صفحات العالم

مقالات لكتاب عرب تناولت “داعش”

داعش تدمّر الثورة العراقية بتهجير المسيحيين/ إياد الدليمي
كنا نتمنى أن تؤجل الدولة الإسلامية “داعش” تطبيق شرعها وفقهها وأحكامها على البلاد والعباد، إلى حين أن تحقق الثورة العراقية أهدافها، غير أنها، وكعادتها، لا تنتظر، فهي مشغولة دوماً بتطبيق ما تقول إنه شرع الله، فكان أن خيرت مسيحيي الموصل ونينوى بين الإسلام أو الجزية أو السيف، الأمر الذي اضطر مئات من تلك العوائل لمغادرة المدينتين مضطرين، ونينوى كانت، ومازالت، أقدم قلاع المسيحية في العالم، وليس الشرق الأوسط فحسب.
عندما انطلقت شرارة المعارك في مدينة الأنبار، نهاية العام الجاري ومطلعه، بحجة أن خيم الاعتصام كانت تأوي قياديين في القاعدة، بحسب اتهام الحكومة العراقية، اضطر أبناء العشائر في محافظة الأنبار لحمل السلاح، والدفاع عن مدينتهم، خصوصاً بعد أن أقدمت تلك القوات على اعتقال النائب أحمد العلواني، من داخل منزله في الرمادي، ومقتل شقيقه، وعدد من حمايته، وهو أمر له ما له بالنسبة لمدينة عشائرية، مثل الأنبار، ناهيك عن الحصانة التي يتمتع بها العلواني.
يومذاك، لم يفلح المالكي، وحزبه، في إلصاق تهمة القاعدة أو داعش بثوار عشائر الأنبار، على الرغم من كل محاولاته، وعلى الرغم من كل ما بذله إعلامه والإعلام العربي المتحالف معه، فكان أن استمرت المعركة وطالت وكبدت جيش المالكي خسائر كبيرة بالأرواح والمعدات، من دون أن تتمكن تلك القوات من اقتحام مدينة الفلوجة، بعد سبعة أشهر من بدء القتال.
فجأة، ومن دون حتى بوادر أولية، انضمت مدن أخرى للأنبار في قتالها، مدن الاعتصامات الستة، فكان أن انهار الجيش العراقي أمامها يوم العاشر من يونيو/ حزيران الماضي، وسقطت الموصل بيد الثوار، وبعدها المدن الأخرى، وكان السؤال متى سيدخل الثوار بغداد؟ غير أنه بقي سؤالاً معلقاً لا يجد إجابات شافية عن سبب تأخرهم في دخول بغداد، خصوصاً وأن الأمور كانت على ما يبدو مهيأة جداً.
كان السؤال الذي يواجهنا، أينما ذهبنا، هل فعلًا إن داعش هي من سيطرت على المدن العراقية وعلى ثوار العشائر؟
كان جوابنا واحداً، تنظيم الدولة الإسلامية، أو داعش، جزء من مجموعة فصائل مقاتلة، ولا يمكن اختزال المشهد بهم دون غيرهم، وفعلاً، كانت هناك فصائل لها دور كبير في السيطرة على المدن، وطرد قوات المالكي التي أذاقت الناس الويلات. وقلنا أيضاً إننا نعلم أن لا أمان لهذا التنظيم، فهو يختلف، جوهراً ومضموناً، بأهدافه وفكره عن أهداف الثوار وأفكارهم، إلا أنه من غير المناسب، الآن، أن نفتح جبهة معه.
كنا نعلم أن المواجهة مع داعش مؤجلة، وأن هذا التنظيم الذي لا يعترف إلا بما يؤمن به فقط، ولا يمكن التفاهم معه، إذا ما تمكن، فإنه سيضطر الثوار إلى المواجهة. كنا نتمنى أن تكون داعش، القاعدة سابقاً، قد اتعظ من دروس الماضي القريب، يوم أن سيطرت القاعدة على أجزاء واسعة من محافظة الأنبار، بين عامي 2005-2006 إبان الاحتلال الأميركي، وكيف أن قائد تلك القوات آنذاك، ريكاردو سانشيز، قال في مؤتمر صحفي شهير في المنطقة الخضراء قولته الشهيرة “ربما فقدنا الأنبار إلى الأبد”.
وفعلاً، كان يمكن أن تكون الأنبار منطلقاً لتحرير العراق، ليس من الأميركيين فحسب، وإنما من كل ذيول عمليتهم السياسية، وطبعا إيران معها، غير أن هذا التنظيم لا يعرف سوى الإقصاء والقتل لكل من يخالفه، فكان أن بدأ بنشر أفكاره، وحاول تطبيق شرع على الناس، فضجت الأنبار، واستاءت العشائر، فشكلت قواتها الخاصة التي عرفت بالصحوة لطرد القاعدة، ونجحت.
اليوم، تعيد القاعدة بنسختها المحدثة، داعش، تفاصيل تلك الأيام، فتقرر طرد مسيحيي الموصل، بطريقة أقل ما يقال عنها إنها جبانة وغير إنسانية، ليس لأن الأمر يتعلق بالمسيحيين دون غيرهم، ولكن، لأن هذه الأفعال سوف تنسحب سلباً على الثورة العراقية، وستضطر فصائل أخرى قاتلت إلى جانب داعش إلى التخلي عنها، وعن نهجها، وهو ما يريده المالكي وتريده إيران، ومن خلفهم أميركا.
لا يمكن بأي حال أن يتم السكوت على ما قامت به داعش في الموصل، لأنها بذلك أعطت الضوء الأخضر لما يسمى المجتمع الدولي لتدخل واسع بالعراق، وبدلاً من التعاطف الذي حققته الثورة المسلحة في العراق، بدافعية الظلم والطائفية التي مارستها حكومة المالكي، فإن الأمور قد تأخذ منحنى آخر، وتسحب البساط والإنجازات التي تحققت، حتى الآن، من خلال الثورة العراقية المسلحة.
المسيحيون في العراق ليسوا جزءاً من الشعب العراقي، بل هم أصل هذا الشعب وسكان هذه البلاد الأصليين، وبالتالي، فان ما يجري لهم معيب، ويمثل مثلبة بحق كل الفصائل المسلحة التي شاركت بعملية طرد قوات المالكي من المدن الثائرة. وبالتالي، فان هذه الفصائل مطالبةُ، أيضاً، بأن تقوم بدورها، وتسعى إلى ثني داعش عن أفعالها، وإلا فإنه لا خير في ثورةٍ، تقوم على الظلم والاضطهاد من أول أيامها.
ورم داعش كان مؤجل الاستئصال على ما يبدو، غير أن ما قام به في الموصل من طرد سكانها المسيحيين ينبغي أن لا يمر، وإلا فإن سحق الثورة العراقية المسلحة سيكون ممكناً، وربما أسرع مما كان يتمناه نوري المالكي وحزبه.
العربي الجديد

 

عن المواطنة والمذهبية.. بمناسبة “جزية” داعش/ خيري حمدان
طالب تنظيم داعش مسيحيي الموصل، والمناطق التي يسيطر عليها في العراق، بدفع الجزية مقابل البقاء وممارسة الحياة في مجتمع الخلافة الإسلامية الجديد، الأمر الذي فرض تساؤلات كثيرة بشأن تطبيقات الشريعة الإسلامية، وتحريف المفاهيم الدينية. ولسنا، هنا، بشأن تأويلٍ في الإسلام، بالقدر الذي نؤشر فيه إلى الظروف التي استدعت فرض الجزية، قبل ألف وأربعمئة سنة، علماً أنّ مفهوم الجزية موجود قبل الإسلام، وأجبر المسيح عليه السلام على دفعها للإمبراطورية الرومانية، ونقرأ في إنجيل متى (22:17) فسألوه: “فقُلْ لنا ما رأيُكَ أيَحِلُّ لنا أنْ نَدفَعَ الجِزْيَةَ إلى القَيصَرِ أم لا”، أجاب المسيحُ عليه السلام “يا مُراؤونَ لِماذا تُحاوِلونَ أنْ تُحْرِجوني، أرُوني نَقدَ الجِزْيةِ، فناولوهُ دينارًا. فقالَ لهُم لِمَن هذِهِ الصّورَةُ وهذا الاسمُ، قالوا لِلقَيصَرِ فقالَ لهُم ادفَعوا، إذًا، إلى القَيصَرِ ما لِلقَيصَرِ، وإلى اللهِ ما للهِ”.
وليست هذه المقدّمة لمباركة الجزية، بل لتقويم مفهوم تلك الضريبة المالية المحضة، وقيمتها المالية في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية كانت متواضعة، يحصل دافعوها على إعفاء من الخدمة العسكرية والحصول على نصيبٍ من صندوق الزكاة. يمكننا، بالطبع، إدراج قرارات لجنتي الأمن القومي والشؤون الدستورية السورية، مثالاً، على تأويلات الجزية، والابتزاز بإلزام المغتربين بدفع قرابة ستة آلاف دولار بدل خدمة العلم. وهناك أمثلة كثيرة مشابهة لهذه الممارسات الضريبية في دول عربية عديدة، تبدو قريبة لمفهوم الجزية، لكنّها موجّهة لفئات المجتمع كافة، بهدف ملء خزينة الدولة، وضخّ مزيد من المال في الهرم الإداري العملاق الذي يتميز به نظام السلطة في المجتمعات المعاصرة، وخصوصاً في الدول النامية، حيث تعتبر الوظيفة آلية لكسب الولاء والعقاب، على حدّ سواء، لارتفاع معدّلات البطالة عن العمل.
لن تضمن الجزية التي تفرضها داعش الأمان للإخوة المسيحيين، لأنّها مقدّمة لمزيد من الضغوط لطردهم والتخلّص منهم، علمًا بأنّهم جزءٌ من حضارة العالم العربي، وقدّموا الكثير من التضحيات والخدمات لتنميته ونهضته. وإذا ما عُدنا لأصول الحركة القومية في العالم العربي، لوجدنا معظم مؤسسيها وقادتها من المسيحيين، الذين أصبحوا أعلامًا ومثالاً يقتدى به لدى حركات التحرّر، باعتبار أنّ الدين لله والوطن للجميع. مثالاً لما تقدّم وليس حصرًا شعلة النضال الوطني الفلسطيني المفكّر والقائد ومؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، جورج حبش، وكمال ناصر الذي استشهد في العاشر من إبريل/ نيسان عام 1973، برصاص أطلقه إيهود باراك، فيما يعرف بمجزرة الفردان، واستشهد برفقته كمال عدوان ومحمد يوسف النجار.
ولن تحول الجزية دون التنكيل بكلّ من يعارض ويرفض التلوّن بالصبغة المذهبية، وكلّ من يحاول أن يمارس الحياة المعاصرة ضمن القوانين المدنية سيجد نفسه خارج جغرافيا المكان، حتى وإن كان جزءًا من المذهب الحاكم. وإذا ما تمّ طرد المسيحيين في أراضي السنّة، فالشيعة ستذبح فوقها، كما يُذبح السنّة في أراضي الشيعة بعد طرد المسيحيين. ما يحدث هو محاولة للتطهير المذهبي بذرائع عقائدية. وعلينا أن لا ننسى تبعات تهجير اليهود العرب إلى إسرائيل، بعد إعلان تأسيسها، لنخسرهم جزءاً من المجتمع العربي، وليصبحوا، بالتالي، عنصرًا فاعلاً في الكيان الصهيوني.
يتم التأكيد، هنا، على هذا الأمر، فيما نشر الموقع العراقي “وجهة نظر” مقالاً، جاء فيه أنّ العراقيين يتناولون الدجاج حسب انتماءاتهم المذهبية، وتتنافس شركات إنتاج الفروج والدجاج، لإبرام عقود تجارية مع السيستاني لتسويق “دجاج الكفيل”، في مناطق نفوذه، أما “دجاج الهدى” فيسوّق في مناطق نفوذ مقتدى الصدر، وديوان الوقف السنّي يسمح بتسويق “دجاج الفقيه”، ولا يوجد منافس لدجاج “المراد” في منطقة الكاظمية ومحيطها.
ويشير هذا الواقع إلى حجم التشرذم المخيف في العالم العربي على أسس مذهبية، خصوصاً في المناطق غير المستقرّة، لأنّ الدجاج لا يختلف، في نهاية المطاف، سوى في العبوة التي تعبّر عن النظرة المذهبية الضيّقة للغاية، ما يبشّر بمزيد من التخريب والانتقام الدمويّ ورفع مستوى الرعب الطائفي. وقد تنتقل عدوى العنصرية إلى الأقليات الأخرى العديدة التي تعيش بأمان منذ قرون في الوطن العربي، فهل يتوجب على الأرمن والأمازيغ والبربر والأكراد شدّ الرحال، بعيدًا عن سيوف الدولة الإسلامية، لكيلا تطال السيوف رقابهم، أم عليهم تغيير هوياتهم وأسمائهم ومعتقداتهم، للبقاء على قيد الحياة في هذه الأنحاء.
يحدث هذا في بعض بلادنا العربية، فيما يمكنك في أوروبا والدول المتحضرة مقاضاة الدولة والجار والشركات المحتكرة، إذا لحق بك منهم ضيم أو ظلم أو تعسّف، ما دمت تدفع بانتظام الضرائب المستحقّة عليك، كمواطن تحمل جنسية البلد المعنيّ، لكنّ الأجانب العاطلين عن العمل، المعتمدين بالكامل على المساعدات الاجتماعية، لا يدفعون الضرائب والرسوم، ولا يفكر غالبيتهم بممارسة أيّ من الأعمال، ما دامت حساباتهم عامرة مع نهاية كلّ شهر من صندوق الضمان الوطني. ولا تختلف المجتمعات في الوطن العربي بشأن دفع ضريبة الحياة والمواطنة، فواتير الكهرباء والهواتف والخدمات العامة تتضمن ضريبة مبيعات إضافية، بقيم مختلفة، تبلغ في أغلبها 20%، ما يعني أنّ خمس المنتج القومي يذهب رسوماً مباشرة لصالح الحكومة والسلطة الحاكمة. لذا، فإنّ ثمن المواطنة مدفوع حتى لزجاجة الماء والعلكة وتذاكر مراكز اللهو والترفيه ووقود السيارات والطائرات وتذاكر حافلات النقل ورغيف الخبز. في المقابل، هناك حاجّة ماسّة لتقديم البدائل والاعتراف بحقوق المواطنة، بدءًا من احترام حقوق الإنسان للأطياف والعقائد والديانات والأقليات كافة، وتقديم الحدود الدنيا لممارسة حياة كريمة فوق تراب الوطن العربي.
وبالمناسبة، يشمل هذا، أيضًا، عقد انتخابات ديمقراطية دورية منتظمة كلّ أربع سنوات للدول البرلمانية، ذات الحكم الجمهوري وفصل السلطات الثلاث، وعقد انتخابات رئاسية دورية للدول ذات الحكم الرئاسي، وتحديد صلاحيات الملوك والزعماء، من خلال توسيع صلاحيات مؤسسات الدولة والبرلمان والمؤسسات المدنية، وعدم التنكيل بالمعارضة السياسية، لأنّ دورها يتمثّل بتسليط الضوء على الممارسات الخاطئة، وليست بالضرورة عدوًا للسلطة الحاكمة، وندرك كذلك أنّ المواجهة بين السلطات الحاكمة والمعارضة شديدة وقاسية في الدول الحضارية المتقدمة، أيضًا، لكنّ العوالم المتحضرة لم تتمكن من اكتشاف طريقة حياة، وحكم أفضل من الديمقراطية حتى الآن. والدستور يحدّد القوانين التي يجب أن تصبح المرجع في كلّ صغيرة وكبيرة في الحياة، وإلا أصبحنا عرضة لمغادرة النظام العالمي، ونحن غير قادرين في الوقت الراهن على إيجاد بديل عادل لهذا النظام، والخروج على القانون، كاستخدام الآلة العسكرية لمواجهة معارضي الحكم وقمع الثورات، هو خروج على الدستور (لا يوجد دستور وضعي أو سمائيّ يسمح بقتل الشعوب واستهدافها) وترسيخ لقانون القوّة الذي لا يرحم صغيرًا أو كبيرًا، حال مخالفته لتوجهات السلطة الحاكمة، ومقدّمة لتدهور اقتصاد البلد المعني، وإغراقه في دوّامة العنف، والتخلّف عن ركب الحضارة.

 

العراقيون المسيحيون.. جرائم داعش و10 أعوام من التهجير/ شاكر نوري
ظهر فنّ الغرافيتي، أي الكتابة على الجدران، في بيوت الموصل وواجهاتها، ليس في مهرجان كرنفالي، كما هو في المدن التي تحتفل في الصيف. اختار حرف (ن) ليقول، باختزال دقيق رياضي وموسيقي، إن حرف (ن) يعني (نصراني)، أي أن داعش بدأ الفرز والتقسيم، من أجل إرساء خلافة أبو بكر البغدادي. يُذكّر حرف (ن)، هنا، برمزية الصليب المعقوف التي استخدمها النازيون، في أثناء الحرب العالمية الثانية، من أجل بث الرعب في نفوس أعدائهم. فإذا كان النازيون يبحثون عن الذكور المختونة في سراويل اليهود الداخلية، فإن داعش لا يحتاج ذلك، لأن “النصارى” معروفون ربما من جلساتهم في تناول الطعام على الطاولات، بدل الأرض كما يفعل الداعشيون. ولا علاقة لحرف (ن) بالزخارف والنقوش السريانية في سهل نينوى، بل له صلة، هذه المرة، بـ”عقارات الدولة الإسلامية” التي يدّعي تنظيم داعش أنها ليست ملكاً لأهل “الذمة” الذين عليهم دفع الجزية بالتي هي أحسن أو السيف، وهذه البيوت المرقّمة بأرقام الحروف الجديدة (ن)، لم تعد ملكاً لأصحابها (النصارى)، بل لدولة الخلافة الجديدة في الموصل.
هكذا، قبل أيام، استيقظ مسيحيو الموصل على كابوس هذا الحرف المكتوب باللون الأحمر،
والمدوّن على أبواب منازلهم وواجهاتها، ما أخافهم من إبادة جماعية، ترتكبها عصابات داعش المسلحة التي أصبحت، بين عشية وضحاها، واقعاً ملموساً بعد إلقاء خليفتها البغدادي خطابه “البليغ” في جامع الموصل الكبير. بدأ المسيحيون يلملمون حاجياتهم وأغراضهم، ما خفّ حمله وزاد ثمنه، وراح 25 ألف مسيحي يشدون الرحال من ثاني أكبر المدن العراقية، التي تضم نحو 30 كنيسة، يعود تاريخ بعضها إلى نحو 1500 عام، بعدما وزّع تنظيم “الدولة الإسلامية” بياناً يطالبهم بتركها. وتأكيداً لذلك، وضع حرف (ن). وقبيل موجة النزوح هذه، شهدت القرى المجاورة حالات نزوح كبيرة، خوفاً من دخول المسلحين المتطرفين إليها، بعدما اجتاحت قوات المالكي، التي لم تجد في جعبتها سوى ارتداء دشاديش الليل، والهروب مثل الثعالب، وترك المسيحيين الذين كانت تدّعي حراستهم فريسةً سهلة لرافعي شعارات “الخلافة الإسلامية” الجديدة.
تستهدف هذه الحملة طرد المسيحيين العراقيين الذين أقاموا في هدوء وسلام في أديرة سهل نينوى، يزرعون الأرض، ويصنعون النبيذ المحلي من الكروم التي يتناوب على عصرها الأبناء والأحفاد منذ سنوات. ولم يكن بعض المسلمين يقبلون على شراء قنانيه منهم، بل تُهدى إليهم لتقوية الأواصر العاطفية، فتجد عناقيد العنب مَن يلتفّ حولها بعاطفة عراقية صادقة. وفي العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في هذه المنطقة، زيجات كانت تُتوّج في احتفالات أسطورية، بأزياء ملونة ومزركشة في سهول الموصل، أو على تلالها وجبالها أحياناً.
مَن كان يتصوّر أن يختلّ هذا الميزان الرائق والبديع الذي كانت بلاد الرافدين تفاخر به قبل عقود؟ وربما هذا ما دفع بطريرك الكلدان في العراق والعالم، لويس ساكو، إلى أن يدق ناقوس الخطر بأن التاريخ يشهد، لأول مرة، إجلاء الموصل، مهد المسيحيين، من السكان الأصليين، مؤكداً أن التطرف الديني يهدد بقاء المسيحيين في بلاد ما بين النهرين، فيما يسعى داعش وأشباهه من المتطرفين إلى الربط بين هذه الطوائف المسيحية المسالمة و”الصليبيين” الغربيين، لإشعال الفتنة الطائفية البغيضة والمقيتة، والمدمرة للعراق.
فسيفساء تحافظ على روحها
يتركز معظم المسيحيين العراقيين في بغداد، وفي المدن الشمالية، مثل كركوك وأربيل والموصل التي كانت يوماً مراكز تجارية مهمة. وقد ورد ذكر الموصل في الكتاب المقدس باسم نينوى، ومعظم قاطنيها من الكلدانيين الذين يتبعون الكنيسة الكاثوليكية الشرقية، المستقلة عن روما، مع كونهم يعترفون بسلطة البابا الروحية. وعلى الرغم من ذلك، ظل الفاتيكان يبعث رسله إلى بلاد الرافدين، من أجل أن يغيّر هؤلاء المسيحيون مذهبهم، لكنهم ظلوا صامدين. الكلدانيون قدماء، قدم الأرض والنباتات، ما زالوا يتحدثون لغة المسيح، الآرامية، أما الآشوريون، فيتحدّرون من أبناء الإمبراطورية الآشورية والبابلية، الذين تبعثروا في أنحاء الشرق الأوسط، بعد انهيار إمبراطوريتهم في القرنين السادس والسابع قبل الميلاد. ومنهم مَن ينتمي إلى الكنيستين السريانية الأرثوذكسية والكلدانية، بالإضافة إلى طوائف بروتستانتية متعددة.
وعقب استقلال العراق في عام 1932، ارتكب العسكريون مجازر بحق الآشوريين، انتقاماً لتعاونهم مع الاستعمار البريطاني، ودمرت قراهم وكنائسهم. وهناك أرمن كاثوليك، نزحوا من تركيا هرباً من مجازر العثمانيين. وهناك، أيضاً، الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والإنجليكانيون والإنجيليون. ولا توجد هذه الفسيفساء إلا في العراق، وكانت إلى وقت قريب تتعايش في ما بينها. ونجح الفاتيكان، بعد مؤامرات عديدة، في تنصيب البطريرك، عمانوئيل دلي ‏الثالث، أول كاردينال لكنيسة الكلدان الكاثوليك التي تضم كلدان العراق والخارج في 2007‎، وقد دعا إلى نبذ الطائفية والعصبية، مركّزاً على حياة التسامح بين المسيحيين والمسلمين والعرب والأكراد والتركمان واليزيديين والصابئة.
التاريخ يعيد نفسه
ولو عدنا إلى التاريخ الحديث، لوجدنا المأساة نفسها يعيد داعش ارتكابها، إذ لجأت العوائل الآشورية العراقية إلى لبنان بعد مجازر عثمانية في بداية نشوب الحرب العالمية الأولى. ووصل تعلّقهم بمذهبهم إلى درجة أنهم علّقوا في “حيّ الآشوريين في زحلة”، لوحة كبيرة للملك آشور بانيبال يصارع أسوداً في رحلة صيد، ونقشوا عليها أحد أهم رموزهم: “الثور المجنّح”، لكنهم لم يجدوا الاحتضان الذي كانوا يتوقعونه في مجتمع مسيحي متعدد المذاهب، مثل لبنان، بل جوبهوا بالرفض على أنهم “نساطرة”، نسبة إلى البطريرك نسطوريوس الذي حكم عليه مجمع أفسس بالهرطقة، وعوقب بالحرم الكنسي، فتم رفضهم في الكنائس. لذلك، اضطروا لإقامة شعائرهم الدينية في منزل كاهنهم، وعاشوا في لبنان من دون هوية.
كما أن ما يجري للمسيحيين العراقيين يعيدنا إلى المصلح المسيحي، كاستيليو، الذي وقف في وجه طغيان مبشر الدكتاتورية في المسيحية، كالفن، حيث كتب في كتابه: “فن الشك” في 1562: “لن يكون في وسع التاريخ أن يدرك أننا سوف نضطر إلى العيش مجدداً في هذه الظلمات، بعدما كانت الأنوار قد سطعت ذات مرة”. وشواهد التاريخ تثبت ذلك. ما حدث ويحدث، في هذه الأيام، للمسيحيين في العراق من تقتيل وتهجير واغتصاب، لا سابقة له في التاريخ، منذ نحو ألفي سنة، أي منذ أرسل يسوع الرسولَين، من بين تلاميذه الـ72، مار أدّي ومار ماري، إلى بلاد الرافدين، لنشر المسيحية، وتمكنا من تأسيس كنيسة المشرق.
اعتداءات على 61 كنيسة
الصورة قاتمة، وضبابية في جغرافيا سياسية معقدة، في وقت لا تزال فيه مجزرة كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك في بغداد، والتي نُسبت لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين في 2010، طرية في أذهان العراقيين، عندما اختلطت موسيقى مراسيم القداس بأزيز
الرصاص، وتناثرت مع نيران رصاصهم ودخان قنابلهم أيقونات الصليب، والتماثيل الصغيرة للسيدة العذراء التي كان المصلون يتبركون بها، قبل دقائق من الاعتداء الغاشم، وتلطخت دماء أكثر من 52 من ضحايا التفجير بالدخان والإسمنت والبارود والأنقاض. وسارع المسيحيون من كل حدب وصوب، ووقفوا طوابير طويلة أمام السفارات، للحصول على تأشيرات بلدان الحلم والوهم.
تكتمت الحكومة العراقية على ذلك التفجير، وانتشرت أسرار عنه، لكن الجريمة ظلت غامضة، وذهبت أدراج الرياح. واكتفى المسيحيون، ممّن بقوا أحياء، بنشر صور أقربائهم من الضحايا على “فيسبوك”، ووجد آخرون فيها مادة لإنجاز موسوعة كبيرة، تضم سير الضحايا المحترقين، تم الاحتفاء بصدورها في الكنيسة نفسها تحت أنغام القداس الدامي. ولم تجف ذكرى ذلك التفجير المؤلم، حتى جاء تفجير كنيسة مار أفرام ودير للراهبات في منطقة وادي العين، في حي الموصل الجديدة، إيذاناً باستمرار عمليات إجبار المتبقين على الرحيل.
وفي عشر سنوات مضت، هوجمت 61 كنيسة في العراق، وقتل نحو ألف مسيحي حسب مصادر مسيحية. كان عدد المسيحيين يزيد على مليون، منهم أكثر من 600 ألف في بغداد، و60 ألفا في الموصل، وعدد آخر موزع بين كركوك والبصرة قبل الاحتلال الأميركي في 2003. ولم يتبق منهم، حالياً، سوى 400 ألف، يبحثون عن ملاذ آمن هنا وهناك، ولو في جزر “الواق واق”. ولم يخطئ بطريرك الكلدان، لويس ساكو، في قوله “إن الموصل تُفرغ من المسيحيين، لأول مرة في تاريخ العراق”.
وبدأ مسيحيو الموصل ينزحون إلى أربيل ودهوك الكرديتين، من دون أن يجدوا الأبواب مفتوحة على الدوام، لأن علاقة المسيحيين معقدة مع الأكراد، ولها تاريخ من الضغائن والمؤامرات والصراع. وعلى الرغم من ذلك، تُدافع قوات البيشمركة عنهم وتحميهم. لكن بعض المسيحيين لا يريدون تحويل آشورستان إلى كردستان، وهم يتشبثون بأن أرض الأكراد مسيحية، باعتبار أن الأكراد قبائل غجرية، جاءت من أفغانستان، وسمت أرضهم كردستان حسب تصوراتهم. ولم يتعرض المسيحيون إلى أية هجمات ضدهم في كردستان، بل أسست حكومة الأقليم فروعاً لهم في مديريات الثقافة السريانية هناك، وترعى إصدار كتبهم ومؤلفاتهم. وهناك أدباء مسيحيون أصدروا كتبهم في كردستان، وبدعم منها، منهم، شاكر مجيد سيفو وهيثم بهنام بردى وزهير بهنام بردى وسمير خوراني وسعدي المالح الذي توفي أخيراً.
من الأنوار إلى الظلمات
يعود بنا تنظيم داعش إلى صفحات مضيئة من التاريخ في التعامل مع المسيحيين، وفيه أن أبا جعفر المنصور، مؤسس بغداد، عندما أصابه، في أواخر أيامه (سنة 148هـ) مرض في معدته، وانقطعت شهيته عن الطعام. وعندما عجز الأطباء المشرفون عن علاجه، استقدم الطبيب السرياني، جورجيس بختيشوع، عالم زمانه في الطب، فأكرمه المنصور، وخلع عليه، وأنزله في قصر خاص، وعندما علم أنه لا توجد امرأة تخدمه، أرسل إليه ثلاث جوارٍ روميات وثلاثة آلاف دينار، فقبل الدنانير، وردّ الجواري إلى الخليفة، قائلاً: “إننا معشر النصارى لا نتزوج إلا بامرأة واحدة، وما دامت حيّة لا نأخذ غيرها”. هكذا أضحك الطبيب الخليفة، وشفاه من مرضه. ولو قارنّا تلك الواقعة التاريخية بما ترتكبه “خلافة داعش” البربرية، سيتبيّن لنا أن العالم عاش عهد الأنوار، وها هو يعود إلى عهد الظلمات.
في التاريخ الحديث، كان المسيحيون يعيشون في رعاية مهمة من الرئيس الراحل، صدام حسين، الذي أمر بترميم وتجديد أنحاء دير مار متى في الموصل من الداخل والخارج في عهد المطران سيرويوس إسحق ساكا، وأيضاً في عهد مار ديوسقورس لوقا شعيا، مطران الدير والأبرشية (1980 ـ 1984)، بكلفة بنحو 451 ألف دينار، إضافة إلى تبليط الشارع من مفرق عقرة الجديد إلى الدير بكلفة أكثر من مليونين ونصف مليون دينار في ذلك الوقت.
كما شهدت الأديرة ازدهاراً لا مثيل له، من حيث إقامة الاحتفالات البهيجة. وكان المسيحيون
يعتبرون صدام حسين سماءً واقية لهم من أي تطرف، بل وكان أقرب حراسه من المسيحيين، إضافة إلى نائب رئيس الوزراء، طارق عزيز، الذي كان علمانياً، ولم يهتم بأهله المسيحيين من مبدأ طائفي. وفي فترة حكم صدام، كان المسيحيون يكنّون له الحب والتقدير، لأنهم كانوا يدركون أن الأقليات لا يمكن أن تعيش إلا في أحضان دولة قوية، لأن المكونات الكبيرة قادرة على حماية نفسها بالميليشيات، كما نرى في زمن الاحتلال الأميركي. ولأن المسيحيين العراقيين مسالمون طوال تاريخهم، لم يُعتبروا مكوناً خطراً، ولم تكن لديهم طموحات سياسية كبيرة. ولكن، بعد الغزو الأميركي، أصبحت البلاد ساحة معركة بين المقاومة ومقاومة الاحتلال، فكان المسيحيون أول الضحايا. وهكذا، اضطر مسيحيو العراق أن يعيشوا الظلمات من جديد.
الأقاليم الطائفية لا تحمي المسيحيين
تمارس دولة داعش في الموصل، اليوم، أبشع أنواع الاضطهاد بحق المسيحيين العراقيين، وتتحمل مسؤولة هذا الاضطهاد الحكومة المركزية، ونوري المالكي تحديداً، وهو الذي سد الآفاق أمام المسيحيين والسنّة والشيعة والمكوّنات الأخرى. والادعاء بوجود دولة مدنية وديمقراطية، وذات برلمان ودستور، لا أساس له من الصحة. ولا يوجد أي موقف يُذكر لرئيس البرلمان المنتخب بشأن الانتهاكات التي يتعرض لها مسيحيو البلاد، فالجميع يفكر بأقاليم طائفية، ونواب البرلمان يتصارعون على الغنائم. ولا ترى حكومة بغداد في هجوم داعش على المسيحيين سوى مبرر لكي تطرح نفسها ضمانة لهم، وتتاجر بالشعارات الرنانة.
ومن هنا، لا تنعزل مأساة المسيحيين العراقيين عن مأساة وطن بأكمله. وهذه الفسيفساء التي سماها أحد المستشرقين “ثريدة العالم”، وكانت نموذجاً لتعايش الطوائف كافة، في تعددية الأديان والمذاهب والطوائف، مهددة، الآن، بحرف (نون) الذي بات كابوساً يلاحق مسيحيي الموصل، وهو إشعار بضرورة رحيلهم وإعادة ملكية الدار المختومة به إلى بيت مال المسلمين في أقرب فرصة، وإلا السيف قادم لا محالة، بعد أن يشحذه الداعشيون بنيران الحقد والكراهية والظلامية. ولا يرى مسيحيو الموصل والعراق، حالياً، سوى ضمانة واحدة لهم، هي الدولة المدنية العصرية الديمقراطية، العلمانية القائمة على دستور حقيقي، غير طائفي، كتبه أبناؤه بلغة عربية صافية، لا ما كتبه بول بريمر بلغة أعجمية. ولكن، تبدو هذه الدولة الحلم بعيدة عن التحقق، في خضم الأحداث المتسارعة في العراق والعالم العربي.
العربي الجديد

 

عن المسيحيّين ولبنان و”داعش”/ حازم صاغية
ما لا شكّ فيه أنّ النظام السوريّ استخدم مسألة الأقلّيّة المسيحيّة ويستخدمها، وتاجر بها ويتاجر في مخاطبته الغرب. وهو النظام نفسه الذي رعى، على امتداد عمره البالغ 51 عاماً، تراجعاً كبيراً في أعداد المسيحيّين السوريّين وفي قوّتهم ووزنهم.
لكنّ النظام المذكور، الذي وجّه قمعه الأشرس بلا قياس إلى الأكثريّة السنّيّة، حال بهذا دون رؤية المشكلة المسيحيّة على حقيقتها.
وتجيء تجربة «داعش» في العراق، وتحديداً في الموصل، حيث تخيير المسيحيّين بين الأسلمة ودفع الجزية والموت لتقول إنّ المأساة المسيحيّة في المشرق العربيّ تفيض عن سياسة ونظام بعينهما، وتسبقهما، لتطرح إشكالاً وثيق الصلة بالاجتماع والثقافة.
فـ»داعش»، في واحد من وجوهها البارزة، هي رفع الإجماعات التي مضغتها المنطقة طويلاً إلى حدّها المنطقيّ الأبعد. وبين هذه الإجماعات لفظ الآخر المختلف، ونضاليّة الاجتماع السياسيّ وتعبويّته، وإرفاق الدعوة السياسيّة بجرعة تزيد أو تقلّ من ماضٍ متخيّل. وعن اجتماع لفظ الآخر والنضاليّة والماضويّة «الكيتشيّة»، ممّا مارسه بأسماء وعناوين شتّى، البعثيّون والناصريّون والشيوعيّون و»الإخوان المسلمون» وبيئة الثورة الفلسطينيّة وجماعة حزب «الدعوة» العراقيّ و»حزب الله» اللبنانيّ…، تشكّلت منظومة احتقار لكلّ الذين يعطون الأولويّة في حياتهم لما لا يندرج تحت خانة «القضيّة». وكان في رأس هؤلاء المسيحيّون العرب الذين احتلّت لديهم المهنة والتعليم وتحسين طرق الحياة مكانة أرفع من تلك التي احتلّتها السياسات بمعناها النضاليّ والشعاراتيّ.
فقد ظُنّ، في السياسة الدارجة، أنّ ترتيب الأولويّات المسيحيّة هذا ينمّ عن تصالح مع أمر واقع صنعه الاستعمار ورأته الأكثريّة ظالماً. لكنْ لم يُنتبه، في الثقافة وفي سياسات الضمير، إلى أنّ هذا الترتيب وثيق الصلة بتأميم السياسة وإبقاء المسيحيّين خارجها يصبّون جهودهم على المدرسة والصحيفة والشركة والمصرف.
وكان الموقف الراديكاليّ من لبنان، الذي ارتبط المسيحيّون به تقليديّاً مثلما ارتبط بهم، المكان الكاشف لموقف التحفّظ المستور من المسيحيّين العرب. فلبنان، وفق المعجم الذي ألّفه قوميّون عرب وإسلاميّون ويساريّون على أنواعهم، بلد تافه، صغير، اخترعه الاستعمار، يقف في وجه الوحدة، أو يعترض طريق المقاومة، أو يرعى فيه الكفر والإلحاد والتفكّك الخلقيّ، أو أنّه واجهة زائفة لسلع الرأسماليّة الغربيّة، أو هو حيث اللسان ملوّث بالعجمة، أو كلّ هذه النعوت في آن معاً.
والكلام على لبنان بوصفه نتاج خطأ وخطيئة كان يعلن، بكثير من التحوير، ما يضمره الموقف من «إخواننا المسيحيّين» العرب. ذاك أنّ اتّهام لبنان ليس سهلاً فحسب، بل هو مطلوب ومصدر انسجام مع الذات الإيديولوجيّة: فهو يؤكّد للاشتراكيّ مدى اشتراكيّته وللإسلاميّ صدقَ إسلامه وللعروبيّ عداءه للتجزئة أو حماسته للوحدة والمقاومة. في المقابل، فالكلام عن «إخواننا المسيحيّين» صعب، إذ يخلّ بالأخوّة المعلنة كما يخلّ بمزاعم الحداثة والوطنيّة والعلمنة ومعاداتنا «جميعاً» للاستعمار وإسرائيل. وحتّى إسلاميّ ما قبل «داعش» يجد في صراحة تعبيريّة كهذه ما يتعدّى الحدود التي تُلزمه بها كتابيّةُ المسيحيّ وذمّيّته.
واليوم بات الوعظ بتعاليم «عصر النهضة» و»حبّ الوطن» لزوم ما لا يلزم، فيما الأرض تميد تحت أقدام الجميع ومن تحتها تطلع وحوش ترعرعت في الخفاء على مدى قرن. وهكذا يغدو من حقّ الجماعات، بل من واجبها، أن تفكّر بنفسها وبمصائرها، وأن تحلّ مشاكلها حيث يمكن لها ذلك. ذاك أنّ التعاقد على الأوطان ما عاد يُلزم أحداً، لا الأنظمة التي صدّعت ذاك التعاقد وأفرغته من كلّ معنى، ولا معارضاتها التي انتهى بها المطاف أطرافاً دينيّة صريحة. وقد جاءت الثورات تكشف أنّ الاستبداد بلغ شأواً من التخريب لم يعد الإصلاح ممكناً بعده، فيما الصراع فقد كلّيّاً مسرحه وأفقه الوطنيّين.
وإذ يقدّم أكراد العراق، بعد جنوبيّي السودان، مساهمتهم، يفقد أصحاب تهم الانفصال والتجزئة كلّ قدرة على الابتزاز بترّهات لا يصمد الدفاع عنها أكثر من ثوانٍ.
الحياة

 

“داعش”: خلافة إسلامية عالمية أم دويلة إسلامية في العراق؟/ يزيد صايغ
بإعلانه إقامة خلافة إسلامية في المناطق التي يسيطر عليها في العراق وسورية، ودعوته المسلمين في كل مكان إلى مبايعة «الخليفة» أبو بكر البغدادي، أظهر تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) أن لديه طموحات عالمية. وسواء كانت هذه الطموحات حقيقية أم لا، فإن العديد من المراقبين الخارجيين يفترضون أن جاذبية التنظيم تتجاوز حدود العراق. لكنّ الحقيقة هي أن التنظيم يتبع مساراً قديماً وبالياً للاستيلاء على السلطة وتوطيدها في المساحة الجغرافية المحدودة لدولة قطرية واحدة، حيث توجد حاضنته الاجتماعية الحقيقية.
يقيّد هذا آمال تنظيم «داعش» باكتساب عمق استراتيجي أوسع، ويكذّب مزاعمه بأنه يمثّل الأمّة الإسلامية في العالم، ناهيك عن ممارسة سلطة ذات مغزى عليها. وعلى الرغم من الدراما المذهلة لتقدمه السريع في العراق في حزيران (يونيو) الماضي، يبدو الواقع أكثر براغماتية. فقد أحرز تنظيم «داعش» تقدماً في بيئته «الطبيعية» وصل الآن إلى حدوده القصوى، فالعراق هو المكان الذي بقي فيه التنظيم على قيد الحياة بعد هزيمة التمرّد السنّي في الفترة 2006-2008، ثم انبعث لاحقاً، وهو المكان الذي سيتقرّر فيه مصير دولته الإسلامية.

ثمّة تشبيهان يساعدان في فهم ما يستطيع تنظيم «داعش» فعله وما لا يستطيع، والقيود المفروضة على «خلافته». أولاً، تكشف تجربة التنظيم الأم، «القاعدة»، في أفغانستان أنه مهما كانت الأيديولوجيا العابرة للحدود الوطنية قوية، فإن على الحركات التي تتبنّاها أن تضرب بجذورها في عمق المجتمع المحلي إن هي أرادت البقاء والنماء. صحيح أنّ تنظيم «القاعدة» اجتذب الشباب المسلمين ممن يشعرون بالاغتراب في كافة أنحاء العالم، لكن كان لزاماً عليه في أفغانستان أن يلحق نفسه بحركة مسلّحة محليّة المنشأ، أي بـ «طالبان»، التي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من مجتمع البشتون المحلي. ونتيجة لذلك، كان من السهل نسبيّاً طرد تنظيم «القاعدة» إبّان الغزو الأميركي في أواخر العام 2001، ولكن ليس «طالبان».
لا يشبه تنظيم «داعش» حركة «طالبان» إلا في العراق. أما في سورية فهو يشبه تنظيم «القاعدة» في أفغانستان. ما من شكّ في أن ثمّة تداخلاً كبيراً عبر الحدود. ربما يتمكّن «داعش» من تثبيت أقدامه في سورية وهو يستطيع ذلك، مثلما ظهرت حركة «طالبان» شقيقة في المقاطعات الشمالية من باكستان على الحدود مع أفغانستان. لكن أياً من حركتي «طالبان» الشقيقتين في أفغانستان وباكستان لم تستطع تجاوز حاضنتها الاجتماعية المحلية في أجزاء أخرى من البلدين، على الرغم من وجود جماعات إسلامية وجهادية أخرى. ومعنى ذلك بالنسبة لتنظيم «داعش» أن حاضنته في العراق لا تزال هي الأساس، وأنه سيعطي الأولوية لتعزيزها إذا تعرّض للضغط.
جاذبية تنظيم «داعش» لأهل السنّة في بلاد الشام محدودة بسبب ضيق حاضنته الاجتماعية. وهذا ينطبق بصورة خاصة على لبنان، حيث تساهم الطبيعة الطائفية المتعدّدة للمجتمع اللبناني وبنيته الطبقية في جعل عملية جذب الجهاديين المحتملين تقتصر على شرائح معيّنة ذات دخل منخفض أو مهمّشة من الطائفة السنّية، وبالتالي لا يمكن تنظيم «داعش» الحصول على المناصرين المقاتلين إلا من خلال استقطاب أتباع الجماعات السلفية الأخرى، كما فعل في سورية.
في الأردن، قد يجتذب تنظيم «داعش» أتباعاً من الشرائح الطبقية المهمّشة الكبيرة التي تتركّز بكثافة في منطقة العاصمة عمّان-الزرقاء. غير أن نسبة الالتحاق بالجهاد كانت مرتفعة منذ سنوات عديدة -للقتال في العراق بعد العام 2003 ومن ثم في سورية بعد العام 2011- وبالتالي لن ترتفع وتيرة التعبئة كثيراً الآن. الأهم من ذلك هو ظهور أول الجهاديين بين الأردنيين من أبناء الضفة الشرقية لنهر الأردن، الأمر الذي يعكس إلى أي مدى ساهمت سنوات من السياسات الليبرالية الجديدة التي اتّبعت بمباركة من البلاط الملكي في تآكل حاضنته الاجتماعية القديمة. غير أن هذه تبقى ظاهرة هامشية.
وحتى في سورية، حيث استولى تنظيم «داعش» للمرة الأولى على أراضي واسعة وفرض سلطته على عدد كبير من الناس في العام 2013، يبقى التنظيم قوة خارجية وكل قادته المحليين تقريباً غير سوريين، بل مقاتلون عرب وغير عرب وعراقيون. ويرجع نجاح التنظيم هناك أساساً إلى ضعف تماسك الجماعات المتمرّدة السورية المتنافسة، ما مكّنه من الاستيلاء على معاقلها وعلى المعابر الحدودية في الرقة ودير الزور.
الحاضنة الاجتماعية لـ «داعش» في سورية تقتصر إلى حدّ كبير على منطقة الشمال الشرقي، حيث خاضت العشائر والأفخاذ المحلية المنافسات القديمة بينها عبر الانحياز إلى «داعش» أو خصومه، بما فيهم نظام الأسد وجبهة «النصرة» التابعة لتنظيم «القاعدة»، بغية الحصول على أفضلية وتفوّق. وقد عمل تنظيم «داعش» على توطيد سيطرته الاجتماعية بالإكراه المباشر في الأماكن التي لم تكن فيها تحالفات المصلحة هذه كافية أو غير قائمة، أو لجأ إلى الترحيل الجماعي للعشائر والقرى التي لا تتعاون معه.
وهنا يأتي دور وجه التشابه الثاني. إذ يشبه تنظيم «داعش» الرئيس العراقي السابق صدام حسين بصورة وثيقة في نموذجه السياسي والتنظيمي وتكتيكاته وحاضنته الاجتماعية. فقد اعتمد الاثنان على مزيج من نواة متماسكة من أعضاء متحفّزين ومصمّمين، وجناح عسكري صغير نسبياً وسري، والفعل الهجومي السريع والحاسم لاستغلال نقاط ضعف خصومهم واستغلال الانقسامات بين الحلفاء. وقد استخدم صدام ورفاقه التكارتة هذه الأساليب للاستيلاء على السلطة في إطار تحالف مع ضباط آخرين في الجيش في العام 1968، ومن ثم عمد إلى تطهير كلّ حلفائه سوى دائرته الحميمة. وعلى المنوال نفسه، استخدم تنظيم «داعش» «الطاقة الحركية» والعمل الانقلابي منذ كانون الثاني (يناير) 2014، وفي نهاية المطاف لن يتعامل بقدر أقلّ من القسوة مع حلفائه الحاليين في التمرّد السنّي.

الأهم من ذلك، وفي تناقض ملحوظ مع معظم، أو كل الجماعات الجهادية الأخرى، مثل جبهة «النصرة» في سورية، والتي تركّز بشكل أساسي على شنّ أعمال عسكرية مستمرة لـ «دفع الصائل»، يركّز تنظيم «داعش» على التصرّف كدولة، وعلى أن يُنظر إليه باعتباره دولة. ولهذا فهو يطالب ببيعة عامة لدولة الخلافة والخليفة وخضوع كل من هم تحت سيطرتهما. وهذا يلخّص أيضاً استراتيجية صدام بالإحكام على الدولة لتثبيت سيطرته الاجتماعية وسلطته السيادية. وحين ووجه بتمرّد جنوب العراق في ربيع العام 1991، مثلاً، ردّ ليس فقط بالقوة العسكرية الساحقة، بل أتبعها فوراً بإعادة الخدمات العامة وغيرها من رموز الدولة المركزية ومظاهرها.
يدعم تنظيم «داعش» البعد الرمزي للدولة بأشكال أخرى من أعمال بناء الدولة. ففي سورية، اهتم أكثر من معظم منافسيه المتمرّدين السوريين، وفعل ذلك بقدر أكبر من النجاح، بإدارة المناطق الخاضعة إلى سيطرته، وضمان توفير الخدمات الأساسية والاحتياجات المعيشية وتنظيم الأسعار ونقل عائدات صادراته النفطية ومصادر دخله الأخرى عند الحاجة. أما في العراق، فقد ترك هذه المهام لشركائه السنّة، بينما احتفظ بالإشراف على شؤون السياسة والأمن وإقامة العدل وفقاً لتصوّره للشريعة.
ولكي يضفي شرعية على نفسه من الناحية الإيديولوجية، وليكتسب القدرة على التأثير على شركائه ومنافسيه، يدعو تنظيم «داعش» المسلمين إلى الجهاد ويصف الحكومات الغربية بأنها «صليبية»، ويتعهّد بتحرير فلسطين. وهذا يحاكي ما فعله صدام عندما ناشد العرب دعم حربه ضد إيران الإسلامية في العام 1980، وفي العام 1990 ربط غزوه للكويت بتحرير فلسطين واستحضر التضامن الإسلامي من خلال كتابة عبارة «الله أكبر» على العلم الوطني.
غير أن صدام بقي زعيماً عراقياً في الإطار العراقي، واستفاد من الثروة النفطية في البلاد لتوطيد حكمه داخلياً، ولكنه بقي مقيّداً بسبب أوجه القصور التي كان يعاني منها، وخصوصاً الانقسامات الاجتماعية العميقة وضعف الهوية الوطنية. ويبدو تنظيم «داعش» أكثر اعتماداً من صدام على توازناته وتحالفاته الاجتماعية ضمن القاعدة الديموغرافية المحلية الضيقة من العرب السنّة في العراق، وهي نقطة الضعف التي لا يعوّضها امتداده (أي «داعش») الجزئي إلى سورية.
وينعكس هذا في المقاربة المختلفة التي يتبنّاها تنظيم «داعش» تجاه «ولايتيه» السورية والعراقية. فعندما يدعو التنظيم المسلمين في جميع أنحاء العالم إلى القدوم إلى الشام للجهاد، فإنه يدعوهم إلى القيام بذلك في سورية، وليس في العراق، على الرغم من أنه يواجه هجوماً مضاداً من جانب حكومة بغداد بدعم إيراني وأميركي. ولعلّ هذا يعكس التفتّت العميق الذي يعانيه «مجتمع الثورة» السوري، الذي أضعف قدرته على مقاومة الاختراق والهيمنة من جانب وحدات صغيرة من المقاتلين الأجانب.
الحاضنة الاجتماعية لحركة التمرد السنّية في العراق تبدو أكثر تماسكاً إلى حدّ كبير، وربما أمكنها أن تقاوم محاولات الإخضاع من جانب الجهاديين الأجانب بقوة وفعالية أكبر. إذ يتولّى مقاتل شيشاني قيادة قوات تنظيم «داعش» في سورية على سبيل المثال، ولكن لا يمكنه القيام بذلك في العراق، حيث يسيطر البعثيون السابقون وضباط الجيش والإسلاميون والعشائر المسلحة على المجالس العسكرية المحلية ويمسكون بالكثير من الأرض. لذلك، تختلف مقاربة تنظيم «داعش» في تثبيت سلطته داخل ولايته العراقية حكماً.
يعمل تنظيم «داعش» بنشاط على توسيع قبضته في سورية، وطرد جميع الفصائل المتمردة المتنافسة من محافظة دير الزور الغنية بالنفط، والاستعداد لمهاجمة معاقلهم في شمال غربي حلب وفي محافظة إدلب، وينازع النظامَ السيطرة على حقول الغاز الرئيسة إلى الشرق من حمص. وهو يسيطر بالفعل على جميع الأراضي التي كان يتوخّى ضمّها إلى الدولة الإسلامية في خريطة رسمها في العام 2006. غير أن أقصى ما يمكن أن يقدّمه لجمهوره هو دولة سنّية بلا منفذ بحري وأكثر عزلة بريّة مما كان حال العراق في عهد صدام، وتفتقر بشدّة إلى طرق الوصول الآمن إلى أسواق النفط والتجارة الخارجية.
بغضّ النظر عن مدى عداء العرب السنّة في العراق لحكومة بغداد، فهذا المصير ليس ما يتوخّونه أو يسعون إليه. ولكن ما لم تعرض بغداد مصالحة سياسية ذات مغزى وإعادة إدماج جدّي، سينتهز تنظيم «داعش» الفرصة لتشديد قبضته وتعزيز حكمه على دويلته الإسلامية بالطريقة نفسها التي استغلّ نظام صدام العقوبات بين عامي 1990 و2003 لتحقيق الهيمنة الكلية على المجتمع العراقي.
* باحث أول، مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.
الحياة
!/ الياس حرفوش ثقافة داعش وثقافتنا
لم تكن منطقتنا بحاجة الى أعمال التهجير الحاصلة في منطقة الموصل ضد المسيحيين والاكراد هناك، بأوامر من «الخليفة ابراهيم» واتباعه، لندرك مدى الانهيار الذي بلغته العلاقات بين الطوائف والمذاهب والاعراق في هذه المنطقة البائسة والمنكوبة.
ما تقوم به «داعش» في ما تسمّيه «ولاية نينوى» يأخذ العلاقات المأزومة بين مكونات دول المنطقة العربية الى حدّها الاقصى، أي الى حدّ قطع الرؤوس وفرض الجزية والتهجير واستباحة الكنائس ودور العبادة. فما يرتكبه «داعش» لا يصحّ وصفه الا بالوحشية وامتهان حقوق الناس وكراماتهم وحرية معتقداتهم، لكنه ليس غريباً عن ثقافة عدم التسامح واحتقار حقوق الآخر، لمجرد أنه ينتمي الى الاقلية او لأنه مختلف دينياً، او لأن فرص الحماية التي يستطيع توفيرها لنفسه ولعائلته باتت معدومة. هذه ثقافة تنتمي في الدول الاخرى الاكثر تصالحاً مع العصر الى زمن قديم، يعود الى اكثر من خمسة قرون الى الوراء، لكنها لا تزال هي الثقافة السائدة والمقبولة في الكثير من دولنا ومجتمعاتنا. وقد شهدنا مع الاسف الكثير من السلوكيات التي تعبّر عن هذه الثقافة، في اكثر من بلد في السنوات الماضية.
لخّص فادي، ابن الموصل الذي رفض ترك مدينته على رغم تهديد «داعش» له بالقتل، ما يشعر به كثيرون، عندما قال: «نحن ميتون اساساً انسانياً. ولم يبقَ لنا سوى هذه الروح. فاذا ارادوا ان يقطعوا هذه الروح، فانا مستعد لذلك، لكنني لن اغادر مدينتي التي ولدت وتربيت فيها».
لم تكن هذه دائماً هي الحال في المنطقة العربية، ولا كانت هذه حال الاقليات فيها. المسيحيون في الموصل كانوا يتمتعون بوضعية محترمة في ظل الدولة العباسية، التي يزعم ابو بكر البغدادي اليوم أنه يسعى الى احيائها. كان رئيس الكنيسة النسطورية حتى سقوط الدولة العباسية من أهم رجال الدولة والبلاط. وكانت المدارس واماكن العبادة في الموصل ونصيبين وماردين مراكز علمية، فضلاً عن طابعها الديني، كما لعبت دوراً ادارياً وتنظيمياً مهماً في تسهيل شؤون الحكم في كل من دمشق وبغداد. وهو ما يدعو الى التفكير في اسباب هذا الانهيار المريع الذي ندفع اكلافه جميعاً اليوم، من حضارتنا وتراثنا المشترك، ومن السمعة السيئة التي باتت هي السمعة السائدة عن «قبائلنا» بين سائر اهل الارض.
ادانات كثيرة صدرت ضد التصرفات المشينة التي مارسها تنظيم «داعش» ولا يزال بحق الاقليات الواقعة تحت «ولايته»، مثل ارغام الناس على ترك بيوتهم ومقتنياتهم وجنى عمرهم والفرار بأرواحهم «وان أبوا ذلك فليس لهم الا السيف». منظمة التعاون الاسلامي وصفت الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون في الموصل بأنه «جريمة لا تحتمل». وقال الامين العام للمنظمة اياد مدني ان «الاقتلاع القسري» لهؤلاء من بيوتهم وأرزاقهم يؤكد «ان ممارسات ما يسمّى بالدولة الاسلامية لا علاقة لها بالاسلام ومبادئه التي تدعو الى التعايش والتسامح».
لكن هذه الادانات، على اهميتها، ظلت عاجزة عن توفير الحماية لابناء الموصل. فالجهة الوحيدة المسؤولة عن ذلك والتي كان يفترض أن توفر هذه الحماية هي الحكومة العراقية التي اثبتت، بسلوكها الطائفي وبتخليها عن واجباتها عندما أخلت قواتها المناطق التي اقتحمها متطرفو «داعش» في ما بعد، أن ما يشغلها هو النفوذ الفئوي والطائفي الذي يغلب عندها على المشروع الوطني. ولا سبيل لاستعادة شيء من الكرامة ومن حقوق المواطنة الى ابناء الموصل، على اختلاف انتماءاتهم، ما يسمح ربما بإعادتهم الى ارضهم، إلا بقيام حكومة في بغداد تراعي المصلحة الوطنية وتقطع الطريق على أي سلوك طائفي، من أي جهة أتى.
الحياة

 

الصمت المريب/ هشام ملحم
كأن المشهد من قرون سابقة. غزو يتبعه سبي واقتلاع وتهجير فئة من الناس لمجرد انتمائها الى دين او طائفة او عرق يرفضه الغازي، بعد حرمانها ممتلكاتها. روايات الشهود العيان وتقارير المراسلين القليلة ترسم صورة أولية عن معاناة مسيحيي الموصل في العراق، بعد سقوط هذه المدينة العريقة في أيدي البرابرة الجدد المعروفين باسم “داعش” او “الدولة الاسلامية”. نازحون في تيه جديد لا يعرفون الى أين سيصلون. رجال ونساء واطفال يمشون تحت شمس حارقة لا ترحم مثل معذبيهم، بعدما حرموا كل ما يملكونه في هذا العالم الا ملابسهم، وحتى الاطفال حرموا لعبهم.
اللاجئون والمقتلعون لا يعودون عادة الى ديارهم. أسأل الارمن، والفلسطينيين واليهود، و… هجرة او تهجير المسيحيين من الشرق الاوسط هي كارثة حضارية. الفسيفساء البشري الذي تميزت به في السابق مدن وعواصم عربية ومتوسطية، من بغداد الى حلب ودمشق، من سميرنا (تركيا) الى بيروت والاسكندرية والقاهرة، هو من ابرز الاسباب التي جعلت هذه المدن مراكز للعلم والفنون والتجارة والتفاعل بين الثقافات. مصر لم تتعاف حتى الآن ثقافيا واقتصاديا لأنها حرمت نفسها سكانها اليونانيين والايطاليين واليهود والارمن واللبنانيين والسوريين الذين لجأوا اليها في القرن التاسع عشر.
البطريرك لويس ساكو، لخص المأساة بقوله: “للمرة الاولى في التاريخ، الموصل خالية من المسيحيين”. مسيحيو سوريا ولبنان وفلسطين والعراق ومصر، هم احفاد المسيحيين الاوائل. الكنيسة الاولى أسست في انطاكية، التي كانت حتى ثلاثينات القرن الماضي مدينة سورية.
بشاعة هذا المشهد تزداد فضائحية حين ندرك عمق وفداحة الصمت العربي والعالمي. هناك مسؤولية اخلاقية اميركية عن مأساة المسيحيين العراقيين، لأن الغزو الاميركي ساهم في اطلاق وحوش الطائفية والمذهبية والعنف الذي استهدف اساقفة المسيحيين وكنائسهم حتى عندما كان لاميركا عشرات الآلاف من الجنود في العراق. وزارة الخارجية اصدرت بعض البيانات، لكن اوباما لم ينطق بكلمة.
الاسوأ هو الصمت العربي. ترى هل اوصلنا العنف المروع والانحطاط الاخلاقي والسياسي الذي يعصف بسوريا والعراق وحتى بلبنان، ناهيك بليبيا واليمن، الى درجة جعلتنا نفقد احساسنا وكأننا مخدرون؟ نسأل أين الازهر؟ أين العلماء والمثقفون المسلمون؟ لن نسأل أين جامعة الدول العربية، او منظمة المؤتمر الاسلامي لان هاتين المنظمتين تهتمان فقط بادانة الغرب واسرائيل ولا صوت لها عندما يذبح بعض المسلمين مسلمين آخرين، او يمارسون العنف ضد المسيحيين من باكستان الى العراق وحتى مصر. عندما يصير المشرق العربي خاليا من المسيحيين والاقليات الاخرى، سوف تصير الصحراء في قلوب من صمت على تهجيرهم.
النهار

 

مسيحيو الموصل نصارى “دولة الخلافة”/محمد ثامر يوسف
بصعوبة يمكن تجاهل ردود أفعال البعض وتعليقاتهم على ما يجري للمسيحيين في الموصل؛ أعني مَن يكتبون تعليقاً على مأساتهم الانسانية المريعة، مرورا بالطبع على بيان “دولة الخلافة” الناص على ذبحهم إن لم يسلّموا أو يدفعوا جزية، يقول هؤلاء بغضب واضح: لماذا تلومون “داعش”؟!
في الحقيقة يصعب الرد سريعاً على هذا النوع من الاسئلة والتعليقات التي تطالع المرء أنّى ولّى هذه الأيام في العراق مثل لعنة أو فضيحة. إن هؤلاء الناس العاديين الذين يدبّجون ملاحظاتهم، وجلّهم قراء أو متابعون عابرو سبيل، ممّن يدوّنون خواطر سريعة على صفحات الـ”فايسبوك” و”تويتر”، وفي مواقع أخرى عديدة، يقولون بعبارات صريحة: اقرأوا الكتب “الصالحة” رجاء، تمعّنوا في التاريخ المقدس جيداً، قبل أن تتعجبوا مما يفعله عناصر “دولة الخلافة”، أو حتى قبل ان تستدر عطفكم آلام العوائل المسيحية النازحة إلى الخيم في العراء أو إلى مخازن الحاجات المهملة على أطراف المدن، بعيداً من بيوتهم كما لو كانوا سبايا آخر الزمان.
بصراحة يمكن الرد نوعاً ما على بعض هذه التعليقات الواردة في هذا الشأن، لكن بمشقة؛ ليس من دون جهد أو طريقة تحاول أن تتجاوز العواطف. لكن كيف لا تترنح روحٌ ويرقّ قلب مع هذه المناظر التي تقذفها الموصل في وجه العالم اليوم بهذه الصيغة غير المسبوقة؟!
مع ذلك كله، لا يطيب للبطريرك مار روفائيل الأول ساكو راعي الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم، إلاّ أن يمر “تأدباً” على هذا التاريخ الطويل الذي جرى منذ أكثر من 1400 سنة على هذه الأرض ويورده كمثال طيب للعشرة الطويلة والعيش المشترك. فعل الرجل ذلك مباشرة بعد بيان “الدولة الاسلامية” الأخير، وهو في سياق مناشدة المسلمين في العالم كله الانتباه إلى حال أخوانهم المسيحيين الفارّين بملابسهم التي يرتدونها وحسب، في ليلة ظلماء، من مدينة آبائهم وأجدادهم خلاصاً من حد سيف “الخلافة” بطبعة “داعش”. لكن هل كان كل هذا التاريخ فعلاً طيباً الى هذه الدرجة؟ يعلّق قارئ آخر تعقيباً على دعوة غبطته البريئة، ويعني، هل كان هذا التاريخ في معظمه خالياً من المجاملات؟ هل كانت متون الكتب مريحة، وهل الامنيات لم تكن مزركشة الى هذا الحد وهي تغفل عيشا صعباً؟!
30 كنيسة ومآثر وأحزان
نحو 30 كنيسة في الموصل وما حولها، أجلاها رهبانها وقساوستها ومواطنون أتباع بالآلاف مضطرين، خاويةً للريح، أو بالأحرى لعبث عناصر “الدولة” الجديدة في ولاية نينوى الذين استباحوها حالاً وكسروا صلبانها ورفعوا راياتهم السود فوقها، وحوّلوا بعضها إلى محاكم شرعية بعد الاعتداء على حرماتها وسرقة محتوياتها؛ آخرها منذ أيام فقط حينما استولوا على دير مار بهنام في أطراف الموصل الجنوبية وفي منطقة نائية تدعى الخضر، إذ طردوا رهبانها وسلبوهم كل شيء، بل وأجبروهم على السير على الأقدام لأكثر من خمسة عشر كيلومترا وصولاً إلى ناحية قرة قوش، أقرب نقطة للوصول “الآمن أو الموقت”.
أما على طريق النفي الجماعي الطويل نفسه خارج الموصل، بعيداً من حدود الدولة الجديدة، فثمة العديد من نقاط التفتيش والمفارز التي تفتش كل شيء حتى جيوب النساء والأطفال بحثاً عن مدخرات شخصية أو نقود، ولو كانت مصاريف الجيب نفسه.
يرقب العالم ويتابع الكثير من هذه المشاهد يومياً. الآن ثمة صور لا تنقطع، تحملها الميديا المستعجلة؛ صور أطفال ونساء وعجائز لا حول لهم؛ صور قد لا يشعر معها أي أحد بالعار والذنب الذي فينا أن نتحمله بمستواه جميعنا، وقد وصلت الأمور بهؤلاء الى هذه الدرجة من السوء، مع أن الجميع يعرف يقيناً أن أزمة المسيحيين بالذات غير حادثة، وأن للمصيبة الكبيرة التي حلّت بحجمها وقسوتها هذه، أسباباً لم تنبت الساعة في الموصل، كما هي حال مسيحييها اليوم.
مرة اخرى، لم يكن المسيحيون وحدهم من عانوا في أزمة المدينة أو كارثتها؛ فسواهم من بقية الأقليات والطوائف عانى. غير أن مسألة المسيحيين بالذات أو أزمتهم ومعاناتهم مزدوجة، وفيها من القسوة والذل ما هو مضاعَف بصورة أشد. كل مشكلتهم أصلاً أنهم لم ينضووا تحت رعاية قبلية أو ميليشيوية أو حزبية، تحتويهم أو تدافع عنهم وعن هويتهم كما الآخرون. أرادوا فقط العيش كمواطنين في بلاد تشكلت أصلاً بعد 2003 بلا مواطنين، بل من افراد تحميهم عشائر وطوائف وحتى أحزاب، فأكلتهم لذلك مع الوطن فكرة الطوائف والهويات والحواضن القاتلة التي قام عليها، ومنها “الوطن العراقي الجديد”.
أتحدث عن المسيحيين الآن ومن قال إن حالهم كانت افضل في غير الموصل، سوى بالوضوح الذي أعلنته عصابات “داعش” في بيان شيطاني مقتضب استوحى من التاريخ أرذله ومن الدين أحطّ منسياته التي لا تتلاءم قط مع أبسط حقوق الإنسان على الإنسان.
تجب الإشارة هنا بالضرورة إلى وزر الكل: الحكومة وشيوخ العشائر أو “ثوارها” والأحزاب، وأدعياء المنابر، ومؤتمرا عمان المعارضان، المجتمعان توقيتاً بالضبط على وقع تهجير الموصل أو بالأحرى حول متطلبات “الثورة” أو أخطائها “الخفيفة”، ثم فضائحيو التلفزيون، وأثيل النجيفي “المحافظ” وضباط المالكي الهاربون، وبالطبع أولا واخيراً الدول الإقليمية وأميركا، ممن هان عليهم كلهم الجرح، أو لعبوا به، أو تفرجوا عليه، الألم المسيحي بالذات، أو على الأقل فشلوا كلهم في شرح ما جرى وما يجري طوال سنين غير نافعة مضت، كانت فيها الموصل على المحك؛ أقصد أيضاً ما يتعلق بإشكالية “الأمنيات الطيبة” الشديدة الادب التي طافت في ذهن البطريرك الكلداني الأب ساكو، وهو يخاطب هؤلاء كلهم ويعني المسلمين عموماً، شاكياً طرد اشقائهم من مدينتهم في آخر جمعة قد يرونها فيها عشية انتهاء المهلة التي “كان” حددها لهم “خليفة المسلمين”، مستعيدا في طريقه تاريخاً وردياً لم ينفع، ولم يعد يشفع.
النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى