صفحات العالم

مقالات لكتاب عرب تناولت “داعش”

 

 

الحلف الدولي ضد «داعش» بطيء وغير جدي/ جميل مطر

أوباما محق.. قال إن حرب «داعش» ستستغرق سنوات عديدة، ويبدو لنا الآن أنه لم يكن يتنبأ بقدر ما كان يقرر.

لا أصدق، وكثيرون غيري أعرفهم لا يصدقون، أن الولايات المتحدة صارت فجأة دولة ضعيفة لا تملك القوة أو الإرادة لتتدخل في سورية والعراق بقوات في الجو وعلى الأرض وفي البحر كافية لوقف تمدد «داعش» ومطاردة أفراده وقياداته في وقت قصير.

نسأل، وتتدفق علينا رسائل المهتمين والقلقين والمتشككين تسأل، إن كانت أميركا وحلفاؤها، بخاصة العرب منهم، جادين في حربهم ضد الإرهاب الإسلامي في أشكاله الجديدة. لا ينقصني، من دون شك، ولا ينقص الكافة الدليل على جديتهم. المؤكد بالنسبة لنا كمراقبين هو أن الجهد العسكري والسياسي من جانب الحلفاء لا يرقى بأي حال وبأي معيار إلى مستوى الخطر المزعوم أو الحقيقي الذي تمثله هذه التنظيمات الإرهابية في منطقة المشرق وشمال إفريقيا.

عدم الجدية، هل هو سمة هذا الحلف الجديد تحديداً وحصراً، أم أن كل دول الحلف أصابها داء البطء الشديد في اتخاذ القرارات وتسيير الجيوش وتعبئة الرأي العام؟ لا أحد يبدو في عجلة من أمره. حتى إسرائيل، وهي ليست عضواً فاعلاً أو صريحاً في الحلف، تتصرف كما لو كان هذا التنظيم الإرهابي يعمل في وسط آسيا أو في أفريقيا بعيداً من حدودها ومجال أمنها القومي الذي طالما حذرت إسرائيل جيرانها العرب من تعكيره، وهو المجال الممتد أحياناً إلى حدود إيران الشرقية وشواطئ العرب الأطلسية غرباً وأثيوبيا وباب المندب جنوباً. إسرائيل نراها ساكتة تماماً وهادئة كلية تراقب في غير قلق أو انفعال. وكذلك الغالبية العظمى من الأطراف العربية في الحلف، يتصرف الجميع كما لو كانوا ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شهوداً على إقليم يتشكل من جديد على نار ساخنة. يعتقدون أنهم يفهمون ويشاركون، والأغلب هو أن طرفاً عربياً أو آخر قد يكون مطلعاً على تفاصيل شيء محدد من بين أشياء كثيرة تجري حوله، ولكني أشك في أن طرفاً عربياً واحداً مطلع على تفاصيل الصورة الكاملة لكل الأشياء. والدليل هو هذا السلوك السياسي المعيب من جانب الأطراف العربية.. لا أستتثني أحداً، حتى الحكم السوري لا أستثنيه. أفهم تماماً انشغاله بتدهور الأمور في المواقع ذات الأغلبية العلوية التي تحملت خسائر بشرية ومادية جسيمة في حرب أهلية طالت وتمددت. السوري مهتم طبعاً بما يحدث بين «داعش» والمقاتلين السوريين من الأكراد في عين العرب. هو أيضاً كاهتمام العاجزين عن التصدي لنوايا الرئيس أردوغان وأطماعه في شمال سورية. أظن أن حكام سورية صاروا أقل خوفاً من أميركا ولكن أشد خوفاً مما تدبره لهم أطراف عربية في الحلف، بخاصة الأطراف الخليجية. لم يعد سراً ما يتردد في صالونات دمشق من أن دول الخليج تضاعف حالياً جهودها لتشجيع قادة من العسكريين السنّة غير الحزبيين لترتيب انقلاب عسكري في دمشق، يطيح حكم الرئيس بشار الأسد.. يتردد في الوقت نفسه وفي الصالونات نفسها، أن تركيا من جانبها تسعى للشيء ذاته ولكن بقيادة إسلامية التوجه، وتفضل أن تكون «إخوانية» التاريخ والانتماء.

ولا يخفي بعض أهل دمشق اقتناعهم بأن أميركا، استناداً إلى سوابقها، تميل إلى المسعى التركي أكثر مما تميل إلى المسعى الخليجي.

مظهر آخر من مظاهر البطء، أو التباطؤ، هو ما يحدث في العراق على المستويات والأصعدة كافة، ابتداء من تشكيل حكومة جديدة إلى تحركات عسكرية أو تغيير قيادات الجيش إلى الدور المفترض أن تقوم به القيادات الدينية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق وأمام خطر داهم على وجود العراق ككيان سياسي. العراقيون العاديون يعرفون أن الهدوء والسلام لن يعودا قبل أن يحسم الخليجيون الفرس والخليجيون العرب سباقهم على مستقبل العراق وقبل أن يكتسب المجتمع الدولي شجاعة تتطلبها المواجهة مع المسألة الكردية.

في ظل هذا البطء من جانب الأطراف كافة، أتصور أن القيادة المصرية وجدت فرصتها في اختيار بدائل عمل خارجي بعيدة من الضغوط الإقليمية والدولية. القاهرة في ظني كانت تخشى أن تتصاعد حرب «داعش» بين الطرفين إلى حد يدفع قادة الحلف وأطرافه العربية الرئيسية الى طلب اشتراك مصر فوراً بثقل عسكري وسياسي في سير الحرب، وكذلك بطلب الضغط على النظام السوري والوقوف بحزم «أشد» ضد نيات تركيا. لم يحقق الضغط ثماره، ربما لأن القاهرة منذ البداية، وبوعي موروث للفكر الاستراتيجي الذي عاد يتبناه نظام أردوغان- داوود أوغلو، أسرعت بتأكيد موقفها من مستقبل الكيان السوري ورفض الاستمرار في المطالبة برحيل الأسد والإصرار على إبقاء باب التواصل مع حكومة دمشق مفتوحاً. أدركت القاهرة أخيراً، وهي المثقلة بهموم عدة، أنها يجب أن تقاوم إغراءات وضغوطاً خارجية تدفعها نحو دور خارج زمانه. وبالفعل قاومت، فالاحتمالات كثيرة ومخيفة، وبدائل العمل قليلة، وتشرذم الحلف صارخ ومهين للعرب، وموقف أميركا معيب بكل الحسابات. كان منطقياً في كل الأحوال، والأمور على هذا النحو من البطء أو التباطؤ في جهود الحلف، أن تركز مصر على جبهتيها الداخلية والغربية.

قد يبدو هذا الحذر المصري مفيداً لحكومة أردوغان، بمعنى أنه يحيد نفوذ مصر الإقليمي في هذه المرحلة المهمة من مراحل تطور الشرق الأوسط. القاهرة ليست غافلة تماماً عن أن تركيا بقيادة أردوغان تفكر في «اليوم التالي» لهزيمة «داعش» أو لسقوط سورية، أيهما أقرب. قد يكون من قبيل الوهم الحديث عن استعادة تركيا زمام حلب والموصل وكركوك، كتنفيذ متأخر جداً لمطالبها في مفاوضات الحرب العالمية الأولى. ولكني أعتقد أن أردوغان مطمئن بشكل من الأشكال إلى أن أميركا قد تفكر في إرضائه أو تعويضه بتقديم وعد بمساعدته في تحقيق هذا الهدف، ولعل الأزمة الناشبة حالياً حول مساعدة الأكراد الذين يقاتلون «داعش»، وخشية تركيا من امتداد هذه الحرب إلى داخل الأراضي التركية وراء السعي التركي للحصول من أميركا على التزام مبكر في شأن دورها ومكانتها في الشرق الأوسط صبيحة «اليوم التالي» لانتهاء أزمة «داعش» أو انفراط سورية، وقبل أن تستعيد مصر دورها الإقليمي ويخرج العرب من أزمتهم التاريخية.

يلمح أنطوني كوردسمان، الباحث الأميركي المعروف، إلى أن أميركا أخطأت حين تعاملت مع الشرق الأوسط كما تتعامل مع أقاليم أخرى، فقد دأبت واشنطن خلال العقود الأخيرة على الانسحاب من مواقع نفوذها حول العالم. تارة تنسحب من أوروبا الغربية وتارة أخرى من آسيا وتارة ثالثة من أميركا اللاتينية، لتعود إليها بعد فترة فتكتشف أن شيئاً جذرياً لم يتغير في غيابها.. وقد يكون أوباما اكتشف، وإن متأخراً، أن الشرق الأوسط مختلف عن بقية الأقاليم، لأنه لا يبقى طويلاً على حال، فأميركا إذا تركته أو تخلت عن مواقع قيادتها وممارسة نفوذها لفترة، ستعود بعدها لتجد العلاقات بين دول الإقليم تغيرت وموازين القوة تبدلت وبؤر التوتر اختلفت مواقعها.

المؤكد بناء على الطرح الذي قدمه كوردسمان، هو أن أميركا غابت عن الشرق الأوسط حين جربت التركيز على شرق آسيا والصين. ثم عادت إليه لتجد شكوكاً حقيقية وخطيرة تحيط بها وبسياساتها من كل جانب، ومن حلفائها قبل خصومها. تكاد لا تجد دولة عربية واحدة، حتى إيران وتركيا وإسرائيل، تثق في صدق نوايا أميركا، أو على الأقل في قدرتها على حماية مصالح حلفائها في الإقليم. بل صار في حكم المزاح تكرار القول إن أميركا اختلفت في نظر حلفائها لأنها قررت فجأة أن تقود من الخلف، فالواقع يشهد أنها لا تقود من الأمام ولا من الخلف. كل ما تفعله إدارة أوباما هو أنها تعد قوائم بدول تشكل منها حلفاً على ورق يقاوم تنظيماً إرهابياً أو وباء أفريقياً أو كارثة بيئية.

الشرق الأوسط اختلف ولن يعود كما كان، ومهمة أطرافه تزداد تعقيداً وصعوبة، بخاصة مهمة أميركا، سواء قادت من الخلف أو من الأمام. أميركا عادت إلى الإقليم يسبقها فشلان هائلان، فشل في أفغانستان وفشل في العراق، والفشلان رسخا في الرأي العام العربي وعقول الحكام العرب، ولعلهما يشكلان الآن الأساس لخلفية مشهد عدم الثقة الإقليمي في قيادة أوباما وفي سياسته الخارجية.

يبدو لي واضحاً من سلوكيات دولية عديدة، أن أغلب حكومات العالم وصلت إلى اقتناع بأن سياسة أميركا الخارجية في مجملها، وأحيانا في تفاصيلها، معيبة أو قاصرة. هذا الاقتناع، سواء ازداد رسوخاً أو انحسر نسبياً، لن يغير الكثير في المنظومة السياسية الأميركية، بخاصة الجزء المتعلق بالسياسة الخارجية والأمن العالمي. التغيير في هذا الجزء لن يحدث إلا إذا أدرك الرأي العام الأميركي الأبعاد الحقيقية لهذا الانحدار في مكانة أميركا الدولية، ومدى التقصير في الأداء، وأسبابه الواقعية ومبرراته الأيديولوجية، إن وجدت.

* كاتب مصري

الحياة

 

 

 

إيران تُفاخر وتركيا تشترط والنظام يستفيد أي مسلك لدول التحالف في سوريا؟/ روزانا بومنصف

ثمة اسئلة صعبة يقول مسؤولون سياسيون انها باتت تطرح في الاروقة السياسية لبعض الدول الاقليمية التي تساهم في حملة التحالف الدولي على تنظيم الدولة الاسلامية في كل من العراق وسوريا مبنية على جملة تطورات قد يكون من بينها في شكل خاص وبارز امران اثنان: احدهما يتمثل في السقف المرتفع للشروط التي وضعتها تركيا من اجل التعاون مع التحالف الدولي التي ترأسه الولايات المتحدة من اجل التعاون من اجل انقاذ كوباني الكردية في سوريا والقريبة من الحدود التركية. وبحسب هؤلاء المسؤولين فان الشروط المتعددة لتركيا قد لا تتحقق جميعها لكن لا بد من ان تؤدي في نهاية الامر الى اعطاء تركيا البعض منها ما يحفظ لهذه الاخيرة موقعاً مهماً في نتائج ما يجري في جوارها. والآخر يتمثل في الاندفاع الايراني نحو تبني اعلان انتصار الحوثيين في اليمن وتقدمهم نحو السيطرة على المدن اليمنية في مظهر آخر من مظاهر التفاخر الايراني الذي بات يكرره المسؤولون الايرانيون على اختلاف مواقعهم من تحقيق خرق مهم للدولة الايرانية من العراق فلبنان مروراً بسوريا وفي ما بينها البحرين واخيراً اليمن. على رغم ان المشروع الايراني الاستراتيجي في العراق أصيب بنكسة كبيرة جداً في الاشهر القليلة الماضية نتيجة تقدم داعش وعودة الولايات المتحدة المطلوبة بقوة الى الساحة العراقية. فهذا التفاخر الايراني بات يساهم وفق المسؤولين المعنيين في تظهير عوامل ابرزها تسعير المشاعر المذهبية في منطقة تغلي على وقع صراع سني – شيعي يتخذ من “الانتصارات” الايرانية المفترضة او المعلنة سبباً مباشراً لتعميق الاصطفافات على نحو مذهبي اكثر منه سياسي ومن اجل تقوية الغضب الذي يحمل على الايمان بأن مواجهة المد الشيعي يكمن في ما بات يحمل شعاره تنظيم الدولة الاسلامية اي الخلافة الاسلامية. كما ان هذا التفاخر الايراني يهدف الى الاعلان ان ايران باتت تلعب اوراقها على المكشوف في المنطقة ولو ان مجاهرتها بأساليب وسبل اختراقها للدول التي تعلن غلبة نفوذها فيها بات يرتب اثمانا باهظة على ابناء الطائفة الشيعية ويزرع بذور فتنوية . فحتى ما قبل هذه التصريحات الايرانية المتفاخرة مثلاً في شأن وصول ايران الى شواطئ المتوسط عبر التأثير المتعاظم والسيطرة التي يمارسها “حزب الله” في لبنان، كان الحزب عنواناً اساسياً للمقاومة ضد اسرائيل حتى على رغم الاجتياح المسلح لبيروت عام 2008 اذ ادرج ذلك تحت عناوين مختلفة داخلية وسورية اكثر منها ايرانية. لكن إغراق المسؤولين الايرانيين في المفاخرة بادراج لبنان من ضمن النفوذ الايراني اسقط الهالة عن “حزب الله” الذي بات ينظر اليه كذراع من اذرعة النفوذ الايراني وتوسعه المذهبي والسياسي اكثر منه اي طابع آخر. وتالياً فان ثمة من يرى في الاروقة السياسية للدول المذكورة ان المشاركة في توجيه ضربات عسكرية ضد تنظيم الدولة الاسلامية، ولو انه في مكان ما هو دفاع ضد تمدد هذا التنظيم نحو دول عربية اخرى، فهو يصب في خانة او مصلحة كل من ايران والنظام السوري الذي بات يستفيد على نحو واضح من الضربات العسكرية التي يوجهها التحالف لمواقع داعش عبر تكثيف هجماته العسكرية وقصفه لمواقع المعارضة المعتدلة فضلاً عن نجاحه في اظهار تقدم داعش خطراً يفوق ويتجاوز التركيز على التخلص منه في هذه المرحلة. فثمة معلومات تحدثت عن وصول دفعات جديدة من الأسلحة الروسية اليه والتي بات يستخدمها على نحو يسجل تقدما له من غير المستبعد ان يكلله قريباً بالسيطرة على مناطق عدة جديدة كان خسرها ولها مدى حيوي بالنسبة اليه، وذلك علما ان عدم المشاركة الاوروبية في الضربات العسكرية على مواقع داعش في سوريا تركت علامات استفهام كبيرة حول احتمالات استفادة النظام منها. ولعل الاحداث التي انتقلت الى لبنان عبر ما حصل في عرسال كما ما حصل في طرابلس منذ ايام يساهم في زيادة الانطباع بمخاطر الارهاب المتنقل في اتجاه الدول المجاورة ما يخدم وجهة النظر والمنطق الذي روّج لهما النظام السوري منذ انطلاق الثورة ضده في آذار 2011.

لذلك ثمة شكوك يعبر عنها هؤلاء المسؤولون ازاء استمرار التحالف الدولي في شأن توجيه ضربات عسكرية لتنظيم الدولة الاسلامية في سوريا بقوة وعلى زخمه في ظل هذه الاعتبارات واهمها الاعتبار الايراني في الدرجة الاولى وفي ظل اختلاف الاهداف ايضاً ما قد يجعله امام احتمال تحوله الى ما تحولت اليه مجموعة اصدقاء سوريا في نهاية الامر بعد ثلاثة اعوام من الحشد والاجتماعات والقرارات التي لم تجد طريقها الى التنفيذ. فمع ان اجتماعاً مهماً لقادة الجيوش في التحالف الدولي قبل اسبوع في واشنطن يفترض ان يكون وضع اسس التعاون للمرحلة المقبلة، وأعقب باجتماع في الدوحة لرؤساء البعثات الديبلوماسية الاميركية المعتمدة لدى هذه الدول من اجل تنسيق الخطوات والتعاون، لوحظ تقدم الحديث اخيراً عن غارات اميركية تحديداً في ظل تراجع الحديث عن مشاركة الدول الاقليمية من دون ان ينفي ذلك استمرار وجود غطاء سني لقيام الولايات المتحدة بهذه الغارات. فهذا الغطاء السني هو ما تحرص عليه واشنطن من اجل مواجهة داعش وهو ما ستحرص على وجوده في حال اضطرت الى عمل عسكري بري ما. لكن غياب الافق السياسي يثير اسئلة صعبة امام عواصم اقليمية مؤثرة ويضغط عليها من اجل تقديم الاجوبة المناسبة.

النهار

 

 

 

هذا الـ”داعش”.. “ايبولا”/ خليل حرب

ما أشبه “داعش” بـ”إيبولا”.. فبقدر ما تقرأ عن الفيروس الذي يثير كل هذا الهلع حول العالم، بقدر ما ستجد علامات تشابه بين المرض وبين التنظيم التكفيري الذي ينشر الموت في طريقه.

نقاط التلاقي والتشابه كثيرة. في النشأة، في الاعراض، في أسباب الانتشار والعدوى، وبقدرة الفيروس والتنظيم، على عبور الحدود والتمدد، اينما وجدا بيئة حاضنة.

وكما تقول منظمة الصحة العالمية، فان الظهور الاول للـ”ايبولا” كان في السودان في العام 1976. وهناك، في منتصف التسعينيات، استوطن اسامة بن لادن بعد مرحلة “الجهاد” الاولى التي ساهمت في إخراج السوفيات من أفغانستان.

وفي السودان، ساهم بن لادن في تعزيز موارده المالية من خلال الاستثمارات المتنوعة، واموال “الحواضن الدينية” في الخليج وغيره، وجمع حوله بعض رفاق السلاح من الجبال الافغانية، لاعادة تنظيمهم في لقاء مهد لاحقا بعد هجرته القسرية الى أفغانستان مجددا، الى تلاقح افكار بينه وبين زعيم “طالبان” الملا عمر ثم ظهور تنظيم “القاعدة” الذي راحت تنبثق عنه خلايا “جهادية” متنوعة عابرة للحدود والقارات.

“فيروس” القاعدة هذا، تكاثر من بالي الاندونيسية الى قندهار الافغانية وبيشاور الباكستانية وبلشوستان الايرانية والانبار العراقية وصولا الى دير الزور السورية وعرسال اللبنانية، بل ابعد من ذلك بكثير، الى مصر والمغرب العربي، حتى نيويورك حين تجسد الفيروس بأقوى صوره في هجمات 11 ايلول ثم في العراق في ما بعد غزو العام 2003، ثم في سوريا. وها هو في لبنان الآن.

فلكي يكتمل المشهد، أعلن أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، مدّ نشاطه إلى “بلاد الشام” في نيسان العام 2013. لكن صعود “داعش” القوي الى المشهد الاقليمي برز في ربيع العام 2014، بالتزامن مع اعلان منظمة الصحة العالمية تسجيل ظهور الـ”ايبولا” الجديد في دول غرب افريقيا في الربيع نفسه، وتحديدا في آذار الماضي.

مجرد تزامن؟ ربما. لكن الاسقاطات تشجع على المزيد. وهذا بعض ما يقال علميا عن فيروس الـ”ايبولا”، ويمكن للمفارقة قراءة العوارض والمسببات بغير معانيها العلمية البحتة. تقول منظمة الصحة العالمية ان فيروس الإيبولا يسبب مرضاً حاداً وخطيراً يودي بحياة الفرد في أغلب الأحيان إن لم يُعالج. وتقول المنظمة، في ما تقول، ان موجة العدوى الحالية لـ”ايبولا” اكثر خطورة وانتشارا مما سجل خلال السبعينيات من القرن الماضي، تماما مثلما يمكنك القول ان خطر منظمات الارهاب في السبعينيات، لم يكن بخطورة ما يجري الآن، بتدميره مجتمعات بأكملها.

وتقول “الصحة العالمية”، وهي تتحدث عن “ايبولا” وكأنها تتحدث عن “داعش”، ان الدول الأشد تضرّراً بتفشي العدوى، وهي غينيا وسيراليون وليبيريا، لا تمتلك إلا نظماً صحية ضعيفة جداً وتفتقر إلى الموارد البشرية والبنية التحتية اللازمة، لأنها لم تخرج من دوامة النزاعات وحالات عدم الاستقرار. الا ينطبق ذلك، بشكل او بآخر، على احوال العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا…؟

وكأنما “ايبولا” و”داعش” شريكان. تصف الامم المتحدة الظهور الجديد للعدوى بانه “تفش صحي عمومي طارئ، يثير قلقاً دولياً”. واذا لم تكتف، فخذ عندك المزيد: الفيروس المتفشي حاليا لا يشبه الفيروس الذي ظهر في السبعينيات. وكأنك تقول ايضا ان “داعش” كما يجمع الخبراء والمحللون، وعصابات التكفيريين الحالية، يشكلون موجة ارهابية مختلفة عما سبقها، سواء في قوتها وانتشارها وتنظيمها وادواتها.

ثم ان افكار “داعش” تتناقل تماما كفيروس الـ”ايبولا”. فهي تصل الى تجمعات السكان البشرية عن طريق ملامسة دم الحيوانات المصابة بعدوى المرض أو إفرازاتها أو أعضائها أو السوائل الأخرى من أجسامها. الفيروس ينتقل كأفكار التكفيريين التي تضخ في عقول الكثيرين ونفوسهم. ويقول الاطباء ان المشيعين في جنازة يمكن لهم ان يصابوا مباشرة اذا لمسوا جثة مصابة بالفيروس. الا يعد “الداعشيون” كل ما هو حي حولهم بالموت؟

ليس لؤما، وليس في الامر افتراء على “داعش”. لعله فقط، افتراء على “ايبولا” الذي برغم كل شيء، يعدنا بالشفاء احيانا.

خليل حرب

السفير

 

 

 

حرب مديدة لرسم خريطة سياسية جديدة…/ د. عصام نعمان

ثمة تخبط سياسي وعسكري يعصف بأطراف «التحالف الدولي ضد الإرهاب». مردُ التخبط تناقض مرامي أطرافــه من وراء الحرب في الحاضر والمستقبل.

اول مظاهر التناقض يتجلّى في تحديد الجهات التي تستهدفها الحرب. ظاهر الحال يوحي بان الهدف الرئيس هو تنظيم «الدولة الاسلامية – داعش». واقع الحال يشير الى هدف اخر هو سوريا. الولايات المتحدة وتركيا لا تخفيان استهداف سوريا، بل ان تركيا تشترط تفاهما مسبقا بينها وبين الولايات المتحدة على ازاحة الرئيس بشار الاسد ونظامه قبل الموافقة على الانخراط في الحرب ضد «داعش».

ثاني مظاهر التناقض يتجلى في توصيف الجهات التي تستهدفها الحرب. الولايات المتحدة تعتبر «داعش»، ظاهرا في الاقل، تنظيما ارهابيا وهدفا مباشرا لغاراتها الجوية. تركيا لا تعتبر «داعش» عدوا وترفض، تاليا، مشاركة الولايات المتحدة وحلفائها الاقليميين في المجهود الحربي الرامي لمنع «داعش» من اجتياح مدينة عين العرب (كوباني) ذات الغالبية الكردية. الى ذلك، لا تعتبر الولايات المتحدة «وحدات حماية الشعب «الكردي» وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري تنظيمين ارهابيين، في حين ان تركيا تعتبرهما ارهابيين بامتياز بسبب تأييدهما حزب العمال الكردستاني التركي.

ثالث مظاهر التناقض رفضُ انقرة طلب واشنطن السماح لاكراد تركيا بارسال الرجال والسلاح عبر الحدود التركية – السورية لدعم المقاتلين الكرد المدافعين عن عين العرب، في حين انها وافقت على تمكين نحو 200 مقاتل من تنظيم «البيشمركة» التابع لمسعود بارزاني، رئيس اقليم كردستان العراق، بالتوجه الى عين العرب عبر الاراضي التركية لمساندة المدافعين عنها.

رابع مظاهر التناقض معارضةُ الولايات المتحدة مشاركة ايران في «التحالف الدولي ضد الإرهاب»، ومعارضتها مشاركة ايران في الدفاع عن العراق ضد «داعش» رغم موافقتها على مشاركتها سابقا في الدفاع عن اربيل، عاصمة كردستان العراق، عندما هددها «داعش» بالاجتياح قبل نحو شهرين.

خامس مظاهر التناقض معارضةُ الولايات المتحدة من جهة قبول لبنان هبة الاسلحة المجانية التي قدمتها ايران، رغم تعرضه لاعتداءات يومية من «داعش» وجبهة «النصرة»، وامتناعها من جهة اخرى عن بيع لبنان أسلحة ثقيلة يحتاجها الجيش في تصديه للتنظيمات الارهابية.

هذه التناقضات ما كانت لتظهر لولا التعارض في المصالح والمخططات بين اطراف «التحالف الدولي» بشأن الحرب في سوريا وعليها، والمسالة الكردية وانعكاساتها على سوريا والعراق وتركيا، والمقاومة الفلسطينية (ولا سيما في قطاع غزة) وانعكاسها على أمن «إسرائيل»، ودور ايران «النووية « ونفوذها في الاقليم.

غير ان تناقضات المصالح والمخططات بين اطراف «التحالف الدولي» لا تعني عدم وجود مصالح واهداف مشتركة بينها حيال الاطراف التي يجري استهدافها، مباشرةً او مداورة، وفي مقدمها سوريا والكرد وقوى المقاومة الفلسطينية. امريكا وتركيا متفقتان، مثلا، على ازاحة الاسد ونظامه وتفكيك سوريا واعادة «تنظيمها» بما يخدم مصالحهما وأمن «اسرائيل». في هذا الاطار هما متفقتان على سلخ مناطق وجود الاكراد عن جسم البلاد وسلطة الحكومة المركزية في دمشق. كما هما متفقتان على اعادة صياغة العراق على نحوٍ يؤدي الى قيام ثلاثة كيانات قد يجمعها (وقد لا يجمعها) نظام فيدرالي او كونفيدرالي ضعيف. الى ذلك، قد تنطوي الاتفاقات الضمنية بين امريكا وتركيا ودول اخرى في الاقليم على تفاهمات حول مصالح ومشاريع كبرى تتعلق بخطوط توريد النفط والغاز عبر العراق وسوريا، وصولا الى تركيا وتاليا الى اوروبا.

يتحصّل من مجمل هذه التناقضات الظاهرة والاتفاقات الضمنية والتفاعلات الناشطة على مستوى الاقليم ان الاطراف النافذة في «التحالف الدولي»، ولا سيما الولايات المتحدة وتركيا، بصدد رسم خريطة سياسية جديدة للدول القائمة، وان هذه العملية معقدة وقد تتطلب اجراء تعديلات في الحدود السياسية المتعارف عليها بموجب اتفاق سايكس – بيكو او قد تتم في نطاقها، وانها ستكون نتيجة حربٍ مديدة، بالنظر الى التعقيدات والمخاطر التي تنطوي عليها الصراعات الحادة مع قوى «الاسلام الجهادي» عموما و»الدولة الاسلامية – داعش» خصوصا.

الحرب المديدة ستكون على حساب العرب والكرد بالدرجة الاولى لان مسارحها وجولاتها ستشمل، غالبا، العراق وسوريا ولبنان، وربما الاردن ايضا، وقد تمتدّ ايضا الى تركيا، اذا تحرك اكرادها (20 مليونا) في منطقة ديار بكر لنصرة اخوتهم في بلاد الرافدين وبلاد الشام.

لان الحرب تنطوي على استنزاف متزامن للعرب والكرد فقد تسعى تركيا الى احتوائها لتفادي انعكاساتها السلبية عليها. في هذا السياق يمكن تفسير قبول انقرة بان تتوجه قوة من «البيشمركة الكردية العراقية عبر اراضيها الى عين العرب وذلك بقصد ان تكون لبارزاني، حليفها الضمني، يدٌ في احتواء اخوته الاكراد السوريين، فلا يتمادون في ادارتهم الذاتية لمناطقهم على نحوٍ ينقل عدواها الى اخوتهم في ديار بكر التركية المجاورة.

هذا من جهة. ومن جهة اخرى فان شعور قادة ايران بان الحكومة والجيش العراقيين عاجزان عن لجم «داعش» قد يحملهم على التدخل عسكريا للحؤول دون قيامه، منفردا او بالتواطؤ مع امريكا وحلفائها، بمدِّ نشاطه الى داخل ايران نفسها لتفجير فتنة سنيّة – شيعية.

في هــــذه الحالة، لن تكـــون الحرب مديدة فحسب بل شاملة وقاسية ايضا وذات ابعاد ومفاعيل عالمية.

 

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

ضد التحالف في سورية .. مع التحالف في ليبيا/ فيصل العساف

مضى الحديث مع السيدة الأميركية في صالة المطار إلى حيث تنبأت، عن الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة، حديث الساعة.

تقول إنها قرأت بإعجاب كتاب المستشرق الأسكتلندي السير وليام موير «حياة محمد»، الذي أسهب في الحديث عن فضائل شخصية النبي الكريم «محمد» عليه الصلاة والسلام، وكيف أنه كان صبوراً في ضعفه، حليماً حين امتلك المقدرة على أعدائه، دخل مكة فاتحاً يتقدمه العفو وسعة الصدر، وأنه لم يحصل أن أخرج اليهود من أرض العرب، بل تعايش معهم، وكانوا مواطنين تحت إمرته يحكمهم دستور المدينة، حتى نقضوا عهدهم فحكم عليهم بالنفي، حكماً قانونياً ليس ببعيد عن أحكام القرن الـ21. ثم سألتني السيدة السؤال الكبير: لماذا لستم مثل نبيكم؟ من هم «القاعدة» و«داعش» و«خراسان» و«جبهة النصرة»، و«حزب الله» و«عصائب الحق»؟

من السهولة معالجة مثل هذا الحرج بالمبادرة بالتبرؤ من هذه الجماعات، التي وضعتنا موضع الدفاع عن خاتم الأديان وأكملها، إنما سؤالها الذي بدا بسيطاً، يحمل الكثير من المعاني والتأويلات.

الجماعات المتطرفة، «داعش» وغيرها لا تمثل الإسلام فعلاً، إنما هي تعمل باسمه، تمارس الجريمة المنظمة باسمه، هي إذنْ مدَّعية وسارقة لاسم الإسلام، كمن يسافر بجواز سفر مزور، يعي كثيرون ذلك، حتى الغرب أصبح اليوم أكثر اقتناعاً أن هذا التزوير غداً مفضوحاً.

مذيعة شبكة «سي إن إن» الأميركية كريستيان أمانبور تقول: «إنها تستوقف العرب والمسلمين في الشارع وتسألهم هل أنتم مع داعش؟ فيسارعون بالنفي القطعي»! تقول: «هناك وعي شعبي في المجتمع المسلم يرفض هؤلاء. الوضع لا يشابه الحرب ضد القاعدة في 2001.

أما لماذا هذا الوعي النسبي؟ فلأن الشارع المسلم رأى مشاهد التنكيل والقتل المروعة التي مارسها التنظيم ضد المسلمين، ضد السنة تحديداً، الذي يدَّعي تمثيل مرجعيتهم، لذلك يسارع سدنة الفكر المتطرف إلى تقديم وصفة مساعدة للدواعش، بأن يمتنعوا عن نشر مقاطع الفيديو، لأن مثل هذه المشاهد المسجلة تحجب عنهم تعاطف عامة الناس الذين كانوا كذلك مع أسامة بن لادن.

«داعش» وخليفتها البغدادي لا يستعدون الشيعة، ولا نية لهم لدخول إيران أو إسرائيل، هم ببساطة يبحثون عن نفوذ، وكلمة نفوذ تعني ما تحصلوا عليه حتى الآن؛ الأرض، والنفط، ومن هذا النفوذ أعلن البغدادي خلافته. بل إن «داعش» لم تتعاون مع من يماثلها في آيديولوجيتها من الجماعات المسلحة كجبهة النصرة، يتصارعون على النفوذ والهيمنة. هذا التنافس هو ما جعل كل طرف منهما ينكّل بالآخر في سبيل المساحة الجغرافية، وأصبح لكل منهما مناطق نفوذ في سورية، على رغم أنهم -عقدياً- ينهلون من المشرب ذاته.

التحالف الدولي الذي اجتمعت بادرته في مدينة جدة، كان مكوناً بشكل رئيس من المتضررين من الإرهاب، ولكن بمرور الوقت انضم إليه الرافضون له، حتى من لم يمسسهم منه ضر. الضغط السياسي والإعلامي على الرئيس الأميركي أوباما، جعله يعيد حساباته، ولاسيما أن عشرات المواطنين الأميركيين انضموا إلى ساحات الاقتتال في سورية والعراق، وهؤلاء كالقنابل الموقوتة، لأن فور عودتهم إلى وطنهم سيشكلون مصدر خطر على الأمن القومي الأميركي، إضافة إلى أن تفشي الإرهاب في المنطقة العربية، يعني تلقائياً وصوله إلى آسيا شرقاً وإلى أفريقيا شرقاً وجنوباً، وهو وباء سريع الانتشار، ولنا في ظهور «داعش» بهذه القوة المفاجئة عبرة وعظة، حينها لن تسلم أي دولة في العالم، ولاسيما أميركا وأوروبا من مداهمة الإرهابيين.

هذا الواقع لا مبالغة فيه. هناك تهديدات حقيقية موجهة من الإرهابيين إلى أميركا وأوروبا، ولاسيما بريطانيا وفرنسا.

قد يكون مثيراً للندم في هذا الوقت المأزوم، عدم التفاعل مع فكرة السعودية لإنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب، فقد كانت تظن كثير من الدول أنها بمنأى عنه، وأن الإرهاب يتمركز في بؤر محددة، إنما أثبتت «داعش» مرة أخرى خطأ تقديراتهم.

التحالف الدولي الذي تشكل ضد «داعش»، والجماعات المتطرفة، بمنزلة حقل ميداني لمركز مكافحة الإرهاب، وكلما قويت شوكة هذا التحالف، بالدعم السياسي والمالي، فسيكون أداة مهمة ضد تفشي التطرف. علينا ألا ننسى أو نتجاهل أن هناك قبولاً شعبياً -ولو كان نسبياً- لداعش وجبهة النصرة وخراسان ولاسيما في دول الخليج، مرده قناعتهم بأن هذه المجموعات المسلحة، هي التي وقفت ضد النظام السوري، في وقت كان العالم يتفرج فيه على المجازر اليومية لبشار الأسد، ومن ناحية أخرى، يرون أن «داعش» حجر عثرة في سبيل التمدد الإيراني في المنطقة.

هذه قراءات خاطئة للواقع نتناولها من الجانبين؛ فالجيش الحر، الذي يمثل المعارضة الرسمية لنظام الأسد لم يكن يعمل وحده، ولم يكن له أن يستمر ثلاثة أعوام في حربه ضد جيش الأسد وحزب الله والحرس الثوري تحت المظلة الروسية، فمن أين له هذا؟ بالتأكيد كان الدعم موجود، ولاسيما من السعودية، لكن تخلي واشنطن عن مسؤوليتها تجاه المنطقة، أسهم في تأخير ساعة الحسم.

من الجانب الآخر، «داعش» لم تقم بالخطوة الأخيرة، عندما وصلت إلى مشارف بغداد، التي كنا نتوقع سقوطها في أي لحظة بأيديهم، ولو فعلت ودخلت فلن يقف في وجهها أحد، والمعلوم أن الثقل السياسي الشيعي في بغداد.

هددت «داعش» بأنها ستسوي المراقد الشيعية بالأرض، وتفخخ المزارات، وتنهي الطقوس الشركية، بحسب النظرة السلفية، لكن ما من هذه التهديدات تحقق. والأكيد أن إسرائيل لا تمر في خاطر الخليفة البغدادي ولو للحظة. ما حصل في الواقع أن «داعش» تركت أعداء السنة وهددت السعودية؛ لتحيي آمال تنظيم القاعدة، التنظيم الأم، ومن المهم التأكيد على أنه رغم صراع النفوذ والاختلاف التكتيكي بين «داعش» و«القاعدة»، فإن لدى الطرفين الاستعداد للاتفاق مرحلياً على هدف لزعزعة أمن الخليج.

لا يمكن أن يكون للإرهاب هدف سامٍ، ويستحيل الاتكال عليه لدرء عدو أو نصرة مظلوم، وللإرهابيين تاريخ طويل في هذا الجانب. فقد دعمت الولايات المتحدة الأفغان، حتى تمكنوا من جيش الاتحاد السوفياتي ثاني أكبر قوة في العالم، وحينما استقرت بهم الحال، وطابت لهم الأرض، استداروا على حليفتهم ونفذوا اعتداء «11سبتمبر». نسوا الدعم الأميركي لهم، ونسوا قيادة أميركا للناتو، لنصرة المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفو، هاجموها بذريعة تأييدها لإسرائيل، على رغم أن هذه الأخيرة ليست في أجندة أي فصيل منهم.

التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب تأخر كثيراً، وعليه أن يسدد ديونه المستحقة، التي تراكمت عليه بفعل الزمن، عليه أن يقوم بتطهير المنطقة من آفة الإرهابيين، بعد أن تركها لهم يعبثون فيها، والأهم من ذلك أن يتزامن العمل العسكري مع التنظيف المجتمعي من أرباب الفكر المتطرف، المحرضين، الذين يبثون أفكارهم ضد التحالف الدولي علانيةً، بلا حياء من رقيب ولا خشية من حسيب.

* كاتب سعودي.

 

 

 

 

أوباما يحافظ على نظام الأسد/ حسين عبد الحسين

“لماذا يصل السلاح الى ايدي المقاتلين الكرد في كوباني في ساعات فيما يتطلب تسليح الجيش السوري الحر موافقة الكونغرس وسنوات من التحري حول هوية الثوار وتدريبهم والاجراءات الادارية؟” يتساءل احد المعلقين الاميركيين، في وقت يكاد المعنيون في العاصمة الاميركية يصلون الى اجماع مفاده ان خطة الرئيس باراك أوباما لمواجهة تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” هي خطة لن يكتب لها النجاح.

وتحت عنوان “قتال السيد أوباما ضد الدولة الاسلامية هو نصف قتال”، انتقدت صحيفة “واشنطن بوست” في افتتاحيتها الرئيس الاميركي، وقالت ان اجماعاً يسود الاطراف الاميركية من الاتجاهات السياسية والحزبية المختلفة مفاده ان استراتيجية “اضعاف، وتالياً القضاء على الكيان الارهابي لا يمكن ان تعمل”. وشككت “البوست” في مقولة بعض اركان الادارة من ان المطلوب هو المزيد من الوقت، معتبرة ان “الوسائل العسكرية التي اعطى الرئيس تخويلا باستخدامها لا يمكنها ان تحقق الغايات التي أعلن هو عنها”.

وساقت الصحيفة أسباباً متعددة خلف الفشل الاميركي، تتصدره الوتيرة البطيئة للضربات الجوية، وغياب المستشارين الاميركيين عن ارض المعركة، و”موقف أوباما الحيادي تجاه نظام بشار الاسد السوري، وهو موقف سمح للنظام بشن هجمات ضد القوات الثورية نفسها التي تعتمد الولايات المتحدة عليها لقتال الدولة الاسلامية؟”.

من ناحيتها، تحدثت صحيفة “وال ستريت جورنال” عن خسارات الثوار واضطرارهم لمواجهة عدوين في الوقت نفسه: الأسد وداعش. وقالت الصحيفة ان جيش النظام نجح في كسر حصار على قاعدتين عسكريتين في ريف حماه، واستعاد عدرا القريبة من دمشق، ويكاد يطبق حصاره على حلب بعد تقدمه في قرى جبيلة وحندرات والمسلمية. وخلصت الصحيفة الى ان تراجع الثوار يعني ان الولايات المتحدة لن تجد الحلفاء الذين تبحث عنهم لاستعادة المساحات التي يسيطر عليها داعش.

وفي عطلة نهاية الاسبوع، أطل رئيس لجنة الشؤون الاستخباراتية في الكونغرس، مايك روجرز، في مقابلة تلفزيونية ليقول ان نجاح واشنطن في القضاء على داعش يرتبط بارسال قوات اميركية برية لتحقيق مكاسب اولية تعمد على اثرها الى تسليم الاراضي التي تستعيدها الى مقاتلين حلفاء. وتصريح روجرز لافت للانتباه لانه يأتي قبل اسبوع من انتخابات الكونغرس المقررة الثلاثاء المقبل، ما يعني ان السياسيين الاميركيين لم يعودوا في موقف يخشون من ناخبيهم بسبب اثارتهم موضوع استخدام قوات اميركية برية في العراق أو سوريا، وما يعني ان الرأي العام الاميركي يقترب أكثر فأكثر من الموافقة على استخدام القوات البرية.

لكن على الرغم من كل الافتتاحيات والتصريحات والمزاج الشعبي الذي صار يسبق أوباما في موقفه العسكري المحافظ والخجول في الحرب ضد داعش، مازال الرئيس الاميركي متمسكاً بخطته، على الرغم من مطالبة حتى قادته العسكريين بزيادة عدد الطلعات الجوية، المحصورة بسبع طلعات يومياً، والسماح بإرسال مستشارين اميركيين الى الخطوط الامامية بدلاً من بقائهم في مراكز قيادية متأخرة.

لم تغير انتصارات داعش من رؤية الرئيس الاميركي، الذي يبقى متمسكا بالتوصل الى اتفاق مع ايران كحل جذري للعراق وسوريا، بما في ذلك القضاء على داعش. انتصارات داعش دفعت أوباما الى القيام بخطوات على سبيل وقف زحف داعش او ابطائه، وهو ما يشي به استخدام أوباما لكلمة “اضعاف”. والاضعاف الذي يتطلب مدة طويلة هي مدة سنتين كفيلة بخروج أوباما من الحكم والقاء المشكلة على خلفه حتى لا يلوث رئاسته بحرب بعدما بناها على انهاء الحروب.

اما تفكير أوباما فيصبح اكثر وضوحاً في الابحاث الصادرة عن مراكز وخبراء مقربين من ادارته، مثل البحث الاخير الصادر عن مارك لينش، الذي كتب توصية للادارة على الشكل التالي: “استخدموا ازمة داعش لخلق اتفاق اقليمي اكثر ثباتاً”. واضاف لينش ان على واشنطن ان تشترط تزويدها الثوار السوريين بالسلاح باجبارهم بالتراجع عن هدفهم القاضي باسقاط الأسد، والعمل على توسيع اتفاقيات الهدنة المحلية، والدفع باتجاه حل سياسي، وحصر المجهود العسكري للثوار ضد داعش.

طبعا لم يذهب لينش بعيداً ولم يطلب اعادة الانفتاح على الأسد، ولكنه يدرك ان بقاء الأسد وتغير الحكومة الاميركية مع خروج أوباما من الحكم بعد سنتين، لا يلزم اي ادارة مقبلة التمسك بمبدأ التخلص من الأسد، الذي قد يتطلب اي اتفاق مع ايران ابقائه.

لينش هو التفكير الحقيقي لأوباما وفريقه. ربما يجد أوباما نفسه محرجاً في قول ذلك علناً، ولكن حجبه السلاح عن الثوار لثنيهم عن مواجهة الأسد، وارسال رسائل بالواسطة للأسد لتفادي تدمير دفاعاته الجوية، ومنع القيادة العسكرية الاميركية من القضاء على داعش تماماً، كل ذلك يشي بأن أوباما لا يرغب في القضاء لا على داعش ولا على الأسد، بل يفضل ادارة الازمة بأقل تكلفة مطلوبة. اما في المدى البعيد الذي يتحدث عنه أوباما ومسؤولوه، فقد لا يبقى غير الأسد -أو على الاقل نظامه من دونه حسب اعتقاد واشنطن غير المبرر- سبيلاً للقضاء على داعش، وتصبح خيارات واشنطن هي بين السيء والأسوأ، وهو السيناريو الذي قدمه الأسد منذ آذار ٢٠١١، والذي يبدو أن أوباما يساهم في تحقيقه.

المدن

 

 

 

نشـأة داعش و ارهاب “الدولة الإسلامية/ الياس خوري

القيم الانسانية في مواجهة البربرية الداعشية…كيف نقاوم مملكة التوحش التي تحاصر حضارتنا؟

يعتبر الكاتب والروائي المعروف الياس خوري أن المواجهة مع أهوال الفكر الداعشي ستكون رهيبة ودموية، لأنها معركة القيم الإنسانية في مواجهة التوحش، وهي معركة طويلة، وعلينا أن نخوضها كأفراد وجماعات، بوعي من يصنع من يأسه نافذة للأمل كما يشدد على أنه لا خيار لنا سوى التمسك بقيم الحرية والعدالة، وإعطاء هذه القيم دلالات ملموسة، والتوقف عن انتظار فرج لن يأتي، فلا “نظام الاستبداد العربي سينقذنا ولا أمريكا معنية بآلامنا”.

لولا الحياء لقلنا إنها مؤامرة. لكنها مؤامرة، ولن يوقفنا الحياء، والموضة الدارجة برفض التحليل التآمري، عن تسميتها باسمها.

والمؤامرة ليست أمريكية فقط، كما يظن السُذّج، ولا إسرائيلية، كما نشتهي أن نقول، إنها مؤامرة صنعها العرب ضد أنفسهم. انها من صنع أيدينا أولاً، وعلينا أن نبدأ بالاعتراف بهذه الحقيقة، كي يحق لنا بعدها التحدث عن مسؤوليات الآخرين.

ممالك الصمت العربية التي شملت الجمهوريات الوراثية كلها، من سوريا إلى مصر إلى العراق إلى ليبيا إلى تونس إلى اليمن إلى آخره… صنعتها أحزاب وجيوش ونخب قومية، صعدت على أشلاء الحرية في مرحلة الحرب الباردة، واستنفعت في مناخات الهزيمة أمام إسرائيل، وحوّلت الفساد والطائفية من أمراض إلى أوبئة. وبدلاً من العدالة الاجتماعية التي بشّرت بها، قامت بتدمير الطبقات الوسطى، وإفقار الفقراء، وحطمت القيم الأخلاقية، واستباحت المجتمع.

دعارة الريع النفطي

أما ممالك صمت الأنظمة الملكية فحولت الريع النفطي إلى دعارة شملت كل مناحي الحياة، من دعارة الأجساد إلى دعارة السياسة والصحافة والإعلام والثقافة والرياضة. صار الغاز بديلاً عن الأوكسجين، فتسممت العقول، وانحنى الجميع أمام خطاب قاطعي الأيدي والرؤوس.

وحين التقى الصمتان في زمن المحور السعودي- المصري- السوري، انتشر الفكر الظلامي كالنار في الكاز، وصار الالتحاق بـ المجاهدين» الأفغان، واللباس «الشرعي» والشوارب المحفوّة، سمة عامة امتدت من الجزائر إلى مصر، قبل أن تنفجر فينا، وينفجر النظام العربي بعد نهاية الحرب الباردة.

الكاتب والروائي المعروف الياس خوري: “لا خيار لنا سوى التمسك بقيم الحرية والعدالة، وإعطاء هذه القيم دلالات ملموسة، والتوقف عن انتظار فرج لن يأتي، فلا نظام الاستبداد العربي سينقذنا ولا أمريكا معنية بآلامن”.

حزب البعث العراقي غيّر علم بلاده وأضاف إليه الشعار الإسلامي، والبعث السوري جعل من سوريا مركز تجميع مقاتلي القاعدة الذاهبين الى العراق، أما السعوديون والقطريون فاختبأوا خلف شعار الدفاع عن أهل السنة، ولكن بدل البديل الذي حاولت أن تكونه ممالك الصمت والقمع والنفط جاء الأصيل، الذي يحمل الفكر الوهابي التكفيري الواضح، ويأتي الناس بالذبح والصلب وقطع الرؤوس.

فشل قوى التغيير الديمقراطي في قيادة التحوّل

لا أريد تبسيط المسألة، فالانقلاب الشامل حصل عندما فشلت قوى التغيير الديمقراطي في قيادة التحوّل الذي صنعته الثورات العربية. والفشل له أسباب متعددة، ولا يمكن اختزاله فقط في وحشية آلة القمع التي مارستها الأنظمة. فإلى جانب هذه الوحشية التي لا سابق لها، والتي اختزلها النظام السوري في قمعه الفاشي للانتفاضة الشعبية المطالبة برحيله، برز القصور السياسي والثقافي الذي جعل من النخب التي تصدت لقيادة التحرك الشعبي عاجزة عن مواكبته، فاستسلمت لوهمين:

وهم الدعم العربي الذي وفرته ممالك الصمت، عبر إعلامها و»مساعداتها» المالية والعسكرية بهدف تسليط الاسلاميين على الثورة المسلحة، ما قاد الى اندثار الجيش الحر، وتلاشي المعارضة السورية.

ووهم الخطاب النيوليبرالي المعولم، الذي أوحى بأن الدعم الأوروبي والأمريكي سوف يجعل من ربيع الثورات العربية امتدادا لربيع أوروبا الشرقية، واستكمالاً للتدخل العسكري الأطلسي الذي بدأ في ليبيا!

وهما أوقعا المشرق العربي في فخ الصراع السني- الشيعي او الإيراني- السعودي، و/او قادا الى تحويل المؤسسة العسكرية خشبة الخلاص الوحيدة من أشباح الحرب الأهلية ودولة الخلافة، مثلما حصل في مصر، بحيث استعاد الجيش قبضته على البلاد محمولا على اليأس من التغيير.

كل الأوهام كانت تهيء الأرض لاستقبال مخلوق عجيب اسمه “الدولة الإسلامية”، التي أعلنت أنها طوت صفحة التغيير واستبدلتها بكابوس الوحشية.

تحالف دولي هش ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”: أعادت مواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية” التقارب بين الشرق والغرب كعدو مشترك، ووحدت في الوقت نفسه كلمة العرب لا سيما وأن هناك خمس دول عربية مشاركة في الضربات الجوية ضد الجهاديين في سوريا والعراق. لكن هذا التحالف قد لا يصمد طويلا، وفق توقعات الخبراء.

“داعش” هي ابنة الحرب الباردة في مرحلتها الأخيرة، لكنها أيضاً بداية الحرب الشاملة على المشرق العربي. شيء يشبه الكابوس، مسلحون يخرجون من عتمة الحاضر بصرخة هي مزيج من الهوس الإجرامي والتطهر بالدم من جهة، وحلم استعادة خلافة إسلامية قرشية انهي العثمانيون قرشيتها منذ خمسة قرون، قبل أن تندثر كل إشكالها في نهاية الحرب العالمية الأولى، من جهة ثانية.

انها انتقام الصحراء المؤجّل، وصرخة الثأر من إنهيار القيم السياسية والأخلاقية والإجتماعية الذي حوّل بلادنا الى رهينة في أيدي الضباط والمافيات، ونساءنا الى سبايا جنون الديكتاتور وحاشيته. إسألوا نساء العراق وسوريا وليبيا كيف كانوا يُخطفون ويُغتصبون على ايدي العصابات الحاكمة، وذلك قبل عقود من ارتفاع صيحة البغدادي وجيشه بالذبح والإبادة وسبي النساء.

جيش البغدادي هو فصل جديد من هذا الإنهيار، وهو يستكمل ما عجزت الديكتاتوريات عن صنعه، محولا بلادنا الى ساحة للطائرات والموت.

هزيمة «داعش» عسكرياً مستحيلة، ومهما قيل عن ذكاء الطائرات المغيرة، وعن الحلم التركي باستعادة الهيمنة على المنطقة، فإن المسألة لا يمكن حسمها عسكرياً. قد تضعف «داعش»، وقد تنسحب من بعض المدن، لكن هذا لا يغيّر من حقيقة أن «داعش» نجحت في أن تعبّر عن اليأس الشامل الذي يلفّ هذه البلاد.

يأس بدأت ملامحه في التشكّل بعد الهزيمة الحزيرانية وموت عبد الناصر وتحول أشباه الزعيم المصري الى مجموعة من القتلة واللصوص. يأس تجلّى حين استطاع النظام العربي أن يتناسى الجرح الفلسطيني، فقادته الأصولية التي اعتقدت انها بديل الناصرية الى التحول الى مرتزقة عند الامريكيين في أفغانستان.

الطائرات لا تنتصر على اليأس بل تعمّقه وتجدده، والحرب على «داعش» لن تقود الى مكان، بل ستزيد من تفتت المنطقة، وتدمير اقلياتها، وتحوّل ملايين اللاجئين العرب والكرد والأزيديين إلى علامة هذا الزمن الأسود.

كيف نقاوم مملكة التوحش التي تحاصرنا؟

إلياس خوري هو قاص وروائي وناقد وكاتب مسرحي لبناني، ولد في العاصمة اللبنانية بيروت عام 1948. كتب عشر روايات ترجمت إلى العديد من اللغات وثلاث مسرحيات وله العديد من الكتابات النقدية. يشغل حاليا منصب محرر في ملحق الحقيقة وهو الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة النهار.; Foto: dpa/picture-alliance

يعتبر الكاتب والروائي المعروف الياس خوري أن مواجهة إرهاب داعش “معركة القيم الإنسانية في مواجهة التوحش، وهي معركة طويلة، وعلينا أن نخوضها كأفراد وجماعات، بوعي من يصنع من يأسه نافذة للأمل.”

تبدأ المقاومة حين نعي بأننا نواجه فصلا جديدا من الاستبداد، لا يختلف عن الفصل الذي سبقه سوى بالشعار الديني الذي يتغطى به.

وفي هذه المواجهة الرهيبة والدموية، لا خيار لنا سوى التمسك بقيم الحرية والعدالة، وإعطاء هذه القيم دلالات ملموسة، والتوقف عن انتظار فرج لن يأتي، فلا نظام الاستبداد العربي سينقذنا ولا أمريكا معنية بآلامنا.

إنها معركة القيم الإنسانية في مواجهة التوحش، وهي معركة طويلة، وعلينا أن نخوضها كأفراد وجماعات، بوعي من يصنع من يأسه نافذة للأمل.

حقوق النشر: الياس خوري 2014

موقع قنطرة ينشر هذا المقال بالاتفاق مع الكاتب. حقوق النشر محفوظة للكاتب.

ولد الروائي اللبناني إلياس خوري في بيروت في عام 1948، وقد ألف العديد من الروايات وآخرها “يالو”. حققت روايته “باب الشمس” نجاحاً كبيراً، وهي ملحمة تصف وتوثق تهجير الفلسطينيين من أرضهم وقد تم اقتباس الفيلم للسينما عام 2004 من قبل المخرج المصري يسري نصر الله، وقد عرض خارج المسابقة في مهرجان كان في 2004. الياس خوري يعمل ايضا محررا للملحق الثقافي لجريدة النهار في بيروت وأستاذاً في جامعة نيويورك حيث يدرس الأدب العربي.

 

 

 

 

كوباني.. حامية الإدارة الذاتية الكردية/ نذير رضا

توجس أكراد سوريا، منذ اللحظة الأولى لإطلاق تنظيم داعش حملة السيطرة على كوباني (عين العرب)، من سقوط تجربة الإدارة الذاتية الكردية التي بدأت رسميا في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، علما أن التجربة العملية لها، انطلقت منذ طرد قوات نظام الرئيس السوري بشار الأسد من المناطق الكردية في يوليو (تموز) 2012. وينظر الأكراد إلى الهجوم العنيف للسيطرة على المدينة، بوصفه خطة للقضاء على تجربة الاستقلال الإداري الكردي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، تستفيد منه أنقرة التي لا مصلحة لها في وجود إدارة ذاتية كردية على حدودها، فيما يقرأ مراقبون أن نتائج المعركة، سواء أسفرت عن تدخل تركي في كوباني، أم أسفرت عن سيطرة «داعش» على المدينة، على أنها «هزيمة للنظام السوري».

كوباني التي تتوسط جغرافيا، أكبر تكتلين بشريين للأكراد في سوريا، هما القامشلي (شمال شرقي سوريا) وعفرين (شمال حلب)، هي النقطة الأضعف بين المدن الكردية الحدودية مع تركيا، نظرا إلى أنها أصغر المقاطعات الكردية في سوريا بين المقاطعات الثلاث، إضافة إلى أنها تقع على الشريط الحدودي مع تركيا مباشرة، مما يمنع طائرات النظام السوري من مؤازرتها بضربات جوية خلال المعارك، كما أن مناطق عريضة يسيطر عليها «داعش»، تفصل بينها وبين المقاطعتين الأكبر، القامشلي وعفرين.

,تعد كوباني المدينة الثالثة من ناحية عدد السكان الأكراد الموجودين داخلها، وتضم المقاطعة 440 قرية ومزرعة في نواحيها، يسكنها أكراد وعرب. وبدأ تنظيم داعش التقدم باتجاهها، منذ خريف عام 2013 بعد سيطرته على محافظة الرقة، وقضم نحو 65 في المائة من مزارعها وقراها خلال عام تقريبا. وتبعد مدينة كوباني عن القامشلي ما يقارب 200 كيلومتر، كما تبعد عن عفرين ما يزيد على 150 كيلومترا. وتفصل بينها وعفرين المدن التابعة لريف حلب الشرقي، بينها جرابلس ومنبج والباب، وتخضع بأكملها لسيطرة «داعش». وتفصل بين كوباني والقامشلي، محافظة الرقة الخاضعة بأكملها لسيطرة التنظيم، إضافة إلى مدن وقرى غرب وجنوب الحسكة، بينها مركدة والشدادي.

وباستثناء الهدف من قطع أوصال منطقة النفوذ الكردية الحدودية مع تركيا، وإمكانية ربطها بأراضي كردستان العراق التي تعد إدارة كردية مستقلة في العراق، لا تتمتع كوباني بأهمية استراتيجية تذكر، نظرا لأنها مقاطعة زراعية، وتفتقد إلى الثروات الطبيعية مثل النفط والغاز. وتعود أهميتها الاستراتيجية إلى أنها تتضمن معبرا حدوديا مع تركيا، وتحيط بها مصادر المياه كونها تقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات. أما أهميتها بالنسبة لـ«داعش»، فتعود إلى أنها تقع على الشريط الحدودي مع تركيا، مما يسهل للتنظيم بسط سيطرته على أكثر من 250 كيلومترا متصلة جغرافيا من الشريط الحدودي المحاذي لتركيا، يبدأ من محافظة الحسكة، ويتوقف عند بلدة مارع في شمال حلب، المحاذية لبلدة أعزاز الخاضعة لسيطرة «الجبهة الإسلامية»، وهي أكبر التشكيلات المسلحة السورية المعارضة للنظام السوري. كما أنها تشكل عقبة جغرافية أمام طموحات «داعش» لوصل المنطقة الجغرافية التي تسيطر عليها من دير الزور (شرق سوريا) الحدودية مع العراق، بمواقع سيطرتها في ريف حلب الشمالي المحاذي لبلدة مارع الحدودية مع تركيا.

لكن التنظيم لا يبسط سيطرته المباشرة على أي من المعابر الحدودية الرسمية، إذ يعد معبر تل أبيض مغلقا أمام الحركة التجارية على الرغم من سيطرة كتائب موالية لـ«داعش» عليه وليس خاضعا رسميا للتنظيم، كما يعتبر معبر جرابلس شبه متوقف أيضا عن العمل، علما أنه لم يكن مفتوحا أمام الحركة التجارية، فيما يقاتل التنظيم للسيطرة على المنطقة المحاذية لمعبر أعزاز.

وتعد كوباني، المدينة الكردية الثالثة في سوريا بعد القامشلي وعفرين لجهة عدد السكان الأكراد فيها، على الرغم من وجود قرى مختلطة مع العرب. وعلى غرار المدينتين الأخريين، تتميز كوباني بأنها تضم إدارة ذاتية بقيادة كردية، منذ يناير (كانون الثاني) الماضي، وتضم هيئات محلية أشبه بالوزارات، من أبرزها الدفاع والحماية، والعدل، والداخلية، والعلاقات الخارجية، والتربية والتعليم، والثقافة، والزراعة.. ونشأت تلك الإدارة بعد سيطرة مقاتلي «وحدات حماية الشعب الكردي» التابعين لأكثر الأحزاب الكردية نفوذا في مناطقهم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي «بي واي دي» على المناطق الكردية، إثر قتال مع النظام، وإخلاء القوات النظامية مقرات أخرى لها من المنطقة، وطرد الأكراد لكل العناصر التابعة لحزب البعث الحاكم.

ويتهم الأكراد أنقرة بدعم «داعش»، بهدف «منع قيام إدارة ذاتية كردية على حدودها»، علما أن هذه الإدارة الذاتية في المدينة تشارك فيها شخصيات عربية وأخرى شركسية. ويستند هؤلاء إلى ما كتبته الصحف التركية عام 2012، بأن هناك توجها لتمدد كردستان إلى سوريا. ويرى الأكراد أن حشود أنقرة العسكرية أخيرا بموازاة معركة كوباني، تهدف لإنشاء منطقة منزوعة السلاح داخل الأراضي السورية، مما يشير بحسب مسؤولين أكراد، إلى أن تركيا تريد منع قيام هذه الإدارة الذاتية، ومنع أي اتصال بين المناطق الكردية في سوريا.

غير أن حسابات أنقرة، تتخطى الساحة الكردية في سوريا، إذ ترسل من خلال تغطية هجوم «داعش» على كوباني، رسالة إلى الأكراد في تركيا، بأن حلمهم بإدارة ذاتية كردية في تركيا، يستحيل تحقيقه. ويوضح الخبير في الشأن التركي الدكتور محمد نور الدين في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن «الهدف الأساسي من تغطية تركيا لهجوم (داعش)، هو رسالة لأكراد تركيا تحديدا بأن أنقرة لن تقبل بحكم ذاتي داخل أراضيها، بدليل إجهاض الحكم الذاتي في سوريا»، مشيرا إلى أنقرة «لن تقبل بظهور كيان كردي على حدودها، ومن هنا كانت تغطيتها لضرب الكونتون الأوسط في المناطق الكردية في سوريا، وهو كوباني».

وعلى الرغم من أن هذا الهدف يتصدر أهداف أنقرة في تغطية الهجوم على كوباني تمهيدا لإسقاطها، إلا أن هناك أهدافا أخرى بحسب ما يقول نور الدين، مشيرا إلى أن «داعش» وتركيا يمكن أن يحققا إنجازا على الأرض، بخلاف المسار الذي يحاول التحالف الدولي والعربي لمحاربة الإرهاب في سوريا تقديمه، معتبرا أن هجوم «داعش» على كوباني، تريد أنقرة منه القول إن التحالف لن ينجح بهذه المهمة، وأننا قادرون على فرض أمر واقع جديد وهو سقوط كوباني أمام أعين التحالف الدولي.

وتغطية تركيا للهجوم على «داعش»، بحسب ما يقول أكراد سوريا، كان يوازيه بالفعل عزوف أكراد العراق عن دعم الأكراد السوريين، قبل أن يتغير الواقع مطلع هذا الأسبوع، إذ أرسلت حكومة كردستان ذخائر وأسلحة إلى مقاتلي كوباني عبر طائرات أميركية، فيما أعلنت تركيا عزمها على تسهيل عبور مقاتلي البيشمركة إلى كوباني.

غير أن العزوف الأول، كان يعود إلى سببين، الأول لوجيستي، والثاني مرتبط بحسابات سياسية لدى أكراد العراق. ويرى نور الدين أن أي جهد أو مسعى للتواصل بين مناطق كردستان بالشرق الأوسط، أي بين أكراد العراق وسوريا وتركيا وإيران، لا يحظى بأي قبول تركي، بل تسعى حكومة أنقرة لقطع أوصاله، إلى جانب العوائق الجغرافية، وبعد المسافة بين كردستان العراق.

أما العوائق السياسية، فتتمثل في موقف زعيم إقليم كردستان العراق مسعود برزاني الذي «لا يزال يقدم أولوية الحساسيات الداخلية الكردية وصراعه مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان على زعامة أكراد الشرق الأوسط»، كما يقول نور الدين، مشيرا إلى أن سقوط كوباني بيد «داعش»، من شأنه أن «يساهم في إضعاف أوجلان في تركيا وسوريا لصالح برزاني».

وتعد وحدات حماية الشعب الكردي، وهي الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي «بي واي دي»، التشكيل الأبرز الذي يقاتل «داعش» في كوباني. وتسعى الحكومة التركية لتصويب العلاقة التي تربط «بي واي دي» مع حزب العمال الكردستاني الذي يتزعمه عبد الله أوجلان، وتصنفه تركيا ومعظم الدول الغربية على أنه «تنظيم إرهابي». ولا ينفي حزب «بي واي دي» وجود علاقات مع العمال الكردستاني «بي كي كي» وتقارب عقائدي معه، علما أن الأغلبية من مقاتلي وحدات حماية الشعب كانوا أعضاء في «بي كي كي» واكتسبوا مهارات في القتال ضد تركيا على مدى 25 عاما، كما أن البرنامج الوطني للحزب يقوم على أفكار زعيمه المسجون في تركيا عبد الله أوجلان.

وإضافة إلى الصراع الكردي على الزعامة، تربط أنقرة وحكومة كردستان العراق مصالح اقتصادية حيوية، في ظل الخلافات بين أكراد العراق مع الحكومة المركزية في بغداد. ويعد تصدير النفط من كردستان عبر الأراضي التركية، أهم التفاهمات الاقتصادية بين الجانبين، كما يشكل التحالف بين أربيل وأنقرة عامل ضغط دائما ومفتوحا مع بغداد في أي مفاوضات مرتبطة بعلاقة كردستان بالحكومة المركزية العراقية.

ويقول نور الدين: «بمعزل عن أن أكراد العراق لا يستطيعون في الوقت الحاضر إرسال مقاتلين إلى كوباني، لا يزال البرزاني، في ظل خلافه مع الحكومة المركزية في بغداد، يحتاج إلى أن تبقى خيوط تفاهماته مع أنقرة متواصلة، وعليه لن يتخذ البرزاني مواقف عدائية مع أنقرة، أو أن يستفزها بدعم أكراد سوريا، كون سكوته يصب في إطار حليفه التركي، وهو ما لا يشجعه على تقديم المساعدة لكوباني».

وفي ظل الهجوم على كوباني الآيل إلى تقويض نفوذ أوجلان، حذر الزعيم الكردي قبل أسبوعين من داخل سجنه، من أن عملية السلام بين جماعته والدولة التركية، ستنتهي إذا سمحت لمتشددي تنظيم «داعش» بارتكاب مجزرة في بلدة تقطنها أغلبية كردية على الحدود السورية. وقال أوجلان، في بيان أصدره وفد حزبي مؤيد للأكراد زاره في السجن: «إذا حققت محاولة ارتكاب مذبحة هدفها فإنها ستنهي العملية»، كما «حث كل شخص في تركيا لا يريد انهيار العملية والرحلة إلى الديمقراطية، على تحمل المسؤولية في كوباني».

ويرى نور الدين أن أكراد تركيا، في حال سقوط كوباني، «سيتأكدون للمرة الألف من أن أنقرة غير جادة بالمفاوضات معهم»، معتبرا أن تهديد أوجلان الأخير «في محله، إذ لا يقدر إلا تحريك هذه الورقة، للضغط على تركيا»، مشيرا إلى أن التهديد فيه رسالة واضحة مفادها أنه «إذا كانت أنقرة لا تضمن حكما ذاتيا للأكراد في سوريا، فكيف لها أن تتيح حكما ذاتيا للأكراد في تركيا»، لافتا إلى هذا المضمون «دفع أتراك تركيا للتظاهر، وسقط منهم أكثر من 35 قتيلا خلال الأسبوع الماضي».

لكن تهديد أوجلان، لا يعني أن الأكراد سيأخذون قرارا بالحرب ضد أنقرة، في حال سقطت كوباني، نظرا لأن دون هذه الخطوة تحديات كثيرة، هي قرار كبير بالقتال على جبهتين، والصدام مع قوتين كبيرتين لهما وزنهما العسكري، وهما (داعش) وتركيا، كما يقول نور الدين، وعليه، «سيأخذ حزب العمال وقتا قبل اتخاذ القرار بمواصلة المفاوضات مع تركيا، أو العمل العسكري ضدها أو الاثنين معا».

وعلى الرغم من أن مصلحة النظام السوري تتقاطع مع المصلحة التركية بإجهاض حلم تأسيس إدارة ذاتية كردية على الحدود، إلا أن خبراء يرون في معركة كوباني هزيمة لنظام الأسد في حال دخلت تركيا إلى الأراضي السورية لإنقاذ الأكراد من مذبحة، أم في حال سيطرت «داعش» على كوباني، كما يقول الباحث السياسي اللبناني وأستاذ العلاقات الدولية سامي نادر لـ«الشرق الأوسط»، فإن «النظام السوري وقع اليوم في الفخ الذي نصبه لتركيا، لجهة تسليم المنطقة الحدودية لعدوه اللدود وهو الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني، وإبعاد كل المتعاطفين مع المعارضة السورية المعتدلة والأكراد المعتدلين». ويضيف: «تركيا قررت ألا تمد يد العون إلا إذا فك الأكراد معاهدة عسكرية غير مباشرة مع النظام السوري وتقضي بعدم التعرض للقوات الحكومية السورية، إضافة إلى الانفتاح على المكونات الكردية الأخرى، في إشارة إلى الحليف الكردي الاستراتيجي لتركيا، وهو حكومة إقليم كردستان.

ويرى نادر أنه إذا تحققت أي من النتائج، ستكون ضد مصلحة النظام السوري، موضحا أن النتائج المحتملة هي سيطرة «داعش»، مما يعني القضاء على حليف استراتيجي للأسد، وإرسال رسالة بذلك تحبط معنويات كل من يتصور أن الحلف مع الأسد سيؤدي إلى نتيجة إيجابية لمصلحته، في إشارة إلى حلفاء النظام السوري وهم إيران وروسيا والشيعة في لبنان والحكومة العراقية. ويعني ذلك انهيار المنظومة التي وضعها الأسد، وانعكاس نتائجها لمصلحة خصومه لأنه في المحصلة سينكسر فريق محسوب عليه في الضربة الكبيرة.

أما الاحتمال الثاني، فهو دخول تركيا بهدف حماية الأكراد من مذبحة في حال سيطرة «داعش» على كوباني بإطار قانوني وغطاء دولي، كما يعتقد نادر، وهو ما دفعها لحشد قواتها على للحدود بغرض التدخل لوقف المذابح، مشيرا إلى أن الضغوط الدولية التي ستتحرك، قد تصل إلى تسوية تقضي بتسليم كوباني إلى طرف آخر، سيكون حليفا لأنقرة، ومن المرجح أن يكون كردستان العراق، وهي تسوية بدأت ملامحها بإعلان تركيا أنها ستسمح لمقاتلي البيشمركة العبور من أراضيها إلى كوباني، الاثنين الماضي.

الحسابات السياسية، تختلف عن حسابات الميدان، إذ يتخوف الأكراد من «عملية تطهير عرقي وارتكاب مجازر ومذابح» معربين عن قلقهم من أنه في حال تمكن «داعش» من دخول المدينة، فإن الحملات التالية للتنظيم ستكون موجهة باتجاه القامشلي (أكبر تجمع لأكراد سوريا)، وعفرين (ثاني أكبر تجمع للأكراد في سوريا).

 

 

 

 

جهاد «داعش» الذي يتسع لكل شيء…/ حازم صاغية

يتقدم تنظيم «داعش» بمخيلة شيطان وبإصرار مؤمن. وفيما هو يمضي في قتاله على جبهة لم تكن مرة موحدة وطويلة كما هي الآن، يتهافت عليه شبان (وشابات) من سائر أنحاء الأرض. فالأمر، والحال هذه، أكثر من فانتازيا ماضوية تخيلنا ذات مرة أنها المعنى الوحيد لـ «الخلافة».

يوم الخميس الماضي، نشرت «نيويورك تايمز» تحقيقاً كتبه ديفيد كيركباتريك عن هؤلاء الشبان الذين يفدون إلى «داعش» من تونس، البلد الأكثر تصديراً للمجاهدين ممن يقصدون سورية والعراق، على رغم أنها تعيش لحظة ثورية تستغرق البلد وتعبئ طاقاته، كما تشي باحتمالات نجاح نسبية لم تُكتب لبقية الثورات العربية. وهذا فضلاً عن أن الوضع التونسي الجديد فتح الباب لتعددية سياسية استعرضت الأحد الماضي آخر انتخاباتها النيابية التي ستتلوها انتخابات رئاسية، ما ينم عن أن ربط الإرهاب بعامل أوحد، هو هنا القمع، قد لا يكون كافياً أو دقيقاً.

على أي حال، فإن ما ستكتفي به هذه الأسطر هو نقل بعض عبارات تفوه بها شبان تونسيون أجابوا عن سؤال الصحيفة الأميركية: لماذا الحج الجهادي إلى سورية والعراق؟

«هناك الكثير من العلامات على أن النهاية (نهاية العالم) وشيكة، بحسب القرآن»، يقول أيمن، 24 سنة، الذي كان يسترخي مع أصدقائه في المقهى. وهو، مثل سواه، امتنع عن إعطاء اسمه الكامل خوفاً من مطاردة الشرطة.

بلال، عامل في مكتب، كان يجلس في مقهى آخر، هلل لـ «الدولة الإسلامية» بوصفها قاطرة مقدسة ستطيح في النهاية الحدود العربية التي رسمتها بريطانيا وفرنسا مع نهاية الحرب العالمية الأولى: «فتقسيم البلدان (عمل) أوروبي»، كما قال بلال، 27 سنة، «ونحن نريد أن نجعل المنطقة دولة إسلامية سوية، ومن سورية ستكون البداية».

مراد، 28 سنة، وهو الذي قال إنه يحمل شهادة جامعية متقدمة في التكنولوجيا إلا أنه لم يحصل على عمل إلا في البناء، سمى «الدولة الإسلامية» الأمل الوحيد بـ «العدالة الاجتماعية»، ذاك أنها ستمتص مَلَكيات الخليج الغنية بالنفط وتعيد توزيع ثرواتها، فـ «هي الطريق الوحيد لكي تعاد للناس حقوقهم الصحيحة»، كما قال، مضيفاً: «إنها واجب على كل مسلم».

وقد أصر كثيرون على أن أصدقاءهم الذين انضموا إلى «الدولة الإسلامية» أرسلوا تقارير إلى أقاربهم عبر أجهزة الإنترنت حيث يقيمون، مثلما أرسلوا أجوراً، لا بل نساء. «إنهم يعيشون أفضل منا»، كما قال وليد، 24 سنة.

وسام، 22 سنة، قال إن صديقاً غادر قبل أربعة أشهر أخبره أنه «يعيش حياة لطيفة ومريحة حقاً» في ظل «الدولة الإسلامية».

هكذا يلوح الجهاد «الداعشي» حيزاً عريضاً يتسع لكل شيء، للإيماني والخرافي والسياسي والاقتصادي، للمحافظ وصولاً إلى معانقة السلف الصالح وللثوري حتى تدمير هذا العالم ومعانقة العدم المحض، للغيري الذي لا يفكر بنفسه وللانتهازي الذي لا يفكر إلا بنفسه، للأخلاقي الذي يترادف عنده الدين والأخلاق وللسافل الذي يستخدم الدين كي يطعن به الأخلاق، وطبعاً ودائماً للشخصي بما هو وصفٌ لعلاقة الفرد مع جماعة ولمدى تكيفه مع محيط.

هكذا يصير مفهوماً أن يتوجهَ إلى سورية أشخاص يمتون بصلة يعونها إلى الإسلام، وآخرون يمتون بصلة لا يعونها إلى إسلام لا يعونه، وعلى أطراف هؤلاء وأولئك يتسع المجال لشبان لا تربطهم بالإسلام صلة!

الحياة

 

 

 

هل تغير معركة عين العرب التحالفات؟/ زياد حيدر

ينشغل الإعلام عموما بمعركة عين العرب (كوباني) السورية، لدرجة أن نكتة خرجت للعلن، تقول بأن “سوريا تقع جنوب كوباني”.

أسباب الاهتمام الإعلامي بتلك البلدة المتواضعة المحاذية لتركيا، تتغذى من التطورات السياسية، وتترافق مع عناصر جذب مثيرة للمشاهدين، تبدأ من المقاتلات الكرديات بالضفائر الطويلة، إلى هضبة “المشاهدة السينمائية” على جانب بلدة مرشد بينار التركية من الحدود.

لكن السياسة هي المؤثر الرئيسي هنا، لأنها حقيقة الصورة، المتخفية خلف الألوان والتفاصيل. “رمزية المعركة التي توجت زمنيا نشوء التحالف الدولي” وفقا لما يقوله مصدر سوري رفيع المستوى، لـ”السفير”، “هي من أهم العوامل المؤثرة في ضجة المعركة”، والتي “بالصدفة التاريخية” ربما تغذت على عوامل أخرى من بينها “القرب من الحدود التركية، والصراع التركي – الكردي، والقضية الكردية، وطبعا صمود المقاتلين الأكراد، الذين هم بدورهم وجه من وجوه الأقليات في سوريا والمنطقة”.

وأثارت الضجة التي حصدتها معركة عين العرب، كثرا، بين أبرزهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حكومته أحمد داود أوغلو اللذين اصدرا عشرات التصريحات خلال الأسبوعين الماضيين منتقدين التركيز الإعلامي على هذه المعركة تحديدا.

ولم تقتصر التصريحات على انتقاد “الضجة” التي تثيرها المعركة، بل رافقتها عصبية واضحة في الأداء السياسي للأتراك، بدءا باشتراط عدة بنود سياسية وميدانية لدخول التحالف الدولي المعادي لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” – “داعش”، بينها استهداف مواقع النظام السوري عسكريا، وإقامة منطقة عازلة ضمن سوريا، وصولا أخيرا للوعد بإرسال 1300 مقاتل من “الجيش الحر” لمساعدة مقاتلي “وحدات حماية الشعب” الكردي، وذلك بعد وعد مماثل بالسماح لـ200 عنصر من “البشمركة” بالمرور لمساندة أشقتهم القوميين في المعركة، وذلك على الرغم من وصف أردوغان الصريح لـ”قوات حماية الشعب” بأنها “جزء من منظمة إرهابية”.

والاقتراح التركي بإرسال قوات من “الجيش الحر” إلى عين العرب، يبرز القلق السوري أكثر من غيره، على أساس ما قد يكون محاولة بناء إستراتيجية مخفية، لم تحظَ بها سابقا هذه المعركة المثيرة إعلاميا.

ووفقا للمصدر السابق فإن “مبادرة الأتراك المريبة” بإدخال عناصر من “الجيش الحر” إلى المعركة، تجعل قضية عين العرب تتعدى رمزيتها الكردية. ورغم أن قادة أكرادا يعترفون حاليا بوجود مقاتلين لـ”الحر” في عين العرب ينتمون إلى تشكيل “بركان الفرات”، إلا أن الاتفاق على دخول “تشكيلات تخضع للنفوذ التركي” هو ما يقلق الطرفين. ويخشى السوريون أن تنجح مبادرة الأتراك، ما يمهد سريعا لتحول عملية “ردع داعش عن عين العرب إلى محاولة ملء فراغه من قبل قوة واضحة المعالم تديرها الاستخبارات التركية”.

لكن هناك تعقيدات شتى، بينها رفض فصائل عديدة من “الجيش الحر” العمل تحت إمرة الأتراك، ورفض أخرى العمل مع الأكراد، وامتناع بعضها الآخر صراحة عن مقاتلة “داعش”. ويرى المصدر أن هذا “التفاوت في التحالفات” سيكون عاملا مؤثرا في ظروف ما بعد المعركة، ولكن لا احد يعرف كيف سيتبلور؟

واحد من السيناريوهات الظاهرة، هو تحول الانتصار الكردي، والذي هو بشكل أو آخر نجاح للتحالف، إلى قاعدة ترسيخ السياسة الكردية السورية القائمة على تحقيق “استقلال ذاتي” في المناطق الكردية، وهو مشروع كان مفاجئا أن ترحب به وزارة الخارجية الروسية، في بيان، تعليقا على اتفاق “المجلس الوطني الكردي” و”حزب الاتحاد الديموقراطي” مؤخرا في دهوك على “وحدة الصف” بينهما. واعتبر البيان أن هذه الخطوة “نموذج للوحدة ضد الدولة الإسلامية”، مشيرا في الوقت ذاته إلى “اهتمام موسكو باتفاقية إقامة إدارة وقوات موحدة في مناطق كردية في سوريا”. ووصف البيان الاتفاق بانه “نموذج لجميع الأطراف والقوى السياسية السورية، ما يضمن سيادة البلاد ووحدتها، عبر التوحد ومواجهة الارهاب والتطرف الدولي”، برغم إقراره بـ”حاجة هذه الاتفاقية إلى دراسة معمقة أكثر”.

ومقومات “الإدارة الذاتية” موجودة في مناطق الشمال، من دون خفاء، بل يبدو ان هناك “تضامنا” علنيا من قبل السلطات السورية، يرى مراقبون أنه يخفي “تحالفا ضمنيا وظرفيا بين الطرفين”. وتتعدى مقومات الإدارة في مقاطعات الأكراد الثلاث، وهي الجزيرة، عفرين، وعين العرب، وجود “قوات حماية الشعب” وقوات الشرطة، إلى تعليم اللغة الكردية في المدارس، والتجنيد الإجباري، وتشكيل النقابات الخاصة بها، مع الإشارة الضرورية إلى أن مؤسسات الدولة تبقى فاعلة في تلك المناطق، بما يعنيه ذلك من ارتهان سلسة الأجور والرواتب في كل مناطق “الإدارة الذاتية” للدولة السورية.

ولا تخشى الدولة السورية مشروع “حزب الاتحاد الديموقراطي” حتى اللحظة. ويتحدث مذيع نشرة الأخبار السورية، على التلفزيون الرسمي، يوميا بحماس عن “دفاع قوات حماية الشعب الكردية السورية” عن مدينة عين العرب. رغم ذلك، اضطر مصدر إعلامي أمس الأول الى “تذكير الأكراد بأن سوريا لم تتوقف عن مدهم بالسلاح بشكل مباشر وغير مباشر” خلافا لنفي مجموعات مقاتلة منهم ذلك، تعقيبا على تصريحات رسمية سابقة بدعم الحكومة السورية للأكراد المقاتلين في عين العرب.

ولمزيد من شد الخيوط، تردد في اليومين الأخيرين أن القيادات الأمنية في مدينة الحسكة طلبت من “قوات حماية الشعب” الكردية “إزالة حواجزها الأمنية في المدينة” أسوة بما فعله الجيش السوري، باعتبار أن “المدينة آمنة والمعركة الحقيقية خارجها”، خصوصا وأن معلومات أخرى تشير إلى حشد “داعش” قرب مدينة رأس العين، بشكل قد يقلب أولويات المعارك، كما سبق وفعل التنظيم بشكل مفاجئ.

لكن هذا التجاذب، لن يتحول إلى مشكلة في الوقت الراهن، كما تشير المصادر، بل إن هدفه تذكير الأكراد بتحالفاتهم الداخلية، قبل شروعهم “بتغيير حساباتهم وفقا للمعركة الجارية”، خصوصا في ضوء العامل التركي، واتفاق دهوك الكردي، من دون أن يعني ذلك أن “فوبيا كردية” تتشكل لدى الجانب السوري أيضا.

والواقع أن معركة عين العرب أبرزت، في هذا السياق، “الطابع القومي الكردي” وفقا لما يراه الصحافي المختص في الشؤون الكردية خورشيد دللي، بشكل “ألهب مشاعر الأكراد في العراق وتركيا وإيران وخارج المنطقة، على شكل تفجر للحالة القومية الكردية”.

ووفقا لدللي فان معركة عين العرب ستشكل علامة فارقة في اتجاهين، الأول “اتجاه أو سياق الحرب ضد داعش في المرحلة المقبلة”، بشكل يبرز فيه الأكراد “كحلفاء محتملين على الأرض”، والثاني “سياق علاقة الأكراد بأطراف الأزمة السورية على شكل تحدّ متمثل في كيفية التعاطي مع الحركة الكردية ومطالبها”، من دون التغاضي عن أن تعويم الحالة القومية الكردية الآن يترافق مع “إشكالية الحالة الوطنية السورية، سواء من قبل النظام أو المعارضة”.

ورأى أن “النظام، وبحكم غياب وجوده العسكري في تلك المنطقة، بدا وكأنه من دون تأثير فعلي، وبالتالي غير معني بالأمر، فيما التبست مواقف المعارضة في الخارج، ولاسيما الائتلاف، بين موالاة الموقف التركي لارتباطها بها، خاصة في ظل اعتباره حزب الاتحاد الديموقراطي حليفا للنظام، وبين ممارسة الغموض لجهة عدم اتخاذ موقف واضح من معركة كوباني، حتى بدا بنظر معظم أكراد سوريا وكأن الائتلاف مع هجوم داعش للسيطرة على المدينة”.

السفير

 

 

 

 

بكل «داعشيّ» نبني جامعة ومستشفى/ موسى برهومة

بما أن أهداف «الحرب على داعش» غير واضحة، أو، على نحو أدق، غير معلنة، فإن كلفتها والأرقامَ المتصلة بها تبدو متناقضة، لجهة المصدر الذي يطلقها أو يتبناها، لكنّ التقدير المنطقي للوقائع قد يفضي إلى مقاربات نسبية، ولو في حدود «المتوسط الحسابي» للأرقام الواردة في هذه المقالة.

فقد كشفت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، في أحدث تصريحاتها، أن تكلفة القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية بالنسبة الى واشنطن بلغت 424 مليون دولار منذ بدء الضربات الجوية في الثامن من آب (أغسطس) الماضي.

وقال المتحدث باسم البنتاغون إن «القتال يكلفنا يومياً نحو 7.6 مليون دولار تقريباً».

وفي السياق ذاته، كان البيت الأبيض أكد أن الإدارة الأميركية ستحتاج الى ما بين 3 و5 سنوات على الأقل وبكلفة مالية لا تقل عن 550 بليون دولار، وستسعى لتمويل ذلك من الشركاء الدوليين الذين يناهز عددهم، حتى الآن، أكثر من 40 بلداً (بينهم الدول العربية الثرية) سيدعمون «جهود التحالف ضد الشبكة الإرهابية».

ونبقى في لغة الأرقام، التي تشير إلى أن أعداد المقاتلين في تنظيم «داعش» لا تتجاوز الثلاثين ألفاً، وقد أثار هذا الأمر غرابة وسخرية المعلقين على مواقع التواصل الاجتماعي الذي قدّروا كلفة القضاء على كل «داعشي» بكلفة بناء جامعة أو مستشفى ضخم.

ولا تعدم هذه السخرية وتلك الغرابة سنداً يعززها، ويضخّمها. فقد كشف موقع «انترناشونال بيزنس تايمز» الأميركي أنه ذات يوم ثلثاء خلال «الحرب على الإرهاب» تساقط على «دواعش» سورية وحدهم 47 صاروخاً من طراز «توماهوك» ثمن الواحد منها مليون و590 ألف دولار، وأطلقتها مدمرة (USS Arleigh Burke) الأميركية من البحر الأحمر، ونظيرتها (USS Philippine Sea) الراسية في شمال الخليج، ووحدها هذه الصواريخ ثمنها يكاد يصل الى 75 مليوناً.

ويذكر الموقع الأميركي أن كلفة استخدام طائرة «أف 22 رابتور» مثلاً، وهي التي دشنت الولايات المتحدة استخدامها في هذه الحملة لأول مرة، هي 67 ألف دولار في الساعة الواحدة، وهذا المبلغ لا يشمل ما استهلكته من ذخيرة، وأهمها صواريخ (Sidewinder) البالغ سعر الواحد منها 665 ألف دولار.

كما استخدمت «أف 22» قنابل بدأت الولايات المتحدة بإنتاجها هذا العام، يصل ثمن الواحدة منها إلى ربع مليون دولار، وهي هائلة التدمير الدقيق، يسمونها (small-diameter bombs) المعروفة باسم «القنبلة الانزلاقية» الموجهة بوزن 110 كيلوغرامات.

ويترافق الحديث عن تكلفة الحرب على «داعش»، مع ارتفاع أسهم مصنّعي الأسلحة في الولايات المتحدة في البورصة، إذ اعتبروا هذه الحرب «فرصة ذهبية» وقالوا إنها «الحرب المثالية». فهي تعني، بحسب هؤلاء، وهم بالمناسبة شركاء استراتيجيون للبنتاغون، نفقات بملايين الدولارات لشراء قنابل وصواريخ وقطع غيار للطائرات، وتمويل تطوير طائرات فائقة التقدم من مقاتلات وطائرات مراقبة وطائرات تموين.

وإذا ما علمنا أن أكثر من 1.2 بليون شخص حول العالم يعيشون على أقل من 1.25 دولار يومياً، وأن واحداً من كل 5 أفراد في العالم أميّ، أمكننا أن نطل على المعضلة الأخلاقية التي تنخر خطاب أولئك المتحالفين ضد الإرهاب. فلماذا، كما جاء في إنجيل متّى، «تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها»؟

ولماذا نذهب إلى «محاربة الإرهاب» في خلاصاته ونتائجه، ولا نفطن إلى محاربة منابعه، وهي كثيرة ومتشعبة، لكنها ليست عصية على الحصر والمعالجة، إذا توافرت «الإرادة الحقيقية» لمجابهتها، وهي في أغلب الظن غير متوافرة؟ وهو ما يبعث على الظن بعبثية هذه الحرب التي وقودها نحن، سكان هذا الحيّز من الكون المبتلى، منذ فجر البشرية، بالحروب والاستبداد، والممهور تاريخه بالدم المقدس!

* كاتب وأكاديمي أردني

الحياة

 

 

 

أياً تكن الظروف لا ملاذ للإرهاب/ عبد الوهاب بدرخان

ليس لـ “جبهة النصرة” ولا لتنظيم “داعش” ما يجنيانه في لبنان، لا “إمارة” ولا “دولة” اذا كانا يحلمان بهما، لا في عرسال ولا في طرابلس ولا في أي مكان، مهما توافر لهما من شبان متعاطفين لأسباب شتّى لا علاقة لها بأي هدف سياسي أو ديني – جهادي أو اي شيء آخر. وإذا كانت لا تزال لديهما “قضية” في سوريا، ولا يزالان يقاتلان فعلاً ضد نظام بشار الاسد، فليعلما أن اعتداءاتهما على الجيش اللبناني هي أكبر خدمة مجانية يؤديانها للنظام. واذا كانا معنيين بالسوريين النازحين الى لبنان وبأوضاعهم، فإن ممارساتهما عادت بأوخم العواقب على هؤلاء السوريين. أما إذا اعتقد المنظّرون فيهما بأن ثمة طائفة سنّية يمكن أن ترحّب بهما لأي سبب يتخيّلانه فإن ما حصل ويحصل في طرابلس لا بدّ من أن يخيّب آمالهما.

يبقى طبعاً أن يكون التنظيمان باحثين عن الانتقام من “حزب الله” على قتاله الى جانب نظام الاسد، ومن الحكومة والجيش على اعتقال أنصار لهما، أو بسبب هيمنة “حزب الله” (ممثلاً للنظامين السوري والايراني) على القرار اللبناني. لكن الوقائع واضحة في هذا المجال، فلا الدولة ولا الجيش ولا أي طائفة يمكن أن تكون أعطت “حزب الله” تفويضاً للذهاب الى سوريا، ولا “الحزب” تدخّل هناك باسم اللبنانيين.

ومن البديهي أن “النصرة” و”داعش” لا يحظيان بأي مسوّغ لبناني سواء لاجتياح عرسال أو لتحريك صبيانهما في الشمال، فهذا مجرد عمل عصابات لا يمكن أن يُصرف في أي قضية سياسية لا في سوريا الثورة ولا في لبنان.

ما حصل في طرابلس أخيراً له وجوه عدّة. أولها أنه أثبت في الوقت نفسه وجود مخاطر حقيقية وكذلك وجود يقظة أمنية. والثاني أن البؤرة التي كثر الحديث عنها كان لا بدّ من أن تنكشف وتُواجه وتُضرب بلا هوادة بغية التخلّص منها نهائياً. والثالث كان اتضاح الفارق والهوّة بين أبناء طرابلس الذين يرفضون هذه الظاهرة، وليسوا معنيين بها، وبين هؤلاء المسلّحين الذين بلغ اجرامهم حدّ احتجاز حارات بمدنييها كرهائن. والرابع أن اللغة السياسية التي سادت اجتماعات زعماء المدينة لم تخرج عن اطار الاعتماد على الجيش والدعوة المتكرّرة الى تعزيز سلطة الدولة.

كان السؤال الذي طرحه المجلس الشرعي الاسلامي الأعلى لافتاً: كيف نمت هذه المجموعات المسلحة وظهرت في ظل الخطة الأمنية؟ ويبدو الجواب في أن الخطط الأمنية لا تستطيع، بل ليس منوطاً بها، أن تعالج الإهمال المزمن للمدينة والمنطقة على مرّ العهود وتدافع الزعامات. وإذ يترافق الأمن بدعوات دائمة وملحّة الى إنعاش الاقتصاد والخدمات، فإن شيئاً من هذا لا يحصل، ولا يلبث الأمن أن يتدهور متأثراً بالصراع الدائر في لبنان كما في سوريا وبكثرة المستفيدين من توتير المدينة.

النهار

 

 

حرب العبور الكردية

أعلن مسؤولون أكراد في إقليم كردستان العراق عن تحرّك قافلة عسكرية من 40 دبابة وآلية تحمل رشاشات ومدافع وذخائر مع 80 من مقاتلي البشمركة من إربيل متجهين الى مدينة عين العرب (كوباني) الكردية السورية التي يهاجمها تنظيم «الدولة الإسلامية» منذ قرابة شهر، كما أعلنوا أن 72 مقاتلاً آخر سيتبعونهم عبر الجو للإنضمام لمقاتلي حزب «الاتحاد الديمقراطي» و»وحدات الحماية الشعبية» الذين يدافعون عن المدينة ضد الهجوم.

عبور هذه القوات الكردية العراقية باتجاه سوريا يبدو نتاج عملية جراحية دقيقة تمثل اتفاق حدّ أدنى بين أجندات الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وأكراد العراق، ويبدو حزب «الاتحاد الديمقراطي»، ذراع حزب «العمال الكردستاني» التركي داخل سوريا، مضطرّا للتلاؤم معها، في انكسار مؤقت لاتفاق موضوعي له مع النظام السوري (ودعم ماليّ إيراني)، تم بموجبه تسليم مناطق كردية سوريا للحزب، مقابل كسر إمكانيات تحالف العرب والأكراد ضد نظام دمشق، وإبعاد الفئات الكردية المناصرة للثورة السورية عن الساحة، نفياً واعتقالاً واغتيالاً في بعض الأحيان.

مقابل هذا التحالف الموضوعي كان صوت صالح مسلم، رئيس الحزب المذكور، مجيّراً لتجسيد هذه العلاقة العضوية، ولعلّ أسوأ تصريحاته وأكثرها تقصّداً لتخريب العلاقة بين العرب والكرد كانت إنكاره أن نظام الأسد استخدم السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري، وكان إطلاق هذه التصريحات من ممثّل مفترض لشعب تعرّض للقصف بالسلاح الكيماوي سابقاً كان المقصود منه تأجيج غضب الضحايا على الضحايا، وهي اللعبة المفضلة التي يلعبها النظام مع كافة التشكيلات الاجتماعية والإثنية والطائفية في سوريا.

حراك تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا معاً، هشّم التركيبة التاريخية للحدود السورية العراقية، وأعادها إلى لحظة التأسيس بعيد الحرب العالمية الأولى التي طبخها الفرنسيون بإزاحة الملك فيصل الأول عن عرش سوريا، وهزيمته بجيشهم القادم الى ميسلون من لبنان، وكرّسها البريطانيون بتمهيد تقسيم فلسطين، وتأسيس إمارة شرق الأردن، وثبّتها ضباط جائعون للسلطة على ضفتي الفرات ودجلة، فأطاحوا بأسس الاجتماع والسياسة التقليدية وفتحوا الباب لكابوس امتدّ أكثر من خمسين عاماً.

تنظيم «الدولة الإسلامية» نتاج لا عقلاني لهذا الكابوس الطويل الذي شاركت قوى إقليمية (من إيران حتى إسرائيل) في عدم إمكانية انتهائه عقلانياً، غير أن تكسير التنظيم المذكور للحدود أعاد، عملياً، المنطقة بأكملها الى تلك اللحظة المؤسسة، وهو ما جعل من أردوغان، يبدو نوعاً من أتاتورك جديد يحاول الحفاظ على حدود بلاده التي تتهدّدها المخاطر، لكن هذه المرة، ليس من قبل الجيوش التي تحاصرها لتفتيتها، كما في الحرب الكونية الأولى، بل من سياسات حلفائه الأمريكيين.

وعلى الصعيد المحلّي، فإن الأكراد، يشكلون التحدي الأكبر لصيغة تركيا الحاليّة، تجمعهم معاناة من بطش تاريخي مديد ضدهم، ورؤيتهم فيما فعله أكراد العراق، وحزب «الاتحاد الديمقراطي» في سوريا، باباً لدولة قوميّة كرديّة لم يسمح لها تأسيس الشرق الأوسط الجديد أن تتشكل.

ومن هنا يتّخذ عبور أكراد العراق نحو عين العرب السورية لنجدة أخوانهم هناك، معنى مشابهاً لما يفعله تنظيم «الدولة الإسلامية» من لمس خيالات الخلافة الإسلامية، وما يقتضيه ذلك من بغض للحدود القائمة وعمل على تهديمها.

وإذا كان تحالف الأكراد العراقيين مع الغرب وولاؤهم له برّر «اللهفة» الغربية لحمايتهم هناك، فإن التدخل الأمريكي دفاعاً عن حزب كرديّ معاد لتركيا، ومتحالف مع بشار الأسد، بدعوى استهدافه من «الدولة الإسلامية» (في تجاهل لكل ما يفعله النظام والتنظيم في باقي أرجاء سوريا من جرائم) جعل الأمر يبدو دعماً للنظام السوري ولكيان كرديّ مناهض لتركيا، وهي أجندة يمكن للأمريكيين بيعها للإيرانيين والنظام السوري، كما يستطيعون فرضها بسلاحهم وأموالهم على أطراف عديدة، لكنّها، في النهاية، لن تصرف في السوق الهائلة الاضطراب ل»الشرق الأوسط»، وقد تكون نتائجها على الأكراد السوريين عكس ما يخطط له الأمريكيون.

بعض النشطاء السوريين طلعوا بمقولة إن سوريا دولة تقع جنوب كوباني، ساخرين من تعامل الأمريكيين مع البلدة السورية الصغيرة، كما لو كانت أهم من القضية السورية نفسها، في ترتيب فظيع للأولويات يضع الأكراد في عين العاصفة الكبرى التي تهبّ على المنطقة بدلاً من تأطيرها ضمن إطارها العامّ.

عبور الأكراد من العراق إلى سوريا، على ضآلة حجمه، قد يكون عبوراً من تاريخ قاس إلى تاريخ أقسى، والشكر في ذلك يعود، مجدداً، إلى أمريكا!

 

رأي القدس

القدس العربي

 

 

 

سخرية التاريخ: «داعش» ينسف الخريطة لاستدراج التقسيم/ عبدالوهاب بدرخان

ما تتعرّض له منطقة الشرق الأوسط والخليج هو نتيجة «سياسات خاطئة»… هكذا، ببساطة، أو بالأحرى بفجاجة. والأسوأ أن هذه السياسات تقود إلى حروب لا تعالج الأخطاء بل تضاعفها وتعقّدها، وبالتالي فإن نهايات الحروب ستفضي إلى نتائج مكرّسة للأخطاء، بدليل أن محاربة تنظيم «داعش» باتت المدخل الدولي – الإقليمي إلى حل الصراعات بإعادة رسم خرائط الدول. إن لم يكن ذلك قمة الاختلال فهو بالتأكيد ذروة السخرية من التاريخ.

تلك الذريعة – السياسات الخاطئة – جرى تراشقها بين خبراء حملوا بشكل رسمي أو شبه رسمي وجهات نظر الولايات المتحدة وروسيا، وتردّدت بصيغ شتّى في نقاشات «ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي» الذي نظمّه «مركز الإمارات للسياسات» (19 و20 تشرين الأول/ أكتوبر)، وشكّل عرضاً نقدياً لمجمل استراتيجيات القوى الدولية الكبرى وأثرها في بلورة نظام إقليمي «جديد».

ثمة خلاصات تبقى في الأذهان: فالخطوة التي اعتبرت عظيمة وضرورية في حينها، ولا تزال الأهم في «إرث» باراك أوباما، هي نفسها «الخطأ» الذي أدى إلى فرقعة الكيان العراقي. ذاك أن الانسحاب الأميركي بنهاية 2011 كان لا بدّ منه لأنه كان مطلوباً بإلحاح في الولايات المتحدة، لأسباب كثيرة أهمها الأزمة الاقتصادية، لكنه تمّ بشروط نوري المالكي وإيران اللذين لم يتأخّرا في كشف مغزاها فور مغادرة الجندي الأميركي الأخير. إذ كان الأهمّ من الانسحاب أن يعرف الأميركيون ماذا يخلّفون وراءهم ويعترفوا به ويتأكّدوا من أن انسحابهم يتزامن مع حلّ أبرز الإشكالات التي ترتّبت عن الغزو والاحتلال. لم يفعلوا، على رغم أنهم نبّهوا مراراً إلى حتمية إجراء «مصالحة وطنية». ولعلهم لا يلامون على ما ارتكبه المالكي وإيران في ما بعد، إلا أن الوضع الحالي يبدو في كثير من ملامحه نتيجة لتقصيرهم ويشكّل «محاكمة» غير معلنة لـ «الخطأ» الذي اضطرّهم لـ «عودة» لم يرد أوباما الذهاب إليها. وأصبح مفهوماً أن «رفض القوات الأجنبية» على أرض العراق، كما تردّده طهران وبغداد اليوم، كأنه مقتبس من خطاب ما قبل الانسحاب، بل إنه يستبطن استياء إيران من عدم الطلب إليها لسدّ العجز الفادح في بنية الجيش العراقي.

بعدما أقرّ أوباما شخصياً بـ «سوء تقدير» لخطورة تنظيم «داعش»، لم تعد هناك أي حواجز أمام انكشاف «مسلسل الأخطاء» في النمط الذي اختارته إدارته لإدارة الأزمة السورية، في تعاملها مع النظام والمعارضة على السواء، وفي ركونها للألاعيب الروسية والإيرانية والإسرائيلية. لم يكن التلكؤ في تسليح «الجيش السوري الحر» هو المشكلة الوحيدة، بل تبيّن الآن أن كل أشكال التردّد التي أبدتها واشنطن استُغلِّت من جانب موسكو وقُرِأت على نحو إيجابي في دمشق وطهران، فضلاً عن أنها منعت قيام «تحالف دولي» حقيقي وفاعل لمواجهة بشار الأسد، فلو وُجد هذا التحالف حقاً لكان انعكس على «تماسك» النظام وأطلق ديناميّات فعلية لإيجاد «بدائل» من داخله. وعلى رغم أن القتال الذي خاضته المعارضة السورية ضد «داعش» وأحياناً ضد «جبهة النصرة» سلّط الضوء على استغلال الأسد لمسألة «الإرهاب»، استدراجاً واجتذاباً وتنسيقاً، وهو ما كان واضحاً للعيان، وبالأخص للأميركيين، إلا أنهم لم يعترفوا بالواقع إلا بعد اجتياح «داعش» المحافظات السنّية في العراق وتلقّيهم طلباً للمساعدة من المالكي، وهنا ظنّ الإيرانيون أن أميركا، إذا لبّت الطلب، ستضطر للتكيّف مع اللعبة الوحيدة الدائرة في المنطقة، لعبتهم، ما يرأب الصدع الذي أصاب «هلال» نفوذهم.

من الخلاصات أيضاً أن «السياسات الخاطئة» المؤذية للمنطقة وشعوبها لا تقتصر على الجانب الأميركي، ففي الحال السورية تحديداً لم تستطع روسيا وإيران (والصين) برهنة أن مساندتهما العمياء لنظام الأسد كانت سياسة جيدة لسورية، ولا للمنطقة، والأهم أنهما لم تثبتا ادعاءهما السعي إلى تقديم «بديل» أفضل من السياسات الأميركية. فهذه مدمّرة وتلك تنافسها في التدمير. وبالتالي فالقطبان الدوليان شكّلا معاً عنصراً محفّزاً على التطرف وصانعاً للإرهاب. وفيما هما يتراشقان تهماً بعدم الجدية في محاربة الإرهاب فإنهما يبحثان معاً عن استفادة مديدة من الإرهاب. فأقصى ما تطمح إليه أميركا هو «احتواء داعش» وليس «إنهاءه»، وليس في ذلك ما يعارض رغبات إيران المتموضعة لجني المكاسب من ضرب إرهاب مصنّف «سنّياً» في حين أن الإرهاب والتطرّف اللذين ترعاهما لم ينتجا سوى «مناضلين شيعة» في المصطلحات الغربية. أما روسيا فتتطلّع إلى «الحرب على داعش» كتغطية مثالية لإشغال المجتمع الدولي عن مغامرتها المستمرّة في أوكرانيا، من دون أن يمنعها ذلك من اجترار «ضرورة اللجوء إلى مجلس الأمن» الذي أقفلته، أو «ضرورة العمل (ضد الإرهاب) مع الحكومات الشرعية» تحديداً في سورية.

يبقى على رأس قمة الأخطاء رسوخ العجز الأميركي عن تحريك الوضع الفلسطيني – الإسرائيلي نحو سلام، قد يكون عجزاً أو «رغبة» أو حتى سياسة واعية ومبرمجة. فالمفاوضات السابقة استطاعت، على رغم إخفاقاتها، أن ترسم صورة لـ «سلام» ممكن، إلا أن ملامحها لا تنفكّ تبهت وتتناقص. وعندما قال جون كيري أخيراً أن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين «ضروري للانتصار على الإرهاب» كانت عبارته تاريخية بإخراجها مكنونات لا يُباح بها عادة في شرح السياسة الأميركية، غير أن تاريخيتها لا تعني فاعليتها، خصوصاً بعدما مسّت عصباً حسّاساً عند الإسرائيليين فاستشرسوا في الإجهاز عليها. لذلك تبقى الأخطاء والتلفيقات لا الحقائق هي المحرّكة لسياسات واشنطن، وينطبق ذلك على مقارباتها لمختلف القضايا، من رهن سياستها تجاه مصر بموقف انتهازي لمصلحة جماعة «الإخوان المسلمين»، إلى موقف مشابه في التعامل مع أزمة ليبيا، إلى أداء مشتبه به حيال أزمة البحرين، إلى سكوت مريب عما يجري في اليمن على رغم أن أميركا راعية أساسية للمرحلة الانتقالية. وما لا يقوله مسؤولو الإدارة الأميركية يمكن أن يفصح عنه مسؤولون سابقون صاروا خبراء في مراكز أبحاث: كأن يقرروا مثلاً أن الانقسامات العربية هي التي جعلت من إيران «قطباً إقليمياً»، أو ينطلقون – هكذا! – من فرضية أنهم أمام خواء وغياب عربيين ليسألوا: مع مَن يمكن أميركا أن تدير استراتيجيتها، ومع مَن تريدونها أن تعمل؟ والسؤال يضمر الجواب: ليس هناك سوى إيران… ذاك أنهم محوا مآخذهم طوال خمسة وثلاثين عاماً على إيران وبرمجوا ذاكرتهم على عنصر واحد فقط: البرنامج النووي، وعلى مصلحة واحدة: أمن إسرائيل.

تلك ليست أخطاء فحسب. إنها بالتأكيد اختلالات في النظام العالمي المبحر في تحوّلات صراعية غير واضحة المعالم، فتأخذه الأمواج حيناً إلى استقطابات جديدة (اتجاه أميركا نحو الشرق الأقصى) وتردّه حيناً آخر إلى رواسب «الحرب الباردة» (قضية أوكرانيا). لكن أخطاء سياساته المتحوّلة وإفرازاتها صبّت في منطقة عربية دخلت هي الأخرى في مرحلة تحوّل كشفت ضعف «الدول» بمؤسساتها الركيكة وتعويلها المزمن على العنف أداة للحكم، كما كشفت هشاشة المجتمعات التي استعادت سريعاً انقساماتها الطائفية والمذهبية، وتصاعد فيها دور «الفاعلين غير الدول» في نسخة «داعش» التي تبدو الأكثر قوةً وتبلوراً. وفي ذروة هذا الاختلال تمسّ الحاجة إلى حلول سياسية وتسويات تاريخية، لكن ثمة عاملَين سلبيَين يحولان دونها: دول عظمى بسياسات وضيعة، وأنظمة وتنظيمات إرهابية. ولعل المشترك الوحيد بين هذه وتلك أنها ضد الشعوب، فهي تتفق ضمناً بالأهداف على رغم التباين الظاهر في طبيعتها.

من الواضح أن التحوّلات العربية وقعت في أفخاخ الصراع الدولي واستخدامه للإرهاب أداة عقاب وابتزاز لمجمل المنطقة. قبل نحو مئة عام التقى نهج إنهاء الاستعمار مع توق الشعوب إلى الاستقلال وتجسيد الوطنيات فرُسمت الخرائط بهاجس إنشاء دول يمكن أن تكون لجميع مواطنيها. أما اليوم فستتولى تلك السياسات الخاطئة ترسيماً جديداً لكن هذه المرّة بتعاقد بين القوى الدولية والإقليمية على تنصيب الميليشيات الطائفية وإرضاء نوازع الإرهاب والانفصال على أساس أن «داعش» هو من نسف الخريطة السابقة.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

 

 

الخائفون من “إبادة السنّة”/ زهير قصيباتي

ذروة الاشتباك الإيراني- التركي والتراشق بالاتهامات علناً بين طهران وأنقرة لن ينقذا ولو قرية سورية من حمّامات الدم التي حوّل تنظيم «داعش» اهتمام العالم بها إلى حرب التحالف الدولي… والأهم إلى حال تعبئة من الشرق إلى الغرب، لاتقاء شرور الإرهاب.

ذروة الاشتباك الإيراني- التركي مرآة واضحة للمأزق المزدوج الذي تجد كل من طهران وأنقرة نفسها فيه: فلا جمهورية أردوغان متحررة من الضغوط الخارجية (الأميركية) والداخلية (الأكراد وقنبلة التفاوض مع أوجلان)، ولا جمهورية خامنئي مطمئنة إلى خلاص نهائي في المفاوضات (النووية) مع الغرب، وإلى أي خشبة تنقذ حليفها النظام السوري… بعد كل «التضحيات» التي تحمّلتها.

وتحميل إيران تركيا مسؤولية «سقوط أعداد كبيرة من القتلى في صفوف المدنيين السوريين الأبرياء»، إذ يحمل في طياته نكتة سوداء تذكّر بحال الذي مشى في جنازة ضحيته، يفضح ببيان رسمي غضب طهران من إصرار الرئيس رجب طيب أردوغان على المطالبة بتغيير نظام الرئيس بشار الأسد. وإن كان بعض الخبثاء لا يسلّم في المقابل، بمؤشرات انتقال العلاقات الأميركية- التركية إلى خطوط التوتر العالي، خصوصاً بسبب معركة عين العرب (كوباني) السورية، ورفض أردوغان إرسال قوات برية لاقتلاع «داعش» منها، فالحال أن أنقرة لا ترى ضيراً في ترك التنظيم يمهّد لـ «تطهير» المدينة وضواحيها من الوجود الكردي. المهمة ذاتها ستيسّر على الأتراك تعبيد الطريق الى المنطقة العازلة، الخالية من أي وجود للنظام السوري ولحلفاء حزب العمال الكردستاني.

عملياً، يقتدي أردوغان بالرئيس الأميركي باراك أوباما الذي كاد أن يقول للعراقيين «إقلعوا أشواككم بأيديكم» والجيش الأميركي ليس للإيجار، لذلك لن يرسل «المارينز» إلى العراق لقتال «داعش»، وإنقاذ بغداد وإرسال باقة ورود لطهران، بعد إنجاز المهمة… بل بين العرب مَن تساءل لماذا يتطوعون لاستئصال ورم «داعش» في خاصرة إيران العراقية، فيما طهران لا تكفّ عن التشكيك في نياتهم.

يقتدي أردوغان بأوباما: لماذا نقاتل نيابة عن الجميع، الأميركيين والحلف الأطلسي، وعن العرب أيضاً الذين يرفضون إرسال قوات برية إلى سورية والعراق؟

هي حرب مُكلِفة، صحيح أنها قد تدوم سنوات، لكنّ الثمن الباهظ لن يهبَ العراقيين ولا السوريين ضمانات بأن النتائج ستكون فردوساً لأرضهم. وإن كان بعض المتشائمين يطرح نموذج «عودة الروح» إلى «طالبان» رغم كل ما تكبّده الحلف الأطلسي والأميركيون خصوصاً من أرواح جنودهم، فالمفارقة أن الحرب على «داعش» التي فرضتها ضرورات إنقاذ كيانات في المنطقة، ليست مضمونة النتائج ايضاً… فكيف إذا فرضت تعايشاً قسرياً مع دويلات «الدولة الإسلامية»؟

صحيح أن الضربات الجوية عرقلت زحف «الدولة»، لكن البنتاغون نفسه لم يجرؤ على التورط بإشاعة تفاؤل بالقدرات العسكرية الأميركية، وبإمكان استعادة الموصل مثلاً خلال أشهر أو سنة.

وأما الاشتباك الروسي- الأميركي في أوكرانيا الذي جعل نوافذ موسكو على الغرب في الحضيض، فلا يتيح كذلك توسيع جبهة الحرب على «داعش»، ولا ومضات تفاؤل بمسار يستعيد «جنيف2». وكلما تمدّدت رياح الحرب الباردة بين عناد موسكو، وإصرار واشنطن على رفض التطبيع مع نظام الأسد، ورفض الخضوع لأي مقايضة إيرانية لإنقاذ رأسه… طال أمد الكابوس السوري فيما محنة العراقيين تعيد إنتاج ذاتها.

في الجو، يدعم الطيران الحربي الأميركي القوات العراقية لصد «داعش»، وقطع شرايين إمداداته… على الأرض لم تبدأ حكومة حيدر العبادي بعد نزع ألغام الأحقاد والعنف والتطرف. عشر سنين مضت كانت كافية لشرذمة العراقيين، وتخصيب مشاعر الاضطهاد والظلم لدى السنّة الذين تعتبر هيئة علماء المسلمين أنهم قد يصبحون ضحايا «حرب إبادة» بذريعة محاربة «داعش».

وبين سنّة وشيعة وعلويين وأكراد، وأتراك وإيرانيين، و «داعش» و «دواعشه»، ضحايا من الجميع، ورعب من حروب إبادة.

الحياة

 

 

 

الأكراد أيضاً يخرقون سايكس – بيكو/ حسان حيدر

على رغم القلق الشديد الذي يعتري الدوائر التركية الحاكمة من الانتصار الذي قد يحققه الأكراد في كوباني السورية على «داعش» في حال وصلت إمدادات «البيشمركة» الكردية العراقية إلى المدينة وواصل التحالف الدولي قصف قوات التنظيم المتطرف من حولها بفاعلية، فإن الحزب «العثماني» الإسلامي الحاكم في أنقرة يبتسم في سره لأن قضية المدينة المحاصرة تكاد تتحول برمتها ورقةً رابحة في يده.

وسر ابتسامة الأتراك ليس فقط لأن مقاتلين أكراداً يسقطون برصاص غير رصاص جيشهم، أو لأن دور أنقرة عاد إلى الواجهة في الأزمة السورية- العراقية بعد انحسار، بل خصوصاً لأن وصول «البيشمركة» عبر الأراضي التركية يفتدي عملياً الجيش التركي الذي رفضت قيادته السياسية إقحامه في معركة كوباني، لأسباب تتعلق بنزاعها المستمر مع الأكراد ورفضها مطالبتهم بحكم ذاتي فعلي.

وبطريقة ما، يشكل عبور المقاتلين الأكراد من العراق الى سورية في نظر أنقرة خرقاً ضمنياً، وباعتراف دولي، لاتفاق سايكس– بيكو الذي ينتقده رجب طيب أردوغان بشدة ويعتبر أن الحدود التي رسمها بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، تشكل عائقاً رئيسياً أمام فكرة «العودة» إلى المشرق العربي التي اتخذها شعاراً لحكمه.

ومع أن حسابات الأكراد لا تتطابق إطلاقاً مع حسابات الأتراك، إلا أن خرق الاتفاق الفرنسي– البريطاني الذي بدأه «داعش» بإعلانه «دولة الخلافة» على مناطق متداخلة من العراق وسورية، يغري الطرفين على حد سواء، فالأكراد أيضاً يرون فيه إحدى العقبات أمام وحدة شعبهم، ويدركون أن اضمحلال بعض الحدود قد يوسع تقاربهم ويعزز دورهم في المنطقة، من دون أن يصل الأمر إلى حد الاعتراف سياسياً وقانونياً بهذا الدور.

أما الأتراك فيبدون مطمئنين إلى أن الأكراد لن يجنوا فائدة سياسية كبيرة من خرق الاتفاق، وخصوصاً لجهة حلمهم الدائم بإنشاء «دولة مستقلة»، لأن عقبات أخرى كثيرة وكبيرة تحول دون قيامها في مناطق الانتشار الكردي، لا سيما أن «الوصلة» الرئيسية في جنوب شرق تركيا تخضع لسيطرتهم الصارمة، ولأن الأكراد في إيران لم تقم لهم قائمة بعد سحق أحزابهم وقادتهم في حملات عسكرية متتالية بين العامين 1980 و2005، واستمرار الرقابة المشددة على مناطقهم حتى الآن.

الحماسة التركية مردها أيضاً إلى أن وصول رجال «البيشمركة» العراقيين سيقلص نفوذ ودور «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، الذي تعتبره أنقرة النسخة السورية من «حزب العمال الكردستاني» وتتهمه بالعمالة للنظام السوري، بسبب فشله في الدفاع عن أكراد كوباني، بعدما تبجح رئيسه صالح مسلم بأن لديه 50 ألف مقاتل جاهزين لمواجهة «داعش».

وتركيا مرتاحة كذلك لأن النظام في دمشق لا حول له في ما يجري على الأرض السورية، على رغم محاولته «استلحاق» نفسه، بزعم أنه يقدم مساعدة عسكرية لأكراد كوباني، ولأن خرق السيادة السورية على يد الأكراد العراقيين يتم على مرأى من بشار الأسد من دون أن يستطيع اتخاذ موقف ضده، بعدما وافق هو نفسه على خرق الأميركيين وحلفائهم هذه السيادة، عندما رحب قبل أسابيع بغارات التحالف الدولي ضد «داعش».

الحياة

 

 

 

 

داعش والتحالف أم خيار آخر؟/ معين الطاهر

ينبغي القول، منذ البدء، إن داعش والتحالف الدولي خيار واحد متبلور ومكتمل الأركان، وقطعاً ليس لنا أن نختار بينهما، ففي اللحظة التي نختار أحدهما نكون قد اخترنا وجهاً من وجهي عملة واحدة، تلزمنا، شئنا أم أبينا، أن نرى الوجه الآخر لها، ونرضى بتداوله بيننا. هو خيارواحد يجمع بين التخلف والإقصاء وتفتيت المنطقة والاتجاه نحو إحلال التفسير المشوه للمذهب مكان الدين الواحد، وتقسيم الوطن وأبنائه دويلاتٍ بحجم المِلل التي تتقاتل والنحل التي تتوالد. ويسمح بنهب مواردها، وتجفيف ينابيعها وسيادة الديكتاتورية والطائفية والاستبداد فيها. وجهان للعملة نفسها، كل منهما يمد الآخر بأسباب قوته واستمراره في طغيانه، ويدفع الآخرين نحو الاستقطاب باتجاه قطبين في عملية كيميائية بسيطة، من دون وجود أحدهما لا تكتمل المعادلة، ولا تتم.

هما طرف واحد، نعم. ليس لأن داعش صناعة أميركية، كما يحلو لبعضهم أن يبسط الأمور ويشرحها. وقد قيل عنها، قبل ذلك، إنها من صناعة مخابرات الأسد وغيرها من الأجهزة الأمنية، أو أنها حظيت بتمويل وتوجيه من بعض دول الخليج. قد تتمكن أطراف من توجيه داعش، وجرها عبر سياساتها إلى المربع الذي تريد، أو المعركة التي تختار. وهو شيء معروف في علم السياسة والحرب، أن تتمكن من دفع خصمك إلى الزاوية التي تريده أن يكون فيها.

داعش هي صنيعة الاستبداد وأنظمته، ونتاج للطائفية والمذهبية، وإقصاء الآخر وتهميشه، وغياب العقل وانحراف الرؤية عن العدو الرئيسي. هي صنيعة تلك السياسات التي بدأت بشعار إقصاء البعث في العراق، وطالت أكثر من مليون ونصف المليون مواطن، وحل الجيش العراقي الوطني الذي أصبح خيرة ضباطه وجنوده في صفوفها. ثم امتدت سياسات الإقصاء لتطال أقساماً كبيرة من الشعب، ضمن منظور طائفي غريب عن أمتنا ووحدتها. داعش صنيعة حرب أهلية في سورية طالت الأخضر واليابس، في أكبر كارثة عربية منذ نكبة فلسطين وأهلها. في هذه الحرب الأهلية المجنونة، حلت الكوابيس مكان الحلم بالحرية وبغد أفضل وبوطن حر. في هذه الأجواء، نمت داعش وازدادت قوة، وستنمو أكثر في ظل القصف الجوي والصاروخي الأميركي.

يقول التحالف (60 دولة) إنه يحتاج بين ثلاث إلى ست سنوات لإضعاف داعش، إضعافها فقط، ثم يحتاج إلى عدد غير معلوم من السنين للقضاء عليها، هي وصفة لحرب مفتوحة مستمرة، لا أفق لها في منطقتنا. وقد تمتد لتشمل أجزاء أكبر من حلمنا الذي يئن بين التحالف وداعش. تصرفات داعش وذبحها وسبيها مبرر لاستمرار الهجمة على منطقتنا، ليس للقضاء على داعش، والتي إذا تم القضاء عليها يختفي مبرر وجود التحالف، وتبحث الشعوب ساعتها عن خياراتها، وإنما لحماية الاستبداد، وتقسيم المقسم وتفتيته، وترسيخ الكيان الصهيوني جزءاً أساسياً من منظومة المنطقة، وتحالفات أنظمتها، وامتصاص ما تبقى من خيراتها ومواردها.

داعش ستنمو تحت ضربات التحالف التي تأتيها من السماء، وتمنحها مبرراً لوجودها، من دون أن تنال منه، وستفرخ دواعش أخرى، وتمتد لتحارب خصوماً صنعتهم هي بأيديها. وهي، حتى الآن، لم تقاتل سوى ملتها، ولم تحتل أرضاً، خصوصاً في سورية، إلا وكان يسيطر عليها حلفاء الأمس وأعداء اليوم. وفي نهجها أن من لم يبايع خليفتها هو عدو لها، وحكمه حكم المرتد، وقتاله أولى من قتال الأعداء. أعداء التحالف ليسوا أصدقاءها، وليست معنية بصداقتهم أو بكسبهم. هي مشروع لقتال في جبهتنا الداخلية، بل، وفي حاضنتها الأولى التي تشكلت بفعل الإقصاء الطائفي والمذهبي والحرب الأهلية. ترتد عليها لتقسم المذهب، وتفتت الطوائف، وتمزق نسيج الأمة، المتوحد بكل أديانها وطوائفها وقومياتها ومذاهبها.

نحن أمام إعادة تشكيل لمنطقتنا، بل ولهويتنا الحضارية، ولحاضرنا ولمستقبلنا، يتفق عليه ضمناً الدواعش والتحالف، ويكمل كل منهما دور الآخر، في تحالف تاريخي بين الاستبداد والقهر والاستعمار والتخلف. ويقود الأمة بأسرها إلى كارثةٍ محققةٍ، قد تفضي إلى انتهائها كأمة ذات حضارة وتاريخ مستمرين نحو مستقبل مجهول عواقبه. وهنا، ثمة سؤال يتفجر في الذهن، هل هذا هو قدرنا ومصيرنا؟ أم أن ثمة خيار آخر لنهوض الأمة، وتطلعها نحو مستقبل يزخر بالحرية والوحدة والأمان؟

في ظني ويقيني أن ثمة خياراً ثانياً لا بديل عنه، وقد يكون وحيداً أمام كل المتطلعين إلى رؤية وطنهم على امتداده حراً سيداً موحداً، وله مكانته الطبيعية بين الأمم. ينطلق هذا الخيار من ضرورة وحدة كل القوى الحية في وطننا العربي، على اختلاف مشاربها السياسية ومنابعها الفكرية، على قاعدة محاربة الاستبداد والفساد وحق الشعوب في الحرية، والتخلص من التبعية للأجنبي، ومساواة مواطنيها على اختلاف أصولهم وطوائفهم ومذاهبهم، ومحاربة الإقصاء والمغالبة والتأكيد على أن أمتنا ما زالت في مرحلة التحرر الوطني والبناء، ما يستدعي تشكيل جبهات وطنية عريضة في شتى المناحي، من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، وتغليب التناقضات الرئيسة، دوماً، على الثانوية منها. هذه الأهداف لا يمكن أن تتحقق، أو تتحد الأمة وقواها حولها، إلا إذا كانت فلسطين ومحاربة الكيان الصهيوني فيها والنفوذ الإمبريالي في منطقتنا في القلب منها، وأساساً متيناً لانطلاقها، باعتبارها قضية عربية جامعة، توحد ولا تفرق، وتمنع العدو من التوغل في عمق أمتنا، وتضع أمامها عدوها الحقيقي لمقاتلته، وتوجيه كل أسلحتها نحوه، بدلاً من الأهداف الوهمية الزائفة التي تغرر بشباب الأمة، وتمعن فيها اقتتالاً وتفتيتاً وتقسيماً.

هذا هدف جمعي للأمة بأسرها، إن أرادت الإفلات من واقعها المرير، والتخلص من ثنائية داعش والتحالف، والتقدم خطوات نحو الأمام، وهو، بلا شك، يحتاج إلى برامج وسياسات ورؤى وأهداف أكثر تفصيلاً، قد يكون موضوعها في حلقات ودراسات وأنشطة أخرى نساهم فيها جميعاً.

العربي الجديد

 

 

جسر عبور تركي إلى سورية/ مصطفى زين

عندما استصدرت الإدارة الأميركية قراراً من مجلس الأمن لمحاربة الإرهاب المتمثل بـ «داعش»، وقررت تشكيل تحالف دولي يضطلع بهذه المهمة، بدت على خلاف مع حلفائها التقليديين، خصوصاً تركيا، فضلاً عن إسرائيل وهي الشريك الفعلي غير المعلن في هذا التحالف.

تمحور الخلاف بين أنقرة وواشنطن حول نقطتين: الأولى رفض حكومة أردوغان تعهد وقف دعم المسلحين السوريين «غير المعتدلين»، خصوصاً جبهة «النصرة»، وهي الجناح المسلح لـ «الإخوان المسلمين» في سورية، (تدعمها قطر أيضاً). والنقطة الثانية إصرار حكومة أردوغان على مواصلة الحرب حتى إسقاط النظام السوري. وليس في حساب واشنطن الآن الإقدام على هذه الخطوة لأنها تتطلب وقتاً طويلاً، وانخراطاً أميركياً في حرب جديدة في الشرق الأوسط الذي قررت مغادرته إلى شرق آسيا، من دون التخلي عن الإقليم عندما تستدعي المصلحة ذلك، مثلما هي الحال الآن مع «داعش».

فضلاً عن ذلك، ترى الولايات المتحدة أن استرتيجية إسقاط الأسد أثبتت فشلها، خلال أكثر من ثلاث سنوات خلت، لأسباب كثيرة، أهمها شرذمة المعارضة وولاءاتها للخارج المتعدد الإتجاهات، وتحولها إلى مجموعات تخوض الحرب نيابة عن الآخرين، ولكل منها أهدافه في بلاد الشام وفي الإقليم.

لكن يبدو أن البيت الأبيض أقنع أردوغان بالتريث قليلاً في عملية إسقاط الأسد لأن «المعارضة» غير جاهزة لليوم التالي، ويجب تأهيلها سياسياً وعسكرياً. وقد بدأ تدريب «المعتدلين» وتسليحهم.

في هذا الإطار، قال المنسق بين دول «التحالف» الجنرال جون ألن: «نود أن يصبح الجيش السوري الحر والقوة التي سنشكلها وندربها ونجهزها ذات صدقية، وعلى حكومة الأسد أن تعترف بها في نهاية المطاف».

وأضاف: «لن يكون هناك حل عسكري. إن النية ليست تحرير دمشق. يجب أن يكون للمعارضين صوت واضح بل الصوت الأعلى، عندما يجلسون إلى طاولة المفاوضات». وأكد أن «ما نسعى إليه في سورية استراتيجية إقليمية تشمل الشرق الأوسط، والأسد ليس طرفاً فيها».

إذاً، هذه هي الإستراتيجية الأميركية في سورية. تهيئة مسلحين «معتدلين» ليشكلوا جيشاً مقابل الجيش الرسمي، وتحضير المعارضة السياسية للتفاوض مع الحكومة، على غرار ما حصل في جنيف، وتأهيلها كي تصبح جزءاً من خطط واشنطن للشرق الأوسط، بما يعنيه ذلك من استعداد لرفض سياسات النظام في ما يتعلق بإسرائيل وإيران و «حزب الله» والمعارضة الفلسطينية، أي تطبيق الشروط العشرة الشهيرة التي أبلغها كولن باول إلى الأسد أيام كان وزير خارجية في عهد جورج بوش الإبن. ويبدو أن المعارضات كلها مستعدة لتنفيذ شروط باول، لكن البيت الأبيض يحتاج إلى وقت للتأكد من ذلك، إذ لا تكفيه زيارة هذا المسؤول إسرائيل (كمال اللبواني) أو التفاهم بين «النصرة» وتل أبيب في الجولان، أو التهجم على سياسة طهران، ويعتبر كل ذلك سلوك أطراف لا يأمن جانبها على المدى الطويل، والأهم أن تأثيرها في الداخل شبه معدوم، عدا بعض العمليات العسكرية التدميرية.

معتمدة على حاجة الولايات المتحدة إليها في المواجهة الكبرى مع روسيا وفي الشرق الأوسط، عارضت حكومة أردوغان هذه الإستراتيجية، وأصرت على إطاحة الأسد أولاً، ثم تولي الأمور في سورية، بمساعدة «حلفائها» في المعارضة. لذا استغلت أنقرة الوضع في عين العرب، لترسل أنصارها من «الجيش الحر» و «بيشمركة» بارزاني الكردية إلى هذه المدينة لمحاربة «داعش» لتنفيذ سياستها الخاصة التي تلتقي مع الإستراتيجية الأميركية في بعض المحطات وتفترق عنها في أخرى.

مئات المقاتلين الذين نقلتهم تركيا إلى عين العرب ليس لهم أي تأثير في المعارك، وسيتبعهم آخرون ليشكلوا جسر عبور آمن، وغطاء للجيش التركي الذي يشرف على انتشارهم ويخطط لمعاركهم.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى