صفحات العالم

مقايضة مسيحيّة


حازم صاغية

بين مواقف البطريرك الماروني بشارة الراعي والحُكم بسجن فايز كرم سنتين تقع مسألة الأقليات في لبنان والمشرق.

فالحُكم البالغ التخفيف بحق كرم، وعدم الاستياء الذي أبداه حزب الله، قابلان للتأويل بأشكال شتى، إلا أن إحدى الدلالات الأبعد تفيد بقدر واسع من التسامح مع الأقليات الدينية، ومع المسيحيين تحديداً. بل يبدو، في ما خص المسألة الوطنية، أن المسيحيين يستفيدون من معاملة أفضليةٍ أو من تمييز لصالحهم يعادل ما يسمى في الولايات المتحدة affirmative action.

هكذا نجد حزب الله وهو في ذروة حملته على العملاء والدعوة إلى الاقتصاص منهم بالإعدام، يستقبل برحابة صدر مدهشة حكم السنتين بحق وجه سياسي اعترف هو نفسه بتهمته.

المسيحي إذاً، لا يُلام بالقسوة التي يُلام فيها المسلم، وهذا التوجه ربما استند إلى حكمة مستفادة من خبرات سابقة، فقد سبق لسياسيين مسيحيين، كالسادة إيلي حبيقة وكريم بقرادوني وميشال سماحة وميشال عون، أن قطعوا صحارى شاسعة في التحولات السياسية التي أقدموا عليها، فلو أنهم عوملوا بقسوة ورعونة لما انتهوا إلى ما انتهوا إليه، مدافعين عن المقاومة وعن «سورية الأسد»، مثلهم في ذلك مثل السادة عاصم قانصوه ووئام وهاب وناصر قنديل.

على أن المعاملة الكريمة هذه أتت متزامنة مع مواقف بالغة الجدة للبطريركية المارونية، مواقفَ لم تتسع لها بيروت فشع نورها على باريس. وهنا يُلاحَظ تحولٌ آخر نَقَلَ أهلَ الكنيسة من معارضة أنظمة الاستبداد إلى تأييدها، ومن المطالبة باحتكار الدولة لوسائل العنف إلى القبول بانتشار وسائل العنف وشيوعها، ومن التناسق مع إجمالي المواقف الغربية، بوصف الغرب مهد الحداثة التي يقول المسيحيون بالانتماء إليها، إلى التصادم معها.

بلغة أخرى، يتبدى كأن مقايضة مهمة تحققت هي أقرب إلى صفقة فاوستية تُباع فيها النفس للشيطان. بموجب تلك المقايضة، يُعامَل المسيحيون، ممثلين بفايز كرم، باللين في الموضوع الوطني، ويمتد اللين هذا فيشمل بضعة تنازلات تُقدَّم، في الحكومة وفي البرلمان، لهذا الوجه أو ذاك الوجيه ممن ينتمون إلى الطرف السياسي الذي ينتمي إليه كرم. ووفقاً للمقايضة ذاتها، تتخلى المرجعية الروحية للمسيحيين عما ارتبط تاريخياً بصورتها عن نفسها لجهة المواقف والتحالفات والقيم.

وغني عن القول أن في ذلك تتفيهاً كبيراً للقضايا التي تخسر، والحال هذه، في مقابل أشخاص بعينهم يكسبون. والعونية، بمعنى من المعاني، هي هذه المعادلة بالضبط: أعطوا عون ولفيفه وخذوا القضايا والمعاني. وفي هذا المعنى يغدو الانتصار لقضايا الأقليات والتسامح والديموقراطية ذا معنى محدد: تسمين عون وحظوظه وحظوظ محظييه.

بيد أن في ذلك شيئاً مهيناً، هو الافتراض الضمني أن كل ما يأتي من المسيحيين، في ما خص المسألة الوطنية، خير وبركة، فإذا كان مطلوباً من المسلم أن يقاوم كحد أقصى، وأن يؤيد المقاومة كحد أدنى، فالمسيحي يكفيه ألاّ يتجسس، وحتى لو تجسس أمكن، بالتي هي أحسن، استيعابه وامتصاص شروره.

وهذه ترقى إلى ذمية مقلوبة، بمعنى أنها تنظر إلى الأقلية المسيحية على أنها خائنة أصلاً، فـ «تعالجها» بلطف مبالغ فيه هو الوجه الآخر لكراهيتها، تماماً كما كان «حب اليهود» في أوروبا وجهاً آخر للاسامية حيالهم.

هل يقبل المسيحيون اللبنانيون والمشارقة ذلك التعامل الراعي معهم؟

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى