حمزة المصطفىصفحات سوريةعمر قدورغازي دحمان

مقالات لكتاب سوريين تناولت ماجصل في عرسال

 

 

 

 

كم منتصر في عرسال؟/ عمر قدور

يستخدم بعض السوريين اسم “حالش” اختصاراً لاسم حزب الله على غرار اختصار اسم الدولة الإسلامية إلى داعش، غير أن المغزى كما هو معلوم ليس في الاختزال وإنما في المساواة بين التنظيمين من حيث التطرف وممارسة الإرهاب. لكننا إذا استثنينا ما يبدو متفَقاً عليه في شأن داعش ويشوبه شيء من الاختلاف في شأن الحزب فإن ثمة قاسماً مشتركاً موضوعياً يجمع بينهما هو عملهما كتنظيمين عابرين للحدود؛ أمين عام الحزب تحدث قبل مدة عن دور له في البوسنة والهرسك! فلا غرابة في مقتل أحد كوادره أخيراً في الموصل العراقية، ولا غرابة أيضاً في تجاوز داعش الحدود إلى عرسال، لو لم تثبت الوقائع أن عرسال ليست الموصل.

سيان إن أخطأ أو لم يخطئ داعش في الحسابات المباشرة لمعركة عرسال، فالتنظيم لم يخسر مشروعاً له في لبنان، وربما تعود عليه مغامرته ببعض الفائدة لدى شريحة من اللبنانيين يتعزز لديها الإحساس بالمظلومية السنية. السوريون النازحون في عرسال ليسوا أصلاً ضمن اهتمامات داعش، والتنكيل بهم ومحاصرتهم من قبل الحزب يكملان ما يتوخاه داعش لجهة تعزيز المظلومية واكتساب شعبية في أوساط مهمشة على جانبي الحدود. أساساً لم تكن السيطرة على البلدة هدفاً للتنظيم، فهي أُخذت كرهينة مقابل الإفراج عن أحد أمرائه، وأي مكسب تحققه أخطاء الحزب والدولة اللبنانية هو بمثابة تعويض ثمين عن الفشل في تحقيق الهدف الأولي (حديث القيادات اللبنانية عن عدم الخضوع لابتزاز الإرهاب لا وزن له على الأرض مع الضعف المكشوف للدولة).

كثرة المنتصرين في عرسال تثير الاستغراب والارتياب معاً، يزيد من ذلك تحقيق الانتصار في البلد الذي كان يُعتبر الأكثر هشاشة إلى وقت قريب. بحسب رواية الانتصار هذه دُحر الإرهاب الداعشي من عرسال، وانتصر الاعتدال السني أيضاً بمساندته للدولة والجيش، وبالطبع انتصر حزب الله إذ تحمل الآخرون تبعات حربه في سوريا من دون مساءلته جدياً عن دوره في استجلاب التطرف إلى لبنان. المكاسب المحتملة للتطرف تبقى قيد التخمين أمام هذه الانتصارات الملموسة، إلا أن التجارب العالمية السابقة في مكافحة الإرهاب منذ عقد ونصف غير مطمئنة، لأنها جميعاً استندت إلى الانتصارات العسكرية المباشرة بينما كان الخزان الجهادي يُعاد ملؤه بعناصر ناقمة بسببها تحديداً.

المشكلة أن لبنان لا يحتمل خطاب النصر هذا، مثلما لا يحتمل الهزيمة، بخاصة عندما يبدو النصر في عرسال تعويضاً عن الهزيمة في الموصل! فلا يخفى أن أكثر المتحمسين لمعركة الجيش في عرسال كانوا من مسيحيي لبنان الذين استفزهم الخطر الداعشي بعد رؤيتهم نكبة مسيحي الموصل، فأضحت عرسال من وجهة نظرهم بوابة الخطر الداعشي الذي يتهددهم بشكل يتراجع معه كل ما قيل عن صراع سني شيعي في المنطقة. الاصطفاف وراء الجيش، بقيادته المارونية، له ملمح طائفي لا تنجح الشعارات الوطنية في طمسه طالما أن المناطق المسيحية وحدها هي التي اكتظت بها وبمهرجاناتها، وطالما أن اصطفاف الآخرين وراء الجيش له اعتبارات سياسية مختلفة، ويدخل في إطار التجاذبات الموجودة أصلاً حول دور الجيش ومحاولة استقطابه.

مع ذلك، ليس متوقعاً أن يسترد مسيحيو لبنان المكانة التي سُحبت منهم بدءاً من اتفاق الطائف، وليس متوقعاً أن تعوض قيادة الجيش الخسارة التي مني بها موقع الرئاسة مهما توالت الشعارات المضخمة لدوره. وأن يُربط صراحة أو ضمناً بين مصير مسيحيي لبنان ومصير مسيحي الموصل فذلك أقرب إلى استثمار الآخرين في مخاوف مهدت لها أولاً التحولات الداخلية، أي أن الخطر الداعشي قد لا يعدو كونه إجهازاً رمزياً على الوجود نفسه، بعد أن تم الإجهاز على الدور المسيحي. أما التلويح بخطر داعش فقد لا يعدو كونه إلحاقاً للمؤسسة العسكرية بالميليشيات اللبنانية التي تدّعي محاربة الخطر قبل وصوله. الربط بين الموصل وعرسال يصبّ في هذه النقطة تحديداً، ومن هنا يصبح أكثر مشروعية أن يُقتل قيادي لحزب الله في الموصل، وبالطبع يصبح أكثر مشروعية مشهد التوابيت العائدة من سوريا.

ثمة وهم في أن الجيش تمكن من الدفاع عن آخر قلاع المسيحية في المشرق، يكاد يدنو مما يجري ترويجه في صدد دفاع حزب الله عن الرموز الشيعية والوجود الشيعي في المنطقة؛ وهمٌ يحجب حقيقة قوة الطرفين وتمكن فريق منهما وصعوده في الساحة اللبنانية مقابل ضعف الآخر وتراجعه، ويحجب حقيقة قدرة الحزب (أسوة بداعش) على أن يكون تنظيماً عابراً للحدود بينما يضعف الحضور المسيحي إلى حد توسل الدفاع عن الوجود فحسب. يخطئ مسيحيو لبنان عندما يتبنّون معركة لم تكن معركتهم في الأصل، ولا يكفي انتصار الجيش فيها لتبيان طبيعتها فالخسائر الكبرى كانت من نصيب النازحين السوريين والأهالي، ولا تصعب معرفة الجهة التي ترضيها طبيعة الخسائر. أيضاً يخطئ ما يسمى معسكر الاعتدال السني، عندما يعتقد أن بليوناً من الدولارات كافٍ لترميم الجرح الذي حفره حرف “النون” لا على أبواب بيوت مسيحي الموصل وممتلكاتهم، فقط وإنما في وجدان مسيحي الشرق عامة.

المدن

 

 

 

لبنان يقترب من لحظة فوضى/ غازي دحمان

لم يفلح (البيك) وليد جنبلاط، أو باروميتر السياسة اللبنانية، كما يحلو لبعضهم تسميته، بالاستشعار الدقيق لمسارات الحالة اللبنانية، فالوقائع تقول إن الرجل تأخر كثيراً في تنبيهه للخطر القادم على لبنان، بعد لقائه أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، الأسبوع الماضي، وإنّ ما حذّر منه بات لبنان في قلبه، منذ أكثر من عامين، وهو تاريخ انخراط أطرافٍ لبنانية في الحدث السوري، معطوفاً عليها السعي الحثيث لنظام دمشق إلى تصدير مفاعيل الأزمة إلى الجوار اللبناني، انطلاقا من استراتيجيةٍ تهدف إلى إخراج النظام من ورطته، عبر لعبة إعادة خلط الأوراق في المنطقة كلها، والبداية من لبنان، باعتبار جسمه لبّيساً، على ما يقول مثل مشرقي، لكل أشكال التصاميم التي يبتدعها جواره.

فتحت أزمة عرسال الباب مشرعاً أمام سؤال حول الوقت المتبقي للبنان، خارج حدود الفوضى الشاملة، وما إذا كانت ثمة مساحات ممكنة للاتفاق بين أطرافه. البلد يعيش فوق ركام من الأزمات، لم يتم التوافق على انتخاب رئيس للجمهورية، والنظام السياسي معطل، كما تعمقت الخلافات بشأن مختلف القضايا، حتى المسلمات الأساسية، ضربتها موجات الانقسام، وكل المؤشرات تثبت أن مسؤولي لبنان استقالوا تماماً من مهمة وقف انحدار البلد صوب الحرب الكاملة، وتركوا الأزمة تتشكل، وفق مقتضيات الحالة السورية. ونتيجة لذلك، بات لبنان يرقص على أنغام الأزمة، وتحولت ساحته إلى مجرد مرآة عاكسة للأفق المسدود في سورية.

في المحصلة، صار لبنان مفتوحاً على المشهد السوري، والأصح أنه صار جزءاً من ساحته، اندمجت مناطقه الشرقية والشمالية في الحرب السورية، إما بسبب احتضانها الفارّين من طغيان نظام الأسد مثل حالة عرسال، أو بسبب وقوعها على خط التوتر المذهبي والاضطراب الأمني، مثل حالة طرابلس. وصارت هذه المناطق تستعير آليات الحرب السورية، وتتماهى مع انقساماتها، فيما صار جنوب لبنان وبقاعه خزاناً بشرياً لتلك الحرب. بالتوازي مع ذلك، أغفل لبنان الرسمي رسم استراتيجية الحد الأدنى، للتعامل مع إفرازات الأزمة. ومن البداية، كان التصور السائد لدى أفرقائه أن الوقائع صارت أكبر من قدرة الجميع على رسم استراتيجيات لمواجهتها.

في الأصل، ينطوي لبنان على أعطاب كثيرة، لجهة اجتماعه الوطني، فالبلد يفتقر إلى الأبنية السياسية، التي يمكنها لعب دور مهم في صناعة التوافق، فلا أحزاب سياسية يمكنها القيام بهذا الدور، وكل الأحزاب تشكيلات ذات صبغة طائفية، أقرب إلى النمط الميليشياوي، منها إلى الشكل السياسي، ولا مؤسسات بيروقراطية، يمكنها تحقيق التفاعل الوطني، ذلك أن استنادها إلى مبدأ المحاصصة أفرغها من دورها الانصهاري الوطني، حتى الجيش، الذي يصر اللبنانيون على اعتباره المؤسسة الوطنية الجامعة، ليس محصناً بالقدر الذي قد يؤهله لتجاوز حالات الانقسام العميقة، كالتي تضرب عمق الاجتماع اللبناني.

كما لم يكن حياد لبنان عن مسارات الأزمة في سورية ممكناً، ولا مستطاعاً من مكوناته، فإنه يبدو من الصعب الانفكاك عن مآلات الأزمة. وتؤكد الوقائع وجود نمط من الاندماج العميق مع عناصر الأزمة السورية، حتى تبدو الحالة اللبنانية أقرب إلى ما يشبه حالة الظل لسورية، سواء لجهة مفرزات الأزمة من لاجئين واضطراب مذهبي، أو لجهة التشارك مع الأطراف السورية المتقاتلة، وإن كانت الحالة أوضح لدى طرف عن الطرف الآخر.

قد لا يتحمل لبنان وحده مسؤولية الأوضاع الصعبة، التي يمر بها، ثمة قوى إقليمية وضعت البلد على فوهة بركان الأزمة السورية، حينما أصرت على أن تلعب بعض أطرافه أدوار واجهات لها في سورية. وتتحمل إيران، تحديداً، الجزء الأكبر من مسؤولية انفجار الوضع في لبنان، لأنها دائما كلفّت البلد بوظائف لا طاقة له بتحملها، ومن المعروف أن حزب الله جرى دفعه إلى الداخل السوري، وأن هذا الأخير كان ضحية تقديرات مضللة عن قدرته، أولاً، في إمكانية حسم المعركة لصالح المحور الذي يتبع له، وعن طبيعة الحرب السورية، وبالتالي، فهو يحصد ثمار التوريط الإيراني له.

وتتحمل الأطراف الدولية مسؤولية انفجار الوضع في لبنان، فحكومات غربية كثيرة كانت تدرك، وبناء على تنبيهات سياسية وتقديرات أصدرتها مراكز مختصة، هشاشة الوضع اللبناني إزاء الأزمة السورية، والمخاطر التي قد يواجهها في حال استمرار الأزمة. وليس لبنان وحده، وإنما المنطقة برمتها، غير أن سيطرة الانتهازية والسياسات قصيرة النظر على مواقف الحكومات الغربية، وربما الرغبة في التجريب، هي ما أوصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن.

راهن كثيرون في لبنان على ضعف المكون السني اللبناني، وكذلك اعتداله، وضعف احتمالات جره إلى التطرف، والسير وراء بعض المتعصبين، وانطلاقا من ذلك، رسموا مساحاتٍ واسعةً تفصل لبنان عن الانفجار، حتى لو تمادى حزب الله والأحزاب القريبة منه في الانخراط في الأزمة السورية، ولأن الثورة السورية ستنتهي في ثلاثاء قادم، على ما تنبأ الجنرال ميشال عون! معطوفا على ذلك التقدير بعدم وجود قرار دولي بتفجير الوضع اللبناني، من دون الانتباه إلى أن الأوضاع في المنطقة صارت أكبر من قدرة طرف إقليمي، أو دولي، على ضبطها، لكن، أيضاً، من قال إن الأمور غالباً لا تنهار بشكل دراماتيكي، وخصوصاً أنها تستند إلى تراكمات من عدم الثقة والشك؟ من استطاع تقدير حصول الثورة السورية على نظام الأسد، الذي يحصي أنفاس الناس، يستطع معرفة كم بقي للبنان خارج أتون المحرقة!

العربي الجديد

 

 

 

عرسال السوريّة والفخ اللبناني/ حمزة المصطفى

تتفق جميع الفصائل السورية المسلحة في منطقة القلمون على أن بلدة عرسال اللبنانية (السوريّة) الحدودية هي رئة الثورة ومتنفسها الوحيد المتبقي، وتجمع غالبيتها، بما فيها جبهة النصرة، على أن دخول البلدة خطأ أضر بها، وبالثورة السوريّة بشكل عام. في ضوء ذلك، تطرح الأسئلة؛ ما الذي جرى في عرسال؟ ولماذا استدرجت الفصائل السوريّة إلى معركة جانبيّة، لم تفكّر جديًا في خوضها، إذا لم يكن في المستقبل، فالآن على الأقل؟

السياق الذي جرت فيه المواجهة في عرسال، ولا نستحضر هنا نظريّة المؤامرة، يدل على أنها لم تكن “أزمة طارئة” تفاقمت، أو “كرة ثلج” تدحرجت من فراغ، فخلّفت كارثةً وراءها. فقد كانت “أزمة عرسال”، بقصد أو من دونه، المَخْرَج الذي توافق عليه الفرقاء اللبنانيون لتحريك مياههم الراكدة، وملفاتهم العالقة.

مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2013، نشر المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، ورقة تقدير موقف بعنوان “معارك القلمون .. حسابات أطراف الصراع ورهاناتها”، خلصت إلى أن القلمون معركة حزب الله بالدرجة الأولى، وحسمها يقتضي خوض أربع جولات رئيسية داخل سورية هي؛ المدن على الطريق الدولية، يبرود، رنكوس، الزبداني. وجولةً خامسةً داخل الأراضي اللبنانيّة؛ أي في عرسال. ويلاحظ المراقب لسير المعارك في القلمون التراتبية السابقة، وموقع عرسال فيها. فمنذ معركة يبرود في مارس/آذار الماضي، بدأ حزب الله بالتجييش ضد عرسال، من خلال أغنيته الإشكالية ذات الدلالات الطائفية “احسم نصرك في يبرود”، أو في تصريحات لقادة للحزب، ركزت على البلدة مركز انطلاق للسيارات المفخخة، والتي استهدفت مناطقه مرات.

تقع عرسال ضمن الجغرافيا اللبنانية. ولكن، إذا قاربنا المسألة من زاوية اقتصاديّة (حركة التبادلات التجارية والاقتصادية)، واجتماعية (العادات، والتقاليد، صلات القربى، وخصوصيتها الطائفية أيضاً) نجدها أقرب إلى أن تكون “سورية”. الأمر الذي أهل عرسال، دون غيرها من قرى البقاعين الأوسط والشمالي، لاستقبال اللاجئين السوريين. وبخلاف الأصوات، واللافتات والتصريحات العنصريّة، لم تشتك البلدة من اللاجئين (100-120 ألفاً)، بما يفوق عدد سكانها. ونتيجة لذلك، تعرض أهالي عرسال ومختارها لانتقادات كثيرة من قوى وشرائح مجتمعية لبنانية، وطرأت، لاحقًا، موجة حب مفرطة ومصطنعة للبلدة وناسها، تستند إلى هوية وطنية، اكتُشفت فجأة، في دولة ومجتمع لا تزال الطائفة ركناً أساسياً فيهما.

قُدِّرَ لعرسال، وكما للثورة السوريّة، جيش لبنانيّ منحاز، تجمع عليه القوى السياسيّة اللبنانية شكلياً، لكنها تتنافس على من يستأثر به. أما قيادته، ممثلة بجان قهوجي، فعينها، ومنذ بدء الفراغ الرئاسي، على منصب الرئاسة، فكما هو متعارف عليه لبنانيًا، يُمنَح هذا المنصب، وفي أوقات الأزمات وغياب الإجماع، لقائد الجيش التوافقي، بعد أن يسجل في رصيده “معركة إنقاذية” للبنان الكيان والدولة. وبناءً عليه، لم يجد قهوجيّ أفضل من مكافحة الإرهاب، ومواجهة التطرف الأصولي (حُصر باللبنانيين السنة)، رافعةً لبلوغ مراده، فخاض جولاته في صيدا وطرابلس، وأخيرًا في عرسال، مستفيدًا من أخطاء من يركب موجة الاحتجاج، ليفرغها من مضمونها، ويحيد بها إلى مسائل فرعية وطائفية، سرعان ما تأخذ شكل المواجهة المسلحة مع مؤسسةٍ، لا يريد أحد في لبنان، أن تسقط أو تتهشم، باعتبارها المؤسسة السيادية الوحيدة المتبقية.

في تفاصيل عرسال، وتفاقم أزمتها، ما يؤكد رغبة لبنانية في افتعالها. أولاً: ليست المرة الأولى التي يدخل فيها المسلحون، وعماد جمعة (أبو أحمد) قائد لواء فجر الإسلام، الذي بايع داعش حديثًا، إلى عرسال. وتؤكد جميع الشهادات أن جمعة كان يتردد إلى عرسال باستمرار، ويمر ويفتش على حواجز الجيش اللبناني. كما أن اعتقاله، وإن كان سبب الأزمة المباشر، لا سيما بعد أن استهدفت مجموعة تبايع جبهة النصرة أحد الحواجز العسكرية، لم يكن سبب تفاقمها. فرد الجيش اللبناني، وقصفه العشوائيّ مخيمات اللاجئين هو السبب الرئيسي الذي أذكى الأزمة وأججها، خصوصاً بعد صمته على القذائف والصواريخ، التي تنهال من قرى لبنانية، مؤيدة لحزب الله، على عرسال ومخيماتها. وبدلاً من أن تبادر قيادة الجيش إلى احتواء المشكلة، جيشت لمعركة حاسمة، وبمسميات عريضة ضد “الإرهاب”.

بالغ اللبنانيون في قضية الإرهاب، وكانت هذه المبالغة مقصودة وممنهجة. فبخلاف الروايات الرسمية والشعبية اللبنانية، والتي تحدثت عن دخول تنظيم الدولة إلى لبنان لاحتلاله، وإلحاقه بالخلافة، التي أعلنها في العراق وسورية، دخل مقاتلو التنظيم المذكور وكذا جبهة النصرة، وعلى الرغم من خصومتهما، إلى عرسال، برفقة مقاتلين سوريين آخرين، ينتسبون إلى فصائل سورية إسلامية ومن الجيش الحر، وذلك بعد نداءات استغاثة من أهاليهم وعائلاتهم الموجودة في عرسال، والذين وجدوا أنفسهم تحت وابل من قذائف لا يعرف مصدرها.

كانت الفصائل السوريّة تدرك أن عرسال “فخ” نصب لها لاستدراجها، وأن دخولها سيفيد حزب الله بالدرجة الأولى، على اعتبار أن هذه المعركة ستشغلهم عن استنزاف حزب الله في القلمون السوريّة، لا سيما وأنها ألحقت به خسائر بشرية كبيرة في الأشهر الأخيرة، كما أن دخولها عرسال سيمنح حزب الله الفرصة لتأكيد روايته عن حماية لبنان استباقياً من الخطر السوريّ. على الرغم من ذلك، اتخذت هذه الفصائل القرار بالدخول، لا على حسابات استراتيجية، بل حمية وخشية على ذويهم وأقاربهم. ومنذ دخولها، وعلى الرغم من اشتباكها مع الجيش اللبناني واختطافها جنوداً، حرصت على التجاوب مع مبادرة هيئة علماء المسلمين، للانسحاب من عرسال مقابل ضمانات. ونؤكد، هنا، أن من عرقل خروج المسلحين وانسحابهم هو الجيش والقوى السياسية اللبنانية، وليس الفصائل السوريّة. وبلغ الأمر بالجيش، وبمدفعية من قرى قريبة من عرسال، أنه قصف الوفد المفاوض لتعطيل العملية.

في المحصلة، وبقصد أو من دونه، كانت أزمة عرسال “الفخ” الذي نصبه جميع الفرقاء اللبنانيين، وأجمع كل منهم على أن الأزمة فرصة ومخرج لأزماته؛ شرعن حزب الله، ولو مؤقتاً، حربه في سوريّة، واختفت أو خفتت المطالب بانسحابه. وراكم قائد الجيش، جان قهوجي، رصيدًا سياسيًا قد يؤهله لاستنساخ تجربة سلفه، ميشيل سليمان، بعد أحداث مايو/ أيار 2007. وظّف ميشيل عون، وصهره باسيل، الأزمة العرسالية ليصعد من هجومه “العنصري” على اللاجئين، من دون أن ينتقد من كان السبب في لجوئهم. منحت عرسال وليد جنبلاط فرصة لاستدارةٍ، كان ينتظرها منذ زمن، فزار الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وغيّر خطابه ومواقفه. عاد سعد الحريري، الزعيم الغائب بحكم التهديدات، مزودًا بـ”خرجية سعودية محرزة” لصرفها على الجيش والمؤسسات الأمنيّة بإشرافه، عله يستعيد نفوذً والده، والذي لم يستطع المال، في غياب الكاريزما، المحافظة عليه.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى