برهان غليونحسّان القالشسلام الكواكبيسلامة كيلةصبحي حديديصفحات سوريةعلي العبداللهعمر قدورغسان المفلحفايز ساره

مقالات لكتاب سوريين تناولت “داعش” والازمة في المنطقة

داعش نقيضا للثورة السورية.. جرائم وفظاعات موثقة
الشبكة السورية لحقوق الإنسان
أعلن عن تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) في التاسع من إبريل/ نيسان 2013، دمجاً بين دولة العراق الإسلامية (أُعْلن عنها في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2006) وجبهة النصرة (أعلن عنها في 24 يناير/كانون ثاني 2012). ورفضت الأخيرة الاستجابة له، وواجه في بدايته رفضاً مدنيّاً من شرائح واسعة من النشطاء السوريين، ومن فصائل إسلامية ومن تشكيلات في الجيش الحرّ، باعتباره تنظيماً، يحاول فرض نفسه دولة على المناطق التي يسيطرون عليها. ولم يلبث هذا الرفض المبدئي أن تحوّل إلى اشتباكات محدودة مع الأهالي أو الفصائل المسلحة، تطوّرت إلى حرب شاملة وعنيفة مع بدء العام الجاري، استخدمت فيها سيارات مفخخة وعبوات ناسفة بين المدنيين، إضافة إلى قصف التنظيم بلداتٍ يحاصرها بالمدفعية، في سلوك مشابه لسلوك النظام السوري الذي يعاقب المجتمع ككلّ.
تعود جذور التنظيم إلى “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” التي أعلن أبو مصعب الزرقاوي عنها في 8 أكتوبر/تشرين أول 2004، امتداداً لتنظيم القاعدة المركزي، على الرغم من الخلاف داخل التيار السلفي الجهادي بشأن سياسة الزرقاوي، وهو خلافٌ تعمّق أكثر مع إعلان “دولة العراق الإسلامية”، بزعامة أبو عمر البغدادي، في 15 أكتوبر/تشرين ثاني 2006. وأسهمت سياسة التنظيم في العراق في انشقاق معظم المتحالفين والمتعاطفين معه، إضافة إلى تشكّل رأي عامّ سلبي ضدّه من الأهالي، مع ممارسة التنظيم انتهاكات جسيمة بحق المدنيين في المناطق السنية والشيعية على السواء، مع تركيزه على تفجيرات في المناطق الشيعية، نتيجة توصيفه الطائفي للصراع الإقليمي عموماً، والعراقي خصوصاً، وتبنّيه أطروحات نظرية متطرّفة، تجيز قتل المخالف له، حتى ضمن التيار الجهادي نفسه، إضافة إلى تبنّيه أساليب التفجير وسط المدنيين والتعذيب والاغتيالات.
الترهيب وقطع الرؤوس
بدأ (داعش)، في سورية، محاولة بسط سيطرته في المدن التي يسيطر عليها الثوار، مثل الرقة وحلب، وساعده على ذلك صدامه المبكر مع التيار الأقرب أيديولوجيّاً له، وهو تيار القاعدة المتمثل بجبهة النصرة التي انتقل عناصر كثيرون منها غير سوريين (يسمون في الأدبيات الجهادية المهاجرين) إلى صفوف هذا التنظيم، ونسبة أقلّ من السوريين أيضاً، ما أدّى إلى تمايز جبهة النصرة، أيديولوجياً وميدانياً، عن تنظيم الدولة، وتقديمها مراجعاتٍ فكريةً، توضّح سبب هذا التمايز، المتمثل بغلوّ التنظيم في التكفير وصدام المخالفين له، وفرض نفسه دولة على المناطق المحررة.
اتبع التنظيم أساليب سلطوية وترهيبية، لفرض هيمنته في المناطق التي يحتلّها، فكان يعمد إلى اعتقال مجالس الإدارة المحلية المنتخبة، واختطاف النشطاء والإعلاميين، وطرد الفصائل المسلحة الأصغر، وغير القادرة على مقاومته، بحيث يفرض نفسه سلطة قوّةٍ مهيمنةٍ مقابل المجتمع العاري والمجرّد من نخبه ومن سلاحه.
لم يكن التنظيم أحد تشكيلات الثورة السورية، وواضح أنه كان يحمل خصومةً نظريةً وميدانية مع مؤسساتها وتياراتها المتعددة، وأنه لا يشترك مع أهدافها المتمثلة في شعارات الحرية والكرامة ورفض الاستبداد، ولا حتى في شعاراتها الإسلامية غير المرتبطة بمبايعته كدولة رسمية، فهو يعتبرها شعارات “كفريّة” حسب أدبيّاته، عدا عن رفضه النظري الحدود القطريّة والمشاريع المرتبطة بها، وهو رفض مرتبط برفض عملي، يتمثّل بأن اعتماد التنظيم، بشكل رئيسي، على العناصر غير السورية، إضافةً إلى صهره العناصر السورية، بحيث يصبح انتماؤها للتنظيم، أسوة بنهج المنظومات الشمولية الصاهرة والأحادية.
كان هدف التنظيم واضحاً في بسط سلطته على أكبر منطقةٍ جغرافيةٍ، تضمن له مقرّات وخطوط إمداد وموارد مادية، في ظل الحصار والملاحقة المفروضة عليه في العراق. ولذلك، كان تمدّده داخل المناطق التي يسيطر عليها الثوار يمثل أولوية على التمدد داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، خصوصاً في الرقة وحلب، بسبب سهولة السيطرة عليها، مقارنة بمناطق النظام، خصوصاً أن تشكيلات كثيرة مسلحة منشغلة بجبهات القتال مع النظام، أو أنها لا تريد فتح جبهة مع التنظيم، إضافةً إلى أن المناطق التي يسيطر عليها الثوار تمثل الجغرافيا الاستراتيجية المطلوبة للتنظيم.
واتبع التنظيم وسائل قطع الرؤوس علناً للترهيب، وإن اقتصرت، في بدايتها، على أسرى من طرف النظام، وأحياناً لمدنيين شيعة، أو علويين، من دون تهم مثبته، وضمن محاكم تفتقر إلى أدنى المعايير، حتى طالت مقاتلين من الجيش الحر والفصائل الإسلامية، إضافة إلى تعذيب المعتقلين، وصولاً إلى التصفيات الجماعية. وكان التنظيم حريصاً على استفزاز الإسلاميين، باعتبارهم ينافسونه على الشرعية الدينية، وتجلّى ذلك في صدامه المكثف مع جبهة النصرة وحركة أحرار الشام، إضافةً إلى اعتقالات طالت النشطاء والإعلاميين، وفرض قيود على الحريات والتعبير في المناطق التي يسيطر التنظيم عليها.
ممارسات ومواجهات
يمكن ترتيب أبرز الممارسات والاشتباكات التي قام بها تنظيم داعش، وأدّى تراكمها إلى قيام المواجهة الكبرى في 2 يناير/ كانون الثاني 2014 على النحو التالي :
-اشتباكات بلدة الدانا في ريف إدلب في الخامس والسادس من يوليو/تموز 2013، بعد مظاهرة مدنية ضد التنظيم، تبعها صدام بين لواء “حمزة أسد الله” من الجيش السوري الحر و”الدولة الإسلامية في العراق والشام”، انتهى بقطع رأس قائد اللواء، فادي القش، وتعليقه في الساحة العامة، وإعلان السيطرة على البلدة، بعد اشتباكات قتل فيها مدنيون.
-قتل قائد كتائب العز بن عبدالسلام، كمال حمامي، في الساحل السوري، في 11 يوليو/ تموز 2013.
– اتهامه بقتل رئيس الهيئة الشرعية في أعزاز، الشيخ يوسف العشاوي، في 7 أغسطس/ آب 2013.
– القتال مع ألوية أحفاد الرسول في الرقة، أول أغسطس/ آب 2013، والذي شهد إطلاق نار بالأسلحة الثقيلة على مظاهرةٍ مدنيةٍ، خرجت ضد التنظيم، وقُتل فيها متظاهرون، وانتهى بتفجير مقر “أحفاد الرسول” بسيارة مفخخة، في 13 أغسطس/ آب 2013، تبعه انسحاب “أحفاد الرسول” من المدينة التي شهدت طوال سيطرة التنظيم عليها عشرات حالات اعتقال مدنيين ونشطاء وتعذيبهم، كما حصل في حلب أيضاً.
“قتل التنظيم ما لا يقل عن 1607 أشخاص، بينهم 588 مدنياً، بينهم 67 طفلاً و53 امرأة. أما العسكريون الـ 1019 فقد قتلهم التنظيم في أثناء مواجهاته مع فصائل المعارضة المسلحة، منهم أسرى للمعارضة، نفذت بحقهم عمليات إعدام ميداني”
-مقتل المسؤول الإغاثي في حركة أحرار الشام، أحمد فهمي نينال، بعد أن اعتقله تنظيم الدولة مع قافلة إغاثية ماليزية في 10 سبتمبر/أيلول 2013.
– الاشتباكات مع لواء عاصفة الشمال في أعزاز، في ريف حلب، حتى إعلان السيطرة على المدينة في 18 سبتمبر/أيلول 2013، والاقتتال مع الجيش الحر في بلدة حزانو في 22 سبتمبر/أيلول 2013.
– الاشتباك مع كتائب “الهجرة إلى الله” في الساحل، وتعذيب وتصفية أسرى منهم، والتمثيل بجثثهم في 11 نوفمبر/تشرين ثاني 2013.
-قطع رأس المقاتل محمد فارس المروش من الحركة نفسها أمام العامة في حلب، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2013.
-قصف مقرات لواء التوحيد في جبل برصايا في 15 نوفمبر/تشرين ثاني 2013.
-الاشتباكات مع حركة أحرار الشام، التي أضحت جزءاً من “الجبهة الإسلامية” في بلدة مسكنة بريف إدلب في 8 كانون الثاني 2013.
-مقتل المسؤول القيادي في الحركة، الطبيب حسين السليمان، تحت التعذيب في معتقلات التنظيم في 31 يناير/كانون الثاني 2013، بعد اعتقاله في مقر التنظيم، لما حاول الحوار معهم، للوصول إلى صلح في أحداث مسكنة.
إقليمياً ودولياً
على المستوى الإقليمي، ساعد تمدّد المشروع الإيراني في المنطقة، بهويته الطائفية المعلنة، إضافةً للاضطهاد -السياسي والأمني- الطائفي في العراق، وتدفق آلاف من المقاتلين العراقيين والإيرانيين الشيعة للقتال إلى جانب النظام الذي ما فتئ يستفز الشعور الطائفي عبر المذابح الجماعية، خصوصاً في مناطق الاحتقان والحساسية الطائفية (مثل مدينة حمص والساحل). ساعد هذا على إكساب خطاب تنظيم الدولة قدراً من الشرعية والمصداقية التي ساعدته على التمدد داخل المجتمع المدني أو المقاتل، باعتباره يعتمد توصيفاً طائفيّاً إقليمياً للصراع، ويوفر مظلة جهادية تواجه المشروع الأكبر، ويقدّم السمْتَ القتالي الأكثر خشونةً، ما يشكّل إغراءً رمزيّاً مهمّاً في سايكولوجيا القتال.
ومن جهة أخرى، أسهمت سياسات الدعم المقنّن والمحدود في ضعف إمكانيات الإدارة والإغاثة في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، ما ساعد على انتقال المقاتلين إلى تنظيم الدولة الذي يتمتع بتمويل ممتاز، وما ساعد في كسب حواضن شعبية، بسبب جهد تنظيم الدولة الإغاثي.
على المستوى الدولي، كانت سياسة المجتمع الدولي المتساهلة مع نظام الأسد، والمكرّسة ديمومة الصراع، من دون تقديم مساعدة حقيقية للشعب السوري على المستوى الإغاثي، أو السياسي أو العسكري، إضافةً إلى خطاب الإرهاب ذي المعايير المزدوجة، والذي يشكل عنفاً رمزياً ضدّ الإسلاميين، قبل تشكيله مظلّة لعنف مادي بحقهم. ولتبرير التقاعس عن عزل نظام الأسد وإسقاطه، باعتباره سدّاً حامياً في وجه تمدّد الإسلاميين الذين اعتبروا جميعاً إرهابيين، على الرغم من الفروق الكبيرة في الأيديولوجيا والبنية والأهداف بينهم، ما أسهم في عزلة السوريين، ووصول معاناتهم الإنسانية إلى مراحل مأسوية. ومما غذّى مسارات التشدّد، وساعد على منح المصداقية والمشروعية لخطاب تنظيم الدولة، الأحادي الرافض للغرب بشكل راديكالي، والمتجاوز لخطاب الثورة السورية المتعلق بالحرية والعدالة ورفض الاستبداد.
انتهاكات وفظاعات
القتل خارج نطاق القانون: وثقنا قتل التنظيم ما لا يقل عن 1607 شخص، بينهم 588 مدني، بينهم 67 طفل و53 امرأة. أما العسكريون ال 1019 فقد قتلهم التنظيم في أثناء مواجهاته مع فصائل المعارضة المسلحة، منهم أسرى للمعارضة، نفذت بحقهم عمليات إعدام ميداني. وحصل ذلك، أيضاَ، في مشفى الأطفال في حلب في 8 يناير/كانون ثاني 2014. وفي معسكر حارم في إدلب، أعدم 17 من المعتقلين لديه، في 4 يناير/كانون ثاني2014.
الخطف والاعتقال والتعذيب: يعد خطف واعتقال الناشطين والأهالي من أوسع الانتهاكات التي قام بها التنظيم على الإطلاق، وبحسب رواياتٍ كثيرة لناجين من الاعتقال أو الخطف، جمعها فريق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن التقديرات الاحصائية لدينا تفيد بأن التنظيم قام بعمليات خطف واعتقال ما لا يقل عن 2500 شخص، وشملت عمليات الخطف نشطاء سوريين من مختلف الاختصاصات الطبية والإعلامية والعسكرية، وصحفيين أجانب عديدين.
في القطاع الإعلامي: لاحظت عمليات المراقبة اليومية لفريق الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن الانتهاكات في الحقل الإعلامي كانت الأكبر، ما يعود إلى أن ناشطين إعلاميين كثيرين نشروا الانتهاكات التي ارتكبها التنظيم، ما أثار نقمة عارمه منه على وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان. فقد اقتحم التنظيم ثماني مقراتٍ إعلامية، ونفيذ عمليات اعتقالات وتخريب، من دون تمييز بين إعلاميين أجانب أو سوريين. وقتل ما لا يقل عن 15 إعلامياً، وخطف أكثر من 42 آخرين، ما تسبب في توقف عشرات النشطاء الإعلاميين عن عملهم وفرارهم خارج سورية، وانعدم تقريبا دخول الصحفيين الغربيين.
“اتبع التنظيم أساليب سلطوية وترهيبية، لفرض هيمنته في المناطق التي يحتلّها، فكان يعمد إلى اعتقال مجالس الإدارة المحلية المنتخبة، واختطاف النشطاء والإعلاميين، وطرد الفصائل المسلحة الأصغر، وغير القادرة على مقاومته، بحيث يفرض نفسه سلطة قوّةٍ مهيمنةٍ مقابل المجتمع العاري والمجرّد من نخبه ومن سلاحه”
في القطاع الطبي: مارس تنظيم دولة العراق والشام انتهاكاتٍ واسعةً بحق الكوادر الطبية، وعمليات اقتحام مشافي ميدانية وخطف جرحى، من دون أية مراعاة لوضعهم الصحي. وكما حصل، مثلاً، مع الممرض نور حاووط الذي اختطفه التنظيم في أثناء قيامه بعمله الإسعافي لجرحى، إثر القصف الجوي بالقنابل البرميلية، في 28 أكتوبر/تشرين ثاني 2013، وحادثة الاختطاف الشهيرة للدكتور حسين سليمان (أبو ريان) من حركة أحرار الشام في 10ديسمبر/ كانون أول 2013 ثم تسليمه جثة عليها آثار تعذيب وحشي، في 1يناير/ كانون ثاني 2014، بعد عملية تبادل أسرى بين حركة أحرار الشام والتنظيم.
وإلى ما سبق، ثمة اقتحام المشافي والمقرات الطبية، كما حصل، مثلاً، بعد سيطرة التنظيم على مدينة مسكنة في ريف حلب، في 10-12-2013، عندما اقتحم عناصر من التنظيم مشفى مسكنة الميداني التابع لرابطة أطباء عبر القارات، في مبنى المركز الثقافي، والذي يؤمن الاحتياجات الطبية لسكان المنطقة.
الحصار: فرض تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام حصاراً في يوم 7 ديسمبر/ كانون أول 2013 على بعض المناطق، وتحديداً على المناطق ذات الأغلبية الكردية في ريف حلب (عفرين وعين العرب)، حيث ترتبط مدينة عفرين مع مدينة حلب، عبر ثلاثة طرق رئيسية، يقع اثنان منهما تحت سيطرة التنظيم، عبر إقامة حواجز على تلك الطرق.
التفجيرات: بعد اندلاع اشتباكاته مع فصائل الثوار، لجأ التنظيم إلى أسلوبٍ يشتهر به على نحو خاص، وهو العمليات الانتحارية بالسيارات المفخخة، سواء ضمن أحياء سكنية أم غير ذلك، وقد وثق فريق الشبكة السورية لحقوق الإنسان 34 حالة لسيارات مفخخة، من دون تمييز بين مناطق مدنية أو عسكرية، كما حصل في مدينة تل رفعت في 5 يناير/ كانون ثاني 2014 وفي مدينة جرابلس في 15يناير/ كانون ثاني/2014 . وغالباً ما يتفاخر التنظيم بهذه التفجيرات على حسابات كثيرة للتواصل الاجتماعي المعروفة باتباعها له.
التضييق على السكان المناطق :فرض “داعش” في المناطق المدنية التي خضعت لسيطرته قوانين تمييزية، وشرّع عقوبات لكل من يخالفها، فبعد سيطرته على مدينة الرقة وريفها، أصدر بياناً في 20 يناير/ كانون ثاني2014، يتضمن تعليمات تمس حياة الناس وخصوصياتهم، فيما يتعلق بمعيشتهم وحركتهم في المدينة، وحتى اللباس، ولم يقتصر هذا على الرقة، وإنما شمل المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم . وقد منع النساء من التجول، إلا بلباس معين (عباءة فضفافة، حجاب، نقاب، وقفازات)، كما فرض على النساء عدم الخروج إلا بمرافقة “محرم”، أي زوجها أو ما يحرم عليها الزواج منه، وحذر من أن أي خرق للبيان سيتم المعاقبة عليه.
استنتاجات وتوصيات:
1- يشكل عناصر تنظيم دولة العراق والشام أغلبية غير سورية، يهدف إلى إقامه خلافة في جميع أنحاء العالم، وبالتالي، فإن تطلعاته وأهدافه تختلف جذرياً عن التي يطمح إليها السوريون من إقامه دولة تعددية ديمقراطية. وبالتالي، لا يمكن تصنيفه، قانونياً، فصيلاً مناصراً للشعب السوري، بعد أن ثبت بالأدلة والأرقام ما ارتكبه التنظيم بالشعب السوري.
2- المذابح والمجازر الطائفية التي قامت بها القوات الحكومية وعناصر الشبيحة الموالية لها أسهمت، بوضوح، في استجلاب أعداد كبيرة من الأشخاص، ومن مختلف أنحاء العالم، يعملون تحت راية تنظيم دولة العراق والشام، ويبدو أن هذا ما كان يخطط له النظام السوري، بارتكابه أكثر من 42 مجزرة على نحو طائفي، كما في مجزرة الحولة ودير بعلبه وحي الرفاعي في حمص وجديدة الفضل في ريف دمشق وبانياس في طرطوس والتريمسة في ريف حماة وغيرها، وقد ساعد في ذلك التساهل الكبير من المجتمع الدولي أمام تلك الجرائم ضد الإنسانية .
3- حاربت فصائل الثورة السورية، بتنويعاتها الفكرية والأيديولوجية، تنظيم الدولة، واعتبرته خطراً على الشعب السوري وحقوقه في الحياة والحرية والعدالة، وقد قتل في الاشتباكات بين تنظيم دولة العراق والشام وفصائل المعارضة المسلحة نحو 525 من الثوار المسلحين، وهذا دليل إضافي دامغ على أنه لايمكن لأي جهة حقوقية، أو إعلامية موضوعية، أن تصنف فصيل دولة العراق والشام على أنه من المعارضة المسلحة .
4- مارس التنظيم الاعتقال بسبب الرأي، واستخدم وسائل تعذيب عنيفة، وصلت بحالات إلى التعذيب حتى الموت، إضافةً إلى ممارسته نهج قطع الرؤوس والترهيب بها أمام العامة، وثبوت ارتكابه تصفياتٍ جماعيةً للمعتقلين، واستخدامه السيارات المفخخة وسط المدنيين. وقصد مناطق آهلة بالسكان بالمدفعية، وكلها جرائم حرب يجب أن يحاسب من ارتكبها وكل من ساهم بها .
5- على مجلس الأمن الدولي أن يفرض حظر أسلحة على تنظيم دولة العراق والشام، وملاحقة جميع المتورطين بذلك، وعلى المعارضة السورية أن تتعاون بكل الوسائل الممكنة لإيقاف تدفق الرجال والسلاح إلى تنظيم دولة العراق والشام وجميع التنظيمات المشابهة له، وكل شخص يمد تلك التنظيمات بالمال أو بالسلاح يجب أن يعتبر مجرم حرب، تتوجب محاكمته.
العربي الجديد
المصالحات وداعش والنفاق السوريّ / حسان القالش
سقط المنطق في سورية، بسهولة وخفّة ومن دون تأثّر، فلا الحق ولا أصحاب القضيّة سينتصرون على الباطل والظلم والطّغاة كما كانت البداهة تفترض. ومناسبة هذا الكلام ودليله هو تلك البدعة الاستبداديّة التي يُجبر النظام الشّعب على القبول بها والمُسَمّاة «المُصالحات». فعندما يَقبل الناس في حمص، ومخيّم اليرموك والمليحة والقابون وغيرها بصفقة تعيدهم إلى حياة الذلّ من جديد، علينا أن نعلم أنّنا فشلنا وأفشلنا ثورتنا.
فإذا ما تركنا جانباً حقيقة وواقع انتصار رغبة الرجل الواحد، والعائلة الواحدة، والمحور الواحد على رغبة الشّعب بالكرامة والحريّة في أبسط معانيها، نجد بأنّنا اختلفنا على معنى وتعريف الثورة. فكان لكلّ منّا ثورته، وكان كلّ منّا يرى في الثّورة الجزء الّذي ينتمي إليه فضلاً عن أنّ كثيرين كان يرون فيها ما هو غير موجود. فتحوّلت مجالاً لانتفاخ الذّوات والانتهازيّة وسوء الفهم والعيش في أحلام اليقظة وبيع الأوهام. هكذا تغاضينا عن إشارات الأسلمة التي ظهرت منذ البدايات وأصرّ بعض المثقّفين والسياسيّين على تجاهلها، إلى أن بدأت الثورة تأكل أبناءها التي قامت عليهم. هكذا بِعنا ثورتنا التي أدهشت العالم بحقّ إلى دول كتركيا وقطر وغيرهما فأساءتا إليها وشوّهتها. وهكذا جعلنا من مشايخ وأفّاقين ناطقين ووجوهاً لثورتنا، وقبلنا أموالاً قذرة، وسمحنا للانتهازيين وعملاء النظام بالتواجد في بيئتها الثقافيّة والإعلاميّة لتُسرّع في قتلها.
والغريب، بعد كلّ هذا، أن نستغرب «داعش» ونتفاجأ بها. والمُخجل والمُعيب أن نلعب لعبة النّظام ونفسّر ظهور داعش وأخواتها بمؤامرة من النّظام، مُتغاضين عن قابليّة الشّارع والمجتمع للانزلاق نحو التطرّف، وعن المدى الذي بلغه التديّن في مجتمعاتنا، على رغم مساهمة النظام الفاعلة والمؤثّرة في تضخيمه. هكذا انساق كثيرون وراء تبرير الإشارات المبكّرة عليه بدل نقدها واتّخاذ موقف حاسم منها، وسارعوا لانتقاد أميركا عندما وضعت جبهة النصرة وغيرها على قائمة الإرهاب، كدلالة على ممارستنا النّفاق على ذواتنا وعدم جاهزيّتنا واستعدادنا لتحمّل مسار طويل ومُعقّد تفرضه ثورة مُستحقّة كثورة السوريين. على أنّ براءة بعضهم لا تُبرّر وقوعهم في هذا النفاق، الذي بلغ مستوى جعلهم يتململون في كثير من المناسبات من تكرار الدعوة إلى صياغة خطاب يطمئن الأقليّات، خصوصاً العلويّين، وهو ما لم يحدث بالشكل والمستوى المطلوبين حتى اليوم.
وواقعٌ كهذا: العيش في النّفاق، ورؤية داعش تبتلع المنطقة والإقبال على عار المصالحات، يفرض محاسبة الذّات. فما الذي قدّمته دمشق مثلاً للثورة؟ دمشق المدينة ونُخبها الاقتصاديّة والدينيّة. ذاك أنّ قسماً كبيراً من الدمشقيّين كانوا سلبيّين في تعاطيهم مع الثّورة، فعدا عن بعضهم الذي بقي حتى اليوم يؤيّد نظام الاستعباد حفاظاً على مصالحه الخاصّة، كانت البقية تتفرّج على الثورة متأمّلةاً بأن يقوم مهمّشو الأطراف والضواحي والأرياف بالعمل الثوري نيابة عنهم. فيما غاب إسلام دمشق المعتدل الذي كشفت الثورة مدى ضعفه وتشرذمه وتحكّم النظام بالقسم الأكبر منه، كنتيجة طبيعيّة للصفقة التاريخيّة التي عقدتها دمشق بتجّارها ومشايخها مع النظام في أوّل عهده لتضمن لنفسها مصالحها على حساب مستقبل البلاد وكرامة الناس وحريّتها، التي تتباعد المسافة بينهما بمرور الأيّام ومع الإقدام على صفقات المصالحات، ليَتمزّق السّوري البسيط، في مهجره أو مخيّمه، في حيرة قاتلة بين أن يبرّر هزيمة سوريّي الثورة البسطاء وتَعَبهم وأن يُعاندَ لعنة هذا المشرق. فالسّوري، أينما كان وكيفما كان أصبح كما بلده مقتولاً مقتولاً.
* صحافي وكاتب سوري
الحياة
هل ما يجري في سوريا ثورة؟/ سلامة كيلة
تحولات الوضع السوري ومآل الصراع القائم منذ أكثر من ثلاث سنوات يدفع إلى طرح السؤال: هل هناك ثورة في سوريا؟ وأين هي هذه الثورة التي يجري الحديث عنها؟
سؤال يتكرر، ورغم أن كثير ممن يطرحونه كانوا متشككين بما يجري في سوريا منذ البدء، تأسيسا على تموضع النظام السوري في الوضع الدولي، فإن هناك من بدأ يطرحه بعد أن كان يعتقد بأن ما يجري هو ثورة.
لقد أصبح الصراع على الأرض صراعا مسلحا، وانتهى النشاط الشعبي تقريبا (أو تماما كما يظهر في الإعلام)، وأصبحت القوى الأصولية مهيمنة وتضخمت لتكون هي التي تقاتل النظام، وخصوصا المجموعات التابعة لتنظيم القاعدة (جبهة النصرة والدولة الإسلامية داعش)، هذه المجموعات التي تلمّ كل “جهاديي” العالم، في حين أن البلدان الإمبريالية والدول “الرجعية” هي التي تدعم “الثورة”، مقابل دعم روسيا وإيران و”قوى المقاومة”(حزب الله) للنظام، وأصبحت القوى الدولية هي التي تتحكم في الصراع.
هذه هي “الصورة النمطية” التي باتت تتكرر، ليس على صعيد الأفراد فقط، بل أساسا في الإعلام الغربي والداعم لـ “طرفي الصراع”. إذن، أين الثورة في كل ذلك؟
لا أريد أن أكرر بأن الإعلام يأخذ ما هو ظاهر، وهو متحيز كذلك لميول أيديولوجية ومصلحية تجعله تنقل ما يريد. وعلى كل منطق علمي أن يكشف ما هو خلف هذه الصورة، وماذا يراد منها من كل طرف ينشرها، ومن ثم الغوص إلى العمق الذي يشكّل الواقع من أجل معرفة الواقع الحقيقي، وهذا ما يفرض التشكيك في الصورة التي تنتشر في الإعلام، ومن ثم البحث عن الآليات “المنطقية” والعملية التي تسمح بالغوص إلى عمق الواقع.
طبعا يبقى تلقي “الصورة” أسهل من الشك فيها والبحث عن الواقع الحقيقي، ولهذا حين يسود “الكسل الفكري” يصبح تعميم “الصورة” سهلا، وهذا ما تعمل على أساسه مجموعات المصالح، وأصحاب المنظورات الأيديولوجية. وبالتالي يسود “منطق القطيع”، فتنساق قطاعات خلف “الصورة” بالضبط لأنها معممة. أي أنها تصبح حقيقية فقط لأنها معممة وليس لأنها مطابقة للواقع، حيث يمنع “الكسل الفكري” السؤال عن مدى مطابقة الصورة للواقع.
هذا العيب يطال قطاعا كبيرا من “النخب” و”السياسيين” المخضرمين. ولهذا نجد أنهم ينساقون خلف “الصورة النمطية” التي يشكلها الإعلام، ليس فيما يخص الوضع السوري فقط، فهذه عاهة عامة، كانت في أساس فشل هؤلاء وتهميشهم وهامشيتهم. وفي الغالب يخرج السؤال عن الوضع السوري من بين هؤلاء.
لكن الذين ينحازون دون سؤال لمصلحة قبول “الصورة النمطية” عن الواقع السوري هم القطاع الأكبر، خصوصا هنا ممن يعتقد بأنه “يسار”، رغم أن هذا “التعامل النمطي” مع الصورة هو في تضاد مع كل يسار، لأن النقد والشك والبحث والعلمية هي من سمات اليسار الأصيل، فالماركسي يبدأ من التأكيد على أن هذه “صورة إعلامية”، ليطرح السؤال حول ماهية الواقع الحقيقي؟ وهذا ما ليس قائما، ليس فيما يخص الوضع السوري فقط بل فيما يخص كل وضع.
لهذا حين يُطرح السؤال حول، أين هي الثورة؟ يمكن أن نعود لوقائع قائمة يتناولها الإعلام بشكل عابر أو هامشي، أو لا يتناولها لأنها لا تخدم “الصورة النمطية” التي يطرحها، أو تطرح من قبل جهات دولية معنية، مثل منظمات حقوق الإنسان أو الأمم المتحدة، أو غيرها (رغم أن طرحها هنا يجعلها مجال تشكيك من قبل الذين يدعمون السلطة). لكن هناك وقائع لا يمكن التشكيك فيها، وهذا ما يمكن أن نشير إليه، لكنها لا تحظى بالتحليل والتدقيق فتضيع في زحمة “الصورة النمطية”.
حين نتحدث عن مئات آلاف المعتقلين مثلا، وربما يكون التقدير أن عدد الذين اعتقلوا قد تجاوز المليون، ومن ما زال في السجن يتجاوز مائتي ألف، ومن أعلن أنه جرت تصفيته في السجن بلغ الـ11 ألف معتقل. ألا يشير ذلك إلى أن النقمة الشعبية كبيرة؟ وأن من يخوض الصراع ضد النظام أعداد كبيرة من الشعب استلزمت اعتقال هذه الأعداد، وفرضت التخلص من جزء منهم؟ وأن عملية الاعتقالات لم تتوقف إلى الآن بل إنها مستمرة، وتطال ليس فقط المسلحين في الغالب (حيث هم خارج سيطرة السلطة) بل الشباب المدني الناشط في الإعلام أو الإغاثة أو التظاهر، أو أي نشاط شعبي آخر؟
وهؤلاء الناشطون يتعرضون كذلك للاعتقال والتصفية من قبل تنظيم داعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة. وبالتالي إذا كان الإعلام لا يركز على هؤلاء ويركز فقط على “المسلحين” (خصوصا الأصوليين) يمكن لمتابعة عمليات الاعتقال أن تكشف الحراك الشعبي وتوضح استمراريته. فالحراك مستمر في دمشق والساحل وكل المناطق التي تسيطر عليها السلطة، وهو حراك “مدني”. ومن ثم هناك مئات الآلاف التي تقاوم السلطة بشكل غير مسلح، وتنشط بأشكال مختلفة، من الإعلام إلى الإغاثة إلى التظاهر إلى أشكال أخرى تعبّر عن مقاومة السلطة.
ثم إن الذين يحملون السلاح ضد النظام يتجاوزون المائتي ألف، يمكن أن نقول إن من ضمنهم بضعة آلاف من الذين قدموا من الخارج (أي من “الجهاديين”)، لكن معظم هؤلاء من قطاع الشباب الذي تظاهر طيلة الأشهر الأولى من الثورة، وهو يواجَه بالرصاص والوحشية التي تمارسها الأجهزة الأمنية والشبيحة. وبغض النظر عن الأسباب التي دفعته لحمل السلاح (رغم أن الوحشية التي مارستها السلطة، والتي كانت مقصودة لدفع الشباب إلى حمل السلاح، على أساس أن السلطة هي الأقوى هنا، وبالتالي تستطيع حسم الصراع المسلح)، وعن العدد الذي انضم إلى الأصوليين (أحرار الشام والجبهة الإسلامية عموما، والنصرة، وحتى داعش) فإن الكتلة الأساسية منه هي فئات شعبية شكلت كتائب مسلحة ذات طابع مناطقي، معتقدة أن هذا الخيار هو الخيار الذي يسقط النظام بعد أن جرّبت “السلمية” ووجهت بالرصاص والعنف.
وبالتالي، فبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع حمل السلاح فإن هؤلاء هم مئات الآلاف من الشعب الذي يريد إسقاط النظام.
أظن أن هذه وتلك تشكّل كتلة كبيرة من الشعب الذي يقاوم السلطة، ويريد إسقاطها، ومن ثم هل نعتقد بأن الذين هُدمت بيوتهم أو اضطروا للنزوح نتيجة وحشية العنف الذي تمارسه السلطة (قصف الطيران، وصواريخ سكود بعيدة المدى، والقصف المدفعي، والبراميل المتفجرة التي تلقى عشوائيا لأنه ليس من الممكن توجيهها، والأسلحة الكيميائية التي ثبت استخدامها من قبل السلطة)، هل نعتقد بأن هؤلاء هم مع السلطة؟
ربما كان بعضهم مع السلطة لكن هذه الوحشية لا تسمح بأن يبقى كذلك، وحتى في الساحل السوري الذي يستخدم أبناؤه في القتل وكل الوحشية التي نشاهدها، يختزنون نقمة عالية نتيجة زجهم في صراع لا يخدمهم بل يخدم السلطة التي لم يكونوا معها. هؤلاء يتجاوز عددهم عشرة ملايين سوري. ولن أتناول قطاعات الشعب الأخرى، لكن سأشير إلى أن كل هؤلاء الذين تحدثنا عنهم هم من هذه القطاعات.
على العكس من ذلك سنلمس تقلص القاعدة الاجتماعية للسلطة، وانحسارها في فئات متخوفة أكثر مما هي مقتنعة، وأخرى تشعر أنها في مأزق وتريد الخروج منه. وهؤلاء هم من البرجوازية التجارية الدمشقية الحلبية خصوصا، ومن بعض الفئات الوسطى التي كانت تستفيد من النمط الاقتصادي الذي خلقته مافيا السلطة، ومن بعض الأقليات المتخوفة من البديل (المسيحيون والعلويون خصوصا).
وسنلاحظ الآن بأن من يقاتل حماية للنظام هي قوى خارجية (حزب الله والمليشيات الطائفية العراقية والحرس الثوري الإيراني، وأشتات من “الشيعة” من اليمن والباكستان وأفغانستان، ومن روسيا وغيرها)، بينما ضعفت مقدرته العسكرية، خصوصا بعد أن تهمشت قاعدته الاجتماعية.
هذا الواقع يجد جذوره في الواقع الاقتصادي الذي حكم الوضع قبيل الثورة وكان في أساس انفجارها (بعكس كل تخريف الليبراليين)، حيث كانت نسبة البطالة 30-33% من القوى العاملة، والفارق بين الحد الأدنى للأجور الضروري للعيش والحد الأدنى الفعلي هو 5 إلى 1 (الفعلي كان ستة آلاف ليرة سورية، والضروري كان 31 ألف ليرة حسب دراسات الدولة).
وكانت الزراعة قد انهارت بعد اكتمال الانفتاح الاقتصادي وسيادة اللبرلة، حيث كان هناك مليون فلاح ترك أرضه سنة 2010 من منطقة الجزيرة وهي الأغنى زراعيا في سوريا، وبيعت الصناعات التابعة للقطاع العام أو أهملت، وقادت المنافسة مع السلع القادمة من الصين وتركيا إلى انهيار قطاعات صناعية عديدة، منها الصناعة الأهم في سوريا والمنطقة، أي صناعة الغزل والنسيج.
ونتيجة لذلك أصبح الاقتصاد ريعيا يقوم على الخدمات والعقارات والسياحة والاستيراد. بينما تمركزت الثروة بيد أقلية تحالفت في “شركة الشام القابضة” واستحوذت على 60 إلى 70% من الاقتصاد السوري (عائلة مخلوف والأسد وشاليش استحوذت وحدها على 30% من الاقتصاد). وكل هذه الأرقام من مصادر لم تكن معارضة للسلطة، وهي منشورة ومتداولة لمن يريد المعرفة.
ولا بد من الإشارة إلى أن الذين يحملون السلاح أو ينشطون بأشكال متعددة هم في الغالب من هؤلاء المفقرين، سواء العاطلين عن العمل أو الذين يتحصّلون على أجر لا يكفي العيش. فهي ثورة الطبقات المهمشة والمفقرة بكل جدارة، لأن هؤلاء هم الذين واجهوا الرصاص في التظاهرات السلمية، ومن ثم انتقلوا إلى حمل السلاح بعد تصاعد وحشية السلطة.
إذن، أليس هذا الوضع هو المشابه للوضع المصري والتونسي والمغربي واليمني والجزائري والأردني وكل البلدان العربية وحتى بلدان الأطراف؟ وهو الوضع الذي فجّر الثورات؟
لكن المشكلة في الوضع السوري أن الصراع تعقد نتيجة وحشية السلطة وتماسكها لفترة طويلة (سنتين تقريبا)، والحماية الفعلية له من قبل إيران وروسيا، وفي المقابل التخريب الذي مارسه “أصدقاء الشعب السوري” من أجل تشويه الثورة.
وهذا يفرض فهم الوضع العالمي والخوف العالمي من الثورات، وكيفية اشتغاله على دعم وحشية النظام السوري لكي يمارس كل الوحشية التي ظهر فيها، بهدف تخويف الشعوب وثنيها عن التفكير في الثورة، وهي تعاني من الأوضاع التي عانت منها الدول التي شهدت الثورات.
هنا يكمن تعقيد الثورة السورية، التعقيد الذي يفرض العودة إلى البحث في الوضع العالمي ودراسة مصالح الدول والقوى، وفهم المغزى الذي استفادته من الانتشار السريع للثورات من تونس إلى سوريا. ومن ثم كيف تعاملت مع الوضع السوري؟
الجزيرة نت

 

هل داعشنا مسالم.. وداعشهم مجرم؟/ برهان غليون
الحسابات الأميركية لما يجري في الأراضي العراقية، تختلف تماما عن الحسابات العربية وتحديدا الخليجية، فالأولى تبحث عن مصالحها، والثانية تنظر إلى إنقاذ العروبة المستباحة لذلك البلد، وعدم انجراره إلى المستنقع ذاته الذي وصل إليه الحال في سورية
مساكين أنتم أيها السوريون؟ فبلادكم لا تتربع على نفط ولا تستقر على غاز.. أعظم ما في أرضكم التاريخ، والتاريخ لا بواكي له في عهد باتت المصلحة ولا شيء غيرها، هي المتحكم بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.. 4 سنوات مضت، وحالكم على ما هو عليه.. قتل، تدمير، قصف، تهجير.. لاجئون بالملايين ونازحون بمثل أعدادهم.. قصة لم يشأ لها القدر بعد أن تنتهي.. ويبدو أنها لن تنتهي.
اليوم، الأزمة السورية بكل ما حملته من دمار، وبكل ما أشعلته من نار، تراجعت في عدد من الحسابات الدولية إلى الأزمة رقم 2، بعد التهاب الوضع في أراضي الجارة العراقية، التي تعيش واقعا مماثلا من حيث “المظلومية” من نظام حكم استبدادي، مع اختلاف النظرة الدولية وتحديدا الأميركية لما يجري.. فأميركا التي قدمت العراق على طبق من ذهب للإيرانيين ووكلائهم، لا تريد أن تفقد ميزة الديموقراطية المزعومة التي قدمتها، حفاظا على مصالحها ابتداء، وحفظا لماء وجهها أمام العالم والعرب انتهاء.
بعد المباحثات التي أجراها كل من وزيري خارجية السعودية سعود الفيصل وروسيا “سيرجي لافروف”، يمكن القول بأن هناك توافقا بين الرياض وموسكو على دفع الأزمة السورية نحو الحل على أساس “جنيف1″، والذي من أبرز مبادئه تحقيق انتقال سياسي للسلطة في سورية لا يكون لنظام الحكم الحالي “الأسد” دور فيه. ولكن اللافت فيما خرج منه ذلك الاجتماع التأكيد على تركيز الجهود الحالية لإنقاذ الوضع في العراق.
ومن المعلوم أن الحسابات الأميركية لما يجري في الأراضي العراقية، تختلف تماما عن الحسابات العربية وتحديدا الخليجية، فالأولى تبحث عن مصالحها، والثانية تنظر إلى إنقاذ العروبة المستباحة لذلك البلد، وعدم انجراره إلى المستنقع ذاته الذي وصل إليه الحال في سورية، فالأزمة في بدايتها، ومع قليل من الضغط يمكن أن تأخذ مسارا مختلفا يكون للقوى الدولية والإقليمية والعربية دور أكبر فيها.
الأمر اللافت، فيما يجري في كل من سورية والعراق، أن الولايات المتحدة الأميركية تعاملت وفق سياسة الكيل بمكيالين المعروفة عنها أصلا، في التعامل مع تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”. فالتنظيم موجود في سورية كما هو موجود في العراق، بل إن نشاطه على أراضي الشام يفوق بمراحل نشاطه في بلاد الرافدين، وعلى الرغم من ذلك، تجاهلت داعش الشام والتفتت لداعش العراق!!، والسؤال هو: هل داعشهم وحده المجرم وداعشنا مسالم لهذه الدرجة؟
ومما يدلل على هذا الطرح، ما تسرّب من لقاءات وزير الخارجية الأميركي جون كيري الباريسية، بحسب مصادر فرنسية، والتي ذهبت إلى أن الولايات المتحدة حسمت أمرها في مسألة توجيه ضربات عسكرية للحراك المسلح في العراق، وهي لا تميز بين مكوناته المختلفة، ولا تأخذ في عين الاعتبار مطالبه المشروعة، ولذا فإنها تعد الموجود على الأرض اليوم هو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، ويأتي ذلك مع العلم أن الولايات المتحدة لم تحاول توجيه ضربة لداعش في سورية، ولا للنظام، كما أنها لم تكتف بعدم حماية المدنيين من قصف النظام، بل منعت حلفاءها من تزويد الثوار السوريين بالسلاح، وهو ما فسره النظام كضوء أخضر له ليفعل ما شاء ضد الشعب السوري في الوقت الذي تزايدت فيه قوة داعش.
غريب هو موقف الولايات المتحدة الأميركية، فهي في الأزمة السورية سبق وأن لوح رئيسها باراك أوباما باللجوء إلى القوة العسكرية في حال استخدم نظام الأسد السلاح الكيماوي.. الكيماوي استخدم لأكثر من 60 مرة.. أوباما لم يحرك ساكنا. وفي هذه الأثناء تهرول واشنطن صوب العراق مهددة باستخدام الطائرات من دون طيار لتوجيه ضربات عسكرية لمن تصفهم بـ”داعش”، وهو ما ترجمته عمليات بتسيير عدة طلعات جوية استخباراتية في الأجواء العراقية خلال الأيام الماضية.
الواقع في كل من سورية والعراق، محزن جدا، فعلى طريق نظيره السوري السيئ الصيت، لا يزال رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مصراً على أنه غير مسؤول، وأن العراق بخير، وأن الحق على الآخرين المتآمرين عليه، السعوديين والأتراك والسنة والكرد ومنافسيه من السياسيين الشيعة أيضا، وأن تسديد الحساب الوحيد لهؤلاء الخونة لا يكون إلا بإعمال السيف، وإلقاء مزيد من البراميل المتفجرة على رؤوس السكان الآمنين، وتلقين القاصي والداني درس القتل الجماعي، واستباحة الحرمات والأعراض، حتى يتم ردع المعتدين من العراقيين المرتدين، وكيل الصاع صاعين لحماتهم الحاسدين والناقمين، والاستقواء بالنفير الطائفي وثارات الحسين. سبق وأن كتبت في صفحتي على الفيس بوك، أنه “في ثقافتنا السياسية المرتبطة بعصر مديد من سيطرة أنظمة الاستيلاء والحكم بالإكراه، المحكومون هم المسؤولون عن كل ما يحصل من أخطاء وكوارث. وهم الذين يدفعون الثمن، ولو لم يكن لهم فيها لا ناقة ولا جمل. أما الحاكمون فغير مسؤولين، لأن المسؤولية تعني القبول بالمساءلة تجاه طرف آخر، وهم لا يشعرون بأن عليهم واجباً تجاه محكوميهم، فهم لا يدينون بوجودهم في الحكم لشعوبهم، وإنما لأزلامهم وسيفهم. ولا يمكن لمن فرض نفسه بقوة السلاح أن يقبل تقديم حساب لأحد، أو أن يخضع نفسه لمساءلة ومحاسبة ممن هزمهم بسيفه، وأخضعهم بقوته، فما بالك بأن يعترف أمامهم بأخطائه، ويقبل بدفع ثمنها لهم؟”. لقد بلغ الحال بمنطقتنا، حدا مخيفا، حدا يتمنى الشخص فيه أي شخص أن ينام ويستيقظ ليجد كل قطر عربي ينعم بالأمن والأمان، بلا أنظمة استبداد وبلا إرهاب، وحتى يأتي ذلك اليوم نبتهل بأن ينعم الجميع بهذا الرمضان بالسلامة والتآخي، وتعود سورية لأحضان أبنائها الحقيقيين دولة مؤسسات تؤمن بالتعددية وتحتوي كل القوميات.
الوطن

 

معاصَرة سايكس ـ بيكو: إرث كولونيالي يستأنفه استبداد عربي/ صبحي حديدي
حين انطلقت الانتفاضة الشعبية السورية، في آذار (مارس) 2011، وشرعت في هزّ أركان نظام استبداد وفساد، عائلي وتوريثي، يعتمد سياسة الحشد الطائفي والمكوّنات الميليشياتية؛ كانت موجات «الربيع العربي» قد انتقلت إلى المشرق، للمرّة الأولى، فاقتضت سلسلة تنويعات، وتبدّلات جوهرية، في الموقف من الحراك الجماهيري العريض، لم تقترن بردود أفعال مماثلة تجاه انتفاضات تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين. توفّرت مواقف «الممانعة»، اللفظية والسياسية أوّلاً؛ ثمّ تطورت هذه إلى اصطفافات عسكرية ومذهبية، عند «حزب الله» اللبناني، و»الحرس الثوري» الإيراني، وغلاة الشيعة من مهووسي العراق خاصة. كما شاعت، من جانب النظام ذاته في البدء، ثمّ في صفوف مناصريه عموماً، حكاية «مؤامرة صهيو ـ أمريكية»، تتولى تنفيذها السعودية وقطر وتركيا، مباشرة او عن طريق وكلاء محليين.
كذلك تصاعدت، ثالثاً، نغمة «سايكس ـ بيكو جديد»، مفادها أنّ إسقاط النظام السوري هو مسعى استعماري معاصر لإعادة ترسيم خرائط تقاسم المشرق العربي، كما وضعها الدبلوماسيان، الفرنسي والبريطاني، سنة 1916 (بمباركة روسية، للتذكير). وفي هذه الأيام، حين صار شبح «داعش» يجوس مساحات شاسعة في سوريا والعراق، ويهدد بالانتقال إلى أكثر من جوار؛ تعالت نغمة معاكسة في الواقع، لا تخلو من مفارقة دراماتيكية: أنّ هذا التنظيم الإسلامي، الإرهابي والمتطرّف ـ وليس أيّ تنظيم «قومي»، أو «علماني»، أو «ممانع» مناهض للإمبريالية… ـ هو الذي شرع في تحطيم خرائط الاستعمار القديم!
عظيم الفائدة، هنا، أن يعود المرء إلى مشاهد سالفة حفظها تاريخ المنطقة، في هذا الملفّ تحديداً، وفي باطن حوليات الاستعمار القديم؛ الذي لا يلوح انه تقادم بمعنى طيّ الصفحة، بقدر إعادة إنتاجها بأيدٍ مشتركة هذه المرّة: قوى «الاستعمار الجديد»، لمَنْ تستهويه التسمية؛ بالتكاتف مع، والاعتماد الكبير على، أنظمة الاستبداد والفساد المحلية.
وخير، في تحقيق مقدار أقصى من مصداقية السرد الاستعمارية، واستخلاص دروس راهنة من تلك المشهديات المنصرمة، أن يعتمد المرء على مذكرات شاهد من أهلها: الضابط البريطاني هارولد دكسون (1881 ـ 1959)، المولود في بيروت لأب كان قنصل بريطانيا في لبنان، والذي تربى في دمشق، ورضع حليب سيدة بدوية من قبائل عنزة؛ وتولى، بعدئذ، سلسلة مهامّ في الهند والبحرين وإيران والخليج العربي، وكتب عدداً من المؤلفات حول العرب والبداوة والنفط، بينها كتابه الأشهر «الكويت وجاراتها»، 1956.
ودكسون، في أحد فصول كتابه ذاك، يروي حكاية مؤتمر العقير، الذي عُقد في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 1922، على شواطىء الحسا، جنوب البحرين، بدعوة من السير بيرسي زكريا كوكس، المقيم ثمّ المفوّض البريطاني في الخليج.
حضر المؤتمر عبد العزيز بن سعود، ممثلاً لنجد؛ وصبيح نشأت، وزير الأشغال والمواصلات العراقي؛ والوكيل السياسي البريطاني الرائد ج. ك. مور، ممثلاً للكويت. في تلك الحقبة كان ابن سعود يرفض حدود بلاده، كما نصّت عليها الاتفاقية الأنغلو ـ عثمانية لعام 1913؛ وبالتالي كان «الإخوان»، ميليشيات ابن سعود في مصطلحات عصرنا، يواصلون شنّ غاراتهم على الكويت؛ لا سيما بعد أن دحروا العثمانيين وقوّات ابن رشيد، وسقط جبل سحر الذي كان العائق الوحيد أمام تقدّمهم إلى حدود العراق.
تخاصم المندوبان العربيان طويلاً، وبدا واضحاً منذ الساعات الأولى أنّ المباحثات تدور فعلياً بين نجد والعراق: ابن سعود أعلن أنّ حدوده تمتد حتى نهاية نهر الفرات، على أساس تبعية قبيلتَيْ «العمارات» و»الظفير» له؛ ونشأت، من جانبه، جزم بأنّ حكومة العراق لن تقبل بأيّ حدود لا تفصل بلده عن الفرات مسافة مئتي ميل على الأقل. أمين الريحاني، الذي حضر المؤتمر مرافقاً لابن سعود، وروى بعض تفاصيله في كتابه «ملوك العرب»، أوجز تكتيك التفاوض العربي هكذا: «لنفرض أن شيخين من مشايخ العرب اختلفا على الحدود بينهما. الخلاف بسيط يمكن حسمه بوساطة شخص ثالث من البلاد، فإن الإنكليز يتدخلون في الأمر فيعقده مأمورهم أو وكيلهم السياسي فيصبح السلم بين المتخاصمين مستحيلاً. أما الحقّ في ذلك فليس على المأمور الإنكليزي وحده، كلا، العرب أنفسهم يشاركون في الذنب. كلا الشيخين المتخاصمين يقول في نفسه لا بدّ أن يتحزّب المأمور الإنكليزي إما لي أو عليّ، وهذا أكيد. هي عادة الإنكليز في تدخلاتهم كلها، فيضاعف العربي مطالبه عشرة اضعاف ولسان حاله يقول: إذا كان الإنكليز معي فيعطوني حقّي وزيادة، وإذا كانوا عليّ فيعطوني في الأقلّ بعض ما أطلبه ولا بدّ أن يكون فيه شيء من حقّي».
دام الجدل بين المندوبين العربيين (إذْ لزم البريطاني، مندوب الكويت، الصمت المطبق طيلة المفاوضات!) خمسة أيام، دون طائل؛ وفي اليوم السادس نفد صبر كوكس، وأبلغ الرجلين أنهما لن يتوصلا إلى اتفاق حتى بعد عام كامل. ثمّ عقد خلوة مع ابن سعود، يصفها دكسون هكذا (ص 274): «قال السير كوكس إنه ضاق ذرعاً بما أسماه الموقف الطفولي لابن سعود، في فكرته عن الحدود على أساس القبيلة. لم تكن عربية السير بيرسي جيدة، فتوليت الترجمة. ولقد كان من المدهش رؤية سلطان نجد وهو يتعرض لتوبيخ المندوب السامي وكأنه تلميذ مدرسة مشاغب، وأن يتمّ إبلاغه بأنّ السير كوكس سوف يقرر بنفسه نمط الحدود وخطها العام. انتهى المأزق هنا، وأوشك ابن سعود على الانهيار، وتهدج صوته وهو يقول إنّ السير بيرسي هو أبوه وأمّه، وهو الذي ربّاه وصنعه من العدم، وأوصله إلى المركز الذي يحتله، وأنه سيتخلى عن نصف مملكته، لا بل مملكته كلها، إذا أمر السير بيرسي».
بعد ذلك أخرج كوكس خارطة شبه الجزيرة العربية، ورسم بقلم أحمر خطاً امتدّ من الخليج إلى جبل عنيزان قرب حدود الأردن؛ صانعاً بذلك، وللمرّة الأولى في تاريخ المنطقة، خطّ حدود يفصل منطقة نجد عن كلّ من العراق والكويت. كما أعطى ثلثي أرض الكويت لنجد، معللاً ذلك بأنّ سلطة أحمد الجابر بن الصباح في الصحراء كانت أدنى بكثير ممّا خُيّل لصانعي الاتفاقية الأنغلو ـ عثمانية. وإلى جنوب وغرب الكويت رسم كوكس منطقتين، أعلن أنهما ستكونان محايدتين (واحدة للعراق، وأخرى للكويت)، بحيث يكون للطرفين حقّ في النفط المتوقع. وبالطبع، أدرك بن الصباح عقم الاعتراض على الترتيب، فصادق على اتفاقية العقير، وشفع رسالة المصادقة بعبارة رقيقة أيضاً: «من صميم القلب أشكر فخامة المندوب السامي على مساعيه الحميدة»!
ويبقى أنّ مساحة الذاكرة الكولونيالية حافلة بمشاهد مماثلة، تكررت هنا وهناك، مع هذا الباشا أو ذلك السلطان، ومع سردار مرّة، أو شيخ أو قائمقام مرّات؛ وهذه هي الصورة الصادقة لعلاقة الزعيم المحلي التابع، ثمّ خَلَفه الدكتاتور الانقلابي، بالسيّد الكولونيالي؛ القديم، المتجدد، سواء بسواء. وإذا صحّ أنّ حدود سايكس ـ بيكو هي إرث كولونيالي بامتياز، أو هكذا ابتدأ؛ فالصحيح، في المقابل، أنّ أنظمة الفساد والاستبداد العربية هي التي استأنفتها، بل جعلتها معاصرة على نحو أكثر انحطاطاً، وأضافت إليها ترسيمات حدود طائفية ومذهبية أبشع عواقبَ ممّا تخيّل مارك سايكس وفرنسوا بيكو.
هكذا تقول عقيرة «ممانع» منافق يستعيد نغمة اتفاقية 1916، للدفاع عن نظام بشار الأسد؛ وهكذا تقول جرّافة «الخليفة» البغدادي الداعشي، في تنويع محتوى النفاق إياه؛ وما بدّلوا تبديلا!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي
كولاج داعش المخيلة السوداء/ غسان المفلح
أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) اليوم الأحد، “قيام الخلافة الإسلامية”، وبايع زعيمه عبدالله ابراهيم الملقب بأبو بكر البغدادي “خليفة للمسلمين”.وكان البغدادي تحول الى ظاهرة مع اعلان قيام التنظيم في العراق، بعد انشقاقه عن تنظيم “القاعدة” وزعيمه ايمن الظواهري. كيف يتحول شخص لظاهرة؟ ألا تحتاج القصة لحامل دولي أو اقليمي؟ قبل أن يضم قادة داعش الملثمين، شذاذ الظلام، الشام إلى اسم دولتهم، لتصبح دولة العراق والشام الاسلامية، بعد أن كانت فقط دولة العراق الاسلامية. قبل ذلك كانت محاصرة في الريف السني العراقي، لا تستطيع الخروج للعلن، لايوجد لها منفذ إلا مخابرات الاسد كي يدعمها لوجستيا، ويمرر لها مجاهديها. من الصعب محاكاة واقع داعش العملي، دون الخوض بجانب قلما تم التطرق له في الواقع، والذي يتعلق بتلك المخيلة، التي وضعت تصوراتها في إنتاج تنظيم كداعش، وتحويله من مجرد فكرة أو تصور ما إلى واقع مجسد. فكرة تستلهم سيناريوهات سوداء هووليودية، ما تمارسه ومارسته، نجده في ممارسات شبيحة الاسد وجيشه ومخابراته، في السنة الأولى للثورة وقبل ظهور هذه الداعش في سورية. مقطع فيديو مسرب يوثق إعدام داعش 3 شبان يرجح أنهم من الجيش السوري الحر، إضافة إلى مكان إخفاء جثثهم في منطقة اسمها “الهوتة” وهي وادي عميق يقع في محافظة الرقة، حيث علق أحدهم على المقطع قائلا إن “المكان صار معروفا لسكان الرقة جميعآ الكبير والصغير. أي واحد يختفي ولا أحد يدري أين مكانه، أول شي يقوم به أهل المفقود البحث عنه في هذا المكان (الهوته)”. تأسيس داعش على هذه الشاكلة، وباخراج تلفزيوني على طريقة أفلام الرعب، يجعل من الفرجة، مقدمة لموقف سياسي، هذه الفرجة نتاج حداثوي لمجتمع حداثوي لأن الصورة هنا، رسالة إلى مجتمعات الدول الفاعلة في العالم. لهذا داعش هي منتج معاصر..وددت عمل هذا الكولاج بعد ان اعلنت داعش مبايعة البغدادي، واقامة دولة الخلافة الاسلامية- غسان المفلح. “أن يُنسب السوريون أو العراقيون إلى تنظيم غامض النشأة والرعاية أمر أسهل من نسبهم إلى شخصيات معارِضة معروفة الإمكانيات والارتباطات، وهو بالتأكيد أسهل من النظر إلى كل منهما بوصفه شعباً لا يُقاد كقطيع. في أحسن الأحوال، سيُقال إن “داعش” قد ملأت الفراغ، أي أن الشعوب الكائنة في هذا الحيّز الجغرافي لا تعدو كونها فراغاً. نعم، ما أسهل القول بأننا جميعاً “داعش”، وبأننا ما خرجنا على الحاكم المستبدّ إلا لنعاني في ما بعد من وطأة فراغنا القاتل، كأننا الثقب الأسود للكون.. الأسود الذي يليق به “داعش”!- عمر قدور. ” ما كان ممكن تظهر الخلافة على أيد قوة إجرامية ويصير خليفة المسلمين قاتل غامض لولا أن الإسلامين طوال عقود لعبوا بالإسلام وتلاعبوا، وزايدوا عى بعضهم وغيرهم فيه. بالأخير إجا واحد قلبو قوي وجاب صولد. وتفضلوا يا إخونا ويا سلفيين ويا قرضاوي ويا حزب التحرير ويا وهابيين بالخليج وغيره… وبايعوا خليفة المسلمين.ويا قاعدة كمان! مو صرلكم عمر تحكوا على عظمة دولة الإسلام والخلافة الإسلامية؟ يستحق البغدادي الشكر فعلا. عم يحط نقطة النهاية لهاللعب القاتل والعاطل”. – يا سين الحاج صالح باحث سوري. “قبل احتلال الرقة، كان الوعد بعدالة الإسلام يخفف وطأة الخوف من وحشية مَن يدّعون احتكاره. وعندما جاءت “داعش”، تبيّن أن أتباعها يقتلون المسلمين باسم دينٍ لا يعرفون شيئاً عنه، يمارسون عكس ما يأمر به وينهى عنه. ساد الرقة جو من الارتياح، بعد خروج النظام منها، إلا أنه حل محله خوف مزلزل بعد دخول مَن كان منتظراً أن يبعث الأمن والطمأنينة في نفوس مواطنيها، لو أنه اقتدى بالرسول (ص)، ولم يكن خارجاً عن أي دين، أو معتقد، كجماعة “داعش”.- ميشيل كيلو- معارض وباحث سوري. من تابع سلوك داعش في كل أماكن تواجدها، سيجد ان 99% من تقتلتهم داعش هم من السنة عربا أو كردا. إذا كان مفاجئاً لنا أن ننام ونصحو فنرى “داعش” قد سيطر على أجزاء واسعة من العراق، فالمفاجأة الأكبر أن نفيق ونصحو لنكتشف أننا جميعاً قد أصبحنا “داعش”. لتفنيد الشطر الأول من المفاجأة لن يكون مفيداً القول بأن تنظيم “داعش” ليس وحده الذي خاض العمليات الحربية في محافظة نينوى، فعلى الرغم من قول الكثير عن الجهات المناوئة للمالكي، وعن أحقية الأهالي بالمشاركة في قيادة بلدهم وصنع مستقبلهم بلا إقصاء أو تهميش، إلا أن مارد “داعش” العجيب يبقى هو المفضّل لدى وسائل الإعلام. هو “رامبو” الشرق الذي يتضخّم بانتظار الإجهاز عليه من قبل رامبو الأميركي بالتعاون مع شقيقه الإيراني”. – عمر قدور كاتب سوري. ” لو أن دولتكم “الوطنية” “الحديثة” نجحت لما فكر أحد من المسلمين بالعودة إلى دولة الخلافة.. فكروا بعلاج حداثتكم المريضة أولا قبل أن تفكروا بعلاج أمراض المسلمين!- الكاتب مصطفى الجرف. “لا، لم يأتِ إعلان داعش عن قيام الدولة الإسلامية وعن “تعيين” خليفة جديد للمسلمين جميعاً كتطور فريد من نوعه في أزمنتنا الحديثة، لكنه مع ذلك ليس بالتطور العادي، إذ من المتوقع أن يستجيب عدد لابأس به من الحركات الجهادية حول العالم لدعوة داعش لها لإعلان البيعة للخليفة البغدادي، بل لاشك عندي في أن قادتها سيسارعون إلى تقديم فروض السمع والطاعة لـ “أمير مؤمنين” عصرنا هذا” – عمار عبد الحميد ناشط سياسي. ” الوقوف بوجه داعش و أخواتها، لا يختلف عن الوقوف بوجه الخسيس و أعوانه”. – الباحثة السورية خولة حسن الحديد. ” بس يعلنوا دولة ولاية الفقيه بالقسم الجنوبي الغربي من سوريا رح يعملوا علاقات دبلوماسية مع الدولة الاسلامية بالقسم الشمالي الشرقي ورح يبعتولهن بهجت سليمان سفير “. رشا عمران شاعرة سورية. ” ياالله.. شو أنا مكيّف بقصة الخلافة، والله حلوة!! بكرا بنرجع نروح عبلاد الشام ع الجمال، وبنتظر جيش خالد ابو الوليد ليمر ياخذنا معه على القادسية، لنغزي بلاد فارس المجوس، بالرمح والترس والسيف والكدش، ومن بعدها لنفتح بلاد الروم الكفرة، ونعيد مجد الاندلس، ولحق ع انتصارات…” – مروان حمزة ناشط سياسي.. ” الخليفة أصله عراقي، وبغداد العاصمة… حنا أهل سوريا شكارنا بيهم؟!!”. – الناشط مسعود عكو. ” بعد قيام دولة الخلافة تحت مسمى الدولة الإسلامية، أتمنى على الأصدقاء وغيرهم ممن صرعونا بضرورة قيام هكذا دولة، بل وحتمية قيامها، أن يحزموا حقائبهم إليها مضمرين في قلوبهم نية النصرة للدولة التي طالما حلموا بها. وذلك كخطوة يصدقون فيها ما عاهدوا أنفسهم عليه، بدلا من تواجدهم على أبواب سفارات الدول الغربية، التي ينعتونها بالكافرة، طلبا للفيزا و سعيا للجوء!”- طريف الخياط اعلامي سوري. “اعلان داعش هو حالة خدمية فوق كثير من القدرة على الرؤية البسيطة للعامة. حالة خدمية، تشرع كل الأبواب أمام سيناريوهات التقسيم المتفق عليها ضمناً/ إيرانياً أمريكياً روسياً، ومحصلةً، إسرائيلياً. تحبط كل الحالات الثورية السابقة والقائمة. وتعين على ما تم التصريح عنه من قبل أوباما حول رأيه بالمعارضة.. ثم تفتح بوابة جديدة لترميم الأنظمة التي (كادت) أن تنتهي، لم تنتهِ…… الأنظمة التي تخدم المشروع السابق الذكر. الأهم برأيي: هي الخطوة الفعلية في طريق تفتيت كل القدرات الممكنة للمعارضات وعلى كل المستويات. لقد غابت. بل ضاعت، كل الرؤى والشعارات والأهداف التي قامت الثورة السورية من أجلها… أيضاً: هي بذلك كله، بداية صوملة أكبر من تلك الصوملة.. صوملة مستحيلة ومستعصية.- سهل حوران فوزي غزلان شاعر سوري. ” اذا كان الخليفة البغدادي القرشي قد اعلن خلافته الميمونة في اول رمضان فهل يعلن الولي الفقيه عودة المنتظَر في ختامه؟. – بشير هلال باحث لبناني. “بمناسبة إعلان دولة الخلافة للمحروس البغدادي ما بيطلعلكن تشمتو يا مؤيدين باعتبار بشاركم مازال خليفة الوحوش والمسوخ والمعتوهين نفسياً على هذه الأرض وكل إجرام الدواعش ما بيطلع نقطة ببحرو.”- زويا بستان ناشطة سورية. “داعش و ما أدراك ما داعش اموت و في نفسي شيء من داعش؟ من مؤسسها؟ من ممولها؟ من الداعم او الداعمين لها؟ هل ستلقي امريكا أمراءهم في البحر أسوة بإبن لادن بعد انتهاء مهمتهم الموكلة لهم ،،،، و بعدها تعطيهم جوازات سفر و تغير اسماءهم و تغير من أشكالهم و يعيشون مثل بقية الناس ( طبعا هذا الوضع بالنسبة لابن لادن و مثبت هذا الشيء )- ماراح نخلص بيكفي، زحمة بحر ناشطة سورية.. “معلومة مهمة ومفيدة لكل شخص معرض للتوقيف من قبل داعش.بعد تعيين داعش للبغدادي خليفة لنا جميعاً، ألغت داعش إسمها القديم ( الدولة الإسلامية في العراق والشام ) وصار إسمها: الدولة الإسلامية. فقط.”- احمد كامل اعلامي فلسطيني- سوري. “اعلان الخلافة في هذا الوقت ما هو الا تعزيز لادعاءات بشار بانه يحارب الارهاب و التطرف وتلميع لصورة المجرم كحامي للاقليات لا اكثر ولا اقل.. نقطة انتهى”.- جيهان المشعان قاصة سوري. ” الخلافة التي طرحت مؤخرًا, تجاوز لمفهوم الدولة المعاصرة, لمصلحة مفهوم استبدادي غامض. وهو تجاوز لهذا الزمن, بمفاهيمه ومعارفه وأفكاره, لمصلحة كانتون مغلق, لا يدخله إلا فئة من البشر, خاضعين, تحت حد السيف”. – آرام كربيت روائي سوري ومعتقل سابق. “شكر خاص لخليفة المسلمين الجديد “مولانا البغدادي”، فبفضل حضوره الميمون سيكتشف المسلم العادي أهمية الاصلاح الديني الذي يحتاجه كي نصل الى دولة الخلافة الحقيقية”. – ميخائيل سعد كاتب سوري. ” إعلان الخلافة الهدف منه تكتيل التحالف المضاد الذي سيضرب ويجتاح الجيب العربي السني من الموصل إلى حلب.المشروع الإيراني المخابراتي الأسدي المالكي مستمر.”.- ابراهيم الجبين كاتب سوري. مواقف الدول تتابعونها عبر الاعلام.
ايلاف

 

دولة “داعش” ترحّب بكم/ إبرهيم اليوسف
لا أعرف ما سر هذا التوارد في ذاكرتي. كلما ذُكر مصطلح “داعش”، مضى بي هذا المسخ الوليد الذي هو نتاج نطفة العصبية القميئة، بأقبح أشكالها، بعدما خرجت من تحت جمر التسعير الطائفي في المنطقة، كي أستذكر عساكر دجال الذين طالما سمعتُ عنهم في طفولتي المبكرة، كما سواي أيضاً. وهكذا بالنسبة لـ”يأجوج” و”مأجوج” وما يستثيره اسماهما من بشاعة طالما تم التحدث عنها، على اعتبار كليهما قوى القبح والشرور. بل إن اسم دجال ليستثير في الذاكرة “خراب العالم” كما هو في مخيال العوام، وهو اسم يحمل كل دلالات السوء والجور والوحشية، كما هي حال اليآجيج والمآجيج، وهم يعلقون حتى بـ”متون” النصوص الدينية السموية، كأسماء شخوص أو أمكنة!
اذا تمكن أحدنا، وتغلب على استنفار حساسيته، إلى ما بعد درجة التحمل، واطلع على ما يتوافر من وثائق مصورة، أو حتى مدونة، لتدريب التكفيريين، على أشكال الذبح الآدمي، عبر بروفات حية، في بعض عناوينها – من دون أن نسمّيها – علم أن هذا الجيل اللادني أو “اللا ديني” الرابع قد استطاع أن يتجاوز سلفه بنشر الإرهاب، على رغم أن من كان يعد الأرومة انطلق من حرفية “النص” وراح يتذرع به، وهو يواصل قبح الإجرام. بيد أننا الآن أمام جيل خاوٍ، معرفياً، راح يتلقى ثقافته، شفهياً، من جهّال ماكرين، مخادعين، مأجورين. هكذا يزول عجبنا، عندما نقرأ مذكرات بريجنسكي وهو يتحدث عن اثنتي عشرة زيارة له، للشرق الأوسط، لاستيلاد نواة الإرهاب الأولى التي انقلب كلٌّ منها على الآخر، وأدت الى التضحية بابن لادن، من دون أن تنتهي دوامة الإرهاب، حيث لما تزل دماء الأبرياء تجري، بعدما وضعت نسختها “الجديدة” سوريا، نصب عينيها.
إعادة العلاقة بين “داعش” وأرومته الإرهابية “القاعدة”، ليست بدعة من أحد- والبدعة مدعاة تكفير لدى هؤلاء- وإنما من يقرأ الموقع الإلكتروني للجماعة، وهو مرتبط بالشبكة العنكبوتية التي تراقب حركاتها بعض الدول الكبرى التي تحصي دقات قلوب الناس، ومكالماتهم الهاتفية، وما يجري في غرف نومهم، ومطابخهم، وحافلاتهم، وحفلاتهم، يجد أن تنظيم “داعش” يتحدث بصراحة عن علاقة النسب الإرهابي هذا، ويراه قدوة له، وما على المقتدي هنا إلا الحلم بأن يكون وفياً في السير على درب المقتدى، بل وتجاوزه، أنى استطاع إلى ذلك ذبحاً وفظاعات ودماراً.
يحتاج الباحث في شؤون انتهاكات “داعش” للاستعانة بشبكة من راصدي ما يجري من انتهاكات رهيبة في معسكراتهم التي يتولى أمراء جهلة، كفرة بحق الله، والإنسان، أمر تعذيب من يقع في شباكهم. ما أسهل أن يستعرض أحد هؤلاء قوة سكّينه في نحر امرئ من الوريد إلى الوريد، لمجرد أنه يخطئ في معرفة أعداد ركعات الصلوات الخمس، ولعل كثيرين منهم لم يعرفوها، قبل تجنيدهم، في خلايا الإرهاب، وقيامهم بهذه المهمة البغيضة. على النقيض من ذلك كله، فإنهم لا يوفرون رجال الدين العلماء، بل إنهم قتلوا بضعة عشر رجل دين في نينوى، لأنهم لم يبايعوهم، وراحوا يدمرون بعض الكنائس في الموصل، كما أساؤوا إلى كنائس الرقة، هذا قد يبدو عادياً أمام إعلان هؤلاء الكفرة، محاسبة كل من لا يقدم غير المتزوجات لأخيها المجاهد، كما حدث في الموصل التي تم فيها ذبح رجال أكثر من بيت، من أجل إنجاح سلاسة اغتصاب حرّاته، أو ذبح عدد من المسيحيات بسبب عدم وضعهن “الحجاب”، أو اختطاف أعداد من طلبة العلم، ممن أكثرهم دون سن الخامسة عشرة من أعمارهم، لمجرد أنهم كرد. لن نتحدث عن عمليات السطو على البنوك، أو بيوت الناس، أو تهديد الآمنين، أو القيام بأعمال انتحارية بين المدنيين، أو التجرؤ بنسف، وتدمير، وتحطيم، مقابر بعض من خدموا الإسلام، وحرق عظامهم، كما وجدنا ذلك في عدد من الأمكنة التي مرَّ بها هؤلاء.
أدوات إحراق المنطقة، استكملت، تماماً، واستطاع من يحركون الدمى، في المسرح- وهم من تصامموا وتعاموا من أجل استمرار نظام الأسد في تدمير سوريا وإبادة السوريين- إيصال الأمور إلى هذا المنزلق الخطير، بل الهاوية، وهنا، نحن أمام “لعنة سورية”، من دون أن يعلم هؤلاء أنه لن ينجو منها أحد. حيث أن دماء الضحايا الأبرياء، ما كانت لتسيل منذ آذار 2011 حتى الآن، لولا أن هناك تواطؤاً أممياً، سواء من لدن من هم علنيو “الفيتوات” أو من الصامتين على استمرارها. وهنا، فإن اسم أوباما، لن يذكره التاريخ السوري كأحد المتخاذلين، المساومين على دماء أبنائه، بل كأحد الشركاء الفعليين، لكل ما تم، ويتم، وهو ما ينسحب على اللاعبين الدوليين او الإقليميين، صغاراً وكباراً.
ربّ متشفّ، قائل: أيها السوريون، انظروا إلى المصير الذي وصلتم إليه، وهو موقف ينطوي على مكر مبطن، أو علني، لأنه يزكّي السفّاح الأسد، متعامياً عن مجازره المفتوحة، في حق السوريين. وكأن هؤلاء اليآجيج والمآجيج، بل ومن شابهوهم، من الظلاميين السابقين عليهم، والموازين معهم، لم ينبثقوا من دماغه، ولم يكن هو حاضنتهم الأولى، حيث بين أيدي متابعي حراك الثورة السورية ألوف الأدلة الدامغة التي تبيّن أن هؤلاء المرتزقة، الأفاقين، لم يكونوا أكثرا من آزروا عصابة الأسد، وعملوا على اختراق الثورة، وتشويه صورتها، بل وحاربوا من يمثلون الثورة في وجهها الصحيح، ووجهتها الصحيحة، كي تبدو منحرفة عن مسارها الذي خططه لها شباب الثورة في المدن السورية كافة.
أمام غزو علوج “داعش”، وفلوله، بعض المدن والقرى، في دولتين متجاورتين، هما العراق وسوريا، من دون أن يترددوا في إعلان رغبتهم في توسيع دائرة رقعتهم، – كما حدث مع تهديدهم الأردن- فإن هؤلاء لا يفتأون يعلنون نياتهم “بعث” الخلافة الإسلامية، من دون أن يضعوا في الاعتبار الفاصل الزمني بين لحظتهم وأخيلتهم المرجعية، بل ومن دون إيلاء أي أهمية للتحولات التي استجابت لها “نسخة الإسلام المتماشي مع عجلة الزمن”، بل من دون أن يكونوا في الأصل مهيئين، ليكونوا حملة الإسلام، نظراً لجهلهم، وعيش من هم في أفضل الأحوال من عداد أساتيذهم في سراب الماضي الوحشي، ما قبل الجاهلي.
بل إن عبارة “داعش ترحّب بكم” التي انطلق منها عنوان هذا المقال، تأتي مواربة لعبارة أخرى، تترجم، واقعاً، وهي “داعش في انتظار رؤوسكم”، أو “رقابكم” لجزّها، أو نسائكم لمناكحتها “جهادياً”، وهو أعظم انتهاك لإنسانيتنا جميعاً، على رغم كل ما يبدو من خلاف بيننا، هنا أو هناك.
لمن يستغرب مثل هذا القول، عليه أن يقرأ المنشور الذي وزعه “داعش” في مدينة قامشلي قبل أيام، ومرّ بشكل سلس، كما كل الجرائم التي تتم في سوريا، على رغم ما في هذا البيان من تهديد بـ”الإبادة” للكرد والمسيحيين الكفرة، وحض على السطو على ممتلكاتهم، وسبي نسائهم، ونحن على بعد مسافات زمنية طويلة من ثقافة الغزوات القبيحة. كأن هناك من يريد الإجهاز على صورة الإسلام من جهة، بفك أواخر عراه، بل تشويه صورته، أمام ديموقراطية الغرب، وهو أحد أشكال التآمر على الإسلام نفسه، ناهيك برائحة الحقد الطائفي، الديني، بل والشوفيني، لما يتضمنه من حض بغيض على الانتقام من الكرد، ليكونوا أول الضحايا على أيدي جيرانهم المسلمين.
كما أننا قد نجد من يعوّل على “داعش”، لداع كيدي، ثأري، من سواه، ممن آلت إليه دفة الحكم، بعدما كانت حكراً عليه، فحسب. وهو بهذا يمارس فعل مشاركة “داعش” في أحطِّ نمط سلوكي، مهما كانت دوافعه إلى ذلك، وهي دوافع لا علاقة لها بـ”الثورة” على المستبد، المستنسخ عنه، بل لجعل “داعش” معبراً لإعادة استنساخ استبدادي جديد، مهما كان ثمن ذلك من كوارث، وخراب، وويلات. بل ولا خلاف بينه، ومن يسقط في فخ “داعش”، ليكون “حاضنته” في هذه الرقعة الجغرافية، أو تلك، من أجل مكاسب آنية. وهو سلوك ينجم عن هاتيك البطانة التي كان يسخرها لخدمة خططه السفاح بنسخته السورية، الموروثة أباً عن ابن، أو العراقية في نموذجيها الصدامي والمالكي، وهما وجهان لعملة واحدة.
ثمة مسؤولية أخلاقية وقانونية كونية تبدو، الآن، أمام استشراء هذا الوباء الداعشي، ما يدعو العالم كله للتحرك، لأن استمرار هذه العصابات القذرة في مسرح المنطقة، وهم يعيثون تجهيلاً، وفاحشة، وهتكاً للحرمات، وزهقاً للأرواح البريئة، لأنهم لا يمكن أن يتحركوا من دون أن يكون هناك من يسندهم، أو يخطط لهم، إقليمياً، وعربياً، وإسلامياً، ودولياً، لذلك فإنه لمن الضروري أن يكون أحرار العمارة الواحدة، في حالة استنفار قصوى، ولا بد من اكتمال عدة المواجهة الجادة، لوضع حد لهذه الزوابع الظلامية التي باتت تدوي في أكثر من خيط سير، كي تكون حكمة العقل، مع مهارة الإعلام، مع استخدام كل ما يلزم من تقانات، وأدوات مواجهة، وإلا فإن على أميركا- وهي إحدى هذه الجهات- أن تعلن استقالتها من قيادة العالم، لأن الكرة الأرضية قد غدت الآن على حافة السقوط في مصير مأسوي.

*”حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ، قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا”.
(من سورة الكهف)
النهار

 

عن تلك الخلافة الواهية…/ علي العبدالله
اعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام عن ميلاد دولته: الدولة الإسلامية، بحدود تشمل اراضي كل من سورية والعراق ولبنان والأردن والكويت، وبايع قائده ابو بكر البغدادي خليفة للمسلمين، مطلقاً عليه صفات كثيرة وكبيرة: الشيخ، المجاهد، العالم، العامل، العابد، الإمام، الهمام، المجدد، سليل بيت النبوة، عبدالله بن ابراهيم بن عواد بن ابراهيم بن علي بن محمد البدري القرشي الهاشمي الحسيني. ودعا المسلمين الى مبايعته. فما هي شروط ومرتكزات قيام الخلافة واختيار الخليفة التي تم التعارف عليها في اطار التجربة الإسلامية، وهل تحققت في بيعة داعش لأبي بكر البغدادي؟.
عرف قيام الدولة الإسلامية الأولى، دولة المدينة، مراحل ومحطات مفصلية بدأت بالدعوة السرية وكسب الأنصار والمؤمنين، ومواجهة العنت على ايدي زعماء المشركين من قريش، والهجرة الى الحبشة هرباً من الأذى وحماية لأوائل المسلمين، ثم الهجرة الى يثرب (اصبح اسمها في ما بعد المدينة المنورة) حيث العزوة التي وفرها المؤمنون هناك، أطلق عليها المؤرخون مرحلة الاستضعاف. ثم دخلت التجربة في مرحلة توازن قوّى جسدها صلح الحديبية، الذي لم يستمر طويلاً لأن المشركين ادركوا، بعد فوات الأوان، انه يعمل في مصلحة الدعوة الجديدة فنقضوه، وأعطوا المسلمين الذريعة لفتح مكة. وقد اطلق على هذه المرحلة مرحلة التمكين.
بعد فتح مكة وخضوع قريش وقبائل عربية في محيط مكة والمدينة للدعوة الجديدة ودخولها في الإسلام، عن قناعة او عن تسليم، بدأ النبي (عليه الصلاة والسلام) في وضع اللبنات الأولى للسلطة والتصرف ليس كنبي فحسب بل وكرئيس جماعة/سلطة/نظام/دولة، فأرسل الرسل الى قبائل الجزيرة ودول الجوار يدعوها الى الدين الجديد والدخول في رعاية الدولة الوليدة، وسيّر الجيوش لتأديب المعتدين، وأطلق حركة الفتح، التي كانت القاعدة السائدة بين الدول القائمة آنذاك فحيث تصل سنابك خيلك فتلك ارضك وذاك شعبك، وبسط سيطرته على معظم الجزيرة العربية وبعض بلاد الشام والعراق ودخول ابناء هذه المناطق في الدين الجديد قبل ان يتوفى.
اذا أخذنا هذه التجربة كحالة معيارية اسلامية فإن الدولة التي اعلنها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) لم تتوافر على أي من شروط التمكن، وبالتالي ليس لها مقومات النجاح والاستمرار. فلا هي على وفاق مع المجتمع/الشعب الذي ستحكمه، وقد اعلنت ما اعلنته من دون حد ادنى من التوافق والتفاهم والقبول والرضا، فالمناخ العام في هذا المجتمع/الشعب سلبي ان لم يكن معادياً، كما اعلنت ذلك من دون أي محاولة لكسب ود او تأييد شعبي، بل اعلنته تحت الترهيب بالسيف والقتل والتهديد بالقتل عبر آلية التكفير. ولا هي قادرة على توفير مستلزمات الحياة اليومية للشعب ولا ضمان الأمن والاستقرار وحماية الحدود حيث لاتزال في حالة حرب مع قوى ودول أكبر وأقوى ولم تحقق التفوق الذي يوفر الأمن والاستقرار لكيانها الضعيف ما يجعلها عرضة لهزائم وخسائر ستؤدي في النهاية الى جر البلاد للدمار والشعب الى التهلكة والدولة الى الانهيار.
اما على صعيد اختيار الخليفة فقد استقر موقف الفقهاء على تشكيل هيئة اهل الحل والعقد من المسلمين الأكفاء والعدول، واختيارها لشخص الخليفة على ان يكون متمتعاً بالصحة العقلية والبدنية وفقيهاً في امور الدين، ومبايعته ثم دعوة جموع المسلمين في المدينة المنورة الى مبايعته وإذا وافق سكان المدينة على الشخص وتمت المبايعة بنجاح يقوم الولاة في الأمصار بأخذ البيعة له في مناطقهم. وهذا يستدعي اولاً تشكيل هيئة اهل الحل والعقد من المسلمين الأكفاء وتعلن لعامة المسلمين وثانياً تجتمع الهيئة وتختار شخص الخليفة وتبايعه ثم تقدمه لعامة المسلمين وتطلب منهم مبايعته او رفضه في ضوء حق الأمة في اختيار الإمام/الخليفة. وهنا نجد، من دون كبير عناء، عدم تحقق أي من هذه الشروط والمراحل، فلا هيئة أهل الحل والعقد معروفة للحكم على جدارتها وأهليتها من عموم المسلمين (اذا كان ثمة هيئة بايعت فهي هيئة حزبية لا يعتد بها ولا يقبل اختيارها) ولا توفر شرط التحقق من اهلية الشخص الذي تمت مبايعته من قبل هيئة اهل الحل والعقد. فالشخص لم يحضر امامها حتى تتم البيعة بعد ان يتأكدوا من توافر الشروط الصحية والعقلية المطلوبة ويختبروا قدراته في مجال التفقه في امور الدين، وغير معروف لعموم المسلمين حتى يتحققوا من اهليته ومن صحة الاختيار ويبايعوا وهم على بينة من امرهم.
هذا على خلفية القبول بفكرة الخلافة وبصلاحيتها كنمط للحكم في بلادنا وفي هذه المرحلة من تاريخها، فما بالك اذا كان النمط ذاته غير مقبول او محل نقاش ومراجعة، فإن العملية برمتها تصبح لاغية ولا تستحق بذل جهد في تقييمها والتأكد من توافر الشروط والمحددات المتعارف عليها في اطار السياسة الشرعية.
* كاتب سوري
الحياة
عذراً مولانا الخليفة: لا رعية لك في أرضنا/ عمر قدور
في الجانب السوري لـ «داعش»، غالباً ما تنصرف التحليلات إلى غربة التنظيم عن السكان، وإلى الاختلاف الشديد بين قراءته الإسلام والتدين المحلي المعتدل. وإذا بدا الأخير قابلاً للانزياح إلى التطرف، دائماً وفق التقديرات النظرية، فالتطرف يُردّ إلى الشعور العام بالخذلان من السياسات الدولية إزاء الثورة، وبخاصة إزاء المقتلة السورية المتواصلة بواسطة النظام.
الفارق بين التحليلين أن الأول يجزم بألا مستقبل لـ «داعش» وأشباهه في سورية، بينما يتوخى الثاني الحذر من إطلاق لأحكام النهائية فيبدو السوريون مرشحين ليكونوا حاضنة للتطرف، بما يتفق أيضاً مع ما هو سائد في المنظور الغربي للمسألة.
في المقابل، ثمة اتفاق على أن الأجانب عماد «داعش» السوري، أي أن التنظيم لم ينجح حتى الآن في جذب قاعدة محلية ملحوظة من المجاهدين، ولعل هذا ما قد يفسر دعوة البغدادي المسلمين في العالم إلى الالتحاق بدولته، إذ من المرجح أن يقصد بدعوته المتطوعين للجهاد، بما أن أحداً سواهم لن يغامر بالمجيء إلى خلافة لم تتمكن بعد من تثبيت وجودها على الأرض.
قلة المجاهدين قد تُستخدم أيضاً كحجة لغربة التنظيم عن السوريين، استكمالاً لغربة أيديولوجيته عنهم، وكحجة لعدم قدرته على صياغة تحالفات وتسويات محلية أسوة بما فعلته جبهة النصرة في بعض مناطق النفوذ المشترك، حيث ستظهر الأخيرة أكثر مرونة وأقلمة لنفسها مع ما يُزعم أنه تدين محلي راسخ، مع أن الحافز الأكبر لقبول النصرة لدى الكثيرين يتوقف على مشاركتها الفعلية في الحرب ضد النظام وداعش.
إلا أن التصورات السابقة، مع امتلاكها قوة نظرية لا يُستهان بها، تبقى قاصرة ما لم يؤخذ الواقع السكاني السوري في الحسبان، وهو مختلف تماماً عن نظيره العراقي، وتبقى أيضاً قاصرة ما لم تؤخذ إستراتيجية داعش السورية في الحسبان، وهي مختلفة بحكم الضرورة عن نظيرتها العراقية.
كان أبو همام النجدي، أحد قادة «داعش»، أعلن استراتيجية التنظيم في سورية منذ حوالى تسعة أشهر والتي تنص على أن صراع التنظيم هو للسيطرة على «المناطق المحررة»، وحدد معركته بأنها ضد فصائل المعارضة التي لا تواليه في تلك المناطق. وكان النجدي واضحاً بالقول إن تلك الفصائل ستُطحن بين حجري الرحى، «داعش» من جهة والنظام من جهة أخرى. أما في العراق، فلم تكن هناك سابقاً مناطق خارجة عن سيطرة النظام، لذا شارك التنظيم في عملية «التحرير»، مع المسارعة إلى قطف ثمارها الإعلامية وتهميش المشاركين الآخرين.
العامل الأهم هو العامل السكاني، فالمناطق العراقية «المحررة» لم تشهد حتى الآن نزوحاً كبيراً على النحو الذي شهدته نظيرتها السورية. هنا يمكن القول إن المناطق المحررة السورية شبه خالية من السكان، والإحصاءات عمّا يقارب عشرة ملايين نازح في الداخل والخارج تشرح الواقع أفضل من الحديث النظري. أي أن الحديث عن بيئة محلية موالية أو معارضة لـ «داعش» هو كلام ينتمي إلى الافتراضات النظرية أكثر من انتمائه إلى الواقع السكاني الذي يلامس الصفر في بعض المناطق.
نحن بالأحرى نتحدث عن ساحة معركة بكل ما يحمله هذا الوصف.
أي كلام لا يلحظ واقع «المناطق المحررة» في سورية يبقى محض افتراض نظري، لا يقلل من ذلك أن طبيعة هذه المناطق المحاصرة تبتعد بها أحياناً عن الواقع الاعتيادي وخياراته الملائمة فتجبرها على الاقتراب من الافتراضات النظرية. لدينا بدايةً النقص الهائل في السكان، والدمار الهائل في الممتلكات الشخصية والعامة، ولدينا أيضاً النزوح التام لرؤوس الأموال. هذه المعطيات تجعل من الفئة الباقية «الصامدة»، كما يروق للبعض تسميتها، الفئةَ الأضعف في سلم القوى الاجتماعية، وهي فئة تحولت بحكم الدمار من قوة عمل إلى الشريحة الأكثر عوزاً بحكم الحصار الخارجي التام من قبل قوات النظام، وأحياناً بموجب استكمال الحصار من تجار الحرب في الداخل.
هكذا، لا يُستبعد بسبب الظروف المعيشية أن يكون الصراع أساساً بين التنظيمات العسكرية، فيخلو من بُعده الاجتماعي، ولا يُستبعد أن يكسب التطرف إذا كان هو الأكثر ثراء وجاذبية بالتسهيلات الغذائية التي يقدّمها. ما ينطبق على ما تبقى من السكان ينطبق أيضاً على المقاتلين الذين يتوسلون التسليح الأفضل والرواتب الأنسب لمعيشة عائلاتهم، وهذا ما يفسّر في العديد من الحالات تسربهم من تنظيماتهم الأصلية باتجاه تنظيمات أخرى. والعامل الأيديولوجي قد يقبع في ذيل قائمة الأولويات أمام متطلبات الأمر الواقع.
قوة داعش في المناطق الشرقية السورية لا يجوز أيضاً تبريرها بالدافع الأيديولوجي. فهي أسوة ببقية المناطق عانت تسرباً شديداً من السكان، لكنها تتميز عنها بحضور الملمح العشائري. ومن المعلوم أن مناطق العشائر كانت بعيدة لوقت طويل من الحراك الإسلامي، على العكس من المدن الكبرى. زعماء العشائر كانوا لحوالى أربعة عقود موالين لسلطة البعث، وهم أنفسهم الذين ظهروا في الصور يبايعون «داعش»، ولعل علاقتهم بالسلطة (أية سلطة) هي ما يشرح بيعتهم للنظام و «داعش» من دون الخوض في التكهنات عن العلاقة بين الطرفين الأخيرين. إلا أن هذه البيعة لا تعني أيضاً سيطرة للزعماء على أفراد عشائرهم، فهي بيعة رمزية خاصة لأن نزوح أبناء العشائر إلى الخارج لا يقل عن نزوح أبناء المدن والأرياف عموماً.
في الواقع، مهد النظام الأرض أمام «داعش»، لا على صعيد تهيئة التربة الملائمة للتطرف كما يُشاع، وإنما على صعيد حرق التربة نهائياً. المناطق المحررة التي تجهد داعش للسيطرة عليها أصبحت بمثابة أراضٍ خالية من كافة أنواع الاجتماع المعهود، ولذا ستكون السيطرة عليها رمزاً للقوة العسكرية فحسب، ولن تصبح في المدى المنظور بيئة حاضنة لأي حراك سياسي أو أيديولوجي كما قد يوحي بذلك بعض التحليلات النظرية. هذا الخواء هو بالضبط ما يناسب الأجهزة القمعية للنظام، وهو ما قد يساعد أنصار «داعش» على القول بأنها «باقية وتتمدد». لكن البيعة للخليفة شأن مختلف لأنها تفترض وجود رعية تقدّمها.
ليعذرنا الخليفة في هذه، إذ لم تبقَ لدينا رعية.
الحياة
الخلاف على الخلافة/ سلام الكواكبي
أعلنت مجموعة غامضة المنشأ والتطور والمآل، تسمى “داعش” أساساً، وفي التفسيرات الجارية الدولة الإسلامية في العراق والشام، قيامَ الخلافة أو عودتها، في ظلّ دهشة مصطنعةٍ، عبّرت عنها مجموعات حكومية، وأخرى سياسية، وثالثة أهلية ورابعة دينية.
وبعيداً عن القراءة المباشرة للأحداث، ومتابعتها بتفاصيلها وبتحولاتها المختلفة، وبعيداً عن التشفي غير الأخلاقي، الظاهر لدى مراقبين ومحللين، بمن آمن يوماً بأن تغييراً ديموقراطياً قابلٌ للحدوث في دول المنطقة، وبعيداً عن الشعور بالخيبة إلى حد الانهيار والتراخي لدى نخبةٍ، صدّقت، ذات نهار، بأنها ستعيش مستقبلاً أقل استبداداً وأكثر حرية وازدهاراً. وبعيداً عن عجزٍ مرضي، يُقارب حدود السادية لدى جهات أوروبية، حاكت واحتكت بكل أنماط الديكتاتوريات الدينية والمالية والعصاباتية والعسكرية، من دون أن يرفّ لها جفن أو إصبع، وبعيداً عن غموض أميركي، أوبامي المنشأ، لا غبار على ميوعته وانفصامه. وبعيداً عن تعنّت روسي، أسبغ عليه الصقيع السيبيري سينيكية متقدمة، وبعيداً عن مخطط إيراني هادئ المسار، على الرغم من ضحاياه، وبعيداً عن أدواتٍ متعسكرةٍ، أو متدينةٍ للقاصي وللداني في المشهد الإقليمي. وبعيداً عن سياسات تركيا المضطربة، وترشيحات أردوغان المقتربة، وبعيداً عن الصهيونية العالمية، ومخططاتها الاستيطانية والعنصرية التي ما فتئت تتغذّى، وتسمن طوراً بعد طور …..
بعيداً، إذن، عن هذا كله وذاك وما إلى ذلك، يُستحسن وضع مرآة واسعة المساحة، وواضحة الانعكاس أمام الخطاب الديني لأصحاب الشأن، أو من تنطّح ليكون صاحباً أو صديقاً أو راعياً أو دليلاً أو داعياً للشأن وأخواته.
فعملية التجهيل، وحظر التفكير، أو تقييده وتوجيهه باتجاهات سقيمة وغيبية وغرائبية، لم تتوقف منذ القرون الوسطى، حيث أغلق عنوة باب الفلسفة والتفكير والاجتهاد. والعودة إلى هذه العصور، تجعلنا لا نرمي بثقل اللائمة كله على أهل الاستبداد السياسي والديني المعاصرين، منا وفينا، على الرغم من آثامهم و”إنجازاتهم” المُميتة في جسد الفكر والمفكرين. فالعدل واجب، وتوزيع المسؤوليات حق.
ومن خلال وقفةٍ مؤلمةٍ على الأطلال، يطيب التذكير بتسميات أصحاب الديانات التوحيدية الثلاث، في زمن التنوير والإبداع الفكري، المستند على فهم صحيح وقراءة مؤنسنة لفعل الإيمان من أي وجهة أتى. وقد حادثني بهذا الشأن فيلسوف فرنسي واسع المعرفة وعميقها، عن عصر النور الذي عبر من خلاله عرب ومسلمون، وبعض من عايشهم وعاش معهم واعتاش منهم، روحاً وفكراً وجسداً. كان الحديث يجري، حسب صديقي أستاذ الفلسفة في كوليج دو فرانس، عن اليهود والمسيحيين والفلاسفة.
“أمام الصحراء الفكرية السائدة، والتي تتخللها واحات ضيقة الإمكانات ومحدودة التأثير، والتي سرعان ما تتحوّل إلى سراب مخيب أمام التحدي الأول، تنمو طفيليات متطرفة وإجرامية، بمسميّات مختلفة، محمّلة بالكره والبغض في غالبها، تستند إلى تشويه مقيتٍ، ولكنه فاعل، للنص المقدس”
أين غاب المسلمون إذاً؟ ما هذا الإجحاف والغبن الذي يرمي بثقله عليهم، وعلى إنجازاتهم وعلى فكرهم؟ أين الخطأ في هذا التوصيف؟ ربما كان هو عين الصواب، فالمقصود، أخيراً، هو أن المسلمين هم الفلاسفة. المسلمون هم فلاسفة العصر، ودينهم أوسع من أن يكون مجرد نصّ، يشابه نصوصاً أخرى، مهما علا شأنها. ومحاكات نخبهم وعلمائهم لهذا الدين كان جزءاً من العملية الفلسفية الراقية التي فهمت حقيقة النصوص، وغاصت في ماهية التعابير، بعيداً عن القشور والبدع.
الفلسفة التي كان السابقون يُبحرون في بحارها، من دون خوف من الغرق، أو من الإغراق، حُرمت عن أولادهم وأحفادهم لغايات سياسية واضحة. إنه سعي جلّي لتمكين السلطان ومساعدته، بأي لبوس تنكّر، على أن يسيطر على قوت الشعوب ومصيرها، تحت سطوته، وعلى شعوب أخرى، يسعى إلى تملّكها، إن هو استطاع إلى ذلك سبيلاً.
أمام الصحراء الفكرية السائدة، والتي تتخللها واحات ضيقة الإمكانات ومحدودة التأثير، والتي سرعان ما تتحوّل إلى سراب مخيب أمام التحدي الأول، تنمو طفيليات متطرفة وإجرامية، بمسميّات مختلفة، محمّلة بالكره والبغض في غالبها، تستند إلى تشويه مقيتٍ، ولكنه فاعل، للنص المقدس، وتعتمد على سياسوية شعبويةٍ، تجد أبعادها في ضعف الخطاب السياسي الواعي وفشله، مسنوداً إلى أنظمةٍ مستبدةٍ متطرفةٍ في سطوتها وانتهاكاتها، ارتضت أن تواجه متطرفين من لدنها، أو من معدنها، أو من تلاوينها، على أن تجادل معارضات سياسية، يمكن لها أن تنازعها الكرسي والمقام، أو أن تنتقص من سلبها الموصوف للشرعية.
دراساتٌ جديةٌ ولامعة كثيرة أشارت إلى الاستراتيجيات الاستعمارية والاستيطانية لهذه المجموعات الإرهابية، وكذلك، تمت الإشارة، مراراً، إلى الحواضن الاجتماعية الطبيعية، أو المصطنعة، والتي وجدت فيها هذه الزمر مرتعاً مجرثماً لتنمو، إلا أن مسؤولية رجال الفكر والتفكير، دينيين كانوا أم علمانيين، غابت بعض الشيء. ويمكن التركيز أكثر على أصحاب “العلم” الديني، ووسائلهم التوصيلية المتمكنة، وأدواتهم الوافرة في إيصال الوعي أو التجهيل، كلٌّ حسب ضميره. قنوات دينية عدّة، وندوات متكررة وفضاءات تعبير عديدة لا تقارن بإمكانات الآخرين ومساحات السماح لهم، غالبها يستعمل في غض الطرف عما يجري، وفي الابتعاد عن تحمّل مسؤولية التوعية والتنبيه.
مطلوبٌ من قادة الفكر الديني التنبّه إلى ما ينتظر المنطقة من مآلاتٍ ظلاميةٍ في ظل القحط الفكري السائد. إن الاعتكاف، أو الاستقالة، الآن، عن لعب دور إنقاذي، أمام مجتمعات عطشة، ومتشربة للخطاب الديني، مهما كان محرّفاً أو سويّاً، إساءة للدين وللإنسان.
العربي الجديد

 

دور إيراني في مكافحة الإرهاب/ فايز سارة
يدور منذ انطلاق الثورة السورية جدل في أوساط مختلفة حول دور إيران في مكافحة الإرهاب. وتصاعد الجدل أخيرا بالتزامن مع التطورات التي شهدها العراق، حيث تمدد حضور ونفوذ دولة العراق والشام (داعش)، التي وسعت مدى سيطرتها على مناطق كاملة في غرب العراق بالتوازي مع توسيع نفوذها وامتداده في شرق سوريا في إطار منطقة جغرافية وبشرية واحدة، مما يعكس تغييرات في اللوحة السياسية – العسكرية للعراق وسوريا، وسط تخوفات من امتداد «داعش» نحو بلدان قريبة، بينها لبنان.
وأساس الحديث عن دور إيران في مكافحة الإرهاب، رغبتها في لعب دور إقليمي في القضية، باعتبارها بوابة لإعادة صياغة الاصطفافات والتحالفات في المنطقة من جهة، ولتحسين علاقاتها الدولية من جهة أخرى، مما يسهل تمرير مشروعها النووي أو التقليل من حدة العداء له في الأوساط الدولية والغربية على وجه الخصوص.
وبالقرب من أهداف إيران، تقع مواقف الأخيرة في دعمها غير المحدود لنظام الأسد في سوريا، وتأييد سياساته بوصفه نظاما يحارب التطرف الأصولي «السني» وجماعاته، وهذا يقارب اصطفافها ودعمها نظام نوري المالكي في العراق الذي يزعم محاربة الإرهاب والعداء لجماعاته، رغم دوره المعروف المحاط بالالتباسات في دعم ومساندة نشاط الجماعات الأصولية المتطرفة في سوريا، التي تصنف «داعش» في مقدمتها.
ولا يمكن فصل الحديث حول دور إيران في مكافحة الإرهاب عن الملامح العامة لسياستها ومحتوى تلك السياسة وتعبيراتها. ولعل أبرز الملامح العامة في سياسة إيران منذ الثورة الخمينية هو استخدام القوة، ونشر الفوضى، وتنظيم الميليشيات في البلدان القريبة والمحيطة من أجل تحقيق أهداف طهران، حيث عجزت الوسائل السياسية والدبلوماسية وسياسة رشى الأنظمة بالمساعدات لتحقيق أهداف التمدد والسيطرة، التي تسعى إليها إيران إقليميا، ومن هذا السياق لعبت إيران دورا مركزيا في خلق ودعم الجماعات والميليشيات المسلحة في العراق وأفغانستان ثم في لبنان وغيرها، كما هو حال حزب الله اللبناني وقوات بدر العراقية ولواء أبو الفضل العباس وعشرات مثلها، لتصير أدوات لإيران في البلدان المحيطة والقريبة، وكان سلوك إيران في الجانب مدخلا رئيسا في تصنيفها في الموقع، إلى جانب نظامي صدام في العراق والأسد في سوريا، بين خمس دول تدعم الإرهاب في العالم.
وإذا كان نظام صدام انتهى في العراق إلى وريثه نوري المالكي، فإن الأنظمة الثلاثة ما زالت على خط دعم ومساندة الإرهاب الذي تلعب فيه إيران دورا مركزيا سواء بالتدخل فيه مباشرة أو بصورة غير مباشرة، والأمثلة أكثر من أن تحصى، ولعل مثالها البارز سياساتها وممارساتها في سوريا، إذ تدعم إرهاب النظام ضد السوريين بتقديم كل المساعدات السياسية والاقتصادية والعسكرية – الأمنية بما فيها إرسال عسكريين وخبراء وأسلحة وذخائر وتمول صفقاتها، وتزيد إلى ما سبق دفع أدواتها الميليشياوية للمشاركة المباشرة مع النظام في الحرب، على ما يظهر في تدخل حزب الله والميليشيات العراقية، وميليشيات نظمتها المخابرات الإيرانية من مرتزقة ولاجئين أفغان وغيرهم، ودفعتهم للقتال إلى جانب نظام الأسد، كما لعبت دورا في سياسة حكومة نوري المالكي في العراق حيال الوضع السوري وانتقاله من الصف المعادي لنظام بشار الأسد إلى دور الحليف والمساند لسياسته في مواجهة الثورة السورية.
ورغم وضوح سياسة إيران في ممارسة إرهاب الدولة ودعم الجماعات الإرهابية، فإن ضعف الموقف الدولي والإقليمي ولاعتبارات تتعلق بسياسات الدول الغربية ومنها الولايات المتحدة، فإن الإرهاب الإيراني ومثيله عند نظامي المالكي والأسد، لم ينالوا ما يستحقون من اهتمام وضرورة المواجهة الحاسمة، فيما جرى التركيز على إرهاب الجماعات الأصولية القاعدية ومنها «داعش» و«جبهة النصرة»، دون أن يؤدي ذلك التركيز إلى نتائج ملموسة في الحرب على هؤلاء من جهة، وشجع إرهاب الحلف الإيراني على الاستمرار والتصعيد من جهة أخرى.
وإذا كانت الحرب على الإرهاب قضية أساسية في السياسة العالمية، كما ينبغي أن تكون، فمن غير الجائز ولا المقبول، أن تكون فيها معايير مزدوجة، حيث الإرهاب هو الإرهاب سواء باشرته دول أو جماعات، وبغض النظر عن الخلفية الآيديولوجية أو الدينية – الطائفية أو السياسية، التي يستند إليها القائمون عليه أو به، وما يحيطونه من ادعاءات وشعارات أغلبها لا يستحق مجرد النظر إليه وفيه.
خلاصة القول، إن نظاما مثل نظام طهران غارق في سياسة الإرهاب المباشر وغير المباشر، لن يكون فاعلا في إطار مكافحة الإرهاب، والتعاون معه في قضية كهذه من شأنها تقوية الإرهاب وتعزيز وجوده، بل إن وضعا كهذا، يساهم في تكريس البيئة المولدة للإرهاب في المجالات الفكرية – الثقافية والاقتصادية – الاجتماعية، مما يجعل أي قول بمكافحة الإرهاب مجرد ادعاءات وأكاذيب، ومنها فكرة قيام إيران بدور في مكافحة الإرهاب.
فايز سارة
كاتب وصحافيّ سوريّ، وعضو الهيئة السيّاسيّة في الإئتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة حاليا ومستشار سياسي واعلاميّ لرئيس الإئتلاف
الشرق الأوسط

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى