صفحات سوريةطيب تيزينيعمر قدوروائل السواح

مقالات لكتاب سوريين تناولت جنيف 2

جنيف دون شروط/ طيب تيزيني

في سباق الجدال حول الذهاب إلى جنيف 2، وبعد اللقاءات التي تمت بين الولايات المتحدة وإيران حول النووي وتخصيب اليورانيوم وظهور الاعتقاد بنصر ما لإيران، صدر تصريح من وزير خارجية إيران السيد ظريف حول الذهاب إلى جنيف، معلناً فيه إنه سيذهب إلى هناك «دون شروط»، لكن المعارضة هي التي يحق لها وضع شروط، فهي التي تستبيح إيران سيادتها بصورة واضحة.

وفي هذه الحال، هل يتعين علينا شكر الوزير الإيراني على ذهابه إلى جنيف 2 دون وضعه شروطاً حيال ذلك؟ أليس معروفاً في القانون الدولي أن اختراق بلد من بلد آخر، إنما هو أمر محظور ويمثل خطاً أحمر وليس القانون الدولي وحده، وإنما كذلك القانون الوطني المحلي.

فما تفعله إيران حيال سوريا راهناً يجري تصنيفه من قبل كل تلك المرجعيات بصفته فعلاً مرفوضاً منذ التاريخ البعيد وحتى يومنا هذا، وقد تتوج هذا التاريخ بأهم منظومة تعبر عن ذلك وتدعو إلى الدفاع عنه تحت مصطلح “حق الشعوب في الاستقلال والسيادة”، وجاءت المنظمة الدولية، منظمة الأمم المتحدة، لترفعه مع حقوق الإنسان المختلفة في الحرية والتعبير عن الرأي والاعتقاد وحق الشعوب في تقرير مصائرها وفي احترام الحريات، ويظهر ذلك كله خصوصاً حين نأخذ بعين الاعتبار ما تقوم به طهران من دخول قوات عسكرية إيرانية إلى القلمون الآن والقصير سابقاً من سوريا، نقول حين تفعل إيران ذلك، فإن المحظور يكون قد حدث، وهو تعدي إيران عسكرياً على سوريا، ما يُخل بالعلاقات الدولية بين بلدين أو أكثر.

وهذا ما ظهرت في وجهه منظومات سياسية ونظرية قدمها مفكرون وباحثون وسياسيون في مناطق متعددة من المعمورة، كما على امتداد مراحل تاريخية مختلفة ظهرت فيها نماذج مهمة مثل أفلاطون وابن خلدون وكانط وروسو، وثمة ملاحظة منهجية تتمثل في تعاظم ظهور كثير من المنظومات السياسية والنظرية، خصوصاً في المراحل الحديثة والراهنة، بالتوافق وربما كذلك بالتضاد مع التقدم الهائل الاقتصادي والسوسيولوجي والسياسي وغيره، إلى أن صدر عن المنظمة الدولية لحقوق الإنسان بيان حقوق الإنسان الذي وقع عليه عدد كبير من الدول الحديثة والمعاصرة.

وفي عودة إلى إيران وموقفها من سوريا والثورة السورية الراهنة، فهنا نلاحظ نشوء الحديث الكثيف والجدي عن “حق الدفاع عن المقدسات التاريخية” في سوريا خصوصاً، مع تأكيد على نمط محدد من “المقدسات المذكورة”، إنه نمط المقدسات الشيعية في عدد من البلدان العربية، منها سوريا، فهنا يرتفع الحديث عن هذه المقدسات إلى مستوى اقترانه بالتهديد لمن “يستبيحها” بالسلاح، لقد سبق أن خاطب حسن نصر الله الناس تلفازياً، حيث قال: إن من يسيء إلى المقدسات الشيعية مثل ضريح السيدة زينب، إنما يكون قد ارتكب إثماً يعاقب عليه، ونضيف أن هذا التحذير مقبول، حين يكون هناك ما يدعو إليه، ولكن إذا لم يوجد ما يدعو إلى ذلك، فلم التهديد وغزو مناطق سوريا مثل القصيم والسيدة زينب؟ وثمة سؤال سبق أن دعونا للتبصر فيه، وهو من دافع عن هذه المقدسات في سوريا على مدى أطول من أربعة عشر قرناً؟ أليس السوريون وغيرهم؟ إننا نحن السوريين نحترم تلك المقدسات ونحافظ عليها من باب التاريخ السوري العام والتاريخ الديني السوري.

الاتحاد

المجتمع المدني السوري ضمانة لـ”جنيف 2″/ وائل السوّاح *

أغلب الظن أن مؤتمر جنيف سيعقد في موعده، وسيشارك فيه الجميع، بمن فيهم الذين يعلنون اليوم رفضهم المشاركة (باستثناء الجماعات التكفيرية المتطرفة). الائتلاف الوطني السوري مرّر قضية المشاركة خلال مهزلة الصفعة التاريخية، والمجلس الوطني السوري الذي كان أعلن موقفه الرافض للمشاركة في المفاوضات، من دون أن يقدم بديلاً عنها، لا يزال موقفه غامضاً. وكتائب الجيش السوري الحر التي انتقلت في معظمها إلى مواقع القوى الإسلامية المتطرفة، بسبب البحث عن السلاح والتمويل مصرّة على عدم المشاركة حتى اليوم. في المقابل، هيئة التنسيق الوطني موافقة على الذهاب إلى المفاوضات من دون أي قيد أو شرط. بل إن رئيس الهيئة قال إن أسماء وفدها لمؤتمر «جنيف 2» باتت معروفة، لكن المشكلة ما زالت تتمثل بوفد الائتلاف السوري المعارض.

لا فرق بين من أعلن موافقته ومن أعلن رفضه المشاركة، فالمرجح أن الجميع سيذهب في ربع الساعة الأخير، وحسناً يفعلون، فلا أحد يملك خياراً آخر سوى المشاركة. ولا أحد يريد أن يبقى خارج الطاولة، لأن الزمن سيمر سريعاً وسينسى تضحيات من ضحّى وتقدمة من قدم ومبادرة من بادر، ولا يبقى في النهاية سوى ما يتم التوقيع عليه بين الأطراف.

من جهته، بينما يستمر النظام بمحاصرته المدنيين وقتله الأطفال قصفاً وقنصاً وجوعاً، ومأثرته في إعادة أمراض منقرضة مثل شلل الأطفال إلى سورية، فإنه يكرر كل يوم تقريباً أنه سيذهب إلى جنيف ولكن من دون شروط مسبقة. وهو لا يستثني من هذه الشروط وقف القتل والتجويع والاعتقال والتعذيب والتهجير ونهب أملاك المواطنين. ومع ذلك يفرض هو نفسه شروطاً مسبقاً حين يرفض قبلياً انتقال السلطة. وهو إلى ذلك يحدد شروط الطرف الآخر التي يطلق عليها المعارضة الوطنية، وتتمثل في رأيه على الأغلب بقدري جميل وعلي حيدر وبعض الأطراف في هيئة التنسيق، ما يعني أنه في صدد محاورة ذاته النرجسية من خلال مهزلة خلق معارضين من طراز قدري جميل.

وفي الوقت نفسه تتقدم قواته وشبيحته بدعم مباشر من لواء أبو الفضل العباس العراقي ومقاتلي «حزب الله» اللبناني في القرى والبلدات القريبة من دمشق والتي كانت تحت قبضة المعارضة. وتقول تقارير واردة من دمشق إن أصوات القصف ما عادت تسمع في المدينة كما كان الحال قبل أشهر. وفي الشمال تنقسم البلاد «المحررة» ما بين دولة الإسلام في العراق والشام (داعش) القوية وجبهة النصرة التي تسنتجد بزعيم القاعدة أيمن الظواهري، الذي لبى النداء وأفتى بحل داعش وتقوية النصرة. كلا الطرفين، على أية حال، ومعهما معظم فصائل الجيش الحر التي تتحول تدريجاً الى تبني خطاب إسلامي متطرف (بسبب تخاذل العالم عن التواصل الصحيح معها، وبسبب الأجندات الإقليمية وسوء أداء المعارضة السياسية التي أثبتت أنها أشبه بفريق كرة قدم في حارة دمشقية وهو يواجه فريق مانشستر يونايتد) لا تريد المشاركة في جنيف، لأن مصلحتها في استمرار شلال الدم الذي تعيش منه وتمد نفوذها بثبات.

ثمة لاعب أساسي لا نراه هنا ولا نسمع به كثيراً: المجتمع المدني. في الوقت الذي كانت المعارضة منشغلة فيه بانقساماتها وخلافاتها وتغيير ولاءاتها الدولية والإقليمية، كان المجتمع المدني يعمل بنشاط من أجل إغاثة اللاجئين ومعالجة الجرحى والدفاع عن المعتقلين ورعاية أسرهم. وكان يعمل على تأسيس لجان ومجالس محلية، وينشط مع الإعلام المحلي والخارجي، وينشر جرائد مطبوعة ومواقع إلكترونية وإذاعات ومحطات تلفزة.

ليست المعارضة ولا المقاتلون من عمل على إدماج الشباب والمرأة في الثورة السورية، بل المجتمع المدني. والمجتمع المدني هو الذي شدد – من دون أن يسمع له أحد – على سلمية الثورة ومدنيتها وعلى المواطنة كمعيار أساس للعلاقة بين السوريين. وهو الذي عمل على تحديد معايير العمل في اليوم التالي لسقوط النظام وبداية المرحلة الانتقالية إلى الديموقراطية، فوضع تصوراته لحكم القانون والعدالة الانتقالية وإصلاح القطاع الأمني وإصلاح النظم الانتخابية وكتابة الدستور وإصلاح القطاع الاقتصادي والعلاقات المجتمعية.

أين هو هذا المجتمع المدني من مفاوضات «جنيف 2»؟ إن أحداً لم يقم باستشارته حول تصوره لشكل الحوار أو المفاوضات المفترض: لا النظام ولا المعارضة ولا الأخضر الإبراهيمي ولا أميركا وروسيا والقوى الإقليمية المؤثرة. كما ان أحداً لم يفكر بدعوة هذا المجتمع لحضور جلسات المفاوضات في جنيف. الجميع كان يبحث عن شركاء سياسيين يوافقون بأي شكل من الأشكال على الحضور بغض الطرف عن إمكانية نجاح المؤتمر أو فشله.

أما الأطراف الاساسية، النظام والمعارضة، فتؤكد حضورها أو ترفضه بناء على موقفها من الطرف الآخر فقط، من دون أن تؤكد مثلاً أجندة المفاوضات ودور القوى الخارجية فيها وإلى أي حد سيكون الحوار سورياً – سورياً أو أميركياً – روسياً.

إن نجاح المفاوضات رهن بعوامل كثيرة، منها الإرادة الدولية وإمكانية المجتمع الدولي الضغط على نظام الأسد لوقف حمام الدم الذي يُغرق البلاد به، ومنها قناعة النظام والمعارضة بأن الأمور قد وصلت إلى مكان شديد التعقيد وأن تنازلاً حقيقياً يجب أن يقدم لإنقاذ ما تبقى من البلاد والبدء في بناء البلد من جديد، ومنها أيضاً قناعة المعارضة بأن البحث في الرؤى المستقبلية لسورية الجديدة مهم بقدر أهمية خلافاتها حول الواقع والمناصب وتقاسم الحصص.

ولكنّ ثمة عاملاً لا يقل أبداً أهمية عن كل ما سبق، وهو مشاركة المجتمع المدني في المفاوضات نفسها. إن المجتمع المدني هو الضمانة الحقيقية لتنفيذ الاتفاقات التي يصل إليها المتفاوضون، ومشاركته أو وجوده بالتالي هو أمر حيوي يضمن على الأقل أن الأجندة السورية هي التي توضع على الطاولة وأن المتفاوضين يبحثون في المصلحة السورية أولاً وليس في مصلحة أي طرف آخر. وإذا كان من الصعب مشاركة المجتمع المدني في العملية التفاوضية نفسها، فأضعف الإيمان أن يكون موجوداً كطرف مراقب، ضامن لنزاهة المفاوضات وسورنتها.

من دون المجتمع المدني، قد يعقد «جنيف 2»، ولكن لن تكون لنتائجه صدقية ولا مستقبل حقيقي.

* كاتب سوري

الحياة

في الدفاع عن مؤيّدي النظام/ عمر قدور

إما أنّ الغربيين لا يفهمون تركيبة النظام في سوريا، أو أنهم يتعمدون إظهار فهم خاطئ؛ هذا على الأقل ما يمكن استنتاجه من تصريحات وزيري الخارجية الأميركي والفرنسي بعد الإعلان عن موعد انعقاد مؤتمر جنيف. وزير الخارجية الأميركي صرّح بأن ممثلي النظام والمعارضة سيتفقون في المؤتمر على الحكومة الانتقالية كاملة الصلاحيات، بما أن القبول المتبادل بات منصوصاً عليه في التفسير الأميركي، وأضاف نظيره الفرنسي مثنياً على الأول أن لا مكان للأسد في جنيف وأن العملية ستؤدي إلى رحيله. وفق هذا الفهم؛ من المنتظر أن يذهب وفد النظام إلى جنيف مقتنعاً بضرورة تنحي رئيسه، وأن يقدّر أعضاء الوفد مصلحة النظام، كنظام بمعزل عن الأشخاص، وأن يقدّموا التنازلات الضرورية في أي تسوية سياسية، من ثم يكون أعضاء الوفد قادرين على تسويق التنازلات ضمن أروقة النظام!.

لو أن أحداً أراد كتابة نص ساخر عن وفد النظام إلى جنيف ربما لن يبتعد عن الاستنتاجات الأخيرة، ولو أن أي متابع كلّف خاطره التمعن في أحداث السنتين والنصف الأخيرتين لتوصل بسهولة تامة إلى معرفة دائرة صناع القرار في النظام السوري، ولما جازف بافتراض أن يتخلى جزء منها عن الجزء الباقي، أو لما جازف بافتراض انقلاب جزء منها على الجزء الآخر. وفي جانب لا يخلو من المغزى؛ لم تطاول الانشقاقات التي حدثت الحلقةَ الضيقة “العسكرية أو الأمنية” للنظام، وكان ذلك على الدوام مصدر فخر للنظام وحلفائه. ويعلم أي مغفل سوري أن الحلقة الضيقة المحكمة لا تخرج أبداً عن تحكم رأس النظام وأفراد العائلة المقربين جداً، وإذا كانت تضم بعض الرؤوس الأمنية فهذه الأخيرة متورطة إلى أقصى حد في الدم السوري، ولا يوجد بينها من يغامر بالبحث عن خلاص له خارج مركب أقرانه.

سيكون من الغباء المفرط، والمضحك في آن، تخيل شخصيات مثل وزير الخارجية، أو المستشارة السياسية، تذهب إلى جنيف لتفاوض في أي تفصيل بمعزل عن خط ساخن دائم يربطها بمركز القرار الأمني والسياسي في دمشق، وسيكون من الغباء المفرط النظر إلى وفد النظام ككتلة منسجمة مستقلة، ولا يحمل كل فرد منه مخاوف من الآخر الذي سيكون عيناً عليه لمصلحة مركز القرار الأمني، وبالتالي قد يكون من المفيد أكثر تخيل خوف أعضاء الوفد من بعضهم البعض، وخوف كلّ منهم من أن تصدر عنه هفوة ما يتم تأويلها في دمشق على نحو قد يودي به. من هنا يبدو مضحكاً تصوير غياب رأس النظام عن جنيف بمثابة انتصار، فلو احتمل المؤتمر العتيد جدية أكبر لتعين أن يتمثّل النظام بوفد يضم الحلقة الأمنية والعسكرية الضيقة، لأنها وحدها القادرة على اتخاذ القرار وفرضه على أعوان النظام، ولأنها وحدها المعنية بتقديم تنازلات حقيقية، في المقدمة منها التنازل عن السلطة.

تجوز المجازفة بالقول إن حلفاء النظام، الروس والإيرانيين، يملكون قدرة مماثلة على فرض تنازلات عليه. هذا الافتراض يعني عدم وجود وزن فعلي لوفد النظام، وحتى وجود حاجة فعلية لوجوده في جنيف، بما أن من يقررون مصير النظام ويملكون اليد الطولى في استمراره حتى الآن باشروا مهمة التسوية بأنفسهم. وحيث لم يعد خافياً على أحد أن تعثر الحسم في سوريا مرده التدخلات والدعم الخارجي، مثلما لن تكون التسوية السياسية إلا وفق ما تراه القوى الدولية، فقد لا يكون وجود وفد النظام ضرورياً، في المرحلة الأولى على الأقل، أي بانتظار إنضاج اتفاق دولي يُضطر إلى التوقيع عليه تحت ضغط أوليائه، ومن المعلوم أن الضغط سيكون في دمشق لا على “المساكين” من أعضاء الوفد في جنيف.

لندع جانباً إعدادات النظام لدعم ترشح رئيسه في الانتخابات المقبلة، ولندع جانباً أيضاً الإعلانات المتكررة عن تمسكه بالدستور الحالي الذي يمنح السلطات العسكرية والأمنية للرئيس ولا يترك للحكومة سوى سلطات إدارية تنفيذية، فالأهم هو ما تسرب عن خطة روسية تترك تلك الصلاحيات للرئيس، وتجرد الهيئة الانتقالية من أهم سلطاتها، وتجرد الثورة من أهم الأهداف التي سعت إليها. أي أن هامش التفاوض الذي يسعى إليه النظام وحلفاؤه هو القبول بحكومة انتقالية لا تملك من أمرها شيئاً على غرار الحكومة الحالية، ومثل هذه الحكومة لا تحتاج حقاً سوى وفد هزيل للتفاوض عليها، بخاصة إذا تُرك أمر الرئاسة من دون بت حتى انقضاء “الولاية الدستورية” في منتصف العام المقبل، وهذا بحد ذاته إقرار بشرعية الدستور وبشرعية الولاية الدستورية.

لا يخفى أن الأساس في جنيف هو تكريس منطق “لا غالب ولا مغلوب” على أرضية تمثيل طرفي الصراع لكتل متفاوتة من المجتمع السوري؛ لكن في الوقت الذي يجري فيه الإصرار على تمثيل أوسع للمعارضة يتم السكوت عن مقدار تمثيل وفد النظام للجانب الآخر، وكأن تمثيل النظام الحالي لكتلة مؤيديه هو تمثيل حصري ونهائي. ضمن هذا المنظور يبدو مؤيدو النظام وكأنهم قد اختاروه بملء إرادتهم وأعطوه توكيلاً حصرياً دائماً، لا لسبب سوى لأن المجموعة الحالية تمسك بزمام السلطة وتدّعي حماية مؤيديها في الصراع الدائر. إن الاصطفاف الأعمى الحالي لبعض الشرائح الاجتماعية لا يبرر استثناءها من المشاركة في تقرير مصيرها على النحو المقترح في جنيف2، فإذا كان الطعن ممكناً في حصرية تمثيل أي تشكيل معارض فهو يصحّ أيضاً وأولاً على حصرية تمثيل النظام. بل إن فرضية التخلي عن رموز النظام الحالي المتورطة في الدماء لصالح ممثلين آخرين، لا تصح حقاً ما لم يجرِ تمثيل الكتل المؤيدة من خارج السلطة الحالية، أو من شخصيات في النظام خارج القرار الأمني الحالي؛ هذا وحده يحقق فرضية التسوية بين السوريين ويعزل الرموز الحالية، ويحقق مصالحة وطنية حقيقية.

بعد الدماء التي سالت، وحتى بصرف النظر عن أن النظام هو من تسبب بمقتل حوالي مئتي ألف بين معارض وموالٍ، فإن أي مؤتمر للسوريين ينبغي أن يحضره السوريون ليباشروا بأنفسهم التأسيس لصفحة جديدة، وإذا كانت المعارضة على علاتها تملك حيثيات تمثيلية “غير مطلقة بالتأكيد” فإن من حق الجانب الآخر أن يتم تمكينه من اختيار ممثليه لا أن يخضع لسلطة الأمر الواقع التي تحتكرها الرموز الحالية. إن فهماً من هذا القبيل ينطلق من اختلاف المصالح بين المعارضين والموالين، ويتضمن أيضاً الوصول إلى تسوية في ما بينهم، يقتضي أولاً الحفاظ على المصالح العامة والتضحية بمن تسببوا في إيذاء مصالح الجميع، إذ من المعلوم أن الرموز الحالية لم تحقق حتى مصالح مؤيديها وضحّت بعشرات الآلاف منهم على مذبح بقائها هي.

إذا أريد لجنيف أن يكون مؤتمراً تأسيسياً، فمن الواجب البحث عن تمثيل أفضل لمن يوصفون حالياً بالمؤيدين، وهذا التمثيل وحده الكفيل بنزع الصفة التمثيلية عن السلطة الحالية، إلا إذا نظرنا إليهم ككتلة صمّاء موافقة تماماً على نهج الإبادة والتدمير الذي يتبعه النظام الحالي، وحينها تكون أشبه بكتلة حرب دائمة لا مجال للتفاوض معها أو للمصالحة. الوقائع السابقة خلال عقود لا تؤيد الافتراض الأخير، ولا تدلل على أن هذا النظام هو الخيار الأمثل لمؤيديه الحاليين، مثلما لا تدلل الوقائع السابقة على أنه كان حريصاً عليهم وعلى مصالحهم، ولو بنسبة ضئيلة، قياساً إلى حرصه على البقاء، أو حرصه على مصالح حلفائه الخارجيين.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى