صفحات سوريةمعتز حيسو

مقدمات الانفجار الاجتماعي


معتز حيسو

إذا كانت الانتفاضة الشعبية في سورية تشكّل في بعضِ من تجلياتها رافعةً للنهوض الاجتماعي، فإن من أهم هذه التجليات،هو التغيير الإيجابي الذي يطرأ على الوعي الاجتماعي. إن مستوى هذا التغيير وأشكاله التي تُعتبر نتاجاً موضوعياً للنهوض الشعبي تعيد الحياة لذات الإنسان، رغم الدمار والموت الذي يتخطى الزمن والمكان ويجتاح الذاكرة والجغرافية. ونؤكد بأن نمط الوعي الجديد سيفضي إلى تغيير عام وشامل يؤسس لأنسنة الإنسان، وقد بدأ يتجلى وفق أشكال من التفكير أخذت تتجذر في ثقافة المواطن و آليات تفكيره، متحولةً مع تنامي الانتفاضة إلى بنية ونمط تفكير إنساني جديد، وهذا الوعي لا يرى مخرجاً من القمع وهدر إنسانية الإنسان وكينونته إلا التغيير الديمقراطي العام والشامل والعميق الذي يُعبّر عن جوهر الإنسان بوصفه إنساناً حراً وواعياً ومدركاً، وليس بكونه سلعة يتقيؤها رأس المال المستبد، الذي ينفي عنها أياً من الصفات الإنسانية.ومن المؤكد بأن نمو هذا الوعي وتطوره وتجذره في عمق بنية الوعي الاجتماعي يشكّل إنعطافاً وتحولاً في المجتمع بشكل عام.

لكنّ هذا التحول يجب ألا يُنسينا ما يجري من تحولات سلبية تطرأ على الوعي الاجتماعي، وتُحدث تغيرات سلبية ذات نتائج خطيرة على تماسك البنية الاجتماعية، وهذه التحولات ليست طارئة، لأنها تشكل البعد المدفون في الذاكرة الفردية والجمعية،والتي بدأت تتجلى بشكل واضح في لحظات تراجع تأثير الوعي العقلاني الذي كان من المفترض أن يحدد آليات التفكير. أي عندما يتراجع تأثير الضوابط العقلانية الاجتماعية عن آليات الممارسة اليومية، فإن الوعي الإنساني، وبالتالي السلوكيات العامة ترتد إلى أحط أشكالهما تخلفاً، وهذا ما يجب التوقف عنده، لكونه يساهم في تفجير البنى الاجتماعية وتحديداً في لحظات الأزمة العامة.

إن وجود العقل،لا يعني بالمطلق أنه يتجلى دائماً بأشكال عقلانية وموضوعية.لذا فإن المسلكيات السلبية التي نلحظ بعضاً من تجلياتها في لحظات الأزمة،تؤكد انحسار المحاكمة العقلانية.وهذه المواقف في سياقها المتراكم تحدّد أشكال تجليات التفكير،أي أن البنية الشخصية وحتى البنية الاجتماعية العامة تتحدد في سياقها العام على أساس تجلياتها اليومية التي تعكس موضوعياً نمط التفكير وبنيته.وعند هذا المستوى يمكننا التأكيد بأن التجليات السلبية التي تطفو على السطح الاجتماعي تُعبّر شئنا أم أبينا عن أحط ما تتحدد عليه البنية الذهنية للإنسان، ويمكننا القول بأن ما يمر به المجتمع السوري من حراك شعبي بأشكاله المختلفة وحتى المتناقضة في بعض اللحظات ساهم في تحريك وتحرير الرواسب الذهنية السلبية المدفونة في اللا وعي، ودفعها إلى ساحة الوعي الفردي، لتضفوا بذلك على ساحة الفعل الاجتماعي بأشكال مبتذلة. وعلى المستوى العام فإن ما يشهده المجتمع السوري يكشف عن التناقضات والإشكاليات التي يجبّها الفرد داخل بنيته الذهنية التي كانت مخفية بفعل عوامل متعددة منها غياب ثقافة الحوار،عدم الاعتراف بالآخر المختلف الذي لا يتماهى أو لا يتطابق مع الأنا الذاتية… إن سيطرة ثقافة القهر والأحادية والذكورية بأشكالها ومستوياتها المختلفة، تتجلى في لحظات التأزم بأشكال تناقضات صراعية عنفيه تقوم ليس على مستوى نفي الآخر وإنكاره فقط،بل تصل لمستوى هدر كينونة الإنسان،أي القضاء على الإنسان كيانياً على أسس عائلية شخصية طائفية عشائرية عرقية وإثنية وسياسية..ورغم إدراكنا بأن السبب الأساسي للإنتفاضة الشعبية هو التناقض الاقتصادي والسياسي،لكننا نلاحظ كيف يتم إبعادها عن جذرها الأساسي وإلباسها أثواباً دينية وسلفية وطائفية..ويساهم في هذا التحول أشكال الوعي الشعبي السائد وبعض الأطراف من النظام والمعارضة،مستغلين بعض المظاهر الشكلية التي تتجلى في بعض التظاهرات،والتي تعبّر عن وعي شعبي بسيط لا ترتبط بالمطلق بتسييس الدين. ولا ندري إذا كان بعضاً من الطيف المعارض يدرك بأن إلباس انتفاضة الشعب السوري لبوساً طائفياً، سلفياً، مذهبياً،سواءً كان بحجة الدفاع عن الأقليات أو بحجة سيطرة الأقلية على الأغلبية،(من وجهة نظر دينية)أو بذريعة أن الإسلام السنة يمثل دين الأغلبية،لا يخدم فعلياً إلا النظام وبطانته والمرتبطين به..لكونه يساهم في تبرير زيادة حدة القمع لإجهاض الثورة الشعبية. ولكون السلطة السياسية تدرك خطورة انصهار الحراك الشعبي في حقل الصراع الطبقي/الاجتماعي، فإنها اشتغلت وما زالت على إبعاد الجماهير عن الحقل الأساسي للصراع. إن هذه الآليات تساهم في تعميق الانقسامات العمودية(عشائرية، وإثنية، عرقية، طوائفية…)وتعمل على تغييب التناقض الأفقي الذي يتحدد على أساس التناقض الطبقي ببعديه السياسي والاقتصادي.

إن اشتغال الفئات المسيطرة بالآليات التي ذكرناها، أبقى على مرتكزات التخلف في الذهنية الاجتماعية،و بقاء هذه المرتكزات،يعني بداهةً أن إمكانية انفلات الفرد من عقاله العقلاني وارداً في كل لحظة، فما بالنا عندما تسعى بعض الجهات أو الأطراف إلى تحريض وتحفيز هذه الكوامن، أو دعمها. وتزداد خطورة انفلات العقل من عقلانيته عندما تكون ثقافة الفرد قائمة على أسس أحادية رافضة للآخر، والأنكى من ذلك،عندما يقوم رفض الآخر على استنهاض أشكال من الوعي المذهبي الطائفي العائلي والعشائري..التي لا ترتقي إلى أبسط المعايير العقلانية والمبادئ الوطنية التي يجب أن تقوم على أسس المواطنة والديمقراطية واحترام الآخر أياً يكن انتمائه وميوله ..لذا فإن الخطورة التي يمكن أن يشهدها المجتمع السوري، هو تشظيه أو حتى تفجّره على ذاته داخلياً، رافعاً بذلك حدة التناقض إلى ممارسة القهر وهدر الآخر و تصفيته كيانياً،على أسس دون وطنية،وقد أتينا على بعض أشكال هذه الآليات وعلى مرتكزاتها الاجتماعية التي يزداد ترسيخها وتمكينها بمفاعيل مختلفة. لذا نؤكد بأن العقلانية والموضوعية تشكل الخيار الوحيد الذي يجب أن يقوم على تحديد المقدمات الأولية والأساسية للديمقراطية الضابطة لآليات عمل النظام السياسي، ويجب أن يتزامن هذا الخيار مع العمل على تمكين ثقافة المواطنة الضامنة لحرية الاعتقاد بكونها شأناً فردياً خالصاً لا يجوز المساس به، شرط عدم ربط الدين بالسياسة. هذا دون أن ننسى التركيز على العدالة والمساواة في توزيع العائد الاقتصادي. ونؤكد بأن التفريط بأي مستواً من هذه المستويات، أو حتى تجاهله، يمكن أن يساهم في تعميق وتعزيز التناقضات الاجتماعية بأشكالها العمودية. أي أنه يعني الإرتكاس والنكوص إلى أحط وأشد مراحل المجتمع السوري تخلفاً. وبالتالي فإن الإمكانية الكامنة لتفجير البنية الاجتماعية بأشد أشكالها تخلفاً وكارثية يمكن أن تكون قاب قوسين أو أدنى.

الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى