالمياً، وليس مستعداً لإغلاق هذا الباب من أجل حل الأزمة بطريقة محلية من صنع النظام السوري وحده، وهو الأمر الذي تكشفه تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مؤخراً في أن هذه الانتخابات «لن تغير شيئاً».

يبدو الطرف الروسي أكثر منطقية ومرونة من النظام السوري الذي لا يزال يعيش بعقلية العقد الأول للأسد الابن، الأمر الذي يستدعي تدخلاً من روسيا لإقناع النظام السوري بتأجيل الانتخابات الآن أو لاحقاً، لكن بطريقة لا تضع النظام السوري في موقع تنازل. قد يكون السيناريو الأفضل لهذه المسرحية هو أن تقوم اللجنة العليا للانتخابات بتأجيل الموعد بسبب عدم تقدم أي مرشح آخر ضد الأسد، وهو الخيار الذي سينزع الإحراج عن النظام في تعليل أسباب تأجيله الانتخابات الرئاسية، كما أنه الأقرب احتمالاً نظراً للشروط المجحفة المطلوبة للترشيح، والتي ليس أقلها الحصول على دعم كتابي من 35 عضواً في مجلس الشعب السوري، وهو بالنسبة للنظام يبدو أشبه بإعلان هؤلاء الأعضاء انشقاقهم عن النظام علانيةً، دفعة واحدة، وعبر القنوات الرسمية.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى