صفحات الكتبكتب ألكترونية

مقالة في العبودية المختارة/ أتين دي لابويسيه -الكتاب كاملا-

ترجمة:مصطفى صفوان

 مقدمة المترجم

ولد أتين دي لابويسيه في العام 1530، في مدينة سارلا، إلى الجنوب من ليموج، وإلى الشرق من بوردو، منتمياً إلى عائلة ميسورة من النواب الذين كلفتهم الطبقة الأرستقراطية بإدارة أعمالها، لانصراف هذه الطبقة إلى البقاء في خدمة ملوك فرنسا.وكان أبوه، الذي توفي وهو طفل، من رجال الكنيسة المتضلعين في اللاهوت والأدب، فنشأ أتين على تقديس «الإنسانيات» اليوناني واللاتينية.وقد التحق، من ثم، بجامعة أورليان التي كانت تعد ثانية جامعات فرنسا بعد جامعة باريس، فانصرف إلى دراسة القانون التي كانت دراسة لغوية فيلولوجية(أي منصبة على النصوص) في المقام الأول.ولماَّ حصَّل درجته الجامعية في العام 1553، حصل من الملك هنري الثاني على تصريح يبيح له حق العمل قاضياً ببرلمان بوردو(كان الحصول على المنصب بالشراء لحاجة الملك إلى المال).وقد انعقدت أواصر صداقة بينه وبين ميشيل دي لوبيتال، مستشار كاترين دي ميديسين – أم الملك، فكلّفه صديقه الذي يكبره بربع قرن أن يشرح لبرلمان بوردو، الذي انتصر اعضائه للفريق الكاثوليكي المتعصب في صراعه ضد «الهجْنُوت»(وهو الاسم الذي أطلق على أشياع كَالفِن في فرنسا)، سياسة التسامح الديني التي ينتهجها، ، فكاد ينجح في عقد لقاء وطني بين الطرفين، لكن أعمال العنف توالت.ولّما صدر مرسوم شباط(فبراير) 1562، القاضي بترك حرية العبادة لأشياع كالفن، دون اعتبارهم هرا قطة، كتب مذكرة شرح فيها النتائج المنحوسة التي تنجم عن المنازعات الدينية، وبيِّن أن الردع الدموي لا يؤدي إلى القضاء على الخصوم، بل إلى تفاقم العداوة تفاقماً يهدد البلاد بحرب أهلية.

كان لابويسيه قد تعرّف، أثناء عمله قاضياً ببرلمان بوردو في العام 1557، إلى مونْتني، فانعقدت بين الرجلين صداقة خلدها الأخير في مقالاته.ولَّما توفي لابويسيه في الثامن عشر من آب(أغسطس) 1562، نشر مونْيني أعمال صديقه في قسمين: شعر نظمه في مقتبل العمر، وترجمات عن المؤرخ اليوناني كسينوفون، وأخرى متعددة عن بلوتارك.ولكن مونتني لم ينشر أعمال صديقه الأدبية، لأنه رأى فيها «حياكة أدق وألطف من أن تخرج إلى الجو الخشن الذي اتسم به هذا الفصل الفاسد»، وهي عبارة تحوي الإشارة إلى الصراع السافر الذي انتهت إليه العلاقة بين حركة الإصلاح الديني وبين الدولة الملكية، والذي تجاوز حداً لا عودة عنه بعد مذبحة أشياع كالفن في العام 1572، وهي المذبحة المعروفة باسم ليلة القديس بارتوليمي.والأرجح أن لابويسيه كان قرأ «مقالة في العبودية المختارة» على بعض أقرانه في جامعة أورليان فاستنسخوها.ولمَّا صار بعض هؤلاء المستنسخين في عداد الكالفينيين، اقتبسوا أجزاء من هذه المقالة في كتاباتهم، مع تصاعد العداء واستحكامه، واستخدموها لأغراض سياسية.لكن استتباب الأمر للحكم الملكي، خلال القرن السابع عشر، جعل«مقالة في العبودية المختارة» نصاً لا يلتفت إليه إلا قلّة من القراء، وكان قدرها أن لا تظهر منشورة إلا في ظل «مقالات» مونتني، حتى العام 1835، إذ نشر النّص على حدة.

إن هذا النص، إذا كان يحظى اليوم بانتباه منقطع النظير من جانب المشتغلين بالفلسفة السياسية، والاجتماع، فلأن أحداث العصر الذي نعيشه، منذ الحرب العالمية الثانية، لا تترك بدَّاً من التفرقة بين السيادة والاستغلال، ومن مواجهة هذا السؤال: هل استغلال الإنسان للإنسان هو أساس السيادة، وما هذه إلا نتيجته، أم أن للسيادة جذوراً أخرى ما كان الاستغلال ليستتبّ بغيرها في صورة الدولة؟

على أن القارئ قد يستخلص جملّة من دروس أخرى في مقالة لابويسيه، وحسبنا أننا نقدمها إليه هنا من ترجمة المفكر مصطفى صفوان، مع هوامش من وضعه مثبتةٍ في آخر النص.

العبودية المختارة

كثرة الأمراء سوء، كفى سيد واحد.ملك واحد [1].

بهذه الكلمات خطب أوليس القوم في هوميروس.ولو أنه وقف عند قوله:

«كثرة الأمراء سوء»

لأحسن القول بما لا مزيد عليه.لكنه حيث وجب تعليل ذلك بالقول بأن سيطرة الكثيرين لا يمكن أن يأتي منها الخير ما دامت القوة المسندة إلى واحد، متى تسمى باسم السيد، صعبة الاحتمال منافية للمعقول راح يعكس الكلام فأضاف:

«كفى سيد واحد، ملك واحد».

بيد أن أوليس ربما وجبت معذرته إذ لم يكن له مفر من استخدام هذه اللغة حتى يهدئ ثورة الجيش مطابقاً بمقاله المقام بدل مطابقة الحقيقة.فإن وجب الحديث عن وعي صادق فإنه لبؤس ما بعده بؤس أن يخضع المرء لسيد واحد، يستحيل الوثوق بطيبته أبداً ما دام السوء في مقدوره متى أراد، ، فإن تعدّد الأسياد تعدّد البؤس الذي ما بعده بؤس بقدر ما نملك منهم.وما أريد في هذه الساعة طرق هذه المسألة التي كثر الجدل فيها: إذا ما كانت أشكال الجماعة[2] الأخرى تفضل حكم الواحد[3].ولو أردت لوددت قبل النظر في مكانة هذا الحكم بين الأشكال الأخرى أن أعرف أولاً هل له مكانة ما، لأن من الصعب الاعتقاد ببقاء شيء يخص الجماعة حيث ينفرد واحد بكل شيء، ولكن هذه مسألة متروكة لوقت آخر وتقتضي مقالاً يفرد لها وإلا جلبت معها جميع المنازعات السياسية.

فأما الآن فلست أبتغي شيئاً إلا أن أفهم كيف أمكن هذا العدد من الناس، من البلدان، من المدن، من الأمم أن يحتملوا أحياناً طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته.إنه لأمر جلل حقاً وإن انتشر انتشاراً أدعى إلى الألم منه إلى العجب أن نرى الملايين من البشر يخدمون في بؤس، وقد غُلّت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر بل هم(فيما يبدو) قد سحرهم وأخذ بألبابهم مجرد الاسم الذي ينفرد به البعض، كان أولى بهم ألا يخشوا جبروته، فليس معه غيره، ولا أن يعشقوا صفاته فما يرون منه إلا خلوه من الإنسانية ووحشيته.إن ضعفنا نحن البشر كثيراً ما يفرض علينا طاعة القوة ونحن محتاجون إلى وضع الرجاء في الارجاء ما دمنا لا نملك دائماً أن نكون الأقوى.فلو أن أمة أجبرت بقوة الحرب على أن تخدم واحداً(مثل أثينا الطغاة الثلاثين[4]) لما وجب الدهش لخادِمِيّتِها بل الرثاء لنازلتها، أو بالأحرى ما وجب الدهش ولا الرثاء بل الصبر على المكروه والتأهب لمستقبل أفضل.

إن من شأن طبيعتنا أن تستغرق واجبات الصداقة المشتركة بيننا قسطاً لا بأس به من مجرى حياتنا.فمن العقل محبة الفضيلة وتقدير الأعمال الجليلة وعرفان الفضل من حيث تلقيناه، والاستغناء أحياناً عن بعض ما فيه راحتنا لنزيد به شرفاً وامتيازاً من نحب ومن استحق هذا الحب.فلو أن بلداً رأى سكانه كبيراً منهم يبدي بالبرهان فطنة كبيرة في نصحهم وجرأة شديدة في الدفاع عنهم، وتروياً جماً في حكمهم فانتقلوا من ذلك إلى طاعته وإسلام قيادهم له، إلى حد إعطائه ميزات دونهم فما أدري أهي حكمة أن ينقلوه من حيث كان يسدي الخير إليهم إلى حيث يصبح الشر في مقدوره.أن التخلي عن خشية الشر ممن لم نلق منه إلا الخير لحكمة لو كان محالاً ألا يخالط طيبته نقص.

و لكن ما هذا يا ربي؟ كيف نسمي ذلك؟ أي تعس هذا؟ أي رذيلة، أو بالأصدق أي رذيلة تعسة؟ أن نرى عدداً لا حصر له من الناس لا أقول يطيعون بل يخدمون ولا أقول يُحكمون بل يُستبد بهم، لا ملْك لهم ولا أهل ولا نساء ولا أطفال بل حياتهم نفسها ليست لهم ‍‍! أن نراهم يحتملون السلب والنهب وضروب القسوة لا من جيش ولا من عسكر أجنبي ينبغي عليهم الذود عن حياضهم ضده، بل من واحد لا هو بهرقل ولا شمشون بل خنث[5]، هو في معظم الأحيان أجبن من في الأمة وأكثرهم تأنثاً، لا ألفة له بغبار المعارك وإنما بالرمل المنثور على الحلبات(إن وطأها) ولا يحظى بقوة يأمر بها الناس، بل يعجز عن أن يخدم ذليلاً أقل أنثى[6] ! أنسمي ذلك  جبناً؟ أنقول أن خدامه حثالة من الجبناء؟ لو أن رجلين، لو أن ثلاثة أو أربعة لم يدافعوا عن أنفسهم ضد واحد لبدا ذلك شيئاً غريباً، لكنه بعد ممكن، ولوسعنا القول عن حق إن الهمة تنقصهم.ولكن لو أن مائة، لو أن ألفاً احتملوا واحداً ألا نقول: إنهم لا يريدون صده ليس لأنهم لا يجرأون على الاستدارة له، لا عن جبن بل احتقاراً له في الأرجح واستهانة بشأنه؟ فأما أن نرى لا مائة ولا ألف رجل بل مائة بلد، ألف مدينة، مليون رجل، أن نراهم لا يقاتلون واحداً أقصى ما يناله من حسن معاملته أي منهم هو القنانة والرقّ فأنّى لنا باسم نسمي به ذلك؟ أهذا جبن؟ إن لكل رذيلة حدّاً تأبى طبيعتها تجاوزه.فلقد يخشى إثنان واحداً ولقد يخشاه عشرة.فأما ألف، فأما مليون، فأما ألف مدينة إن هي لم تنهض دفاعاً عن نفسها في وجه واحد فما هذا بجبن لأن الجبن لا يذهب إلى هذا المدى، كما أن الشجاعة لا تعني أن يتسلق امرؤ وحده حصناً أو أن يهاجم جيشاً أو يغزو مملكة.فأي مسخ من مسوخ الرذيلة هذا الذي لا يستحق حتى اسم الجبن ولا يجد كلمة تكفي قبحه، والذي تنكر الطبيعة صنعه وتأبى اللغة تسميته؟

ضع بجانب خمسين ألف رجل مدججين بالسلاح.وضع مثلهم بالجانب الأخر.دعهم يصطفون للمعركة ثم يلتحمون، بعضهم أحرار يقاتلون دفاعاً عن حريتهم والبعض الأخر بغية سلبهم إياها.ترى من تظنك تُعد بالنصر؟ من تظن أنهم ذاهبون إلى ساحة القتال بخطى مقدامة؟ من يأملون الاحتفاظ بحريتهم جزاءً على عنائهم أم أولئك الذين سواء كالوا الضربات أو تلقوها لم ينتظروا أجراً عليهم سوى استعباد الغير؟ الأولون يضعون دائماً نصب أعينهم سعادة الحياة الماضية وتوقع نعيم يماثلها في المستقبل، ولا يفكرون في القليل الذي تلزم مكابدته زمن المعركة، بقدر ما يفكرون فيما سيُفرض عليهم أبد الدهر، هم وأولادهم وجميع ذريتهم.فأما الأخرون فلا حافز لهم إلا وخز من الطمع لا يلبث أن يسكن أمام الخطر، ولا يمكن أن يبلغ التهابه حداً لا تطفئه أول قطرة من الدم تنض بها جروحهم.خذ المعارك المشهودة التي خاضها ميلسيادس وليونيداس وثميستوكل منذ ألفي عام[7]، والتي ما زالت تحيا في  صفحات الكتب وذاكرة البشر حتى اليوم كأن رحاها لم تدر إلا بالأمس على أرض الإغريق، من أجل الإغريق ومن أجل أن تكون مثلاً للدنيا قاطبة: ما الذي في زعمك أعطى فئة قليلة قلة الإغريق إذ ذاك لا أقول القوة بل الجرأة على الصمود في وجه أساطيل بلغ من حشدها أن ناء بثقلها البحر، وعلى أن يدحروا أمماً بلغ من كثرتها أن كتيبة الإغريق بأسرها ما كان يكفي جنودها تزويد أعدائها ولو بالقواد ليس غير؟ ماذا سوى أن المعركة لم تكن في هذه  الأيام المجيدة معركة الإغريق ضد الفرس، بقدر ما كانت تعني انتصار الحرية على السيادة، وانتصار العتق على جشع الاسترقاق؟

إنّا ندهش إذ نسمع قصص الشجاعة التي تملأ بها الحرية قلوب المدافعين عنها.أما ما يقع في كل بلد لكل الناس كل يوم: أن يقهر واحد الألوف المؤلفة ويحرمها حريتها، فمن ذا الذي كان يسعه تصديقه لو وقف عند سماعه دون معاينته؟ ولو أن هذا القهر لم يكن يحدث إلا في بلد أجنبي وأرض قاصية ثم تردد نبأْهُ أكان أحد يتردد في ظنه كذباً وافتراء لا حقيقة واقعة؟ ومع هذا فهذا الطاغية لا يحتاج الأمر إلى محاربته وهزيمته، فهو مهزوم خلقة، بل يكفي ألا يستكين البلد لاستعباده.ولا الأمر يحتاج إلى انتزاع شيء منه بل يكفي الامتناع عن عطائه.فللبلد إذا أراد ألا يتحمل مشقة السعي وراء ما فيه منفعته، كل ما يقتضيه الأمر هو الإمساك عما يجلب ضرره.الشعوب إذاً هي التي تترك القيود تكبلها أو قل إنها تكبل أنفسها بأنفسها ما دام خلاصها مرهوناً بالكف عن خدمته.الشعب هو الذي يقهر نفسه بنفسه ويشق حلقه بيده.هو الذي ملك الخيار بين الرق والعتق فترك الخلاص وأخذ الغل.هو المنصاع لمصابه أو بالأصدق يسعى إليه.فلو أن الظفر بحريته كان يكلفه شيئاً لوقفت عن حثه: أليس أوجب الأمور على الإنسان أن يحرص أكبر الحرص على حقه الطبيعي[8] وأن يرتد عن الحيوانية ليصبح إنساناً؟ ولكنني لا أطمع منه في هذه الجرأة، ولا أنا أنكر عليه تفضيله نوعاً آمناً من أنواع الحياة التعسة على أمل غير محقق في حياة كريمة.ولكن ! ولكن إذا كان نوال الحرية لايقتضي إلا أن نرغب فيها، وكان يكفي فيه أن نريد، أكنا نرى على وجه الأرض شعباً يستفدح ثمناً لا يعدو تمنيها، أو يقبض إرادته عن استرداد خير ينبغي شراؤه بالدم، ويستوجب فقدُه على الشرفاء أن تصبح الحياة مرة عندهم والموت خلاصاً؟ إن الشرارة تستفحل نارها وتعظم، كلما وجدت حطباً زادت اشتعالاً ثم تخبو وحدها دون أن نصب ماء عليها، يكفي ألا نلقي إليها بالحطب كأنها إذا عدمت ما تُهلك، تُهلك نفسها وتُمسي بلا قوة وليست ناراً.كذلك الطغاة كلما نهبوا طمعوا , كلما دمروا وهدموا، كلما موّناهم وخدمناهم زادوا جرأة واستقووا وزادوا إقبالاً على الفناء والدمار.فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم صاروا، بلا حرب ولا ضرب، عرايا مكسورين لا شبيه لهم بشيء إلا أن يكون فرعاً عدمت جذوره الماء والغذاء فجف وذوى.

إن الشهام لا يخشون الخطر من أجل الظفر بمطلبهم، كما أن الأذكياء لا يحجمون عن المشقة.أما الجبناء والمغفلون فلا يعرفون احتمال الضرر ولا تحصيل الخير، وإنما يقفون عند تمنيه، يسلبهم الجبنُ قوة العمل عليه، فالرغبة في امتلاكه إنما تلصق بهم بحكم الطبيعة.هذه الرغبة، هذه الإرادة الفطرية أمر يشترك فيه الحكيم والملتاث، ويشترك فيه الشجاع والجبان، به يودون تلك الأشياء التي يجلب اكتسابها السعادة والرضى.شيء واحد لا أدري كيف تركت الطبيعة الناس بلا قوة على الرغبة فيه: الحرية التي هي مع ذلك الخير الأعظم والأطيب، حتى أن ضياعها لا يلبث أن تتبعه النواكب تترى وما يبقى بعده تفسده العبودية وتفقده رونقه وطعمه.الحرية وحدها هي ما لا يرغب الناس فيه لا لسبب فيما يبدو إلا لأنهم لو رغبوا لنالوها، حتى لكأنهم إنما يرفضون هذا الكسب الجميل لفرط سهولته.

يا لذل شعوب فقدت العقل ويا لبؤسها، يا لأمم أمعنت في آذاها وعميت عن منفعتها، تُسلبون أجمل مواردكم وأنتم على السلب عيان، تتركون حقولكم تُنهب ومنازلكم تُسرق وتُجرّد من متاعها القديم المورث عن آبائكم ! تحيون نوعاً من الحياة لا تملكون فيه الفخر بمِلْك ما، حتى لكأنها نعمة كبرى في ناظركم لو بقى لكم ولو النصف من أملاككم وأسركم وأعماركم، وكل هذاالخراب، هذا البؤس وهذا الدمار يأتيكم لا على يد أعدائكم بل يأتيكم يقيناً على يد العدو الذي صنعتم أنتم كبره، والذي تمشون إلى الحرب بلا وجل من أجله ولا تنفرون من مواجهة الموت بأشخاصكم في سبيل مجده.هذا العدو الذي يسودكم إلى هذا المدى ليس له إلا عينان ويدان وجسد واحد[9]، ولا يملك شيئاً فوق ما يملكه أقلكم على كثرة مدنكم، التي لا يحصرها العد إلا ما أسبغتموه عليه من القدرة على تدميركم.فأنّى له بالعيون التي يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي بها يصفعكم إن لم يستمدها منكم؟ أنّى له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف يقوى عليكم إن لم يقوا بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه؟ أي قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة للصّ الذي ينهبكم، شركاء للقاتل الذي يصرعكم، خونة لأنفسكم؟ تبذرون الحب ليُذْريه.تؤثثون بيوتكم وتملأونها حتى تعظم سرقاته.تربون بناتكم كيما يجد ما يشبع شهواته.تنشئون أولادكم حتى يكون أحسن ما يصيبهم منه جرهم إلى حروبه وسوقهم إلى المجزرة، ولكي يصنع منهم وزراء مطامعه ومنفذي رغباته الانتقامية.تتمرسون بالألم كيما يترفه في مسراته ويتمرغ في ملذاته القذرة، وتزيدون وهناً ليزيد قوة وشراسة ويَسِمَكم بلجامه.كل هذه الألوان من المهانة التي إما البهائم لا تشعر بها، أو ما كانت تحتملها، يسعكم الخلاص منها لو حاولتم لا أقول العمل عليه بل محض الرغبة فيه، اعقدوا العزم ألا تخدموا تصبحوا أحراراً.فما أسألكم مصادمته أو دفعه بل محض الامتناع عن مساندته.فترونه كتمثال هائل سُحبت قاعدتُه فهوى على الأرض بقوةٍ وزنهٍ وحدها وانكسر.

بيد أن الأطباء محقون بلا شك إذ ينهون عن لمس الجروح التي لا برء منها، ولا أظنني أسلك مسلكاً حكيماً إذا أردت أن أسدي هنا الموعظة إلى الشعب بعد أن فقد كل معرفة منذ أمد طويل، وصار فقدان حساسيته بالألم دليلاً كافياً على أن مرضه قد صار مميتاً.لنحاول أذن أن نتبين لو أمكن ذلك كيف استطاعت جذور هذه الإرادة العنيدة، إرادة العبودية، إلى هذا المدى البعيد حتى صارت الحرية نفسها تبدو اليوم كأنها شيء لا يمت إلى الطبيعة بسبب.

أولاً، إنه لأمر لا أظن الشك يتطرق إليه أننا لو كنا نعيش وفاقاً للحقوق الممنوحة لنا من الطبيعة والدروس التي تُلقننا إياها لكنا طيعين للوالدين بالطبع، خاضعين للعقل، غير مسخرين لأي كان.فالطاعة التي يحملها كل منا لأبيه وأمه دون أن يهديه إليها إلا صوت الطبيعة أمرّ الناس جميعاً شهود عليه كلّ عن نفسه.فأما العقل وهل يولد معنا أم لا فمسألة تقارع فيها الأكاديميون[10]، ولم تتخلف مدرسة من المدارس الفلسفية عن الخوض فيها، ولا أظنني أجانب الصواب، الآن إذ أقول إن بنفوسنا بذرة طبيعية من العقل تزدهر في شكل الفضيلة، إذا تعهدناها بالنصيحة الطيبة والقدوة الحسنة، ولكنها على العكس كثيراً ما تغلبها الرذائل فتخمد وتنفق.غير أن الشيء المحقق هو أنه إذا كان في رحاب الطبيعة شيء واضح باد للعيان ولا يجوز أن نعمى عنه فذلك أن الطبيعة وهي وزيرة الخالق وآمرة الخلق قد سوتنا جميعا على شبه واحد حتى لكأنها، إذا جاز التعبير، قد صبتنا في القالب ذاته، وذلك حتى يعرف في الآخرين رفاقه أو بالأصدق إخوته.وإذا كانت الطبيعة وهي توزع هباتها قد أسبغت على البعض مزية جسدية أو عقلية، وإذا كانت رغم ذلك لم تتركنا  في هذه الدنيا كأننا في حقل مغلق، ولم تفوض الأقوياء والمكرة بافتراس الضعفاء كقطاع طرق أطلق سراحُهم في الغابة، فلذلك دليل على أنها إذا أعطت البعض نصيباً أكبر، والبعض الأخر نصيباً أصغر، لم تكن تهدف إلا إلى أن تترك المجال للتعاطف الأخوي حتى يظهر وجوده ما دام البعض يملك قوة العطاء، والبعض الآخر الحاجة إليه.فإذا كانت هذه الأم الطيبة قد جعلت لنا من الأرض قاطبة سكناً، وأنزلتنا جميعاً المنزل نفسه، وهيّأتنا على نموذج واحد كيما يتسنى لكل منا أن يتأمل نفسه ويقترب من معرفتها في مرآة الآخرين، وإذا كانت قد وهبتنا جميعاً تلك الهبة الكبرى، هبة الصوت والكلام حتى نزيد تعارفاً وتآخياً وحتى تتلاقى إرادتنا بالأعراب المتبادل عن أفكارنا، وإذا كانت قد جهدت بكل السبل حتى نزيد توثق عُرى التحالف والاجتماع بيننا، وإذا كانت قد بينت في كل ما تصنع أنها لا تهدف إلى توحيدنا جميعاً بقدر ما تهدف إلى أن نكون جميعاً آحاداً، فقد ارتفع بذلك كل شيء في أننا جميعاً أحرار بالطبيعة، ما دمنا رفاقاً، وامتنع أن يدخل في عقل عاقل أن الطبيعة قد ضربت علينا الرق بيننا هي قد آلفت بيننا.

غير أن الحقيقة هي أن الجدل فيما إذا كانت الحرية حقاً طبيعياً أم لا، لن يكون إلا تحصيلاً للحاصل ما دمنا لا نسترق كائناً دون أن نلحق الأذى به، وما دام الغبن أكره الأشياء إلى الطبيعة التي هي مستودع العقل.إذن يبقى أن الحرية شيء طبيعي، ويبقى بهذا عينه أننا(فيما أرى) لا نولد أحراراً وحسب، بل نحن أيضاً مفطورون على محبة الذود عنها.فإن اتفق بعد ذلك أن ساورنا شك فيما أقول وأن بلغ من فسادنا أننا لم نعد نستطيع تمييز مصالحنا، ولا مشاعرنا الطبيعية، لم يبق إلا أن أكرمكم الإكرام الذي تستحقون، وأن أترك الحيوانات التي لا تمت إلى المدنية بصلة تصعد المنبر لتعلمكم ما هي طبيعتكم وما وضع وجودكم.إن الحيوانات(أخذ اللّه بعوني !) إذا البشر لم يصموا آذانهم لسمعوها تصرخ فيهم: عاشت الحرية ! الكثير منها لا يكاد يقع في الأسر إلا مات.فكما السمك يترك الحياة إذا يترك الماء، كذلك هي تترك الضوء وتأبى العيش بعد فقدان حريتها الطبيعية.فلو كانت لها مراتب لجعلت من الحرية عنوان نبالتها.فأما البقية من أكبرها إلى أصغرها، فهي لا تستسلم للأسر حين نقتنصها إلا بعد أن تظهر أشد المقاومة بالأظافر، والقرون، والمناقير، والأقدام، معلنة بذلك مدى إعزازها لما تفقد.ثم هي تبدي لنا العلامات الجلية مدى إحساسها بمصابها حتى أننا لنعجب إذ نراها تؤثر الضوى على الحياة، كأنها إنما تقبل البقاء لترثي ما خسرت وليس لتنعم بعبوديتها.هل يقول الفيل شيئاً آخر حين يقاتل دفاعاً عن نفسه حتى يستنفذ قواه ويرى ضياع الأمل وشوك الأسر، فإذا هو يغرس فكيه محطماً على الشجر سنّيه، هل يقول شيئاً آخر سوى أن رغبته الشديدة في البقاء حراً تلهمه الذكاء، فتحثه على مساومة قناصيه لعلهم يتركون له الحرية ثمناً لعاجه ولعله يفتدي به حريته؟ إننا نستأنس الجياد منذ مولدها لندربها على خدمتنا، فإذا كنا مع ذلك حين نجيء إلى ترويضها نعجز عن ملاطفتها إلى الحد الذي لا يجعلها تعض الحَكَمَة، وتنفر من المهماز، فما هذا في اعتقادي إلا شهادة منها بأنها إنما تقبل خدمتنا كارهة لا مختارة.ما القول إذاً؟

   حتى البقر أَنَّ تحت النير        وشكا في أقفاصه الطير

كما عنَّ لي قوله حين شغلني فيه نظمنا الفرنسي[11]، لأني وأنا أكتب إليك يا لُونجا[12] مازجاَ بالكلام أشعاري التي لا أقرأها أبداً، لا أخشى قط أن يجرك ما تبديه من الرضا عنها إلى جعلها مدعاة لفخري.خلاصة القول أنه لَمَّا كانت جميع الكائنات الحاصلة على الحس تشعر إذ تحصل عليه بألم خضوعها وتسعى وراء حريتها، ولما كانت الحيوانات، وهي المجعولة لخدمة الإنسان، لا تستطيع أن تألف العبودية دون أن تبدي احتجاجاً يعرب عن الرغبة في الضد، فما هي تلك الرذيلة التي استطاعت أن تمسخ طبيعة الإنسان، وهو وحده المولود حقيقة ليعيش حراً، وأن تجعله ينسى ذكرى وجوده الأول وينسى الرغبة في استعادته؟

هناك ثلاثة أصناف من الطغاة: البعض يمتلك الحكم عن طريق انتخاب الشعب، والبعض الآخر بقوة السلاح، والبعض الثالث بالوراثة المحصورة في سلالتهم.فأما من انبنى حقهم على الحرب فنعلم جيداً أنهم يسلكون، كما نقول، في أرض محتلة.وأما من ولدوا ملوكاً فهم عادة لا يفضلون قط لأنهم وقد ولدوا وأطعموا على صدر الطغيان، يمتصون جبلة الطاغية وهم رضاع، وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى تركة من العبيد، ويتصرفون في شؤون المملكة كما يتصرفون في ميراثهم، كل بحسب استعداده الغالب نحو البخل أو البذخ.أما من ولاه الشعب مقاليد الدولة، فينبغي فيما يبدو أن يكون احتماله أهون.ولقد يكون الأمر كذلك على ما اعتقد لولا أنه ما أن يرى نفسه يرتقي مكاناً يعلو به الجميع، وما أن يستغويه هذا الشيء الغريب المسمى بالعظمة، حتى يعقد النية على ألا ينزاح من مكانه قط.وما أن يتلقف هؤلاء هذه الفكرة حتى نشهد شيئاً عجباً: نشهد إلى أي مدى يبزون سائر الطغاة في جميع أبواب الرذائل، بل في قسوتهم، دون أن يروا سبيلاً إلى تثبيت دعائم الاستبداد الجديد، سوى مضاعفة الاستعباد وطرد فكرة الحرية عن أذهان رعاياهم، حتى يعفو عليها النسيان رغم قرب حضورها في ذاكرتهم.فكلمة الحق هي أني أرى بعضاً من الاختلاف بين الطغاة، ولكني لا أرى اختياراً بينهم، لأن الطرق التي يستولون بها على زمام الحكم لا يكاد يختلف: فمن انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله، والغزاة كأنه فريستهم، والوارثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتلاكاً طبيعياً.

فَهَب في هذا الموضع أن الصدفة شاءت أن يولد نمط جديد من البشر، لا ألفة لهم بالعبودية ولا ولع بالحرية، ولا يعلمون ما هذه ولا تلك، بل يجهلون حتى اسميها، ثم خيروا بين الرق وبين الحياة أحراراً، فعلام يجمعون؟ لا مجال للشك في أنهم سوف يؤثرون طاعة العقل وحده على خدمة رجل ما، هذا إلا إذا كان هؤلاء القوم هم شعب* إسرائيل الذي نصب طاغياً عليه بغير إكراه ولا احتياج: وإنه لشعب لا أقرأ قصته أبداً دون أن يملكني حنق عظيم حتى لأكاد أتجرد من الإنسانية فأفرح بجميع ما نزل عليه بعدئذٍ من البلايا[13].ولكن طالما بقي بالإنسان أثر من الإنسان فهو يقيناً لا ينساق إلى العبودية إلا عن أحد سبيلين: إما مكرهاً وإما مخدوعاً** .مكرهاً إما بسلاح أجنبي مثل مدينتي إسبرطة وأثينا، إذ قهرتهما قوات الاسكندر، وإما بطائفة من مجتمعه، مثلما حدث في أثينا في زمن أسبق حين استولى بيسيسترانس على مقاليد الحكم[14].فأما الخديعة من حيث تؤدي أيضاً إلى فقدان الحرية فرجوعها إلى تغرير الغير في أكثر الاحيان عن رجوعها إلى كون الناس يخدعون أنفسهم بأنفسهم.مثال ذلك شعب سيراقوصة(عاصمة صقيلة) إذ هجم عليه الأعداء من كل جانب ولها* فكرُه عن كل شيء إلا عنالخطر الحاضر، فرفع ديونيسيوس إلى الرياسة دون نظر إلى المستقبل، وأسند إليه قيادة الجيش، ولم يدرك إلى أي حد قوّاه إلا حين رجع هذا الداهية منتصراً كأنه قد غزا مواطنيه لا أعداءهم، فتسمى باسم القائد ثم بالملك ثم بالملك المطلق[15].وإنه لأمر يصعب على التصديق أن نرى الشعب متى تم خضوعه، يسقط فجأة في هاوية من النسيان العميق لحريته إلى حد يسلبه القدرة على الاستيقاظ لاستردادها، ويجعله يسرع إلى الخدمة صراحة وطواعية حتى ليُهيَأُ لمن يراه أنه لم يخسر حريته بل كسب عبوديته.صحيح أن الناس لا يقبلون على الخدمة في أول الأمر إلا جبراً وخضوعاً للقوة، ولكن من يأتون بعدهم يخدمون دون أن يساورهم أسف، ويأتون طواعية ما أتاه السابقون اضطراراً.ذلك أن من ولدوا وهم مغلولو الأعناق ثم أطعموا وتربوا في ظل الاسترقاق، دون نظر إلى أفق أبعد يقنعون بالعيش مثلما ولدوا.ثم انه لما كان التفكير في حال مختلفة أو في حق آخر لا يطرأ على بالهم، فهم يأخذون وضعهم حال مولدهم مأخذ الأمر الطبيعي.ومع هذا فما من وارث إلا نظر أحياناً في مستندات أبيه ليرى هل يتمتع بحقوق تَرِكَته كاملة، أم أن غبناً قد أصابه أو أصاب سلفه.لكن لا شك أن العادة، مع سيطرتها علينا في كل مجال لا تظهر قوة تأثيرها مثلما تظهر حين تلقننا العبودية، وحين تعلمنا، مثلما قبل عن ميثريدات الذي صار السم عنده شراباً مألوفاً[16]، كيف نجرع سم الاسترقاق دون الشعور بمرارته.لا جدال في أن للطبيعة نصيباً كبيراً في توجيهناحيث تشاء، وأننا نولد على ما تدخره لنا من فطرة حسنة أو سيئة، ولكن لامناص من التسليم بأن سلطانها علينا يقل عن سلطان العادة لأن الاستعداد الطبيعي مهما حسن يذهب هباء إذا لم نتعهده، في حين أن العادة تفرض علينا صَوْغَها أياً كان هذا الاستعداد.فالبذور التي تنشرها فينا الطبيعة ضئيلة واهية إلى حد لا يجعلها تحتمل أقل غذاء منافر لها، فرعايتها لا تتم بمثل السهولة التي تتبدد بها وتفنى، شأنها شأن أشجار الفاكهة: كل شجرة منها لها طبيعتها التي تؤتي بمقتضاها ثمارها إذا تركتها، ولكنها تخرج عن طبيعتها وتؤدي ثماراً غريبة غير ثمارها إذا طعّمتها.كذلك الأعشاب: كل عشب له خاصيته وطبيعته وتفرده، ولكن البرد والجو ثم التربة ويد البستاني تعين نموه كثيراً، أو تعوقه كثيراً حتى أن النبات الذي نراه في قطر لا نكاد نعرفه في قطر آخر.تخيل رجلاً رأى أهل مدينة البندقية – وهم قلة من الناس يعيشون أحراراً، حتى ليأبى أقلهم جاهاً أن يتوج ملكاً على جميعهم، ولدوا ونشأوا على ألا يعرف أي منهم مطمعاً إلا الإدلاء بأحسن النصح من أجل الحفاظ على الحرية والسهر عليها، تربوا منذ المهد وتشكلوا على ألا يمدوا أيدهم إلى سائر نِعم الأرض مجتمعة عوضاً عن ذرة من حريتهم[17] – أقول تخيل رجلاً رأى هؤلاء القوم، ثم ذهب بعد أن غادرهم إلى أراض ينشر عليها سلطانه من لقبناه بمَلِكِ زمانه[18]، أرض يرى فيها أناساً لا يولدون إلا لخدمته ولا يعيشون إلا لدوام قوته، ترى هل يظن أن هؤلاء وأولئك من عجينة واحدة، أم الأرجح أنه سوف يعتقد أنه قد ترك مدينة آدمية ودخل حظيرة للدواب؟ يحكى أن ليكورج(مشرع إسبرطة[19]) قد ربى كلبين خرجا من بطن واحد ورضعا الثدي ذاته، فجعل أحدهما يسمن في المطابخ، وترك الأخر يجري في الحقول وراء أبواق الصيد.فلما أراد أن يبين لشعب لاسيدومونيا[20] أن الناس هم ما تصنع بهم تربيتهم جاء بالكلبين وسط السوق، ووضع بينهم حساء وأرنباً، فإذا أحدهما يجري وراء الطبق والأخر وراء الأرنب.فقال ليكورج: ومع هذا فهما أخوان ! هكذا نجح بفضل قوانينه ودستوره في أن ينشئ سكان لاسيدومونيا تنشئة، جعلت كلا منهم يفضل الموت ألف ميتة على أن يختار لنفسه سيداً آخر سوى القانون والعقل.

و يطيب لي هنا أن أتذكر حديثاً جرى في قديم الزمان بين أحد المقربين إلى اكسرس ملك فارس الأعظم وبين رجلين من لاسيدومونيا.أخذ اكسرس، وهو يعد جيشه الضخم لغزو اليونان، يبعث رسله إلى المدن اليونانية يطلبون إليها الماء والتراب: وهو تعبير كان يستخدمه الفرس، إشارة إلى أنهم يأمرون المدن بالاستسلام.إلا أثينا وإسبرطة، فقد تجنب أن يرسل لهم أحداً.ذلك أن الأثينيين والإسبرطيين كان قد سبق لهم أن أمسكوا بسفراء أبيه داريوس فزجوا بعضهم في الحفر والبعض الآخر في الآبار قائلين: خذوا ما تريدون من الماء والتراب ! كانوا قوماً لا يطيقون ولو كلمة تمس حريتهم.غير أن الإسبرطيين بعد أن صنعوا هذا الصنيع، أدركوا أنهم قد جروا على أنفسهم غضب الآلهة وغضب تالثيبيوس، إله الرسل، بنوع خاص، فقرروا أن يرسلوا إلى اكسرس مواطنين من بينهم ليَمْثُلا بين يديه وليصنع بهما ما يشاء انتقاماً لمن قُتِلَ من رسل أبيه.فتطوع رجلان ليدفعا هذا الثمن، اسم أحدهما سبرثيوس واسم الآخر بولس.وبينما هما في الطريق صادفاً قصراً يملكه رجل فارسي اسمه هندران، كان الملك قد عينه والياً على جميع المدن الواقعة على الساحل، فرحب بهما أكرم ترحيب، وأطعمهما بغير حساب، ثم سألهما بعد أن أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث لِمَ يرفضان إلى هذا الحد صداقة الملك.قالَ «أنظرا إليَّ أيها الإسبرطيان واتخذا مني مثالاً تعلمان منه كيف يعرف الملك تشريف من استحق، وتذكرا أنكما لو صرتما من أتباعه، لرأيتما من صنيعه ما رأيت وإنكما لو دنتما له بالطاعة وعرف أمركما لما خرج كلاكما عن أن يكون أميراً لمدينة من مدن اليونان».فأجابه محدثاه: «لهذا يا هندرمان أمر لا تملك فيه إسداء النصح إلينا، لأنك جربت النعمة التي تعدّنا بها ولكنك لا تعلم شيئاً عن نعمتنا، لقد ذقت حظوة الملك، وأما الحرية فلست تعرف ما مذاقها ولا مدى عذوبتها، ولو فعلت لنصحتنا بالدفاع عنها لا بالرمح والدرع بل بالأسنان والأظافر».هذا الجواب وحده هو الصدق، ومع هذا فلا شك أن ثلاثتهم تحدثوا وفاقاً لنشأتهم، فما كان للفارسي أن يستشعر الأسف على الحرية وهو لم ينلها قط، ولا للإسبرطي أن يحتمل التبعية بعد أن ذاق الحرية.

و كان كاتو[21] الأوتيكي وهو طفل تحت الوصاية كثير التردد على منزل الدكتاتور سيلا[22]، يروح ويجيء متى شاء لا يُصد الباب في وجهه أبداً لكرم محتده، ولِما كان بينه وبين سيلاً من أواصر القرابة.وكان معلمه يصحبه في كل زيارة على ما جرت به العادة إذ ذاك مع أبناء الأسر العريقة.ولم يلبث أن تبين له أن مصائر الناس تحسم بتلك الدار بمحضر من سيلا نفسه أو بأمره: البعض يُسجن والبعض يُدان، هذا ينفى وهذا يشنق، هذا يُطالب بمصادرة أملاك أحد المواطنين وذاك يطلب رأسه.تبين له بالاختصار أن الأمور لا تجري على ما ينبغي لدى مسؤول أعملته المدينة بل لدى طاغية استبد بالشعب، وأن المكان لم يكن ساحة للعدل بل مصنعاً للطغيان.عندئذ قال الفتى لمعلمه: «أنَّى لي بخنجر أدسه تحت ردائي فإني كثيراً ما أرى سيلّا في حجرته قبل أن يستيقظ، وإن بساعدي لقوة تكفي خلاص المدينة منه».هذه حقاً كلمة تليق برجل من معدن كاتو، وهكذا بدأت حياة هذا البطل الذي مات كريماً مثلما عاش كريماً.ومع هذا هب أنك لم تذكر الاسم ولا البلد مكتفياً بذكر الواقعة كما هي: لا شك أن الواقعة سوف تتحدث عندئذ عن نفسها بنفسها، لسوف يستدل السامع منها أن قائل هذا القول روماني ولد بأحضان روما حين كانت روما مدينة حرة.لِمَ أقول ذلك؟ طبعاً لا لأني أظن أن البلد أو الأرض يضيفان إلى الشيء ما ليس فيه، فالعبودية مرة بكل قطر وجوٍ والحرية عزيزة، ولكن لأني أرى أن من سَبَق النيرّ مولدهم جديرون بالرثاء، فواجبنا عذرهم أو الصفح لهم إذا كانوا لا يرون ضراً في عبوديتهم ما داموا لم يروا ولو ظِلَّ الحرية، ولا سمعوا عنها قط.فلو كان ثمة بلد كبلد السِمَرَيِّين[23] فيما يقول هوميروس، بلد لا تشرق عليه الشمس شروقها المألوف علينا، وإنما بعد أن تفيض عليهم بنورها ستة أشهر متوالية تتركهم نياماً في الحلكة خلال النصف الآخر من السنة: من ولدوا في غياهب هذا الليل الطويل إذا كانوا لم يسمعوا البتة أحداً يتحدث عن الضوء، هل نعجب لو أنهم ألفوا الظلمات التي ولدوا فيها دون أن يستشعروا الرغبة في النور؟ إنا لا نفتقد ما لم نحصل عليه قط وإنما يأتي الأسف في أعقاب المسرة، ودوماً تأتي ذكرى الفرح المنقضي مع خبرة الألم.أجل إن طبيعة الإنسان أن يكون حراً وأن يريد كونه كذلك، ولكن من طبيعته أيضاً أن يتطبع بما نشأ عليه.

لنقل إذن أن ما درج الإنسان عليه وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي، فلا شيء ينتسب إلى فطرته سوى ما تدعوه إليه طبيعته الخالصة التي لم يمسها التغيير.ومنه كانت العادة أول أسباب العبودية المختارة: كشأن الجياد الشوامس تعض الحكمة بالنواجذ في البدء، ثم تلهو بها أخيراً وبعد أن كانت ترجم، ولا تكاد تستقر تحت السرج إذا هي الآن تتحلى برحالها وتركبها الخيلاء وهي تتبخر في دروزها، تقول إنها كانت منذ البدء ملكاً لمالكها، وإن آباءها عاشت كذلك، وتظن أنها ملزمة باحتمال الجور وتضرب الأمثلة لتقتنع بهذا الإلزام، ويمر الزمن تدعم هي نفسها امتلاك طغاتها إياها.ولكن الحقيقة هي أن السنين لا تجعل أبداً من الغبن حقاً وإنما تزيد الإساءة استفحالا[24].آجلاً أو عاجلاً يظهر أفراد ولدوا على استعداد أحسن يشعرون بوطأة الغل، ولا يتمالكون عن هزه هزاً ولا يرضون أنفسهم أبداً على التبعية والخضوع، بل هم مثلهم كمثل أوليس وهو يجتاب الأرض والبحر عساه يرى الدخان الذي يصعد من داره، لا يمسكون قط عن التفكير في حقوقهم الطبيعية وعن تذكر من تقدموهم وتذكر وضعهم الأول.أولئك هم الذين إذ ملكوا فهماً نافذاً ورأياً بصرياً، وانصقلت عقولهم، لم يكتفوا كما يفعل العامة بالنظر إلى مواطئ أقدامهم دون التفات إلى ما أمامهم وما وراءهم، ودون أن يتذكروا وقائع الماضي ليسترشدوا بها في الحكم على المستقبل وسبر الحاضر.أولئك هم الذين استقامت أذهانهم بطبيعتها فزادوها بالدراسة والمعرفة تهذيباً.أولئك لو أن الحرية امّحت على وجه الأرض وتركتها كلها لتخيلوها، وأحسوا بها في عقولهم، وتذوقوها ذوقاً ولم يجدوا للعبودية طمعاً مهما تبرقعت.

لقد أدرك قراقوش الترك[25] هذا الأمر أحسن أدراك: أدرك أن الكتب والثقافة الصحيحة تزود الناس أكثر من أي شيء آخر بالحس والفهم اللذين يتيحان لهم التعارف، والاجتماع على كراهية الطغيان، دليل ذلك خلو أرضه من العلماء، وبعده عن طلبهم.وفي سائر الأرض بوجه عام تظل حماسة من أخلصوا قلوبهم للحرية، وتظل محبتهم دون أن يكون لهما أثر مهما كثر عددهم لانقطاع التواصل بينهم: فالطاغية يسلبهم كل حرية: حرية العمل وحرية الكلام، ولو أمكن فحرية الفكر* ، فإذا هم منفردون منعزلون كلُّ في تخيله.وعليه فما بالغ الإله الساخر موموس[26] في سخريته، إذ شهد الإنسان الذي صنعه فولكان[27] فنصحه أن يضع أيضاً بقلب صنيعه نافذةً صغيرة لكي تتسنى رؤية أفكاره من خلالها.ولقد قيل إن بروتوس وكاسيوس[28] حين شرعا في تحرير روما، أو بالأصدق تحرير العالم أجمع، أبيا أن يشركا شيشرون.وهو المدافع المنقطع عن المصلحة العامة، فيما عقدا العزم عليه إذ كان من رأيهما أن قلبه أضعف من أن يثبت في هذا الموقف العصيب.كانا يثقان في صدق أرادته دون أن يضمنان شجاعته.وإن لفي وسع من أراد استقراء وقائع الماضي وسجلات التاريخ، أن يتحقق أن من رأوا بلدهم تُساء سياسته وتستحوذ عليه أياد جانية فعقدوا العزم على تحريره بنية صادقة، مستقيمة، لا تردد فيها قلَّ ألاّ يحالفهم النجاح، وأن الحرية تساندهم في الدفاع عن قضيتها.انظر هارموديوس وأرسطجيتون وثراسيبول وبروتوس الأقدم وفالريوس وديون[29]: لقد كان عملهم ناجحاً مثلما كان فكرهم فاضلاً، لأن الحظ لا يكاد يتخلى أبداً في مثل هذه القضية عن مناصرة الإرادة الطيبة.كذلك نجح بروتوس الأصغر وكاسيوس في رفع العبودية، وإن كانا إذ استرجعا الجمهورية قد خسرا الحياة خسارة لا تحط من شأنهما(فأي سبّة هذه أن تنسب الحطة إلى أمثال هؤلاء القوم سواء في الحياة أو في الممات !) بل خسارة عانت منها الجمهورية أكبر الضرر، وعانت البؤس أبد الدهر، واندثرت اندثاراً كأنها قد دفنت بدفنهما.فأما ما تلا ذلك من الحركات الموجهة ضد الأباطرة الرومانيين، فلم تكن إلا مؤامرات حاكها قوم طامحون لا يستحقون الرثاء على سوء مآلهم، فقد كان من الواضح أن مطلبهم لم يكن تقويض العرش بل زحزحة التاج، مدعين طرد الطاغية مع الإبقاء على الطغيان.هؤلاء قوم ما كنت نفسي أود لهم نجاحاً، وإنه ليسرني أنهم قد ضربوا بأنفسهم المثل على أن اسم الحرية المقدس لا يجوز استخدامه مع اعوجاج القصد.

و لكني لكي أعود إلى موضوعنا الذي كاد يغيب عن نظري أقول إن السبب الأول، الذي يجعل الناس ينصاعون طواعية للاستعباد، هو كونهم يولدون رقيقاً* وينشأون كذلك.إلى هذا السبب يضاف سبب آخر: إن الناس يسهل تحولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء مخنثين.ولكم أشكر أبا الطب هيبوقراط إذ فطن إلى ذلك، وعبر عنه أحسن تعبير في كتابه الّمعلَّى عن الأمراض.لقد كان هذا الرجل يملك يقيناً في جميع أحواله قلباً يزخر بالمروءة، أبدى ذلك حين أراد ملك الفرس جذبه بالعطايا والهدايا فأجابه أنه لن يسلم من وخزات الضمير لو أنه أشتغل بعلاج الأجانب، الذين يريدون موت الإغريق، وراح يخدمهم بفنه بينما هو يريد إخضاع بلادهم.ولا يزال خطابه المرسل إلى ملك الفرس ماثلاً إلى يومنا هذا بين سائر كتاباته، يشهد مدى الدهر على قلبه الطيب وطبيعته النبيلة.من المحقق إذاً أن الحرية تزول بزوالها الشهامة.فالقوم التابعون لا همة لهم في القتال ولا جلد، إنهم يذهبون إلى الخطر كأنهم يشدون إليه شداً، أشبه بنيام يؤدون واجباً فرض عليهم، لا يشعرون بلهب الحرية يحترق في قلوبهم، هذا اللهب الذي يجعل المرء يزدري المخاطر، ويود لو اكتسب بروعةِ موتهِ الشرفَ والمجدَ بين أقرانه.إن الأحرار يتنافسون كلُّ من أجل الجماعة ومن أجل نفسه، وينتظرون جميعاً نصيبهم المشترك من ألم الانكسار أو فرحة الانتصار، أما المُستعْبَدون فهم عدا هذه الشجاعة في القتال يفقدون أيضاً الهمة في كل موقف، وتسقط قلوبهم وتخور وتقصر عن عظيم الأعمال.وهذا أمر يعلمه الطغاة جيداً، فهم ما أن يروا الناس في هذا المنعطف إلا عاونوهم على المضي فيه حتى يزيدوا استنعاجاً.

لقد وضع كْسينُوفون[30]، وهو مؤرخ جاد من أئمة المؤرخين اليونانيين، كتاباً تخيل فيه حواراً بين سيمونيد وبين طاغية سيراقوصة هيرون حول كروب الطاغية.هذا الكتاب مليء بنظرات نقدية طيبة جادة، وإن اتسمت مع ذلك في رأيي بأقصى ما يمكن من اللطف.ليت طغاة الأرض وضعوا هذا الكتاب نصب أعينهم أنّى وجدوا لتكون لهم منهم مرآة لهم ! فلو فعلوا لتبينوا رذائلهم ولأخجلتهم مساعيهم.في هذا الحوار يصف كسينوفون كرب الطغاة.إذ يضطرهم الأذى الذي يلحقونه بالناس جميعاً إلى خشيتهم جميعاً، قائلاً بين ما يقول إن الملوك الفاسدين يستخدمون المرتزقة الأجانب في شن الحروب فَرَقاً من ترك السلاح في أيدي رعاياهم، الذين أمعنوا في غبنهم.(هذا وإن يكن من الصحيح أن التاريخ قد شهد بين الفرنسيين، أنفسهم، وفي الماضي أكثر منه في الحاضر، ملوكاً صالحين جندوا جيوشاً من الأمم الأجنبية لا عن حذر، بل حرصاً على بني وطنهم، وتقديراً منهم أن خسارة المال يبخس ثمنها في سبيل صيانة الأرواح عملاً بما يسند إلى سيبيون، وأظنه الأفريقي[31]، من قوله أنه يفضل لو أنقذ مواطناً على أن يدحر ألف عدو).ولكن الشيء المحقق هو أنه ما من طاغية يظن أبداً أن السلطان قد استتب له إلا أن يبلغ تلك الغاية التي هي تصفية المأِمورين بأمره* ، من كل رجل ذي قيمة ما.بحيث يحق لنا أن نوجه إليه التقريع الذي يفخر تيراسون في إحدى مسرحيات تيرانس بتوجيهه إلى مروض الأفيال: ألأنك تأمر الأنعام.تجرؤ هذه الجرأة[32]؟

بيد أن هذا التحايل من قبل الطغاة على التغرير برعاياهم لا يمكن أن يتجلى على نحو يفوق تجليه فيما صنع كسرى إزاء الليديين[33]، إذ دحرهم بثرائه واستولى على عاصمتهم سارد، وأسر كريسوس ملكهم الذي ضربت بثرائه الأمثال، وعاد به إلى بلاده فبلغه أن أهل سارد قد ثاروا.وكان يسعه سحقهم إلا أنه رغب عن تدمير مدينة فاق جمالها الأوصاف، ثم هو لم يكن يريد أن يجمد بها جيشاً لحراستها.فتفتق ذهنه عن حيلة كبيرة توصل بها إلى مأربه: فتح دور الدعارة والخمر والألعاب الجماهيرية* ، ونشر أمراً يحض السكان على الإقبال على هذا كله.فكانت له من هذه الحيلة حامية أغنته إلى الأبد عن أن يسل السيف في وجه الليديين، فقد انصرف هؤلاء المساكين البؤساء إلى التفنن في اختراع الألعاب من كل لون وصنف، حتى أن اللاتينيين اشتقوا من اسمهم الكلمة التي يدلون بها على اللهو فقالوا لودي، وكأنهم يريدون أن يقولوا ليدي.صحيح أن الطغاة لم يعلنوا جميعاً عما يسعون إليه من تخنيث الشعوب.ولكن ما فعله هذا صراحة يتوخاه معظم الآخرين خفية.والحقيقة هي أن تلك طبيعة العامة الذين تضم المدن القسط الأوفر منهم، فهم شكاك فيمن أحبَّهم، سذج حيال من خدعهم.فلا تظنن أن ثمة عصفوراً يسهل اقتناصه بالصفافير[34]، أو سمكة تهرع إلى الطعم بمثل العجلة التي تسرع بها إلى العبودية كل الشعوب منجذبة، كما نقول، بأقل زَغَبة تقرب فاها.وإنه لأمر عجيب أن نراها تندفع هذا الاندفاع، يكفي فيه مجرد زعزعتها.المسارح والألعاب والمساخر والمشاهد والمصارعون والوحوش الغريبة والميداليات واللوحات، هذه وغيرها من المخدرات كانت لدى الشعوب القديمة طُعْمُ عبوديتها، وثمن حريتها، وأدوات الاستبداد بها.هذه الوسيلة وهذا المنهج وهذه المغريات هي ما تذرع به الطغاة القدامى حتى تنام رعيتهم تحت النير.هكذا تأخذ الشعوب المخدوعة إذ تروق لها هذه الملاهي، وتتسلى بلذة باطلة تخطف أبصارها في تعود العبودية بسذاجة تشبه سذاجة الأطفال، الذين تخلب لبهم الكتب المصورة فيحاولون فك حروفها، ولكن بتخبط أكبر.واكتشف الطغاة الرومانيون اكتشافاً آخر فوق هذا كله: موائد العشرات[35] يكثرون من الدعوة إليها في الأعياد تمويهاً على هؤلاء الرعاع، الذين لا ينقادون لشيء مثلما ينقادون للذة الفم، والذين ما كان يستطيع أشدهم مكراً، وأقربهم إلى أسماعهم، أن يترك وعاء حسائه ليسترجع حرية جمهورية أفلاطون.كان الطغاة يجودون برطل من القمح، ونصف ليتر من النبيذ، وبدرهم، وكان أمراً يدعو إلى الحسرة أن يعلوا عندئذ الهتاف: عاش الملك ! فما كان يخطر على بال هؤلاء الأغبياء أنهم إنما كانوا يستردون جزءاً مما لهم، وحتى هذا الجزء ما كان الطاغية ليجود به عليهم لولا سبقه إلى سلبهم إياه.من يلتقط اليوم الدرهم ويأكل حتى التخمة مسبحاً بحمد تيبريوس، ونيرون، وبسخاء عطائهما، لا ينبس بحرف يزيد عما ينبس به الحجر، ولا تصدر عنه خلجة تزيد عما يصدر عن الجذع المقطوع، حين يرغم غداً على أن يترك أملاكه لجشع هؤلاء الأباطرة المفخمين، وأطفاله لشهواتهم، لا بل دمهم نفسه لقسوتهم.ذلك كان شأن الشعب الجاهل دائماً: مفتوح الذراعين، مستسلم للذة التي كانت الأمانة* تقضي بالإمساك عنها، فاقد الإحساس بالغبن والألم، اللذين كانت الأمانة تستدعي الشعور بهما.إني لا أرى اليوم أحداً يسمع حديثاً عن نيرون إلا أرتعد لمجرد ذكر اسم هذا المسخ الكريه، هذا الوباء الشنيع القذر الذي لوث العالم أجمع، ومع هذا فلا سبيل إلى إنكار أن هذا السفاح، هذا الجلاد، هذا الوحش الضاري، حين مات ميتة لا تقل خزياً عن حياته[36]، قد أثار بموته هذا حزن الشعب الروماني النبيل، الذي راح يتذكر ألعابه وولائمه حتى أوشك على الحداد – هذا ما كتبه كورنيليوس تاسيت، وهو مؤلف جاد محقق في طليعة من يوثق بهم[37].ولا أظننا سنعجب لذلك كثيراً إذا تذكرنا ما صنعه هذا الشعب من قبل حين مات يوليوس قيصر، الذي استهان بالقوانين والحرية معاً، والذي لا أرى في شخصه مزية ما لأن إنسانيته التي كثر الحديث عنها في كل معرض ومقام كانت أبلغ ضرراً من قسوة الوحوش الضارية، فالحقيقة هي أن هذه الحلاوة المسمومة، التي سكرَت طعم العبودية لدى الشعب الروماني، ولكنه ما أن مات حتى شرع هذا الشعب ولَمّاَ تزل ولائمه في فمه، وعطاياه بذاكرته، في تكريمه وتكديس المقاعد المنتثرة في الميدان العام ليوقد منها النار التي تحوله تراباً، ثم بنى له نصباً تذكارية ملقباً إياه بأبي الشعب(هذا ما جاء بعالية النصب)، وأبدى له من مظاهر التشريف ميتاً ما لم يكن ينبغي إبداؤه لحي إلا إذا أردنا أن نستثني قاتليه[38].ثم لقب وكيل الشعب[39] هذا أيضاً لم ينسه الأباطرة الرومان التلقب به الواحد بعد الآخر، لما كان لهذه الوظيفة من الحرمة والقداسة، ثم لأن القانون اقتضاها للدفاع عن الشعب وحمايته في ظل الدولة.بذا أرادوا اكتساب ثقة الشعب كأنما كان هم هذا الأخير هو سماع الاسم لا الشعور بنتائجه.وما يُحسن عنهم صنعاً طغاة اليوم، الذين لا يرتبكون شراً مهما عظم دون أن يسبقوه بكلام منمق عن خير الجماعة وعن الأمن العام: لأنك تعلم حق العلم، يا لونجا[40]، ثبت الصيغ المحفوظة التي يريدون بها تغذية فصاحتهم، وإن جانبت الفصاحة غالبيتهم لنفورها من وقاحتهم.كان ملوك آشور، ومن بعدهم ملوك ميديا، لا يظهرون علانية إلا بعد وقت متأخر بقدر المستطاع، ليتركوا الجمهور في شك أهم بشر أم شيء يزيد، وليُسّلموا لهذه الأحلام أناساً لا ينشط خيالهم إلا حيث يعجزون عن الحكم على الأشياء عياناً.هكذا عاشت في ظل الإمبراطورية الآشورية شعوب متعددة ألفت خدمة هذا السيد الغامض، وخدمته طائعة بمقدار جهلها أي سيد يسودها، لا بل هي كانت لا تكاد تعلم إن كان لمثل هذا السيد وجود، فخشيت جميعها بعين الاعتقاد واحداً لم يره أحد قط.كذلك ملوك مصر الأوائل كانوا لا يظهرون علانية إلا وقد حملوا على رؤوسهم حيناً قطاً، وحيناً فرعاً، وحيناً ناراً، تقنعوا بها وتبرجوا كالمشعوذين، وبذا أثاروا بغرابة المنظر المهابة والإعجاب في نفوس رعاياهم، وكان أجدر بالناس لولا فرط حمقهم وعبوديتهم ألا يروا في هذا كله، على ما اعتقد، إلا مدعاة للهو والضحك[41].إنه لأمر يدعو إلى الرثاء أن نسمع بأي الوسائل تذرع الطغاة حتى يؤسسوا طغيانهم، وإلى أي الحيل التجئوا دون أن تتخلف الكثرة الجاهلة في كل زمان عن ملاقاتهم، فلا يرمون شبكة إليها إلا ارتموا فيها، وخلا تغريرهم بها من المشقة حتى أنهم إنما ينجحون في خداعها أكبر النجاح حين يسخرون منها أكثر السخرية.

ثم ماذا أقول عن محرقة أخرى تلقفتها الشعوب القديمة كأنها نقد لا زيف فيه؟ لقد دخل في اعتقادها أن إبهام بيرَّوس[42]، ملك الإيبيريَّين، كان يصنع المعجزات ويشفي أمراض الطحال، ثم جمّلوا القصة فأضافوا أن هذا الإصبع قد ظهر سليماً وسط الرماد، لم تصبه النار بأذى بعد أن احترق الجسد كله.هكذا يصنع الشعب نفسه الأكاذيب كيما يعود ليصدقها.هذه الحكايات قد سجلها كثير من الناس، ولكن على نمط لا يترك مجالاً للشك في أنهم لم يعدوا نقلها عما تردد في جلبة المدن، وعلى أفواه العامة.منها أن فاسياسيان[43] رجع من آشور فمر بالإسكندرية متوجهاً إلى روما، فصنع في طريقه المعجزات: قوّم العُرج ورد البصر إلى العُمي، وأتى عجائب أخرى من هذا القبيل، لا يغفل في رأيي عن زيفها إلا من أصابه عمى يغلب عمى الذين ينسب إلى فاسياسيان شفاؤهم.إن الطغاة أنفسهم يعجبون لقدرة الناس على احتمال ما يصيبه على رؤوسهم من الإساءة إنسان مثلهم، لهذا احتموا بالدين واستتروا وراءه، ولو استطاعوا لاستعاروا نبذة من الألوهية سنداً لحياتهم الباطلة.إليك بسالونيوس[44] الذي تروي العرافة، في ملحمة فرجل، أنه يرقد الآن في قاع الجحيم عقاباً على هزئه بالناس إلى حد جعله يريد تقمص جوبيتر أمامهم:

لحقه شديد العذاب إذ ابتغى

محاكاة جوبيتر رعده وصواعقه

فشد أربعة جياد صواهل إلى عربته الفانية

ثم علاها ممسكاً بشعلة من النار الساطعة

و جرى في سوق إليدا ناثراً الرعب بين سكانها

المجنون ادعى ملك السماء وادعى بالصاج

محاكاة الرعد الذي يأبى دويه المحاكاة !

و لكن جوبيتر رماه بالصاعقة الحقة

فقلب عربته في زوبعة من النار

غطتها هي وجيادها وربها وصاعقته.

كان النصر قصيراً ولكن العذاب مقيم.

فإذا كان هذا المأفون لا يزال يلقى هذا العقاب في الدار الأخرى، بينا هو لا يعدو أن ركبته نزوة من الحمق، فيقيني أن من تذرعوا بالدين تحقيقاً لشرورهم ينتظرهم كيل أعظم.

أما طغاتنا نحن فقد نثروا في فرنسا رموزاً لا أدري كنهها كالضفادع، والزنابق، والقارورة المقدسة، والشعلة الذهبية[45]، وكلها أشياء لا أريد أياً كانت ماهياتها أن أثير التشكك فيها ما دمنا، وما دام أجدادنا، لم نر مدعاة للارتداد عن تصديقها، إذ وهبنا على الدوام ملوكاً طيبين في السلم، شجعان في الحرب، حتى ليخال المرء أنهم وإن ولدوا ملوكاً لم تسوهم الطبيعة على غرار الآخرين، وإنما اختارهم الله القدير قبل أن يولدوا لحكم هذه المملكة والحفاظ عليها[46].وحتى لو لم يكن الأمر كذلك لما أردت الخوض في الحديث عن صحة قصصنا، ولا نقدها نقداً دقيقاً، حتى لا أفسد جمالاً قد يتبارى فيه شعراؤنا أمثال رونسار وباييف وبلاي[47]، الذين لا أقول أنهم حسنوا شعرنا، بل خلقوه خلقاً جديداً، وبذا تقدموا بلغتنا تقدماً يجعلني أجرؤ على الأمل في ألا تعود بعد ذلك لليونانية واللاتينية مزية عليها سوى حق الأقدم.فلا شك في أني سوف أسيء الآن إلى نظمنا(ولا أنكر أني استخدم هذه الكلمة طواعية، لأنه إذا كان من الحق أن البعض قد جعل من النظم صنعة آلية، فمن الحق أيضاً أن هناك عدداً كافياً من القادرين على استرجاع نبله ومقامه الأول)، أقول أني أسيء الآن إلى نظمنا لو أني جردته من حكايات الملك كلوفيس الجميلة، بعد أن رأيت بأي رشاقة وسهولة يسبح فيها وحي رونسار في فرنسويّاته.إني أحس أثر الرجل في المستقبل، إني أعرف توقد فكره وأعلم لطفه: لسوف يوفي الشعلة الذهبية حقها مثلما صنع الرومان بدروعهم: دروع السماء الملقاة على أرضنا[48].

كما يقول فرجيل، لسوف يرفق بقارورتنا رفق الاثينيين بسلّة إريكتون[49]، ولسوف يجعل الناس تشيد بشعاراتنا مثلما شاد الأثينيون بغصن الزيتون، الذي لا زالوا يحفظونه في برج مينرفا.لهذا كنت أتجاوز الحد يقيناً لو أني أردت تكذيب كتبنا وجريت في مراتع شعرائنا.ولكني لكي أعود إلى موضوعي الذي لا أدري كيف أفلت مني خيطه، ألحظ أن الطغاة كانوا يسعون دائماً كيما يستتب سلطانهم، إلى تعويد الناس على أن يدينوا لهم لا بالطاعة والعبودية فحسب، بل بالإخلاص كذلك[50].فكل ما ذكرته حتى الآن عن الوسائل التي يصطنعها الطغاة ليعلموا الناس كيف يخدمونهم طواعية إنما ينطبق على الكثرة الساذجة من الشعب.

إني أقترب الآن من نقطة هي التي يكمن فيها على ما أعتقد زنبلك السيادة وسرها، ويكمن أساس الطغيان وعماده.إن من يظن أن الرمّاحة والحرس وأبراج المراقبة تحمي الطغاة يخطئ، في رأيي، خطأً كبيراً.ففي يقيني أنهم إنما يعمدون إليها مظهراً وإثارة للفزع لا ارتكازاً إليها.فالقوّاسة تصدّ من لا حول لهم ولا قوة على اقتحام القصر، ولكنها لا تصدّ المسلحين القادرين على بعض العزم.ثم أن من السهل أن نتحقق أن أباطرة الرومان الذين حماهم قوَّاسوهم يقلون عدداً عمن قتلهم حراسهم.فلا جموع الخيالة، ولا فرق المشاة ولا قوة الأسلحة، تحمي الطغاة.الأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى، ولكنه الحق عينه: هم دوماً أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه، أربعة أو خمسة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية، في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه، أربعة أو خمسة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية، في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ إليهم أذن الطاغية، يتقربون منه أو يقربهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه، وخلان ملذاته، وقواد شهواته، ومقاسميه فيما نَهَبَ.هؤلاء الستة يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع، لا بشروره وحدها، بل بشروره وشرورهم.هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع، يوكلون إليهم مناصب الدولة ويهبونهم إمَّا حكم الأقاليم، وإما التصرف في الأموال، ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم، وليطيحوا بهم متى شاؤوا، تاركين إياهم يرتكبون من السيئات ما لا يجعل لهم بقاءً إلا في ظلهم، ولا بعداً عن طائلة القوانين وعقوباتها إلا عن طريقهم.ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك !

إن من أراد التسلي بأن يتقصى هذه الشبكة وسعَهُ أن يرى لا ستة آلاف، ولا مائة ألف، بل أن يرى الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل، مثل جوبيتر إذ يجعله هوميروس يتفاخر بأنه لو شد سلسلته لجذب إليه الآلهة جميعاً.من هنا جاء تضخم مجلس الشيوخ في عهد يوليوس[51]، وجاء خلق المناصب الجديدة، وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه، كل هذا يقيناً لا من أجل إصلاح العدالة، بل أولاً وأخيراً من أجل أن تزيد سواعد الطاغية.خلاصة القول إذاً هي أن الطغاة تُجنى من ورائهم حظوات، وتجنى مغانم ومكاسب، فإذا من ربحوا من الطغيان، أو هكذا هُيَءَ إليهم، يعدلون في النهاية من يؤثرون الحرية.فكما يقول الأطباء إن جسدنا لا يفسد جزء منه إلا إن انجذبت أمزجته إلى هذا الجزء الفاسد، دون غيره، كذلك ما أن يعلن ملك عن استبداده بالحكم إلا التف حوله كل أسقاط المملكة وحثالتها، وما أعني بذلك حشد صغار اللصوص والموصومين الذين لا يملكون لبلد نفعاً، ولا ضراً، بل أولئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد[52]، يلتفون حوله ويعضدونه لينالوا نصيبهم من الغنيمة، وليصيروا هم أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير* .هكذا الشأن بين كبار اللصوص ومشاهير القراصنة: فريق يستكشف البلد، وفريق يلاحق المسافرين، فريق يقف على مَرْقَبة وفريق يختبئ، فريق يقتل وفريق يسلب.ولكنهم وإن تعددت المراتب بينهم، وكانوا بعضاً توابع وبعضاً رؤساء، إلا أنه ما من أحد منهم إلا خرج بكسب ما، إن لم يكن بالغنيمة كلها فيما انتشل.ألا يحكى أن القراصنة الصقليين[53] لم تبلغ فقط كثرة عددهم حداً لم يجعل بداً من إرسال بومبي أعظم قواد العصر لمهاجمتهم، بل هم فوق ذلك قد جرّوا إلى التحالف معهم عدداً كبيراً من المدن الجميلة، والثغور العظيمة، التي كانوا يلوذون بها بعد غزواتهم لقاء بعض الربح مكافأة على إخفاء أسلابهم؟

هكذا يستعبد الطاغية رعاياه بعضهم ببعض، يحرسه من كان أولى بهم الاحتراس منه لو كانوا يساوون شيئاً، وهكذا يصدق المثل: لا يفل الخشب إلا مسمار من الخشب ذاته.ها هو ذا يحيط به قواسته وحراسه وحاملوا حرباته، لا لأنهم لا يقاسون الأذى منه أحياناً، بل لأن هؤلاء الضالين الذين تخلى اللّه عنهم، وتخلت الناس، يستمرئون احتمال الأذى حتى يردوه لا إلى من أنزله بهم، بل إلى من قاسوه مثلهم دون أن يملكوا إلا الصبر.غير أني إذ أنظر إلى هؤلاء الضالين الذين يجرون وراء كُرَات الطاغية، حتى يحققوا مآربهم من وراء طغيانه، ومن وراء عبودية الشعب على حد سواء يتملكني أحياناً كثيرة العجب لرداءتهم، وأرثي أحياناً لحماقتهم: فهل يعني القرب من الطاغية، في الحقيقة، شيئاً آخر سوى البعد عنالحرية واحتضانها بالذراعين، إذا جاز التعبير؟

ليتركوا ولو حيناً مطامعهم، وليتجردوا ولو قليلاً من بخلهم، ولينظروا بعدئذ إلى أنفسهم وليقبلوا على معرفتها: لسوف يرون عندئذ أن أهل القرى والفلاحين، الذين يحلو لهم دوسهم بالأقدام طالما استطاعوا، وتحلو لهم معاملتهم معاملةً أشر من معاملة السخرة والعبيد، سوف يرون أن هؤلاء المستضعفين هم مع ذلك أسعد حظاً وأوفر حرية بالقياس إليهم.فالأجير والحرفي، وإن استعبدا، يفرغان مما ضُرب عليهما بأداء ما يطلب إليهما.ولكن الطاغية يرى الآخرين يتزلفون إليه ويستجدون حظوته، فعليهم لا العمل بما يقول وحسب بل عليهم أيضاً التفكير فيما يريد، وغالباً ما يحق عليهم أن يحدسوا ما يدور بخلده حتى يروضه.فطاعتهم له ليست كل شيء بل تجب أيضاً ممالأته، والانقطاع له، ويجب أن يعذبوا أنفسهم، وأن يَنفقوا في العمل تحقيقاً لمراميه.ثم لمّا كانت نفوسهم لا تلذ لهم إلا إذا لذت له، فليتركوا أذواقهم لذوقه، وليتكلفوا ما ليس منهم، وليتجردوا من سليقتهم، عليهم الانتباه لكلماته وصوبه، ولما يبدر منه من العلامات، ولنظراته، لينزلوا عن أعينهم وعن أرجلهم وأيديهم، وليكون وجودهم كله رصداً من أجل تحسس رغباته وتبين أفكاره.أهذه حياة سعيدة؟ أتسمى هذه حياة؟ هل في الدنيا شيء أقسى احتمالاً، لا أقول على رجل ذي قلب، ولا على إنسان حسن المولد، وإنما على كائن حظي بقسط من الفهم العام، أو له وجه إنسان لا أكثر؟ أي وضع أشد تعساً من حياة على هذا النحو لا يملك فيها المرء شيئاً لنفسه، مستمداً من غيره راحتَهُ وحريته وجسدهُ وحياته؟

لكنهم يريدون العبودية ليجنوا من ورائها الأملاك: كما لو كان في مستطاعهم أن يغنموا شيئاً، بينا هم لا يستطيعون أن يقولوا أنهم يملكون أنفسهم.يودون لو حازوا الأشياء كأن للحيازة متسعاً في ظل الطاغية، ويتناسون أنهم هم الذين أعطوه القوة* على أن يسلب الجميع كل شيء، دون أن يترك لأحد شيئاً يمكن القول إنه له.إنهم يرون أنه ما من شيء يعرض الناس لقسوته مثل الخير، وأنه لا جريمة نحوه تستحق الموت في نظره كحيازة ما يستقل به المرء عنه.إنهم يرون أنه لا يحب إلا الثروات، ولا يكسر إلا الأثرياء.وهم مع هذا يسعون إليه سعيهم إلى الجزار كي يمثلوا بين يديه، ملأى مكتنزين، ولكي يستثيروا جشعه.هؤلاء المقربون قد كان أولى بهم ألا يتذكروا من غنموا من الطغاة كثيراً، بل أولئك الذين بعد أن كدسوا المغانم بعض الوقت خسروا المغانم والحياة جميعاً، كان أولى بهم أن يتعظوا لا بالكثرة، التي أثرت، بل بالقلة التي استطاعت الاحتفاظ بما كسبت.لنستعرض كل القصص القديمة ولنستعد تلك التي تعيها ذاكرتنا: لسوف نرى ملء عيوننا إلى أي مدى كثر عدد الذين اجتذبوا آذان الطاغية بطرق بخسة، محركين سوء جِبلَّتهم، أو مستغلين غفلتهم، ثم إذا هم بعد ذلك يُسحقون في النهاية سحقاً بأيدي الأمراء أنفسهم، لا يعدل مقدار السهولة التي علّوهم بها إلا مقدار ما خبروه من انقلاب إلى ضربهم.هذا العدد الغفير من الناس، الذين عاشوا في حمى هذه الكثرة من الملوك الأرذال، لم يسلم منهم يقيناً إلا القليل، إن لم نقل لم يسلم منهم أحد، من قسوة الطاغية التي بدأوا بتأليبها ضد الآخرين:ففي معظم الأحيان يثرى الغير بما يسلبون بعد أن أثروا هم بما سلبوا في ظل ما تمتعوا به من الحظوة.

أما القوم الأفاضل، لو وجد بينهم رجل واحد يحبه الطاغية، فهم مهما لقوا من قبوله، ومهما سطعت فيهم الفضيلة والنزاهة اللتان لا يقربهما أحد، ولو كان أردأ الناس صنفاً، إلا أثارتا فيه بعضاً من الاحترام، هؤلاء القوم لا دوام لهم في كنف الطاغية: فهم يؤولون إلى ما آل إليه الجميع، ولا يجدون مفراً من أن يعرفوا بخبرة مرة ما هو الطغيان.خذ مثلاً هؤلاء الأفاضل: سينيكا، وبورّوس، وترازياس[54].الأولان منهما كان من نكد طالعهما أن عرفا الطاغية فترك لهما إدارة أشغاله، وأكن لهما التقدير والإعزاز، خاصة وأن أولهما كان قد تعهده في طفولته، وكان له في ذلك ضمان لصداقته، ولكن ثلاثتهم يشهد موتهم الأليم شهادة كافية بأن حظوة السيد الرديء ليس أقل من ضمانها.وفي الحق أي ضمان يرتجى من رجل قسا قلبه حتى شمل كرهُه مملكتَه المذعنة لأمره، ونضبت فيه معرفة الحب، فلم يعد يعرف إلا كيف يعدم نفسه ويدمر إمبراطوريته؟

فلو قلنا إن هؤلاء الثلاثة إنما تردوا في هذه العواقب لحسن خلقهم، كفى أن نسدد النظر حول نيرون نفسه لنرى أن الذين لقوا حظوته واستقروا فيها بأرذل الوسائل، لم يدم عهدهم زمناً أطول.من الذي سمع عن حب استسلم له صاحبه بلا حد، عن إعزاز بلا قيد؟ من الذي قرأ في أي زمن من الأزمنة عن رجل ولع بامرأة ولعاً عنيداً ملازماً كولع نيرون هذا قبل بوبيا[55]؟ ثم بعدئذ دس لها السم* ! ألم تقتل أمه أجريبّينا[56] زوجها كلوديوس حتى تفسح له الهيمنة على الإمبراطورية؟ ألم تبذل ما وسعت، ألم تُقبل طواعية على كل إثم إعلاء له؟ ومع هذا ما لبث إبنها هذا، رضيعها، امبراطورها الذي صنعته بيدها، ما لبث بعد أن جحدها مراراً، أن انتزع حياتها في النهاية، وإنه لعقاب ما كان أحد ينكر أنه جزاؤها المستحق لو أن يداً أخرى أنزلته بها غير يد من مَكّنته.أي رجل كان أسهل انقياداً، وأكثر سذاجة، أو بالأصح أكثر بلهاً من الإمبراطور كلوديوس؟ أي رجل ركبته امرأة مثلما ركبته مسالينا[57]؟ ومع هذا أسلمها أخيراً ليد الجلاد ! إن الغباوة تلازم الطغاة دائماً، حتى حين يريدون إسداء الحسن إذا أرادوا إسداءه، ولكنهم حين يريدون البطش بالمقربين إليهم يستقيظ فيهم، لا أدري كيف، القليل من فصاحتهم.ألا تعلم هذه النادرة التي فاه بها هذا الذي رأى صدر المرأة، التي شغف بها أيما شغف، حتى بدا كأنه لا يستطيع الحياة دونها، رآه عارياً فداعبها بهذه المزحة: هذا العنق الجميل قد يقطف قريباً لو أردت؟ لهذا كان معظم الطغاة القدامى يلاقون حتفهم لم يستطيعوا الاطمئنان إلى إرادة الطاغية بقدر ما حذروا قوته.هكذا قَتل دُومِيسيانَ اتينْ، وقتلت كومودس إحدى محظياته، كما قتل أنطونان على يد مارسان، وهكذا في سائرهم[58].

إن من المستيقن أن الطاغية لا يلقى الحب أبداً، ولا هو يعرف الحب.فالصداقة اسم قدسي وجوهر طاهر، إنها لا تعرف لها محلاً إلا بين الأفاضل، ولا تؤخذ إلا بالتقدير المتبادل وليس بإغداق النعم.فالصديق إنما يأمن إلى الصديق لما يعرفه من استقامته، ضمانته هي استقامته وصدق طويته  وثباته.فلا مكان للصداقة حيث القسوة، حيث الخيانة، حيث الجور.فالأشرار إذا اجتمعوا تآمروا ولم يتزاملوا، لا حب يسود بينهم وإنما الخشية، فما هم بأصدقاء بل هم متواطئون.

و حتى لو صرفنا النظر عن هذه العوائق لتبينا أن من الصعب أن يضم فؤاد الطاغية حباً يوثق به، لأنه إذا علا الجميع، وعدم كل رفيق، قد خرج بهذا عينه عن حدود الصداقة التي مقعدها الحق هو المساواة، والتي تأبى دوماً التعثر في خطواتها المتساوية أبداً.لهذا نرى(فيما يقال) شيئاً من القسط بين اللصوص عند اقتسام الغنيمة، لأنهم متزاملون متكافلون، وإذا كانوا لا يتبادلون الحب فهم على الأقل يتبادلون الحذر، ولا يرغبون في إضعاف قوتهم بالتفرق بدل الوحدة.أما الطاغية فما يستطيع المقربون إليه الاطمئنان إليه أبداً، ما دام قد تعلم منهم أنفسهم أنه قادر على كل شيء، وأنه لا حق.ولا واجب يجبرانه، وما دام تعريفه صار يقوم في اعتبار إرادته العقل وفي انتفاء كل نظير وسيادة الجميع.أليس أمراً يدعو إلى الرثاء أن كل هذه الأمثلة الواضحة، وهذا الخطر الدائم، لا تدعو أحداً إلى الاتعاظ بها، وأن يتقرب إلى الطاغية طواعية هذا العدد الغفير من الناس دون أن يجد أحد الحصافة والجرأة اللتين تمكناه من أن يقول ما قاله الثعلب، على ما ورد في الحكاية، لملك الغابة الذي اصطنع المرض: «كنت أزورك طواعية في عرينك لولا أني أرى وحوشاً كثيرة تتجه آثارها قدماً إليك، و ما أرى أثراً يعود».

هؤلاء التعساء يرون بريق كنوز الطاغية، وينظرون مشاهد بذخه وقد بهرتهم أشعتها، فإذا هذا الضوء يغريهم فيقتربون منه دون أن يروا أنهم إنما يلقون بأنفسهم في اللهب، الذي لن يتخلف عن إهلاكهم.هكذا صنع الساتير[59] الطفيلي، الذي تحكي الحكاية أنه شهد النار التي اكتشفها بروميثيوس وهي تضيء، فرأى لها جمالاً فائقاً فذهب يقبّلها فاحترق.مثله مثل الفراشة التي تلقي بنفسها في النار أملاً في الحظوة بلذة من نورها، فإذا هي تعرف قوتها الأخرى: قوتها الحارقة، كما يقول الشاعر التوسكاني[60].ولكن لنفرض أن هؤلاء الأغرار يفلتون من قبضة من يخدمون، أيعلمون أي ملك آت من بعد؟ إذا كان طيباً وجبت الإجابة عما صنعوه ولِمَ صنعوه، وإذا كان سيئاً شبيهاً بسيدهم فلسوف يصحبه أيضاً أتباعه الذين لا يقنعون بالاستحواذ على مكان الآخرين، بل تلزمهم أيضاً في معظم الأحايين أملاكهم وحياتهم.أيمكن إذاً وهذا مدى التهلكة، ومدى قلة الأمن، أن يكون هناك امرؤ يرغب في ملئ هذا المكان البائس ليقاسي خدمة سيد هذا مبلغ خطره؟ أي عذاب، أي استشهاد هذا، أيها الرب الحق، أن يقضي المرءُ النهار بعد الليل وهو يفكر كيف يرضي واحداً، بينما هو يخشاه مع ذلك أكثر مما يخشى أي إنسان آخر على وجه البسيطة، أن يكون عيناً دائمة البصّ وأذناً تسترق السمع، حتى يحدس مأتى الضربة القادمة، وموقع المصائد، وحتى يقرأ في وجوه أقرانه أيهم يغدر به، يبتسم لكل منهم وهو يخشاهم جميعاً، لا عدواً سافراً يرى ولا صديقاً يطمئن إليه، الوجه باسم والقلب دام، لا قبل له بالسرور ولا جرأة على الحزن!

و لكن الأغرب هو أن نرى ما يعود عليهم من هذا العذاب الشديد، والكسب الذي يستطيعون توقعه من مكابدتهم وحياتهم البائسة.فالذي يقع هو أن الشعب لا يتهم الطاغية أبداً بما يقاسيه، وإنما ينسبه طواعية إلى من سيطروا عليه: هؤلاء تعرف أسماءهم الشعوبُ والأممُ، ويعرفها العالم قاطبة، حتى الفلاحون والأجراء يعرفونها، ويصبون عليهم ألف قذيعة وألف شتيمة وألف سبة، كل أدعيتهم وأمانيهم تتجه ضدهم، كل ما يلحق بهم من البلايا والأوبئة والمجاعات يقع فيه اللوم عليهم، فإن تظاهروا أحياناً بتبجيلهم سبوهم معاً في قلوبهم، ونفروا منهم كما لا ينفرون من الوحوش الكاسرة.هذا هو الشرف، وهذا هو المجد، اللذان ينالون جزاء على ما صنعوه تجاه الناس الذين لو ملك كل منهم جزءاً من أجسادهم لما شقا، ولا رأى فيه نصف عزاء عن شقائه، فإن أدركهم الموت لم يتوان من يجيء بعدهم عن أن يظهر بينهم ألف قلم، يسود بمداده أسماء آكلي الشعوب[61] هؤلاء، ويمزق سمعتهم في ألف كتاب، وحتى عظامهم ذاتها، إذا جاز هذا التعبير، يمرغها الوحل عقاباً لهم بعد مماتهم على فساد حياتهم.

لنتعلم، إذاً.لنتعلم مرة أن نسلك سلوكاً حسناً.لنرفع أعيننا إلى السماء بدعوة من كرامتنا، أو من محبة الفضيلة ذاتها، أو إذا أردنا الكلام عن علم فيقيناً بدعوة من محبة الله القادر على كل شيء وتبجيله، ولهو الشاهد الذي لا يغفل عن أفعالنا، والقاضي العادل في أخطائنا.أما فيما يتعلق بي فإني لأرى، ولست بالمخدوع ما دام لا شيء أبعد عن الله، وهو الغفور الرحيم من الطغيان، إنه يدخر في الدار الأخرى للطغاة وشركائهم عقاباً من نوع خاص.

 


هوامش المترجم

[1] عن الإلياذة،الأنشودة الثانية،البيتان 204 … كانت جيوش اليونانيين تحاصر طروادة منذ تسع سنوات دون أن تتمكن من الاستيلاء عليها،فبدأ المحاربون يستهويهم اقتراح العودة إلى ديارهم دون تحقيق النصر.إلا أن أوليس استوقفهم يشرح حجته للقواد من أقرانه،فإن تحدث إلى جندي عنفه وذكره أن واجبه الطاعة لأن الأمر والرأي إنما يكونان لواحد.

هذا ولقد كانت المدن أو الدول اليونانية الأولى(حوالي القرن الحادي عشر قبل الميلاد)تتألف من عصبيات يرأسها ملوك وأمراء،مثل الذين أشاد هوميروس بحروبهم على طروادة.صحيح أن هوميروس كان يفصل بينه وبين هذه الوقائع نحو ثلاثة قرون،وإن الهامه كان يستند في أغلب الظن إلى روايات كانت ما تزال تتردد على الأفواه إبان حياته(القرن الثامن ق.م)إلا أن التطابق بين أوصافه وبين ما يمكن استنباطه من الحفريات يدعو إلى الأخذ بصحتها.فلا شك في أن هؤلاء الملوك والأمراء كانوا يتفاخرون بانتسابهم إلى الآلهة،وأن هذا الانتساب لم يكن يلقى تصديق الجميع وحسب،بل إن عامة الناس كانت ترى فيه تحديداً السبب الذي من أجله تسرع إلى خدمتهم والقتال في سبيلهم.وهذه ظاهرة ما نزال نشهدها بين العشائر التي يتألف منها كثير من المجتمعات إلى يومنا هذا،كل الاختلاف الذي ينجم حين تعتنق هذه المجتمعات عقيدة التوحيد،هو أن الرؤساء لا ينسبون أنفسهم إلى الآلهة،بل إلى الأنبياء،والغزاة،والأبطال،من كل مضمار.

أمر أخر يجدر الوقوف عنده.ذلك أن الكلمات الدالة في اللغة اليونانية(واللغة دستور الجميع إذا جاز التعبير)على علو المكانة(مثل أريسطوس وأجاثوس وأستلوس،ألخ)كانت تدل كذلك على السمو الخلقي.وهذه أيضاً ظاهرة ما نزال نشهدها إلى يومنا في اللغة الإنجليزية مثلاً حيث تدل الكلمة ذاتها(نوبل)على الانتماء إلى الطبقة الأرستقراطية،وعلى صفة تسند إلى أفعال الشخص أو حتى إلى ما يقدمه من النبيذ.

[2] الكلمة التي ترجمناها هنا بالجماعة هي ما يترجم اليوم بالجماعة هي ما يترجم اليوم بالجمهورية.ولكنها كانت ترد في القرن السادس العشر بالمعنى الحرفي الذي يخرج من اشتقاقها،وهي مشتقة من كلمتين في اللغة اليونانية: رس بمعنى شيء،وبويليكوس بمعنى عام.ومنه كان معناها الأضبط هو المنفعة أو المصلحة العامة.ولما كانت هذه الفكرة أحد التصورات الأساسية التي ينبني عليها القانون الروماني،فقد بدا لنا – بعد أن نبهنا إليه الدكتور إسماعيل عبد الله – أن أقرب ما يعادلها في الفقه العربي هو تصور الجماعة.

[3] هنا أيضاً يستخدم المؤلف كلمة تترجم اليوم بالملكية،وترجمناها بحكم الواحد لاشتقاقها من اليوناني مونوس بمعنى واحد،وآركي بمعنى السلطة أو الحكم.

[4] كانت الديموقراطية في أثينا(مثلها في الولايات المتحدة اليوم)لا تنفصل عن سياستها المسيطرة أو الإمبريالية،التي تكفل رغد مواطنيها.لذا أعلن عليها الحرب عام 431 ق.م.درءاً لهذه السياسة عددٌ من المدن أو الدول اليونانية تزعمته إسبرطة،وهي الحرب المعروفة باسم حرب البيلوبونيز.و في العام 404 ق.م.انتهت هذه الحرب الطويلة بهزيمة أثينا،وبأن أملت إسبرطة على شعبها مجتمعاً في مجلسه اختيار ثلاثين«محرر»(لوغوغوافوي)أوكل إليهم تحرير دستور جديد.ولم يلبث هؤلاء الثلاثين،الذين ينتمون إلى الطبقة الاوليغاركية،أي إلى القلة الثرية ذات الحسب،أن استولوا على زمام الحكم،ولم يلبث حكمهم أن انقلب إلى رعب مسلط على الرؤوس: الجيش الإسبرطي يرابط فوق الاكروبول،الأجانب المقيمون بأثينا ومواطنوها أنفسهم إما يقتلون أو يشردون أو تصادر ممتلكاتهم،أما الدستور الموعود فلم ير الضوء.وبلغت المأساة ذروتها حين قُتل زعيم المعتدلين بين الثلاثين،لاثيرامين،وانفرد بالحكم أعتاهم،كريتياس.إلا أن الطغاة لم يستطيعوا دفع جماعة من المتمردين ترأسهم ثراسيبول عن الاستيلاء على بيريه،مرفأ أثينا،بعد معركة قتل فيها كريتياس(ديسمبر – يناير 44/43 ق.م.).بهذا الانتصار تسنى الاتفاق بين المعتدلين من الأوليغاركيين وبين الديمقراطيين اتفاقاً توسط فيه ملك إسبرطة.وانتهت المحنة برجوع النظام الديمقراطي في أواخر صيف 403 ق.م.،والقضاء على فلول الثلاثين.ويعد هذا الاتفاق صفحة من أمجد صفحات الديمقراطية في أثينا،لأن ثراسيبول قد أمكنه من جهة فرض مطالب الشعب(أي الفلاحين والحرفيين وبعض التجار)ومن ناصره من العبيد والأجانب،ولكنه من جهة أخرى قد أمكنه إقناع الشعب بألا يشتط في مطالبه إلى الحد الذي يخلق حزازات وضغائن لا نهاية لها.في وقت خرجت فيه أثينا والدول اليونانية عامة من الحرب ضعيفة منهكة إلى حد لم تقم لها قائمة بعده.ومكن فيليب المقدوني وابنه الاسكندر من افتراسها.ويذهب بعض الكتاب المعاصرين إلى أن الاتفاق المذكور كان بمثابة النقلة التي حلت فيها فوقية القانون أو سيادته العليا محل فوقية ارادة الشعب.ولكن المغزى الأوضح الذي يخرج من هذا الاتفاق هو أن«القانون»إنما يعني هنا العقد،الذي تم بمقتضاه التراضي بين الطبقات في وقت لم يكن فيه بد من التراضي.

[5] يبتدع لابويسيه في هذا الموضع لفظاً فرنسياً استمده من لفظ لاتيني تجده عند شيشيرون،والمؤلف المسرحي بلّرط،بمعنى صيغة التصغير من رجل،كما لو قلنا بالعربية«رجيل».آثرنا ترجمته بكلمة«خنث»من«خنث الرجل خنثاً: كان فيه لين وتكسّر وتثن فكان على صورة الرجال وأحوال النساء فهو خنث»(عن المنجد).

[6] ثار نقاش حول من المراد بهذا الوصف: أهو شارل التاسع أو هنري الثالث؟ ولكن الأصح أن المؤلف إنما أراد أن يرسم صورة نموذجية،وإن صدقت على كثير من الحكام،دحضاً للرأي القائل بأن هناك من جُعلوا بطبيعتهم للسيادة وهناك من جعلوا مسودين.

[7] ميلسيادس قائد أثيني تحقق بفضله أول انتصار حازه الإغريق ضد الفرس،وذلك في معركة ماراتون عام 490ق.م.ثيميستوكل قائد آخر يرجع إلى سياسته من أجل تقوية الأسطول الاثيني،ويرجع إلى براعته ونبوغه الفضل الأول في انتصار اليونانيين الحاسم في معركة سلامين البحرية عام 480ق.م.،التي انتهكت بها حملة كسركس الثانية،التي كان قد أعد لها جيشاً يقدر بمائة ألف مقاتل،وأسطولاً يقدر بألف سفينة.أما ليونيداس فإسبرطي خلّد ذكره استشهاده مع ثلاثمائة من رجاله في معركة مضيق ثرموبيل،التي خاضها بغية تعويق تقدم الفرس في البر.هذا ولقد صار هذا الانتصار رمزاً إلى انتصار الحرية على الاستبداد.وصحيح أن شعوب الإغريق كانت لها في إدارة شؤونها مشاركة حرمت منها في أغلب الظن شعوب العدو،وأن هذا الفارق ربما لعب دوراً في هذا الانتصار.ولكن ذلك لا يمنع أن هذه الحرب،أياً كان وجه استخدامها لأغراض الرمز،كانت في واقع أمرها صراعاً ضارياً بين قوتين تهدف كل منها إلى السيطرة على المعمورة: فارس وأثينا.ومن المعلوم أن المدن أو الدول اليونانية ما أن تحقق لها هذا النصر المشترك،حتى عادت إلى تفرق بعد اتحاد،وحتى شن بعضها الحرب على أثينا في حرب البيلوبونيز التي سبقت الإشارة إليها.

[8] أول نص تشريعي صاغ فكرة القانون،أو الحق الطبيعي،هو موسوعة القانون الروماني التي قام بجمعها وتبويبها وتعريف تصوراتها الأساسية والاشراف على تحريرها،بأمر من الإمبراطور جوستنيان،أمام رجال القانون في عصره: تريبونيان.يبدأ النص بهذا التعريف:«قانون الطبيعة هو القانون الذي غرسته الطبيعة في جميع المخلوقات».تلي ذلك التفرقة بين هذا القانون المسمى أيضاً باسم«قانون كافة الشعوب»و«بين قانون الدولة»،أي القانون الخاص بهذه الدولة أو تلك،ثم بيان عن سبب هذه التفرقة:«إن ضرورات الحياة الإنسانية بمطالبها قد أدت بشعوب العالم إلى سن شرائع معينة: نشبت الحرب بينها،وأُسر البعضُ وصار عبيداً خلافاً لقانون الطبيعة.فالناس بحسب قانون الطبيعة ولدوا أحراراً في البدء».هذا بينما«تصدر جميع العقود تقريباً عن قانون كافة الشعوب،سواء تعلق الأمر ببيع أو أيجار أو شركة أو إيداع أو قرض أو غيره»فكل شعب يطبق قانوناً يخصه جزء منه،ويشترك بجزء آخر منه مع غيره.ولقد استعاد مفكرو العصور الوسطى،الذين لم تكن فكرة الدولة عندهم قضية مسلمة،لأنهم إنما كانوا يشهدون دولاً جديدة آخذة في النشوء على أنقاض الدولة الرومانية المندثرة،استعادوا فكرة القانون الطبيعي هذه،لأنهم واجهوا هذا السؤال: كيف يمكن ألا يكون القانون إلا بالدولة ومن أجلها وفي ظلها،وألا تكون الدولة إلا بالقانون ومن أجله وفي ظله؟ فوجدوا المخرج في التمييز الذي فصّله بنوع خاص القديس توماس الاكويني بين«القانون الطبيعي»و«القانون الوضعي».هذا وقد تجدد في عصرنا الاهتمام بمناقشاتهم في هذا الباب كما في غيره،خاصة وأن السؤال الذي أثاره قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بسؤال آخر لا يقل عنه حدة: هل جوهر القانون هو العقل أو الإرادة؟

[9] لا شك أن لابويسيه يلمح هنا إلى نظرية أذاعها المشرعون الإنجليز في عصر أسرة تيودور مؤداها أن للملك جسدين،أحدهما مادي فانٍ والآخر غيبي لا يتطرق إليه الفناء.هذه النظرية المضحكة فيزيولوجياً كانت لها وظيفة سياسية بالغة الأهمية،هي إدخال التمييز بين ما يعود من الحكم إلى شخص الحاكم،وما يعود إلى وظيفته أو منصبه.هذا التمييز هو الذي سمح للإنجليز بمحاكمة الملك شارل ستوارت وإعدامه بتهمة الخيانة،دون أن يذهبوا إلى إلغاء الملكية كما فعل الفرنسيون في 1793،لأن«الملك»كما قال أحد قضاتهم،أسم للدوام،باق بما هو رأس الشعب وحاكمه(حسب القانون)طالما بقي الشعب … وفي هذا الاسم لا يموت الملك أبداً.أضف أن هذه النظرية مستقاة لا من العقائد النصرانية عن المسيح والكنيسة وحسب،بل أيضاً،وأكاد أقول أولاً من استعارة الجسد من حيث تطلق على كل مجتمع ديني أو مدني،وعلى مقوماته المختلفة بما فيها الاتحادات المهنية والجامعية التي لعبت دوراً هاماً في تطور الغرب،والتي يطلق عليها في لغاته اسم ترجمته الحرفية هي«المتجسدات».

[10] المراد بالأكاديميين هنا هم أشياع الفلسفة الأفلاطونية  في القرن السادس عشر.ففي 385 ق.م.،على أرجح التقدير،أسس أفلاطون،بضاحية من ضواحي أثينا،مدرسة عرفت باسم الأكاديمية لوقوعها بحديقة وملعب عرفا بهذا الاسم،نسبة إلى البطل أكاديموس.استمر نشاط هذه المدرسة تسعة قرون،إلى أن حلها جوستينيان في 529 ب.م.وفي القرن الخامس عشر،بعد أن سقطت القسطنطينية في يد الترك،وهجرها العلماء اهيللينيون،سنحت للغرب معرفة المخطوطات المشتملة على محاورات أفلاطون ورسائله،وما لبثت أن ظهرت لها ترجمات متعددة.ومع هذا ظلت الجامعات تعرض عن تدريس فلسفته لغلبة الفلسفة الأرسطية عليها.لهذا عاد الفضل في نشر الفلسفة الأفلاطونية،التي لم يتم انتصارها إلا في القرن السابع عشر،إلى رجال عرفوا باسم الأكاديميين.ولم يكن غريباً أن يتجه أول اهتمام هؤلاء إلى مسائل الفلسفة السياسية التي اشتغل أفلاطون بها اشتغالاً لا يكاد يترك مجالاً للشك،في أنه إنما أسس مدرسته بغية تكوين التلاميذ تكويناً يؤهلهم لخدمة المدينة على أفضل وجه.

[11] لا وجود لهذين البيتين في أشعار لابويسيه التي نشرها مونتني.

[12] عضو برلمان بوردو الذي أخذ لابويسيه مقعده،وإليه أهدى مخطوطه.

* هذه ليست خاصية لشعب إسرائيل و أنه خلق هكذا إنما هي ثقافة مكتسبة يمكن أن تصيب كل أمة . الناشر

[13] إشارة إلى ما ورد في العهد القديم(صموئيل الأول،الإصحاح الثامن)من أن كل شيوخ إسرائيل اجتمعوا،وجاءوا إلى صموئيل يسألونه أن يجعل لهم ملكاً يقضي لهم كسائر الشعوب(وكان يحكم إسرائيل قضاة)فساء الأمر في عيني صموئيل،فصلى إلى الرب فأمره بأن يصنع ما طلب الشعب بعد أن ينذره.فأنذره:«هذا يكون قضاء الملك الذي يملك عليكم.يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفرسانه فيركضون أمام مراكبه.ويجعل لنفسه رؤساء ألوف ورؤساء خماسين فيحرثون حراثه ويحصدون حصاده ويعملون عدة حربه وأدوات مراكبه.ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات.ويأخذ حقولكم وكرومكم وزيتونكم أجودها ويعطيها لعبيده.ويعشّر زروعكم وكرومكم ويعطي لخصيانه وعبيده.ويأخذ عبيدكم وجواريكم وشبانكم الحسان وحميركم ويستعملهم لشغله.ويعشّر غنمكم وأنتم تكونون له عبيداً.فتصرخون في ذلك اليوم في وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم فلا يستجيب لكم الرب في ذلك اليوم.فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل وقالوا لا بل يكون علينا ملك».ومما يذكر أن اختيار صموئيل قد وقع بإيعاز من الرب شاول.فجعله ملكاً بأن اخذ«قنينة الدهن وصب على رأسه وقال أليس لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيساً».وهكذا بدأت طقوس الدهن التي سبقت الإشارة إليها في التراث اليهودي المسيحي.

** مهما كانت أسباب إنسياق الإنسان إلى العبودية فهي راجعة إلى ذاته و ليس إلى سبب خارجي «قل هو من عند أنفسكم». الناشر

[14] كان بيستراتس ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية الحاكمة.برز في الحرب بين أثينا وميغارا،حوالي العام 565 ق.م.فلما دب الانقسام في أثينا بين الحكام ترأس هو فريقاً أو حزباً ثالثاً ضم إليه المعتقين والمدقعين،ثم نصب نفسه طاغية بحرس منحه إياه الشعب،عام 561 ق.م.غير أن أعداءه تحالفوا عليه فطردوه من الحكم بعد أن ظل يمارسه زهاء خمس سنوات،فلم يستتب له الاستبداد به إلا بعد أن رجع وانتصر عليهم انتصاراً حاسماً عام 546 ق.م.مات عام 527 بعد مرضٍ.ولقد حرص بيستراتس على الالتزام بدستور صولون فلم يذهب إلى حد مصادرة أملاك النبلاء وتوزيعها بالتساوي،ولكنه شجع صغار الملاك بتيسير القروض لهم،وعمل على إزاحة البطالة من الريف معتمداً في هذه السياسة على الضرائب المفروضة على الإنتاج،والتجارة،في وقت ازدهرت فيه صناعة الخزف،وانتشرت في كل بلاد اليونان،جمّل أثينا وجمع أشعار هوميروس ونشرها،وكان من نتائج حكمه الطويل أن أضعف قبضة النبلاء على أشياعهم،وشجع ظهور الفردية في كثير من المجالات،مما مهد الطريق لعودة الديمقراطية بعد أن تخلص الشعب من أبنائه.

* لها يلهو من اللهو .

 [15] ديونيسبوس بين 430و367 ق.م.تقريباً.في عام 406 أخفقت سيراقوصة في تحرير اجريجنتا من قبضة القرطاجنيين،فتسنى له إقناع مجلس الشعب بانتخاب قواد جدد بينهم هو.ثم لم يلبث أن أزاح زملاءه وتزود بحرس خاص وظل انتخابه على رأس الدولة يتكرر تكرراً منتظماً.سوى أنه أخفق في وقت تقدم القرطاجنيين،وواجه ثورة أرستقراطية جعلته يقبل صلحاً باهظاً مع قرطاجنة.فلما تغلب على المعارضة الداخلية عاد إلى محاربتها حتى انتصر عليها،وصد غزواتها المتعددة.ثم بعدئذ وسع سلطانه على الجزء الغربي من صقليه،وعلى إيطاليا،حتى امتد نفوذه إلى الادرياتيك.كان ديونيسيوس طاغية من الطراز الأول،اتسم حكمه بمزيج من البأس والحنكة والأبهة ما زال يثير العجب حتى اليوم.

[16] المراد ميثريدات السادس ملك بونطوس جنوب البحر الأسود.حكم بين 120و63 ق.م.ازدحمت حياته بالأحداث العاصفة.أولها مصرع أبيه ووصيةُ تدعو إلى الارتياب يستخلف فيها زوجته وولديه الأصغرين.فر من أمه وظل هارباً حتى عاد فجأة إلى العاصمة سينوب فحبس أمه،وقتل أخاه،وتزوج أخته.ثم استأنف سياسة والده التوسعية فاستولى على معظم آسيا الصغرى،وامتدت فتوحاته إلى اليونان حيث رده الرومان.وقعت بينه وبينهم عدة حروب انتهت باستيلائهم على بونطوس.وثورة الرعية،وعلى رأسها ابنه فارناسس.فلما أراد الانتحار تبين أن نظاماً من الوجبات الوقائية قد جعل له مناعة ضد السم.فمات بسيف حارس من حراسه وقد بلغ به العمر 69 عاماً.لا شك أن ميشريدات كان أصلب أعداء روما عوداً في مكره،وشجاعته،وقدرته،على تعبئة الجيوش وتنظيمها.ولكنه خلا من المهارة في التخطيط،وعجز عن الاحتفاظ بولاء رعيته.ثم هو في النهاية لم يكن يمثل تمثيلاً صادقاً لا اليونانيين الذي كان يميل إليهم،ويحب التشبه بهم(تدل صوره على تقليد الاسكندر)،ولا الإيرانيين الذين كان يتكون منهم العنصر الغالب بين أبناء شعبه.

[17] كان مثقفو عصر النهضة يرون في جمهورية مدينة البندقية المثل الأجمل للحرية،حتى أن لابويسيه كان يؤثر لو وُلد بها،على ما يخبرنا به صديقه مونتني(المقالات،الكتاب الأول،الفصل 28).ولكن الحقيقة هي أن الأمر كان له وجهان: فالبندقية شأنها شأن جميع المراكز العمرانية الكبرى التي يؤمها التجار والصيارفة،وصانعوا الثروات من كل حدب وصوب،كانت تتمتع فعلاً بحرية اجتماعية واسعة،تتيح تجاور الجميع على اختلاف عادتهم وأزيائهم.أما من الناحية السياسية فقد احتكرت الحكم فيها،منذ القرن الرابع عشر،طبقة من الأعيان ذوي الثروات الطائلة انقطعت صلتها بالشعب(وأعني بالأخص الحرفيين الذين كان لهم على العكس دور مهم في فلورنسه)وإن حرصت على ألا ينفرد به واحد منهم.لهذا أسندت السلطة إلى مجلس العشرة.هذا المجلس،الذي ندر أن حاذاه جهاز في اتجاهه المحافظ،هو الذي كان يقوم بانتخاب الدوق المنوط به تجسيد قوة البندقية،ولكن مع قيود ترمي جميعها إلى تخفيف دوره الشخصي.

[18] سلطان تركيا.ننبه إلى أن الشعوب الأوربية كانت تتسمى في القرن الثالث عشر باسم المسيحية أو بلاد المسيحيين،وهي تسمية كانت تصدر عن الشعور بالوحدة الدينية التي بثته فيها الحروب الصليبية،وفي القرن الخامس عشر ظهرت التسمية باسم أوربا أو الشعوب الأوربية.لا لأن هذه الشعوب كانت قد تحققت بينها وحدة سياسية،فقد حدث العكس: صارت فكرة الإمبراطورية الواحدة أو الشاملة ادعاء لا صلة له بالواقع،بينما بدأ ظهور الدول الحديثة بانقسام الشعوب الأوربية إلى ممالك يحكم كل منها ملك غيور على استقلاله،كما تدل عليه العبارة الجارية إذ ذاك:«كل ملك إمبراطور على مملكته».ألا أن هذه الشعوب كان يبدو لها أن ملوكها هؤلاء،وولاة الأمر فيها كانت لهم فيما بينهم،وفي تعاملهم معها،قواعد تختلف مما يتبعه طغاة الشرق،ومنه كان ظهور التسمية الجديدة ينطوي على تعريف الغرب لنفسه بالحرية السياسية – أضف إليه تقوي الشعور بالوحدة الثقافية،ثم حاجة التمييز الجغرافي بالنسبة إلى الأرض المكتشفة حديثاً،وأعني بها القارة الأمريكية.فأما نصيب هذا التعريف من الصحة أو الكذب فهذا ما يستحق أن يفرد له مبحث خاص.

[19] ليكورج مشرّع نسب إليه الإسبرطيون دستورهم ونظامهم السياسي والاجتماعي،وظلوا حتى منتصف القرن الرابع ق.م.يوجهون إليه من مظاهر التبجيل ما لا يحظى به إلا الآلهة.أما العصر الذي عاش فيه فهذا ما اختلفت فيه الروايات اختلافاً تفاوت بين القرنين التاسع والسادس ق.م.هذا الاختلاف وهذا التبجيل المفرط جعلا بعض الكتاب ينحون إلى الشك في وجوده،محتجين أيضاً بأن الكثير من سمات نظامه تشبه السنن القبلية البدائية.ولكن معظم الثقاة يتفقون على أن قواعد النظام الإسبرطي قد أرسيت في القرن السابع ق.م.،وأنه ما من حجة تمنع الاعتقاد بأن إرساءها هذا كان من صنع مشرع واحد عظيم.

   [20] ورد اسم لاسيدومونيا في هوميروس مرادفاً لإسبرطة.ثم غلبت دلالته الجغرافية والسياسية،إذ أطلق على هذه المدينة والريف التابع لها بما هي جميعها وحدة سياسية.بينما تتكثف حول إسبرطة مستدعيات تاريخية شعرية فلم يستخدم اسمها أبداً للدلالة على الأرض دون المدينة.

[21] كاتو(95 – 46 ق.م.)أحد كبار رجال الدولة الرومانية في أواخر عهد الجمهورية.عرف بصرامته وبانتصاره الذي لا يلين للمبادئ.انضم إلى بومبي حين قامت الحرب الأهلية بينه وبين يوليوس قيصر.وانتهت به تقلبات هذه الحرب بأن حاصرته قوات قيصر،وهو بأوتيكا(مدينة على الساحل الأفريقي لا تبعد عن قرطاجنة)حيث مات موتاً مشهوداً ممزّقاً أحشاءه بيده – كما ورد في سير الأعلام لبلوتارك.

[22] سيلا(138 – 78 ق.م.)هو أول قائد روماني استغل قوته بين العسكر فاستحوذ على زمام الدولة مستهدفاً تقوية الجمهورية فيما يبدو ولكنه في الواقع إنما رسم المثل الذي احتذاه بعد ذلك من هدموها.بلغ من إمعانه في مصادرة الأموال والنفي والاغتيال أن عم الخوف مناصريه أنفسهم.

[23] السمريون(وبالآشورية الجمريّون الوارد ذكرهم في التوراة،سفر التكوين)شعب أقام على شواطئ البحر الأسود حيث الاتحاد السوفييتي سابقاً،ثم طرده السكيثيون فغار على آسيا الصغرى مقوضاً عرشها،ناشراً الذعر في ربوعها،إلى أن قضت عليه شيئاً فشيئاً الأوبئة وحروبه ضد الليديين والآشوريين.ولكنه يرد في الإلياذة للدلالة على شعب أسطوري يستوطن أبعد بقاع المعمورة،حيث لا تشرق الشمس أبداً،وإليه قصد أوليس بغية استحضار الموتى،واستفسار العّراف ثيريسياس،الذي كان ينسب إليه العلم بالغيب.الراجح أن لابويسيه يلمح هنا إلى أسطورة أهل الكهف عند أفلاطون.

[24] يتضمن النص هنا رأياً قانونياً يدحض الرأي القائل بأن أساس الحق هو العادة أو العرف.وتتأيد هذه الدلالة إذا تنبهنا إلى أن الكلمة الفرنسية التي ترجمناها بالغبن تعني،حرفياً،إذا رجعنا إلى اشتقاقها،انتفاء الحق أو عدمه.

[25] التعبير الفرنسي ترجمته الحرفية التركي الكبير،ولكنه ينطوي على استخفاف،ثم إن حامله كان يعد الرمز الأول للطغيان.ولا يُكَذّب كلام لابويسيه هنا وإن لم يكف في تأييده ما يخبرنا به الدكتور إبراهيم سلامة،في رسالته المقدمة إلى السوربون عام 1939،عن التعليم الإسلامي في مصر من أثر سياسة الأتراك في القضاء على المدارس.

* هذه فكرة هامة فلا يمكن أبداً سلب حرية الفكر من أحد لأن الإنسان دائماً حر إذا رغب و إلا فلا. الناشر

[26] هذا الإله الساخر شخصية مسرحية أكثر منه خلق أسطوري.

[27] فولكان إله النار والحدادة،هيفايستوس عند اليونان.

[28] بروتوس وكاسيوس قاتلا يوليوس قيصر.

[29] هارموديوس وأرسطوجيتون شابان أرادا قتل هيساس الذي تولى حكم أثينا مع أخيه،بعد موت أبيهما بيستراتوس(أنظر هامش 14)،ولكنهما،أخفقا وماتا شر ميتة.رأى الأثينيون في موتهما استشهاداً،وأشادوا بذكرهما ملقبين إياهما بلقب مانحي الايسومونيا – وهو المساواة أمام القانون.عن ثراسيبول أنظر الهامش 4.أما بروتوس الأقدم وفالريوس،فكانا بين مؤسس الجمهورية الرومانية.أما ديون فكان صهراً لديونيسيوس الأول الذي سبق ذكره(هامش 15).أراد أن يجعل من ابنه ديونيسيوس الثاني ملكاً فيلسوفاً متأثراً في ذلك بعلاقته بأفلاطون والأكاديمية.فلما أخفق خلص البلد منه ولكن زمام الأمور أفلت من يديه،فاشتد وتعسف،برغم ادعائه الاستناد إلى المبادئ الفلسفية،حتى قتل بدوره.

* طبعاً لا يولد إنسان رقيقاً بالجينات و لكن المناخ الذي يولد فيه يجعله وكأنه هكذا فالرق ثقافة مكتسبة. الناشر

[30] عاش كسينوفون بين 427 و354 ق.م.وضع كتباً كثيرة ربما كان أشهرها دفاعه عن سقراط.انفرد باهتمامه بالقضايا المالية والاقتصادية.أما الكتاب الذي كتبه في شكل حوار،كما ينبغي لرجل تتلمذ على سقراط ن فيشير عنوانه هيرون إلى طاغية فتح بلاطه للشعراء والفلاسفة،بينما زادته انتصاراته في الألعاب صيتاً على صيت.مات عام 6/476 ق.م.وكان سيمونيد،وهو طاغية آخر حكم جزيرة رسبوس،قد زاره بسيراقوصة عام 476 ق.م.

[31] حمل كثير من رجال الدولة الرومانية اسم سيبيون.لقب أحدهم بالأفريقي لأنه فتح أفريقية.

* الطاغية لا يثق بأحد فيصفي حتى أقربهم إليه. الناشر

[32] من مسرحية الخصيّ،الفصل الثالث،المشهد الأول.

[33] المراد كسرى الأكبر،الذي أسس الإمبراطورية الفارسية في القرن السادس قبل الميلاد،وليديا من ممالك آسيا الصغرى.

* كما كان يشجع الاستعمار الطرق الخرافية في المماراسات الدينية التي لا تمت إلى الدين. الناشر

[34] طريقة في اصطياد العصافير تقوم في استدراجها بالصفير لها على نحو معين.

[35] موائد يلتف حولها أفراد الشعب عشرة حول كل مائدة.

* إن عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملها (الأحزاب،72). الناشر

[36] فر نيرون من روما بعد أن تمرد عليه حكام الأقاليم،ولفظه الشعب بجميع طبقاته.فلما لحق به مطاردوه انتحر في مخبئه وهو يولول،غير مصدق لما يحدث له،هكذا كان مبلغ فتونه بنفسه.

[37] وصف دقيق لهذا المؤرخ الذي ولد عام 56 بعد الميلاد،ولا نعلم على التحقيق متى مات.تقلب في أرفع المناصب،وكتب كتباً كثيرة أشهرها المعروف باسم التواريخ.وصف فيه الحرب الأهلية بما زخرت به سواء من المطامع والمؤامرات،أو من أمثلة الشجاعة والصداقة،وصفاً لا يدانى في قوته.

[38] وصف المؤرخ سويتون جنازة قيصر في كتابه حياة القياصرة الأثني عشر فقال: فلما أعلن عن موعد الجنازة نصبت المحرقة في ميدان مارس(إله الحرب)بجانب قبر يوليا(ابنة قيصر)وشيد تجاه منصة الخطابة مبنى مطلي بالذهب،على طراز معبد فينوس الوالدة،وضع به سرير من العاج غطي الأرجوان والذهب.ووضعت على رأس السرير شارات انتصارات قيصر مع الثياب التي كان يرتديها حين قتل.ولما تبين أن اليوم كله لن يكفي مرور الناس الذين اصطفوا حاملين قرابينهم.صدر قرار بأن يحمل كل من شاء قرابينه إلى ميدان مارس متبعاً أي طريق كان دون الانتظام في الصف.وفي خلال الألعاب الجنائزية تغنى الناس بالأشعار التي تثير الشفقة على قيصر،والنقمة على قاتليه،مثل هذا البيت …«أوجب أن ينقذهم ليصبحوا قاتليه؟»وأبيات أخرى بالمعنى نفسه … واكتفى القنصل انطونيو(مارك)في رثائه بأن طلب إلى أحد المنادين أن يقرأ مرسوم مجلس الشيوخ الذي أسبغ على قيصر بالإجماع كل التشريفات الإلهية،والإنسانية،وكذلك العهد الذي كان جميع الشيوخ قد أقسموا فيه على الذود عن حياة قيصر.ولم يضف هو إلا كلمات قليلة.ثم بعدئذ حمل النعش إلى الميدان أمام منصة الخطابة عدد من كبار رجال الدولة الحاضرين والسابقين.وكان البعض يرى حرقه في معبد جوبيتر على الكابيتول،والبعض الآخر في مجلس الشيوخ.وإذا برجلين تمنطق كلاهما بسيف وحمل بيده رمحاً يشعلان فيه النار فجأة بشموع موقدة.ولم يلبث جمهور المشيعين أن كدس حوله الحطب والمقاعد ومنصات القضاة،ثم جمع الهدايا التي وسعها أن يجدها.بعدئذ خلع لاعبو المزامير والممثلون ثياب الاحتفال بالنصر،التي كانوا ارتدوها لهذه المناسبة،وزجوا بها في النار،كما زج قدماء الجنود الذين حاربوا تحت لوائه بالأسلحة التي كانوا قد تزينوا بها للمشاركة في جنازته.لا بل إن عدداً كبيراً من الأمهات رمت في النار حليها وحلي أطفالهن وعباءاتهم.إلى جانب هذه المظاهر العامة التي تجلى فيها حزن الجمهور أدت الجاليات الأجنبية مراسم الحداد،كل جالية على حدة حسب طقوسها وبخاصة اليهود،الذين ذهبوا إلى حد التجمع حول قبره ليالي متعددة،(لأن قيصر هو الذي هزم بومبي الذي كان قد استولى على القدس).

و بعد أن انتهت الجنازة على الفور شَيد له العامة عموداً من مرمر نوميديا بلغ ارتفاعه نحو العشرين قدماً،ونقش عليه: إلى أبي الوطن».

[39] لقب وكيل الشعب يحتاج إلى بعض الإيضاح.ذلك أن رومولوس كان قد قسم الشعب الروماني تقسيماً إدارياً وليس على أساس صلات الدم،أو الرحم،إلى عشر قبائل يترأس كلاً منها عشرة آباء،أو شيوخ،ويتكون من مجموعهم المجلس المعروف بهذا الاسم.أما الملك فلم يكن يتولى الحكم بالوراثة،بل كان يستخلفه سابقه.فإن مات السابق دون أن يستخلف أحداً تناوب الشيوخ الحكم إلى أن يختار الشعب ملكاً بشرط أن يوافق الشيوخ على اختياره.وكانت سلطة الملك،أو بالأدق إمارته المدنية(امبريوم)إمارة مطلقة تشمل حق السلم والحرب وحق الحياة والموت على جميع سكان المدينة.ثم هي كانت لا تنفصل عن إمارته الدينية(آوسبيسيوم)التي تبيح له حق استشارة الآلهة لمعرفة مشيئتهم في شؤون السياسة والحرب والقضاء.وفي القرن الخامس قبل الميلاد سقط النظام الملكي،وحلت محله«الجمهورية»(انظر الهامش 2).ولكن جميع الوظائف القيادية في إدارة الدولة ظلت بيد الشيوخ وأسرهم،فنجم عن ذلك شقاق هدد بانصداع الأمة كلها لولا أن العامة ظفرت بحق انتخاب وكلائها الذين يتحدثون باسمها دفاعاً عن مصالحها.ولم يكن هؤلاء الوكلاء يشاركون في الحكم مشاركة إيجابية،ولكنهم كان في مستطاعهم حماية شرف العامة ومصالحها بممارسة حق الفيتو إزاء جميع القرارات الإدارية،وازاء القوانين التي يصدرها مجلس الشيوخ على السواء.هذا ولقد كانت الكلمة اللاتينية التي ترجمناها بالوكيل(تريبونوس)مشتقة من كلمة تريبوس بمعنى قبيلة،لأن كل قبيلة كانت تختار وكلاءها – ويقال أيضاً لبعضهم ماجستير،ومعناه كل موظف في جهاز الدولة،وإن غلب بعد ذلك اطلاقه على القضاة خاصة.

[40] كان لونجا،وهو عضو برلمان بوردو،الذي أخذ لابويسيه مكانه،يعلم بطبيعة الحال نصوص القرارات والمراسيم الملكية التي لم يكن يخلو واحد منها من نفاق التعلل بالخير المشترك،والمنفعة العامة.

[41] كان ملوك مصر القديمة _وكذلك ملوك آشور _ شيئاً يزيد على البشر فعلاً،كما يقول لابويسيه.كان فرعون أقرب إلى الشمس منه إلى سائر الخلق: فهو ابن رع،وإلى السماء منه إلى الأرض: فهو حوريس المحلق فوق القبة الزرقاء،وكانت له بعد الممات حياة يُبعث إليها في شكل أوزيريس.ثم هو كان الوسيط بين الآلهة والبشر،يضمن لأولئك أداء الفرائض ولهؤلاء الرغد والعدالة والنصر.لذا سمي حكمه حكماً ثيوقراطياً أو ربوبياً(ثيو: باليونانية = إله أورب).وكان حصول هذه المكانة فيه يتحقق بطقوس من نوع ما يسمى في الانثروبولوجيا بطقوس الانتقال،يدبرها الكهنة تدبيراً دقيقاً أهمها عدا التزيية والتتويج  التطهير بالماء والدهن بالزيت،ومنه سمي الملك في المسيحية بعد أن انتقلت إليها بعض هذه الطقوس عبر التوراة باسم«دهين الله».هذا إلا أن القيمة الكبرى التي كان يعلقها قدماء المصريين على الإلهة من (الحقيقة والعدالة)كانت تحول دون جنوح الحكم الفرعوني إلى ما يسمى بالحكم المطلق،وإن تكن هذه القيمة قد بقيت في صورة العرف دون أن تتخذ شكل التشريع.أضف أن هذه المكانة التي كان فرعون يعلو بها سائر البشر لم تكن تضفي عليه من حيث وجوده الفردي البيولوجي بل من حيث وظيفته العامة.لذا يخطئ القارئ إذا ظن أن هذه التعلية قد امحت اليوم آثارها بفضل التقدم.فلفظ فرعون نفسه لفظ مركب من كلمتين تعنيان بالمصرية القديمة البيت الكبير،مثلما نقول اليوم البيت الأبيض،أو الاليزبه،دلالة على رؤساء الدول المعاصرين.أما الأغاني التي كانت تصحب طقوس الدهن أو التتويج،كهذه الأغنية:«ليفرح البلد كله فقد جاء الزمن السعيد.علا سيد جميع الأراضي … والغمر فاض والنهار طال.الليل انضبطت ساعاته والقمر يرجع في مواقيته»،فهل من ينكر أن التغني بالحكام من شيم الشعوب؟

[42] بيروس(219 – 272 ق.م.)هو أشهر ملوك ابيروس بجوار مقدونيا.بهر معاصريه ببراعته في فنون الحرب والقتال وبمهارته الانتهازية في مجال السياسة،ولكنه لم يحقق نصراً دائماً.ربما كان أهم آثاره أنه حول ابيروس إلى دولة قوية مندمجة اندماجاً تاماً في العالم الهلليني.

 [43] ولد فسباسيان عام 9 م.كان أبوه جابياً للضرائب،وكانت أسرة أمه تنتمي إلى ما يسمى في روما بطبقة الفرسان،وهي طبقة تقل درجة عن طبقة الشيوخ،وإن يكن أخوها قد دخل مجلسهم.تقلب في أكبر مناصب الدولة المدنية والعسكرية،ثم لما احتدم الصراع حول خلافة الإمبراطور جالبا أعلنت فرقتان رومانيتان بالإسكندرية اختيارهما له إمبراطورا في الأول من يوليه عام 69،ولم يلبث أن حذت حذوها الجيوش الرومانية في فلسطين وسوريا.كان ذا طاقة كبيرة على العمل متواضعاً في حياته محباً لأسرته حباً انحرف إلى المحاباة،حتى أنه استخلف ولديه كالمتبع في ممالك الشرق وبخلاف المتبع في روما.ربما كان أعظم منجزاته إنهاء الحرب الأهلية ونشر السلام.هذا ولقد كان الاعتقاد بقدرة الملوك على اتيان الشفاء لا يزال سارياً في عصر لابويسيه في فرنسا وانجلترا على السواء.كان المرض بالتحديد هو البرص،وكان الشفاء يتلمس المواضع المصابة ورسم علامة الصليب تتلوه صدقة نقدية.وكان المفروض أن هذه الكرامة تدخل فيما يحصل للملك بفضل طقوس الدهن.ولم يبطل هذا الاعتقاد،لأن الوقائع كذبته فكون العلة تدخل في سجل الوهم لا يمنع قدرتها على إحداث نتائج تدخل في سجل الواقع،ولكن بفضل الثورات السياسية التي بدأت في إنجلترا وفرنسا.

[44] ورد ذكر سالمونيوس في النشيد السادس من ملحمة فرجيل،عن وقائع اينيه،على أنه ملك إليدا في شمال شبه جزيرة اليونان قريباً من البحر الأيوتي.يتردد في هذه القصة صدى الطقوس السحرية المبنية على تقنية المحاكاة: كقرع الطبول استثارة للوعد.

  [45] كانت هذه الرموز تزين خواتم الملوك وأختامها وأزياءهم وسلاحهم ومتاعهم،وكان كل منها بمثابة نواة تراكمت حولها الحكايات والأساطير على مر العصور.فالزنابق مثلاً أصلها أن الملك كلوفيس قبل أن يهتدي إلى المسيحية كانت رموزه الأهلّة(وهنا تنطوي القصة على خلط بين الوثنية والإسلام).ولكن ناسكاً أعطى زوجته المسيحية كلوتيلد درعاً يحمل الزنابق الثلاث مؤكداً لها أن زوجها منتصر به،فما انتصر تنصرً كذلك الشعلة الذهبية(وهي راية في صورة الشعلة أكثر استخدامها استخدام زخرفي في مواكب الملوك)قصتها أن إمبراطور القسطنطينية رأى في المنام فارساً يقف بجانب مضجعه وبيده رمح خرج منه اللهب،وعندئذ بدا له ملاك يُنبِه أن هذا الفارس لا أحد غيره هو الذي سوف يخلص أراضيه من قبضة العرب.وكان هذا الفارس هو شارلمان ملك الفرنجة.ولكن أحب هذه القصص إلى النفوس،وأثبتها في الاعتقاد لاتصالها بالمشاعر الدينية،كانت تلك المتعلقة بالقارورة أو القنينة المقدسة،وهي زجاجة صغيرة كانت تحوي الزيت الذي كانت تقتضي الطقوس بدهن الملك به كما سبقت الإشارة إليه.قيل أن القس المكلف بإحضار الزيوت الطاهرة قد عاقته حشود الجماهير عن الوصول في الميعاد يوم تعميد الملك كلوفيس،فهبطت يمامة من السماء تحمل إلى القديس ريمي(الاسقف المعمد)«أنبولة» صغيرة حوت الزيت المطلوب.هذا الدهان الذي ليس من هذه الأرض ظل محفوظاً في قارورته الأصلية بكاتدرائية رانس،وهذا كان تتويج ملوك فرنسا يتم دائماً في هذه المدينة.

[46] أغلب الظن أن لابويسيه لا يشير هنا إلى رموز الملك،بل إلى إمارات العرق،مثل علامة الرمح التي قيل أنها تميز العائلات النبيلة في طيبة اليونانية.نسجت أمثال هذه الروايات عن الملوك المسيحيين في القرون الوسطى،فقيل أنهم يتميزون بعلامة في هيئة الصليب على الكتف الأيمن دليلاً على اختيار الله لهم.

[47] ينتمي هؤلاء الشعراء الثلاثة إلى جيل قريب العهد باكتشاف ذخائر الأدب اليوناني،فكانت أول رغبات المثقفين في وقت بدأت تتأجج فيه المشاعر الوطنية مع تحقق وحدة المملكة،على يد أسرة فالوا هي أن يسبغوا على اللغة الفرنسية،وشعرها،الجمال الذي أحبوه في اليونانية.أعلن بلاي مذهبهم في كتابه دفاع وبيان عن اللغة الفرنسية الذي نشر عام 1549.وتألفت منهم جماعة اليلياد كما سماها رونسار،الذي نشر هو أيضاً موجزاً في فن الشعر.ولا غرو أن يعرب لابويسيه عن إعجابه بهم،فقد أَثروا اللغة الفرنسية بوسائل لا تحصى: خلق الجديد،استرجاع القديم،الاشتقاق من اللاتينية واليونانية والإيطالية،حرية الصرف والنحت،ابتكار صيغ جديدة لاوجود لها في اللغة الفرنسية وإن وجدت في اللغات الأخرى،الخ.

[48] دروع قيل أنها سقطت من السماء على أرض روما في عهد الملك نوما،وأن الغلبة سوف تظل دائماً لهذه المدينة طالما احتفظ الرومان بها.

[49] أريكتون بطل أسطوري قيل أنه انحدر من هيفاستوس ملك الحدادين(فولكان عند الرومان)،وإن الآلهة أثينا عنيت به عند ولادته فوضعته في سلة عهدت بها إلى ثلاث أخوات،شريطة ألا يفتحنه،ولكنهن فعلن فأصابهن الجنون إما لغضب الآلهة،وإما لأن الطفل كان إنساناً نصفاً ونصفاً ثعباناً،وألقين بأنفسهن من قمة جبل الأكروبول.صار الطفل ملك أثينا فأدخل عبادة الآلهة.وإليه ينسب أيضاً أنه اخترع العربات ليخفي نصفه الثعباني.

[50] يسدي ابن الربيع – لا فَّضَّ فوه – بهاتين النصيحتين إلى المالك في سياسة جمهور الرعية: يجتهد في استمالة قلوبهم،وجعل طاعتهم رغبة لا رهبة.و«ليجعل محبتهم له اعتقاداً دينياً لا طمعاً في أغراض الدنيا».(سلوك المالك في تدبير الممالك،تحقيق ناجي التكريتي،بغداد،18.).

[51] المراد يوليوس قيصر.

[52] المراد بالبخل هو بوجه خاص الاكتناز بالمعنى الذي سجله ماركس،إذ قال في وصف سيكولوجية المكتنز:«من أجل متعة خيالية لا حدود لها يترك كل متعة في الواقع».

* حق الفيتو امتياز للطغاة الكبار الذين يحمون الطغاة الصغار. الناشر

[53] القراصنة المشار إليهم كانوا يفدون بالأصح لا من صقيلة،بل من سيسيليا على ساحل آسيا الصغرى الجنوبي.

* «وما كان لي عليكم من سلطان إلا إن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم».(إبراهيم،22). الناشر

[54] سينيكا هو الفيلسوف الرواقي المعروف،بوروس كان معلماً لنيرون وتراسياس كان عضواً بمجلس الشيوخ.ثلاثتهم اشتغلوا مستشارين لنيرون،وثلاثتهم اتهمهم نيرون بخداعه والكيد له،فحكم على بوروس بالسجن،أما الآخران فانتحرا.

[55] بوبيا محظية نيرون،تزوجها ثم قتلها،ويقال بركلة قدمٍ – عام 65.

* الطاغية لا يثق بأحد فيصفي أقربهم إليه. الناشر

[56] تزوجت أجريبينا أم نيرون ثلاث مرات،وكان آخر أزواجها عمها الإمبراطور كلوديوس.جعلته يتبنى ولدها نيرون ثم سمَّته حتى يعتلي نيرون العرش.ولكنه ضاق بها فأمر بقتلها.

[57] كانت مسالينا(15 – 48)الزوجة الرابعة للإمبراطور كلوديوس وأم بريتانيكوس وأكتافيا.ضربت بفجورها الأمثال.

 [58] الأباطرة دوميسيان وكرمودوس وانطونان(الذي عرف باسم كاراكالا)حكموا على الترتيب في السنوات الآتية 80 إلى 96،180إلى 192،211 إلى 217.

[59] كائن في صورة إنسان له قرون الماعز وأقدامها.يطلق مجازاً على الفاجر.

[60] المراد بترارك.

[61] آكلوا الشعوب وصف ورد في الإلياذة عدة مرات خلعه هوميروس على بعض الملوك.

مسرد أفكار

الموضوع                                       رقم الصفحة

  • تمهيد                                      6
  • آية مفتاحية                               7
  • قيمة الإنسان                              7
  • جذور الديمقراطية ومعناها                 8-29
  • التنافس في فعل الخير                      9
  • من عند أنفسكم                          9-42-146
  • قصة آدم و تحمل المسؤولية                10
  • نبذ الافتخار العرقي                       11
  • نبذ القاء اللوم على الآخر وتبرئة الذات    12-54
  • لا يظلم الإنسان إلا برضاه                 13
  • اتباع البشر لخطوات الشيطان              13
  • سلطان الفطرة و سلطان العادة            14-114
  • مسألة الفيتو                              14-17-26-55-59-63
  • الطاغية لا يخضع لقانون                   15
  • سبب الخنوع                              16
  • خطأ الأيمان بالقوة                        16-17
  • رسالة الأنبياء                              19-32-43
  • دعاة الديمقراطية                           20
  • الشرعية متى و كيف؟                     22-28-31-33
  • ما هي السيادة                            23
  • لا إكراه                                   23-32-35-44
  • نقص الحداثة الغربية                       25-63
  • فوكوياما ونهاية التاريخ                     27
  • ألم تر كيف فعل ربك بأوربا               29-65-68-79
  • تقدم البشرية إلى كلمة السواء              30
  • نور الله                                    30
  • كم قتلنا ونقتل.. ما الفائدة؟              31
  • استثمار طاقة الإنسان                     32
  • مرجع القرآن                              33-67
  • معنى التاريخ                               33-36-73
  • القرآن يتحدى بالمستقبل                  34
  • جوهر الإنسان                            35
  • الحرية-مجرد رغبة                           37-39
  • لا أحد يخسر ويربح الجميع                39
  • مملكة عيسى عليه السلام                  39
  • ثنائية القتل أو الطاعة                     43-55-72
  • الرأي والحرية                               44-45-71
  • موت الخطأ طبيعياً                        45
  • القارات المجهولة                           45-47
  • الوباء والجهل                              47
  • الربح للجميع                             47-71-78
  • واجب الذين بلغوا الرشد                  48
  • مرض القلب العضوي والقلب الفكري    49
  • التمييز بين المرض والمريض                 49-50
  • تزكية النفس وتدسيتها                     51-52
  • الثقة بالإنسان                             52
  • قدرة الإنسان على التوجه                  53
  • بيانات اليونيسكو                         56
  • حل المشكلة بالوعي                       58-69
  • معنى التوحيد                              60-63
  • مجتمع السواء                              61
  • جدلية الخوارق والسننية                    61
  • السكوت عن المرض                      65
  • اتحاد العرب                               66
  • تنازع العرب                               67-70
  • معركة الفكر                               72-74
  • العز والذل                                75
  • كن كابن آدم                             76
  • الأيمان والكفر                             77
  • الثقة والأمانة                              80
  • كثرة الأمراء سوء                          89
  • احتمال الأذى                             91
  • الضعف يفرض طاعة القوة                91
  • التحول من الخير إلى الشر                 92
  • عن الحرية                                 95-98-100-103-105-106
  • معارك الإغريق                             96
  • لا تطعه                                   97
  • دور الشعوب                             97
  • من عند أنفسكم                          100
  • إنهم كالأنعام                              102
  • طبيعة الإنسان                             103-121
  • معنى الطبيعة                              104
  • التكامل الإنساني                          104
  • ممن نتعلم الحرية                           105-106-107
  • ثلاثة أضعاف                             108
  • قصة شعب إسرائيل                       111
  • أسباب العبودية                           111-121-141
  • هكذا وجدنا آباءنا                        113-126
  • البيئة الاجتماعية                           115
  • أهمية التاريخ                               122-124
  • أهمية القراءة                               123
  • اكتشافات الطغاة                          129-131
  • حزن الرومان على نيرون                  133
  • صنع الأساطير                             136
  • البطانة-الأدوات                           142-143
  • الثقة والأمانة                              153

الفهرس

  • مداخلة الأستاذ جودت سعيد                    6
  • مقدمة المترجم                                     83
  • مقدمة الناشر                                      4
  • العبودية المختارة                                   89
  • هوامش المترجم                                    159
  • مسرد أفكار                                       193
  • الفهرس                                            199

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى