صفحات العالم

مقالات لكتاب عرب تناولت جنيف 2

هل ينزع ” جنيف ـ” فتيل حرب أهلية في سوريا؟/ مأمون كيوان

تفيد القراءة الموضوعية للحدث السوري الذي لا يعبر في جوهره عن أزمة في المجتمع السوري بل يعبر عن احتجاج المجتمع على فشل الدولة التسلطية في تلبية متطلباته، وهو احتجاج اعتمد منذ بداياته المنهج السلمي الغاندي بتعبيراته الحديثة. لكن جرى تسويقه من قبل جهات عدة على أنه حرب أهلية وتغليفه برايات طائفية ومذهبية ودينية.

وعرف التاريخ الحديث نماذج عدة للحروب الأهلية منها: الحرب الأهلية الأمريكية 1861 -1865بين ولايات الشمال الاتحادية وولايات الجنوب الانفصالية على خلفية مسألة تحرير العبيد وإلغاء نظام الرق. والحرب الأهلية الإسبانية التي بدأت بعصيان الحاميات العسكرية في 120 مدينة إسبانية، و5 حاميات في المواقع الإسبانية على الأرض المغربية يوم 18 تموز/يوليو 1936 ضد الجبهة الشعبية الاشتراكية، وانتهت بدخول قوات الجيش الإسباني بقيادة الجنرال فرانكو يوم 28 آذار/مارس 1939 العاصمة مدريد. وتعود قصة هذه الحرب إلى يوم 14 نيسان/أبريل 1931 عندما غادر ملك إسبانيا ألفونسو الثالث عشر عاصمة بلاده بسبب فوز القوى الثورية المتحالفة في الانتخابات العامة، وهي القوى التي ضمت الحزب الشيوعي الإسباني، والأحزاب الاشتراكية والاتحاد العام للعمال، وأعلنت قيام الجمهورية الأإسبانية التي لم تعرف الاستقرار أو الأمن، فقد تمزقت الجبهة الداخلية تمزقاً رهيباً بين الجيش وأنصار النظام الملكي، وبين التنظيمات الفلاحية المطالبة بتطبيق الماركسية واشتراكية الأرض، فوقعت انقلابات عسكرية في أشبيليا وغيرها، كما تشكلت حركات انفصالية. وكانت قوات الجيش موزعة في مواقع في إسبانيا، وقوات في المغرب، وفي جزر الكناري، تخضع لقيادة الجنرال فرانكو، ومقابل ذلك، كانت حكومة مدريد الثورية تسيطر على غالبية سلاح الطيران وقوات الشرطة وحرس الحدود، بالإضافة إلى الميليشيات الشعبية التي سلّحتها الحكومة. وفي الحرب مارس التدخل الدولي دوراً كبيراً وفعّالاً للتأثير على مساراتها وتحولاتها، فقد عملت دول كالاتحاد السوفياتي، وفرنسا، وبريطانيا على دعم حكومة مدريد الجمهورية، فيما قدّمت ألمانيا وإيطاليا بخاصة دعماً عسكرياً ولوجستياً قوياً للجنرال فرانكو وجيشه، وتمثل الدعم السوفياتي بإرسال قادة ومدربين ووسائط قتالية وطائرات وذخائر متنوعة، بالإضافة إلى قوات المتطوعين من ألوية العمال الأممية، والتي شملت 10 آلاف متطوع فرنسي، و3 آلاف متطوع سوفياتي، ومتطوعين من شعوب كثيرة، كما تعهدت إنجلترا وفرنسا بإرسال قوات بحرية لمراقبة السواحل الإسبانية، وإيقاف كل الإمدادات أو الدعم لقوات جيش فرانكو، ومقابل ذلك قدمت إيطاليا 5 فرق من قوات النخبة (القمصان السود)، والتي ضمت 40 ألف مقاتل، وعمل الألمان على إرسال أسطول من طائرات النقل العسكرية لنقل قوات فرانكو من المغرب إلى أسبانيا، نظراً لصعوبة التحرك البحري عبر مضيق جبل طارق بسبب السيطرة البحرية لجيش مدريد الجمهوري على هذا المضيق.

وبلغت كلفة الحرب أكثر من مليون قتيل من الطرفين، علاوة على الخسائر المادية الكبيرة في الأموال والممتلكات، وهجرة أعداد كبيرة من الإسبان إلى فرنسا والولايات المتحدة ودول أمريكا الجنوبية. وكانت نتائج الحرب الأهلية الإسبانية برهاناً على أن الحروب العقائدية الأيديولوجية أشد خطراً على الشعوب من الحروب الخارجية ذات الأهداف السياسية أو الاقتصادية.

وعرف الوطن العربي ومنذ أقدم العصور كل أنواع الحروب، وفي طليعتها الحروب الأهلية، ومن نماذجها الشهيرة في العصر الجاهلي: حرب داحس والغبراء، وقتال عبس وذبيان، وغزوات الصعاليك التي أكّدت أن حروب القبائل المسلحة التي شكّلت النماذج المبكّرة للحروب الأهلية لم تكن بسبب العامل الاقتصادي وحده أي الحصول على المراعي، وغزوات السلب والسطو، بل إن كثيراً من الحروب كانت ذات أهداف مرتبطة بفضائل المجتمع القبلي ومفاهيمه وقيمه، فقد كانت قيم الشجاعة والانتصار للحق والعدالة، والفخر بشرف القبيلة عاملاً حاسماً في توحيد القبائل.

وكانت حروب الردة، ونماذج الحروب الأهلية في العصرين الأموي والعباسي، والتي لم تكن جميعها ثمرة طموحات فردية أو مغانم مادية، وإنما كانت لها أهداف اجتماعية، ونموذجها ثورة الزنج في العراق، وكانت لها أهداف سياسية للحصول على حقوق وامتيازات للشعوب التي اعتنقت الإسلام ديناً.

وكان للعامل الاقتصادي دوره في تلك الحروب الأهلية لتحقيق التوازنات داخل المجتمع الإسلامي. وكثيراً ما كان من تلك الحروب الأهلية ما هو ذو هدف إسلامي واحد يتمثل في إعطاء الأقاليم الإسلامية عربية وغير عربية قوة دفع جديدة لمجابهة الأعمال العدوانية الخارجية، ونموذجها الحروب الصليبية القديمة.

وشكل إرسال الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر جيش مصر لدعم الجمهوريين المناهضين لحكم الأئمة في الحرب الأهلية (1962 – 1967) أول تدخل عسكري عربي في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. تعيش حرباً أهلية طاحنة، أدت إلى استنزاف الجيش المصري، وتمزيق الجبهة العربية، وشكلت فشلاً لمحاولة جمال عبد الناصر تحرير فلسطين عن طريق صنعاء.

وشكَّلت الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1989)، النموذج المتكامل للحروب الأهلية، والتي اختلطت فيها رايات الحرب الطائفية أو الدينية برايات المذاهب الاقتصادية.

وهناك رزمة الحروب الأهلية التي شهدها السودان ولا يزال يشهدها منذ العام 1970، والحروب الأهلية في الجزائر وفي العراق وحالات الاقتتال الفلسطيني – الفلسطيني في لبنان وغزة، التي تجاوز عدد ضحاياها الملايين.

وراهناً، يخشى السوريون أن يتحول مؤتمر جني الثاني المنشود مدخلاَ لأكثر من جني لاحقاً على غرار ما حدث للفلسطينيين في جني 1974 الذي شكل مدخلاً لاتفاقات كامب ديفيد ومؤتمر مدريد ومعاهدة السلام الإسرائيلية – الأردنية واتفاق أوسلو. او بداية لعملية سياسية تفضي إلى عرقنة سورية. وذلك تحت ضغط عملية الربط بين مؤتمري جني الإيراني والسوري.

وبطبيعة الحال، لا يحتاج السوريون إلى الدخول في تيه جديد سبق أن دخله أشقاؤهم الفلسطينيون واللبنانيون والعراقيون تحت رايات السلام والدمقرطة والتسامح.

المستقبل

هل هي أعراض سقوط الفتنة الكبرى؟/ محمد قواص *

من خلفِ الغبار المتصاعد بين جنيف الإيراني وجنيف السوري يجهدُ المراقبون بدأبٍ لفك رموز التحوّلات الدراماتيكية التي قلبت السياستين الدولية والإقليمية خلال الأسابيع المنصرمة.

لا يشي الاتفاق الإيراني الدولي بانعطافة كبرى في علاقة طهران بالمجتمع الدولي فقط، بل بتبدل كبير طرأ، وسيطرأ باضطراد، على فلسفة الحكم في إيران. لن يصمد الخطاب العقائدي وسيتصدع الخطاب الإيديولوجي، وإن كان استخدام الأبجديات الكلاسيكية سيبقى متداولاً لتجاوز أوجاع مخاض الولادة الجديدة.

الحدثُ الإيراني، والحدث السوري، والحدث المصري أجهضت، بالجملة والمفرّق، تشكلاً إقليمياً كان قيّد الظهور، ودفعت باتجاه تشكّل آخر بدأت أعراضه تُطل وتتقدمُ على نحو يرسم معالم «الاستقرار» الإقليمي المقبل. انسحبت تركيا بمنهجية صادمة من طموحاتها العثمانية، وراحت تبشّر بتصفير المشاكل كقاعدة عزيزة على قلب وزير الخارجية داوود أوغلو، مهندس ذلك المنهج. ولا يُظهرُ السجال المصري – التركي الراهن، وإمعان أردوغان في تصليب لهجته مع القاهرة، إلا طبائع عرضية تواكب التحوّل (وربما الارتباك) التركي في ملفات أساسية أخرى.

تروم تركيا إعادة ضبط بوصلتها في العلاقات الدولية على قواعد المصالح الإقتصادية التي كانت ديدن حزب العدالة والتنمية وسرّ نجاحه. تطمح أنقرة إلى تأهيل البلاد سياسياً لتكون ممر الطاقة القادم من الشرق (لا سيما من إيران) باتجاه الغرب. هكذا تنطلق ديبلوماسيتها باتجاه بغداد وأربيل وطهران. تدرك أنقرة أن رهانات الهيمنة التي راودتها في السنوات الأخيرة باتت خاسرة. لم تنجح في إزاحة الأسد في دمشق لمصلحة نظام قريب منها، كما لم توفّق في بسط نفوذها في المنطقة من خلال التعويل على حكم «الإخوان المسلمين»، فيما تولّت انتفاضة «تقسيم» دفع الطامحين في الحكم إلى الإنكفاء نحو داخل يستيقظ على غفلة.

على أن ما سبق جنيف الإيراني في مصر، وضع نهاية لحكم إخواني بدا يروّج لسنيّة سياسية إقليمية تتناقض مع الشيعية السياسية الإقليمية المنطلقة من طهران. بدت العلاقة الحميمة الصاعدة بين تركيا العدالة والتنمية ومصر «الإخوان المسلمين» تؤسس لتعملق سنيّ يقارع طهران. ظهرت أعراض ذلك بوضوح في زيارة نجاد للقاهرة أيام رئاسة محمد مرسي، كما اشتدت نبرته في السجال المذهبي الحاد بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من بغداد ونظيره التركي رجب طيب أردوغان من أنقرة.

واذا كانت إيران تتحمل مسؤولية كبرى في تنامي التوتر السني – الشيعي على مستوى المنطقة، ابتداء من اليمن والخليج، مروراً بالعراق، وانتهاء بسورية ولبنان، فإن الفتنة أضحت علنية تستعر وتتفاقم بسبب اندفاع النظام الرسمي الاقليمي، بكافة أطرافه، لتغطية مزاج التصادم في ميادين التماس المختلفة بين المذهبين.

ولئن كانت الساحة السورية (واستطراداً اللبنانية)، ورشة مذهبية كبرى تتصارع فيها قوى الميّدان من «داعش» و «النصرة» و «حزب الله» و «لواء أبو الفضل العباس»… إلخ، فإن التحوّلات الإقليمية الكبرى أطلت وكأنها تتخلص من المضمون العقائدي، وتعود لطبيعة السياسة وطبائعها.

تتفق إيران الشيعية وتركيا السنيّة على «العمل سوياً من أجل إيجاد حل للأزمة السورية»، على ما أُعلن رسمياً أثناء زيارة وزير الخارجية التركي لطهران. كما أن الزيارة التاريخية اللافتة للوزير التركي نفسه إلى النجف وكربلاء (ناهيك عن تلك التي إلى بغداد)، تعكسُ قطيعة مع خطاب الفتنة الذي كان نشطاً قبل أشهر بين تركيا والعراق، كما تدشّن حالة انفراج في علاقات تركيا (السنيّة) مع الشيعة في العالم.

لكن المدماك الأساسي في نزع فتيل الانزلاق نحو التصادم المذهبي الكبير وُضِعَ في مصر بعد تحوّلات 30 يونيو. قبل هذا التاريخ بعدة أسابيع شهدت مصر حادثة قتل وسحل أربعة من الشيعة في مدينة «أبو مسلم» في الجيزة. بدت الحادثة غريبة عن طبائع المصريين وطارئة على طبيعة مصر. لكن الحدث عكس مزاجاً ينفخ به الخطاب الديني المذهبي الذي راج على هامش الحكم «الاخواني».

تتركز معركة النظام السياسي الراهن في مصر على مواجهة جماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم. وتنطلق السياسة الخارجية المصرية الجديدة على قاعدة الاقتراب من خصوم الإخوان (كما هو الحال مع السعودية والامارات والكويت) والابتعاد إلى حد القطيعة مع أصدقاء الإخوان (كما هو الحال مع تركيا).

وفق تلك البوصلة توترت علاقات القاهرة مع دول غربية على رأسها الولايات المتحدة (رغم اعتراف كيري الأخير بـ «سرقة الإخوان لثورة المصريين»). ووفق نفس البوصلة تطوّرت علاقات مصر بروسيا على نحو غير مسبوق منذ نكستها الساداتية. ووفق تلك البوصلة تبدّلت علاقة القاهرة بدمشق، إلى درجة ما يتردد عن تنسيق أمني مشترك لـ «مواجهة الارهاب»، كما لم تعد مصر ترى في إيران عدواً، لا بصيغة مبارك العلنية ولا بصيغة مرسي المضمرة، وإن كانت الحساسيات الإقليمية هي التي تكبحُ تنامي التعاون بين القاهرة وطهران.

على تناقض المواقف بين تركيا ومصر، يتشارك البدان، كل لحساباته، في الاستقالة من موقعيهما المذهبييّن. ولا ريب أن إيران ما بعد جنيف آيلة إلى الاعتبار من تلك التحوّلات والتأقلم مع العصر الجديد. يدفع «فجر» جنيف طهران إلى التقاطع في السياسة والمصالح مع قوى المنطقة على نحو يدعو إلى مزيد من التهميش للعامل المذهبي الذي قد يصبح تقليعة متقادمة.

على أن اسقاط التمذهب الإقليمي التام مشروط بالتقارب بين إيران والسعودية. الأجواء الراهنة التي تشي بها التصريحات العلنية أو تدفع بها وسائل اعلام الطرفين لا توحي بذلك، بيد أن زيارة وزير الخارجية الإماراتي لطهران لا شك في أنها رسالة خليجية إيجابية للجار الإيراني. في المقابل فروح اتفاق جنيف (الذي رحبت به الرياض رسمياً) يتطلب هذا الانفتاح الإيراني المطلوب على الخليح العربي بعامة والسعودية بخاصة، حيث يبدو حاجة إيرانية لإعادة تأهيل إيران في المحافل الدولية. امكانيات ذلك ليست سراباً. هي جزء من خطاب روحاني المعلن، وهي جزء من لهجة بدأت تروج داخل إيران التي ربما أيضاً تريد «تصفير المشاكل».

وحدها المسألة السورية ستحدد مسارات العبور إلى ما بعد الفتنة.

* صحافي وكاتب سياسي لبناني

الجياة

«جنيف – 2» بين «رؤية أوباما» والمعارضة وشركائها/ جورج سمعان

ليست هذه المرة الأولى التي تبدل فيها الولايات المتحدة سياستها حيال الشرق الأوسط. لم تتخلَّ عن مصالحها الحيوية وشركائها وحلفائها في هذا الإقليم. لكن مقاربتها للحفاظ على هذه المصالح تبدلت بتبدل الظروف والتطورات الدولية والإقليمية. مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي سوزان رايس لخصت، في كلمة قبل أسبوعين، ما سمته «رؤية» الرئيس باراك أوباما لدور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. استندت إلى ما ورد في خطابه إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) الماضي. أشارت إلى أربع مصالح أساسية: مواجهة أي عدوان على الحلفاء والشركاء، ضمان التدفق الحر للطاقة إلى الأسواق العالمية، تفكيك الشبكات الإرهابية ومنع التطوير والانتشار والاستخدام لأسلحة الدمار الشامل. وأكدت استعداد بلادها للدفاع عن هذه المصالح بكل ما تملك من وسائل بما فيها… استخدام القوة.

هذه الرؤية لم تخرج عما رسمته الإدارات الأميركية السابقة طوال عقود. لكن التطورات التي شهدها العالم والشرق الأوسط خصوصاً، فرضت تبدلاً جوهرياً في الاستراتيجيات والوسائل التي اعتمدت للدفاع عن هذه المصالح. عندما قامت «الثورة الإيرانية» مطلع 1979 شعرت الولايات المتحدة بأن ركناً أساسياً من أركان منظومة الأمن في الخليج قد انهار. ولم يمضِ ذلك العام حتى اندفع الجيش السوفياتي إلى أفغانستان مهدداً بالاقتراب من المياه الدافئة. وشعرت أميركا بأن عليها مواجهة هذين «الهجومين». طوت سريعاً «مبدأ نيكسون» الذي صاغ رؤية تقوم على «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتشجيع التعاون الإقليمي، ودعم الدول الصديقة في الحفاظ على أمنها الذاتي…». ورفعت مطلع 1980 لواء «مبدأ كارتر» الذي وضع أمن الخليج، أي أمن الطاقة، في صلب المصالح القومية لبلاده. ثم أنشئت بعد ذلك قوة التدخل أو الانتشار السريع التي كرست مبدأ التدخل العسكري المباشر.

أحداث كثيرة مرت في العقود الأخيرة، أثبتت فيها أميركا أنها لم تتخلَّ عن «مبدأ كارتر»، بل قبله وإلى اليوم لم تتخلَّ عن إسرائيل حليفها الاستراتيجي. ووضعت أمنها فوق أي أعتبار. ولا حاجة إلى سرد ما قدمت لها في حروبها مع العرب. وحتى عندما «تجرعت إيران السم» وتوقفت الحرب مع العراق، وخرج السوفيات من كابول ثم انهار المعسكر الشرقي، لم تترك الإدارات المتعاقبة مجالاً للشك في احتمال تغاضيها عن محاولة أي قوة إقليمية ملء الفراغ الذي خلفه سقوط الحرب الباردة. وجاءت حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي توكيداً لهذا التصميم.

مع بداية الولاية الأولى للرئيس جورج بوش الابن، عبرت دول أوروبية عن قلقها من عودة أميركا إلى نوع من الانعزال يترك القارة العجوز تواجه وحدها تداعيات تفكك الاتحاد السوفياتي وبداية صعود فلاديمير بوتين وسعيه إلى استعادة بعض ما كان لموسكو. وكانت واشنطن نفضت يديها من القضية الفلسطينية بعدما يئست من إمكان تحقيق تسوية لها استنفدت بلا جدوى جهوداً جبارة بذلتها إدارة الرئيس بيل كلينتون… لكن «غزوتَي نيويورك وواشنطن»، مطلع العقد الماضي، دفعتا الولايات المتحدة إلى حربَي أفغانستان والعراق… وإلى توكيد دورها الريادي والأحادي في الساحة الدولية. قفزت فوق المؤسسات الدولية وتجاوزتها وتجاهلت بعض الشركاء والخصوم. دخلت كابول لإسقاط نظام «طالبان» ومعه إرهاب «القاعدة». ودخلت بغداد لإسقاط صدام حسين ونظامه وما يمثل من تهديد بأسلحة الدمار الشامل.

وصل الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض على وقع الأزمة الاقتصادية المنهكة، وعلى وقع الدعوات إلى إعادة القوات من الخارج. كان واضحاً أن أميركا تعبت من حروبها. من التدخل العسكري المباشر. ربما أرادت بعث الحياة في «مبدأ نيكسون» الذي صيغ على وقع ما انتهى إليه التدخل في فيتنام. وينص المبدأ في ما ينص على التعاون مع الاتحاد السوفياتي لمنع الانجرار إلى مواجهة بين الجبارين. وخطا الرئيس أوباما خطوات لإعادة الاعتبار إلى العمل الدولي تحت مظلة الأمم المتحدة. سحب القوات الأميركية من العراق. وحدد زمن الخروج من أفغانستان. وقاوم طويلاً رغبة إسرائيل في عمل عسكري يوقف البرنامج النووي الإيراني. وحتى عندما هب «الربيع العربي» على ليبيا لم تتدخل واشنطن. وقفت خلف بريطانيا وفرنسا وبعض الدول العربية، واستناداً إلى تفويض عربي ودولي. ظلت في المشهد الخلفي للصورة. وهي إلى اليوم لم تتدخل في الأزمة السورية إلا في إطار مجلس الأمن أو جنيف. وهو ما سهل ويسهل على روسيا والصين الاعتراض على أي قرار لا يروقهما في هذه الأزمة. كما سهل على إيران مؤازرة دمشق بكل أسباب الدعم.

لذلك، لم يكن مفاجئاً هذا الحوار الذي انفتح علناً بين الولايات المتحدة وإيران، بعد اتفاق جنيف بين الستة الكبار والجمهورية الإسلامية. يندرج هذا التطور في سياق استراتيجية تبلورت منذ وصول الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض. بل قبل ذلك كانت واشنطن منذ نهاية 2006 لا تزال تضع على الطاولة «تقرير جيمس بيكر ولي هاملتون» اللذين أوصيا بضرورة فتح حوار مع الجمهورية الإسلامية التي شكلت قوة إقليمية فرضت حضورها في عدد من الملفات المشتعلة، من شاطئ المتوسط إلى أفغانـستان. لم تنفع «سياسة الاحتواء» في كبح جماح نشاطاتها النووية و… السياسية التي توسلت الاتكاء على قوى محلية في هذا البلد العربي وذاك لتوكيد هذا الحضور. ولا حاجة إلى ذكر «الهدايا» التي تلقتها من «الغازي الأميركي» في أفغانستان والعراق!

في مقابل هذا التحدي الإيراني المتنامي للدور الأميركي، كان «الربيع العربي» منذ 2011 يمعن في تفتيت الخريطة العربية الجامعة، ويزرع الفوضى ومشاريع حروب وتقسيم في تونس وليبيا ومصر واليمن وسورية التي نجحت روسيا في استغلال واسع لأزمتها من أجل استعادة بعض ما كانت خسرته عندما هبت العاصفة في المنطقة، بل قبل ذلك إثر انهيار جدار برلين. وترافقت هذه المتغيرات مع شهية الصين التي لا تتوقف عن التمدد والانتشار في فضائها القريب والبعيد. أمام هذه المعطيات كان لا بد من رسم خريطة جديدة لمواقع كل القوى، الكبرى والإقليمية بما فيها إيران. وفي الواقع لم يأتِ الحوار بين واشنطن وطهران مفاجئاً أو خارج السياق الذي تضمنه «إعلان أوباما» مطلع السنة الماضية. قدم الإعلان منطقة المحيط الهادئ على الشرق الأوسط وأوروبا في سلم الأولويات الأميركية.

من هنا، جاء اتفاق جنيف الأخير خطوة متوقعة في إطار استراتيجية أميركية معلنة تعزف عن الـتدخـل العـسـكري، وتـتـوسـل الحـوار والـتهدئـة. إنـه صيغـة للتأقلم المـرحـلي مع المـلف الـنـووي الإيراني في انتظار نضح التسوية على نار هادئة طوال سـتـة أشهر قابلة للتجـديد ما دامت إدارة أوباما تريد تهدئة في كل جبهات الشرق الأوسط. والمهم أنه يقطع الطريق على أي مغامرة عسكرية إسرائيلية كانت سترغم الأميركيين على تدخل عسكري لا يرغبون به. أليس هذا ما كان يدفع بنيامين نتانياهو ولا يزال إلى خصومة معلنة مع سيد البيت الأبيض؟

الاتفاق مع إيران، على رغم «مبدئيته» في انتظار التفاوض على حل نهائي، يدفع بجميع اللاعبين في الشرق الأوسط إلى إعادة النظر في استراتيجياتهم السياسية والأمنية وشبكة العلاقات والمصالح. لا يكفي هنا توجه الغاضبين والمتوجسين من تبدل الموقف الأميركي نحو روسيا أو غيرها من القوى بهدف إعادة التوازن إلى علاقاتهم الخارجية. فلا الولايات المتحدة ستنسحب من المنطقة وإن تراجعت أولويتها، ولا روسيا وغيرها البديل الجاهز والوافي الذي تتوافر فيه كل الشروط، السياسية والعقائدية والعسكرية والاقتصادية والتجارية. كما أن التبدل الأميركي الذي أقلق بعض أهل الخليج سابق لاتفاق جنيف. ولعل العراق خير دليل. وما شهدته بغداد وما تشهده، منذ الغزو الأميركي قبل عشر سنوات، ما كان ليستمر لولا التفاهم المباشر أو الضمني بين طهران وواشنطن. والدليل الأخير سورية التي تركتها أميركا لروسيا وحلفائها في المنطقة. وثمة محطات كثيرة.

يبقى أن تركيا التي بدت لفترة في سباق محموم مع إيران على مواقع النفوذ في العالم العربي، تجهد اليوم بعد الذي أصاب سياستها حيال «الربيع العربي» إلى إعادة صوغ شبكة علاقاتها الخارجية بما يتلاءم وخريطة القوى الجديدة في المنطقة. تتوجه اليوم لإعادة وصل ما انقطع مع العراق. وتسعى إلى تعميق تعاونها الاقتصادي والنفطي مع إيران وروسيا أيضاً. وهو حاجة مشتركة للأطراف الثلاثة. وسيكون على الدول العربية، خصوصاً دول مجلس التعاون التي تتمايز مواقفها مما يجري في المنطقة، أن تعيد النظر في عقيدتها الأمنية والعسكرية، وفي شبكة علاقاتها الخارجية، وفي تحديد خريطة مصالحها الاستراتيجية وسبل حمايتها. وما يجعل مثل هذا الأمر ملحاً ليس الخوف من تراجع دور أميركا في المنطقة فحسب، بل أيضاً سقوط كل أركان المنظومة العربية التي شكلت على الدوام مظلة واقية، واستعداداً للتعامل مع البازار السياسي والاقتصادي المفتوح مع الجمهورية الإسلامية… وليس مبالغة القول إن ملف حضور إيران في المنطقة العربية أكثر تعقيداً من ملفها النووي. ذلك أن حضورها من اليمن إلى لبنان مروراً بالعراق وسورية يتوسل قوى يربطها بها سند ديني عقائدي لا يمكن اعتباره مصلحة آنية تفرضها مرحلة من مراحل الصراع. ولا يمكن تجاهل هذه القوى في نسيج هذه البلدان وإن أرغمت الجمهورية الإسلامية على المقايضة أو التضحية بشيء من «وشائج القربى»… هل يتوزع الشرق الأوسط بين القوى الكبرى الدولية والإقليمية كما كانت حاله قبل حوالى قرن إثر سقوط السلطنة العثمانية، ولا حول ولا قوة لأهله؟ إن «جنيف – 2» أول الاستحقاقات والامتحان المحك نحو المحطة الثانية في المنظومة الجديدة، استناداً إلى «رؤية أوباما» المنـخرطة أيـضاً في مـفاوضات التـسـوية بين الإسرائيلـيين والفلسطينيين. فهل يكون «الائتلاف السوري» المعـارض و«أصدقاؤه» القريبون الشريك الأضعف؟

الحياة

“أسد” بدل الأسد؟/ امين قمورية

التفاهم الأميركي – الروسي أنتج الاتفاق الدولي على تدمير الكيميائي السوري الذي مهد الطريق بدوره للاتفاق النووي. ولعل زخم الاتفاقين أزال عقبات عدة من طريق تحديد موعد “جنيف – 2” السوري.

موسكو “انجزت” الشق المتعلق بها بـ”اقناع” دمشق بالذهاب الى جنيف. وواشنطن فعلت ما عليها بالضغط على المعارضة المعتدلة للتوجه الى المفاوضات. لكن العقدة الاساس لا تزال من دون حل: ما هو مصير بشار الاسد ؟ النظام يؤكد ان مسألة رحيل الرئيس لن تكون مطروحة على الطاولة. والمعارضة ترى ان لا جدوى من الحوار اذا لم تسبقه ضمانات دولية لقيام حكومة انتقالية من دون الاسد. وبين هذا الاصرار وذاك ثمة من يدعو الى حل وسط (لا يرضي الطرفين) ببقاء الاسد رئيسا على ان تنقل صلاحياته الى الحكومة الانتقالية التي تضم الجميع الى حين اجراء انتخابات تعددية.

الاتفاق الكيميائي وتكليف رأس النظام مهمة تنفيذه، تصريحات لافروف عن التوافق بين روسيا و”شركائها” على اعطاء الاولوية لمكافحة المتشددين الاسلاميين على حساب تغيير الانظمة، التقدم الميداني للقوات النظامية على الارض وتشتت المعارضة وعدم ظهور بديل مقبول، كلها عناصر توحي بان الاسد نال فرصة دولية جديدة للبقاء حاكما لسوريا الى حين انتهاء فترة ولايته السنة المقبلة على الاقل.

فجأة، أعادت امس المفوضة السامية للامم المتحدة لحقوق الانسان عقارب الساعة الى الوراء. اتهمت بوضوح وللمرة الاولى الرئيس السوري بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، مع ما يترتب على هذا الاتهام من تداعيات خطيرة.

هل عاد الاسد الى قفص الاتهام الدولي مجددا؟ وهل توقيت هذا الاتهام مرتبط باقتراب موعد “جنيف – 2″؟ وهل هو رسالة الى من يعنيهم الامر بان مصير الرئيس هو ايضا على طاولة التشريح الدولية؟

اللافت ان هذا الاتهام تزامن مع تسريبات عن قبول الكرملين بإزاحة بشار الأسد لمصلحة رئيس علوي آخر يضمن مصالح روسيا ومصالح الأقليّات، وتلميحات إلى قبول أميركي بذلك. وثمة من يقول ان الرياض قبلت بالخطة الروسية التي عرضها بوتين هاتفيا على العاهل السعودي.

إن افكارا كهذه جرى تداولها منذ سنتين. لكن استحضارها تزامنا مع “جنبف – 2” وترافقها مع اتهام دولي للاسد في ظل موسم التفاهمات الدولية، هل يعني ان قطار التسوية وضع على السكة؟

لا شك في ان الاولوية هي لوقف الحرب والدمار في سوريا بأي ثمن كان. بيد ان التسوية الدائمة ينبغي ان تقوم على المساواة بين السوريين وليس على المحاصصة الطائفية، ذلك ان الطائفية هي الوجه الآخر للحرب. اسألوا عنها اللبنانيين والعراقيين!

النهار

حقبة استرخاء دولي: من جنيف إيران إلى “جنيف 2″/ يوسف مكي

 تحركات سياسية سريعة شهدتها الأيام الأخيرة، في المنطقة وفي العالم . فمختلف الأطراف الدولية، تسعى لترتيب أوضاعها، على قاعدة الاعتراف بانتهاء حقبة الأحادية القطبية، والعودة مجدداً للتعددية في صناعة القرار الأممي . وذلك لم يعد موضع جدل حتى بين عتاولة اليمين الأمريكي، فهذا صامويل هانتنغتون يتحدث عن تعددية قطبية بزعامة أمريكية . ويشاطره مستشار الرئيس الأمريكي كارتر، بريجنسكي، الذي يقول ما هو أكثر من ذلك، فيشير إلى انتهاء مرحلة السيادة الأمريكية على قرارات مجلس الأمن الدولي .

والواضح أن قاعدة الارتكاز في التركيبة الجديدة هي استعادة روح التنافس بين أمريكا وروسيا، بآفاق جديدة على منطقة الشرق الأوسط . فروسيا تعمل على استعادة حدائقها الخلفية، لعمقها الاستراتيجي . وأحداث أوكرانيا المستعرة، في شكل تظاهرات كبرى عمت العاصمة كييف، هي صراع بالوكالة، بين قطبين متنافسين، قطب يعمل على الالتحاق مجدداً بروسيا الاتحادية، وقطب آخر يعمل على تحقيق قطع نهائي مع الامبراطورية الروسية، واعتماد الشراكة الكاملة مع الاتحاد الأوروبي .

التنافس الغربي- الروسي على أوكرانيا، يقابله تنافس آخر، على المنطقة العازلة بين روسيا، ومياه الخليج الدافئة، يترجمه بوضوح، توقيع اتفاق جنيف، المتعلق ببرنامج إيران النووي . ورغم أن الاتفاق، كما تكشف نصوصه، هو اختبار لحسن نوايا إيران، تجاه تلبية المطالب الدولية بالامتناع عن تصنيع السلاح النووي، لكنه مؤشر على رغبة أمريكية، بالدرجة الأولى والغرب، بدرجات أخرى أقل، على إنهاء حالة التوتر، بشكل نهائي في العلاقة مع إيران، والتفرغ لمعالجة ملفات أخرى، أكثر أهمية . وذلك ما أطلقنا عليه في قراءة سابقة، بسيادة حالة من الاسترخاء في المنطقة .

في هذا الاتجاه، تطفو على السطح جملة من الحقائق، لعل أهمها، زيارة رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي لأمريكا، ولقاؤه بالرئيس باراك أوباما، لمعالجة الفتور في العلاقة بين الحكومتين الذي ساد في السنتين السابقتين . ويتزامن هذا التطور مع تسريبات، حول اتصالات سرية تجريها الإدارة الأمريكية مع قيادة حزب الله اللبناني، وتقارب تركيا ودول خليجية مع إيران، عبرت عنها زيارة مسؤولين من هذه البلدان لطهران، وزيارات متكررة لمسؤولين أتراك لحكومة بغداد، وتحديد موعد لانعقاد مؤتمر “جنيف2″، لمعالجة الأزمة السورية، من خلال المفاوضات السياسية، وليس بالحل العسكري .

اللافت للنظر، هو الوعي الأمريكي، بأن زمن احتكار معالجة الأزمات الدولية، قد ولى إلى غير رجعة، وأن مرحلة جديدة قوامها الشراكة بين القوى العظمى في حل الأزمات المستعصية قد أزفت .

إن من يتذكر الموقف الأمريكي، بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973م، وكيف عملت إدارة الرئيس نيكسون، بتحريض من هنري كيسنجر مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، على احتكار تسوية ما عرف بأزمة الشرق الأوسط، وكيف استبعد الاتحاد السوفييتي، حينئذ، من المشاركة الفعلية في العملية السياسية . وكان انعقاد مؤتمر جنيف الدولي لحل أزمة الشرق الأوسط، مهزلة في شكله وفي دوره . فلم يتعد هذا الدور، مشاركة السوفييت في مهرجان احتفالي، كان هو البداية والنهاية في دور غير الأمريكيين، بتسوية الأزمة .

الآن تتغير الأمور رأساً على عقب، فيكون للروس الدور الأول في التعامل مع الأزمة السورية، ويصبح الدور الأمريكي مكملاً للدور الروسي . في مؤتمر جنيف لحل أزمة الملف النووي الإيراني، يشارك الروس بفعالية، ويكون لهم دور كبير، في تقرير مآلات تسوية هذا الملف . وذلك أمر طبيعي جداً ومعقول، فإيران تهم روسيا، وأوضاعها تؤثر في استقرارها، أكثر من تأثيرها على الأمن الأمريكي . وبديهي القول، بأن الروس لا يرغبون في وجود دولة نووية، قريباً من حدودهم الجنوبية .

وما دامت، أمريكا وروسيا متفقتين على أهمية منع إيران من حيازة السلاح النووي، فإن ذلك له تأثير كبير، في تحول التعامل مع الأزمة من الحالة الصراعية، إلى حالة التسوية . يضاف إلى عوامل أخرى، أشرنا لها في حديث سابق، هي حرص أمريكا على وجود منطقة عازلة بين الدب القطبي والمياه الدافئة، هذا مع وعي أن هذه المنطقة هي طريق العبور البري الرئيسي الآمن والوحيد لشرق آسيا .

وبالنسبة للأزمة السورية، فإن الأمريكيين تخلوا للروس عن القيادة، بعد أن اكتشفوا تعقيدات الأزمة وتشابكها، وصعوبة الحل العسكري لحسم الصراع . وقد اتضحت لهم مخاطر التمسك بالحل الصراعي، بعد توسع دور “جبهة النصرة” و”داعش”، التنظيمين التابعين للقاعدة، وفقدان حلفائهم لكثير من الأراضي التي سيطروا عليها في السابق، لصالح القوى الجهادية المتطرفة .

ولا جدال في أن تنازلات القوى العظمى لبعضها، هي ليست من باب إثبات حسن النية، بل هي تنازلات محكومة بالمصالح وتوازنات القوة . هناك حديث عن صفقة عقدتها إدارة أوباما مع الرئيس بوتين، تشير إلى استعداد روسيا فتح بوابات الاستثمار بصناعة الغاز للأمريكان . وربما تقف هذه المصالح، وراء التصريحات الرخوة، المتكررة، لأقطاب الإدارة الأمريكية، ومن ضمنهم وزير الخارجية، جون كيري، والتي تؤكد أن الحل السياسي، هو الوحيد والممكن للأزمة السورية .

والنتيجة أن نظاماً دولياً جديداً يتشكل . وأن ربيع القوة الأمريكي، لم يعد ربيعاً، وأن قوى فتية أخرى، تستعد لقيادة العالم . ولهذا السبب، تتراجع سطوة القوة الأمريكية وتتغير موازين القوى . ولهذا السبب أيضاً، عقد مؤتمر جنيف، وتم التوصل إلى اتفاقية، اختبار نوايا إيران في الستة أشهر القادمة تجاه ملفها النووي، وسوف يعقد مؤتمر جنيف2 لمعالجة الأزمة السورية في نهاية يناير، أو على الأكثر في منتصف فبراير/ شباط من العام المقبل .

لن يكون بإمكان أحد من أطراف المعارضة الامتناع عن المشاركة في المؤتمر القادم، بعد تهديد وزير الخارجية الأمريكي، عن نية الإدارة الأمريكية إيجاد بديل عن هذه المعارضة، في حال امتناعها عن المشاركة في مؤتمر “جنيف 2” فإجماع القوى الدولية على الحل السلمي سوف يجفف منابع الدعم المالي للمعارضة المسلحة، ويسد بوابات عبورها للأراضي السورية، من كل الدول المجاورة .

جنيف إيران سيتبعه “جنيف 2″، وسيستمر الحال في معالجة الأزمات الكبرى الأخرى، طالما استمرت الشراكة بين القوى العظمى، ولتصبح مؤتمرات جنيف الوجه الآخر للتغيرات في موازين القوى الدولية .

الحياة

سوريا وجنيف 2/ محمد آل الشيخ

  الحرب الأهلية الطاحنة في سوريا تحولت كما هو معروف إلى حرب طائفية دموية بامتياز. وكل المؤشرات تقول إن السيطرة على هذه الحرب وكبح جماحها لا يملكه أحد؛ لا السوريون بجميع اتجاهاتهم، ولا من يسعون بينهم لأن يتفقوا على صيغة ما في الاجتماع المقبل المزمع عقده في جنيف بين النظام والمعارضة.. حتى لو وصل النظام والمعارضة في جنيف – (جدلاً) – إلى اتفاق – أياً كانت تفاصيل هذا الاتفاق – فإن تطبيقه على الأرض سيكون شبه مستحيل.

المسلحون على الأرض السورية مختلفون على كل شيء؛ فكل فصيل له رؤية وأهداف تختلف عن رؤية وأهداف الفصيل الآخر، فضلاً عن أن الجهاديين الأجانب لهم أجندة أخرى تختلف تماماً عن أجندة السوريين، النظام وكذلك المعارضة سواء منهم في الداخل السوري أو خارج سوريا. الجهاديون لا تعنيهم سوريا، ولا وحدة أراضيها، ولا دماء أهلها النازفة، ولا تشرد أهلها، ولا الدمار الفظيع الذي يلقاك أينما اتجهت، بقدر ما يعنيهم أن تكون (أرض الشام) نواة للدولة الإسلامية الموحدة الممتدة من إندونيسيا شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن تركيا شمالاً إلى بحر العرب جنوباً كما هي في أدبيات الجهاديين. وهم على أتم الاستعداد لحرب العالم أجمع من أقصاه إلى أقصاه فيما لو وقف في طريق تحقيق حلمهم.

دعوني أفترض جدلاً أن نظام الأسد والمعارضة السورية حققوا (المعجزة)، وذللوا كل العقبات، ووصلوا بشكل أو بآخر إلى اتفاق في جنيف.. المعضلة الحقيقية تبقى في كيف سيفرضونه على من لم يقبل أساساً بالمفاوضات من السوريين كالجيش الحر مثلاً، ومن ثم كيف سيفرضونه على الجهاديين الأجانب الذين هم من الآن يرفضونه شكلاً وموضوعاً؟

حتى لو استطاعت المعارضة السورية – جدلاً مرة أخرى – أن تقنع الجيش الحر بطريقة أو بأخرى بالاتفاق فيما بعد، ستبقى المشكلة العويصة في إقناع فصيلي الجهاديين الأجانب الأقوى (جبهة النصرة) وكذلك (دولة العراق والشام الإسلامية) بالحل؟ . هؤلاء مؤدلجون حتى الثمالة، لا سبيل للتعامل معهم إلا الحرب والقتال، فهم أصحاب عقول مغلقة ومتزمتة ولا علاقة لهم بالواقع فضلاً عن الموضوعية، إضافة إلى أنهم محترفو حروب ولا يجيدون غير الحرب؛ ومن التجربة العراقية مع مثل هؤلاء المحاربين المؤدلجين (الأجانب) فإن قتالهم قضية شائكة ومعقدة وعويصة ومرهقة؛ فهم خبراء في حروب العصابات، والكر والفر، وتكتيكات التحرك السريع المرهق للخصم، فضلاً عن أن هناك من سيتدخل ممن له مصلحة في إبقاء الحرب السورية (مشتعلة)، خاصة ممن سيخرجون من الاتفاق خاسرين، كالإيرانيين مثلاً فيما لو تم إزاحة الأسد من سدة الرئاسة، لتنتقل الحرب من حرب بين السوريين والنظام إلى حرب تصفية حسابات إقليمية حطبها هؤلاء الجهاديين ولا شأن للسوريين بها.

كما لا يمكن أن نستبعد هنا عمق الشرخ الذي أحدثته الحرب بين مكونات المجتمع السوري، فالانقسام بين هذه الفئات لا يتوقف فقط على البعد الطائفي، وإنما هناك انقسامات حادة وعميقة بين الطوائف نفسها من الداخل، فهناك عدد كبير من السنة شارك بقوة في الحرب إلى جانب الأسد، والأمر ينسحب على بقية الطوائف الأخرى، سواء من هم مع النظام أو مع المعارضة، هذه الانقسامات ترتب عليها دماء وثارات وخراب ودمار وجروح لن تندمل بسهولة وبجرة قلم في جنيف، وهو ما سوف يُثقل – أيضاً – ملف المصالحة ويزيد من تعقيده.

والسؤال ليس في هل يبقى الأسد أو لا يبقى؛ فذهابه في تقديري قضية محسومة طال الزمن أو قصر، إنما في ما بعد الأسد، وكيف يمكن للمجتمع الدولي وكذلك السوريين التعامل مع هذه القضية وذيولها المعقدة والشائكة وتبعاتها المتداخلة، حتى لو افترضنا أن من سيجتمعون في جنيف سيصلون إلى اتفاق. هذا هو السؤال.

الجزيرة السعودية

اتهام النظام بجرائم حرب يمنع تأهيله تعقيدات جنيف 2 تحاصر أميركا وروسيا/ روزانا بومنصف

في 4 ايلول الماضي اعلن رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين انه مستعد لدعم توجيه ضربة عسكرية ضد النظام السوري كان يلوح بتوجيهها الرئيس الاميركي باراك اوباما رداً على استخدام النظام الاسلحة الكيميائية ضد شعبه في حال ثبت ان الرئيس السوري مذنب باستخدام هذه الاسلحة. وعلى رغم ان مسؤولية النظام لم تعلن، الا ان الثمن الباهظ بدلاً من الضربة كان تسليم النظام سلاحه الكيميائي ونزعه كليا. ومع كشف الامم المتحدة للمرة الاولى ما قالت انه “كميات هائلة” من الادلة على مسؤولية الرئيس بشار الاسد عن “جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية”، قد يكون مفيدا معرفة رد الفعل الروسي على وجود ادلة ثابتة تجرم الاسد وتالياً تسمح بعمل ضده. ورد الفعل الروسي مهم الى جانب محاولة رصد المراقبين الديبلوماسيين ما اذا كان هذا الاعلان من جانب ممثلة للامم المتحدة هو من بين الاهداف للتحضير لمؤتمرجنيف 2 المرتقب انعقاده في 22 كانون الثاني المقبل والتمهيد لنتائجه وما اذا كان يمكن استخدام هذه المعلومات والادلة على طاولة المفاوضات ام لا علماً ان الدول الكبرى تمتلك هذه المعلومات منذ زمن وتباعاً وتم تبادلها لكن بقي كل منها على موقعه. الا انه مع كشف هذه المعلومات وجعلها علنية فإن الامر قد يفيد في توظيفها في الضغط في اتجاهات معينة من اجل ترجيح ضرورة الانتقال الى سلطة جديدة مختلفة في سوريا والاستفادة من مؤتمر جنيف للضغط في هذا الاتجاه كما ان من شأن هذه المعلومات تصعيب الترويج من جانب الداعمين للنظام السوري لاعادة تأهيله وربما اعادة ترشيح الرئيس السوري للرئاسة مجدداً كما يلوح النظام. فامتلاك ادلة على مسؤولية عن جرائم حرب وضد الانسانية تفترض منطقياً وقانونياً احالة النظام على محكمة الجنايات الدولية كما اوصت المفوضة السامية للامم المتحدة لحقوق الانسان وليس احتمال قبوله مجدداً من ضمن الاسرة الدولية على رغم انه من غير المرجح بالنسبة الى مراقبين ديبلوماسيين ان تماشي الولايات المتحدة او روسيا على حد سواء توصيات المفوضة السامية التي كشفت نتائج عمل لجنة التحقيق التي كلفت منذ 22 آب 2011 التحقيق في اعمال العنف في سوريا، لجهة احالة الوضع السوري على المحكمة الجنائية الدولية او وضع القوى العالمية المحاسبة على الجرائم التي ارتكبت في سوريا على قمة اولوياتها قبل مؤتمر جنيف 2 المحدد في 22 كانون الثاني المقبل. فالمؤتمر يحفل بالتعقيدات التي لم تجد حلولاً لها بعد، وليس واضحاً او اكيداً ان اياً من واشنطن او موسكو قد تسمحان بدخول تعقيدات اضافية عليه قد تطيحان انعقاده او تؤخرانه مجددا.

اذ تقول مصادر ديبلوماسية ان الايجابي حتى الآن بالنسبة الى مؤتمر جنيف قبول الفريقين المتنازعين اي النظام السوري والمعارضة في تشكيلها الاساسي المشاركة في المؤتمر مع ضمانات كل من الولايات المتحدة وروسيا، لكن هذه المصادر لا تبدو متأكدة من ان واشنطن وروسيا الراغبتين بقوة في انعقاد المؤتمر نتيجة شعور كل منهما بوطأة المأساة السورية على كل الصعد هما على الموجة نفسها لجهة النتائج المطلوب الوصول اليها اي ان يكون المؤتمر بداية لاطلاق عملية انتقالية للسلطة في مرحلة ما بعد الاسد. فعلى رغم التكرار انه يعود للشعب السوري ان يقرر مستقبل سوريا خصوصاً من جانب روسيا فإن الحل كما الازمة متعدد الاوجه اي داخلي واقليمي ودولي. وحتى الان لم يظهر على نحو كاف التلاقي الدولي على صفحة واحدة فيما هذا التلاقي غير موجود اقليميا ولا يمكن تجاهله كما حصل في الملف النووي الايراني او الموضوع الكيميائي السوري ومن غير المرجح حصوله قبل موعد المؤتمر على رغم التحركات الاقليمية النشطة لطهران راهنا وبعد توقيع اتفاق مبدئي مع الغرب حول ملفها النووي لجهة اظهار الانفتاح على دول الخليج العربي ما. وما لم يتضح ذلك قبيل انعقاد المؤتمر كشرط لا بد منه لانجاحه من بين شروط اخرى ايضا، تظل الشكوك غالبة حول عدم احتمال نجاحه واستمرار الازمة السورية طويلا.

النهار

سورية: موازين القوى ترجّح «تسوية مع النظام/ عبدالوهاب بدرخان *

لا بدّ من أن المشتغلين في البيت الأبيض والكرملين، سرّاً وعلناً، على إعادة تأهيل نظام بشار الأسد، انزعجوا لدى إعلان مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الانسان للمرّة الأولى أن هناك أدلة تشير الى «مسؤولية للرئيس السوري في جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية». وليس الازعاج في المضمون الذي يعرفونه جيداً، بل في توقيت هذه الشهادة غير المناسب بالمرّة فيما يجري الاعداد لمؤتمر «جنيف 2». لكن للدولتين الكبريين سجلاً حافلاً بالاستخفاف بهذه المنظمة الدولية، اذ لا تعيران تقاريرها اهتماماً إلا عندما تتوافق مع مصالحهما. ولا أدلّ الى ذلك من تواطؤهما في دحض ما صدر عنها في شأن جرائم اسرائيل وممارساتها، كنموذج واحد بين أمثلة كثيرة.

كيف سيتعاملون مع هذه الاتهامات الجدّية لرأس النظام، وبأي ذريعة سيبررون اعادة تسويقه للسوريين وللعالم، وكيف يمكن الاعتماد على حاكم يأمر بإلقاء براميل متفجرات على مناطق سكنية أو يطلب قتل أو تهجير من تصادفه قواته في بلدات القلمون أو يستعد للإستغناء عن بضعة ملايين من السوريين بإلغاء البطاقات التي تثبت هويتهم وانتماءهم. منذ طُرح خيار «الحل السياسي»، أي منذ مبادرة الجامعة العربية، لم يتغيّر شيء في عقلية النظام ونمط تفكيره، فهو لا يريد إلا الحل الإخضاعي للشعب، ولا بدّ من أنه يبحث عن مثل هذا الحل في «جنيف 2» وإلا فلن يكون حل.

لا شك في أن وجود وثائق بالأسماء عن تورّط كبار المسؤولين في الجرائم يمثّل عنصر ضغط على النظام، لكنه يفتقد الراغبين فعلاً في الضغط منذ أولت واشنطن ادارة الملف الى روسيا. فهذه الأخيرة لا تهجس إلا بإبقاء الاسد، كوسيلة وحيدة لمحاربة ارهابيي «داعش» ومن شابههم، وتنظر الى «جنيف 2» كقناة متاحة لهذا الهدف. ومن خلال التفاهم مع الاميركيين بات الروس يعتقدون أن الطريق الى المؤتمر ممهدة، خصوصاً أن لديهم رجلين مسهِّلين: المبعوث «الدولي – العربي» الاخضر الابراهيمي الذي آمن دائماً بـ «تسوية من خلال النظام» وأمل في أن يكون النظام أكثر حرصاً على انهاء الأزمة وبالتالي أقلّ وحشيةً وغباءً، ونائب الأمين العام للأمم المتحدة الاميركي جيفري فيلتمان الذي طوى آراءه السابقة بشأن الاسد استعداداً للدور الجديد.

للنظام السوري دوافع كثيرة ليكرَه فكرة «جنيف 2» لكنه لم يجد سبيلاً لإقناع روسيا بعدم الاندفاع الى هذا المؤتمر، فأخذ بالقاعدة الديبلوماسية القائلة «قل دائماً نعم وتصرف دائماً كما تريد». غير أن موسكو وفّرت له ضمانات وتطمينات لتبديد مخاوفه من «مرجعية» بيان «جنيف 1» التي استند اليها بان كي مون في اعلانه عن موعد 22 كانون الثاني (يناير) المقبل، اذ قال إن الهدف من المؤتمر والمفاوضات تشكيل هيئة تنفيذية انتقالية تتمتع بـ «صلاحيات كاملة» تشمل أيضاً «الكيانات الأمنية والعسكرية». ليس هناك ما هو أكثر وضوحاً، وليس الأمين العام للأمم المتحدة من سيتبرّع بإضافة «صلاحيات» الى تلك الهيئة، بل يستند الى ما لديه من وثائق ومعطيات أو على الأقل ما يعرفه من «التفاهمات» الاميركية – الروسية.

وللائتلاف المعارض شروط مسبقة اضطر للتخفيف منها تباعاً كي يتمكّن من العمل بالقاعدة نفسها، لذا فهو يعطي موافقته الأوليّة على المشاركة في «جنيف 2» فيما يصرّ على وضع مسألة تنحّي بشار الاسد على الطاولة. غير أن نصائح عربية وشروح اميركية (السفير روبرت فورد) أقنعته أخيراً بأن الشروط المسبقة غير قابلة التلبية تلبي رغبة النظام في أن تقدم المعارضة على نسف، كما أنها تربك الروس الذين تلمّح واشنطن واهمة أو مخادعة الى أن موقفهم السياسي المتصلّب قد تعدَّل بعض الشيء. لذلك أبقى الائتلاف مطلب «التنحّي» قائماً لكنه أصرّ على أمرين لا يستطيع مبدئياً المشاركة من دون استجابتهما قبل موعد المؤتمر: الأول تأمين الاغاثة للمناطق المحاصرة بفتح ممرات انسانية، والآخر اطلاق الأطفال والنساء المعتقلين. وأدرك الروس، على رغم رفضهم الشروط المسبقة، أن الهدف من هذين الشرطين المدعومين اميركياً هو «مساعدة» المعارضة على اتخاذ قرارها بالمشاركة. ويُعتقد أن تلبية الائتلاف دعوةً لزيارة موسكو قد تحرز تقدماً بالنسبة الى الإغاثة واطلاق المعتقلين، لكن أحداً لا يضمن ذلك. فدمشق حاججت بأن هذا «تنازل» لا داعي له طالما أن «جنيف 2» ينبغي أن يبدأ باتفاق على وقف اطلاق النار وأن الإغاثة والاجراءات الاخرى ستأتي في السياق، لكنها ستنفّذ مع ما ترتئيه روسيا في نهاية المطاف.

لا ترى موسكو أي ملامح اشتراطية في ما يعلنه النظام، كبيان خارجيته القائل إن وفده لن يذهب «لتسليم السلطة» تأكيداً لرفض الاسد مضمون بيان «جنيف 1»، أو قول فيصل المقداد إن أي قرار لن يصدر عن «جنيف 2» إلا «بموافقة الاسد». إلا أن موسكو تستبعد شرط تحديد اطار زمني للمفاوضات. ولعل عقدة العقد ستكون منذ البداية في التوصل الى وقفٍ لإطلاق النار، رغم أن تركيا وايران اللتين تحثّان الخطى في تدفئة علاقتهما أبدتا ثقتهما في الاتفاق عليه. والواقع أن الطرفين يريدانه، كلٌ من منظوره، فالمعارضة تريد لجاناً مشتركة على أساس ندّي، أما النظام فسيبدي تمسكاً بمحددات وضعها سابقاً وأولها أنه هو الدولة وأن الطرف الآخر متمرد ينبغي أن ينصاع للدولة.

سيضيع وقت طويل قبل أن يبدأ النظام بالاعتراف بأنه لم يلبِّ الدعوة الى جنيف ليحاور نفسه. وسيضيع وقت أطول في ما يسمّى «اجراءات بناء الثقة»، ومنها فك الحصار عن الغوطة الشرقية وحمص ورفع المظاهر المسلحة وبت ملف المعتقلين والمفقودين. وفي غضون ذلك ليس متصوَّراً أن تلتزم كل فصائل المعارضة أي هدنة مقترحة، ولا سيما «داعش» و «جبهة النُصرة»، فضلاً عن المجموعات الاسلامية التي توحّدت أخيراً. وليس واضحاً الآن أيضاً مَن سيتولّى التصدّي لها، ولا كيف سيستغلّ النظام هذه الثغرات التي لو لم توجد لعمل على ايجادها، وهو المعروف في تجربة لبنان بأنه يصنع قرارات وقف النار ثم يرسل من يخرقها بالنيابة عنه.

تركّز الأمم المتحدة والدولتان الكُبريان جهودها على تأمين انعقاد «جنيف 2»، ويعتقد المعنيّون بالتحضيرات أو يأملون بأن المؤتمر كفيل بانتاج ديناميته الخاصة. فكلام ما قبل لن يشبه كلام ما بعد الافتتاح والبدء بالعمل، ثم بالتنازلات، فالأزمة لن تعود رهن طرفيها فحسب، بل سيكون المجتمع الدولي منخرطاً في دفعهما الى إنجاح الفرصة المتاحة. ثم أن المفهوم العام المتوافق عليه هو أن النظام لن يخرج من «جنيف 2» كما دخله، وكذلك المعارضة، لكن النظام هو مَن لديه ما يتنازل عنه وهو هذا الاستئثار المزمن بالسلطة أما المعارضة فحضورها منوط بانتزاع حقوق الشعب السوري ممن استولى عليه طوال خمسة عقود. ومع ذلك فالمتوقع أن يتعرّض وفد المعارضة لضغوط شديدة مردّها الى ميزان القوى على الأرض، والى تركيبة وفدها خصوصاً اذ ضمّ طرفين على الأقل من المعارضة المدجّنة التي لا ترفض تسوية من خلال النظام.

يُطرح هنا دور الدول المشاركة، فللنظام حلفاء أثبتوا تفانياً بل شراسة منقطعي النظير في دعمه سياسياً وعسكرياً ومالياً، أما المعارضة فلديها «أصدقاء» تقودهم الولايات المتحدة لكن هذه خذلت شعب سورية مراراً طوال شهور الأزمة. واذا كان لايران أن تشارك، رغم أنها تقاتل مع النظام بل تقاتل عنه في بعض المواقع، فإن هذه فرصتها الأثيرة لتأكيد واقعيتها الجديدة لكن الرهان على براغماتيتها وعلى دور ايجابي (كما يروّج الابراهيمي) يبدو حتى الآن مجرد وهم.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مفاتيح دمشق/ زهير قصيباتي

انشغال القوى الكبرى بمتابعة ملف تدمير الترسانة الكيماوية السورية، وترك مسار الصراع بين النظام في دمشق والمعارضين المسلحين منفلتاً بوتيرة القتل والتدمير، كراً وفرّاً، لا يوحيان بأن الروس والأميركيين خصوصاً يسعون بجدية للتحضير لمؤتمر «جنيف2». فقطبا المؤتمر، واشنطن وموسكو لا يمكن أن يراهنا على غلبة واضحة لواحد من طرفي الصراع في سورية، فيما الفترة الباقية حتى 22 كانون الثاني (يناير) تتآكل سريعاً، وأنباء القتال لا تقرّب مسرح المفاوضات.

لا أحد يصغي، ولا أحد يستجيب، قال المبعوث الدولي- العربي الأخضر الإبراهيمي بعدما سئم التحذير من صومال كبير في سورية، يتنازعه «أمراء حرب»، إن لم يتفاوض السوريون على الحل السياسي. لم يمضِ يومان حتى عاجلت دمشق الإبراهيمي مجدداً بما يحبط آماله بسورية «جديدة ديموقراطية، تعددية غير طائفية».

والحال أن محاولات النظام تتكرر في سعيه الى قصف مسرح المفاوضات في «جنيف2» الذي لا يريده إلا بشروطه، فيما هو المطالَب بالتنازل أمام مرحلة انتقالية، وبأن يقتنع بأن الثورة لم تكن إلا لتجريده من احتكار القرار على الأقل… واحتكار تقرير مصير السوريين.

قبل «جنيف2»، حسمت دمشق مسبقاً نتيجة المفاوضات، لأن «الرئيس بشار الأسد هو قائد المرحلة الانتقالية… إذا وصلنا إليها». والوجه الآخر لهذا الإصرار، لا يعني عملياً سوى تخيير المعارضة بين الانتحار و… الانتحار، بعد كل الأثمان الفادحة التي دُفِعت من دماء السوريين، مدنيين ومسلحين معارضين، ومن أرواح الذين ينتمون الى مؤسسات الدولة وأجهزتها.

لسان حال المعارضين سخرية من عبث النظام الذي ما زال يستقوي بالمظلة الروسية- الإيرانية وبحلفاء من العراق ولبنان. والسؤال هو بعد كل ما حصل خلال الثورة والحرب ومآسي المجازر والتهجير والنزوح، إلى أين سيقود الحكم البلد إن تُرِك له مجذاف مرحلة انتقالية إلى برّ سورية الديموقراطية؟

الأكيد أن طرح خيار من هذا النوع، لا يشي إلا بمسعى دؤوب لتخريب «جنيف2» قبل انطلاق قطار التفاوض فلا ينعقد إلا بحسم عسكري، فيما قبول موسكو رغبة النظام السوري ليس مضموناً، فكيف بقبول إدارة الرئيس باراك أوباما ترك حبل إملاء الشروط معلّقاً على ما يريده الأسد؟ وإن كان يشبه الخيال انصياع «الائتلاف الوطني»، فذاك يرجّح أيضاً فرضية إقدام دمشق على إحباط الجميع، كلما بدا أن احتمالات انعقاد «جنيف2» تتبلور على سكة توافق إقليمي. فالنظام يدرك أن غالبية المعارضين لا يمكنها النوم على حرير جنيف، لتصحو على «أشواك» انتصاره… وهذه لدى كثيرين منهم أمّ الكارثة.

قصف آخر على جنيف، اعتماد وزير الإعلام السوري عمران الزعبي المندد بأوهام «تسليم مفاتيح دمشق»، لغة التصعيد في المعادلة الإقليمية، بل أقصى تصعيد للإيحاء بأن النظام ما زال قادراً على إملاء لائحة المشاركين في المؤتمر. وهو إذ يرفض حضور السعودية، يحبّذ مشاركة إيران التي ترفضها المعارضة.

في التصعيد ذاته الذي يعود إلى الذروة، مؤشران: الأول يستبعد انعقاد المؤتمر في موعده، ما دامت لائحة المشاركين لم تُحسم، والثاني يطرح أكثر من سؤال حول الافتراق الظاهر بين ما تعلنه إيران عن نيتها فتح «صفحة جديدة» إقليمياً، خصوصاً مع السعودية، وبين ذهاب «حزب الله» بعيداً في انتقاده مواقف المملكة من الصراع في سورية. فهل هو توزيع أدوار بين إيران والحزب أم «صدمة» لدى حلفاء طهران ودمشق، أم هواجس خفية وراء كل الضجيج الاحتفالي بالاتفاق النووي بين إيران والغرب، وارتياح قيادة خامنئي- روحاني إلى بدء فصل التطبيع مع «الشيطان الأكبر»…؟ «الشيطان» الذي انتزع الأسنان الكيماوية السورية فأرضى إسرائيل، ونزع أي أمل لدى المعارضة بالرهان على دعم أميركي لتغيير النظام في دمشق، فأرضى حليفها الإيراني.

حتى الآن، ما يثير الارتياب على طريق جنيف التي قد لا يصل إليها قطار التفاوض، هو تصفية حقوق الثورة كلما تآكلت قضاياها بفعل تفرّج الكبار، وكذلك نُذر مواجهة إقليمية مكشوفة أول مَنْ يتضرر منها لبنان المتأرجح على تخوم الحرب السورية… كلما نأى بنفسه، لفحه لهيب الفتنة، متواطئاً مع الخراب ومحنة اللاجئين الكبرى.

الحياة

علي صالح أذكى من الأسد/ حسان حيدر

مع اقتراب الموعد المحدد لمؤتمر «جنيف -2»، اذا سمحت الظروف بعقده، يأتي إعلان الأمم المتحدة عن امتلاكها أدلة حازمة وكثيرة على تورط مسؤولين حكوميين سوريين وبينهم رئيس الدولة بشار الاسد في جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية ليطرح سؤالاً عما اذا كان هذا الاتهام يزيد الأمور تعقيداً على تعقيد، ام انه يمثل ربما اشارة الى اقتراب تطبيق الحل اليمني في سورية؟

فالعقبة الأولى امام انعقاد المؤتمر هي تأكيد الحكم في دمشق انه سيذهب الى جنيف ولكن ليس لتسليم السلطة، بل للتفاوض مع معارضة تكون مقبولة منه، من دون ان يوضح على ماذا يريد ان يتفاوض، ومشدداً على ان الاسد سيبقى رئيساً يقود المرحلة الانتقالية ويترشح مجدداً الى الرئاسة في نهايتها. اما المعارضة فتعلن انها ستذهب الى المؤتمر للاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات ليس للاسد ولا للمقربين منه دور فيها.

فماذا يعني الاتهام الأممي الجديد للرئيس السوري ودائرته الضيقة في اطار هذا التباعد الكبير في المواقف؟

لا شك في انه يشكل رداً مباشراً على تعنت حاكم دمشق وتمسكه بنظامه، وكأن الحرب الاهلية – الطائفية لم تقع، ولم يسقط اكثر من 130 الف قتيل ومئات آلاف الجرحى في اكثر التقديرات تفاؤلاً، ولم يتهجر ملايين السوريين، ولم تتفتت سورية وتتقسم عملياً الى مناطق نفوذ واحتراب، ولم يقارب الاقتصاد السوري حد الانهيار لولا «الامصال» الايرانية والروسية.

يتصرف الأسد كأنه معصوم ومنزه عن الخطيئة، ويكاد يصدق نفسه وهو يتحدث عن «الحرب الكونية» على نظامه. وهو في ذلك يبدو اقل ذكاء بكثير من الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح الذي رغم مقاومته الشرسة لمطالبة شعبه برحيله، كان يدرك في قرارة نفسه انه من الصعب ان يبقى رئيساً بعد كل الدماء التي سالت، ولهذا لم يرفض اطلاقاً علناً فكرة تسليم السلطة، بل أكد دوماً انه يقبل بالحل الانتقالي، ثم ظل يتهرب من توقيعه الى ان حصل على الضمانات الأكيدة بعدم ملاحقته ومساعديه المقربين امام القضاء.

لم تحصل في اليمن مجازر من الحجم الحاصل في سورية، ولم يشن علي صالح حرباً مفتوحة على معارضيه بكل انواع الاسلحة، فلم يصل الامر الى حد اتهامه دولياً بارتكاب جرائم حرب، على رغم ان هيئات حقوقية يمنية اعدت ملفاً بهذا الخصوص وقدمته الى الامم المتحدة. ظل العنف اليمني «نسبياً» اذا جاز التعبير، وأظهر علي صالح انه يفكر في اليمن ككل وليس في نفسه ونظامه فقط، وجاء اتفاق المبادرة الخليجية ليؤكد على المصالحة وعلى فتح صفحة جديدة يحاول الحوار الوطني كتابتها حالياً، وبمشاركة من «المؤتمر الوطني العام»، حزب علي صالح نفسه.

لكن الأسد ليس «يمنياً» مع انه زعيم «قبيلة» هو ايضاً. واتهامه من قبل المنظمة الدولية يعني انه لا يمكن ان يظل رئيساً في المرحلة الانتقالية، وان من يدافعون عن بقائه انما يتواجهون مع الامم المتحدة.

فهل يستطيع الروس الذين يجهدون لإضفاء شرعية دولية على تجديد دورهم في العالم قطباً ثانياً الى جانب الولايات المتحدة ان يتجاهلوا هذه الحقيقة ويواصلوا رفض الاقرار بمسؤولية الأسد عما حصل؟ وهل نصدق وزير الخارجية الايراني عندما يؤكد ان المفاوضات السرية مع الاميركيين طوال اكثر من عام لم تتناول سوى الملف النووي؟

الحياة

تعالوا إلى جنيف لإنقاذ سوريا: إمكانية نجاح المؤتمر بعد تجاوز الصعاب/ د.عبد الحميد صيام

جنيف 2 على الأبواب. الأمم المتحدة تحضر للمؤتمر بكل دقة وحذر. الدولتان الراعيتان للمؤتمر، روسيا والولايات المتحدة، تحاولان التوصل إلى اتفاق قبل الاجتماع حول قائمة المشاركين في المؤتمر وحول مستقبل سوريا بعد المؤتمر ولا تريدان للمؤتمر أن يفشل لأن اللوم سيقع عليهما حتى لو لم يكونا يقصدان ذلك. النظام يؤكد أن الأسد باق ولن يلتزم بأية نتيجة إذا لم يوافق عليها الرئيس. أما المعارضة فما زالت منقسمة بين مقاطع للمؤتمر ومشارك بشروط مسبقة أهمها ضمان ألا يكون هناك مكان لنظام الأسد بعد المؤتمر. رغم الصعوبات الجمة فإننا نتمنى على كل الحريصين على سوريا الوطن والشعب والتاريخ والحضارة والمستقبل والعمل على إنقاذ ما تبقى من حبيبتنا سوريا وشامة عروبتنا دمشق ‘فالماء يبدأ من دمشق …والعشق يبدأ من دمشق… والدهر يبدأ من دمشق وعندها وبأرضها تتشكل الأحقاب’.

لقد وصلت الحرب الأهلية داخل سوريا أو الحرب بالوكالة/ سمها ما شئت، وبعد أكثر من 33 شهرا إلى نقطة التوازن، بحيث لم يعد الحسم العسكري ممكنا ولم يبق أمامهما إلا الجلوس الى طاولة المفاوضات والاستعداد لتقديم تنازلات مهمة للخروج من الأزمة القاتلة التي دمرت البنية الأساسية للدولة السورية ومزقت نسيج المجتمع السوري وشردت ثلثه خارجيا أو داخليا وأودت بحياة الآلاف وألحقت الأذى بالموروث الحضاري العظيم لبلد يعتبر موطئ أول حضارة إنسانية بقيت متواصلة لم تنقطع عبر القرون. لهذا تستعد الدول الكبرى الآن لعقد مؤتمر ‘جنيف 2′ استكمالا للقاء سابق في نفس المدينة عقد في 30 حزيران/يونيو 2012 صدر عنه إعلان جنيف لحل الأزمة السورية سياسيا. وقد شارك في اللقاء الأول الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي وتركيا وقطر والعراق وغابت عنه كل من إيران والسعودية ومصر. في هذه المرة نعتقد أن الجميع سيكون حاضرا في اللقاء لأن غياب بعض الدول أخطر من حضورها وإبقاء بعض اللاعبين المهمين خارج الملعب قد يؤثر على قواعد اللعبة كلها. كما نتوقع أن تكون نقطة انطلاق جنيف 2 من آخر ما توصل إليه لقاء جنيف 1 أي موضوع وقف إطلاق النار والسماح لمنظمات الإغاثة بالوصول إلى كافة أرجاء سوريا وإطلاق سراح المعتقلين وعددهم بالآلاف ومن ثم الاتفاق على ولوج المرحلة الانتقالية بقيام حكومة ذات صلاحيات فعلية تنقل البلاد إلى مرحلة الاستقرار والإعمار والبناء وتشييد نظام سياسي تمثيلي تعددي يعكس نسيج سوريا الاجتماعي ذا الألوان المختلفة والأطياف المنوعة. ومع كل هذا التفاؤل إلا أن هناك من يشكك في إمكانية عقده في موعده المحدد، وإذا عقد فعلا فقد تشهد قاعة الاجتماعات انهيارا سريعا بسبب تعنت الأطراف وتمترسها خلف مواقفها الثابتة بدون تقديم تنازلات، كما أن خلافات قد تظهر بين أطياف المعارضة المشاركة فتنقسم في ما بينها مما يؤدي إلى انسحاب أطراف منها من جلسات المؤتمر، وفي حال تذليل كل تلك العقبات هل سيتمكن المؤتمر من الاتفاق على حل شامل وحقيقي يخرج سوريا الوطن والشعب من دوامة العنف والقتل والتدمير والتشريد والتجويع والتجاذب الطائفي؟ هذه أسئلة ما زالت قيد البحث والتمحيص، خاصة من قبل اللاعبين الأساسيين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي. لكننا نرى أن هناك أسبابا عديدة تشير إلى إمكانية نجاح المؤتمر.

مؤشرات النجاح

في كل القضايا التي تم توافق دولي حولها، خاصة بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي انتهت إلى اتفاق يؤدي إلى حل النزاع. حدث هذا في البوسنة وكوسوفو وكمبوديا وناميبيا وسيراليون وليبيريا والكونغو وساحل العاج وليبيا ومالي وهايتي وغيرها. أما الصراعات التي لم يتبلور فيها الإجماع فما زالت قائمة كما هو الحال في فلسطين ودارفور وقبرص وكشمير وغيرها. فالاتفاق الحالي بين الدولتين يبدو جادا فعلا رغم بعض التصريحات المتناقضة. كما أن إدارة أوباما تراجعت عن دعم المعارضة بالسلاح والمال، يبدو أن إدارة بوتين أيضا لديها استعداد لإظهار المرونة في مواضيع شائكة مثل مصير بشار الأسد. تلاقت مصالح الطرفين أيضا في حرمان المتطرفين الإسلاميين أي نجاح أو نصر وهم يعلنون كل يوم عن تشكيل جبهة جديدة أو تحالف موسع أو إمارة إسلامية إضافية. وهذه المصلحة قد تشمل أيضا بعض أطراف المعارضة الوطنية والليبرالية من جهة وبعض أطراف النظام من جهة أخرى.

ومن المؤشرات الأخرى التي قد تدفع باتجاه نجاح المؤتمر مصلحة دول الجوار الأربع التي تحولت إلى مراكز تجميع للاجئين السوريين بشكل يفوق قدرات البلاد الاستيعابية، خاصة الأردن ولبنان. توقفت تركيا منذ زمن عن قبول مزيد من اللاجئين. لكن آثار الحرب السورية بدأت تعكس نفسها توترا ومصادمات وانقسامات حادة بين أطياف المجتمع الواحد والبيت الواحد، خاصة في لبنان حيث يشهد شبه مواجهات يومية خاصة بعد الاعتراف العلني بتورط عناصر من حزب الله في الصراع الداخلي في سوريا. إذن من مصلحة الدول المجاورة أن تسعى إلى التهدئة بعد الانعكاسات الحادة للأزمة السورية على الأوضاع الداخلية لكل هذه الدول.

بين السعودية وإيران

هناك طرفان قد يلعبان دورا مهما في نجاح المؤتمر وقد يلعب أحدهما أو كلاهما دورا تخريبيا يوصل المؤتمر إلى فشل مؤكد وهما السعودية وإيران.

الفيتو السعودي على مشاركة إيران، الذي تردده بعض فصائل المعارضة، لم يعد ممكنا بعد توقيع اتفاقية الأنشطة النووية بين إيران والدول الغربية يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي وانفتاح إدارة حسن روحاني على العالم بما في ذلك منطقة الخليج. لقد كان أول الزائرين لإيران بعد الاتفاقية وزير خارجية الإمارات العربية الشيخ عبد الله بن زايد مما يعني أن إمكانية ضبط تحركات دول مجلس التعاون على النغمة السعودية لم يعد ممكنا. فكل دولة تنظر إلى العلاقات مع إيران من منظارها الأمني والسياسي والاقتصادي الخاص بها بدون تشبيك تلك المصلحة بموقف أصبح وحيدا في العراء. ثم جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى الكويت فعُمان لتثبت هذا الانفلات بعيدا عن الرؤية السعودية حول الخطر الإيراني التي لا تتماهى إلا مع الرؤية الإسرائيلية. لقد كان الترحيب الكويتي بالمشاركة الإيرانية في مؤتمر جنيف واضحا لا لبس فيه. فإذا ما أضفنا إلى هذا التأييد كلا من المواقف القطرية والعمانية والإماراتية إذن لا تستطيع السعودية أن تدعي تمثيل مجلس التعاون الخليجي. فإذا أرادت أن تشارك في المؤتمر ممثلة لمجلس التعاون فعليها أن تتبنى موقفا وسطا مقبولا من كافة دول مجلس التعاون يرفع الحظر عن المشاركة الإيرانية.

كي لا يفشل المؤتمر

التعنت في المواقف هو ما قد يؤدي إما إلى عدم انعقاد المؤتمر أو فشله في حالة عقده. على النظام أولا أن يترجل عن ظهر الفرس ويعترف أنه لم يعد قادرا على حسم المعركة لصالحة حتى لو جاءت جيوش الملالي بنفسها للحرب إلى جانبه. فالمعادلة الدولية الآن لن تسمح له أبدا أن يخرج منتصرا على خصومه. إن وصف المعارضة السورية بأنها جماعة من الإرهابيين فقط لم تعد تقنع أحدا. إن الغالبية الساحقة من المعارضة السورية هم أبناء الوطن الغيورون على بلدهم وشعبهم وأن دخول مجموعات متطرفة تكفيرية من الخارج لا يعني أن المعارضة كلها كذلك. لقد آن الأوان لمصارحة مع الذات والاعتراف بأن هذا النظام بتشكيلته الأمنية لم يعد يعبرعن مصالح الغالبية الساحقة من أبناء الشعب السوري. ولو أتيحت الفرصة لانتخابات حقيقية فعلا ولو مرة واحدة لما بقيت عائلة الأسد في السلطة 42 سنة.

وعلى المعارضة الوطنية أيضا، على افتراض اتفاقها لحضور المؤتمر في وفد موحد، ألاّ تتسبب في فشل المؤتمر بوضع شروط تعجيزية مسبقة وهي التي فشلت في استقطاب الغالبية الساحقة من الجيش أو تحييده على الأقل كما ساهمت بسبب فرقتها وتشتتها في إغراق الساحة السوريا بالعديد من التيارات والمواقف والجماعات غير المعنية بسوريا ومستقبلها.

وكما أن هناك قوى ليس من مصلحتها هزيمة المعارضة هناك قوى أكثر تشبثا بالنظام وأكثر استعدادا لحمايته من نهاية مروعة كنهاية نظام القذافي. لقد وصلت الحرب شبه الأهلية إلى نقطة التوازن. فهذه فرصة يجب أن يغتنمها الطرفان وأن يشجعهما المجتمع الدولي ودول الجوار والدول المؤثرة على كل طرف من أجل نجاحها فالنار قد تصلي المنطقة بأسرها إن لم تتوقف هذه الحرب الظالمة والتي يتحمل النظام مسؤولية إشعالها وتتحمل دول عديدة مسؤولية إبقاء أوراها مشتعلا. نتمنى على الطرفين الأساسين أن يعطيا فرصة لنداء العقل وأن يسمحا للوسيطين أن يطفئا حرب داحس والغبراء بعد أن ‘تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم’ لأن الخاسر الأكبر سوريا والمنطقة وفلسطين والعرب عموما والمستفيد الأهم من كل ما يجري حصريا هي إسرائيل.

‘ أستاذ جامعي وكاتب فلسطيني مقيم في نيويورك

القدس العربي

حذار من التلاعب بالمعارضة السورية/ د. نقولا زيدان

من البديهي والمسلم به بمكان انه بقدر ما نقترب من 22 كانون الثاني (يناير) 2014 وهو الموعد الذي ضربه بان كي مون لعقد مؤتمر جنيف2 لحل الازمة السورية، بقدر ما تتصاعد حدة المعارك بين قوات النظام الأسدي وقوات المعارضة المسلحة. ومن المتوقع والطبيعي أن يستميت كل من الطرفين لتحسين وضعه العسكري الميداني على أرض المعركة وذلك بصرف النظر عن عدم التكافؤ القائم في نوعية الاسلحة وتوفر الذخائر ومدى تواصل خطوط الامداد اللوجستي. سوف يسعى كل من الطرفين للدخول الى قاعة المؤتمر وهو يمسك ميدانياً بأقصى ما امكنه ذلك من اوراق الضغط على الطرف الآخر.

وعلى ايقاع الاتفاق النووي الذي عُقد لتوه بين طهران والغرب، والذي اعتبره النظام الايراني وحلفاؤه ومحازبوه انتصاراً عظيماً بينما لا يتعدى الاتفاق في الواقع عن كونه فترة سماح وهدنة مؤقتة لاختبار النوايا، تشهد الساحة السورية هجمات واقتحامات متبادلة، فالمعركة السهلة التي بشرنا بها النظام وحلفاؤه في القلمون هي معركة صعبة عصية بامتياز والوعود المنثورة بفتح الطريق الدولية الرئيسية بين دمشق فحمص وصولاً إلى الساحل السوري سرعان ما اصطدمت بانقطاع هذه الطريق على محاور عدة. كما ان تطويق مدينة حلب قد باء بالفشل، ولم يتمكن الطيران الحربي بغاراته الضارية المتلاحقة من اخضاع حلب الشرقية حيث يتمركز الجيش السوري الحر. لقد انكفأت قوات “داعش” وخف لمعان قوات “النصرة” ليمسك الجيش السوري الحر بزمام المبادرة سواء كان ذلك في درعا أو القلمون أو ضواحي دمشق.

يبدو ان وتيرة المعارك مستمرة على ما هي عليه وصولاً إلى منتصف الشهر المقبل من العام القادم. ثمة مَن ينصح بعدم الالتفات كثيراً لهذه التفاصيل الميدانية بل ان نتابع بدقة التصريحات واللقاءات والاتصالات الجانبية والاستعدادات الجارية والممهدة لعقد المؤتمر.

إذا كان المسؤولون الايرانيون قد توقفوا عن إطلاق التصريحات المتوترة والنارية وبالأخص في ما يتعلق بالحرب الدائرة في سوريا كالاعتراف ثانية بتورطهم الرسمي في القتال إلى جانب النظام الأسدي، وان كانت الشعارات المنددة بأميركا قد اختفت من شعائر إحياء ذكرى عاشوراء، فإن التسريبات والتصريحات العرضية الصادرة عن وزير خارجية ايران محمد ظريف حول احتمال “تشجيع” أو “الايعاز” للفصائل المسلحة التابعة لطهران بالانسحاب من الأراضي السورية، لم تترجم الى مواقف عملية ولم نر انسحاباً لهذه القوات بعد، ومن المحتمل جداً أن ضغوطاً أسدية بل توسلات جاءت من دمشق لتأجيل تنفيذ هذه الوعود، ذلك ان هناك 60 يوماً تفصلنا عن موعد المؤتمر، فبالامكان استغلالها لتحسين وضع الاسد الميداني، فهو اي الاسد ما زال بحاجة ماسة الآن للقوات الايرانية وحلفائها. والحق ان القيادة الايرانية منهمكة الآن في تطمين الدول العربية وبالاخص تلك الواقعة قبالتها في منطقة الخليج ان الاتفاق النووي لم يتم على حساب المنطقة”. بل هذه القيادة غارقة الآن في اطلاق التصريحات الدعائية كسباً للتأييد الشعبي وامتصاصاً للنقمة الجماهيرية التي بلغت حدودها القصوى بفعل الحصار والعقوبات الاقتصادية وندرة السلع وتدهور قيمة النقد وقوته الشرائية وازدهار البطالة والسخط العام من جراء قبضة الحرس الثوري الحديدية وهيمنة رجال الدين المعممين تلك الطبقة الجديدة التي اثرت على حساب الشعب الايراني ومآسيه.

ومن مخاطر ما يجري اعداده استعداداً لجنيف2 هو ما يصدر عن المبعوث الدولي الاخضر الابراهيمي المتنقل بين جنيف ونيويورك، من تصريحات وتسريبات مثيرة للجدل بل الحيطة والحذر، فللابراهيمي تاريخ مثقل بل متخم بالتصريحات المؤذية حول الازمة السورية كما نعلم. فهو صاحب التصريح القائل بأن للأسد دوراً مهماً في مواكبة العملية الانتقالية التي سيرفضّ عنها جنيف2. وهو الداعية الاول لمشاركة ايران في اعمال المؤتمر، مما يبعث على الاعتقاد انه كان يتابع عن كثب محادثات طهران مع “وكالة الطاقة النووية” بمواكبة الدول الست (5+1). ولعله هو الذي اعطى دفعاً وتشجيعاً لبشار الاسد ليصرح لاحد محطات التلفزة انه عازم على ترشيح نفسه في صيف 2014 لولاية جديدة؟ وفي الاطار نفسه يصدر عن وزير الاعلام السوري تصريح يقول فيه “مخطئ مَن يظن اننا ذاهبون الى جنيف لتسليم السلطة (للآخرين)”.

ان في هذه التصريحات تناقضا صارخا مع التعويذة التي اعتاد الابراهيمي ترديدها “انه على الفريقين المعنيين بالمفاوضات في جنيف2 الذهاب الى هناك دون شروط مسبقة”. بل أسوأ من ذلك عندما يصرح الابراهيمي أن ثمة احتمالا ان تتمثل المعارضة السورية في المؤتمر بوفدين اثنين. أي انه يسعى عملياً الى شق المعارضة الى فريقين داخل المؤتمر نفسه. بل أسوأ من ذلك بكثير عندما يقول في مقابلة صحافية “ان السوريين الذين سيجتمعون في جنيف2 هم وحدهم من سيقررون شكل ومضمون المرحلة الانتقالية المتوخاة”. وهذا يحمل في ثناياه بذور الصراع بين الخارج والداخل السوري المعارضين، والسيد الابراهيمي ابن الجزائر يعرف كم كلف هذا الانقسام الشعب الجزائري الشقيق من دماء! وعندما يحذر الابراهيمي السوريين من احتمال تحول بلادهم الى صومال كبير، يتبين لنا بوضوح ان ذلك يحمل مخاطر ليس شق المعارضة في جنيف2 فحسب بل كذلك الالتفاف على بيان جنيف الداعي صراحة الى حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات.

تتساوق موسكو مع الاخضر الابراهيمي في الضغط على المعارضة السورية للخضوع، والخضوع يعني حتماً تسوية سياسية مذلة، فهي ما زالت تدعو الائتلاف الوطني السوري لعقد محادثات جانبية معها من اجل الاطلاع على نواياها بالنسبة للمؤتمر. ومن المحتمل بمكان ان تفصح روسيا عن رغبتها في “تطعيم” وفد المعارضة بنماذج ملتبسة مثل قدري جميل وسواه، كما ان موسكو ما زالت تشدد على حضور ايران المؤتمر، بخاصة بعد اخذت هذه الاخيرة دفعاً قوياً بفضل اتفاقها النووي.

ان المعارضة السورية ستواجه خلال الفترة الزمنية الفاصلة عن جنيف2 ضغوطاً هائلة، فعلى أرض المعركة تواجه آلة عسكرية صماء وتدخلاً عسكرياً فاضحاً من النظام الايراني وحلفائه. وتواجه حكومتها المؤقتة مع بدء فصل الشتاء اعباء ضخمة (ادارة المناطق المحررة، تزويدها بالغذاء والعناية الصحية والطبابة، تأمين التدفئة والايواء والالبسة، تأمين المدارس والمستشفيات اللازمة..)، بل تخوض المعارضة معركة اعلامية شرسة يقودها النظام والدعاية المضادة. وفي الطريق الى جنيف2 التمسك بوحدتها على ضوء الهدف المحوري الذي لا تنازل عنه ولا مساومة: رحيل الأسد وطاقمه برمته، وقيام حكومة انتقالية تنتشل سوريا الجديدة الديموقراطية من تحت الأنقاض.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى