خورشيد دليسلامة كيلةصفحات سوريةطيب تيزينيعلي العبداللهعمر قدورفواز حدادلؤي حسين

مقالات لكتاب سوريين تناول “داعش”

 

 

 

 

عندما قال أوباما للأسد: عليك الأمان!/ عمر قدور

قبل ســنة، كانت الآراء تكاد ان تجمع على أن النظام الــسوري ارتكب فعلاً أحمق بقصفه الغوطة بالغازات السامة. كانت الآراء تستند إلى المنطق والعقل والضمير الإنساني، وبنسبة أقل ربما إلى تحرك المجتمع الدولي غداة الضربة.

الآن تبدو تلك التحليلات بعيدة جداً من العقل والمنطق، إذا اعتبرنا ما حدث هو العقلاني حقاً، وأن ما لم يحدث لا يمكن اختباره أصلاً. لذا بوسعنا الجزم، مثلاً، بأن قرار النظام استخدام الغازات السامة كان من أكثر الأفعال حكمة، فالمكاسب التي حصل عليها نتيجة لذلك فاقت توقعات جميع المتابعين، ولعل استخدام الكيماوي ومن ثم صفقة تسليمه أهم منعطف له في حرب بقائه.

كان بعض التحليلات آنذاك يقارن بين مهلة تسليم الكيماوي وانقضاء ولاية بشار الأسد، ليستبشر بتحرك دولي لمعاقبة الأخير مع الخلاص من ترسانته الكيماوية. وكان ذلك بمثابة تعويل على حد أخلاقي أدنى، ومن جهة أخرى مراهنة على ذكاء الإدارة الأميركية ونيتها التخلص من الأسد بعد إفقاده قدرته على استخدام الكيماوي، بخاصة ضد جارته إسرائيل. وفق هذا المنظور، اشترى بشار الأسد بضعة أشهر لقاء تسليمه الكيماوي، وهو ثمن كافٍ لرئيس «فقد أعصابه» وفق مكالمة داخلية التُقطت لمسؤولين في «حزب الله» حينئذ. تحليلات تلقت ضربة قاصمة مع تجديد بشار لنفسه في انتخابات لا تختلف عن سابقاتها، والأهم وسط لامبالاة دولية متوقعة هذه المرة.

من دون الوقوع في فخ نظرية المؤامرة، ومن دون السعي إلى تجنبه أيضاً، يجوز لنا اليوم القول إن مقامراً ما اتخذ قرار الهجوم بالغازات السامة على الغوطة، وأنه يعي إلى حد كبير تبعات فعلته، ويعي خصوصاً أن خرقه الخط الأحمر الشهير لأوباما لن يؤدي إلى عمل عسكري يُسقط النظام، بل سيؤدي إلى صفقة مفيدة للأطراف المنخرطة فيها على حساب أولئك الضحايا. ذلك لا يعني أن المغامر استثنى من حسبانه تماماً فرضية الخسارة، غير أن الوقائع التي تلت المجزرة، كما تابعناها بأمهات أعيننا، تصب في منحى يقلل من احتمالات الخسارة.

ما الذي يمنع أن يكون ذلك المقامر ارتكب المجزرة، مع وصول البعثة الأممية للتحقيق في استخدام سابق للأسلحة الكيماوية، كي يقفل الملف نهائياً بصفقة عاجلة تضمن إنقاذه؟

قبل الهجوم بالكيماوي، كانت نيات الإدارة الأميركية غامضة نسبياً. التدخل العسكري المباشر استبعدته تصريحات أركانها، وأشيعت أقاويل حول بحثها عن بديل للأسد، وأن هذا ما يعوق إسقاطه. بعد صفقة الكيماوي اتخذ الكلام عن البديل منحى تبريرياً، فالإدارة إما أنها لا ترى البديل المناسب، وإما أنها لا ترى بديلاً سوى التطرف. في الحالتين لم يعد هناك بديل للنظام. أمام الرأي العام الأميركي، انتهت القضية السورية بتسليم الكيماوي، من دون التوقف عند الإمكانية المتوافرة دائماً لإنتاج أصناف جديدة منه، وهي بشرى سارة بالتأكيد أن تربح أميركا هكذا من دون إطلاق صاروخ واحد. وهي بشرى سارة أيضاً، وفق تصريح لأوباما، أن يخسر الآخرون في الحرب السورية، بينما تأخذ إدارته موقع المتفرج.

في صفقة لم تُعرف تفاهماتها الضمنية، يحق لنا أن نختزل البند الأساسي فيها بأخذ الأسد الأمان من أوباما. فوصول البوارج الأميركية إلى شواطئ المتوسط ثم انسحابها السريع يوحيان بتسوية لا تحتاج إبقاء الضغط لتنفيذها، تسوية مجزية لطرفيها بحيث لا يعقل أن يُقدم أحدهما على خرقها. ولئلا نبقى في التكهنات، في العديد من المناسبات لمحت وزارة الخارجية الروسية إلى أن تقديم الغرب الدعم القتالي للمعارضة السورية يُعدّ تراجعاً عن تعهداته، ومن المعلوم أن لا تسوية حصلت سوى صفقة الكيماوي، والتي نصت كما يظهر من التصريحات الروسية، على امتناع الغرب عن دعم المعارضة فقط في مقابل قبول النظام مفاوضات «جنيف 2».

ثمة ثابتان لدى النظام السوري والإدارة الأميركية تكفّلا بإبرام الصفقة ونجاحها: من جهة النظام، المهم هو استمرار الصمت الدولي على جرائمه، والمهم لأوباما ألا يُضطر إلى الانغماس في شؤون المنطقة، وألا يُفسد عليه أحد طموحه في التسوية مع إيران. لذلك، ينبغي أن يُفهم تسويف الإدارة قبل سنة في شأن الضربة العسكرية، ورغبتها في الحصول على موافقة مجلسَي الكونغرس في ما عُدّ حينها مقدمة لتحول دستوري أميركي. فالحق أن أوباما لم يطلب إذناً من الكونغرس عندما قرر استخدام سلاح الجو لمهاجمة «داعش»، ولا يظهر مهموماً بالحصول على إجماع دولي لمحاربة «داعش»، لا لأن الإجماع ضد الأخير متاح بسهولة فحسب، وإنما لأنه لم يكن يوماً من المتطلبات الملحة في السياسة الخارجية.

كانت صفقة تسليم الكيماوي أخطر على السوريين من المجزرة نفسها، ويكفي أن نستعرض التطورات التي شهدتها الساحة السورية منذ سنة لنرى العواقب الوخيمة لها، وأن يعلن البنتاغون عشية ذكرى المجزرة انتهاءه من تدمير المخزون الكيماوي أمر لا يكفي للتغطية على الجريمة، وعلى السكوت عنها.

نعم، نجح الأسد خلال سنة، بالتواطؤ مع الإدارة الأميركية، في استجرار التطرف إلى سورية على نحو يعد سابقة، وخلال سنة كان التطرف يحقق مصلحة الطرفين: الأسد يريد تقديم نفسه كمحارب ضد الإرهاب، والإدارة الأميركية لا تمانع في استنزاف المتطرفين من خلال الساحة السورية. القول بسلبية الإدارة إزاء التطورات السورية لا يكفي وحده لتبرير ما حصل، فالإدارة تصرفت في شكل مغاير عندما تجاوز «داعش» الحدود المقبولة أميركياً.

وأن يأتي ذبح الصحافي جيمس فولي عشية الذكرى الأولى لمجزرة الكيماوي، فهذا قد يدفعنا نحن فقط إلى رؤية وحشية الجريمتين، نحن أهل الضحية مرتين، ومن حقنا أن نطالب بمحاكمات قانونية وأخلاقية لكل من نفذ وتواطأ وصمتَ، حتى وصلت السكين إلى عنق فولي. بيان عائلة فولي، إثر إعدامه، هو بياننا في وجه إدارة أعطت الأمان للقتلة، وليس بوسعها الآن أن تطالب بتسليم سلاح الجريمة مقابل الصمت كما حدث في مجزرة الكيماوي، لكن بالتأكيد يمكنها القبول بفضيحة أقل فتستهدف «داعش» «الأسوأ» وتُبقي على «داعش» «النظام» الذي يجرى تسويقه بصفته أقل سوءاً.

الحياة

 

 

عقل بسيط في وضع معقد/ سلامة كيلة

يزداد وضع المنطقة تعقيداً، والصراعات تتشابك، وكل المحاور تداخلت. هذا هو التوصيف الممكن لما يحدث بعد نشوب الثورة السورية، وما وصلنا إليه، الآن، بعد الغارات الجوية الأميركية على العراق. ولم تعد تظهر حدود بين المحاور المرسومة في “الذهن” منذ فترة الحرب الباردة، على الرغم من استمرار الحدود في “الذهن” لدى قطاع من النخب، لا تريد مغادرة الماضي، لأنها تريد البقاء في “حالة رومانسية”، نشأت في الماضي.

في سورية، كل التصوّر أن جبهة النصرة وداعش من تصنيع أميركي، وبالتالي، هما جزء من “المؤامرة الإمبريالية” على “النظام الوطني” في سورية، وعلى محور الممانعة (إيران وحزب الله والنظام السوري). لكن، فيما عدا عن بعض الاحتكاك بين تنظيم داعش وبين النظام السوري، فإن كل معاركه، وكل نشاطه وممارساته، هي ضد الكتائب المسلحة، والناشطين ضد النظام، إضافة إلى أنه يفرض “قوانينه” التي هي مضادة للتكوين المجتمعي. ولهذا، فرض على الكتائب المسلحة أن تخوض الصراع ضده. قامت بذلك قبل مدة، وطردت داعش من الشمال السوري، وهي، الآن، تخوض الصراع من جديد. كما خاضت الصراع ضده في دير الزور والرقة. وجرت اشتباكات عديدة مع جبهة النصرة، والآن، يهددها في منطقة درعا.

بالتالي، ليس النظام هو الذي يخوض “الحرب ضد الإرهاب”، بل إن الثورة هي التي تخوض هذه الحرب، ويساعد النظام “داعش” في هجماته عبر القصف الجوي والمدفعي، وتسهيل حصوله على السلاح والذخائر.

في العراق تحرّك قطاع من الشعب عسكرياً، بعد أن اعتصم أشهرا عديدة، سُحق بعنف جيش نوري المالكي. وتحالف بعض هؤلاء مع داعش من دون فهم لطبيعته، ومن ثم انقلب داعش، كالعادة، لكي يلعب دوراً يخدم المالكي وإيران، في التشويش على الحراك الشعبي، واستغلال دوره لتخويف الشعب والتدخل. لهذا، كما أشرنا، في مقالات سابقة، لعب داعش دوراً تخريبياً في الموصل، وللسيطرة على الشمال العراقي، ومن ثم هاجم المناطق الكردية، لأن الأكراد كانوا يميلون إلى الحراك، ويقفون ضد التجديد للمالكي.

الآن، تدخل أميركا الحرب عبر قواتها الجوية، فتقصف داعش ليس في الشمال العراقي فقط، بل في الأنبار ومحافظة صلاح الدين. وبهذا، باتت القوات الأميركية بالتنسيق مع القوات العراقية المدعومة من النظام الإيراني، تخوض الصراع “ضد داعش”. هذا يطرح السؤال، إذن ما هو داعش إذا كانت أميركا ضده؟

من اعتبر أن الصراع ضد النظام السوري هو من فعل داعش أساساً، وأن الصراع معها هو الأولوية، سيكون مع الدور الأميركي الذي بدأ في العراق، وسيظهر تقارب كبير بين “قوى الممانعة” التي تقاتل داعش وأميركا التي تعتبر أنه الخطر الرئيسي الآن، بعد أن تلاشى دور القاعدة بعد انشقاق داعش. بهذا لا يعود هناك محور “مقاومة وممانعة” ومحور إمبريالي سعودي قطري، فقد باتت قوات الممانعة تقاتل إلى جانب القوات الأميركية، حيث الطيران السوري قصف داعش (كما أُعلن)، وقوات الحرس الثوري تدافع عن النظام العراقي، وحزب الله يرسل قوات إلى العراق، كما إلى سورية. وفي هذه الحرب يشكل الطيران الأميركي الغطاء الجوي، لتقدم قوات المالكي والحرس الثوري وحزب الله والبيشمركة.

أليست الإمبريالية الأميركية هي التي تشكّل الغطاء لوحشية النظم التي تريد سحق الثورات؟

الثورات هي “الحلقة المركزية” التي توحّد كل هذا الخليط، أو الذي يبدو خليطاً، على الرغم من توافقه العام واختلافه الجزئي، ليس داعش ولا النصرة ولا القاعدة، التي كلها أدوات ضد الثورات. و”الاسم الحركي” لسحق الثورات، والاسم السحري لتوحيد كل هذه البلدان والقوى.

العربي الجديد

 

 

 

على «داعش» الفعل وعلى الآخرين رد الفعل/ لؤي حسين

أقرّت، منذ حين، غالبية الأطراف الدولية بعدم إمكانية الحسم العسكري لمصلحة أي من أطراف النزاع المسلح في سورية. لكن هذا الإقرار لم يغيّر شيئاً في مواقف أو ممارسات أطراف النزاع المسلح الرئيسة، أي النظام والمجموعات المناوئة له. إذ واصل جميع الأطراف القتال والتحشيد ولزومات ذلك، معتقدين أنهم قادرون على كسب انتصار صريح إذا ما توافرت لهم بعض الشروط الخارجية.

سياسياً، الموقف يختلف قليلاً. فما زالت جميع الأطراف الرئيسة، المحلية والدولية، ترى إمكانية انتصار طرف على الآخر (على رغم عدم تحديد من هو الطرف المعارض) حتى لو لم يكن انتصاراً «نظيفاً». ومع ذلك، فمن بين هذه الأطراف من يتحدث خلف الأبواب، وبشكل غير رسمي، عن قناعته بعدم وجود إمكانية للحسم السياسي في المدى المنظور. أي لا إمكانية، في الوقت الراهن، للإطاحة ببشار الأسد وفريق حكمه، وكذلك لا إمكانية لإنهاء حال الاعتراض والاحتجاج عليه.

بُنيت هذه المواقف واعتُمدت من جانب الأطراف مع احتدام النزاع المسلح في سورية، والذي مضى عليه أكثر من سنتين، أي قبل أن تدخل «داعش» (الدولة الإسلامية) بقوة في ميادين المعارك. والآن، ومع تنامي دور «داعش»، وتحولها أكبر قوة مسلحة، مقارنة بالمجموعات المسلحة الأخرى، من غير قوات النظام، بقيت تلك المواقف على حالها من دون أي تغيير.

ربما يكون عدم تغيّر مواقف الأطراف نتيجة سرعة المتغيرات التي تحدثها «داعش». فخلال أشهر قليلة تمكنت «داعش» من السيطرة على مناطق عدة شرقي البلاد وشمالها، مستمرة في التوسع في منطقة حلب وغيرها. لكن المرجّح أن بقاء هذه المواقف على حالها ناجم عن أن جميع الأطراف تنظر إلى «داعش» على أنها حال طارئة وعابرة لا تستدعي تغييراً في المواقف الاستراتيجية.

إضافة إلى أن كل طرف ينتظر، سراً، أن يستفيد من وجود «داعش» من خلال إضرارها بخصمه، ويراهن على أن تصيب من الخصم ضعفاً تجعله يأتي صاغراً إليه. فالمعارضة لا تجد في «داعش» مشكلة طالما أنها تقاتل النظام وتحقق انتصارات عليه. بل ترحب بانتصارات «داعش» على النظام، لأنه ما لم يسقط نتيجة ذلك، فسيطاوله من الضعف ما يجعله يأتي خاضعاً راضخاً (مع حلفائه الدوليين) لشروط المعارضة. أو يتم التضحية ببشار الأسد أسوة بنوري المالكي. وإن سقط النظام تحت ضربات «داعش» فسيكون هذا أمراً مباركاً. وحينها يتم التفكير بكيفية التعامل مع «داعش».

وفي المقابل، لم يقرب النظام «داعش» طالما هي تتحرك في المناطق الخارجة عن سيطرته وتقاتل المجموعات المسلحة الأخرى. بل يأمل أن يصيب الضعف واليأس المعارضة (وحلفاءها الدوليين) تحت ضربات «داعش» فتقبل بالاستسلام له، ولو تحت يافطة «المصالحات المناطقية»، ويتم تكليفه دولياً بمحاربة «داعش».

نلحظ من هذا العرض المبسط أن «داعش» هي الطرف الفاعل الوحيد، وأن أفعال بقية الأطراف هي مجرد رد على أفعالها؛ فوفق «داعش»، تكون خيارات الأطراف الأخرى. أي تحولت «داعش» في سورية لتكون المحور الرئيس الذي تدور في فلكه القوى الأخرى بما في ذلك النظام.

تحولت «داعش» بعد استيلائها على الموصل ومناطق عراقية كثيرة، وكذلك على مناطق ومساحات سورية واسعة، من مجرد تنظيم متطرف يمارس دوراً تخريبياً بطريقة «الهواية» إلى حال سياسية اجتماعية أقرب إلى «الحرفة»، لا يصلح النظر إليها بعد الآن على أنها حال طارئة أو عابرة يمكن ان تتلاشى مع مرور الزمن، أو تندثر بالمنافسة، أو تزول بقتل عدد من قياداتها وكوادرها.

إذاً، والحال هذه، تجد المعارضة السياسية السورية نفسها في حال ضياع تام، فلا هي لديها القدرة على تغيير استراتيجيتها، ولا طائل من ثباتها على مواقفها التقليدية التي لم تعد تمتّ إلى الواقع بأي صلة، بما في ذلك مناشدتها الأخيرة للمجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة (وفق تعابير الائتلاف) بالتدخل العسكري، أسوة بالعراق، لضرب قوات «داعش» وقوات النظام. فالمعارضة اعتادت ألا توفر فرصة من دون أن تدعو الولايات المتحدة للتدخل العسكري في سورية حتى لو كان ذلك لصيد العصافير.

لا بد الآن للمعارضة، ومع التغيرات التي تحدثها «داعش» على الأرض، من إعادة ترتيب الأولويات. على ألا يكون ذلك مجرد إدراج مواجهة «داعش» كقوة غاشمة هدّامة أو كتنظيم إرهابي. أو النظر إلى داعش من خلال منظار إسقاط النظام وتقويم دورها وكيفية التعامل معها وفقاً لما يخدم ذلك. بل لا بد من وضع الحفاظ على الكيان السياسي السوري على رأس قائمة الأولويات. هذا الكيان الآخذ بالتمزق والتفتت بين طرفين تفتيتيين: النظام و «داعش». فمن لازم الأمور أن يكون لدينا كيان سياسي واضح المعالم والحدود إذا ما كنا نطمح الى بناء وطن سوري ضمن حدوده.

الآن، الفرصة مناسبة جداً للانقضاض السياسي على النظام. إن كان ذلك على صعيد «الانتهازية» السياسية المشروعة، أو على صعيد العمل الوطني البالغ الضرورة. فحلفاء النظام الآن «لا بد» من أنهم يستشعرون خطر «داعش» الحقيقي على النظام وعلى مصالحهم التي باتت تضيق مع تنامي «داعش»، حتى لو لم يصرّحوا بذلك. وكذلك حال الدول التي «تعادي» النظام، «فلا بد» من أنها تشعر بفقدانها السيطرة الكلية على مسارات الواقع السوري أمام تنامي «داعش» وانتشارها على مساحات غير متوقعة، حتى لو لم تعلن ذلك رسمياً.

هذا الانقضاض على النظام لا يعني البتة العمل على إسقاطه، فهو أمر غير ممكن وغير مجدٍ أمام الحال «الداعشية». كما لا يعني في المقابل السير في ركب النظام أو التحالف البيني معه. وإنما يعني الضغط الممنهج لإنتاج سلطة انتقالية (مشكّلة من النظام والمعارضة وشخصيات عامة)، تقوم على تقويض أسس النظام الاستبدادي، ويشارك فيها جميع شرائح وقوى المجتمع السوري لتتمكن من المحافظة الحقيقية على وحدة الكيان السياسي السوري.

* رئيس تيار بناء الدولة السورية

الحياة

 

 

 

ماذا عن أمن السوريين؟/ فواز حداد

يعتقد الغرب أن قضية “الإرهاب” هي قضية تخصه وحده، وهو المهدّد بها، والمتضرّر منها، وليست قضية العرب والمسلمين إلا من حيث أنهم مسؤولون عنها، عدا عن أنهم أسبابها. وهذا يرجع إلى الدين الإسلامي نفسه، الذي يحمل في جوهره من خلال الدعوة إلى الجهاد دعوة إلى العنف.هذه النظرة يشاطرهم فيها بعض العرب، على رأسهم مثقفون من مشارب مختلفة، يجمعهم اعتقاد أن الإسلام هو مشكلة هذا الشرق المتخلف، ويرتأون ما يؤدي في النهاية إلى أن الحل الأمثل إلغاء الإسلام من لائحة الأديان المعترف بها، ذلك أضمن للسلام العالمي. أما لماذا اتجهت جماعات إسلامية إلى العنف المنفلت في هذا الزمن المضطرب، وليس من قبل، فهذا من الأسئلة التي لا تطرح، كي لا يجري التطرق إلى أسبابها الفعلية.

المؤسف في السنوات الأخيرة وحتى الآن، تتوارد الشواهد على صحة هذه الرأي، فيما لو كان أبطالها يمثلون الإسلام فعلاً، أحدها أخيراً الصورة التي نشرت في صحيفة “ذي أستراليان” عن صبي يبلغ من العمر سبعة أعوام يحمل رأساً مقطوعاً لجندي سوري في مدينة الرقة، وهو ابن لجهادي ينتمي إلى تنظيم “داعش”. أثارت الصورة استنكاراً واسعاً في الغرب، مثلما أثارتهم من قبل صورة آكل الأكباد، التي روج لها الرئيس بوتين. اعتبر الغرب حادثة الصبي الجهادي صاحب الجنسية الأسترالية، تؤذي صورة ديمقراطيته المتسامحة. جرى التركيز عليها، وكأنها لا تؤذي ولا تثير استنكار العرب والمسلمين.

واكب الحادثة اقتراح من الولايات المتحدة وأستراليا، بإحالة قضية “الجهاديين” الأجانب في سورية والعراق إلى الأمم المتحدة، لإقرار وسائل تتيح تعاوناً دولياً لمواجهة التهديد الذي قد يشكّله العائدون منهم إلى بلدانهم. المخاوف منهم ترجع إلى أنهم سيعودون أكثر تشدداً بعد ما تعلموا كيفية صنع عبوات وسترات ناسفة، وتدربوا على استخدام الأسلحة وتفجير القنابل. الاتجاه السائد ينحو إلى اتخاذ الدول المعنية تدابير استباقية تحول دون عودتهم، تجنباً لما سيجلبونه من فوضى ودمار.

منذ البداية تشكلت لدى الأمريكان وجهة نظر قوية بخصوص سورية، عملاً بنصائح إسرائيلية، فالإسرائيليون أبرز من يفهم مشاكل جيرانهم في المنطقة، لم يصرحوا بها، وهي أن الفرصة مواتية لتحول سورية إلى ساحة قتال، تستنزف أطرافاً عدة تشكل عامل عدم استقرار في المنطقة؛ إيران، حزب الله، الجيش السوري، ما يضعف النظام، ويسهم بتفتيت سورية. استجرت مع الوقت أطرافاً أخرى، فصائل إسلامية مقاتلة، ومن ثم “داعش” والنصرة والميلشيات العراقية… ومع هذا لم يحرك الغرب ساكناً، لقاء الإرهاب الذي ادعى أنه يهدده. السوريون وحدهم دفعوا ثمن هذا الاستنزاف من حياتهم ومستقبلهم وما نجم عنه من خراب شامل وافتقار إلى وسائل الحياة والتعليم.

يتابع الغرب لامبالاته التي باتت مركبة بمنع الجهاديين القادمين من الخارج من العودة إلى بلدانهم، حسب مصادر غربية، بلغ عدد العائدين لا أقل من الثلث، ان لم يكن أكثر، بعد أن وجدوا أن الجهاد لا يزيد عن القتل الذي حرمه الإسلام، الذي باسمه جاؤوا لنصرة اخوانهم المسلمين. فإذا كانوا أنكروا جهاد “داعش” والنصرة، فلماذا يجري دفعهم مجدداً إلى أرض الجهاد؟

اختار الغرب ألا يخمد الحريق السوري، مادام الاستنزاف يؤتي مفعوله، الحريق المرشح للمزيد من الانتشار، وصل الى العراق، ولن يكتفي به. هل سيعمل الغرب على تطويقه ضمن حدود دولة الخلافة، ما يؤمن استمرارية الاستنزاف؟ وهو إلى حد ما لن يتوقف، الحرب لم تعد تحت سيطرة إيران و”حزب الله” والنظام السوري والروس… لا طرف فيها قادر على الخروج منها، إلا بجهد عالمي، واتفاق إقليمي. الغرب القادر على وضع حد لها، أدار ظهره لها، وعندما اضطر الأمريكان إلى التدخل أصروا على ضربات محدودة، بحيث تبقى سورية خارجها، وكأنها بلد خال من الارهاب.

يعتقد الغرب أن في استمرار الأزمة السورية متنفساً للإرهاب، يضمن أمنه، لكن ماذا عن أمن السوريين؟عندما تتيقن السياسات الغربية، أن سلامة شعوبنا لا تقل عن سلامة شعوبهم، فهم على الطريق الصحيح في محاربة الإرهاب، أما اذا كان هناك تمييز وأفضليات واستثناءات، فلا جدوى من الحديث عن الإرهاب ولا العدالة، أو حتى الأمان.

المدن

 

 

الدولة الاسلامية: الحلم الوردي والراية السوداء/ د. عمار تباب

الدولة الاسلامية، ذلك الهروب من الواقع البائس إلى الميتافيزيقيا الحالمة السعيدة التي رسمها السيد أبو الأعلى المودودي في الجماعية الاسلامية التي أسسها عام 1941، والتي استند إليها سيد قطب في بناء نظريته والتي يعتبرها الكثيرون البعد النظري للعمل الجهادي الطامح للخلافة التي حوَّلها الاعلان عن الدولة الاسلامية مؤخراً حلماً ملموساً . وبين هذا الواقع وذلك الحلم بدأت مراكز الدراسات شرقية وغربية كالضارب بالماء أمام تحليل المسببات وتوقع المآلات ، وكثرت التحليلات التي انتشرت على لسان الشارع العربي المتأرجح بين منزلقات الاستبداد ومنزلقات التعصب المقيت . وانقلبت بوصلة الحراك الجماهيري الثوري عن عدوها المتمثل بالاستبداد إلى عدوٍّ توهمته مجسداً بالدولة الاسلامية المعلنة حديثاً ، تماشياً مع الارادة الحكومية المحلية ناهيك عن الارادة الدولية التي قررت رفع أجهزة الانعاش عن الرجل الضعيف أوائل القرن الماضي ، ولا تريد أن تشهد ولادته في أي لحظة مُخْتَلَسَةٍ من هذا الزمان . وانقسم الشارع بين مصفق للدولة الاسلامية يرى فيها انبعاث مجد الماضي ، وآخرُ منقلب على الصورة النمطية لمجتمعه محاولاً استنساخ الخبرة الأوروبية في حربها مع الكنيسة في القرن الماضي، ومراجع لذاته وخياراته محاولاً وأد ذلك الحلم الدفين الذي كان يدغدغ مشاعره بين الفينة والأخرى وهو يقف على قبر صلاح الدين في تلك الزاوية العتيقة من زوايا الجامع الأموي في دمشق . أو يداعبه وهو يمر على قبر خالد بن الوليد الذي استندت إليه أكتف ثوار حمص الجريحة ، أو يلمحه على أسوار اسطنبول الذي مثَّل ملجأً للكثيرين .

وتكاثرت الاتجاهات وتعددت الاطروحات واختلط فيها التلفيق مع التحقيق في سجلات تلك الدولة الوليدة ، ذهب البعض إلى جعلها مؤامرةً حيكت خيوطها بمال عربي وإرادة دوليةٍ وخبرةٍ شرقية لدى أقبية النظام في دمشق تارة وفي إيران تارة أخرى ، أو جريمةً بحقَّ ثورةٍ بدأت ثورة حرية وكادت أن تنتهي ثورة إسلامية بخلاف إرادة الجماهير العريضة بحسب وصفهم . وذهب آخرون إلى أن ظهور الدولة على تلك الشاكلة هو الضربة الكبرى التي ستؤدي إلى توسيع الهوة بين الحلم الوردي وواقع الراية السوداء ، بينما رأى آخرون أن إعلان الخلافة إنما يمثل تطوراً حتمياً لذلك الحشد العاطفي الذي لم تنطفئ ناره منذ سقوط الخلافة العثمانية ، تلك النار التي ألهبتها خطبٌ حماسية ٌ تحاكي أمجاد الماضي وتدقُّ من منابر مختلفةٍ باباً واحداً اسمه باب الخليفة. الخليفةُ الذي خرج على منبره ليقترب من الناس ويداعب أحلامهم بحلو كلماته ومكر اقتباساته . ولو أردنا مناقشة إعلان الدولة الاسلامية من جانب أكثر تخصصاً ، فسيكون حاسمأً في النقاش تحديد النقطة الزمنية التي نتحدث عنها للاستناد إلى توصيفاتها ومؤدى هذه التوصيفات ، ففي اللحظة التي ظهر فيها الاعلان كنا أمام نقطة زمنيةٍ تحول فيها تنظيم الدولة من مفهوم التنظيم إلى مفهوم الدولة التي تكاملت عناصر قيامها وفق البيان . وبالتدقيق والعودة على ما قدمناه ، نجد أن الأيديولوجيا التي تقوم عليها هذه الدولة تعتمد على ذات القواعد التي أشار إليها كل من المودودي وسيد قطب ، إلا أن تحليل هذه المفردات يضعنا أمام رؤية جديدة ، ربما تلامس الواقع وتقترب من الحقيقة.

النظام «الثيوقراطي» إن مناقشة قيام الدولة وتوجيه النقد إليها لاعتمادها نظاماً ثيوقراطياً قائماً على الدين لا ينال من الدولة أو النظرية التي استندت عليها في إعلان نفسها ، وإن التاريخ والحاضر يعتبر زاخراً بأمثلة على الدول الثيوقراطية والتي لا تبتعد جغرافياً عن الدولة موضوع المقال ، فلو ذهبت غرباً لاصطدمت بالمارد الايراني الذي يؤصل لنفسه كنظام ثيوقراطي بحت ، ولو اتجهت جنوباً لاصطدمت بالمارد الاسرائيلي الذي أعلن عن نفسه كدولة دينية ، ولو قلَّبت صفحات الجغرافيا لوجدت أمثلة أخرى كمملكة بوتان ودولة الفاتيكان ، وحكومة أندورا . إلا أن اللافت للانتباه هو الانتقاد الشديد لهذا النظام الثيوقراطي من محيطه الضيق وبعده الاجتماعي ، هذا النظام الذي غازلته دساتير الدول العربية بفرض الشريعة كأحد المصادر الرئيسية للتشريع ، وراودته حكوماتها حين أعلنت مجتمعة على ما يسمى « القانون العربي الموحد « والذي يعتبر تقنيناً للشريعة الاسلامية . فلماذا تغازل ؟ ولماذا تراود ؟ ولماذا تداعب ؟ ولماذا تتعفف ؟

النظام التوسعي . لقد اعتمد الكثيرون أيضاً هذه الصفة التوسعية لانتقاد هذه الدولة الوليدة ، وإن الاعتماد على هذا النقد منبعثٌ من رفض الانقلاب على النظام العالمي الحالي ، والذي رُسمت حدود دوله بأيدي الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية ، إيقافاً منهم لحركة التاريخ عند هذا الانتصار . ولو رجعنا إلى الأيديولوجيا التي أقامت امبراطورياتهم الجغرافية تاريخياً ، وامبراطوريات النفوذ في الوقت الحاضر ، لوجدنا أن الجميع دخل في هذه الدوامة التوسعية التي يشارُ بالاتهام إليها . ويكفينا في جانب آخر أن نشير إلى بعض وثائق جامعة الدول العربية والتي تجلت في دساتير بعض أعضائها ، ومنهم نظام دمشق بأن الوحدة ثالث ثلاثة في أيقونة « الوحدة والحرية والاشتراكية « والتي تمثلُ بحسب أدبيات البعث مطلباً جماهيرياً عربياً حالت دونه دول الاستعمار الحديث . إلا أن المفارقة تكمن بمناهضة من تواءمت أدبياته مع هذه الأدبيات ، وحاول بأفعاله تحقيق هذا المطلب الجماهيري – بحسب قولهم – والذي سوَّقوا أنفسهم من خلاله لدى مجتمعاتهم . وترنموا عليه مع قصيدة غنوها . بلاد العرب أوطاني من الشـــــــام لبغدان.

النظام القمعي . لا يخفى على أحدٍ أن الدولة الاسلامية بهذه الصورة أعملت يد البطش في مناهضيها ، الأمر الذي لا يبرره منطق ولا قانون ، وإن وجد مبرراً تاريخياً له بممارساتٍ شرقية وغربية ، لا تبدأ بالقضاء على الهنود الحمر في أمريكا ولا تنتهي بالقمع الممارس من الأنظمة في دمشق والعراق. إلا أن وجود المثال التاريخي لا يتيح التبرير المنطقي ولا القانوني ولا الشرعي في إنهاك الناس وإهلاكهم وتطويعهم باسم الشرع أو غيره بقصد إقامة الشرع أو غيره . إلا أن قيام الدول بموجب القانون الدولي لا ينتظر إرادة من أحد ، فقد أكد كبار شراح القانون الدولي في تعريفهم لمفهوم الدولة أنها قائمة على عناصر ثلاثة ( الأرض والشعب والسطلة ذات السيادة ) ، وبالرجوع إلى فقه القانون الدولي نلمح تنازعاً بين تيارين ينظر أحدهما إلى الاعتراف بالدولة على أنه منشئ لها ، بينا يرى الفقه الراجح الذي اعتمده مجمع القانون الدولي أن الاعتراف لا يعدوا أن يكون مقرراً أو مقرَّاً بالوجود الذي تحقق باستكمال العناصر الثلاثة المشار إليها. وقد غاب عن أذهان الكثيرين أن الاعلان جاء مستكملاً لهذه العناصر وربما يكون ذلك سلوكاً مدروساً ومقصوداً من قياداتها التي تهاوت إليها خبرات شرقية وغربية متعددة الاختصاصات . لقد استطاعت الدولة الاسلامية أن تُوقِع المجتمع الدولي – والذي ربما اختار الوقوع – في شرك الاعتراف بها ولو حتى في الجلسات الضيقة كسلطة حاكمة للجمهور في رقعة ٍمن الأرض صغرت أم كبرت ، فاضت مواردها أم شحَّت . فما بالك بكيان تتجاوز مساحته ما تبقى من العراق وما بقي من سوريا ، وتتركز لديه آبار النفط التي ربما تكون جاذبة للأشخاص الدولية ولو بعد حين . لقد استطاعت الدولة الاسلامية أن تجد لنفسها مكاناً على الخريطة التي لم تستطع شظايا الأغيار المنازعة فيها . فإما أن نثبت عدم امتلاك الدولة الاسلامية المعلن عنها لأحد عناصرها سواء بإعادة بسط النفوذ أو كف يدها كسلطة قائمة في تلك المناطق ، أو على الجميع أن يقتنع بأنها في طريقها للحياة كدولة ، ولا بدَّ أيضاً من تصحيح التوجه الاجتماعي الذي انقلب على ذاته. فالانقلاب الأعمى سيؤدي إلى رجوع مندفع ، لا بدَّ أن نعلم أن الدولة الاسلامية كحلم لا يمكن اسقاطه على كلِّ طامح أو طامع ، ولا يمكن سلبه من كل مريد . إذا أردنا علاج مسألة الدولة الاسلامية فلا بدَّ من التحليل في التوصيف ولا بدَّ من التأصيل في التصنيف لكي نستطيع الاجابة على تساؤلات عدَّة يمكن اختزالها بما يلي : ما هي المشكلة ؟ وما هي أسبابها ؟ وما هو حجمها ؟ وماهي عواقبها ؟ وكيف السبيل لحلها ؟ .

٭ كاتب سوري

 

 

“داعش” تفكر: 11 جديد؟/ ربيع بركات

لم يكن وزير الخارجية الأميركية جون كيري يبالغ حين اعتبر، قبل شهرين، أن خطر «الدولة الإسلامية» يتجاوز سوريا والعراق ليطال كلاً من الولايات المتحدة وأوروبا. فكلامه، وإن جاء ليُعنون رغبة بلاده بتوظيف الخطر لولوج البوابة العراقية بمظهر جديد، إلا أنه يعكس خلاصة ما دار في كواليس أجهزة استخبارات الدول الغربية الكبرى على مدى عام ونيّف على الأقل.

منذ حزيران 2013، تتوالى اجتماعات مسؤولين سياسيين وأمنيين غربيين للتباحث في سبل درء مخاطر «جهادييهم» المقاتلين في سوريا، إذا استطاع هؤلاء العودة إلى ديارهم، أو تمكنوا من اختراق أمنها من بعيد، عن طريق تجنيد المتطوعين وتأسيس الخلايا النائمة.

بعد ثلاثة اجتماعات موسعة، في مطلع العام 2014 تحديداً، أفصحت المفوضة المكلفة بالشؤون الداخلية للاتحاد الأوروبي، سيسيليا مالستروم، عن مخاوفها على الملأ. قالت إن الوقت لا يعمل في مصلحة الاتحاد، وإن دوله تحتاج إلى «ابتداع أساليب للعمل الوقائي»، قبل فوات الأوان. كان هذا قبل أن يعلن أبو بكر البغدادي خلافته التي تفيض عن بلاد الشام والرافدين معاً.

بضعة أسابيع فقط تلت الإعلان المذكور ليرتفع بعدها منسوب القلق الأوروبي ويُعبَّر عنه جهاراً: منسق شؤون مكافحة الإرهاب في الاتحاد، غيلز دي كيرتشوف، يؤكد أن استخبارات دول القارة تدقق في كل صغيرة وكبيرة، ويعلن، في الوقت عينه، أن تنظيم «الدولة» بدأ الإعداد لهجمات محتملة في أوروبا.

لم تُعلن أرقام رسمية دقيقة تفصّل أعداد المقاتلين الغربيين في سوريا. إذ يتراوح عدد الأوروبيين، وفق تقديرات متفاوتة، بين ألفين وخمسة آلاف. وهؤلاء بعض ما يزيد عن أحد عشر ألف «جهادي» أجنبي في البلاد، معظمهم ينتظمون في صفوف تنظيم «الدولة الإسلامية».

ويوظف التنظيم العابر للحدود تنوع جنسيات مواليه في خدمة أعماله القتالية. مسلحوه الأجانب يجتمعون عموماً في كتائب مؤلفة من حاملي الجنسية ذاتها، وهو أمر يرتبط أساساً بالحاجة إلى تسهيل التواصل على أرض المعركة وتجاوز حاجز تعدد اللغات. بيد أن الإفادة على المدى الأبعد، تتصل بعمل هؤلاء العناصر في شبكاتٍ يختص كل منها في تجنيد المقاتلين من بلادهم الأم، وفي العمل في هذه البلاد متى اقتضت الحاجة ذلك.

حتى اللحظة، ما زال معظم العواصم الغربية يتفادى إعلان المواجهة مع «داعش» على الملأ قبل أن تنضج الظروف. واشنطن، تحديداً، تبدو كمن يرغب في أن تأخذ الحرب شكل قضم متدرج لقدرة التنظيم على الحركة والفعل، وكمن يفضل أن يكون اللاعبون الإقليميون في واجهة الاشتباك حتى لا تصاب بشظاياه، على أن تكون هي، في الوقت ذاته، على رأس الكاسبين.

ولتلك النتيجة المركبة ميزان دقيق يُعمَل على إنجازه بهدوء، حتى تتقلص احتمالات الفشل في إقليم يعج بالحسابات. أسلوب التعامل مع الأكراد في شمال العراق اليوم مثال على ذلك. فالأخيرون ليسوا واحداً. وداعموهم، الأميركيون تحديداً، يدركون ذلك ويتعاملون على أساس هذا الإدراك. إذ بينهم «بشمركة» البرازاني، حليف واشنطن الوثيق، ومنهم أنصار «حزب العمال الكردستاني» الذين يخوضون معاركهم جنباً إلى جنب مع الجيش السوري ضد المعارضة المسلحة، وهم الذين تتحسس منهم أنقرة خاصة، علماً أن حسابات دعم الأكراد تتصل أيضاً بالخشية الغربية من اندفاعهم نحو إعلان استقلال، يؤسس لتوتر جديد في منطقة حافلة بالقضايا العالقة.

في المبدأ، يؤدي أسلوب الخنق وإيكال مهمة الالتحام المباشر للاعبين إقليميين إلى إطالة أمد المواجهة مع «داعش». لكنه لا يحول دون إعلان «ساعة صفرٍ» لإطلاق عمل عسكري مشترك، تتضافر فيه جهود إقليمية ودولية للإجهاز على التنظيم بالضربة القاضية، برغم أن التجارب السابقة مع «القاعدة» وفروعها تُظهر صعوبة صرع جماعات «الجهاد العالمي» في منازلة واحدة.

ولأن الحكومات الغربية تأخذ هذه الصعوبة بالاعتبار، تطلق معركة أقرب ما تكون إلى التمهيدية لحربها على التنظيم. تحاول قطع شرايينه ووقف امتدادها، فتعمد، في الفضاء الافتراضي، إلى طلب إقفال حسابات مؤيدة لـ«الدولة الإسلامية» على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الفضاء الحقيقي، إلى الإغارة على جحافلها المتقدمة نحو كردستان العراق. أما في مجلس الأمن، فتحسم عبر القرار الصادر أخيراً بجمع «داعش» و«النصرة» في بوتقة واحدة، بعدما حاول حلفاء لها في المنطقة، على مدى أشهر، تسويق فكرة احتواء «النصرة» واستخدامها لضرب «الدولة الإسلامية». إذ تدرك عواصم الغرب أنها، بذلك، تقطع الطريق أمام تحول بعض مجموعات «النصرة» إلى رديف لـ«داعش» أو متنفس لها، بعدما كثرت الانشقاقات في الأخيرة، وبدا الخروج من جيبها إلى جيب «الدولة» سهلاً لقلة الفوارق العقائدية بين الجماعتين.

ترسم الدول الغربية سياساتها حيال خطر وحش «داعش» الوليد بهدوء. لا تستعجل الخطى حتى لا تزلّ قدمها وينفذَ الزئبق «الجهادي» من ثغرة فاتها إغلاقها. تبقي في ذهنها مجموعة من الروايات والأسماء ذات الدلالة: أبو هريرة الأميركي، أول انتحاري من بلاده في سوريا. أبو طلحة الألماني، مغني «الراب» الذي توّجتهُ «داعش» أميراً على الحسكة ثم أردته «النصرة» بتفجير انتحاري. أبو عيسى الأندلسي، لاعب فريق «أرسنال» الإنكليزي لكرة القدم الذي ضمه فريق «الدولة الإسلامية». أبو البراء البلجيكي، أمير «الدولة» في سراقب الذي قضى تاركاً خلفه نحو مئتين من مواطنيه المهيئين للانفجار… وعلى المنوال ذاته سار غيرهم ممن كانوا من نسيج مجتمعاتهم قبل أن ينقلبوا عليها.

تدق الساعة في أروقة أجهزة الاستخبارات الغربية ببطء. يظهر الخطر في أوروبا أوضح بكثير مما هو في الولايات المتحدة. سبق للقارة العجوز، التي لا يفصلها عن المشرق المتفجر سوى بحرٍ متوسط، أن ذاقت طعم 11/9 مصغراً في مدريد ولندن.

تدق الساعة ببطء ومعها عدادات العبوات المزنرة لأجساد الانتحاريين. هكذا يفكر تنظيم «الدولة الإسلامية». أو هذا ما يريد لخصومه أن يظنوا، حتى يخلق بينه وبينهم حاجز إرهاب، يعطيه مزيداً من الوقت للحياة.

الأخبار

 

 

 

من اجل هزيمة داعش/ علي العبدالله

شكلت النزعة التوسعية، مصحوبة بوحشية وقسوة بالغة ازاء المخالف والمختلف، وخاصة المختلف دينيا ومذهبيا، التي وسمت تصرف داعش في العراق، نقطة تحول في تعاطي القوى المحلية والإقليمية والدولية مع تمدده العسكري والسياسي بدأ بتسليح قوات البيشمركة وشن غارات على قواته لتعزيز قدرة الأخيرة على مواجهة الاسلحة المتطورة وكثافة النيران التي حاز عليها التنظيم بعد حصوله على كميات كبيرة من عتاد الجيشين العراقي والسوري، ولرفع معنويات الجيش العراقي والمناطق والعشائر التي وقعت تحت سطوته.

غير ان ما تم لا يرقى الى مستوى التحدي الذي شكله داعش، خاصة وانه يمتلك عمقا استراتيجيا وخزانا للقدرات المادية والبشرية، عبر اللعب على الاحساس بالغبن والتهميش والقهر والقتل بين ابناء السنة في سوريا والعراق، وملاذا، عند الضرورة، مساحة شاسعة من الارض السورية، وان عدم مواجهة هذا الجانب سيجعل عملية مواجهته والقضاء على خطره في العراق محدودة الأثر، ان لم تكن غير مجدية على الإطلاق، لأنه سيعود بعد فترة كمون، كما حصل من قبل، الى الظهور والتمدد من جديد، ناهيك عن رد فعله الآني والذي سيعكسه ارهابا ووحشية على المواطنين السوريين كي يشل قدرتهم على استثمار تراجعه وضعفه في مواجهة القوى المحلية والإقليمية والدولية على الساحة العراقية، ناهيك عن تحريك خلاياه النائمة للقيام بعمليات ارهابية في انحاء العالم للرد على التحالف الدولي الذي تشكل لمواجهته وتخويف الدول على امنها واستقرارها ودفعها للابتعاد عن التحرك الدولي المضاد.

تستدعي مواجهة داعش والقضاء عليه، ووأد مشروعه السياسي المتمثل بإعادة بعث نظام سياسي سلطاني قمعي متسربل بشرعية دينية مدعاة، هجمة منطقية شاملة، بتعبير المفكر المستقبلي الامريكي الفين توفلر، تأخذ بعين الاعتبار مجمل عناصر المشهد السياسي والعسكري والفكري والاجتماعي والاقتصادي، والتداخل العميق بينها، بحيث تقوم الخطة على اسس ومرتكزات فكرية وسياسية وعسكرية، مع تكاملية واضحة وجازمة، تنطوي على احتواء الهجوم العسكري وصولا الى تدميره، وامتصاص اسباب التذمر والتوتر والاحتقان السياسي والاجتماعي وتطويق التوتر المذهبي والانقسام القومي برفع المظلوميات وإعادة الحقوق الى اصحابها والتأسيس لنظم تشاركية فعلية قائمة على العدل والمساواة في الحقوق والواجبات في ظل سيادة القانون والتعددية السياسية والاعتراف المتبادل بين القوى السياسية والاجتماعية والدينية والمذهبية والاثنية والقومية ومشاركتها في ادارة الدولة وفي صنع القرار السياسي والاقتصادي، وإجراء مراجعات تاريخية واجتماعية وفكرية لكشف الغطاء عن الاسس الدينية المدعاة لتبرير المشروع السياسي الداعشي، وفضح منطلقاته الضيقة والانتقائية.

ان ما يمثله داعش وأخواته من خطر داهم على المجتمعات ووحدتها واستقرارها الاجتماعي والسياسي يتطلب ردا من نفس المستوى والتأسيس لبيئة نافية لهذا التوجه والمشروع عبر اقامة نظم عادلة وديمقراطية وإقامة مؤسسات سياسية واجتماعية وإدارية تمنح المواطن فرصة التعبير عن مواقفه وقضاياه وتطلعاته بحيث يعبر من خلالها عن كل مايراه حقه فيزول مبرر الشعور بالتهميش والغبن وما يترتب عليه من توتر واحتقان وتستر وانخراط في اطر غير شرعية وعنيفة للوصول الى هذه الحقوق.

لذا وعلى ايجابية ما حصل الى الآن من تحرك اغاثي وعسكري وسياسي في العراق، وإعلامي وسياسي في الامم المتحدة، بصدور قرار مجلس الامن، والاتحاد الاوروبي ودول أخرى، الا انه اقل من المطلوب لمواجهة الخطر المصيري والأمني الذي يشكله داعش وأخواته، ما يطرح ضرورة اعادة النظر في الخطة ووضع التصور الشامل الذي يعالج كل عناصر الصورة بدءا من المساحة الجغرافية المباشرة والمحتملة ومد المواجهة الى الساحة السورية فورا لتطويق التنظيم ومنعه من اعادة ترتيب اوراقه وصفوفه، وإعطاء المجتمع السوري فرصة التحرك والانتفاض ضد القهر والوحشية والتعسف الداعشي، وتنشيط الكتائب المسلحة التي قاتلته، ومازالت تقاتله، بمدها بالسلاح والذخيرة وتشجيعها على التخلي عن ذهنية تجاهل الخطر حتى يصبح داهما، فداعش لن يترك جهة دون اخضاعها فمشروعة شمولي اقصائي مدمر، ومساعدتها على التنسيق العسكري وخوض معركة شاملة ومنسقة وعلى كل خطوط المواجهة ضد داعش بحيث تسقط تفوق داعش بإجباره على نشر قواته على اكثر من خط قتال. هذا بالتوازي مع تحرك لراب الصدع الاقليمي والدولي حول ملفات الاقليم من التوتر المذهبي بين السنة والشيعة ومستقبل الثورة السورية ومصير النظام الاستبدادي الى المشروع السياسي الايراني مرورا بحل عقدة الدولة اللبنانية وإطلاق مصالحة داخلية تبدأ بانتخاب رئيس جمهورية تمهيدا لانتخابات نيابية سلسة. فالتوافق المحلي والإقليمي والدولي الذي اتاح اخراج نوري المالكي ومجموعته من المشهد السياسي العراقي قابل للاستثمار والمد الى ملفات اقليمية أخرى مثل سوريا، بإطلاق عملية سياسية سورية تخرج الوضع من حالة الاستعصاء وتفتح الطريق امام عملية انتقالية ناجحة، وكذلك الى لبنان واليمن والبحرين.

على المجتمع الدولي بقواه الاممية والدولتية والشعبية الامساك بالفرصة، واستثمار حالة الاستنفار الاقليمي والدولي والتوافق الذي حركه سلوك داعش الوحشي ضد المجتمعات المحلية في العراق، أخذ المبادرة والتحرك العملي والجادة بتشكيل تحالف دولي سياسي وعسكري وتوظيف القوى الاجتماعية والفكرية والدينية وخوض معركة شاملة ليس ضد داعش وحسب بل وضد المناخ الذي ولدّها وسمح بنموها وتضخم قدراتها حتى باتت خطرا داهما على الجميع، لدحره وانجاز برنامج اعادة الحقوق ورد المظالم وإقامة نظم مستقرة ومزدهرة في ظل سلطات شرعية وأنظمة ديمقراطية وعادلة.

المدن

 

 

 

تنوير إسلامي مبكر/ د. طيب تيزيني

تتعاظم الاضطرابات في العالم الإسلامي بدرجات تدعو للقلق، خصوصاً مع تعاظم المنازعات بين التيارات الدينية «الإسلامية» إلى درجة النقد العنيف فيما بينها على نحو فاحش، نقداً يقود إلى القتال المسلح والصراع الديني.

وبمزيد من التدقيق في هذه القضية، يصح القول إن معيارين اثنين ظهرا بمثابتهما ناظمين لما يأتي هنا في هذا السياق. أول هذين الناظمين هو القرآن الكريم (النص المقدس) وما يحيط به من قواعد وأحكام، أما الثاني فهو السنة النبوية وما يتصل بها من قول وعمل.

وهنا نطرح هذين المعيارين بوصفهما ضبطاً لعملية التعقيل، أو بعبارة مختزلة يصبح القول وارداً بأن النص إياه يمر مساره عبر المرور بالمعارف والمصالح، أو لنقل بالمصالح والمعارف. والآن نرى إن ذينك الاعتبارين يمر بهما النص لإخضاعه للاستنباط العقلي، وذلك بشيء من الحركية والنصية في آن واحد.

وبذلك نحافظ على حيوية النص وأصليته النصية ليجد نفسه متحركاً نحو ضبط نفسه معرفياً ومصلحياً.

لذلك يمكن أن نقول الكثير عن ظهور مرحلة تنوير في التاريخ الإسلامي العربي تركت أصداء عميقة باعتبار دلالة النصين وما لهما من حضور كثيف ولافت.

إن الرؤية التاريخية التنويرية نجدها عند الخليفة عمر بن الخطاب، جنباً إلى جنب مع التأكيد على العدالة والتربية والتقدم، ومع الكرامة والمساواة. مواقف تؤكد مسائل وإلزامات، دون أن تتحول إلى رؤية أيديولوجية مغلقة، وإن اتصفت بتماسك ذي بعد استراتيجي.

وقد جاءت في تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، لإحدى الفتيات السوريات، إشارات لافتة في أهميتها التاريخية وفي دلالاتها الفكرية، عندما قارنت ما أنجزه الخليفة عمر بن الخطاب على صعيد التنظير وضبط المواقف المستجدة، مع ما يشهده عصرنا من أولئك الذين يزعمون أنهم يدافعون عن الإسلام، وهم يسيئون إليه إساءة علمية ومعرفية وتاريخية فادحة. ففيما يخص رجم النساء الزانيات، سلك الخليفة عمر سلوكاً حضارياً عندما تبين له بعد وقت قصير أن أحد الشهود في المسألة يكذب، فأطلق سراح المرأة، وجلد الشاهد الكاذب. أما «أبوبكر البغدادي» فلديه في كل أسبوع عملية رجم أو جلد.

هذا بينما تتعلق الملاحظة الثانية بمسألة قطع يد السارق. فكلنا نعلم القصة المشهورة، عندما سأل الخليفة عمر بن الخطاب واليه على مصر (عمرو بن العاص): إذا جاءك سارق ماذا تفعل به؟ قال عمرو بن العاص: أقطع يده. فقال عمر: وأنا إن جاءني جائع من مصر قطعت يدك!

فهل يا ترى لم يبق جائع واحد في أرض الخلافة البغدادية، حتى يقيم البغدادي حد السرقة كل يوم!

وفي مناسبة أخرى أعلن الخليفة عمر بن الخطاب، عندما اعترضت عليه امرأة أمام الناس، أصابت امرأة وأخطأ عمر!

تلك مواقف عاشها الخليفة مع الناس مستمعاً لهم ومحاوراً، حيث تصدى فيها لقضايا ذات أهمية خاصة، وأظهر فيها الحكمة والعقل والتواضع، ودونما تعصب أو حط من قيمة الناس. إن هذه الملاحظات الدقيقة والثمنية، معرفياً وعلمياً، يمكن أن تؤسس لرؤية تنويرية منفتحة تدين الظلامية وتشدد على حرية الرأي واحترام الآخر.

وهذا ما يؤسس مستقبلاً لمثل تلك الدراسات التاريخية في الإسلام وغيره. وفي كل الأحوال فالمسائل التي أتينا عليها من تلك الزاوية الخطابية هي باتجاه بحث ما لم يبحث وتدقيق ما لم يدقق فيه.

الاتحاد

 

 

 

الأكراد وداعش.. حروب الهوية والسيطرة/ خورشيد دلي

حروب للسيطرة

الدعم الغربي للأكراد

تداعيات الحرب

الحرب بين داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) والأكراد لم تبدأ مع سيطرته على الموصل وتوسعه باتجاه أربيل لاحقا كما يتصور البعض، بل بدأت قبل ذلك بأكثر من سنة عندما حاولت داعش التقدم للسيطرة على المناطق الكردية في شمال شرق سوريا وتحديدا للسيطرة على بلدة رأس العين (سريه كانيه) على الحدود السورية التركية، حينها واجه التنظيم مقاومة شرسة من مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية.

لكن الجديد في الأمر هو الاستنفار الغربي للدفاع عن إقليم كردستان الذي يكاد يشكل قصة النجاح الأميركية الوحيدة في العراق بعد غزوه عام 2003، إذ بدا الدفاع عن الإقليم وكأنه مخرجا للمعضلة الإستراتيجية الأميركية الأخلاقية في العراق في مواجهة زحف داعش وما رافقه من قتل وتدمير، لتأخذ الحرب شكل معارك كر وفر للسيطرة على المناطق المتداخلة عرقيا ودينيا وقوميا، وهي المتخمة أصلا بالنفط والمياه والكنوز التاريخية.

حروب للسيطرة

عندما سيطرت داعش على الموصل سارعت قوات البشمركة الكردية إلى بسط سيطرتها على مدينة كركوك، وأعلنت قيادة الإقليم أنه تم تطبيق المادة 140 الخاصة بمستقبل كركوك، وقتها اتهم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الأكراد بالتآمر مع داعش في الموصل تمهيدا لتقسيم العراق.

لم يمض على هذا الاتهام أسابيع قليلة حتى كانت داعش تتقدم صوب أربيل عاصمة الإقليم، فيما كانت دفاعات البشمركة تتهاوى في مخمور وسنجار وزمار وغيرها من المناطق، وكان لتقدم داعش وقع الصدمة على أربيل والعالم خاصة وأن هذا التقدم اقترن بارتكاب مجازر ضد الإيزيديين والأقليات التاريخية كالآشوريين والصابئة المندائيين والشبك.

قيادة الإقليم التي كانت مشغولة بالخلافات المتفاقمة مع بغداد وبمعركة الاستقلال، لم تجد مناصا من الانتقال من معركة الدفاع عن الإقليم وعدم التورط العسكري خارجه إلى الهجوم، إذ بدت وكأنها في معركة وجود مهدد بقوة زحف داعش، فانطلقت في حرب على الأرض، صورتها على أنها معركة الدفاع عن العالم لمحاربة الإرهاب، طالبة النجدة من الغرب الذي سارع بدوره إلى تلبية النداء وتقديم السلاح بل والمشاركة الأميركية العسكرية في الحرب ضد داعش بعد أن قالت الإدارة الأميركية في وقت سابق إنها لن تعود إلى العراق بعد الانسحاب منه.

على الأرض بدت المعركة وكأنها حرب للسيطرة على المناطق والهوية، واللافت هنا أن قوات وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا وصلت إلى سنجار حيث الموطن التاريخي للإيزيديين قبل وصول البشمركة إليها، واللافت أيضا، أنها المرة الأولى في التاريخ التي يلتقي فيها مقاتلون أكراد من المناطق الكردية في العراق وسوريا وإيران وتركيا على أرض سنجار للقتال معا في خندق واحد، في معركة أطلق بعض الكرد عليها معركة الشرف والكرامة.

وهكذا عززت الحرب من تدفق الهوية القومية الكردية على جغرافية حبستها سايكس بيكو قبل نحو قرن في حدود جغرافية سارع داعش إلى إزالتها قبل الأكراد.

ربما اعتقد الإقليم الكردي في البداية أن ما جرى كان مؤامرة إقليمية للقضاء على طموح الإقليم للاستقلال، لكن الإقليم سرعان ما وجد نفسه في مناخ جديد أوجده داعش نفسه عندما أنتجت سيطرته على الموصل معادلة سياسية جديدة في بغداد، قضت برحيل المالكي والمجيء بحيدر العبادي وسط دعم دولي وعربي وإيراني، وهو ما أعاد الجسور السياسية بين أربيل وبغداد من زاوية أولوية محاربة داعش بوصفه تهديدا لوجود الطرفين.

وقد كان التعاون بين أربيل وبغداد والإدارة الأميركية بمثابة ساعة الصفر من قبل البشمركة لوقف تقدم داعش على جبهات سهل نينوى ومحافظة ديالى وكركوك وصلاح الدين بعد أن سيطر التنظيم على أغلب مناطق سهل نينوى وقضاء سنجار وزمار وسد الموصل وجلولاء، قبل أن تستعيد البشمركة السيطرة على معظم هذه المناطق بدعم جوي أميركي وعراقي، لتصبح الحرب على الأرض معارك كر وفر من منطقة إلى أخرى.

الدعم الغربي للأكراد

العديد من المحللين يتساءلون عن سر الاندفاع الغربي وتحديدا الأميركي إلى الإسراع في نجدة أربيل لمواجهة داعش مقابل تكلؤ الإدارة الأميركية في الاستجابة لطلبات بغداد المماثلة عندما سيطر التنظيم على الموصل وهدد بالزحف نحو بغداد.

قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما بشن غارات ضد داعش سرعان ما أتبعه دعم بريطاني وفرنسي وألماني، ثم قرار أوروبي بتسليحه، وقبل ذلك قرار دولي تحت رقم 2170 يقضي بمحاربة إرهاب داعش.

قرار التدخل الغربي حمل شعارات أخلاقية تراوحت بين حماية الأقليات الدينية والعرقية ومحاربة الإرهاب وخطر التنظيمات التكفيرية، لكن الرئيس أوباما كان واضحا أيضا عندما برر شن الغارات الجوية بحماية المصالح الأميركية، ومع أنه لم يحدد ماهية هذه المصالح، إلا أنه من الواضح أنها تتعلق أولا بحماية المصالح النفطية وامتيازات شركات النفط الأميركية (إكسون موبيل وشيفرون) واستثماراتها الضخمة في الإقليم الذي بدأ يصدر النفط للخارج ويخطط لارتفاع إنتاجه بشكل قياسي خلال السنوات القليلة المقبلة. كما أنها تتعلق بحماية الوجود العسكري الأميركي حيث تتحدث تقارير أميركية عن وجود عدة آلاف من الأميركيين في أربيل.

وعلى المستوى السياسي فإن هذا التدخل شكل مسارا دبلوماسيا لرسم خريطة سياسية جديدة في العراق بعد رحيل المالكي وربما فاتحة لشكل من التعاون الأميركي مع الدول الإقليمية بشأن المستقبل السياسي للعراق.

في الإجمال يمكن القول إن التدخل العسكري الأميركي أدى إلى نتائج إيجابية على جبهة البشمركة تمثلت في:

1- تأمين الغطاء الجوي لقوات البشمركة للقيام بهجمات ضد داعش.

2- رفع معنويات القوات الكردية خاصة وأنها تعرضت في البداية إلى ما يشبه انتكاسة عندما سيطرت داعش خلال يومين على مناطق شاسعة من قضاء سنجار.

3- تسليح البشمركة بأسلحة متطورة وبكميات جيدة بعد أن منعت بغداد ذلك خلال السنوات الماضية.

4- جلب حالة من التعاطف الدولي مع إقليم كردستان وتأييده في الحرب ضد داعش خاصة في ظل ارتكاب الأخير جرائم وأعمال قتل لا سيما ضد الطائفة الإيزيدية.

5- لقد كشف كل ما سبق عن وجود لوب قوي في الغرب داعم للأكراد، خلافا لما كانت عليه العلاقة التقليدية بين الكرد والغرب، عندما كان الغرب يتعامل مع الأكراد من زاوية أمنية وقتية فقط، بعيدا عن كونهم شعبا وقومية وأمة، لهم حقوق ويمكن بناء مصالح مشتركة معهم.

تداعيات الحرب

دون شك فإن التدخل العسكري الغربي إلى جانب البشمركة أحبط تقدم داعش، ونقل المعركة إلى مرحلة جديدة، لعل من أهم عناوينها استيعاب اندفاعة داعش، وتوجيه ضربات مميته له في العراق، إفساحا في المجال أمام أهداف سياسية تتعلق بترتيب المشهد السياسي في العراق، على شكل تحقيق نوع من التوازن الشيعي السني في الحكم من جهة، ومن جهة ثانية إعادة العمل بالآلية الدستورية لحل الخلافات بين بغداد وأربيل بعد أن تفاقمت هذه الخلافات في عهد المالكي.

في الأساس يمكن القول إن داعش وقعت في فخ التوسع الجغرافي عندما سيطر على مناطق واسعة من العراق وسوريا وأقام شبه دولة تمتد من منبج بالقرب من حلب على الحدود السورية التركية إلى مشارف بغداد التي تشكل عاصمة حيوية لدول الخليج وإيران معا.

وإلى جانب فخ التوسع فإن قضية التسوية السياسية في بغداد فتحت المجال أمام العملية السياسية بما يخفف من أهمية البعد الاجتماعي الذي استندت إليه داعش في خطابها السياسي ضد حكومة المالكي.

ولا يستبعد كثيرون أن يكون الهدف الأميركي من التدخل السريع في الأحداث هو توجيه ضربة للنفوذ الإيراني في العراق وتشكيل جسر جديد للمزيد من التعاون العسكري مع بغداد وأربيل، ليس للقضاء على داعش في العراق فحسب، بل بما يمهد لسياسة عراقية مختلفة تجاه الأزمة السورية.

في الواقع ومع تأكيد صعوبة القضاء على داعش في العراق، خاصة بعد أن توسع التنظيم وامتلك قدرات عسكرية وخبرات قتالية كبيرة، إلا أنه من الواضح أن الانتصارات السريعة لداعش نبهت العالم إلى خطره وضرورة التحرك ضده ووضع حد لمسيرة صعوده في العراق، بما يعني كل ذلك وضع داعش أمام خيار وحيد، ألا وهو التوجه بأسلحته ومقاتليه شمالا أي نحو الأراضي السورية.

وما سيطرة داعش على دابق شمال حلب وتكثيف معاركه في المناطق الشمالية والشرقية أي حلب والرقة ودير الزور إلا بداية لموسم هجرة داعش من شمال العراق إلى سوريا، فيما يبقى الأمر بالنسبة لإقليم كردستان قصة نجاح جديدة، أو طريقا لفرض شروطه على بغداد أو حتى معبرا نحو الاستقلال.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى