صفحات سورية

مقتل الحل السياسي/ د. رياض نعسان أغا

 

 

جاء خطاب الأسد أمام مجلس نقابة المحامين بدمشق إعلاناً عن مقتل الحل السياسي، فحين يصر النظام على أن يرى المعارضة مجموعة من الخونة ومن الإرهابيين، فإن البحث عن نقطة وسطى للتلاقي تبدو مستحيلة. ومن المفجع ألا يفيد النظام من كل ما حدث كي يعيد النظر في خطابه، فقد قادته هذه النظرة الضيقة إلى استبعاد الحل السياسي منذ المظاهرات السلمية الأولى قبل خمس سنوات، حين أصر على أنها مؤامرة كونية تقودها قطر (التي ذكرت في الخطاب تحديداً)، وزعم بشكل مضحك أن كل متظاهر قبض نحو عشرين دولاراً مقابل أن يعرض نفسه للقتل أو الاعتقال ولدمار أسرته وتشريدها وخسارة أملاكه. ولم يوضح النظام مرة واحدة. لماذا تفعل قطر ذلك وأميرها يومذاك أقرب الأصدقاء وأكثرهم دفاعاً عن الأسد. ولا أعرف سبباً لموقف عدائي تتخذه السعودية ضد النظام، وكنت على معرفة بما قدمت السعودية من دعم ومن تجاوز لقضية الشهيد الحريري وصلت إلى حد أن يأتي الملك الراحل إلى دمشق ليعقد مصالحة مصطحباً معه سعد الحريري والقصة معروفة، والمصيبة الكبرى أنه حين يفشل الطبيب في تشخيص المرض يموت المريض.

وهكذا لم يستطع النظام أن يرى إلى اليوم أن سبب ما حدث من انفجار شعبي هو حالة الاختناق التي وصلت إليها سوريا بسبب الضغط الأمني وتسلط أجهزة المخابرات على أعناق الشعب، والمفارقة أن كل تلك الشعوب طالبت بإسقاط الأنظمة فيها، بينما كان شعار تظاهرات السوريين الأولى (الشعب يريد إصلاح النظام)، ثم تطورت إلى (الشعب يريد إسقاط المحافظ)، وقد عشت ما كان يحدث لحظة بلحظة، وكنت أعجب من عناد النظام وإصراره على قمع تلك التظاهرات بإطلاق النار من اللحظة الأولى، وحين سقط الشهداء من الشباب اليافعين المتظاهرين تحول الشعار إلى هتاف حار (اللي بيقتل شعبه خاين)، وحين صدرت الأوامر بإدخال الجيش لحصار «درعا» وقمع احتجاجاتها. واعتقل المثقفون الذين أصدروا ما سمي «بيان الحليب»، أدرك الشعب أن النظام مصر على القتل، وكان واضحاً أن النظام يخشى أن يتنازل لأي إصلاح سياسي، لأنه قد يقود إلى البدء بمرحلة ديموقراطية يتم من خلالها انتهاء احتكار السلطة واستبدادها.

ويتجاهل الخطاب الأخير كما تجاهل الأول الذي سمى فيه الشعب (مجموعة جراثيم) أن ثمانين في المائة من الشعب قد تحولوا إلى معارضة، لأنهم رفضوا أن يقتل شعبهم، والخطاب يعتبر كل هؤلاء خونة وإرهابيين، لأنه لا يريد أن يرى الحقيقة.

لقد تجاهل الخطاب أن اثني عشر مليون مواطن هاجروا من سوريا لأنهم مهددون بالقتل والاعتقال، وأن ملايين منهم باتوا نازحين في دول الجوار، لأن براميل الموت هدمت قراهم وبيوتهم، ولا تملك قوى المعارضة صواريخ «سكود» ولا طائرات «الميج» ولا الحوامات التي تبيد الشعب. كما تجاهل الخطاب أن النظام الذي أرغم على خوض حوار سياسي في (صحاري) لم يستطع أن يتابع هذا الحوار لأنه عاجز عن تقديم أي تنازل لشعبه، لأن أية خطة جادة باتجاه الإصلاح تهدد بنيته الداخلية التي تقوم على الاستبداد الذي وصل إلى مرتبة قدسية أعلنها النظام حين جعل أخلاق التشبيح قيمه العليا، وصار الهتاف العلني (شبيحة للأبد)، وتجاهل الخطاب أن الذين عارضوا النظام وخرجوا عليه هم أولئك الشرفاء الذين رفضوا قتل أهلهم.

كما تجاهل الخطاب أن الدول الشقيقة لم تكن عدواً له ونسي أن تركيا وفرنسا فتحتا له ذراع الصديق، وأن الإمارات وقطر والسعودية قدمت له نصح الشقيق، لكنه يرى نفسه على صواب في كل ما فعل، ويرى كل من كان صديقه يوماً ثم أنكر عليه أن يقتل شعبه خائناً وإرهابياً! ولا ينسى الخطاب تقديم الشكر لكل من ساهموا معه في قتل شعبه، وإن كانوا ينازعونه السيادة التي بات يمتلكها الطيران الروسي وجيش إيران وميليشيات «حزب الله» والمرتزقة الذين استدعاهم لتدمير سوريا وتقسيم جثتها. فأي حل أو مسار سياسي يمكن أن ينجح مع رؤية سوداء قاتلة لا تعرف سوى منطق الدم والدمار؟

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى