صبحي حديديصفحات الرأي

مكة أخرى: أدب وفنون و… تجسس!/ صبحي حديدي

 

اختُتم، قبل أيام، معرض متميز بعنوان «الحجّ»، نظّمه معهد العالم العربي في باريس، بغرض التعريف بهذه الفريضة في مختلف أبعادها، وتطوّرها التاريخي، والجوانب المختلفة التي تنطوي عليها تجربة السفر إلى مكة المكرمة؛ ليس من حيث خصوصياتها الروحية والدينية والشعورية، ثمّ الفنّية والمعمارية أيضاً، فحسب؛ بل كذلك في ما يخلقه الحجّ من فرص للتثاقف بين الأقوام والأجناس والأجيال. ولم تغب أهمية هذا المعرض عن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، فبادر إلى افتتاحه بنفسه، وذكّر في كلمته بأنّ علاقة فرنسا بالحجّ تعود إلى القرن التاسع عشر، وترتبط كذلك بتدريس اللغة العربية منذ القرن السادس عشر، وإنشاء المكتبة الشرقية.

لم يتطرّق هولاند إلى أوجه أخرى لهذا «العلاقة»، استعمارية وتبشيرية واستشراقية؛ إذ لم يكن المقام ـ فضلاً عن الحرج الأدبي، بالطبع ـ مناسبَيْن للخوض في هذه الملفات. ولكن كان خيراً أنه افتتح المعرض في هذه السياقات السياسية والنفسية والإعلامية، وربما الثقافية كذلك؛ التي تكتنف علاقة فرنسا، والغرب عموماً، بالإسلام الراهن: بسبب حركات التشدّد والتطرف الإسلامية، قبل «داعش» وبعدها، أوّلاً؛ ثمّ ما ينجم عن هذه الحال من احتقانات وتوترات تفضي إلى العنصرية ضدّ الآخر المسلم على وجه التحديد، وبغضاء الإسلام كديانة وكثقافة استطراداً.

وفي هذا الصدد يتذكر المرء كتاب «الحجّ»، ذلك العمل المتميز والفريد الذي وضعه فرنسيس إدوارد بيترز، أستاذ التاريخ والديانة والدراسات الشرق ـ أوسطية في جامعة نيويورك، وصدر باللغة الإنكليزية، سنة 1994. فالكتاب لا يتوقف عند شرح الفريضة وشعائرها، بقدر ما يُعنى بذلك الجانب الخفيّ من التجربة، أي تلك الرحلات التي قام بها «حجّاج» أوروبيون دخلوا خفية إلى الحرم الشريف، بدافع العلم أو بدافع الفضول أو «التجسس لأكاديمي». بيترز، إلى ذلك، هو مؤلف كتاب آخر فريد، بعنوان «مكّة: تاريخ أدبي للأراضي المقدسة المسلمة»، 1995؛ وفيه يلجأ إلى المادة الأدبية لكي يدرس التطورات الفاصلة لمفهوم المكان المقدس في الإسلام.

وحين يلجأ بيترز إلى المادة الأدبية، التي تظلّ منبعاً نفيساً للتعرّف على تاريخ البشر في كلّ حال، فلأنّ نقصان الأدلة العلمية، الأركيولوجية والأنثروبولوجية، يجعل النصّ الأدبي بمثابة مرجع أبرز وأوثق وأشمل في رصد التاريخ. هذا لا يعني ضرب صفح عن الإسهامات (المتأخرة، ربما) لمؤرّخين من أمثال الطبري وابن خلدون، أو رحّالة من أمثال ابن جبير، أو جغرافيين من أمثال المقدسي؛ أو أخبار ذلك الصنف الخاصّ من الرواة والأدلاء إلى مكة والمدينة، من الشعراء والخطباء، الصحابة والزنادقة، الخلفاء والعصاة، الأولياء الصالحين والكفرة المارقين، الرحالة الأوروبيين العلماء أو الرحالة الأوروبيين الجواسيس (الغيطالي لودوغيغو دي فارثيما، معاصر ليوناردو دافنشي، كان أبكرهم؛ والسير ريشارد برتون، سنة 1853، كان أشهرهم).

ويرى بيترز أنّ الهجرة إلى المدينة استكملت تطوّر فكرة الحَرم والأشهر الحُرُم، وهو هنا يبدو أكثر ارتياحاً إلى المصادر الكلاسيكية التي تصف حياة الرسول والفتوحات وحركات الارتداد إلى الوثنية العتيقة. وهو يتوقف مطوّلاً عند كتاب الأزرقي «أخبار مكة»، باعتباره الوصف التاريخي الأقدم ليس للمدينة وحدها، بل لأية مدينة إسلامية قديمة. ثمّ يقارن بين الأزرقي وابن إسحق على خلفية أعمال أخرى، مثل «أنساب الأشراف» للبلاذري، و «طبقات» ابن سعد، و»المغازي» للواقدي. مثل هذه الأعمال هي التي زوّدتنا بالمادّة الأفضل عن استقرار فكرة الأراضي المقدسة في نهاية العصر الأموي، ورسوخ موقع مكة والمدينة كحرمين شريفين؛ الأمر الذي لم يعرقل صعود القدس ودمشق والقاهرة، كصروح كبرى أثيرة في قلوب المسلمين؛ وهذه، جميعها، لم تعرقل جهود العباسيين لتوطيد موقع العتبات المقدسة الشيعية في العراق بصفة خاصة.

من جانب آخر، لا يفوت بيترز استعراض عدد من الثورات وحركات العصيان التي وقعت في مكة والمدينة أو ضمن جوارهما (وكانت أبرزها حركة القرامطة، وانتــــزاع الحجر الأسود، والمذابح التي وقعت في مكة)، ومغــــزى الحرم في تأجيج النفوس أو أو تهدئتها. وما يفـــعله الرجل في مؤلفات كهذه إنما ينتهي، حتى دون قصد منه، إلى ترجيح كفة مدرسة معاصرة في النقد الثقافي، تعتبر النصّ الأدبي أكثر أمانة من السجلّ التاريخي في تمثيل حياة البشر الفعلية، وتأصيل الوقائع والعادات والأمزجة والميول.

ولعلّنا، في مختلف مدارس تدوين التاريخ العربي، بحاجة ماسة إلى هذه المقاربة التي تنهل من نصوص الأدب لكي تثري مصنفات التاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى