صفحات العالم

ملاحظات نقدية بشأن عسكرة الثورة السورية

 

ماجد كيالي *

دخلت الثورة السورية في مجال التسلّح والعسكرة والعنف كردّ فعل على استشراس النظام في قمع الحراكات الشعبية السلمية وكسرها، والتي كانت عمّت في عامها الأول مدن درعا وحمص وحماه وإدلب وبانياس واللاذقية وأحياء في دمشق وضواحيها. ومن ثم إقحام الجيش في الصراع الداخلي، واستخدامه في ترويع السوريين وامتهانهم وقتلهم وتدمير بيوتهم وممتلكاتهم، ما ولّد ظاهرة الانشقاقات، ونشوء تشكيلات «الجيش الحر».

المشكلة أن ردّ الفعل هذا كان من طبيعة الثورة ذاتها، أي أنه جاء عفوياً، ويفتقر إلى التنظيم، وليست له هيكلية واضحة، ولا مرجعية قيادية محدّدة، وأنه تغذّى فقط من غضب السوريين، على النظام القائم، ومن توقهم إلى الحرية والكرامة.

هكذا، فإن النقد الذي يصحّ على المكونات الأخرى لهذه الثورة، ببناها وأشكال عملها وكيفية صنعها للقرارات، يصحّ على مكوّنها العسكري («الجيش الحر»)، ببناه واستراتيجيته واستهدافاته، بالنظر إلى كلفته الباهظة وتأثيراته في عموم السوريين.

والواقع انه لم يعد مفهوماً، ولا مقبولاً، وبعد أكثر من عام على نشوء «الجيش الحر» الاستمرار على هذه الدرجة من التشرذم، وانعدام المرجعية، والافتقار الى القيادة، والمزاجية في العمل. فهذا الجيش ما زال يبدو على شكل جماعات عسكرية متفرقة، ومتفاوتة الأحجام والخبرات والإمكانات والمرجعيات والرؤى، وليس ثمة تنسيق، ولا تعاون، بينها، حتى لو كانت تنتمي الى منطقة واحدة، وتتعرض للاستهدافات ذاتها، كما تبين أخيراً في مناطق في ريف حمص (دير بعلبا) ودمشق (مخيم اليرموك وما حوله).

فوق ذلك، فمشكلة المكوّن العسكري أنه يتألف من قطعات غير متجانسة. فهناك الوحدات العسكرية للمنشقين من جيش النظام، وجماعات نشأت في بعض الأحياء والضواحي في المدن والأرياف بمبادرة من الأهالي، إلى درجة أن بعضها بات يشكّل وحدات عسكرية بذاتها، مع مصادر تمويل وإمداد مستقلة (خذ مثلاً حالة ابو ابراهيم في إعزاز). وإذا كان هذان الرافدان قد ظهرا بشكل طبيعي، فثمة رافدان آخران ظهرا بطريقة قصدية، أي لأغراض سياسية: أولهما التشكيلات العسكرية التي تتبع حركة الإخوان المسلمين، وهو أمر مفهوم من حركة تحاول إثبات ذاتها في معركة إسقاط النظام. وثانيهما، الجماعات العسكرية المعطوفة على الإسلام السياسي الجهادي، العابر للحدود. والفرق بين هذين الرافدين أن الأول يعمل وفق مقاصد الثورة السورية، ويهدف الى تعزيز دور جماعة سياسية سورية، في حين أن الثاني يعمل وفق مقاصد خاصة، ترتبط بالإسلام السياسي الجهادي، وإقامة الدولة الاسلامية العابرة للحدود الوطنية.

والحال، فإن هذا الوضع من التشرذم، وعدم التجانس، وتضارب الأهداف، يشكل معضلة كبيرة للثورة، في فاعليتها العسكرية ضد النظام، وبالنسبة الى صورتها إزاء شعبها والعالم. وبدهي أن هذه المعضلة تتطلب من مختلف الأطراف الرافدة التوافق على هيكلة «الجيش الحر»، وإيجاد قيادة موحدة وكفية له، وتصويب عمله واستهدافاته. وبدهي أن المشكلة أيسر في الرافدين الأوّلين، في حين أنها أصعب في الثانيين، بحكم خضوعهما لأجندات حركات سياسية مستقلة في كل شيء، وضمنه في مواردها البشرية والمادية والتسليحية، وهي حركات تعمل على تعزيز وجودها ورؤاها في الواقع السوري.

ولا شك في أن هذه العملية لا بد من أن تتضمن تعيين الحدود لـ «جبهة النصرة»، وذلك لتوضيح طابع الثورة للسوريين أنفسهم، وللعالم الذي تنشد الثورة دعمه، لعزل النظام وإسقاطه، وبالتأكيد فتصدّر هذه الجبهة يثير المخاوف على الصعيدين الداخلي والخارجي. واضح أن الأمر لا يتوقف عند تنظيم «الجيش الحر»، وإعادة هيكلته، وتصويب عمله. فهو يفترض أيضاً إيجاد مرجعية سياسية له وحصر مجاله في العمل العسكري، لضمان عدم تغول العسكري على السياسي، وبالتالي على المجتمعي في الثورة السورية.

ظاهرة اخرى باتت تعاني منها هذه الثورة، هي ظاهرة العسكرة، وهذه ليست لها علاقة بمقاومة النظام بالسلاح، بقدر ما بتسيّد المكون العسكري على المكون السياسي، وطغيان الطابع العسكري على الطابع الشعبي، وسيادة لغة العنف، او التهديد بالعنف، في التعامل مع البيئات المجتمعية. طبعاً ثمة ظواهر سلبية تنشأ عن ذلك، مثل الخطف، وطلب الخوّات، ونهب الممتلكات، وقد يمكن إحالتها للشبيحة، الذين اخترقوا بعض جماعات «الجيش الحر»، كما الى خارجين عن القانون باتوا يستغلون الفراغ… لكن ثمة حالات ثبتت على بعض منتسبي الجيش الحر، من ضعاف النفوس، الذين استغلوا مكانتهم للقيام بأعمال كهذه، وهي أمور ينبغي وضع حد لها.

يبقى السؤال عن استراتيجية «الجيش الحر» المتعلقة بدخول أحياء المدن المكتظة بالسكان، إذ لا تبدو موفقة، ولا مدروسة، بقدر ما إنها كانت متسرعة، ولم تأت بالنتائج المرجوة منها. وإذا أعدنا ما ذكرناه سابقاً بشأن عدم وجود جيش بمعنى الكلمة، يصبح مفهوماً عدم وجود استراتيجية أو طريقة مدروسة لوضع الخطط وصنع القرارات.

والحاصل أنه ترتبت على سياسة «تحرير» أحياء المدن نتائج خطيرة، ومؤذية، إذ حرمت الثورة من حواضنها الشعبية، وتم تدمير مجتمع الثورة، من حلب إلى حمص ودمشق ودرعا، بعد أن ترك السكان بيوتهم خوفاً من تدميرها على رؤوسهم من جانب النظام، وهو عدد بحجم أربعة ملايين شخص. وفي ذلك ارتاح النظام من البيئات الشعبية المعادية له في هذه المناطق، لا سيما بعدما بات سكانها من دون بيوت وموارد، وفي حالة مأسوية لا تمكّنهم من رفد الثورة. طبعاً ثمة خيارات بديلة ضمنها التركيز على مهاجمة الأهداف العسكرية للنظام وإحكام السيطرة على الأرياف، لإضعاف النظام في حلقاته الضعيفة.

عموماً، هذا نقاش يتعامل مع وجود المكون العسكري، من دون صلة بالجدل المتعلق بالمفاضلة بين السلمية والعسكرة. ومع التقدير لكل التضحيات، ولدور المكون العسكري، في كسر هيبة النظام واستنزافه. فالعسكرة ينجم عنها، أيضاً، ارتهان لمصادر التمويل والتسليح، وضمور في البعد الشعبي للثورة، وفوق ذلك فإنها تخلق تظلمات كثيرة في المجتمع، وتعزز المخاوف على المستقبل، لا سيما على مستقبل الإجماعات الوطنية، وكلها أمور لا ينبغي تركها للصدف ولا للأقدار.

* كاتب فلسطيني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى