أنور بدرصفحات الناس

مقام الصحابي عمار بن ياسر في الرقة: في صراع الطوائف والطائفية/ أنور بدر

 تقع مدينة الرقة في الشمال الشرقي لسوريا، ولها حدود طويلة مع تركيا، إضافة لكونها تتوسط خمس محافظات سورية هي: الحسكة، دير الزور، حمص، حماه، حلب، وهي تعود للقرن الرابع ق.م، وفيها آثار مهمة كتل توتوتل وتل حلاوة اللذين يرجعان للقرن الثاني ق.م، ومدينة الرصافة الأثرية التي تعود في نشأتها الأولى لزمن الآشوريين.

إلا أن ما يميز هذه المحافظة حقاً احتواؤها على آثار إسلامية مهمة، كالسور الذي يمتد بطول 5 كم وما زال محافظاً على أجزاء جيدة منه، إضافة للجامع الكبير، وقصر البنات، وباب بغداد، وقلعة جعبر، والأجزاء الاسلامية في مدينة الرصافة. وفيها أيضاً مقام الصحابي الجليل عمار بن ياسر، الذي دمّرت بعض الكتائب المتشددة أجزاء منه مؤخراً.

ولهذا المقام قصة أخرى سأبدها بشهادة كادت تندثر لولا هذه الحادثة التي تسيء للثورة وللشعب السوري، ولتاريخ المنطقة، وتعود شهادتي لعام 2006 حين أقامت مديرية ثقافة الرقة حينها ندوة ‘العروبة والاسلام’ ضمن باقة من الفعاليات والنشاطات المتميزة، والتي اجتهد السيد حمود الموسى مدير ثقافة الرقة لاقامتها، رغم الروتين الثقافي الباهت لتلك الحقبة من تسلط البعث، وغياب الوزارة عن هذه الهواجس، فكان عليه أن يغطي نفقات هذه النشاطات من خلال فعاليات اجتماعية، وأهلية عُرفت بسخائها.

في تلك الندوة، وبينما كنا ندلف إلى مطعم فخم على نهر الفرات، فوجئت بعدد من الشبان المصطفين نسقاً ويلبسون كلهم الطقم الأوروبي بلون داكن موحد في ذلك الصيف القائظ، وقد تولى صاحب الدعوة تعريفهم بأحد المشاركين من أئمة الفقه في العراق، مازلت أتذكر نسبه فقط ‘مدرسي’ والنسق الشبابي نسبيا يقبَلون يده في ظاهرة لم أعهدها سابقاً، فسألت صديقي الأستاذ ماجد العويد عن هذه الظاهرة، فأجاب مبتسماً كعادته: إنه التشيّعْ في الرقة. وفهمت لاحقاً أن هؤلاء الشباب هم أعضاء حوزة شيعية أقامتها طهران وتمولها أيضاً، لمد نفوذها في الكثير من مناطق سوريا.

فكان طبيعياً الربط بين هذه الواقعة وبين مقام الصحابي الجليل عمار بن ياسر، الذي سبق لي زيارته أكثر من مرة ضمن الفعاليات الثقافية لمحافظة الرقة، حيث يكتشف الزائر ما يُصر الايرانيون على تسميته مرقدا، وزيارة المراقد في المذهب الشيعي طقس يُعادل الحج في أركان العبادات الإسلامية الخمسة، باعتباره طريقا للتقرب من الله عزّ وجلّ.

والمقام في أصله جزء من مقبرة الرقة، وفيها مجموعة من القبور التي يُعتقد أنها لقتلى حرب صفين بين معاوية وعلي بن أبي طالب، وقد درست أغلبها باستثناء قبر عادي يحمل شاهدة تفيد بأنه قبر الصحابي عمار بن ياسر، وقبر أهم لأويس القرني، إذ بنيت عليه غرفة صغيرة وقبة يزورها الناس، وعليها كتابة بالعربية تفيد أنه قام بتجديد هذا المقام ‘مسلم الرقي بن علي آغا بن المرحوم إسماعيل آغا’ سنة /1152/ هجرية .. وهذا يعادل /1737/م، جرى ذلك في زمن ‘رضوان باشا’ والي ‘الرقة’ و’الرّها’ المقيم في ‘أورفا’. ثم جرى تجديد آخر للقبة في زمن السلطان العثماني ‘عبد المجيد خان’. كما أشار الرحالة الألماني ‘أرنست هرتزفيلد’ أثناء زيارته ‘للرقة’ عام 1907، أما بقية القبور فلم يُعتن بها وتركت كما هي، والبعض يشك في صحة الرواية.

وفي سنة /1983/م بدأت المحافظة بإزالة القبور القديمة والحديثة لتشيد على أنقاضها حديقة ومنتزها عاما، ثمّ وافقت الحكومة السورية على طلب إيران عام 1988، السماح لها بالاعتناء بمقام الصحابي عمار بن ياسر، وضريح كل من الصحابي أبي بن قيس النخعي والتابعي أويس القرني في الرقة، والإشراف على ترميمه وتوسعته وبناء جامع كبير عليه كأحد المقامات المقدسة الشيعية، والذي أقيم على نفقة الحكومة الإيرانية ونفذته وزارة الإسكان وبناء المدن في طهران، ودشن المقام عام 2004.

المقام بشكله الحالي يضمُ ثلاثة أبنية منفصلة، واحد للصحابي عمار بن ياسر، والآخران للتابعيين أويس القرني وأبي بن قيس النخعي رضي الله عنهم جميعاً، كما يحوي الطابق العلوي للمقام غرفا وصالات ومطابخ لاستقبال الزوار واستضافتهم طول فترة الزيارة.

تبلغ مساحة أرض المقام 50000 متر مربع، ومساحة البناء فقط 17000 متر مربع. منها 730 متراً مربعاً لمقام عمار بن ياسر والذي يبلغ ارتفاع القبة فيه 12 متراً، وكذلك هي مساحة مقام أويس القرني، أما مقام أبي بن قيس النخعي فتبلغ مساحته 325 متراً مربعاً وارتفاع القبة 9 أمتار فقط.

المشكلة ليست في إزالة المقبرة، ولا في إقامة أو تشييد المقام، المشكلة الحقيقية في ارتباط ذلك كله بسياسة التشيّع التي اتبعتها إيران في المنطقة، والتي أخذت منحى نشر الحوزات العلمية التي تمول عملية التشيّع ونشر هذا المذهب الديني بين السكان غير الشيعة أصلاً، من خلال ‘مديرية الحوزات العلمية’ التي أنشئت في طهران، والتي يتبع لها في سوريا كل من (الحوزة الحيدرية- الإمام جواد التبريزي- الإمام الصادق- الرسول الأعظم- الإمام المجتبى- الإمام الحسين- الإمام زين العابدين- قمر بني هاشم-إمام الزمان- الشهيدين الصديقين- الإمام المهدي- فقه الأئمة الأطهار…)، كما أخذ التشيّع منحى آخر في بناء الأضرحة والمقامات الشيعية بدلالتها الرمزية، وتابعيتها خارج سلطة وزارة الأوقاف السورية، حيث تحولت هذه الأماكن إلى بؤر للنفوذ الإيراني، ابتداءً من الطقس الديني، وانتهاءً بالسيطرة الادارية، وصولاً إلى إقامة ما يشبه مستوطنات بات يقطنها الإيرانيون والشيعة عموماً، والتي اعتبرها السيد مجتبى الحسيني ممثل قائد الثورة الإسلامية في سوريا وفق وكالة ‘أرنا الإيرانية’ بتاريخ 15/4/2008 ‘مواقع متقدمة للإمام الخميني’.

وربما بدأت قصة المقامات الشيعية في أواخر سبعينات القرن الماضي، حين أقام الإمام الإيراني الأصل حسن الشيرازي، في قرية السيدة زينب قرب دمشق، والتي تحوي مقاماً صغيرا بهذا الاسم، لم تلبث البلدة والمقام أن تحولا إلى أهم مركز شيعي في المنطقة، يضم الكثير من البيوت والحوزات والمدارس المرتبطة بالمقام، والممولة من إيران. وتبعها مقام سكينة بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في بلدة داريا، والتي لم تُشر إليه اي من كتب التأريخ لتلك المنطقة، إلا البعثة الايرانية التي قررت عام 1999 أن أحد قبور الأولياء الصالحين هو قبر سكينة، فاشتروا الأراضي والعقارات المجاورة له، واقيم مقام كبير لها، ألحق به عام 2003 حسينية ضخمة.

ويمكن أن نذكر مقام السيدة رقية بنت الحسين، ومقام السيدة سكينة بنت الحسين، ومقام حجر بن عدي ومشهد الحسين في مدينة حلب وسوى ذلك كثير، بحيث يتضح مما سبق أن إيران موّلت بناء المقامات الدينية، ونشرت الحوزات العلمية، لتكون مواقع متقدمة لها في إطار مشروعها التوسعي، وليس من أجل أن تكون مجرد أماكن دينية لا تحمل مشروعاً سياسياً.

ومع بدء الثورة السورية بدأت إيران ومواليها حزب الله اللبناني، الحديث عن المخاطر التي تحيق بهذه المقامات المقدسة، مما شكل لاحقاً تبريراً لدخول حزب الله في القتال ضد الثورة السورية بحجة الدفاع عن العتبات المقدسة وتلك المقامات التي لم يكن قد لحقها أي أذى أو إساءة، غير أن هذه الحرب غير المقدسة بنت على مشاعر طائفية لهدف سياسي من جهة الدفاع عن النظام القمعي الفاسد، ولهدف طائفي أيضاً في دعم المشروع الايراني الشيعي والحفاظ على تماسكه تحت مسمى قوس الممانعة والمقاومة الممتد من إيران إلى العراق فدمشق وصولاً إلى حزب الله اللبناني، خشية أن تنقطع أهم حلقاته في سوريا.

وبالعودة إلى حديث المقامات التي تنتشر في عالمنا الاسلامي بكثرة وتعدد، حيث يمكن أن نجد أكثر من مقام للشخصية الدينية الواحدة، فللصحابي عمار بن ياسر مقام آخر في جنوب سوريا، وفي قرية ‘عريقة’ تحديداً من محافظة السويداء، لكن دخول الايرانيين على خط المقامات وتوظيف المكونات التاريخية للطوائف في صراع طائفي غيّر مجرى الصراع بين الثورة السورية ونظام الأسد، بحيث دخلت مكونات أراد لها النظام منذ البداية أن تكون عنواناً للثورة ففشل، وعمد النظام إلى استهداف المواقع المقدسة في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، فضرب الكنائس والجوامع وليس آخرها تدمير قبر وجامع الصحابي خالد بن الوليد في مدينة حمص. وتأتي الجماعات السلفية لتستخدم ذات السلاح ولأسباب طائفية غالباً، بمعنى الرد بالمثل، وقد شهدنا ذلك في بلدان الربيع العربي من تونس إلى مصر وليبيا، لكن غياب سلطة الدولة لمدة عامين ونصف في سوريا، وتداخل أطراف الصراع الاقليمية فيها، شجع تلك الجماعات على استهداف مقام عمار بن ياسر، وهو يشكل اعتداءً على الارث الحضاري لسوريا، رغم كل الملابسات التي أحاطت ببنائه، ورغم الدور الإيراني الذي ننتظر انتصار الثورة لتحجيمه وإلغائه، وإلغاء كل المظاهر الطائفية، فلن تكون سوريا مزرعة لملالي طهران، ولن تكون حلقة في قوس الممانعة والمقاومة الشيعي، دون أن يبرر ذلك الإساءة لتاريخ البلد وآثاره وكنوزه الحضارية، فهي ملك للشعب السوري، وملك للأجيال السورية.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى