صبحي حديديصفحات الثقافة

ملاجئ الإبداع ومصانع المعنى/ صبحي حديدي

 

 

 

في أواخر آذار (مارس) 2002، بمبادرة من محمود درويش وفصلية «الكرمل»، قام وفد من «البرلمان العالمي للكتّاب» بزيارة إلى فلسطين، تزامنت مع الحصار الذي خضع له الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي استقبل الضيوف في «المقاطعة». كان الوفد يضمّ اثنين من حملة جائزة نوبل للآداب، النيجيري وولي سوينكا والبرتغالي خوسيه ساراماغو؛ كما ضمّ خوان غويتيسولو (إسبانيا)، برايتن برايتنباخ (جنوب أفريقيا)، فنسنزو كونسولو (إيطاليا)، بي داو (الصين)، رسل بانكس (الولايات المتحدة، رئيس البرلمان)، وكريستيان سالمون (فرنسا، أمين عام البرلمان). والصورة التذكارية، التي باتت شهيرة بعدئذ، تُظهر عرفات مع الوفد، واقفاً على ميمنة ساراماغو، يربت على كتفَي سوينكا الجالس؛ وأما درويش فقد وقف إلى أقصى اليسار، في ما يشبه احتشام المضيف!

وكان البرلمان قد تأسس في مثل هذه الأيام، سنة 1993، مبتدئاً من فكرة إطلاق فضاء للحوار والتبادل، وليس البتة تنظيم الصفوف وحشد الطاقات؛ كما تأثر، في سنة تأسيسه، بضغط الأخطار التي أخذت تتهدد الكتّاب (الفتوى ضد سلمان رشدي، اغتيالات الكتّاب الجزائريين، طعن نجيب محفوظ…). ولقد واجه سلسلة صعوبات إدارية ومالية وتنظيمية منذ انتقال مقرّه من مدينة ستراسبورغ إلى بلدة أوبرفيلييه سنة 1997، في فرنسا دائماً. ورغم وجود شخصيات نافذة في لائحة مؤسسيه، مثل جاك دريدا وبيير بورديو وسلمان رشدي وبرايتنباخ وإدوارد غليسان، فقد عانى البرلمان من العزلة وعزوف وسائل الإعلام عن تغطية نشاطاته، وضعف أعداد منتسبيه، وسوى هذه من المشكلات.

وقد ساجلت شخصياً، ضمن إطار «الكرمل» والتطورات التي أعقبت زيارة وفد البرلمان إلى رام الله، أنّ البرلمان يعاني من التباس كبير حول مفهوم تأسيسه وصيغة عمله تحديداً. ومنذ البدء كانت صفة «البرلمان» إشكالية ومتناقضة ومتخيَّلة في أفضل الأحوال. فما مغزى تفضيل الصيغة هذه على صيغ أخرى مثل «اتحاد» أو «منظمة» أو «رابطة»؟ وبأي معنى أمكن الحديث عن «برلمان»، إذا كانت تقاليد العمل لا تنطوي على انتخاب «برلمانيين» من بين صفوف الكتّاب؛ فضلاً عن غياب أي شكل من أشكال توزّع الكتّاب في «كتَل نيابية»، أو وجود «أغلبية حاكمة» و»أقلية معارضة»؟

وبالفعل، كان محتوماً أن توفّر هذه الإشكالية التكوينية فرصة سانحة لخصوم البرلمان، خاصة بعد الزيارة التاريخية إلى رام الله، والاجتماع مع عرفات، وتصريح ساراماغو الشهير الذي قارن فيه بين رام الله وأوشفتز. ولقد تضامن البرلمان، من قبل، مع الكتّاب الجزائريين والإيرانيين والأفغان والكوسوفار والفيتناميين والكوبيين؛ ومرّت المبادرات تلك دون اعتراض من أحد، بل لقيت الكثير من الإطراء. لكنّ زيارة فلسطين المحتلة، في ذروة الانتفاضة وأوج انفلات العنف الإسرائيلي من كلّ عقال، شكّلت نقلة نوعية في طرائق عمل البرلمان، وفي فلسفة تأسيسه، وربما في مفهومه الوجودي ذاته.

ولهذا لم يتأخر «فيلسوف» فرنسي يهودي مثل ألان فنكلكروت في نحت صفة «فاشية اليسار»، ليس لكي يطلقها على ساراماغو وحده، بل على جميع أعضاء الوفد، بلا استثناء. وكان من العجيب أن يتميّز فنكلكروت غيظاً بسبب الزيارة، هو الذي كان قد سافر إلى كرواتيا كي يتقلد أوسمة رجل يميني، متطرّف متعصّب، مثل فرانجو توجمان. وأمّا «الفيلسوف» الفرنسي اليهودي الثاني، برنار هنري – ليفي، فقد كان تعبيره عن السخط من الزيارة طريفاً بالفعل؛ إذ أنه امتطى مدرّعة إسرائيلية، واقتحم مخيّم جنين!

وهكذا، في سياقات العرقلة والعوائق الشائكة والمربكة أعلنت أمانة البرلمان حلّه بقرار ذاتي، كما تبنّت في الآن ذاته صيغة عمل جديدة أطلقت عليها اسم «الشبكة العالمية لمدن اللجوء». والفكرة، ببساطة، وكما يشير العنوان، هي تأمين عدد من المدن التي تقبل بتأمين ملجأ للكتّاب المهددين في أوطانهم الأصلية؛ خاصة أولئك الذين لا يتمتعون بشهرة عالمية، أو لا تتبنى قضاياهم وسائل الإعلام الكونية الكبرى. توفرت، في البدء، مدن باريس (مركز جورج بومبيدو) وألميريا وبرلين وكاين وغوتنبرغ وستافنغار وستراسبورغ وفالادوليد؛ ثم كرّت السبحة، واللائحة اليوم تضمّ أكثر من 50 مدينة ومركزاً.

والحال أنّ موجات الهجرة الراهنة التي تشهدها مناطق عديدة في العالم، فضلاً عن اشتداد أنساق القمع وكمّ الافواه والتضييق على حريات التعبير وتنويع طرائق الرقابة الصريحة أو المبطنة غير المباشرة؛ تقتضي إحياء فكرة البرلمان الأولى، بما ينطوي على توسيع إطارها العملي، بعد توضيح مفهومها الغائم، وإطلاقها في نطاقات كونية عابرة للقارات.

وإذا كانت زيارة رام الله، قبل 15 سنة، بمثابة بادرة نوعية أولى، وشجاعة حقاً؛ فإنّ انتهاج «سياسة أدب» جديدة تضع الكاتب أمام مسؤولياته الإنسانية والأخلاقية والحقوقية، وتلقي على عاتقه واجب التضامن مع الكتّاب الذين يواجهون الحصار والاحتلال والتنكيل والتشريد، إنما تُخرج العمل الثقافي من عزلة الكلام إلى ساحة الفعل.

تبقى إشارة إلى كتاب سالمون «أن تصبح أقلية: نحو سياسة جديدة للأدب»، الذي يفرد فصلاً خاصاً لزيارة رام الله، ويقول إن أعضاء الوفد ذهبوا لا لكي يَعْبروا فلسطين، بل لكي تَعْبرهم فلسطين. ومن المؤسف أنّ أيّ «برلمان» عالمي للكتّاب لم يعد مؤهلاً اليوم لعبور ساحات أخرى، كانت وتظلّ مصانع للمعنى الذي عليه يقتات أهل الكتابة.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى