صفحات مميزةعلي جازو

مكوّنات الشعب السوري!


علي جازو

لا يُراد بذكْر الحقائق دائماً فائدتُها الحقيقية. ربّما تصحّ هذه الإشارة عندما يتعلق مضمونها بما يُسمّى “مكوِّنات الشعب السوري” التي ترد في سياق يحوّلها إلى مرتبة المصطلح الغامض وغير القابل للدحض معاً. فسوريا الشعب مزيجٌ مختلط، منسجم ومتنافر، متقارب ومتباعد في آن واحد؛ ريفية مدنية، مسلمة مسيحية، وعربية كردية، وسنية علوية، درزية اسماعيلية .. الخ، مع جليل الاحترام للجميع أعراقاً وأدياناً وطوائف ذكرت أم لم تذكر.

غير أن هذه العودة، غير المحمودة في شيء، إلى الأصول والمكونات، كما لو أن لا شي آخر يمكن للمرء السوري أن يسنده سواها، لا يراد بها من قبل كثرٌ ممن يروجونها، خلق انسجام على أساس التعددية، قدر ما تفضي وقائعها على الأرض، الإعلامية خاصة التي غدت المزودة الوحيدة لأفكار “الجماهير العريضة”، إلى تثبيت المكونات على حال من الجمود والترقب والخشية، فتأتي العناصر المؤلفة للكلّ أسبق وأكثر أولوية على الكلّ الذي يحضن العناصر التي كلّما انغلقتْ، وكثفت من جذورها التكوينية، وسمَتْها بالجمود الذي ليس سوى مسافة تناسب العداء لا الود، والقطيعة لا التناغم. ثمة حاجة ملحّة إلى تحويل التعدد الأصيل إلى قوة منسجمة، في وقت تهدّد الفوضى العامة جميعَ المكوّنات دون استثناء.

غير أن إنكار التعدد بحد ذاته، وعدم التفكير بالرقي به وتحصينه الاجتماعي والثقافي، كان سبباً من جملة أسباب كثيرة أوصلت سوريا إلى ما هي عليه. وفجأة حلت على السوريين مجابهات الطوائف ومقامات الأعراق، فإذا بهم كلٌّ يأخذ مقعده وينتظر. والحقيقة الأخرى الموازية، التي يجري طمسها مع إطالة أمد الأزمة حد تحجير قسري يسبق عاصفة التفتت ويسهّلها، أن لا المكونات ولا سواها من “الجذور النقية” رفعت الفرد السوري إلى حال يختلط فيها الوقار مع المرارة؛ فالشجاعة التي فيها من الرفعة قدر ما يحفزها اليأس، مكّنت المكونات أن تتنفس وتنشط وتعرض وجودها “الحقيقي”.

الذين سقطوا وصرخوا بوحدة الشعب، إنما كانوا في أعماقهم يستنجدون بما هو أعمق وأكثر ضرورة وإلحاحاً من “المكونات”، وإذ نقرأ شعاراً في عامودا الكردية البائسة، كحال كغيرها من بلدات سوريا المنتفضة، رفعه فتيةٌ لا يفقهون عن المكونات شيئاً، “أنا أحبك يا حمص”، فإن مضمون الحب هذا لا يقول إن حمص مسلمة أم مسيحية، أو علوية أم سنية .. الخ. بل هو على العكس يشير فيما يشير إلى حس الألم وضرورة التضامن مع مدينة منكوبة، يتعرض أهلها لأقسى الحملات العسكرية، كما لو أن حمص “محتلة” وجيشنا البطل يجود بـ”روحه” لإنقاذها من الاحتلال الغاشم.

وإذ تحتكر الكنيسة، كمثال سيء، الموقف المسيحي، أو هي تبدو كما لو تجبر على احتكاره، فتدفع المسلم السوري أن ينظر إلى نفسه على أنه مسلم لا غير، إنما تغلب الديني على المدني، والأضيق على الأوسع، فيكون “حسّ المكونات الأصيل” السطحي نصراً على عمق حالة “الهجنة” و”اللانقاء الصرف” التي تسم معظم الشباب السوري اليوم. وليس ببعيد مرمى نصيحة وليد جنبلاط إذ يطلب من (بني معروف) عدم المشاركة في قمع المتظاهرين. وإذ يفورُ على شاشات الإعلام، المناضلة، اسم شيخ نصف أمي ونصف معتوه، إنما تدل هذه الفورة المحرضة، التي كان من مظاهرها أن الشيخ الإسلامي بات يرفع ضباطاً مقامات ورتباً، ويخسئ الآخرين مهانةً قل نظيرها سوى ما كان ولم يزل يرى في الإعلام البعثي الموحَّد، إنما يحمل بذور وعي سقيم ليس من السهل أن يترسخ ويتصارع ليصل إلى فوضى هائلة.

ليست المكونّات الأهلية السورية ببدعة، ولا هي من صنيع أجنبي، غير أن الوقوف عليها، وعليها فقط، سيفضي إلى وقوف السوريين على أطلال يجدر بهم حينها تأليف قصائد مقفاة عنها، بدل سعيهم تكوين دولة حديثة أساسها المواطنة لا الانتماء الديني، اعتماد الحكم المدنيّ لا العودة إلى سجون الأعراق، والحداثة بما هي مُعطَى عقلي، لا “العراقة” بما هي، كما لم نمل بعد عن تداولها، إحدى خرافاتنا.

هكذا سيكون تعريف السوري وتحديد هويته الوطنية على أساس “مكوّنات” فحسب، نوعاً من النفي للكلّ السوري. وحيث أن لكلمة “مكوّنات” معاني التأليف والخلق والإبداع، وإذ لم يهنأ السوريون “الأيتام” يوماً بوالد جيد، أو جرى سحق آبائهم الجيدين، بات عليهم ابتكار آباء جدد، حتى إذا اقتضى ذلك تأليفهم من دموع الحقيقة بدل كلمات جافة تعزّ على أصحابها قدسيّة الحقائق الموضوعية، وصوابُها النظريّ الخاطئ.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى