بكر صدقيراتب شعبوصفحات سوريةميشيل كيلوهوشنك بروكا

مقالات لكتاب سوريين تناولت جنيف 2

في الطريق إلى جنيف: دمشق تسعى للصدام الكبير

محمد قواص

تطول لائحة الدول التي أعلنت صراحة عداءها لنظام بشار الأسد في سوريا، ولا يُقارن هذا العداء بسوابق طالت نظام صدام حسين في العراق أونظام معمر القذافي في ليبيا. ذلك أن ذلك العداء قاد إلى الانتقال من النظري إلى العملي، وإلى مواكبة الموقف بأداء دراماتيكي أدى في النهاية إلى سقوط النظامين.

سحب النظام العربي الرسمي العام المُمَثّل بجامعته العربية الغطاء العربي عن النظام في سوريا منذ مدة طويلة، فيما يدور سجال حول نقل المقعد السوري إلى المعارضة ممثلا للشعب السوري بعد سحبه من الحكومة في دمشق. تميزت داخل المجموعة العربية دول خليجية، لاسيما قطر والسعودية، في نصب العداء لنظام دمشق، وحتى في الدعوة إلى تسليح المعارضة، وصولا إلى تسليحها فعلا، وفق إيقاعات المقبول والمحرم عالميا.

وفي ما هوأبعد من العالم العربي اتسعت مساحة المعارضين للنظام السوري في العالم، وتطورت المواقف من المراقبة والتحذير والتمني والنصح… إلخ، إلى الدعوة إلى زوال النظام ورئيسه، وإن كانت مقاربة الوسيلة المثلى لتحقيق ذلك مكان خلاف وتباين وتردد بين العواصم الغربية نفسها قبل الحديث عن تناقضها الجذري مع موسكو وبكين.

ومع ذلك، يبقى مصير الأسد ونظامه رهن مزاج إدارة البيت الأبيض وحدها. سيد المكان يتكئ على مقاربات وزيريه في الدفاع والخارجية (وحتى قيادات عسكرية كبرى)، والتي تفتي بتجنب أي تدخل عسكري أميركي مباشر في الشأن السوري (زوار واشنطن يلاحظون بعجب الانقسام الداخلي حول هذا الشأن).

نحومركز «الإمبراطورية» في واشنطن يحجّ هذا الملك وذاك الأمير وذلك الرئيس لـ»استمزاج» موقف هذا المارد من الشأن السوري. ففي ذلك الموقف سر العدم وإكسير الحياة لنظام ينازع بكافة الأوراق مستعينا بكل ما يتدلى من حبال درءا لانقراض أضحى حتميا.

لا يبدوأن دمشق قلقة من الموقف الأميركي في طبعته الحالية. لا بل أن مواقف واشنطن في السياسة الخارجية، من هيلاري كلينتون إلى جون كيري، لطالما فهم من طاقم الحكم الدمشقي على أنها حالة سماح تمنح النظام ضوءاً أخضر يتيح له المضي قدما بما يقوم به.

في ذلك أن نجاح النظام في حسم الأمور يجنب واشنطن وحلفاءها وزر التعامل مع حالةٍ سوريةٍ جديدةٍ لا سيطرة على مفاعيلها بعد أن تعودت خلال العقود الماضية على التعامل مع نظام خبرت محدودية مناوراته وسوقيـتها.

لم تتصرف واشنطن بعكس ذلك في تعاملها مع الثورات في بلدان العرب الأخرى. ارتبكت إدارة أوباما وترددت في الفعل وردّ الفعل حين اندلع الحراك «البوعزيزي» في تونس وبعده حراك الميادين في مصر. سعت الإدارة الأميركية في طبعة أولى إلى التقدم بخطاب ضبابي يقول كلاما يحمل أوجها ومعان، مرورا بنصائح الحوار، انتهاء بتبني مطالب الشارع كاملة، من حيث تنحي رأس النظام والانتقال إلى حقبة أخرى. لم تحب واشنطن الحقبة الجديدة بفوضاها وغموضها، لكنها لم تعد تستطيع إحياء عظام أنظمة أصبحت رميما. ولا شك أن تعقّد «الربيع» في تونس ومصر وليبيا (لاسيما مقتل سفيرها هناك) يطل ثقيلا على توجهات واشنطن إزاء الملف السوري.

لكن تردد الإدارة الأميركية في حسم أمورها، سواء لمصلحة النظام أوالمعارضة، سبب ميوعة دولية تنبت كل يوم ألغاما كارثية لسوريا أولا، ومن ثم للمحيط والعالم ثانياً.

في تراخي الموقف الأميركي علة مفصلية أخرجت أسباب التفلت السرطاني للميدان السوري. تحولت الثنائية التقليدية ما بين نظام ومعارضة، إلى ميدان أدغال يتداخل فيه الديني بالسياسي، والسوري بالإقليمي، والصفوي بالعثماني، والسني بالشيعي، و»القاعدة» بالجميع.

دخلت سوريا في دائرة خبيثة لا تنتهي من حيث أن تقاعس العالم عن الحسم سبب رواج التطرف والتعصب والمذهبية والقاعدة، ومن حيث أن الظواهر تلك تستخدم عذرا حقيقياً أومصطنعاً لوقف دعم المعارضة والابتعاد عن أي تدخل في الشأن السوري. في هذا السياق تشعر دمشق أن ماء يندفع نحو طواحينها. الموقف الدولي بقيادة الولايات المتحدة واضح في الإعلان الصارم بعدم التدخل ضد النظام في دمشق. المساعدات غير الفتاكة المعلنة، أوحتى تلك الفتاكة المهربة من دول الجوار، ما زالت ضمن حدود المناورات المقبولة بالنسبة للنظام، طالما أن التدخل الروسي الإيراني -معطوفا على ذلك المعلن جهارا من قبل حزب الله- لا يُعدّ حتى الآن اختراقا لخطوط حمر تستدرج المارد الأميركي.

لكن دمشق تدرك أن العامل الميداني الذي تفرضه المعارضة في الداخل، ومهما قيل عن ضعفها وانقسامها وارتباكها، هوالسيف الحقيقي المسلّط على رأس النظام. ودمشق تدرك أن سبب نزوع العالم لحل «تسووي» وفق صيغة جنيف، وليس لحل يسلم لدمشق مفاتيح القرار، يعود إلى عجز النظام السوري بقوته وعتاده وقوة وعتاد حلفائه عن تقديم أرجحية مقنعة لموسكو وبكين قبل واشنطن ولندن وباريس. ودمشق تدرك أن أي حل تسووي افتراضي، على صعوبة تحققه، يعني حكم انتهاء للنظام، على الأقل في طبعته الحالية بقيادة بشار الأسد (لاحظ بيان اجتماع وزراء خارجية السعودية والإمارات وقطر ومصر والأردن، وتركيا الأخير من أنه «لا مكان» للأسد في مستقبل البلد، وهوكلام تردد في واشنطن وباريس ولندن في الساعات الأخيرة).

يتحادث الكبار حاليا بهدوء وروية نسبيتين لتحديد مصير الأسد ونظامه. بمعنى آخر، يملك الكبار حاليا ترف التحكم بمصائر الصغار. فإذا ما كبُر العراك بين الكبار وتعملق صدامهم، فإن الصغار يصبحون تفصيلا صغيرا في مطحنة قد تتيح لهم البقاء. هذا هو سر الخلطة التي تقف وراء سعي دمشق للصعود نحوالانفجار الكبير.

من الممكن تخيل حجم الارتياح الذي سكن الحاكم في دمشق عقب قيام إسرائيل بشن هجماتها الأخيرة. يرتقي الحدث بالصراع إلى مستويات كبرى تمنح النظام وسام وطنية الوطني في «صراعه الأبدي ضد إسرائيل»، ويمحض النظام شرعية في الدفاع عن ممانعته ضد «العملاء» في الزواريب البيتية في سوريا. تخرج دمشق من «زنقتها» المحلية وتعزف مع جوقة حلفائها من طهران إلى الضاحية نشيد التحرير القادم من القصير مرورا بالجولان.

في سعي دمشق لتكبير الصدام عمل دؤوب على استدراج «الحكومة الإرهابية المجرمة» في أنقرة (حسب وزير الإعلام السوري) على التورط المباشر في الحرب ضد سوريا (راقب السجال الدائر بعد انفجار الريحانية في تركيا مؤخرا). ففي تورط تركيا المباشر المتوخى استفزاز أكيد لروسيا وإيران، واستدراج أكبر ومباشر للغرق أكثر في الوحول السورية.

هل في ذلك حنكة وحكمة؟ في ذلك مناورة شمشونية تنشد شراء الوقت والتعويل على معجزات الزمن. إسرائيل ضربت ضربتها وأرسلت رسائلها المباشرة وغير المباشرة إلى دمشق كما إلى طهران والضاحية. لن تنجر إسرائيل إلى الحرب السورية لأسباب سورية، ولا مانع لديها من شن حروبها ضد طهران وحزب الله لأسباب إسرائيلية. وترفض تركيا بشكل معلن الانجرار نحوالحرب التي تريدها دمشق ووفق أجندة دمشق (على ما يعلن أردوغان)، علما أن النظام السوري يعتبر أن الخطر الوجودي الحقيقي مصدره ذلك الموقف التركي الخطير للنظام في تركيا (وليس الدعم القطري أوغيره مثلا).

النظام والمعارضة يعلنان، كل من جهته، عزمهما درس حيثيات المؤتمر الدولي العتيد لدرس إمكانيات الحضور من عدمه.

التسوية في ملامحها الأولى أقسى من أن يتحملها الطرفان، ذلك أن تورما أصاب أجسادها بحيث يستحيل أن يدثرها ما يحاك. لكن أعراض الحروب الكبرى التي لاحت مؤخرا حول سوريا هي مؤشر قد يدفع العالم إلى التعجيل بالتسوية وحصر التمرد عليها، وقد يدفع، على العكس، إلى الذهاب بها بعيدا لعل الكي هوآخر علاج لعلة لن تقوى المنطقة والعالم على تحملها أواستيعاب تفاعلاتها.

العرب

“جينف 2” والهروب الأممي إلى الحل السياسي

هوشنك بروكا

“جينف 2″ أو ما يسمى ب”المؤتمر الدولي للسلام حول سوريا” الذي تمّ اقتراحه على خلفية الإتفاق الأميركي الروسي لإنهاء الأزمة السورية، وحلّها سياسياً عن طريق الحوار والمفاوضات، بات قاب قوسين أو أدنى من الإنعقاد برعاية ومباركة أمميتَين. الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أيّد خلال لقائه مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف المباحثات الروسية الأميركية المشتركة حول عقد هذا المؤتمر، وأبدى استعداده لمساعدة جميع الأطراف لإخراج الأزمة السورية من دائرة الحرب الأهلية، التي حصدت حتى الآن أرواح حوالي 100 ألف قتيل، ودفعها نحو الحل السياسي والسلمي ما أمكن.

المؤتمر المزمع عقده في أوائل يونيو حزيران القادم لاقى ترحيباً دولياً وعربياً كبيراً، ربما بسبب مراوحة الأزمة السورية مكانها، ودخولها نفقاً مظلماً، وتزايد خطر انزلاق سوريا بالتالي إلى حرب أهلية دموية مدمّرة طويلة الأمد، سيخرج الكلّ منها خاسراً، وسيؤثر سلباً على الأمن والإستقرار الإقليميين، لا سيما على أمن واستقرار دول الجوار، وفي مقدمتها إسرائيل، ثم يليها لبنان والعراق.

عودة إميركا و روسيا إلى مربع جنيف الأول، واتفاقهما بالتالي على إحياء اتفاقية “جنيف 1” التي وقعّت عليها الدول الكبرى في يونيو حزيران الماضي، بمشاركة الجامعة العربية، هي إشارة واضحة على يأس العالم من الأزمة السورية، وفشل الخيار العسكري الذي لم يؤدِ سوى إلى المزيد من تدمير سوريا لسوريا، والمزيد من قتل السوريين للسوريين، هذا ناهيك عن امتداد الصراع وتحوّله، رويداً رويداً، من صراع سوري سوري بين نظامٍ وشعبه، إلى صراعٍ طائفي بين سوريتَين، لا بل بين محورين إقليميين.

أميركا توّصلت مع روسيا، على ما يبدو، إلى قناعة شبه أكيدة، بأنّ سلوك الخيار العسكري، في ظلّ توازن الرعب الحاصل بين الجيشين “النظامي” و”الحر”، لن يؤدي سوى إلى المزيد من “إسقاط” الشعب السوري، وربما شعوب المنطقة برمتها أيضاً في حروبٍ طائفية طاحنة، بدلاً من إسقاط نظام الأسد، ولا مخرج بالتالي من هذه الأزمة إلا في سلوك الأطراف المتصارعة الخيار السياسي، والجلوس إلى طاولة المفاوضات عبر الحوار بين جميع أطراف الصراع، سواء في الداخل السوري، أو خارجه.

هذه القناعة لم تفرضه مصالح الدولتين العظميين فحسب، وإنما أيضاً الوقائع وموازين القوى على الأرض، والتي تقول بأنّ لا نصر قريب لأيّ من طرفي الصراع في سوريا، والخاسر الأكبر بينهما هو الشعب السوري نفسه، الذي لم يحصد حتى الآن سوى الموت الزؤام بدلاً من الحرية والكرامة المفترضَتين. هذا ناهيك عن أن أميركا قد اقتنعت في الآونة الأخيرة، خصوصاً بعد التقدم الذي أحرزته القوات النظامية على محتلف الجبهات، أنّ أي محاولة منها لتغيير موازين القوى عبر دعم المعارضة السورية بالمال والسلاح، قد يعرضها إلى مخاطر الإنخراط في “حرب بالوكالة” غير مضمونة النتائج، وهو ما لا يريده الرئيس الأميركي باراك أوباما وإدارته، كما أشار إلى ذلك أكثر من مرّة. أوباما قرأ ودرس تجربة سلفه جورج بوش الإبن جيداً، ولا يريد أن يكرر الأخطاء الإستراتيجية التي ارتكبها هذا الأخير في حروبٍ كلّفت أميركا والأميركيين الكثير.

ربما تأسيساً على هذه القناعة، ذهب وزير الخارجية الأميركي جون كيري في لقائه الأخير مع نظيره الروسي سيرغي لافروف إلى أنّ “البديل عن الخيار السياسي لن يكون سوى المزيد من العنف.. البديل هو اقتراب سوريا بشكل اكبر من هاوية إن لم يكن السقوط في هاوية الفوضى..البديل هو تصاعد الأزمة الإنسانية. لا بل البديل ربما يكون تفكك سوريا”.

في ظل انعدام البدائل والحلول للأزمة السورية، يمكن إعادة تبرير هذا الهروب الأممي إلى “جينف 2” كأفضل الخيارات المتاحة، والتي من شأنها أن توفر فرصةً لجميع الأطراف المتصارعة للإبتعاد عن حافة الهاوية التي تقف عليها الآن، إلى الأسباب التالية:

أولاً: فشل المعارضة السورية، التي انتهت إلى “معارضات”، في أن تقدّم نفسها كبديل ديمقراطي موّحد لنظام ديكتاتوري شمولي، خصوصاً في ظل سيطرة التيارات الإسلامية، وعلى رأسها الأخوان المسلمين على المعارضة السياسية في الخارج، وسيطرة الجماعات الإسلامية المتشددة على المعارضة المسلحة وجيوشها في الداخل، وفي مقدمتها “جبهة النُصرة” وأخواتها. الأمر الذي حوّل الصراع في سوريا من صراع بين نظام ديكتاتوري ظالم وشعب مظلوم، إلى صراع طائفي مقيت بين “سوريا علوية” و”سوريا سنية”. ما أدى في المحصلة إلى فقدان ثقة المجتمع الدولي بقادم سوريا، وقادم معارضتها التي هي مشروع “سوريا طائفية”، كما يقول قيامها وقعودها، أكثر من كونها مشروعاً لسوريا علمانية، مدنية، تعددية، ديمقراطية.

ثانياً: خطف بعض الجماعات المسلحة الإرهابية المحسوبة على القاعدة وأخواتها للثورة السورية، وتقديمها لنفسها ك”وريثة شرعية” لها، وسكوت المعارضة السورية الممثلة ب”الإئتلاف السوري” و”المجلس الوطني السوري” على إرهابها، لكأنه “إرهاب وطني مُباح” أو “إرهاب حلال زلال”، ل”ضرورات ثورية”، أو بحجة وقوفهم في خندق واحد لمواجهة العدو المشترك. هذا السكوت “الوطني”، على إرهاب هاته الجماعات، وعدم قبولها لإعتبارات لها علاقة ب”الشرعية الثورية” إدراجها تحت خانة الإرهاب، كما يقول العالم المدني، أو نأيها عن وصفها حتى ب”الجماعات المتشددة”، أفقد الثورة بريقها ورونقها، ما أدى إلى وضع الغرب وعلى رأسه أميركا للكثير من إشارات الإستفهام عليها، وعلى أهلها من “الثوار الإرهابيين”.

ثالثاً: تفاقم أزمة اللاجئين السوريين المنتشرين بين دول الجوار، والذين تجاوز عددهم المليونين ونصف، ووصول جهود الأمم المتحدة لمعالجة أزمتهم إلى حدّ الإنهيار بسبب العجز الهائل في الأموال، وفشل مؤسساتها الإنسانية في تأمين أبسط مستلزمات الحياة لهم.

رابعاً: خوف العالم من امتداد الحريق السوري إلى دول الجوار، وتحوّل الصراع في سوريا، تالياً، إلى صراع إقليمي بين دول “المحور السني” ودول “المحور الشيعي”، وهو الأمر الذي يمكن أن يعرّض أمن المنطقة، وأمن إسرائيل واستقرارها بالدرجة الأساس إلى الخطر.

لهذه الأسباب مجتمعةً، إلى جانب أسباب أخرى تتعلق بمصالح الدول الكبرى، وعلى رأسها أميركا وروسيا، خصوصاً وأنّ سوريا ليست بالعراق ولا بليبيا الغنيتين بالنفط، هرب العالم إلى “الحل السياسي”، مديراً ظهره للثورة السورية، في كونها “صراعاً طائفياً”، أكثر من إعتبارها قضية “شعب مظلوم ضد ديكتاتورية ظالمة”.

لا إشارات إيجابية حتى الآن على نجاح هذا المؤتمر، خصوصاً في ظل موقف المعارضة السورية الممثلة ب”الإئتلاف السوري”، الذي أصرّ منذ الأول من الإتفاق الأميركي الروسي، ولا يزال، على “أن أي حل سلمي يتطلب الرحيل الفوري لبشار الأسد ورؤساء اجهزته الأمنية. أي حل لا يحتوي على هذه العناصر مرفوض على المستوى السياسي ومن عموم الشعب السوري”، كما جاء في أول رد فعل له على المفاوضات الأميركية الروسية الأخيرة. علماً أنّ أحد المبادئ الأساسية التي يمكن أن تنطلق على قاعدتها المفاوضات بين طرفي الصراع، هو اعتراف كلّ منهما بأنهما لم ينتصرا، وليس أمامهما سوى الطريق الأسلم والأسلك للعبور إلى سوريا لكلّ السوريين، ألا وهو سلوك طريق المفاوضات كحل وسط لإنقاذ البلاد من السقوط في أتون حرب أهلية طاحنة. كلا الطرفين، بحسب “جينف 1 و 2″، عليهما الإعتراف بعدم جدوى الحل العسكري، والجلوس إلى طاولة المفاوضات، بقبول الحل السياسي، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا.

لكن في الوقت الذي يرفض أهل النظام النزول إلى درك “المفاوضات” مع المعارضة أو ما يسميها ب”الجماعات الإرهابية”، ترفض المعارضة أيضاً في المقابل، بشقيها السياسي والعسكري، أي قبول للحل السياسي، بدون تنحي الأسد ورحيل كافة مرتكزات النظام وتفكيك أجهزته الأمنية.

وفي الوقت الذي تضمن روسيا، كما تشير تصريحات مسؤوليها، مشاركة النظام السوري، كطرف أساسي محسوب عليها في الصراع، في “جينف 2″، لا توجد أية ضمانات أميركية، حتى الآن، للضغط على المعارضة السورية، سواء تلك السياسية منها الممثلة ب”الإئتلاف”، أو العسكرية منها الممثلة ب”الجيش الحر”، للمشاركة في هذا المؤتمر، سيما وأنّ المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، هي معارضة مشرذمة ومنقسمة على نفسها بين أكثر من تيار، وأكثر من قوة إقليمية.

لكنّ السؤال الجوهري الذي سيبقى يفرض نفسه على الكلّ المفاوض، سواء على أهل الصراع في الداخل السوري، أو على المستقطبين إقليمياً ودولياً من حوله، هو ما الضمان للإنتقال بالفعل إلى سوريا أفضل، سوريا حرّة ديمقراطية تعددية لكلّ السوريين، سوريا بلا ملوك طوائف، بلا تجار حروب، بلا “محاكم شرعية”، وبلا دساتير “فوق بشرية”؟

ايلاف

الطريق إلى جنيف 2: الرضوخ أو التقسيم

بكر صدقي

كان لافتاً في تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بمناسبة الاتفاق الأميركي – الروسي حول سورية، تشبيهه للتعاون المأمول مع روسيا بذلك الذي قام بين البلدين في مواجهة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. فإذا استبعدنا تفسير العبارة على أنها تشبيه لنظام الأسد بنظام هتلر، لأن روسيا بوتين سترفض التشبيه حتماً، لا يبقى إلا تأويلها علـــى ما رست عليه الحرب الثانية في ألمانيا: تقسيم الدولة والعاصمة برلين بين القوتين العظميين.

ربما علينا، قبل الخوض في هذا السيناريو، أن نلقي نظرة على اتفاق الطرفين المعلن على الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي حول سورية يكون بيان جنيف الأول مرجعيته الرئيسة. كان البيان المذكور أول إجماع دولي، ضم الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، حول حل سياسي للمشكلة السورية. فبالنظر إلى استعصاء الصراع الداخلي على معادلة يستحيل معها تحقيق أحد الطرفين نصراً حاسماً، وإلى تدخل دول كثيرة في الصراع المسلح لصالح الطرفين، باتت المسألة السورية مدوّلة بصورة مطلـــــقة، ولا يمكن الوصول إلى تسوية سياسية إلا بتوافـــــق يأخذ في الاعتبار مصالح الدول المعنية، بعــــــيداً عن مصلحة الشعب السوري. لنستدرك منذ الآن بالقــــول إن هـــذه الأخـــيرة غائمــــة بذاتها، تفتـــرض وجود كيان سياسي هو «الشعب السوري» له مصالح وتطلعات محددة ومعلنة. وهذا غير محقق اليوم.

الحركة الديبلوماسية المحمومة القائمة منذ الإعلان عن الاتفاق الأميركي – الروسي على جنيف 2، تشير إلى أن الطرفين جادان كل الجدية وعازمان على التسوية السياسية، وعلى استخدام كل الأوراق التي يملكانها لإقناع السوريين بها.

كل من النظام ومعارضيه لا يريد أي تسوية، حربهما إلغائية لا تعترف بالحلول الوسط. لذلك سيراهن كل طرف على تحميل مسؤولية إفشال التسوية المفترضة للآخر. هذا مفهوم، ولكن هل مسموح لهما دولياً بإفشال جنيف2؟ بكلمات أخرى: ما هي أدوات الضغط التي تملكها الدول الفاعلة لإرغام السوريين على القبول بالتسوية؟

الروس والأميركيون «يملكون» نظام الأسد الذي يواصل تدمير البشر والحجر بلا كلل، وهو مستعد لمواصلة هذا الطريق إلى النهاية ما دام الدعم الإيراني والروسي له بالسلاح والرجال والحماية في مجلس الأمن. الأداة الثانية التي يملكها الأميركيون للضغط على النظام، هذه المرة، هي إسرائيل التي أرسلت له رسالة قوية في أوائل أيار (مايو) عبر الضربة العسكرية الساحقة في دمشق، ولم تعرف بعد فاتورتها الحقيقية. الأداة الثالثة للضغط على المعارضة هي حرمان الجيش الحر من الإمدادات، وإن كانت الولايات المتحدة لم تقدم أي مساعدات عسكرية إلى اليوم، ولا نية لديها لتقديمها مستقبلاً. لكنها قادرة على التأثير على حلفائها الإقليميين بهذا الاتجاه، نعني بصورة رئيسية تركيا وقطر والسعودية والأردن، إضافة إلى بريطانيا وفرنسا. وتأتي ورقة جبهة النصرة ودولة العراق الإسلامية في هذا الإطار للضغط على الدول المذكورة من جهة، وعلى المعارضة السورية من جهة ثانية. فلا أحد يمكنه اليوم أن يدافع عن المجموعتين المذكورتين في المناخ الدولي المحيط بالوضع السوري. ولكن لا أحد في المعارضة أو الدول الداعمة لها يريد، بالمقابل، فتح معركة معهما. تشكل المجموعات الجهادية إذن الخاصرة الرخوة للثورة السورية. غير أن أداة الضغط الأقوى على الثورة إنما هي سيناريو التقسيم الذي شكلت المجازر الطائفية في البيضا وبانياس والنبعة نذيرها المشؤوم.

الواقع أن المجتمع السوري انقسم، أثناء الثورة، انقساماً حاداً يصعب ترميمه. مسؤولية الطغمة الحاكمة عن هذا الشرخ الوطني لا جدال فيها، لكن الإقرار بهذه المسؤولية لا يكفي لإنكار حدوث الشرخ. وهذا ما يعيدنا إلى الاستدراك في مطلع المقالة: هل هناك كيان سياسي واضح المعالم يمكن تسميته بالشعب السوري؟ في بداية الثورة كانت لدينا فرصة لتكوّنه، لكننا خسرناها للأسف منذ وقت طويل. على الأقل منذ بدأت المجازر الطائفية من الحولة، ومنذ نشأ في حمص الموالية ما سمي بـ «سوق السنة». وها هو النظام، وحليفه الإيراني في لبنان حزب الله، يستميتان في معركة القصير بهدف وضع خريطة جديدة على طاولة المؤتمرين المحتملين في جنيف2. هي الخريطة التي تجعل من احتمال إقامة الدويلة العلوية احتمالاً قابلاً للتحقيق، وتالياً للتفاوض عليه.

على ماذا سيتفاوض إذن الأميركيون والروس لفرض تسوية على الأطراف السوريين وداعميهم الإقليميين؟

الإبقاء على «مؤسسات» النظام، الجيش وأجهزة الأمن بصورة رئيسية، وإجراء تعديلات شكلية على جوهر النظام السياسي القائم، وإشراك قسم من المعارضة في المسؤولية عن «إعادة الاستقرار» أي وأد ثورة الحرية ونزع سلاح الجيش الحر وإدماج قسم منه في جيش النظام مع شراء قادة الكتائب والألوية بمكاسب معينة. وتصبح المهمة الرئيسية الموكلة إلى النظام «الجديد» (أي القديم) محاربة المجموعات الجهادية الموسومة بالإرهاب كجبهة النصرة وشقيقاتها.

ماذا عن «عقدة الأسد»؟

لعل موضوع مصير الدكتاتور السوري هو الأسهل في أي تسوية قادمة. بحماقة ورعونة إدارته لأزمة نظامه، طوال عامي الثورة، قضى الدكتاتور الصغير بنفسه على كل أمل في «مستقبله السياسي». تحتاج قاعدته الاجتماعية إلى ضمانات دولية لتتخلى عنه بمنتهى السهولة. الإبقاء على «مؤسسات النظام» يمثل ضمانة كافية ليتخلص «الموالون» من الكارثة التي كانها لهم، كما لسورية، بشار وعائلته. فلم يكن تمسكهم به أصلاً بسبب كفاءته في الحفاظ على مصالحهم أو أمنهم، ولا بسبب «حبهم» المزعوم له، بل بسبب غياب أي ممثل سياسي آخر يمكن أن يفاوض باسمهم. فإذا تنطح الروس للقيام بهذه المهمة، تحرروا من العائلة الحاكمة بأسرها، فضلاً عما يمنحهم ذلك من فرصة لإلقاء مسؤولية الدماء التي سالت على كبش فداء ملائم.

إن تسوية مشابهة، تحت سيف «وإلا فالتقسيم!»، من المحتمل أن تلاقي صدىً إيجابياً لدى قسم كبير من السوريين الذين تراجعت أحلامهم، بفعل القتل والتدمير المتواصل، من الحرية والكرامة والجمهورية الديموقراطية إلى وقف القتل وشلال الدم. وهناك ما يسمى بالمعارضة المعتدلة، ممثلة بهيئة التنسيق وشبيهاتها، جاهز للانخراط في هذه التسوية.

ولكن ماذا عن «روح الثورة»؟ أعني الديناميات العميقة التي شكلت قوة ثورة الشعب على طغيان بدائي همجي يعتبر نفسه الدولة. إنه سؤال معلق.

الحياة

موقف أميركي ـ روسي مشترك؟

ميشيل كيلو

يقول بعضهم: إن موقفا أميركيا – روسيا مشتركا هو الذي أنجب التوافق على ما سموه «جنيف 2»، وإن ما نراه من تطابق بين تصريحات ومواقف الجانبين صحيح. ويلاحظون أن بوتين حذر نتنياهو من الهجوم على سوريا بحجة تسخر من أي عقل، هي أن الهجوم «سيهز استقرارها». بينما أعلن الأميركيون أنه إذا لم ينجح جنيف، فإنهم سيزيدون مساعدتهم للمعارضة، في رسالة صريحة إلى روسيا والنظام تؤكد أن أوباما يقبل اجتياز الأسد لخطوطه الحمر، وأن كلامه عن حتمية امتناع حاكم الشام عن تجاوز هذه الخطوط لم يكن غير «جعجعة بلا طحن».

يصدر تحذير بوتين إلى نتنياهو وتتعهد أميركا بعدم تغيير مواقفها تجاه النظام، بينما يشن هذا هجوما ضاريا في كل مكان من سوريا، بعد أن أعاد الإيرانيون والروس هيكلة جيشه وزودوه بأسلحة وذخائر تكفي لحرب عالمية، ووضعوا خبراءهم تحت تصرفه وكلفوهم قيادة هجماته ضد معاقل الثورة، في حين يتفرج العالم مكتوف اليدين على مذابح مرعبة يرتكبها شبيحة أتراك جندهم النظام ضد شعبه كان آخرها مذبحة بانياس والبيضة، بينما يرتكب مرتزقة أفغان وأوزبيك وإيرانيون وعراقيون ولبنانيون مجازر مروعة في كل مكان، من دون أن يتوقف أحد عند جرائمهم، أو يقلع عن تضخيم الآثار الخطيرة على أمن وسلامة العالم، الناجمة عن دخول مئات قليلة من الليبيين إلى سوريا.

هل ينتظر العالم نجاح جيش الأسد في القضاء على الثورة السورية؟ يبدو أنه ينتظر، والدلالة: حديث الروس والأميركيين عن مصالحهما المشتركة في سوريا، والتلويح بأنهما قد يتفقان على ترتيب لا يلبي مطالب شعب سوريا، الذي سيدفع ثمنه بدل أن يدفعه نظام مارق، أوغل في القتل والإبادة واستعان بمرتزقة موصوفين، دون أن تحرك المأساة أي رد فعل غير كلامي لدى أميركا أو تقلص دعم النظام خلال تنفيذ جرائمه، أو تؤجل إمداده بأنواع متطورة من الأسلحة والذخائر، وتجنيد مرتزقة شيشان وأوزبيك وأفغان لصالحه، وتمويل مرتزقة أتراك يقاتلون إلى جانب مرتزقة لبنان والعراق وإيران، ممن يحاربون شعبا مسالما لم يسبق له أن اعتدى عليهم، احتضن أقاربهم وأهلهم أكثر من مرة ولفترات طويلة، ولم يغلق أبواب وطنه يوما واحدا في وجه منكوب أو محتاج، منهم أو من غيرهم.

ماذا يمكن أن ينجم عن مؤتمر جنيف 2، إن كان هناك حقا تفاهم أميركي – روسي على حل يخدم مصالحهما ويضمن ديمومة نظام يتنكر لحقوق السوريين؟ أعتقد أن النتيجة لن تكون غير سفك المزيد من الدم في سوريا اليوم وغدا وفي المنطقة وربما العالم، وأن النظام لن يوقف آلة القتل قبل تقليص عدد الشعب السوري إلى ملايين قليلة. بالمقابل، لن يقبل مواطنو سوريا، الذين لم يشاركوا طيلة ثلاثين عاما من الصراع بين الأصولية والعالم بأي دور، ولم ينخرط أحد منهم في مجرياته، عودتهم إلى بيت طاعة نظام دمرهم، وخرب حياتهم، وهدم بيوتهم على رؤوسهم، وقتل أطفالهم، واغتصب نساءهم، بآلة حرب فتاكة زودته بها جمهورية إيران، ودربت مرتزقته على تشغيلها، فلا أقل من أن لا يحترم السوريون أمن وحياة من لم يحترموا أمنهم وحياتهم، وأن يرفضوا سلاما يحرمهم من أي سلام وطني وشخصي، ويواصلوا مقاومة مرتزقة يبيدونهم منذ عامين ونيف، ويرفضوا الرضوخ لنظام من أشرس نظم القتل في التاريخ، ويهدموا الهيكل على رؤوس من سكتوا عن هدم وطنهم على رؤوسهم، ويثبتوا للعالم أن معركتهم مع «القاعدة» كانت مزاحا بالمقارنة مع معركتهم القادمة حتما معه!

هل يغامر الأميركيون بموقف هذه نتائجه؟ وهل يقبلون حلا يبدو أقرب إلى الاستسلام أمام خصمهم الروسي – الإيراني، الذي سيخرج منتصرا عليهم في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية بالنسبة لمصالحهم الدولية، وسيحمي نظاما مارقا يحتل دولة من أكثر دول العالم العربي أهمية لأمن وسلام العالم، كما أكدت أحداث العامين المنصرمين؟ وهل ستقامر واشنطن بعلاقاتها مع العرب وتتخلى عنهم وتجعلهم لقمة سائغة في فم موسكو وطهران؟ وهل بلغ بها الاستهتار حد التخلي عن مصالحها وأمنها القومي، خشية مساندة معركة لا يطلب أحد إليها خوضها، سيحسمها شعب سوريا المقاوم؟

الشرق الأوسط

صفر “جنيف الثاني

راتب شعبو

 أمران يحولان دون نجاح مؤتمر جنيف الثاني، الأول هو تباعد الشقّ بين طرفي الصراع في سوريا إلى حد لا يسمح بحل وسط. والثاني هو أن مصالح الدول الداعمة للنظام (روسيا والصين) والتي لطالما تعاملت مع سوريا في ظله كحليف مضمون، لا تقبل القسمة على اثنين. فإما أن يكون في سوريا نظام سياسي “يتفهم” مصالحها أو أن تخرج من المعركة مهزومة خالية الوفاض. ومن غير المتوقع أن تقبل هاتان الدولتان، لا سيما بعد كل ما قدمته من دعم للنظام في السلاح والمال والسياسة خلال أكثر من سنتين من الصراع، بخسارة مصالحها في سوريا.

من الصعب وربما من المتعذر الوصول إلى أرضية حل وسط بين النظام والمعارضة. النظام يدرك أن معركته هذه، مثلها في ذلك مثل كل الصراعات التي خاضها ضد المعارضة السورية منذ أن وطد لنفسه، معركة كل شيء أو لا شيء. تعرف العناصر الأساسية والراسخة والفاعلة في النظام أن التنازل عن سلطات مهمة لصالح المعارضة إنما هو بداية نهايتها، وهي نهاية قد تنتهي بهم معلقين على أعواد المشانق، ما يجعل موقفها من أي شكل من الحوار أو التفاوض أو ما شابه، نوعاً من السياسة بمعناها الرديء، أي نوعاً من التحايل واللعب على الوقت لتحقيق تغيرات أكبر على الأرض. لا سيما أن مؤتمر جنيف الثاني سيعقد، إذا عقد، على الطريقة الفيتنامية، أي مع استمرار المعارك، حيث لا يمكن وقف النار في سوريا لسبب واحد على الأقل وهو عدم خضوع الجهات المعارضة  المقاتلة لقيادة واحدة. وإذا كان الخوف من هذا المآل هو مما يدفع النظام الحالي للتعامل السلبي مع مؤتمر جنيف الثاني فإنه يمكن حلحلة هذا الأمر بتقديم ضمانات معينة على الطريقة اليمنية. غير أن الفاعلين الدوليين (روسيا وإيران) لا يشربان من هذا المورد، لذلك سيكون ثقلهما منصبّاً على الحفاظ على النظام بصيغته العامة مع تعديلات ثانوية تفرغ الثورة السورية من جدواها، أو على الحفاظ على النظام كما هو، وإن كان على أرض أقل. الأمر الذي يرشح سوريا لحرب مديدة، ويجعلها ساحة صراع دولية وإقليمية على النمط اللبناني.

من جهتها، فإن المعارضة السورية مرشحة لخسارة مضاعفة في دخولها على خط جنيف الثاني. الخسارة الأولى هي نكوصها عن تعهدها المتسرع وغير المدروس برفض الحوار مع النظام وعدم القبول بأقل من إسقاط النظام بكل أركانه ورموزه، وهو النكوص الذي تحقق على يد السفير الأميركي روبرت فورد، ما يزيد في بؤس صورة المعارضة في أذهان الناس، على أنها معارضة انفعالية (بصرف  النظر عن مدى الإجرام الذي يمارسه النظام ويدفع المرء للجنون وليس فقط للانفعال) ومرتهنة (بغض النظر عن حاجة المعارضة للخارج واضطرارها للاعتماد على هذا الخارج الذي لا يختلف في طبيعته ومراميه عن طبيعة ومرامي النظام السوري نفسه). والخسارة الثانية هي الدخول في مسار لا ينتهي من مفاوضات لن تحصد منها المعارضة شيئاً اللهم سوى قشور. لأن الطرف الذي يملك السلطة الرسمية والمعترف بها إلى اليوم، بغض النظر عن كل طقوس وشعائر الجامعة العربية وأعضائها، لا يملك أن يعطي شيئاً من سلطته الفعلية للمعارضة. وعلى هذا شكل رفض المعارضة السورية للحوار مع عجزها عن الحسم العسكري حماية دائمة للنظام من حيث إعفائه من إحراج رفضه هو للحوار خوفاً مما يرتبه الحوار من استحقاقات نقل التوازن العسكري على الأرض إلى مستوى سياسي. فرفض الحوار جعل النظام يبدو أنه مضطر للقتال أمام جهة لا تقبل إلا زواله، في لوحة تحمل الكثير من الشبه مع الغطاء الذي استخدمته اسرائيل في عدوانها المستمر كدفاع عن النفس في وجه محيط يريد إزالتها من الوجود و”رميها في البحر”.

وكان كلام الرئيس السوري دالاً في حديثه مع صحيفة “كلارين” الأرجنتينية، حين عبّر عن شكوكه في نجاح جنيف الثاني، مؤكداً أنه سيرشح نفسه للانتخابات الرئاسية القادمة في 2014 ولن يقبل بدخول مراقبين للإشراف على هذه الانتخابات إلا من الدول الصديقة مثل روسيا وإيران. في كلام الرئيس إشارة واضحة إلى أنه يتعامل مع جنيف الثاني منذ الآن كمؤتمر فاشل، وإلا فإن القرار في شأن هوية المراقبين الذين سيشرفون على الانتخابات الرئاسية ما كان ليعود إليه وإلى سلطته فقط، بل إلى ما يقرره المؤتمر المذكور.

المصالح الروسية والإيرانية في سوريا دفعت هذين البلدين إلى تحمل الكثير من التكاليف والتبعات في حماية النظام السوري الحالي، ومن غير الممكن أن تقبلا بضياع جهودهما عبثاً لصالح تفاهم بين طرفي الصراع السوريين. كما ستلقي طموحات الدول التي دعمت الحراك الثوري في سوريا بثقلها على عملية التفاوض بين الطرفين السوريين. ومن ناحية أخرى لن يكون في مصلحة أقطاب النظام السوري الحالي التخلي عن صلاحيات مهمة سيؤدي التخلي عنها إلى تفكك النظام بحكم طبيعته الصلبة. هذا ما سيجعل فرص نجاح جنيف الثاني قريبة من الصفر، بما يفتح المجال أمام تدخل خارجي في سوريا، قد يفتح الصراع على آفاق إقليمية وعالمية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى