بكر صدقيسعيد لحدوسلامة كيلةصفحات سوريةميشيل كيلوناصر الرباط

مقالات لكتاب سوريين تناولت داعش

 

 

 

المعركة بين داعش والنظام السوري/ ميشيل كيلو

هل انتهى شهر عسل النظام وداعش، وبدأ زمن المعارك والتطاحن العسكري والسياسي بينهما؟ تطرح جملة من التطورات التي وقعت، أخيراً، هذا السؤال علينا، وتتطلب تفسيرات تشرح ما قد يقع بينهما، بعد اليوم، من اقتتال طالما قيل إن نشوبه محال، بالنظر إلى تحالفهما الوثيق وتعاونهما الأكيد، ودور السلطة في مساندة التنظيم المتشدد، وتمكينه من احتلال مناطق عديدة، كان الجيش الحر قد حررها بغالي التضحيات، ودوره هو في المقابل في حمايتها والقتال إلى جانبها؟

أغلب الظن أن الحليفين سيبقيان متعاونين ضد الجيش الحر، حيث تكون لديه قوة تستطيع مواجهتهما، لكنهما سيدخلان، في المناطق الأخرى، إلى زمن اقتتال مفتوح وتنافس عدائي سيزيح فيه أحد الطرفين الطرف الآخر، بما يعنيه ذلك من انتهاء تفاهم علني ومضمر، دام عاماً كاملاً بينهما، انتهى بتراجع خطير في دور الجيش الحر ووجوده داخل الوضع السوري الراهن، بعد أن كان، إلى الأمس القريب، عدواً مشتركاً لهما، يصعب على أي منهما كسر شوكته بمفرده، من دون قتال مشترك ضده، ومبادرة كل منهما إلى تسهيل عمل الآخر.

واليوم، وبعدما تقلصت المنطقة التي يسيطر الجيش الحر عليها من 65% إلى 10% من الأرض السورية، تتكامل شروط انفجار الصراع بينهما، لأسباب منها أنهما يمثلان دولتين، تريد كل واحدة منهما فرض سيادتها المنفردة في الإطار السوري، وأن استحالة هذا المقصد تحتم نشوب الصراع، فالقتال عليه، وحسم هوية الجانب الذي سيستأثر به، بالقضاء على منافسه الذي صار عدواً لا سبيل إلى التعايش معه، يجعل تراجع الجيش الحر المواجهة بينهما حتمية ومباشرة، أكثر فأكثر، ومن المحال حسمها بغير القوة، نظراً للطابع الشمولي والاستبعادي لنظاميهما المتصارعين.

سنشهد، من الآن فصاعداً، محاولات سيقوم بها النظام لتقليص قوة داعش وانتشارها، وفي المقابل، سنرى محاولات معاكسة لاحتلال مناطق يمسك بها النظام، وينشر جيشه فيها. ولعل ما وقع في حقل الشاعر والفرقة 17 قرب الرقة يكون مؤشراً، واضح المعاني، إلى طبيعة الحقبة المقبلة، التي يعني انفجار صراع حليفي الأمس فيها أنهما صارا يعتقدان، كلاهما، أن تراجع الجيش الحر وخروجه المتزايد من المعركة بلغ حداً يسمح لهما بتخطيه، كقوة ميدانية ضاربة، تستطيع إحداث تبديل في علاقات القوة عامة، وعلاقات القوة بينهما بصورة خاصة، وأن التناقض الرئيس بدأ يصير تناقضهما الذي يجب أن يحل بالقوة، ما دام نمط حله هو الذي سيقرر مستقبل سورية، وهوية النظام المرشح لوضع يده عليها.

تنحدر سورية نحو صراع من نمطٍ مختلف، حده الأول دولة النظام والثاني دولة داعش، ستتلاشى فيه أكثر فأكثر قوة، وبالتالي مكانة تمثيلات الثورة العسكرية والسياسية من جيش حر وائتلاف، وستتبدل بتلاشيها هوية الحقل السياسي والعسكري السوري وطبيعته. هذا التطور سيضيف مفردات جديدة، شديدة القسوة والهمجية إلى علاقات القوى، وقد يأخذ بلادنا إلى حال لا مكان فيه لمعظم شعبها. والمشكلة أن تمثيلات الثورة من جيش حر وائتلاف لم تنتبه بعد إلى حقيقة ما يجري، ولم تخصه بما يستحق من أهمية ومواقف عملية فاعلة، وإن قياداتها تواصل صراعاتها على السلطة والنفوذ، متجاهلة أنه لن تقوم لها قائمة إطلاقاً، انتصر النظام أم داعش.

العربي الجديد

 

 

 

هوياتنا القاتلة وضرورة المراجعة الجذرية بعد “داعش”/ ناصر الرباط

مع تدهور الأوضاع في سورية والعراق وتحول حركات الاحتجاج في البلدين الشقيقين إلى حربين شرستين بين منظومتي اضطهاد مذهبيتين متضادتين، كثرت التكهنات، خصوصاً في الصحافة الغربية، بأن النهاية المرجحة ستكون انفراط عقد دول المشرق العربي بعمومها وإعادة تشكيل خريطة المنطقة وفقاً لتركيبتها المذهبية والعرقية والدينية.

بعض هذه التكهنات مبني على الوقائع العنيفة التي ما فتئت تتبلور على الأرض في سورية والعراق ولبنان وليبيا واليمن وحتى في فلسطين المذبوحة، والتي تشير إلى إعادة اصطفاف مذهبية وقبلية تهدد الحدود الوطنية القائمة اليوم باستبدالها بحدود جديدة مبنية على النسب أو العرق أو المذهب المشترك أو التدين المفرط والمفتعل.

بعض هذه التكهنات أيضاً يستند إلى قراءة التاريخ القريب والمعاصر على أنه تاريخ كولونيالي بامتياز، قطّع المنطقة العربية وفقاً لمصالحه، ولم تتمكن الدول العربية المستقلة من تجاوزه وتصحيح تداعياته الجغرافية والجيوسياسية، بخاصة منها التي أنتجها اتفاق سايكس-بيكو الذي قسّم الولايات العربية العثمانية بين فرنسا وبريطانيا عام ١٩١٦ وخلق منها دولاً ذات هويات وطنية ضعيفة، ووعد بلفور الذي تلاه عام ١٩١٧ والذي تعهدت فيه الحكومة البريطانية تسهيل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين مما أدى إلى ظهور قومية يهودية عنصرية توطنت في قلب المشرق العربي وساهمت في نخر هويته المهزوزة أصلاً. وبعض هذه التكهنات يعود الى تاريخ أقدم وأعمق ويسترجع نظريات بعض من أهم مؤرخي القرن العشرين من أمثال غرترود بل وفيليب حتي وكمال صليبي الذين نظّروا لتاريخ المنطقة وبشكل خاص تاريخ سورية الطبيعية على أنه سلسلة مستمرة من الصراع بين القبيلة والمدينة عجزت من خلاله أي من المنظومتين عن فرض رؤيتها وثقافتها وإقامة نظام اجتماعي وسياسي دائم.

لكن ما لم ينظّر له أي من المتكهنين هو ظهور دعوة الى هوية أوسع من دول المنطقة برمتها، دعوة تدّعي إحياء الخلافة التي ستشتمل في نهاية الأمر على العالم الإسلامي برمته. وما لم يتكهن به أحد هو صعود الحركة المشبوهة التي طرحت هذه الهوية الشاملة، «داعش» طبعاً، واشتمالها في وقت قصير على أراض في أكثر من بلد عربي، سورية والعراق بدءاً، إضافة إلى بيعات الولاء التي نسمع عنها تأتي من أنحاء مختلفة في العالم العربي، كالسودان مثلاً. وما زال أغلب المحللين محتارين في شرح هذه الظاهرة التي تتعارض وكل تكهنات الانفراط والتفكك، والتي فاجأت حساسياتهم وتحدت قناعاتهم الانتمائية والجيوسياسية. فبعضهم يراها مؤامرة تضافرت على خلقها قوى متنافرة من صهيونية وأميركية وخليجية وتركية وسلفية عالمية ما كان لها حقاً أن تجتمع على أمر كهذا. وبعضهم يرى فيها مسخاً أنشأته أجهزة المخابرات السورية وحكومة العراق المذهبية ومن خلفهما إيران وعملاؤها في المنطقة لتبرير طائفيتهم، ثم عادت وانقلبت عليهم، وهو رأي وإن كان فيه شيء من الصحة وفق ما تفيدنا المعلومات المتوافرة، إلا أنه لا يتطرق إلى الظروف التاريخية التي سمحت أصلاً بصعود هذه الأيديولوجية المتطرفة وانتشارها بين فئات مختلفة في المجتمع وليس بين المستضعفين فقط.

لا يكفي حقاً التشديد على أن قيادات «داعش» كلها أجنبية وأنها تدربت وتأهلت عقائدياً في معسكرات شبكة عالمية وغرّرت بشباب مقهور مسحوق شاهد تدمير حياته في سورية والعراق وانضم إليها نقمة أو عن منفعة. ولا يفيدنا في شيء إعادة تأكيد هوية الإسلام الحقيقية السمحة التي لا تمت إليها دعوة «داعش» بأي صلة أو طبيعة المجتمع السوري المسالمة والسمحة (ولا أعلم لم لا نسمع عن الطبيعة السمحة للمجتمع العراقي؟) التي لا يمكن أن تُنبت تطرفاً كـ «داعش». ولكنها مع ذلك احتوت «داعش» وغذتها وموّلتها ومدّتها بالرجال المحليين في الأنبار والشمال السوري المستعدين للموت في سبيل إيمان أعمى ومن دون تحقيق أي هدف ذي قيمة عسكرية. وهي كذلك تلقى قبولاً وتأييداً في مجتمعات إسلامية سنّية لا حرب أهلية فيها تبرر الميل المفرط إلى العنف الذي تمثله «داعش»، كمدن الأردن الفقيرة أو شمال لبنان المهمل من دولته.

فـ «داعش» ظاهرة يجب فهمها لئلا نبقى في إطار النفي المترفع عما يجتث كل ما له قيمة مدنية أو وطنية أو مجتمعية في بلادنا وفي مجتمعاتنا. وعلى ثقافتنا الدينية تخصيصاً أن تتمتع من الجرأة بما يسمح لها بأن تواجه مسخها هي، لا أن تلقي باللوم كاملاً على أعدائها (وهم كثر وشرسون ومستعدون طبعاً لاقتناص كل فرصة لهزيمتها). عليها أن تنقّب في تاريخها المعاصر والموغل في القدم في آن لفهم كيف يمكن ظاهرة كـ «داعش» أن تتخطى الهوية والأرض والدين والمجتمع، كما يدعي منتقدوها الكثر، وتتمكن مع ذلك من استخدام الهوية والأرض والدين والمجتمع في تمرير مفهومها لنفسها ولمركزها في المجتمع، وتلقى في ذلك قبولاً من بعض الأطراف المحلية وبعض المراجع الدينية وبعض الممولين العرب.

كفانا تهرباً من مسؤوليتنا الجمعية عما آلت إليه أحوالنا، وكفانا استكانة لقناعاتنا الخادعة بتسامح ثقافتنا ووسطية دياناتنا وتآلف مجتمعاتنا وتاريخنا المضيء الذي أنار العالم لقرون والذي لا يمكن قوى الظلام إطفاءه. فنحن الآن نمر بواحدة من أحلك لحظات تاريخنا منذ نشوء فكرة الأمة العربية أو الهويات الأصغر التي تحتويها (ولا أقصد هنا عصر القوميات الحديث بل ظهور فكرة العرب كأمة أنتجت الحضارة الإسلامية وأقامت أركان دولتها الأولى مباشرة بعد الدعوة المحمدية)، ولا يمكننا بحال من الأحوال أن نخرج منها من دون جرد حساب تاريخي لثقافتنا ومآلاتها ومعتقداتها وثوابتها ومراجعة نقدية ذاتية لمفاهيمنا عن أنفسنا وعن العالم من حولنا، هذا إذا كان فينا بقية من اعتقاد بهوية جمعية لا ترى في إحياء الخلافة على الطريقة الداعشية أصدق تمثيل لنفسها.

* أستاذ الآغا خان للعمارة الاسلامية، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

الحياة

 

 

 

 

 

وطنيات مستعادة في مواجهة “داعش”/ بكر صدقي

في عرسال أو في سنجار، أكثر ما يثير الخوف هو التعتيم الإعلامي الذي نعرف، بتجربتنا السورية، أنه عادةً ما يخفي من الفظاعات الكثير. وإذا كان التعتيم في سنجار يمكن إرجاعه إلى كونها منطقة جبلية نائية بعيدة من وسائل الإعلام، فهو في حالة عرسال اللبنانية إختياري وطوعي في بلد لم يتفوق على جواره العربي إلا بهامش واسع نسبياً من الحريات الإعلامية. الجيش اللبناني الذي تحول فجأةً إلى أيقونة وطنية جامعة، حظي في عمليته الأمنية ضد المسلحين الذين تسللوا إلى بلدة عرسال عبر الحدود السورية، بتأييد يعدّ سابقة من كل الفرقاء اللبنانيين، ومن قادة الرأي العام، فمرت مأساة الاثنين في مخيم النازحين السوريين، وقد حصدت 35 قتيلاً بينهم نساء وأطفال، مروراً باهتاً بالقياس إلى التركيز على أسرى الجيش اللبناني السبعة عشر الذين عاد بعضهم إلى أهاليهم في إطار التسوية التي تمت.

اشترط بعض المثقفين اللبنانيين دعمه الجيش اللبناني بوجوب الضغط على «حزب الله» ليسحب مقاتليه من سورية، مع معرفتهم بأن هذا لن يحصل إلا طرداً تحت ضغط مقاتلي المجموعات السورية المسلحة المعارضة لنظام الأسد، أو بقرار إيراني في إطار تسويات اقليمية واسعة تمتد من العراق إلى سورية ولبنان. هذا يعني، بصورة مداورة، أن دعم الجيش اللبناني غير مشروط بأي قيد، بما في ذلك ممارسة رقابة ذاتية على الإعلام.

يعرف جميع اللبنانيين أن النار التي امتدت إلى بلدهم، سواء في عرسال الجريحة أو في السيارات المفخخة التي انفجرت في الضاحية الجنوبية مراراً أو في الحرب المذهبية في طرابلس، لا يمكن اختزالها بـ «الإرهاب» المغفل لتكون المواجهة عسكرية محضة. ويعرف اللبنانيون أيضاً أن لمنظمات مُجمَعاً على أبلستها كـ «النصرة» و «داعش» خلايا لبنانية من صميم الاجتماع اللبناني، مثلها في ذلك مثل «حزب الله» المتغول على الدولة اللبنانية بسلاحه وظهيره الإيراني، والمنخرط في «الجهاد» الشيعي على الأرض السورية، من ضواحي دمشق جنوباً إلى حلب شمالاً.

لعلها روح وطنية لبنانية فشلت في الظهور في الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006، لتنجح أخيراً أمام خطر دولة «الخلافة» التي أُعلِنَ قيامها في الموصل.

كذلك تمددت قوات «الخليفة» البغدادي نحو بلدة سنجار النائية في محافظة الموصل، لتعلن النائبة اليزيدية فيان خليل في البرلمان العراقي أن أهلها يتعرضون على يد «داعش» لإبادة، وتسبى نساؤهم كجوارٍ. قوات «البيشمركة»، بعديدها الضعيف، فشلت في الدفاع عن سنجار وانسحبت، فعرض القائد الميداني لحزب العمال الكردستاني مراد قرة يلان على حكومة اقليم كردستان مشاركة قواته في صد هجوم «داعش» وتشكيل قيادة عسكرية مشتركة مع «البيشمركة». هذه أيضاً سابقة لافتة في العلاقة القائمة على خصومة مديدة بين مسعود بارزاني وحزب العمال الكردستاني. وثمة أخبار غير أكيدة عن وصول قوات حماية الشعب التابعة للفرع السوري للحزب الكردستاني إلى سنجار، وانخراطها في قتال قوات «الخليفة» البغدادي.

لم يقتصر «مفعول داعش» على توحيد الخصوم حول الوطنية الكردية المستجدة بين الخصمين المزمنين، الحزب الديموقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني، بل امتد إلى بغداد التي أعلنت حكومتها دعمها العسكري لـ «بيشمركة» خصمها بارزاني في مواجهة «داعش» في سنجار ومناطق أخرى، كأن «وطنية عراقية» تولد بعد الوطنيتين اللبنانية والكردية، وإن اقتصرت الأولى على المكونين الشيعي والكردي نابذةً المكون السنّي الذي ضاع في عجاج دولة «الخلافة» وصليل سيوف مقاتليها.

والحال أن المكون السنّي هذا، في لبنان وسورية بخــاصة، هو الذي يتصرف دائماً برائز التبرؤ من الإسلاميين الجهاديين، في مقابل وحدة شــيعية صلبة عابرة للحدود تمتد من إيران إلى ســـورية ولبنان فاليمن، لا يعكرها إلا بعض التشققات في العراق بدافع الصراع على الســـلطة المركزية في بغداد والتي باتت «بحكم العُرف» حكراً على الشيعة. لم يكن مفاجئاً، من زاوية النظر هذه، منع أهالي بلدة اللــــبوة قافلة المساعدات الإنــسانية التي كانت متجهة إلى جارتهم عرسال المحاصرة، تحت إشراف الجيش اللبناني. فهذا ما سبقهم إليه بعض سكان حمص الموالين لنظام الأسد في حق جيرانهم في المناطق المحاصرة.

أما في سورية فلم يقتصر الأمر على التبرؤ من الجهاديين، بل تعداه إلى إعلان الحرب عليهم، من قبل فصائل مسلحة، منذ مطلع 2014. لعله نوع من التطهير الذاتي الذي يخضع له السنّة طوعاً لأنهم، بصفتهم الأكثرية، لا بد أن يشكلوا العمود الفقري لأي وطنية سورية محتملة فشلت في الظهور إلى اليوم في مواجهة نظام الأسد الدموي، منذ اندلاع ثورة الحرية قبل ثلاث سنوات ونصف سنة.

الحياة

 

 

سعيد لحدو: داعشي حتى العظم مع وقف التنفيذ/ سعيد لحدو

مشكلتي أنني لا أملك الشجاعة الكافية التي تمكنني من النظر إلى إنسان ميت لأن صورته ستظل تلاحقني ليل نهار وتؤرق لي نومي. وحتى أخبار القتل ومشاهد الموت في التلفزيون ومقاطع الفيديو في شبكة الإنترنت أتحاشى أن أشاهدها كي لا تلازمني عقدة الذنب وكأنني مشارك بارتكاب ذلك الفعل الشنيع. فكيف سيكون الحال إذا تطلب مني الأمر نحر الرقاب وتعليق الرؤوس على عمود في الشارع أو رجم امرأة حتى الموت مهما كان ذنبها، وذلك أمام جمهرة من الناس على هدير صيحات الله أكبر!!!.ولو استطعت التغلب على هذه المشكلة النفسية العويصة التي يسميها البعض بالمشاعر الإنسانية، لربما كنت اليوم داعشياً بامتياز. أو ربما أميراً على إحدى الولايات التي بدأ خليفة الدولة الإسلامية يؤسسها في العراق والشام بعد الفتح والنصرالمبين على الكفرة والمشركين، والمرتدين من أدعياء الإسلام ممن لايحسنون التمثل بالرسول ولا بسيرته ولا بثيابه، ظناً منهم بأنهم تمدنوا لمجرد أن سايروا الغرب الكافر المتحلل من كل فضيلة علمنا إياها النبي. وهم بذلك يمالئون الأعداء، ويشاركون بالقضاء على الدين الحنيف. أو ربما سأكون الخليفة نفسه، إذا توفر لي الحماس المطلوب والإقدام اللازم، بعد أن أربط نسبي بنسب الرسول كما فعل كل الخلفاء المسلمين من المماليك إلى العثمانيين إلى السلاجقة والصفويين. علماً أني الأقرب من كل هؤلاء إلى مكة، تاريخياً وجغرافياً وإرثاً لغوياً وثقافياً.

ربما هذه “النقيصة”، التي من غرائب السلوك أنني أتباهى بها أحياناً، هي التي لا تؤهلني لأكون ذلك الداعشي المنشود بالرغم أن شجاعتي في الميادين الأخرى قد لاتقل عن شجاعة أي مجاهد داعشي بما فيهم أبو بكر البغدادي والجولاني صاحب النصرة إياه.

إضافة إلى هذه النقيصة، لدي نقيصة أخرى فاقعة الوضوح وهي أنني لاأجد متعة ولا الرغبة حتى في الحدود الدنيا في ولوج أياً من حوريات الجنة (بعد الاستشهاد طبعاً، إذا كُتِبَ لي أن استشهد بعملية انتحارية لاتتكرر مثلاً). تلك الحوريات التي أسهب في وصفها أبو حامد الغزالي في مجلده الثاني في الصفحات 151 وحتى 154من موسوعته إحياء علوم الدين. والتي لم يجرب أي قائد من أولئك المجاهدين، بما فيهم بن لادن نفسه،على فعلها (أقصد الانتحار طبعاً) للصعود في ذات الليلة والجلوس مع الرسول على مائدة العشاء قبل الدخول على الحورية التي يختارها لتلك الليلة!!!

داعشي أنا حتى العظم لولا أنني أفهم الحياة بشكل مختلف وأعتبر حياة الإنسان هي قيمة بحد ذاتها وهي أثمن مافي الوجود. وبناء على هذا الفهم القاصر في المنظور الداعشي لن أتسامح مع نفسي بأي حال إن ساهمت بأي شكل من الأشكال، من قريب أو بعيد في طرد وتهجير مئات الآلاف من المسيحيين واليزيديين وغيرهم من بيوتهم وسلب كل ممتلكاتهم لصالح دولة الخلافة. وإن أضفت إلى كل ذلك أخذ نسائهم واعتبارهن سبايا تعرضن للبيع أو تعتبرن ملك يمين للمجاهد يفعل بهن مايشاء، فهذا أمر أكبر من طاقتي كإنسان على تحمل رؤيته يحدث في القرن الحادي والعشرين. ولا تنسى أنني ذات الذي عبر قبل قليل عن التعفف في التعاطي مع حواري الجنة إياها التي تحدث عنها الإمام الغزالي، فكيف بإنسيِّة على الأرض مهما بلغت من الجمال والفتنة والإغراء؟

نقائص أخرى كثيرة أتصف بها تجعل تحقيق رغبتي في الداعشية شيئاً أقرب إلى المستحيل. فمثلاً لا أرى أن الصوم ذات معنى إذا كنتَ في آخر النهار ستعد مائدة هي أقرب إلى الولائم العامرة منها إلى نهج إيماني يقربك من إحساس الآخرين بالجوع والحاجة. كما إن السَوق بعصا هيئة الأمر بالمعروف إلى الجامع وقت الصلاة لاتجعلك بالضرورة مؤمناً، وربما العكس.

نقيصة أخرى لدي وهي أنني أحب أن أحلق ذقني كل صباح لقناعتي أن هذا أنظف وأجمل. وكما يعلم الداعشيون أكثر مني، فقد حض الرسول على النظافة. لكن مفهوم النظافة قد نختلف عليه لأنني أعتقد جازماً أن الإنسان لن يكون نظيفاً بمجرد أن يبلل يديد ورجليه بالماء تحت مسمى الوضوء، في حين رائحة فمه تقتل حيواناً بحجم وحيد القرن. كما أظن أن كبار زعماء المسلمين الأوائل كانوا سيتباهون بذقونهم الناعمة لو توفرت لهم حينها شفرات حلاقة من نوع ناسيت أو جيليت. أما الذقون الطويلة المنفوشة المعشعشة بكل قارصة متنعمة، فكانت ستكون سمة لازمة لعامة الناس وفقرائهم ممن لايملكون ثمن تلك الماركات الغربية من شفرات الحلاقة، ولا حتى الصينية منها.

بوجود هذه النقائص والكثير الكثير غيرها مجتمعة في شخصي ، يتولد لدي إحساس بأن الداعشيين الحقيقيين لن يكونوا سعداء برؤيتي بينهم، ناهيك عن تنصيبي أميراً أو خليفة عليهم، وبخاصة إذا علموا أنني ذمي من أهل الكتاب يتوجب عليَّ دفع الجزية عن يدٍ وأنا صاغر. وهذا ما لا أحتمله لأنني ببساطة أظن بأنني على الأقل إنسان مثلهم (هذا إذا كان أولئك الداعشيون يتميزون بسمات البشر الحقيقيين).

وهنا قد يحشرني قارئ مشاغب في (خانة اليك) إذا عنَّ له السؤال عن سبب توقي لأكون داعشياً إذا كانت لدي كل تلك النقائص، وكانت لهم كل تلك الفضائل التي أنعم الله بها عليهم وحرمني منها. ولكي لا أقع في الإحراج سأقول له: توقي هذا ليس طمعاً بفضائلهم تلك، ولكن أنظر مايجري حولك وستجد الجواب الشافي.

وحتى اليوم الذي أجد فيه العالم وقد صحا ضميره وحسَّن سلوكه تجاهي كإنسان عالمثالثي، سأبقى داعشياً مع وقف التنفيذ…!!!

 

 

 

تكتيك داعش والنصرة/ سلامة كيلة

من متابعة الأحداث، منذ دخول جبهة النصرة ثم تنظيم داعش على خط الصراع الذي فجّره الشعب السوري ضد النظام، والصراع الذي تفجر في العراق ضد نظام نوري المالكي، يبدو واضحاً أن تكتيك التنظيمين المذكورين يأتي على قدر الضرورة التي تريدها الأنظمة.

في العراق، مثلاً، حيث تفجّر الوضع في المنطقة الغربية، وفي الشمال، ضد نظام المالكي، وامتدّ باتجاه بغداد، حيث الهدف هو السيطرة على بغداد، كما قررت مجالس العشائر والمجلس العسكري العام.

وحين بدأت أطراف بغداد تقع تحت التهديد، وجدنا “داعش” ينحرف نحو الشمال، بحجة السيطرة على مناطق سيطرت عليها البشمركة، بعدما كان قد أُربك، وهو يعلن سيطرته على الموصل، ويصدر قوانينه ضد المسيحيين، ويفجر الأضرحة، وبالتالي، إعطاء صورة سلبية جداً عمّا يجري.

فالاشتباك مع الأكراد يعني دفع هؤلاء للتحالف مع المالكي، ودخول الصراع لمصلحته، بينما كان الشغل على أن يبقى الوضع هادئاً هنا. المشكلة أن حزب البعث، بكل غبائه التاريخي الذي لم يُدفن مع صدام حسين، شكر، بلسان عزت الدوري، داعش، وأخذ بعضٌ منه يكرر ذلك، وهي اللحظة التي حركته، لكي يفرض تخريبه المعهود.

وكأن هؤلاء لم يستفيدوا ممّا فعل جد داعش (أي تنظيم قاعدة الجهاد، ثم دولة العراق الإسلامية) في المقاومة، ما جعل العشائر تتحالف مع الاحتلال (وكان هذا هو الهدف الأميركي من استجلاب القاعدة)، فخربت المقاومة.

الآن، داعش يقوم بكل ما يخدم توحيد كل القوى ضد الثورة، وليس ضده فقط. وبالتالي، يربك كل الحراك الذي يريد تغيير النظام، ليعاد فرض “العملية السياسية” التي هي صناعة أميركية ـ إيرانية مشتركة.

في عرسال، وجدنا أن “داعش” و”النصرة” يظهران فجأة، ويسيطران على المدينة، بعد اشتباك مع الجيش لم يُفهم سببه. وبالتالي، أن ينخرط الجيش مع حزب الله في الصراع ضد السوريين، وأن يقصف البلد الذي كان يعتبر ممر المساعدات إلى سورية. والهدف هو السيطرة الشاملة على المدينة، وطرد اللاجئين السوريين منها.

تكبّد حزب الله خسائر هائلة في القلمون، في الأشهر الماضية، وبات يعاني كثيراً. لهذا، قرر أن يسيطر على جرود عرسال، وأن يضمن السيطرة على عرسال وكل المنطقة، لمنع التواصل مع القلمون. هذا ما كان واضحاً قبل أيام ممّا جرى، وما كان يسعى إليه الحزب.

لهذا، فجأة يُعتقل شخص يقال إنه من قيادة جبهة النصرة، فترد هذه بالاشتباك مع الجيش ثم تسيطر، مع “داعش”، على عرسال، وتبدأ الحرب. من جهة حزب الله والجيش (وهنا يكون الجيش قد تورّط)، ومن جهة أخرى، شبح اسمه النصرة أو داعش، ومن يُفرم هم اللاجئون، في وقت تجري فيه السيطرة على الحدود تماماً.

أليس أمراً سوريالياً أن تقوم جبهة النصرة بهذه الأعمال، في اللحظة التي يريد فيها حزب الله السيطرة على عرسال وجرودها؟ ليس الغباء هو السبب، إلا عبر التفكير الساذج، بل التخطيط الدقيق الذي فرض بروز داعش والنصرة في هذا المكان، في هذه اللحظة التي يريدها حزب الله، لكي يغلق الحدود تماماً ليتفرغ للحرب في القلمون.

ما يجب أن يكون واضحاً هو أن “داعش” و”النصرة” جزء من استراتيجية النُظُم في سورية والعراق وإيران، وربما هناك اختراقات أخرى لصانع كل “الجهاديين”، (أي أميركا). بالتالي، يكون ضمن التحالف الذي يريد تدمير الثورات، بالتالي، ينخرط في اللعبة ذاتها، أي كيف تخدم ممارسات هؤلاء استراتيجية الصراع ضد الثورة، حتى وإن صبّت عند حزب الله، الذي سوف يخرج منهكاً بالضرورة.

خصوصاً أن وضع لبنان بات مهدداً جدياً بالتفجّر، حيث إن ما يجري يستثير المجتمعات، ويحرّك كل الاحتقانات الموجودة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى