صفحات العالم

مقالان تناولا العدوان الاسرائيلي على غزة

 

 

 

 

من غزة: المعبر الجديد لحركة التحرر الفلسطيني/ شفيق ناظم الغبرا

أصبح من المألوف في منعطفات القضية الفلسطينية الأساسية أن يتحول جزء من فلسطين إلى رافعة بالنسبة إلى بقية الأجزاء. الجديد في المعادلة في هذا الصيف الساخن أن غزة أخذت بقية الفلسطينيين والمتضامنين معها من العرب والمسلمين والعالم الأوسع نحو قيم كفاحية جديدة. صراع غزة لتفتيت الحصار المفروض عليها وطريقة خوضها للمعركة الحربية في عام ٢٠١٤ حوّلها بامتياز إلى الحاضن المرحلي الأهم لحركة المقاومة الفلسطينية.غزة المدينة والقطاع وذلك الممر الساحلي الضيق خاضت حرباً متكاملة الأركان وفرضت نفسها بالتالي جزءاً قيادياً في الحركة الوطنية الفلسطينية المقاومة للاحتلال. في هذه الحرب بينت مقاومة حركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» عن مقدرة عالية على التخطيط والانضباط، بل تحول بعض رموز المقاومة إلى رموز تاريخيين كما هو الحال مع قائد كتائب عزالدين القسام محمد ضيف ونائبه أبو عبيدة. لقد اكتسبت المقاومة الفلسطينية في معركة غزة زخماً لم نعهد مثله منذ زمن طويل، فهناك تواصل مع تجارب المقاومة التاريخية، وتطور لثقة جديدة بإمكانياتها. لقد غيرت الحرب أشياء كثيرة، يكفي أنها أنعشت ذاكرة أمة وحفزت روح صمود.

لقد قدمت غزة حلاً في المدى المنظور للطريق المسدود الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية بعد أن دمر اليمين الإسرائيلي بقيادة نتانياهو حل الدولتين عبر الاستيطان وتوريط السلطة الفلسطينية في حالة من التفاوض العبثي في ظل تنسيق أمني مع إسرائيل. ومن مظاهر انسداد الطريق الفلسطيني: إغراق رام الله (الجهاز الفلسطيني الرسمي بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني) خاصة منذ قمع الانتفاضة الثانية (٢٠٠٠ إلى ٢٠٠٥)، بأموال الدعم الأوروبي والعالمي المشروط والهادف لترسيخ التفكك والاعتماد بينما يتعمق الاستيطان. ومع تصفية الكثير من المقاومين من «فتح» و»حماس» و»الجهاد الإسلامي» و»الجبهة الشعبية» وغيرهم في الضفة الغربية المحتلة من الذين نهضوا بالانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) انتهى الأمر بفقدان الضفة الغربية ثقتها بقدرتها على المقاومة.

إن الطريق المسدود الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية منذ شهور فتح شهية اليمين الإسرائيلي لصالح فرضه لحلّه النهائي من أجل تثبيت سيطرة صهيونية على الأرض (مقابل إعطاء حدود دنيا غير مضمونة من الاستقرار في مناطق السلطة الفلسطينية). ولينجح اليمين وجد فرصته الأهم في توجيه ضربة نهائية إلى غزة تفرض على القطاع الاستسلام للشروط الإسرائيلية (فرضية انهيار المقاومة وتسليم السلاح).

وبالفعل لو درسنا الظروف المحيطة بـ «حماس» والمقاومة قبل الحرب لتبين أنها (وفق التقديرات الإسرائيلية) كانت في أضعف حالاتها، فالنظام الجديد في مصر منذ تموز (يوليو) ٢٠١٣ في صراع مع «الإخوان المسلمين»، بل سبق لإعلامه أن حرض بقوة على «حماس» وفرض حصاراً على غزة عبر تدمير الأنفاق وإغلاق معبر رفح الذي يربط بين مصر وغزة. كما أن علاقة «حماس» مع سورية وأيران تأثرت بسبب الثورة السورية وطبيعة المواقف السياسية للنظام السوري ولإيران. كما أن الوضع العربي قبل الهجوم الإسرائيلي كان مؤاتياً لإسرائيل، خصوصاً أن عدداً من الدول العربية أخذ خطاً تصادمياً مع «الإخوان المسلمين» مما انعكس على حركة «حماس» والمقاومة في غزة. فالحاضنة العربية الرسمية الجماعية السابقة كادت تكون غائبة. وعلى رغم ارتباط «حماس» بالوضع الفلسطيني بصفتها فصيلاً مقاوماً مستقلاً، وعلى رغم عدم تدخل «حماس» في الوضع المصري والعربي، إلا أن غياب الحاضنة الرسمية العربية والأهم المصرية لغزة جعل إسرائيل تنطلق من وجود فرصة تاريخية لإنهاء المعركة خلال أيام. وقد عزز التصور الإسرائيلي أن حصار غزة أثر على وضع «حماس» الاقتصادي وقدرتها على إدارة القطاع مالياً واقتصادياً. وقد وجدت إسرائيل أن قيام «حماس» بالاتفاق مع «فتح» على حكومة وحدة وطنية في حزيران (يونيو) ٢٠١٤ تعبير عن ضعفها من جهة، وتعبير في نفس الوقت عن إمكانية استعادة «حماس» لوضعها كفصيل مؤثر في مرحلة مقبلة. لهذا قررت إسرائيل أن جميع العوامل متوافرة لتوجيه ضربة قاضية ونهائية لـ «حماس».

وأوضحت هذا الحرب مدى ترابط الوضع الفلسطيني على رغم صعوبات الجغرافيا. فالمواجهة في غزة هي نفسها استمرار لمحاولات فك حصار الضفة الغربية والقدس حيث الجدار والعزل العنصري والاحتلال والاستيطان، وهي ذاتها حركة فلسطينيي ١٩٤٨ من أجل العدالة وضد العنصرية والتمييز والتهويد، وهذه المطالب مرتبطة بالشتات الفلسطيني بكل تعقيداته وبتاريخ النكبة، فهناك مئات الألوف في المخيمات ينتظرون حلاً، وهناك آخرون بالملايين في بقاع العالم ينتظرون الحق الطبيعي في التواصل مع الأرض التي فرض على أجدادهم الخروج منها في ظل ظروف قسرية.

لهذا فان البعد الأسطوري لحرب غزة يتجلى بقدرة قطاع صغير محاصر، في ظل وضع عربي رسمي غير مؤات، على التغلب على التحديات والعوائق الجبارة وذلك لتأمين النجاح في مواجهة مفصلية مع الجيش الإسرائيلي. لقد أدت ملحمة غزة إلى فتح ثقوب ومعابر واضحة في جدار الاحتلال وسيطرته في جميع أبعاد القضية الفلسطينية: في الضفة الغربية وفي القدس وفي فلسطين ١٩٤٨ وفي الشتات. غزة حررت الإرادة من خلال صمود أهلها وتضحياتهم الكبيرة.

وتواجه إسرائيل مأزقاً من نوع آخر بعد الهدنة: فان أبقت الحصار على غزة فستنفجر المدينة في وجهها مجدداً، وإن رفعت الحصار جزئياً أو كلياً ستكسب «حماس» وتتقدم الصفوف في الساحة الفلسطينية الأوسع. المأزق الإسرائيلي مأزق احتلال أمام مقاومة. لهذا ستعمل إسرائيل جاهدة لمنع نمو قدرات المقاومة في غزة وفي بقية فلسطين بالإضافة إلى محاولة ضرب الالتفاف العالمي حول القضية الفلسطينية.

وهذا بالضرورة سيتطلب سياسة فلسطينية مضادة. بل على الأغلب ستنجح المقاومة في فك جزء كبير من الحصار لكنها لن تحقق كل مطالبها. سيبقى الصراع والمقاومة والاستنزاف. هذا يعني حصول مواجهات قادمة، وهذا يتطلب في نفس الوقت إعادة بناء الإطار القيادي للحركة الفلسطينية وعلى الأخص منظمة التحرير الفلسطينية، مع إشراك ودور واضح لـ «حماس» ولـ «الجهاد الإسلامي». وهذا سوف يعني حتمية امتداد المقاومة بشكل أو بآخر إلى بقية فلسطين المحتلة حيث تتنوع ساحات المواجهة وخاصة وسائلها السلمية والمدنية المؤثرة، كما يتطلب الأمر نقل المواجهة الإعلامية مع إسرائيل وحملات المقاطعة والتضامن إلى العالم كله وذلك لكشف الاحتلال وانتهاكاته. لهذا فان غزة بداية جديدة لمقاومة طويلة الأمد نحو التحرر. هذه بداية مشروع تحرير الأرض في ظل سعي واضح للحقوق والعدالة والحريات والمساواة والإنسان ومواجهة الحصار والجدار والاستيطان والاحتلال والعنصرية والتوسع الإسرائيلي.

وعندما نتمعن في طريقة العنف الإسرائيلي المبالغ به على رغم فارق الحجم والقوة والإقتصاد والعدد نستنتج أن عنف إسرائيل مرتبط بسعيها الى قتل فكرة المقاومة ووسائلها. فعنف إسرائيل مرتبط دائماً بالمستقبل. إسرائيل تعرف أن أكثر من نصف سكان غزة من اللاجئين الفلسطينيين السابقين، وأن مخيمات غزة وسكانها مرتبطون بمفهوم أوسع لفلسطين الأرض والمكان والجغرافيا. إسرائيل تريد عبر القسوة المبالغ بها أن تنسي الفلسطينيين حقوقهم.

إن القتل الإسرائيلي المبرمج ينطلق من رؤية نفسية للإنسان الفاقد للحقوق، فتخيّره بين القبول بواقع الاستلاب وبين الدمار وفقدان المنزل والأبناء والبنات والأحبة تحت الركام، كما تخيّره بين القبول بالحركة الصهيونية على كل الأرض وفي كل مكان مقابل حد أدنى من الحياة بلا حقوق. وتعلم إسرائيل أنها لا يمكن أن تستمر كدولة محتلة واستيطانية واستعمارية على أرض الشعب الفلسطيني إلا إذا كانت لها اليد العليا في الأمن والجيش والحرب وآلة القتل والسيطرة الإعلامية والتمدد والحصار والدعم الدولي والأميركي. لهذا فدولة الاحتلال مهووسة بالسيطرة والاستبداد والعزل والعنصرية.

لقد فتحت حرب غزة نفقاً لضحايا الصهيونية، هذا العبور تحت الأرض وقع على أرض محروقة وفي مساحة صغيرة. في الحالة الجديدة ما بعد المواجهة في غزة، بإمكان الفلسطينيين أن يعتمدوا على ذاتهم وأن يحسنوا تنظيم وإدارة قدراتهم بما يجدد نديتهم التاريخية والإنسانية للحركة الصهيونية، وبإمكانهم أن يبنوا على الزخم الشعبي الكبير الذي دعم قضيتهم عربياً ودولياً. وحتماً بإمكانهم، بسبب صمودهم، السعي لبناء حالة اصطفاف جديدة مؤيدة للمقاومة من قبل الأطراف المؤثرة في النظام العربي، فبالإمكان بناء قاعدة جديدة مع الدول العربية بما فيها القاهرة كما هو حاصل الآن عبر المفاوضات. صمود هذه الفئة الصغيرة في هذا المكان الضيق فتح معبراً صلباً ومسارات للمقاومة ما زالت في بداياتها.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت

الحياة

 

 

 

 

حرب غزة ومعانيها السياسية/ ماجد كيالي

بدأت إسرائيل عدوانها على غزة منذ نحو شهر، وهي مدة أكثر بكثير من تلك التي استغرقتها حرب الأيام الستة (1967) التي قضمت فيها إسرائيل أراضي من ثلاث دول عربية، تزيد بأضعاف عن مساحتها الأولى، ومع ذلك ما زالت تواجه مقاومة لم تكن تتوقعها، ولا أحد يعرف كيف ومتى ستتوقف هذه الحرب، أو ما مآلاتها، بالنسبة للإسرائيليين والفلسطينيين.

المشكلة -بالنسبة لإسرائيل- أن هذه الحرب هي الثالثة من نوعها ضد قطاع غزة، في ستة أعوام (الأولى أواخر 2008 والثانية أواخر 2012)، ما يعني أن الفلسطينيين يستعصون على الكسر أو الإخضاع، رغم كل ما يختبرونه في الحرب من قتل ودمار، وأنها تعجز إزاءهم رغم كل ما بحوزتها من وسائل القوة.

معلوم أن غزة ليست إمبراطورية ولا دولة قوية، بل إنها مكان صعب للعيش بسبب مناخها، وندرة مواردها الطبيعية، وكثافتها السكانية العالية، زد على ذلك خضوعها لحصار مشدد منذ سبعة أعوام، مع استهداف دائم لها من قبل الجيش الإسرائيلي.

وتبلغ مساحة القطاع 360 كيلومترا مربعا، أي 1.33% من فلسطين الكاملة، و6% من مساحة الدولة الفلسطينية المفترضة (مع الضفة)، وهو على شكل شريط ضيق على الساحل الجنوبي، طوله 41 كيلومترا، وعرضه بين 5 و15 كيلومترا، يقطن فيه مليونا فلسطيني تقريبا، أغلبهم من لاجئي 1948.

وقد بدا من وقائع هذه الحرب أن حركة “حماس” -ممثلة بكتائب عز الدين القسام- ومعها باقي تشكيلات المقاومة الفلسطينية المسلحة، أعدت نفسها لهذا الاستحقاق أكثر من المرتين الماضيتين، على مستوى التسليح والتأهيل والإدارة، إلى حد أنها وجهت ضربات صاروخية إلى العمق الإسرائيلي، وصدمت قوات النخبة الإسرائيلية في نمط عملياتها، غير المتوقع، وفي قدرتها على صدّها، بل وتكبيدها خسائر فادحة.

بالنسبة لـ”حماس” فقد كانت هذه الحرب بمثابة معركة على الوجود، والمكانة، إذ جاءت في ظرف صعب جدا بالنسبة لها، بعد أن خسرت عالمها، وباتت في عزلة شديدة، بانتهاء حكم الإخوان في مصر، يفاقم من ذلك افتقادها الموارد المالية، والحصار المشدد المفروض على قطاع غزة.

علاوة على ذلك، فإن الحركة بدت كمن يخوض معركة مصيرية، سواء استدرجتها إسرائيل أو العكس، فهي في الحالين لم يعد لديها ما تخسره، إذ لم يعد لديها سوى إمكانية السعي لتغيير المعادلات القائمة، بهدف تعزيز مكانتها إزاء إسرائيل وعلى مستوى الإقليم، وفي إطار البيت الفلسطيني.

ويبدو أن العامل الإيجابي الذي لعب لصالح حماس أن الحرب جاءت بعد التوافق الفلسطيني على إقامة حكومة ائتلاف وطني، تنهي حالة الانقسام، ما انعكس إيجابيا عليها، وعلى الوضع الفلسطيني، في مواجهة استهدافات الحرب الإسرائيلية، وتعرية أغراضها ووحشيتها في العالم.

أما بالنسبة لإسرائيل، فإن هذه المعركة أرادتها من أجل إخضاع الفلسطينيين وقتل روح المقاومة عندهم، فضلا عن أنها معركة على صورتها كدولة رادعة في المنطقة.

طبعا، لم يكن ثمة سبب يدعو للاعتقاد أن إسرائيل ستعمل على إنهاء حكم “حماس” في غزة من خلال هذه الحرب، لأن الانقسام الفلسطيني، وفصل الضفة عن غزة، هما مصلحة إسرائيلية، مما يعني أن الهدف السياسي المعروف والمباشر للحرب الجارية ظل يقتصر على محاولة إضعاف قدرة حماس العسكرية دون الإطاحة بها سياسيا.

أما على المدى الإستراتيجي فربما أن إسرائيل تستشعر أن هذه هي اللحظة التاريخية المواتية لها لفرض تصورها للتسوية على الفلسطينيين، سواء تمثل ذلك بحل أحادي، يفصل بينها وبينهم في إطار من السيطرة الإسرائيلية، أو تمثل بتسويات أكبر، قد تشتمل على إزاحات أو تغييرات ديموغرافية أو سياسية في الضفة، أو في شأن الموضوع الفلسطيني، وماذا غير الحرب يستطيع تسهيل سيناريوهات كهذه تفوق الخيال ويجعلها واقعية، على ما لاحظنا مما يحصل في سوريا والعراق؟

من ناحية ثانية، فقد كان لدى حركة حماس ثلاث مشكلات: الأولى، الفارق الكبير في القوى والتسلح وقوة النيران والإدارة لصالح إسرائيل. والثانية، أنها تخوض هذه الحرب منفردة، أي من دون سند أو ظهير، وفي ظرف دولي وعربي في حال انكفاء أو غيبوبة، وربما تواطؤ. والثالثة، تعمد إسرائيل استهداف المدنيين، وتركيزها على تدمير البيوت والمرافق العامة، مما شكّل ضغطا كبيرا على المقاومة.

الجدير ذكره أن الحرب الأولى (الرصاص المصبوب أواخر 2008-أوائل 2009) استشهد خلالها 1400، وجرح الآلاف من سكان القطاع ودمر عدد كبير من المباني والبيوت السكنية، مقابل قتل تسعة إسرائيليين. أما في الحرب الثانية (عمود السحاب أواخر 2012) فقد استشهد فيها 191 وأصيب حوالى 1500 بجروح متفاوتة، مقابل مقتل ستة جنود إسرائيليين وجرح 222 منهم، رغم إطلاق المقاومة حوالي 1700 صاروخ على مستوطنات ومدن إسرائيلية.

وتشير معطيات الحرب الحالية (الثالثة) -وحتى وقف النار المعلن في الخامس من الشهر الجاري- إلى استشهاد حوالي 1900 وإصابة نحو عشرة آلاف بجروح، مقابل 64 إسرائيليا، بحسب المصادر الإسرائيلية، أو أزيد من مائة بقليل بحسب مصادر المقاومة.

لكن ما ينبغي ملاحظته هنا أنه في الحرب الأولى بلغ التناسب، في الخسائر البشرية بين الطرفين، 1 إلى 150 (9-1400)، وقد تقلص هذا الفارق في الحرب الثانية (بنسبة 1-31 (6-190)، وقد تقلصت الفجوة أكثر في هذه الحرب، إذ باتت تقدر بحوالي 1 إلى 16 (مائة للإسرائيليين و1600 للفلسطينيين وفق مصادر المقاومة)، أو 1-25 (64 للإسرائيليين و1600 للفلسطينيين وفق المصادر الإسرائيلية).

أيضا، ينبغي ملاحظة أنه مع كل هذا التأهيل، والإمكانيات والبطولات، ومع تقلص الفجوة في الخسائر بين الطرفين، بالقياس إلى الحربين السابقتين، إلا أنها لم تصل إلى الحد الذي بلغته إبان الانتفاضة الثانية (2000-2004) التي كبدت إسرائيل خسائر بشرية أكثر من أي مرة في تاريخها (بالمعنى النسبي ربما باستثناء خسائرها في حرب 1973)، والتي بلغت نسبة 1 إلى 4 (حوالي 1022 للإسرائيليين و4000 للفلسطينيين).

اللافت أن صمود غزة وبطولات مقاوميها روّج لانطباعين خاطئين ومضرّين: أولهما، التصوير بأن حركة “حماس” -مع باقي الفصائل- باتت بمثابة جيش بطائراته وصواريخه، أضحى يشكل قوة موازية للجيش الإسرائيلي. والثاني، أن قطاع غزة بإمكانه التحول إلى منطقة، أو قاعدة عسكرية لتحرير فلسطين.

طبعا النزعة الأولى غير صحيحة، ومضللة، وتنطوي على مبالغة رغبوية لا تسهم في تكوين وعي مناسب لواقع القدرات الفلسطينية ومحدوديتها، ولا في تكوين صورة صحيحة عن قدرات العدو.

أما النزعة الثانية، فهي تحمّل قطاع غزة -الذي يقطن فيه مليونا فلسطيني تقريبا، في 1.3% من مساحة فلسطين، أو 6% من مساحة الدولة الفلسطينية المفترضة- عبء التحرير، وهزيمة إسرائيل، علما أن هذه القطاع محاصر ويفتقد الموارد، ويعتمد في إمدادات الكهرباء والمياه والطاقة على الدولة الإسرائيلية. وربما ينبغي لفت الانتباه -أيضا- إلى أن هاتين النزعتين “الاحتفائيتين” تفضيان بدوريهما إلى إشاعة توهم مفاده أن ثمة نوعا من التكافؤ بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو ما يترتب عليه إضعاف الصورة عنهم كضحايا ومستضعفين، وبالتالي حجب صورة إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية وعدوانية.

بديهي أن رواج انطباعات من هذا النوع هو نتاج تلهّف الفلسطينيين -والعالم العربي- لأي انتصار على إسرائيل، ونتاج التعطّش لأي ضربة توجه لها، بيد أن انطباعات كهذه قد تفيد في تقوية المعنويات وتعزيز روح الصمود والمقاومة، لكن في ما يخص إستراتيجيات الصراع ضد العدو فإنها لا تكفي، إذ إنها لا تؤثر في معادلات موازين القوى والخطط العسكرية.

بل لعله من المفيد هنا لفت الانتباه إلى أن إسرائيل، مع تميّزها بترسانة عسكرية متفوقة، تمكّنها من مواجهة عدة جيوش عربية، فهي تتمتع أيضا بميزتين مهمتين، تشكلان قيمة مضافة لها: الأولى، وهي ضمانة الولايات المتحدة والغرب أمنها ووجودها. والثانية، احتكارها التسلح النووي في المنطقة، مما يجعلها تهدد بما يسمى “الخيار شمشون”، أو “خيار يوم الدين”، في حال استشعارها بتهديد وجودي.

القصد من ذلك لفت الانتباه إلى حقيقة مفادها أن المقاومة الفلسطينية يمكن أن تؤلم إسرائيل، وأن تزيد كلفة وجودها، وأن تهدد استقرارها، لكن هزيمتها التاريخية -الكلية، أو الجزئية- تحتاج إلى عوامل أخرى، لعل أهمها يكمن في حصول تغير في البيئتين الدولية والعربية لصالح الفلسطينيين، وتخليق جبهة عريضة من الإسرائيليين المعادين للصهيونية، ومن الذين يتعاطفون مع كفاح الفلسطينيين.

ولعل هذا ما يجب إدراكه أو تمييزه جيدا في غمرة الاحتفاء بصمود غزة، لأنه من دون حصول هذه التغيرات، ستبقى إسرائيل تحظى بحماية الغرب، ودعمه لتفوقها من مختلف النواحي في المنطقة، وستبقى المقاومة الفلسطينية غير قادرة على استثمار أو ترجمة تضحياتها وبطولاتها إلى الدرجة المناسبة، التي تكفل تغيير معادلات القوة والسياسة في صراعها مع إسرائيل، وتحقيق هزيمتها على المستويين الكلي أو الجزئي، في صراع مضن ومعقد وطويل الأمد.

عموما، فإن الحروب الإسرائيلية على غزة، وتضحيات أهلها، وما اختبروه في هذه الحروب، تثير مسألة ملحة تتعلق بتحديد مكانة القطاع في العملية الوطنية الفلسطينية، والتي تم السكوت عنها من قبل الفصائل الفلسطينية، منذ انسحاب إسرائيل منها عام 2005.

وهذا الوضع يتطلب خلق إجماع فلسطيني للإجابة عن أسئلة من نوع: هل قطاع غزة ما زال تحت الاحتلال؟ أم أنه بات منطقة محررة؟ وهل يمكن تحويل غزة إلى قاعدة عسكرية لمصارعة إسرائيل بالصواريخ أو غيرها؟ وهل يمكن تحميل هذا القطاع عبء تحرير فلسطين أو هزيمة إسرائيل؟ أم الأجدى تحويله إلى نموذج لمنطقة محررة، يستطيع الفلسطينيون فيها تنمية أوضاعهم كمجتمع، في التعليم والثقافة والاقتصاد والسياسة؟

في كل الأحوال، لا ينبغي تحميل فلسطينيي غزة أكثر مما يحتملونه، فهم يعيشون في سجن كبير، ويكابدون الضيم والحصار المشدد، مما يعني أن مجرد صمودهم، وتوجيههم ضربات قاسية لإسرائيل، حتى ولو كانت معنوية، هو أمر كبير، ويؤكد للإسرائيليين أن دولتهم لم تعد ملاذا آمنا، وأن روح المقاومة عند الشعب الفلسطيني لن تخمد.

نعم لقد نجحت المقاومة في إثبات نفسها بإيلام إسرائيل، وصد عدوانها، كما نجحت حماس بتعزيز مكانتها، بانتهاجها خطاب التحرر الوطني، وتمسكها بالإجماع الفلسطيني. بيد أن التحدي الذي يواجهها الآن هو كيفية استثمار ذلك، بتحويل التضحيات والبطولات إلى مكاسب سياسية.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى