صفحات العالم

مقالات لكتاب عرب تناولت الوضع بعد معركة “عرسال”

 

 

 

لبنان: تداعيات سياسية وأمنية لمعركة عرسال/ لينا الخطيب

سلطت معركة عرسال بين الجيش اللبناني والتنظيمات الإسلامية المتطرفة وعلى رأسها تنظيم «الدولة الإسلامية» الضوء على علات متشابكة يعاني منها لبنان في ظل استمرار الأزمة السورية وتدهور الوضع الأمني في العراق بعد إعلان قيام «الدولة الإسلامية».

محوران أساسيان برزا من خلال هذه المعركة:

المحور الأول هو هشاشة البنية القيادية للطائفة السنية نتيجة عدم وجود قيادات سنية معتدلة فعالة في لبنان، فالغياب المطول لزعيم أكبر كتلة سياسية سنية في لبنان، الرئيس سعد الحريري، والانقسامات حول اختيار مفت للجمهورية، والشحن المذهبي بين السنّة والعلويين في طرابلس كما بين الشيعة والسنّة نتيجة تدخل «حزب الله» في سورية، كلها ساهمت بإفساح المجال أمام التنظيمات المتطرفة لمحاولة استمالة أبناء الطائفة بعيداً من مؤسسات الدولة، فأصبح سنّة لبنان هدفاً لتنظيم «الدولة الإسلامية»، الذي حاول في عرسال تقديم نفسه كقوة دفاع عن السنّة في مواجهة الجيش اللبناني و «حزب الله». كانت هناك بوادر مقلقة في هذا الشأن، ففي طرابلس، حاول البعض استغلال معركة عرسال، خاصة أن عرسال بلدة سنية، لإثارة النعرات الطائفية والدعوة لمبايعة تنظيم «الدولة الإسلامية» في حال انتصاره على الجيش.

وهنا جاءت عودة الرئيس سعد الحريري الى لبنان بعد غياب ثلاث سنوات لتحمل هدفين رئيسيين:

أولاً: محاولة جمع الطائفة السنية حول مؤسسات الدولة وخاصة الجيش اللبناني، وبعيداً من الحركات الإسلامية المتطرفة كتنظيم «الدولة الإسلامية». وتزامن قدوم الحريري مع إجراء انتخابات تم من خلالها تعيين مفت جديد للجمهورية يعتبر توافقياً، مما يمكن أن يعزز من دور دار الفتوى والتي كان ساهم غيابها عن الساحة اللبنانية بصعود أفراد مثل الشيخ أحمد الأسير حاولوا جر سنّة لبنان بعيداً من سلطة الدولة. ثانيا: محاولة إعادة إحياء الدور السعودي في لبنان عامة ولدى الطائفة السنية تحديداً، خاصة أن المملكة في الأشهر الأخيرة قد عدلت من سياستها الخارجية تجاه الملف السوري لإعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب كإطار استراتيجي في وقت تزايد خلاله نفوذ تنظيم «الدولة الإسلامية» والذي تعتبره السعودية خطاً أحمر يمس بأمن الشرق الأوسط عامة. بالرغم من هذه الأهداف واحتمال تداعياتها الإيجابية، فإن غياب الحريري المطول وعودته شخّصا علة لبنان السياسية- الاجتماعية الكبرى، وهي ترسخ الانتماء المذهبي على حساب الانتماء الوطني. فالطريقة الوحيدة في الوضع الحالي المؤسف لحشد أي فئة حول مؤسسات الدولة هي من خلال وجود زعيم للطائفة يتولى توجيهها.

المحور الثاني الذي أظهرته معركة عرسال هو دور «حزب الله». قارن الكثيرون معركة عرسال بمعارك نهر البارد في شمال لبنان عام 2007، حين قام الجيش اللبناني بمقاتلة تنظيم «فتح الإسلام» الإرهابي، بالرغم من أن معركة عرسال ليست فعلاً مماثلة لسيناريو نهر البارد. في نهر البارد، تمكن الجيش من إحكام سيطرته على المخيم ومن ردع قوات «فتح الإسلام». في عرسال، ربح الجيش المعركة ولكنه لم يربح الحرب، فعناصر «الدولة الإسلامية» لا زالوا موجودين في جرود عرسال لا بل تغلغلوا في الداخل اللبناني، مما يشكل قنبلة موقوتة للوضع الأمني في البلد. كما يستمر «حزب الله» في انخراطه العسكري في مؤازرة النظام السوري ضد المعارضة بالرغم من سياسة النأي بالنفس الرسمية التي أعلنتها الدولة اللبنانية، مما يعطي الحركات المتطرفة المنبعثة من سورية عذراً للاستمرار في محاربة الحزب على الأرض اللبنانية.

ولكن، في ظل الفراغ السياسي في لبنان، والذي لا يزال في انتظار انتخاب رئيس للجمهورية ومجلس نواب جديد، والتشنج المذهبي الذي أصبح أكثر سوءاً بعد المواجهات بين مختلف المجموعات المتطرفة في شمال لبنان، وسلسلة العمليات الإرهابية للحركات المتطرفة السنّية التي استهدفت مناطق «حزب الله»، ظهر الجيش اللبناني كمؤسسة رسمية رئيسية تجمع ما بين الطوائف ويعتبرها الشعب جديرة بالثقة. في نهر البارد، أعطى نجاح الجيش مصداقية أكبر لترشيح العماد ميشال سليمان، قائد الجيش في ذلك الوقت، لرئاسة الجمهورية. اليوم، من بعد معركة عرسال، هناك تعاطف شعبي كبير مع الجيش اللبناني، مما سوف يساهم في دعم العماد جان قهوجي كمرشح لرئاسة الجمهورية. فالمقارنة بين عرسال ونهر البارد تشير الى يأس الشارع اللبناني وتوجهه نحو التعلق بأي بصيص من الأمل تجاه إحراز تقدم نحو انتخاب رئيس للجمهورية.

هناك احتمال كبير بأن يستخدم «حزب الله» هذا التعاطف مع الجيش لمصلحته، فـ «حزب الله» كان قد أعلن في أكثر من مناسبة مساندته ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، ولهذا فإن الحزب الآن يستطيع إعلان «تنازله» للمطلب الشعبي والقبول بقهوجي كرئيس بدلاً من عون، علما بأن قهوجي يمثل خياراً مناسباً لمصالح «حزب الله» أكثر من غيره من المرشحين.

وهنا يصبح «حزب الله» المستفيد الأكبر من معركة عرسال، فالحزب فضّل عدم الانخراط في هذه المعركة بشكل مباشر، لأن ذلك كان سيسبب مواجهة مع تنظيمات سنية على الأرض اللبنانية، مما كان يمكن أن يشعل نار العنف المذهبي ويدعم الإطار الطائفي الذي حاول تنظيم «الدولة الإسلامية» استخدامه، وهذا بالتالي كان يمكن أن يجر لبنان نحو حرب أهلية جديدة، فعلى العكس تماماً، قام الجيش اللبناني بمواجهة التنظيمات السنية المعادية لـ «حزب الله»، مما عزز من موقف الحزب بأن هذه التنظيمات تشكل خطراً على الأمن القومي، متناسياً دوره في جذب هذه التنظيمات إلى داخل لبنان. و»حزب الله» استفاد أيضاً من إبراز معركة عرسال لضعف سلاح الجيش مقابل عتاد تنظيم «الدولة الإسلامية»، خاصة بعد حصولها على الأسلحة المتطورة من خلال غزوها في العراق في الشهرين الماضيين، فضعف الجيش اللبناني عزز من تمسك «حزب الله» بإطار مصداقية سلاحه بحجة الخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش في عرسال، أي أن سلاح «حزب الله» هو حاجة ملحة لحماية لبنان. وطبعاً، وبما أن «حزب الله» هو المسيطر فعلياً على الحكومة اللبنانية الموقتة الحالية، فإنه يسعى بشتى الطرق لعرقلة تفعيل هبة المملكة العربية السعودية بثلاثة بلايين دولار والتي منحت لدعم قدرات الجيش اللبناني.

وبهذا تصبح معركة عرسال أداة تشخيص لتشابك ديناميكيات الساحة العسكرية والسياسية اللبنانية. والمهم الآن أن يتم التعاون ضمن نطاق الطائفة السنية كما على المستوى الوطني والإقليمي لدفع لبنان لمواجهة تحدياته الداخلية والخارجية، لأن معركة عرسال لم تشكل فقط وضعاً للإصبع على الجرح، وإنما ألمحت أيضاً الى معالم التغلب على علات لبنان.

* مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت

الحياة

 

 

 

فليرفع «حزب الله» يده عن الجيش اللبناني/ عبدالوهاب بدرخان

بعد أعوام متتالية لم تُسمع خلالها كلمة «السيادة» من أفواه الفريق السياسي الذي يهيمن عليه «حزب الله» في لبنان، كان لا بدّ من أن ينتهك مسلحو «داعش» و «جبهة النصرة» الحدود ويهاجموا الجيش اللبناني ليتذكّر هذا الفريق أن ثمة شيئاً اسمه «السيادة» وأن ما حصل اعتداء عليها. كانوا يستهزئون بالفريق الآخر عندما يتحدث عن السيادة والاستقلال، عن الدولة ومؤسساتها، وبالأخص عن الجيش كمؤسسة شرعية وحيدة مخوّلة حمل السلاح.

بديهي أن هجوم الارهابيين عبر الحدود «اعتداء على السيادة»، ومن الطبيعي أن يتصدّى لهم الجيش ويطردهم، ومن الواجب أن يتضامن اللبنانيون جميعاً مع الجيش. وهل كان متوقعاً أن يتضامن أحد مع «داعش» أو النصرة» مثلاً؟ هذان التنظيمان لا يعنيان أي طرف سياسي معروف في لبنان، بل لا يعنيان الشريحة الواسعة التي تعاطفت مع الشعب السوري في انتفاضته على نظام فعل كل شيء ليثبت إجرامه في حق ما يُفترض أنه بلده ومَن يُفترض أنه شعبه. وإذا وُجد فعلاً مَن يتماهى مع «داعش» وأشباهه فهو بالتأكيد هامشي لا يستطيع أن يفرض نفسه على البلد، وبالأخص على المجتمع السنّي الذي برهن تاريخياً أنه حارس «الدولة» مثلما أن المسيحيين ولا سيما الموارنة حراس «النظام». وخلال العقود الثلاثة الأخيرة أدخل الشيعة اضافةً مهمةً الى قيم هذه الجمهورية بخوضهم مقاومة باسلة أجبرت المحتل الاسرائيلي على الانسحاب من جنوب لبنان، إلا أنهم ما لبثوا أن أخذوا تلك المقاومة (التي احتكرها «حزب الله») الى مكان ووجهة آخرين، فبدل أن تعزّز لبنانيتهم ووطنيتهم اذا بها تصبح بندقية في خدمة نظامي سورية وإيران.

قبل الهجوم على بلدة عرسال وقبله كان الجدل مشتعلاً في لبنان بين مَن يطالبون «حزب الله» باسترجاع مقاتليه من داخل سورية وبين الحزب الذي قدّم أمينه العام حسن نصرالله منذ 2012 أكثر من رواية لتبرير تدخله وقتاله الى جانب نظام بشار الأسد، بدءاً من: 1) الدفاع عن لبنانيين شيعة ومسيحيين في قرى متداخلة مع الأراضي السورية: الى: 2) حماية ظهر «المقاومة»، فـ: 3) مواجهة «المؤامرة الكونية» على سورية ولبنان، و: 4) ضرورة «انقاذ» نظام الاسد، الى: 5) محاربة «التكفيريين»… ولم تكن هذه سوى «روايات» لحقيقة واحدة هي أن تدخل «حزب الله» لم يكن تورّطاً ذهب اليه مضطرّاً بل تنفيذاً لأوامر طهران وللخطط التي وضعها الجنرال قاسم سليماني. لذلك لم يبالِ نصرالله ولا حزبه بأي اعتبار داخلي وطني، رامياً وراء ظهره بسياسة «النأي بالنفس» (عن الأزمة السورية) التي تبنّتها الحكومة السابقة التي أشرف على تشكيلها، كما تجاهل «اتفاق بعبدا» الذي أقرّ بموافقته في هيئة الحوار الوطني، وكان الاتفاق واضحاً في نهيه جميع الفرقاء عن التدخل في أي من صراعات المنطقة.

ومنذ بداية الأزمة في سورية، راح «حزب الله» وحلفاؤه يسلّطون الضوء على بلدة عرسال، كونها حدودية وسنّية، فاستنكروا أولاً أن يستقبل أهلها نازحين هاربين من وحشية «شبّيحة» النظام، ثم نددوا باستقبالها جرحى سوريين ومعالجتهم، ثم اتهموها بتمرير أسلحة الى داخل سورية كونها ممراً قديماً للتهريب وسبق لنظام دمشق أن استخدمه لتمرير أسلحة الى «حزب الله». لكن الجيش واستخباراته وضعا عرسال باكراً تحت المجهر، تحديداً بإلحاح من هذا الحزب وكذلك من دمشق (بحكم التنسيق بين الجيشين)، ما حوّل البلدة الى مصيدة للثوار السوريين، وبالتالي فإن الأطراف الثلاثة كانت على علم بكل ما يجري فيها. أسوأ ما واجهته عرسال كان ضغط النازحين الذين فاقوا قدرتها على الاستيعاب، ولم توافق الحكومة إلا متأخرة على اقامة مخيم لهم وعلى تمكين هيئات الاغاثة من الوصول اليهم.

وسط هذه المحنة كان «حزب الله» يواصل التحريض ضد البلدة، لأنها خارج سيطرته المباشرة ولأنه لا يثق بتدابير الجيش داخلها أو خارجها. وبعد الاعتداء الارهابي أخيراً قيل إن المهاجمين استفادوا من تواطؤ من داخل المخيّم، ما شكّل غطاء للتنكيل بالنازحين. لكن استهداف الجيش، في حد ذاته، أشعل الجدل والاستغلال السياسيين. فأقطاب السنّة اعتبروا أن «حزب الله» هو مَن سعى الى توريط الجيش، وما رجّح ذلك في نظرهم أن هذا الحزب والقريبين منه سارعوا الى التبرع بتحليلات وسيناريوات مفادها أن «داعش» سعى الى مدّ «دولته» الى داخل لبنان على غرار ما فعل بإلغاء الحدود بين سورية والعراق، ما يعني تلقائياً أن هناك تواطؤاً بينه وبين سنّة لبنان. ولم يُعرف حقاً الى من وُجّهت تضليلات هؤلاء، لكن الأرجح أنها استهدفت ما يُعرف بـ «جمهور حزب الله»، أي الطائفة الشيعية التي قضى الكثير من أبنائها في الحرب من أجل انقاذ نظام الاسد.

لكن الأهم أن «حزب الله» وأبواقه قفزوا الى استطراد متوقع، من قبيل «ألم نقل لكم…»، وهو أن الحزب كان محقّاً في ذهابه الى القتال في سورية ليمنعوا «التكفيريين» من الزحف على لبنان. وزاد نائب سابق (مسيحي) أن الأمر لا علاقة له بقتال «حزب الله» في سورية بل بسعي «داعش» الى اختراق الحدود اللبنانية، وأنه لولا الحزب لكان المخطط نجح، مستخلصاً أنه بعد أن تنكشف الحقائق سيكون على الجميع أن يشكر «حزب الله». وما دامت سوق البروباغندا فُتحت، وبعدما انتهى أمر «المؤامرة الكونية» بدحرها، فقد بدأوا للتوّ مواجهة اخرى مع «مخطط صهيوني» يستخدم «داعش». اذاً فالرسالة السياسية «ليس لكم سوى الاعتماد على ايران»…

كان لافتاً أن «حزب الله» اهتم باستثمار معركة عرسال ولذلك أراد لها أن تطول وألا تنتهي بسرعة وبتسوية، فشارك في القتال كطرف ثالث لا مصلحة له في أي هدنة، وحاول تعطيل وساطة «هيئة العلماء المسلمين» أو إفشالها، بل تطلّع الى انفجار أكبر للوضع في طرابلس. ذاك أن اقحام الجيش في معارك وتوترات في مناطق السنّة بات مصلحة استراتيجية لـ «حزب الله»، لأنه يمكّنه من اظهار المجتمع السنّي كـ «بيئة حاضنة للارهاب» ويبعد الأضواء عن وجود مقاتلي الحزب في سورية وعن حقيقة أن الأهداف «اللبنانية» التي دأب نصرالله على توجيه الأنظار اليها (صيانة الأمن الداخلي وصدّ الارهابيين) لم تتحقق فعلياً بل حصل العكس، فالسوريون الذين تعرّضوا لاعتداءات «حزب الله» على أرضهم سيلاحقونه للانتقام منه في لبنان.

الأخطر لا يزال أمامنا، لأن ثبوت مساهمة «حزب الله» أكثر فأكثر في افتعال إقحام الجيش في صدامات متكررة مع جماعات سنّية (لم يكلفها أحد الدفاع عن السنّة)، بات ينذر بأخطار على تماسك الجيش وأجهزته، خصوصاً اذا كان في صفوفه مَن يوالون طائفتهم وحزبهم ولا يوالون الدولة والشعب. ولا يبدو «حزب الله» حريصاً على وحدة الجيش، ولا متخوّفاً من انقسامه، اذا حصل، لأنه جاهز للاستيلاء على هذا الجيش وإنهاء الازدواجية القائمة بينهما. وقد استاء الحزب مطلع هذه السنة عندما قدّمت السعودية ثلاثة بلايين دولار لتسليح الجيش، وكان ذلك لمواجهة الارهاب الداخلي غداة اغتيال الوزير السابق محمد شطح، واستاء أيضاً عندما زادت السعودية بليوناً آخر للمساعدة على دحر الارهاب الخارجي. هذه المساعدة تناقض منطق «حزب الله» ونياته وخططه، فهي تعزز منطق الدولة والجيش الشرعي. ولذلك بات مؤكداً أن تمكين الجيش من القيام بدوره وواجبه يمر بالضرورة بتحرره من اختراقات «حزب الله» وبأن يرفع هذا الحزب يده عنه، وإلا فإنه يجازف بتكرار تجربة انقسام الجيش التي سبق أن خبر اللبنانيون تداعياتها الكارثية خلال الحرب الأهلية.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

 

نظام الأسد غداة “سكرة الانتصارات”/ عبد الوهاب بدرخان

يمرّ النظام السوري بأسوأ حال منذ بداية أزمته، ومنذ “الانتصارات” التي جيّرتها له ايران و”حزب الله” والميليشيات العراقية. موسكو منشغلة جداً بأوكرانيا. طهران منهمكة بمعالجة الخلل الاستراتيجي الذي أصاب منظومة نفوذها بعد الفشل الذريع لنظام نوري المالكي. وبيروت استطاعت أن تحتوي، ولو موقتاً، الخطر الارهابي ولم تنزلق الى تحويله حرباً بين الجيش اللبناني ومناطق السنّة. أما نظام دمشق نفسه فيرى المعادلة الميدانية تتغيّر شيئاً فشيئاً في غير مصلحته. كان بشار الاسد استهلك عامين أوّلين من الأزمة مخوّفاً العالم من “ارهاب الشعب” حين لم يكن هناك سوى “ارهاب النظام”، وعامين آخرين مستدرجاً العروض لمحاربة الارهاب، ولو متعايشاً بل منسّقاً مع “داعش”، لكنه يجد نفسه الآن وحيداً وجهاً لوجه أمام الارهاب الحقيقي، فقد استفاد منه “داعش” ثم انقلب عليه، والعالم لا يتحدّث إلا عن الارهاب في العراق.

انتهت سكرة “الانتصارات” وهيصة الانتخابات ولم يتغيّر شيء بالنسبة الى النظام. فلا شرعيته تعززت أو تأكّدت. ولا تحسُّن وضعه الميداني يوصله الى أبعد مما بلغه. ولا الأحلام/ الأوهام التي بثّها قبل الانتخابات وبعدها شقّت طريقها الى الواقع. ولا خطاب التنصيب كان خطاباً رئاسياً بل مهاترة ميليشيوية. ولا الدول التي رغبت في تعاون استخباري معه أبدت استعداداً لتغيير مواقفها المعلنة منه. ولا الهدنات المحلّية هنا وهناك نجحت في إنهاء وضعية المواجهة الداخلية، بل ظهر خداعها عندما رفض عودة نازحين هاربين من الموت في عرسال بعدما هربوا من الموت على أيدي “شبّيحته”. ولا اتصالات طهران أفلحت في إقناع بعض المعارضين المحترمين، وحتى “غير المحترمين”، بقبول التعاون معه لتركيب حكومة “وفاقية”… لذلك وجد الاسد نفسه مضطراً إلى إبقاء وائل الحلقي على رأس حكومته.

لا بدّ أن الاسد وأركان نظامه رأوا بأم العين تلك الأشرطة المقززة والوحشية التي وزّعها “داعش” لعشرات من الجنود القتلى الذين عبث الارهابيون بجثثهم ومثّلوا بها أبشع تمثيل. ولا بدّ أن الاسد وأركان نظامه أدركوا أنهم لم يروا شيئاً كهذا إلا نادراً في مجمل حروبهم ضد “الجيش الحر” وأشدّ فصائل المعارضة تطرّفاً، بل لعلهم تذكّروا أن أكثر الأشرطة توحّشاً ولاانسانية كانت تلك التي التقطها “الشبّيحة” خلال اغارتهم على المناطق المسالمة وتنكيلهم بمن يُفترض أنهم سوريون مثلهم. وإزاء ارهاب منفلت كهذا بات النظام والمعارضة معاً في مأزق لم يعد يفيد فيه تصدير الأزمة الى لبنان أو الى أي مكان آخر. ذلك أن تخريب لبنان هو أولاً تخريب على جماعة النظام من سوريين ولبنانيين، واذا كانت ايران لم تتعلّم من تجربتيها البائستين مع الاسد ونوري المالكي فما عليها سوى أن تدفع بـ”حزب الله” أيضاً الى التهلكة ذاتها.

النهار

 

 

 

مهمة الحريري الصعبة/ حسام عيتاني

عاد رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري إلى لبنان في لحظة سياسية شديدة الخطر. فبلدة عرسال ما زالت تبحث بين الركام عن جثث القتلى فيما الشلل مسيطر على كافة نواحي الحياة العامة ما يدفع لبنان خطوات إضافية نحو احتلال موقع متقدم على لائحة الدول الفاشلة.

قدم الحريري عودته في إطار حملة عربية واسعة على الإرهاب الذي يمثله اليوم تنظيم “داعش” معلناً في السياق هذا عن المنحة السعودية البالغة مليار دولار تخصص لتعزيز الجيش والاجهزة الامنية في مواجهة التطرف والإرهاب. بيد أن المقاربة هذه تنطوي على التباسات شتى.

من المفيد التذكير أن مزاج الطائفة السنية اللبنانية يزداد احتقاناً منذ أعوام وأن ما جرى في عدد من المناطق أثناء المعارك التي خاضها المسلحون السوريون ضد الجيش اللبناني عبر عن درجة مرتفعة من الاستياء من أداء الجيش، كان أبرز المصرحين عنه ثلاثة من نواب كتلة “المستقبل” التي يتزعمها الحريري وهم محمد كبارة وخالد الضاهر ومعين المرعبي الذين اتهموا الجيش علناً وصراحة بالخضوع لأوامر “حزب الله” وتنفيذ سياساته والانحياز ضد الطائفة السنية. وسرعان ما انتقل الاستياء هذا إلى الشارع الذي نزل إليه مئات من الشبان للاحتجاج في العديد من أنحاء لبنان على منع أهالي بلدة اللبوة مرور المساعدات الإنسانية إلى عرسال رغم وجود قوى الجيش. من هذه الأحداث وغيرها يمكن القول أن أوضاع الطائفة السنية كانت على وشك الانفلات التام والخروج النهائي من عباءة الزعامة الحريرية.

يمكن الحديث هنا عن فوارق في ميول السنة اللبنانيين بين أهل مدن وأهل أرياف وتقبل الأخيرين لدعاوى التطرف أكثر من الأولين. واحد من هذه الفارق يتجلى في درجة الاستعداد للقتال وحمل السلاح والاندفاع إلى ساحات الاحتراب الأهلي وهو ما يسعى أهل المدن إلى تجنبه بأي ثمن.

يدعو هذا إلى الاعتقاد أن الحريري يسعى إلى وقف التراجع الذي أصاب زعامته ومكانة تيار “المستقبل” على امتداد الاعوام من خلال الرهان على تطويق الإرهاب وعزل البيئة التي تحتضنه. فهو إلى جانب المليار دولار الذي أعلن تقديم السعودية للمؤسسات الأمنية، كشف عن تبرعه بخمسة عشر مليون دولار اإلى عرسال لإعادة إعمارها وتعويض المتضررين من أهلها. أي أن الحل الأمني ينبغي أن يتلازم مع تحسين أوضاع الفئات التي تحملت الأعباء الأكبر من التضييق الذي يمارسه “حزب الله” ومن وجود عشرات آلاف اللاجئين السوريين في رقعة جغرافية ضيقة.

الجدير بالانتباه أن أوضاعاً بائسة مشابهة تعيشها مناطق عكار وطرابلس والبقاع الغربي التي تتشارك مع عرسال في الفقر وفي تحمل عبء اللاجئين.

من جهة ثانية، تفترض هذه المقاربة الرامية إلى إعادة بناء الزعامة السنية المعتدلة في مواجهة تطرف “داعش” و”جبهة النصرة”، تحقيق إنجازات ليس على الصعيد السني الداخلي فحسب، بل أيضاً من الخصم الرئيس للطائفة حالياً، “حزب الله” وهو ما يطرح مشكلة كبيرة أمام الحريري. فقوى الثامن من آذار (مارس) التي يقودها الحزب تعاملت بفتور شديد مع عودة الحريري وشنت وسائل إعلامها هجوماً شرساً على المنحة السعودية وساقت ضدها اتهامات ما انزل الله بها من سلطان.

الفتور والحملة الإعلامية يشيران إلى أن “8 آذار” ليست في وارد تقديم أي تنازل للحريري تقديماً سهلاً بمجرد عودته. وأنها ما تزال تقيم في أجواء المواجهة والتصعيد الطائفيين اللذين ظهرا أثناء أحداث عرسال عندما طالب عدد من المتحدثين المقربين من الحزب بتدمير البلدة باعتبارها وكراً إرهابياً. بكلمات ثانية، يصعب تصور وقوف “حزب الله” والقوى الدائرة في فلكه موقفاً مساعداً للحريري في مهمته. بل الأرجح أن الحزب الموغل في التورط في الصراعات الإقليمية (كان قد شيع قبل أيام من عودة الحريري اثنين من مقاتليه سقطا في العراق في صدامات مع “داعش”)، لن يستجيب لضرورات السياسة في لبنان من دون أن يكون ذلك مرتبط بحل أوسع يشمل المنطقة وأنه ماضٍ في المسار الذي دُفع اليه منذ بداية الثورة السورية.

عليه، تظهر مهمة الحريري اللبنانية شديدة الصعوبة وتعتمد اعتماداً شديداً على ما قد تسفر عنه ساحات أخرى كالعراق وسوريا، في ظل عمق التناقضات اللبنانية بين الطوائف وفي داخلها أيضاً.

موقع 24

 

 

 

نصر الله يعلن الحرب/ ساطع نور الدين

المبالغة في لغة الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ليست طارئة، لكنها تزداد خطورة يوما بعد يوم، خصوصا عندما تُسقط أدوات التحليل والتقدير المعتمدة مع العدو الاسرائيلي على العدو الداعشي الذي اصبح حسب تعريفه “خطراً وجودياً”على لبنان.. وبات يبرر اطلاق وعد جديد بالنصر، حتى قبل ان يجف حبر الوعد السابق.

في خطابه التلفزيوني في الذكرى الثامنة لانتهاء حرب العام 2006، لم يدخل نصر الله مباشرة في مسألة الاولويات والافضليات في مواجهة هذين العدوين الخطرين، لكنه كان واضحا وحاسما في إختياره وفي جدول الاعمال اللبناني الذي اقترحه للمواجهة، والذي يؤدي في ابسط تقدير الى تحويل لبنان، بكامل قواه العسكرية والامنية والسياسية والشعبية الى جبهة مفتوحة مع داعش.

يمكن التساهل مع قراءته المكررة لتلك الحرب ولذلك النصر، مع ان مقارنتها مع الغزو الاسرائيلي للبنان العام 1982 على سبيل المثال، او حتى مع الحرب الاخيرة على قطاع غزة تفرض قدرا أكبر من التواضع في الخطاب وتقديراً أدق للنصر. لكنه تقليد وأرث ودور. ما لا يمكن التسامح معه، بل يجب التنبه لمخاطره هو ذلك التورط العلني والمباشر في صراع، او بتعبير أدق في اعلان الحرب، على واحد من أسوأ التنظيمات الارهابية التي أنتجتها الأمة في نصف القرن الماضي، وواحد من أقوى الكيانات العقائدية التي شكلها العرب منذ قيام حزب البعث.

اطلاق جرس الانذار من “خطر وجودي” على لبنان، كان يتطلب الكثير من التبصر والتروي ! فالحديث هنا يدور عن بضعة آلاف من الارهابيين الذين تمكنوا في ظروف محددة من سد فراغ محدود في العراق وفي سوريا، وسيطروا على مدن وبلدات ومساحات واسعة فعلا لكنها كانت تخضع لحماية مئات او حتى عشرات فقط من الجنود او المقاتلين الخائفين، او أنها لم تكن تتمتع باي حماية أمنية بالمرة، كما هو الحال في مناطق الايزيديين والمسيحيين. وهؤلاء الارهابيون يعتمدون على سلوكياتهم البربرية أكثر بكثير مما يستخدمون قدراتهم القتالية، التي لا تؤهلهم للاقتراب من أربيل ولا طبعا من بغداد.. لا سيما بعدما رسم لهم الاميركيون الخط الاحمر، وربما أطلقوا لهم الضوء الاخضر للتوجه غرباً.

لا يمكن الجزم بان داعش، وهي الوريث الشرعي والوحيد لتنظيم القاعدة، يمثل خطراً وجودياً على العراق نفسه الذي يعتبره التنظيم منذ نحو عشر سنوات مركز عملياته الرئيسي. الخطر كان ولا يزال يكمن في فشل الشيعة في ادارة العملية السياسية التي كلفهم بها الاميركيون.. ومن دون ذلك لم يكن الخليفة ابو بكر البغدادي ليجد ملاذاً آمناً في اي منطقة عراقية، ولعله سيكون مضطرا في المستقبل القريب للانتقال الى الجناح الغربي من دولته الاسلامية، الى سوريا حيث تتجمع الان نذر معركة طاحنة مع النظام السوري، يقال انها ستكون الاخيرة قبل ان يبدأ البحث الجدي في مستقبل دمشق.

في هذه الاجواء، وجه نصر الله نداء التعبئة للالتحاق بتلك المعركة، برغم ان العامة في لبنان، على اختلاف طوائفها ومذاهبها،تميل الى الفرار او الاختباء من العاصفة الهوجاء، والوقوف من النظام ومن داعش، اللذين يختزلان أقسى التطرف المتبادل، موقف الحياد، والسعي الى توفير اكبر قدر ممكن من الحماية للحدود والمناطق المتاخمة لها، وإستدعاء أي شكل من أشكال المساعدة الخارجية.. وهي ستكون متاحة على الارجح اذا إقترب داعش من السلسلة الشرقية، حيث يمكن ان تهب مختلف الدول الاوروبية، من اليونان وصولا الى فرنسا وبريطانيا، للمساهمة في اطفاء الحريق الذي يهدد الجغرافيا اللبنانية ويمكن ان يمتد الى خارجها.

هذا السيناريو وارد، على الرغم من ان ثمة اقتناعاً بانه اذا ما فتحت معركة دمشق فانها ستنتهي في دمشق. واذا كانت مشيئة حزب الله وقدره ان يكون طرفاً في تلك المعركة، فهذا شأنه، لكن ذلك لا يبرر هذا القدر من المبالغة، ولا ذاك المستوى من الاستفزاز لتنظيم ما زالت جبهته اللبنانية هادئة نسبياً.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى