صفحات سوريةطلال المَيْهَني

ملامح المشهد السوري في الوقت المُسْتَقْطَع

 

طلال المَيْهَني

لم يكن هناك من كان يتخيّل أن المشهد السوري سيصل، خلال 22 شهراً من انطلاق الحراك الشعبي ضد نظامٍ استبداديٍ، إلى وضعٍ بالغ التعقيد ترافق مع سقوط عشرات آلاف الضحايا، وملايين النازِحِين والمُشَرَّدين واللاجئين، ودَمارٍ واسعٍ في الأحياء السكَنِية والبُنَى التحْتِية، وشلل مؤسسات الدولة، وتوقف عجلة الاقتصاد المُتَهَالِكَة أصلاً. وقد قيل الكثير في أسباب هذا التدهور التي يأتي على رأسها التَعَنُّت المَرَضِي للنظام المستبد، وتَمَسُّكه بالسلطة على قاعدة صِراعٍ وجوديٍ مع الشارع المنتفض، إضافةً إلى حالة العطالة في المعارضة السورية، و’المجتمع السوري’ بشكلٍ عام.

ومؤخراً، وبعد شهورٍ من عَسْكرة الانتفاضة، بدأتْ بعض الملامح العامة بالتشكُّل ضمن المشهد المُدَمّى. فالنظام يتخلّى تدريجياً عن شمال غرب سوريا، خاصةً المناطق الريفية التي خرجتْ عن سيطرته، مع انتشارٍ لكتائب مسلحةٍ يغْلِب عليها الطابع الإسلاموي وتحت مسمياتٍ مختلفة. تجدُرُ الإشارة إلى انفتاحٍ لكامِلِ الحدود مع تركيا مما يؤمِّن إمْداداً دائماً بالسلاح، ولكنه يعني أيضاً إمكانية دخول عناصر غير سوريةٍ للمشاركة في الصراع القائم (كما في بعض المجموعات المتطرفة التي تشكّلَتْ). وقبل ذلك كان هناك انسحابٌ مشابهٌ للنظام من شمال شرق سوريا، حيث تلا ذلك انتشارٌ لكتائب مسلّحة مَحَلّية. وفيما يَخُصُّ دير الزور فوجودها في المنطقة الشرقية يضعها في موقعٍ معزولٍ نسبياً دون وجود خطوط إمدادٍ عبر حدودها مع العراق. أما بالنسبة لدرعا، وريفها، وريف دمشق، والمناطق الوسطى فهي في حالة توترٍ دائم. ويُلْحَظُ، في مقابل ما سبق، هدوءٌ نِسْبِيٌّ في السويداء والساحل، مما سمح لعشرات آلاف النازحين بالتوجه إلى هناك كمَلاذٍ من الاشتباكات التي تكتسح المناطق الساخنة. لكن الأوضاع قد تكون مُرَشّحَةً للانفجار في هذه المناطق بسبب تراكم الاحتقان الاجتماعي وسوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية العامة.

لا يترافق انسحاب السلطة بانتشار سلطةٍ بديلةٍ قادرةٍ على بسط نفوذها على كل تلك المساحات الواسعة. ولهذا نرى أن معظم البلدات والقرى قد عَمَدَتْ إلى تشكيل ‘مجالس محلية’ لتسيير حياة الناس اليومية بالتعاون مع الكتائب الكثيرة التي لا تتواصل أو تُنَسِّق فيما بينها وفق صِيَغٍ هَرَمِيَّةٍ أو تراتُبِيّةٍ عسكرية. كما يؤدي انسحاب السلطة إلى تراجعٍ في حضور ‘الدولة’ التي اعتاد النظام على مُصادَرَتِها والتماهي معها طيلة عقود. وينعكس ذلك سلباً على السكان نتيجةً لشبه الانعدام في الخدمات الأساسية من كهرباء وماء وخبز ومحروقات إلخ، مما يؤثر، عاجلاً أم آجلاً، على مواقفهم كحاضنٍ اجتماعي لأيٍّ من طَرَفَيّ الصراع المسلح. وتزداد المعاناة في التجمعات السكانية الكبيرة كمدينة حلب بسبب ضَعْف القِيَم الأهلِيّة (مقارنةً مع القرى والبلدات الأصغر)، وعدم تعويضها بقِيَمٍ مَدَنِيّةٍ (بسبب الاستبداد الذي مَنَعَ التجمُّعَ الحُرَّ على مدى عقود).

ويبدو من الواضح أن النظام لا يعمل وفق مفهوم الدولة الحديثة، بل وفق عقليةٍ إقطاعيةٍ تعيش في العصور الوسطى: حيث يعْمد إلى التَحَصُّن في مدينة دمشق محاولاً جعلها ‘منطقة خضراء’، فيما سيقتصر وجوده في ‘رُقَعٍ خضراء’ مُوَزّعة في أنحاء سوريا، خاصةً في المدن أو القواعد العسكرية الكبرى، إضافةً إلى احتفاظه بالتفوق الجوي، وإعطائه صلاحياتٍ واسعةً للّجان الشعبية في المناطق التي ينسحب منها.

وهكذا فقد تشكَّلَتْ، على الأرض السورية، خريطةٌ تتوزّع وفقها القُوى العُنْفِية، مع خطوط تماسٍ متغيرةٍ باستمرار داخل وبين هذه المناطق. ويعكس هذا التوزع الذروة التي وَصَلَتْها كلُّ الأطراف العنفية لتخلق مشهداً استعصائياً من شبه المؤكد أنه لن ينتهي، في ضوء المُعْطَيَاتِ السابقة والحالية، بحَسْمٍ عسكري. فمثل هذا الحَسْم غير وارِدٍ مهما تم تضخيم الحديث عنه على مستوى إعلام النظام أو إعلام المعارضة المُسَلّحة.

لكن في المقابل فمن الصعب التكَهُّن بدقةٍ بما ستؤول إليه مَساراتُ الأمور. فقد يكون هذا الوضع الاستعصائي مُرَشَّحاً للاستمرار لفترةٍ طويلةٍ طالما توفّر السلاح، والمقاتلون، والرغبة والدافع إلى القتال. وسَيُعَمِّق هذا السيناريو المُزْمِن من معاناة المدنيين، وأعداد النازحين والضحايا والجرحى والمُشَرّدين، وسيستمر في استنزاف وتدمير ما تبقى من البلاد دون نتائج قابلةٍ للترجمة على مستوى الحَسْم. ولكن السيناريو الأسود يكْمُن في الانحدار نحو دولةٍ فاشلةٍ، على صيغة صومالٍ في شرق المتوسط، وهو سيناريو اتَّفَقَ على الاستهانة به، وبكل أَسَفٍ، النظام وكثيرٌ من المعارضة.

ولكن المشهد الاستعصائي الحالي قد يحمل، وبشكلٍ غير متوقعٍ، شيئاً من الأمل عبر سيناريو ثالث يتمحور حول مفاوضاتٍ تُفْضي إلى نقل حقيقيٍ وكاملٍ للسلطة مع تحقيق انفراجٍ في الأزمة التي تطحن البلاد، وهو سيناريو توجد عليه بعض الدلائل التي تدْعَمُه سواءً من خلال التصريحات القادمة من اللاعبين الدوليين الأساسيين، أو من خلال تسريباتٍ عن توافقٍ دوليٍ قد يُوَفِّرُ ‘ظروف الحل’. إذ يوحي تَوَزُّعُ القوى العنفية بتَشَكُّلِ أوراقٍ هامةٍ للمساومة أثناء المفاوضات القادمة، خاصةً وأن القوى الكبرى تتفق على ضرورة لَجْم الجماعات المتطرفة التي بدأت بالانتشار في بعض المناطق، مما يُؤَسِّسُ لبدايةٍ جِدِّيَّةٍ لتوافقٍ دولي. حيث ستعْمَدُ القوى الإقليمية والدولية، خلال تلك المفاوضات، إلى تحويل بعض الأطراف المُرْتَهِنة لها أو المُتَمَاهية معها إلى أوراقٍ للحَرْق في مذبحة المساومات السياسية (عن طريق رفع الوصاية الذي سيُمَارَس من قِبَل الروس والأمريكان)، أو سيتم استخدام البعض الآخر لتمرير أو تمثيل مصالح القوى التي تحتضنها.

لكن الأطراف السورية التي استطاعَتِ الصمود وفق ‘رؤيةٍ سِيَادِيّةٍ’، ولم ترضى أن تكون ورقةً يتم التلاعب بها، ولم ترتهن للخارج، يمكن لها، أكثر من غيرها، أن تلعب دوراً إيجابياً في هذه المفاوضات، بدفاعها ومطالبتها بمصالح السوريين وبما يُحَقِّق أهداف التغيير الجذري والكامل على مستوى النظام السياسي الذي يحكم البلاد. يوجد الكثير من هذه الأطراف ذات الحس السّيادِي العالي، خاصةً في الداخل السوري. ولكن معظم هذه الأطراف، التي يغلب عليها العنصر الشبابي، لم تنلْ حَظّها من الانتظام في بُنىً سياسيةٍ وعَلَنِيّةٍ واضحة الملامح، وهذه نقطة ضعفٍ لا بد من تجاوزها خلال المرحلة القادمة.

وحتى الوصول إلى تلك المرحلة، التي يمكن أن نَلْمِسَها إنْ صَحَّتِ التسريبات- في الأشهر القليلة الأولى من عام 2013، يبقى المشهد الاستعصائي في سوريا على ما هو عليه، ولا يُستبعد أن نتابع تَصْعيداً عُنْفِيّاً خلال الأسابيع القادمة، يكون فيه الدمار وسفك الدم هو العنوان الأبرز. وهكذا تمضي لحظاتُ الترقُّب السورية بانتظارٍ قَلِقٍ، تحت القصف والرصاص، لانفراجٍ قد يُحَوِّلُ الأمل إلى حقيقة، في وقتٍ يحتفل فيه العَالَم لسنة جديدة.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى