صفحات العالم

مقالات لكتاب عرب تناولت الوضع في اليمن

 

 

 

 

ماذا يعني سقوط صنعاء بيد الحوثيين؟

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

بعد مسار طويل من الصراع بين الدولة اليمنية ومسلّحي الحركة الحوثية، استفاقت صنعاء يوم 21 سبتمبر/أيلول الجاري على واقع سياسي وعسكري جديد، بعد أن تمكّنت جماعة عبد الملك الحوثي، المعروفة باسم “أنصار الله”، من السيطرة بسهولة نسبية على مفاصل رئيسة في العاصمة، بما في ذلك البرلمان، والبنك المركزي، وديوان مجلس الوزراء، ومقرّ القيادة العامة للقوّات المسلحة.

وتمكّن الحوثيون، أيضًا، من اقتحام قيادة الفرقة الأولى مدرع التي كان يقودها اللواء علي محسن الأحمر، خصم الحوثيين الأبرز، وجمعوا ما غنموه فيها، وفي غيرها من المواقع، بما فيها الحماية الرئاسية، والقيادة العامة للقوّات المسلحة، من دبابات ومدافع وعربات مدرّعة وأسلحة خفيفة. وشرعوا في إرسالها إلى معاقلهم شمال العاصمة. أعقب ذلك مهاجمة عدة منازل، تابعة لأولاد الشيخ عبد الله الأحمر الذين يمثّلون زعامة حزب الإصلاح اليمني، وتدميرها، في إشارةٍ رمزيةٍ تعني في اليمن هزيمة الخصم وإخضاعه.

انتزاع صنعاء أم شروط اتفاق أفضل؟

من المفارقات أنّ سقوط صنعاء بيد الحوثيين صادف الذكرى الثانية والخمسين لثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962 التي أطاحت نظام الإمامة، وأعلنت قيام الجمهورية اليمنية. والمعروف أنّ جماعة الحوثي تحاول احتكار تمثيل أتباع المذهب الزيدي في اليمن، وينظر إلى زعيمها، عبد الملك الحوثي، على أنّه صاحب صفة دينية، فضلًا عن الصفة السياسية.

وقد دعت الجماعة مؤيّديها إلى الاحتفال بالسيطرة على صنعاء بإطلاق الألعاب النارية، قبل أن يظهر زعيمها على التلفزيون، مساء يوم 23 سبتمبر/أيلول، ويتحدّث عن الانتصار التاريخي.

وتذهب تقديرات إلى أنّ هدف الحوثيين كان، منذ البداية، الاستيلاء على صنعاء؛ لما لها من رمزية سياسية، بوصفها عاصمة البلاد، وأنّ سقوطها يعني سقوط الدولة التي حلّت محلّ دولة الإمامة.

لذلك، اتُّخذت المفاوضات التي كانت تجري بإشراف مستشار الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه إلى اليمن، جمال بنعمر، غطاءً للتقدّم على الأرض، ومن ثمّ الاستيلاء على العاصمة.

ويدعم أصحاب هذا الرأي وجهة نظرهم برفض الحوثيين الخروج من صنعاء، بعد أن قاموا بتصفية خصومهم من آل الأحمر وحزب الإصلاح، ورفضهم توقيع الملحق الأمني للاتفاق الذي سُمّي “اتفاق السلم والشراكة الوطنية”، والذي يتضمّن خطواتٍ إجرائيةً، تكفل انسحاب الجماعة من العاصمة، فضلاً عن مناطق عمران شمال صنعاء، وتطبيع الأوضاع فيها، ووضع آلية بمشاركة الأمم المتحدة، وكلّ الأطراف، لنزع الأسلحة الثقيلة من الأفراد والجماعات، بما فيها جماعة الحوثي، وبما يكفل استعادة هيبة الدولة واحتكارها ملكية السلاح والسيادة على أراضيها.

في المقابل، ذهب آخرون إلى أنّ هدف الحوثيين من السيطرة على صنعاء هو تعزيز مواقعهم، لانتزاع اتفاقٍ أفضل، وحصّة أكبر من السلطة ممّا قدّمته لهم مخرجات الحوار الوطني الذي جرى توقيعه في وقتٍ سابق من العام الحالي؛ فقد تضمّنت وثيقة الاتفاق الأخير تشكيل حكومة كفاءات في غضون شهر، وتعيين مستشارين للرئيس عبد ربه منصور هادي من الحوثيين و”الحراك الجنوبي”، يتشاور معهم في شأن اختيار أعضاء الحكومة المقبلة، على أن يترك للرئيس اختيار الحقائب السيادية (الدفاع، والداخلية، والخارجية، والمال). ونصّ الاتفاق، أيضًا، على خفض إضافي لأسعار الوقود، وتنفيذ الحكومة المقبلة إصلاحات

اقتصادية، وإعادة النظر في تشكيل الهيئة الوطنية للإشراف على مخرجات الحوار الوطني. وجميع هذه البنود مكتسبات حقّقها الحوثيون في التفاوض تحت القصف.

لماذا سقطت صنعاء؟ وكيف؟

بغضّ النظر عمّا كان يسعى إليه الحوثيون، فقد مثّل سقوط صنعاء السريع صدمةً لكثيرين؛ فبعد أربعة أيام فقط من القتال بين قوّاتٍ، يقودها اللواء علي محسن الأحمر، مدعومة بمسلّحين من حزب “الإصلاح”، وبين أنصار الجماعة، بعد تحييد الجيش اليمني عن المواجهة، تمكّن الحوثيون من اجتياح الأحياء الشمالية الغربية والشمالية في العاصمة، وسيطروا على مقرّ التلفزيون والمطار، قبل أن يتّجهوا جنوبًا ليسيطروا على مقرّ “الفرقة الأولى المدرّعة” والقيادة العامة للقوات المسلّحة، ويحسموا المعركة لفائدتهم.

ويشير سقوط العاصمة السريع إلى تواطؤ قيادات عسكرية ما زالت تدين بالولاء للرئيس السابق، علي عبد الله صالح؛ إذ كيف يمكن لميليشيات مسلّحة بأسلحة خفيفة ومتوسطة أن تواجه قطاعات عسكرية مزوّدة بأسلحة ثقيلة، مكلّفة بتأمين مؤسسات الدولة وحمايتها، لولا امتناع الجيش عن مواجهتها؟ لكنْ، ثمّة أسبابٌ وعوامل أخرى، أيضًا، ساهمت في تمكين الحوثيين من تحقيق نصرٍ سريع في صنعاء، أهمّها:

– ضعف حكومة محمد سالم باسندوة، وعدم تماسكها، وتوزّع الولاءات السياسية لأعضائها. وسعي المحيط الخليجي إلى إضعافها، بعدم مدّ يد العون لها اقتصاديًّا وعسكريًّا.

– ضعف الرئيس هادي أمام الفرقاء السياسيين، وعدم قدرته على الاستناد إلى قوّة عسكرية، مضمونة الولاء له لتنفيذ قراراته.

– غياب التماسك وتعدّد الولاءات في القوّات المسلّحة اليمنية، وانحياز بعض قياداتها إلى جماعة الحوثي، ليس لأسباب مذهبية، بل بسبب تضرّر مصالح بعضها، وعدم رضا بعضها الآخر عن عملية إعادة هيكلة القوّات المسلّحة والحرس الجمهوري السابق، بعد رحيل صالح عن السلطة.

– تردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وارتفاع نسبة البطالة والفقر لأغلب شرائح المجتمع اليمني، ما ولّد حالة عامة سائدة، لا تتعاطف مع النظام السياسي الحالي، لا سيّما أنّ الحوثي اتّخذ من قضايا مطلبية ومعيشية غطاءً لتحرّكه ضدّ الدولة.

هذه العوامل مجتمعة، والتي نتجت منها، وبتأثيرها، حالة سيولة سياسية وأمنيّة، أتاحت للحوثيين الفرصة السانحة للسيطرة على العاصمة، ومن ثمّ فرض شروطهم التي مثّلها اتفاق السلم والشراكة الوطنية الأخير، والذي يُعدّ بحقّ اتفاق فرض الأمر الواقع.

بذور فشل الاتفاق كامنة فيه

لا يمثّل الاتفاق الأخير، خصوصاً بعد أن رفض الحوثيون توقيع ملحقه الأمني الذي يلزمهم الانسحاب من صنعاء وضواحيها وتسليم السلاح إلى الدولة، حلًّا جذريًّا شاملًا للأزمة اليمنية، يضمن عدم تكرار الدخول في مواجهاتٍ مسلّحة بين مختلف الأطراف، لا بل كدّس الحوثيون مزيداً من هذه الأسلحة، بعد أن نهبوا معسكرات الجيش اليمني التي سقطت في أيديهم.

ونتيجة لذلك، سيجدون أنفسهم في ميل دائم نحو استخدام القوّة، كلّما شعروا بأنّ الفرصة مواتية لتحقيق المزيد من مطالبهم. لذلك، نجد أنّ عوامل انهيار الاتفاق الأخير كامنة في ثناياه، وتنامي الاحتقان السياسي والمجتمعي الناجم عن احتلال الحوثيين صنعاء، وتنكيلهم بوجوه أبرز قبائلها (حاشد التي ينتمي إليها آل الأحمر)، تجعل من الصعب تصوّر أن يمثّل هذا الاتفاق صيغة للاستقرار، خصوصاً مع تزايد الاستقطاب المذهبي، وتقاطعه مع الانقسامات القبلية، القائمة أصلًا.

ومع تزايد المؤشرات على ارتباط حركة الحوثي بالدعم الإيراني، وولائها لإيران في عموم الصراع الإقليمي الجاري في المنطقة، يزداد إدراك القوى والأحزاب اليمنية عمومًا في تحوّل الحركة إلى عامل اختراق للأمن الوطني اليمني.

وقد عبّر الرئيس هادي عن هذه المخاوف، صراحةً، في الآونة الأخيرة، عندما قال إنّ طهران تريد أن تقايض صنعاء بدمشق. في حين جاءت تصريحات نائب طهران في البرلمان الإيراني، علي رضا زاكاني، بأنّ العاصمة اليمنية صنعاء أصبحت العاصمة العربية الرابعة التي تسقط بيد إيران، بعد بيروت ودمشق وبغداد، في إشارةٍ إلى استيلاء الحوثيين عليها، مستفزةً كثيرين في اليمن وخارجها.

في هذا السياق الإقليمي الضاغط، ومع تنامي العطب البنيوي في مؤسسات الدولة (المدنية، والعسكرية، والأمنية)، تصبح الدولة اليمنية الطرف الأضعف المضطرّ إلى تقديم مزيد من التنازلات التي سيرتفع سقفها، في كلّ مرة، حتى تصبح الدولة وأجهزتها أداةً في يد جماعة الحوثي، في تكرارٍ لتجربة حزب الله في لبنان.

وقد أمّن الاتفاق الأخير للحوثي وجود مستشارين لهم قدرة تأثير واسعة حول الرئيس اليمني الذي يتعيّن عليه، وفقًا لما نصّ عليه الاتفاق، الأخذ برأيهم في تعيين أيّ من الوزراء في الحكومة، باستثناء الحقائب السياسية.

يبقى القول إنّ الطرف الذي شارك في إدارة الأزمة خفيةً (الرئيس السابق علي عبد الله صالح) انطلق من عوامل تكتيكية ذات طابع آنيّ وانتقامي من القوى التي ساهمت في إزاحته عام 2011، كما هي الحال مع حلفائه الخليجيين الذي اتّبعوا سياسة قصيرة النظر، ومن دون بوصلة استراتيجية، مدفوعة أساسًا برغبتهم في التخلّص من حزب الإصلاح اليمني، فتواطأوا، أو على الأقلّ، صمتوا عن تحرّك الحوثيين ضدّ صنعاء، معتقدين أنّها مواجهة مع من يعدّونهم خصومهم، عِلمّاً أنّ تجربة “اللقاء المشترك” تتجاوز “الإصلاح”، وتمثّل تجربة يمنية مميزة في التعاون بين تيارات أيديولوجية متنوّعة، وقبائل مختلفة.

ولن يلبث هؤلاء أن يكتشفوا أنّهم صنعوا، أو شاركوا في صنع، تهديد أشدّ خطورةً من التهديدات التي تصوّروا أنّهم يتخلصون منها. وعندها، قد يكون هذا الإدراك متأخّرًا.

 

 

 

صنعاء أخطر من دمشق/ غسان شربل

سألتُ الرئيس عبد ربه منصور هادي عما تريده صنعاء من طهران فأجاب: «للأسف ما زال التدخل الإيراني قائماً، سواء بدعمه الحراك الانفصالي (في الجنوب) أو بعض الجماعات الدينية في شمال اليمن (الحوثيين). طلبنا من أشقائنا الإيرانيين مراجعة سياساتهم الخاطئة تجاه اليمن لكن مطالبتنا لم تثمر. لا توجد لدينا أي رغبة في التصعيد مع طهران لكننا نأمل بأن ترفع يدها عن اليمن، وأن تعمل لإقامة علاقات أخوية وودّية وتتوقف عن دعم كل التيارات المسلحة والمشاريع الصغيرة».

كان ذلك في حوار أجريتُه مع الرئيس اليمني على هامش مشاركته في القمة العربية في الكويت في آذار (مارس) الماضي، ونشرته «الحياة» في حينه.

علّمتني المهنة أن الزعيم العربي لا يسمي الأشياء بأسمائها إلا بعد أن يغلق الصحافي آلة التسجيل، ويوافق على أن المقطع الأخير من اللقاء ليس للنشر بل لمساعدته على فهم المشكلة.

سألت الرئيس عما يريده الحوثيون فقال إنهم يبلورون كياناً تحت سيطرتهم، وينطلقون منه لتكبيل الدولة. وأضاف أن مطلبهم الفعلي هو الحصول على ميناء على البحر الأحمر. واستوقفني قوله إن مَنْ يُمسك بمفاتيح باب المندب ومضيق هرمز لن يكون محتاجاً إلى قنبلة نووية. وكان يشير بذلك إلى أن الاندفاعة الحوثية جزء من البرنامج الإيراني الكبير.

كررتُ مطالبتي بأدلّة ملموسة على الدور الإيراني. رد هادي بالقول: «موجودة وكثيرة وسأعطيك دليلاً لم نتحدث عنه علانية حتى الساعة. لدى الأجهزة اليمنية خمسة معتقلين من عناصر «حزب الله» بسبب قيامهم بأدوار أمنية في مساعدة الحوثيين. وقد تلقيت في شأنهم رسالة من الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله. على أي حال، واضح أن دور الحزب يتخطى لبنان وسورية، وكذلك دور أمينه العام». ولمّح إلى أن شخصية تدعم انفصال الجنوب تقيم في بيروت، وتحظى بدعم الحزب على صعد عدة في مقدّمها الإعلام. وكان يشير إلى السيد علي سالم البيض.

لم أنشر ما سمعته بعد إغلاق آلة التسجيل. لكن اليمن بلد بلا أسرار. مطلب الميناء صار علنياً، والمصادر الأمنية اليمنية سرّبت قبل أسابيع خبر اعتقال عناصر من «حزب الله».

ذكّرني بكلام الرئيس اليمني ما قاله صديق اتصلتُ البارحة للاطمئنان عليه، لأن منزله يقع في المنطقة المتنازع عليها بين الحوثيين وما تبقى من الدولة اليمنية في صنعاء. قال إن ما يجري على الأرض أهم بكثير مما يُكتب على الورق، وإن محاولة الانقلاب الحوثية تقترب من النجاح وإن «الحوثيين سيطروا عملياً على الدولة». لكنه لاحظ أن الحوثيين «لا يستطيعون أن يحكموا البلد برمته، ولن يحكموا أجزاء واسعة منه إلا بالحديد والنار. إننا نشهد نهايات اليمن الذي تعرفه ونعرفه. واضح أن الجنوب سينفصل وسيسقط في أيدي الإسلاميين. وواضح أيضاً أن المناطق ذات الكثافة السنّية لن تستسلم للحوثيين وأنها ستتمرّد وتحاول العيش في ظل سلاحها. سيكون لدينا داعش أو دواعش».

ذهب الصديق بعيداً في التحليل ولفتني إلى خريطة اليمن. قال إن «الاندفاعة الإيرانية- الحوثية للإمساك بصنعاء تحمل في طياتها رداً على دور السعودية في التحالف الدولي وموافقتها على تدريب الجيش السوري الحر، كما تعكس الاندفاعة تخوُّف إيران من احتمال خسارتها دمشق بعد تأكيد واشنطن أن الحرب على «داعش» لن تعني إعادة تأهيل نظام الأسد».

قال إن الحوثيين يتقدمون في صنعاء وأحرقوا جامعة «الإيمان» انتقاماً من الداعية عبد المجيد الزنداني، وأن اللواء علي محسن الأحمر يقاتلهم ولكن بلا أمل. وصف ما يجري بأنه «انتقام مركّب. انتقام إقليمي ومذهبي ومناطقي وقبلي». ورأى أن الرئيس السابق علي عبد الله صالح «يمارس الانتقام بحرفية عالية. إنه ينتقم من الإخوان المسلمين ومن آل الأحمر وكل الذين تكاتفوا لإزاحته. أنصاره يقفون في الساحات إلى جانب الحوثيين».

ختم الصديق كلامه مؤكداً أن «صفحة أشدّ خطورة فُتحت في اليمن وستثبت الأيام أن صنعاء أخطر من دمشق».

أحزنني كلام الصديق. تذكرتُ أنني كنت أغادر صنعاء دائماً متسائلاً عن موعد الانفجار الكبير. فعدد البنادق في اليمن يفوق عدد السكان. والدولة خيمة هشة منصوبة فوق دويلات القبائل والمناطق والمذاهب. كانوا يسمّونه «اليمن السعيد». تسرّعوا في التسمية.

الحياة

 

 

 

 

ضاع اليمن/ حسان حيدر

بلد عربي آخر يدخل المجهول الذي لم يعد يعني سوى الفوضى والحرب الاهلية. بلد آخر يخرج من المنظومة العربية ليقع في دائرة النفوذ الايراني. لم تعد العبارة العربية «لا بد من صنعاء وان طال السفر» صالحة بعد اليوم. تغيرت احوال العاصمة اليمنية بعد «الغزو الحوثي» الى الأبد، وربما صار تجنبها لازماً، مثلما أوصت بعض الدول مواطنيها. اليمنيون انفسهم يفكرون بمغادرتها، ومن قدر لا بد فعل. فالارجح ان مدينة المخطوطات والوراقين، ومن خلفها البلد كله، لن تعرف الاستقرار مجددا اذا ما استمر اخضاعها لقوة السلاح.

لم يتوقف «الحوثيون» عند حدود محاصرة صنعاء بالمعسكرات والمسلحين، بل اقتحموها وهاجموا مؤسسات حكومية وعسكرية واحتلوها موقعين مئات الضحايا، وفرضوا بالقوة اتفاقا سياسيا يمنحهم النفوذ اللازم لتعيين رئيس الوزراء واختيار تشكيلته، اي يجعلهم الحاكمين من خلف الستار، مع الابقاء على سلطة رمزية يمثلها الرئيس هادي بعد اغراقه بـ«المستشارين». لكنهم رفضوا في الوقت نفسه الزام انفسهم باتفاق امني يقضي بسحب مسلحيهم واخلاء معسكراتهم.

انهيار الجيش اليمني امام «الحوثيين» يذكر بتداعي دفاعات الجيش العراقي امام «داعش» اخيرا، ويطرح الكثير من الاسئلة عن الاسباب والتبريرات و«المايسترو»، خصوصا ان الاتفاق كشف التحالف القائم بين «الحوثيين» و «الحراك الجنوبي» الداعي الى الانفصال، وكلاهما ترعاه طهران.

اما قصر الاتفاق على الجانب السياسي فيعني ان «الحوثيين» مستعدون للعودة الى القتال اذا لم ينل التطبيق رضاهم، اي انهم يبقون السلطة رهينة بأيدي مقاتليهم من «انصار الله»، الى حين استباب الامور لمصلحتهم، وإلا فالعودة الى العنف واردة في كل لحظة.

يذكرنا هذا بالاسلوب الذي اتبعه رديف «الحوثيين» في لبنان، «حزب الله» الذي يحكم البلد ايضا من وراء حكومة يقبض على انفاسها، لان انسحابه منها يعني بالنسبة الى فريقه «اخلالا بالتمثيل الميثاقي»، ويسحب عنها غطاء «الشرعية» الذي يرسم هو حدوده ويحدد معاييره، مظهراً في الوقت نفسه استعداده لاستخدام «عضلاته» اذا رأى ان الاطراف الآخرين لا يلتزمون الخط الذي حدده لهم، مثلما فعل في أيار 2008.

توقيع الاتفاق الاخير جرى برعاية الامم المتحدة التي لا بد استهلمت رأي الدول المعنية بمبادرة المصالحة الوطنية قبل ان تواصل وساطتها بين الاطراف. ولعل النصيحة جاءت بإنقاذ صنعاء من الخراب بعدما انهارت دفاعاتها. فهذه الدول مثل «ام الولد»، وليس من مصلحتها تسريع الانهيار الكبير.

وكان انقلاب «الحوثيين» على المبادرة التي وقعوها كشف نيتهم في استكمال الإفشال المتدرج للتسوية السياسية الدائمة، وفضح اصرار راعيهم الاقليمي على ربط الوضع اليمني بحساباته. لكن اليمن لا يستطيع العيش في استقرار اذا تحول منصة لخدمة اهداف اقليمية غير عربية، ولا يمكنه الاستمرار كدولة موحدة اذا عادى محيطه الأقرب، ولن يتمكن من اعادة اللحمة الى شعبه وتجنب حرب اهلية محتملة اذا كان سلامه مفروضاً بالاستقواء الخارجي ومستندا الى غلبة السلاح.

المهم ان ينجو اليمن من النموذج العراقي، فلا يقع في الفئوية المدمرة، بل ان الجهود يجب ان تنصب على اعادته الى الحضن العربي الطبيعي الذي طالما سانده في ازماته وخفف من مآسيه، لان انسجامه مع محيطه شرط اساسي لتجنيبه الانقسام والتفتت، وبوصلة تقيه الضياع في زمن اختلاط الاتجاهات، وهذا لن يحصل إلا عبر تقليص متدرج لنفوذ «الحوثيين» واعادتهم الى القمقم.

الحياة

 

 

 

اليمن وسوريا في الميزان/ ربيع بركات

في حسابات اللاعبين الإقليميين، ليس اليمن هامشياً. فالجار الجنوبي للمملكة العربية السعودية يملك جملة من المقومات التي تجعل منه ساحة موازية لسوريا، تُفيد في تعويض طرفٍ إقليمي خسائره في الأخيرة وتضاعف من أرباحه فيها.

ولأن ساحات الصراع في المنطقة مفتوحة للمحاور الإقليمية الثلاثة (قطر ـ تركيا، السعودية والخليج، إيران والسلطتان في العراق وسوريا)، فالمكسب في الواحدة منها يمكن تسييله للمقايضة في أخرى، بانتطار تسوية أشمل تحت مظلة دولية تراعي مصالح الدول الكبرى.

ويمكن، هنا، تسجيل أوجه التشابه التي تجعل من البلدين رمانتين متقابلتين على كفتي الميزان الإقليمي:

فاليمن، أولاً، من الديموغرافيات المتفجرة في المنطقة، حيث يبلغ معدل النمو السكاني منذ آخر إحصاء رسمي في العام 2004 نحو 3 في المئة (بعدما كان 3.7 في المئة بين عامي 1994 و2004). ويُعدّ هذا من بين نسب النمو الأعلى في العالم، ويُتوقع بناءً عليه أن يصل تعداد سكان البلاد إلى نحو 26 مليوناً مع نهاية العام 2014. يكاد هذا الرقم يماثل عدد السكان في سوريا، حيث بلغ بحسب آخر إحصاء رسمي (أجري العام 2011) 24.5 مليون نسمة، مع نسبة نمو قدرت بـ2.4 في المئة حينها. أي أن البلدين يتفوقان سكانياً على المملكة العربية السعودية، ويتعادلان (تقريباً) في المركز الثاني بعد العراق من بين دول المشرق العربي، إذا ما استُثنيت مصر من حسابها.

واليمن، ثانياً، يحتل موقعاً جغرافياً بالغ الأهمية لسببين رئيسيين. أولهما وجوده عند مضيق باب المندب، أحد المفاتيح الثلاثة للحركة الملاحية وصادرات البترول في الشرق الأوسط (إضافة إلى مضيق هرمز في الخليج وقناة السويس المصرية)، وقد ضاعف من أهمية الضفة اليمنية من المضيق غياب الأمن عن الضفة الأخرى في الصومال، وتحوّلها إلى مشاعٍ للقرصنة و«حركة الشباب المجاهدين» المتصلة بتنظيم «القاعدة». فيما ثاني أسباب الأهمية الجغرافية، يتصل بكونه الخاصرة الرخوة للمملكة العربية السعودية، إذ لا يمكن للرياض الركون إلى حدٍ أدنى من الأمن الإقليمي من دون قدرٍ من الاستقرار في «باحتها الخلفية». ويمكن، في هذا الإطار، استذكار فيض النزاع المسلح بين الحوثيين والجيش اليمني عن حدود البلاد نحو محافظة الجيزة السعودية العام 2009، ومشاركة الجيش السعودي في المعارك إلى جانب قوات نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح. ويرتبط وجه المقارنة هنا مع سوريا بأهمية موقع الأخيرة لناحيتين رئيسيتين أيضاً: أولاهما حدودها مع إسرائيل وانعكاس الأوضاع الداخلية فيها على الكيان العبري، فيما الناحية الثانية تتصل بأهمية بلاد الشام لكل من إيران وتركيا، حيث تشكل ضلعاً رئيسياً في قوس التحالف الإيراني الذي يصل طهران بالمتوسط ويضعها على بوابة تل أبيب، وتمثّل بوابة الوصل الإلزامية لتركيا بمجالها الحيوي المشرقي، وبالمنطقة العربية عموماً.

أما ثالث العوامل التي تعطي اليمن ثقلاً في تحديد مسار الملفات الأخرى في المنطقة، وتُمثل عنصر تشابه مع سوريا، فيتصل بضعف السلطة المركزية فيه ووقوفه على حافة «الدولة الفاشلة»، وعلاقة ذلك بوجود قوات مقاتلة فيه قادرة على استنزاف مصالح اللاعبين الإقليميين. فكما أن فصائل المعارضة المسلحة في سوريا تمكنت من قضم مساحات واسعة من البلاد وأضعفت قبضة السلطة لتربك حسابات طهران وحلفائها في العراق ولبنان، كذلك فعلت جماعة الحوثي باستحواذها على العاصمة وجملة من المحافظات المحاذية في شمال اليمن، وبضربها القوى السلفية و«الإخوانية» فضلاً عن السلطة المركزية التي سبق للمبادرة الخليجية أن توّجتها على عرش صنعاء. إلا أن نقطة اللقاء هذه تحتمل ثلاثة فوارق رئيسية. أولها يتعلق بتمكن الحركة الحوثية من الحسم السريع توظيفاً لدينامية شعبية عريضة وبالتوافق مع بعض قطاعات الجيش، في مقابل عجز الفصائل السورية المسلحة عن توظيف الحراك الشعبي للوصول إلى دمشق كما عن ضرب هياكل القوات النظامية. وثانيهما يرتبط بإعراب الحوثيين عن استعدادهم للتشارك في السلطة، في مقابل تقديم المعارضة السورية المسلحة طروحات تثبّت منطق الغلبة (علماً أن الطرفين خاضا صراعاً دموياً مشابهاً مع السلطة، إذ إن حركة الحوثي، كما المعارضة السورية، بدأت سلمية ـ قبل عشر سنوات ـ قبل أن تتعسكر وتشن السلطات اليمنية حروبها على إقليم صعدة بقيادة اللواء علي محسن الأحمر، الذي أصبح أحد أعمدة نظام «ما بعد الثورة»). أما ثالث الفوارق، فيتعلق باختراق «القاعدة» وأشباهها صفوف المعارضة السورية، في مقابل وقوفها على ضفة أيديولوجية نقيضة لجماعة الحوثي في اليمن، والنقطة هذه تحيلنا إلى رابع عوامل التشابه بين الحالتين.

فاليمن، رابعاً، سبق سوريا في تحوله إلى ساحة استقطاب لـ«الجهاد» العالمي». وهو، برغم ترهل «الحركة الجهادية» فيه أخيراً، ما زال ساحة لنشاطها القابل للتمدد، في حال عمت الفوضى ربوع البلاد. وإذا كانت الرياض تشعر بأن «داعش» محصورة داخل أسوار الشام والعراق، فهي تعي أن انفلات الأمور في اليمن يجعل من فرع «القاعدة في الجزيرة العربية» أول المستفيدين، وأكثرهم رغبة وقدرة على تجاوز الحدود نحوها. لذلك، فقد سارعت إلى مباركة التوافق على السلطة الجديدة في اليمن، مع إصدارها إشارات تفيد بالانفتاح على الحوار مع طهران، خشية تحلل الدولة اليمنية نهائياً ووصول الوحش «الجهادي» إلى عقر دارها.

لقد أعادت تطورات اليمن إظهار ميزان إقليمي جديد، يُنتظر أن تكون له تداعيات سريعة على الحدث السوري (ومعه العراقي واللبناني). استعجال واشنطن شن غاراتها على الجانب السوري من الحدود مع العراق، قد يكون أول هذه التداعيات، حيث أنه، على الأرجح، مقدمة لسياسة أميركية أكثر إقداماً في المنطقة.

السفير

 

 

 

اليمن كبديل إيراني من سوريا؟/ راجح الخوري

كان الأحرى بالرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي ان يتلو بياناً عن الرضوخ وقبول “اتفاق الأمر الواقع” الذي تمكن الحوثيون من فرضه بعدما اجتاحوا صنعاء، لا عن نجاح الافرقاء السياسيين في التوصل الى “اتفاق تاريخي يضمن بقاء البلاد” وان على جميع الأطراف العمل معاً والمضي قدماً.

اتفاق تاريخي؟

لا، فالصحيح ان “اليمن السعيد” بات من التاريخ، والدليل ان هناك شكوكاً عميقة حول الاتفاق وما إذا كان سينهي الأزمة او سيعمّقها ويشعّبها، اولاً لأن مساعد الأمين العام للأمم المتحدة جمال بن عمر كان قد اعلن عن اتفاق مماثل ليل السبت ولم يستمر حتى صباح الأحد، وثانياً لأنه بعد ساعات على توقيع الاتفاق أرسل الحوثيون تعزيزات عسكرية الى صنعاء بدلاً من انهاء المظاهر المسلحة.

واضح ان اتفاق الأمر الواقع بعد الإطباق على صنعاء يفرض هيمنة حوثية – ايرانية ستفضي الى فتح جبهتين للصراع:

– جبهة في الجنوب الذي سيؤول حتماً الى الانفصال على يد الاسلاميين الناشطين فيه اي “الاخوان المسلمين” و”القاعدة” والذين لن يلبثوا ان يقعوا في التناحر على الطريقة الصومالية.

– جبهة الشمال الذي لن يتمكن الحوثيون من السيطرة عليه كله، وفرض الهدوء على مكوناته السنّية التي ستتحول الى المقاومة ضدهم. صحيح ان الرجل القوي علي محسن الأحمر فرّ من صنعاء وأعلن الحوثيون انه بات مطلوباً للعدالة، لكن ليس صحيحاً ان قبيلة آل الأحمر التي طالما كانت لاعباً قوياً في اليمن سترضخ للأمر الواقع، ثم ان “حزب التجمع اليمني للإصلاح” الذي يقوده السلفي المتشدد عبد المجيد الزنداني لن يلبث ان ينضم الى الصراع ضد الحوثيين.

أضف ان ما فرقته بداية الازمة قد تعيد نهايتها الراهنة جمعه، بمعنى ان الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي يملك كثيراً من عناصر القوة في النسيج القبلي اليمني، والذي دعم الحوثيين انتقاماً من الاتفاق الذي أبعده عن السلطة، لن يلبث ان يدير بنادقه في اتجاه الحوثيين الذين سبق له ان اشتبك معهم في ست حروب يوم كان في السلطة.

واضح ان استعجال اقتحام صنعاء وفرض الأمر الواقع الايراني، يأتي في سياق حسابات ايرانية تهدف الى فرض معادلة “اليمن في مقابل سوريا”، بمعنى ان طهران، التي تتحسب لخسارة النظام السوري المرفوض في الحرب على “داعش”، تغتاظ من دور السعودية المتقدم في التحالف الدولي، وخصوصاً لجهة تدريب “الجيش السوري الحر”.

ولكن اليمن لن يكون بديلاً ايرانياً من سوريا وسيبقى بؤرة حروب وصراعات… وهو أمر يعرفه جيداً الأمير سعود الفيصل ونظيره محمد جواد ظريف، على رغم كلامهما الإيجابي امس بعد اجتماعهما لمدة ساعة في الامم المتحدة!

النهار

 

 

 

اصطفافات جديدة في المنطقة؟/ حازم صاغية

«الحوثيّون»، أو «أنصار الله»، يستولون أخيراً على العاصمة صنعاء ومؤسّساتها ووزاراتها، ويُحمل رئيس الجمهوريّة عبد ربّه منصور هادي على توقيع «تسوية» معهم هي، في أغلب الظنّ، تعبير عن إقراره بتوازنات القوى الجديدة. في الوقت نفسه تمضي «داعش» في سبيلها، كأنّها غير معنيّة بتشكيل حلف دوليّ ضخم لمقاتلتها. وهي، بعد احتلالها أكثر من ستين قرية، تطوّق كوباني (عين عرب) الكرديّة السوريّة وتهدّد أهلها الذين فرّت أعداد ضخمة من مدنيّيهم الذين لم يبق أمامهم إلاّ النزوح.

تطوّران كبيران دلالاتهما، بطبيعة الحال، أبعد من السياسات الدائرة وتحالفاتها وخصوماتها. فمن العلاقات الأهليّة إلى الثقافات الموضعيّة والدين وشروط النصر والهزيمة، تتجمّع في هذين النصرين مروحة عريضة من المسائل. لكنْ في حدود السياسات والتحالفات المعنية، يمكن أن نلحظ أموراً لافتة تجري في موازاة الحربين الداعشيّة في الشمال والحوثيّة في الجنوب.

فهناك ما يوحي أنّ المتضرّرين من هاتين الحربين يحاولون رتق ما هو ممزّق وتظهير ما هو غامض في جبهتهم المفترضة بما يتيح الانتقال إلى شروط مواجهة تكون أفضل.

من ذلك، مثلاً، أنّ إمارة قطر التي طلبت من بعض الإخوان المسلمين المصريّين المقيمين فيها مغادرتها، برّدت هجومها الإعلاميّ والسياسيّ على مصر ورئيسها السيسي، أو حُملت على ذلك. وغير بعيد عن قطر، ظهرت مبادرة وليّ العهد البحرينيّ التي طرحت على نفسها إنهاء الأزمة في بلاده. وإذا كان من المستبعد أن يقبل الشقّ الراديكاليّ في المعارضة، القريب من طهران، مبادرة كهذه، فمن غير المستبعد أن يقبل بها الشقّ الأكثر اعتدالاً ورغبة في تلافي الانفجارات الأهليّة الكبرى، أو أن يجد فيها مدخلاً صالحاً للحوار.

وإذ ينخرط الأردن عمليّاً، هو الذي نأى بنفسه طويلاً عن الحرب السوريّة، في الحرب ضدّ «داعش» وتمدّدها، يبدو مثيراً ما يحصل في تركيّا. ذاك أنّ أنقرة التي أحاطت بمواقفها الأخيرة علاماتُ استفهام كثيرة وكبيرة (عبور المقاتلين التكفيريّين، وسقوط المناطق الكرديّة السوريّة، فضلاً عن التحفّظات على فكرة التحالف)، فاجأت العالم بما أعلنه رجب طيّب أردوغان عن مطالبته الولايات المتّحدة بإقامة منطقة آمنة محميّة دوليّاً داخل الأراضي السوريّة.

وإذ برّر الأتراك هذا التحوّل بتحرير أسراهم الـ49 الذين كانوا في عهدة «داعش» في الموصل، فإنّ الديبلوماسيّة الروسيّة لم تخطىء أهميّةَ دعوة كهذه، فبادرت إلى إطلاق تحذير قويّ حول المسّ بـ «السيادة السوريّة».

ووسط هذه اللوحة قد لا يكون من الخطأ أو المبالغة أن تشهد الجبهة المقابلة تقارباً أو تنسيقاً بين «داعش» و»الحوثيّين». وهو ما سيظلّله، في حال حصوله، ما سبق لبعضهم أن توقّعه من تقارب أو تنسيق بين «داعش» ومحور الممانعة الإيرانيّ السوريّ الحزب اللهيّ غير البعيد عن أنصار الله، الذي لم تُقبل عضويّته في التحالف المناهض لحركة البغداديّ.

مثل هذا السيناريو الذي ربّما كان قيد التشكّل الآن هو سيناريو لحروب مديدة وكبرى بطبيعة الحال. وحيال حروب كهذه، سيبدو السؤال راهناً عن أطراف يمكن وصفهم بالوسطيّين، إمّا تبعاً لتركيب مجتمعهم أو لتركيب سلطتهم أو للتركيبين معاً. وغنيّ عن القول إنّ النظام العراقيّ يتصدّر هؤلاء لجهة راديكاليّته حيال «داعش» وصداقته لمحور الممانعة، على رغم الديكور الملطّف الذي تسبغه حكومة حيدر العبادي. وليس بعيداً من هذا الموقع وضع لبنان الذي حضر مؤتمر التحالف لتشكيل الحلف المناهض لـ «داعش»، لكنّه حضره من خلال وزير هو صديق للممانعين.

الحياة

 

 

 

 

سقوط اليمن وسقوط الأسد/ د. عبدالوهاب الأفندي

(1) عندما يكتب مؤرخو المستقبل تاريخ اندثار العرب، سيكون الأسبوع المنصرم لحظة حاسمة في تدوين هذه الحقبة، فهو تاريخ سقوط اليمن كدولة بعد اجتياح عاصمة الجمهورية في ذكرى إنشائها تحت حوافر خيل جنود الردة. وهو أيضاً تاريخ بداية إسقاط نظام الأسد عبر تدخل دولي كاسح. فبعد اليوم، لن يسمح لطائرات الأسد بالعربدة في سماوات سوريا، كما لن يسمح لبرابرته الآخرين باجتياح المناطق التي تخليها داعش.

(2)

سقوط نظام الأسد كان دائماً مسألة وقت، فهو قد سقط في اذار/ مارس 2011، والآن فقط يتم تسجيل الواقعة وإزاحة الجثة. فالسقوط الأخلاقي وفقدان الشرعية هما مقدمة كل سقوط، حيث تتحول الدولة عندها إلى مجرد عصابة تروع وتبتز مثل أي عصابة مافيا. وهذا بدوره يؤدي إلى ظهور عصابات منافسة وتحول البلاد إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف.

(3)

لعل اجتياح صنعاء مطلع هذا الأسبوع من قبل عصابات داعش الأخرى، ونقصد حركة الحوثيين، يذكر كل من نسي بالفرق بين العصابة والدولة. فهذه الجماعة التي دخلت صنعاء تحت ستار مطالب شعبية، كذبت قبل وبعد توقيعها على اتفاق لم تحترم حرفاً منه، وقامت بتصفية حسابات طائفية ضد خصوم سياسيين، بمن فيهم توكل كرمان، الحائزة عل جائزة نوبل للسلام لدورها في الثورة اليمنية. وكفى إجراماً أن يستأسد الباغون على سيدة لا تحمل سلاحاً.

(4)

ربما هناك حاجة لتذكير الفئة التي تسمي نفسها أنصار الله بأن أمس الخميس كان غرة ذي الحجة، أوسط الأشهر الحرم، مما يعني أن اجتياحهم لصنعاء كان في الأشهر الحرم التي نهى الله عن الجهاد الحق، ناهيك عن العدوان على الأبرياء، والتهجم على دور العلم وبيوت الآمنين. ولم يحفل مدعو التدين بتذكر الأشهر الحرم، ناهيك عن احترامها، أو حتى تبرير ذلك نفاقاً كما كان المشركون يفعلون بذريعة النسيء الذي وصفه تعالى في القرآن بأنه «زيادة في الكفر».

(5)

بلغ النفاق في الحديث الأعرج عن الفساد ومحاربته، رغم تحالف القائلين مع أساطين النظام السابق من رموز الفساد والاستبداد. وكنت قد كتبت على هذه الصفحات قبل تفجر الثورة اليمنية بسنوات أحذر من أن استمرار حكم علي عبدالله صالح الفاسد المفسد سيؤدي إلى تقسيم اليمن. ولا نحتاج اليوم إلى قراء الطالع لنتأكد من أن اليمن في طريقه إلى تقسيم وشيك. فقد تحالف الحوثيون مع صالح والحراك الجنوبي معاً لتفكيك الدولة اليمنية. وهذه الفرصة التي كان ينتظرها الانفصاليون في الجنوب. فكما أن مغول صعدة دخلوا صنعاء دون أن يجدوا دولة تتصدى لهم، فإن الانفصاليين سينفذون مخططهم الانفصالي بنفس الطريقة.

(6)

رب قائل يقول –محقاً- إن معظم ما يسمى بالدول العربية هي أصلاً عصابات نهب وترويع تتسمى بمسمى الدول. ولكن كما أن هناك دولاً فاشلة وأخرى ناجحة، فهناك أيضاً عصابات أنجح من أخرى. ففي الصومال مثلاً كانت هناك ميليشيات تدير الشأن العام في غياب الدولة، وتجبي الضرائب وتوفر الحماية والأمن في ظل استقرار نسبي. وقد انهارت عدد من العصابات-الدول خلال السنوات القليلة الماضية لأنها تفوقت على نفسها في الإجرام. فبدلاً من الابتزاز بالملايين، رأينا المليارات، وبدلاً من تقتيل واختطاف المئات أصبح الضحايا بعشرات، بل مئات الآلاف. ولم يتفوق أحد على العصابة الأسدية في سوريا التي فاض شرها على دول الجوار.

(7)

سألني أحدهم مرة لماذا قامت قيامة العالم ولم تقعد ضد النظام السوري، بينما يسكت الكل عن البحرين، رغم أن كلا النظامين طائفي مستبد. قلت للسائل، إن السبب بسيط، وهو أن قتلى نظام البحرين في ثورتها يعدون بالعشرات، بينما قتلى الأسد يعدون بعشرات الآلاف. وقس على ذلك في أعداد المعتقلين والمهجرين، حيث لا مقارنة. فهناك أنظمة قمعية ناجحة وأخرى فاشلة.

(8)

ما يقع في سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها هو أيضاً إعلان لسقوط نظام دويلات الطوائف المسمى النظام العربي. فقد سقط اليمن وترنح العراق وتهاوت سوريا تحت ضربات عصابات من بضع عشرات الآلاف أتت من خارج العصر. ولم يستطع النظام العربي بكامله أن يتصدى لمثل هذه الفئات الفقيرة في العقل والدين والعتاد، حتى تم استدعاء «تحالف دولي» لإنفاذ هذه المهمة، أي وضع المنطقة تحت الوصاية والانتداب.

(9)

يذكرنا الأمر بما حدث عام 1916، حين ثار العرب وقتها ضد «خلافة» أخرى كان مقرها اسطنبول، واستنجدوا ببريطانيا التي نصروها فخذلتهم. مع الفارق بالطبع، وهو أن العرب الذين ثاروا في عام 1916 كانوا أشبه بداعش منهم بدول. ولكننا اليوم في وارد دويلات «داعشية» (ما الفرق بين أن تذبح داعش الصحافيين وبين أن تختطفهم الأنظمة في دمشق والقاهرة أو تسلط عليهم قناصتها؟) تستدعي الخارج لمحاربة عصابات، ضعف الطالب والمطلوب.

(10)

ليس هناك دليل على فشل الدول أبلغ من هذا. ولكن المعضلة الأكبر هي أن دول الفشل العربي تتداوى بالتي كانت هي الداء، حيث نشاهد في مصر وغيرها تجريب المجرب، ومحاولة إعادة تسويق أنظمة الاستبداد والفشل المركب على أنها الحل. ولن يطول بنا الأمر قبل أن نسمع بالاستنجاد بدويلة إسرائيل لإنقاذ ما لا يمكن إنقاذه. وأقول «نسمع»، وليس «نعلم»، أي أن يخرج ما كان سراً إلى العلن.

٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى