صفحات الثقافةمازن أكثم سليمان

ملامح شعر الثورة والحرب في سورية وآفاقه الفنّيّة المُستقبليّة/ د. مازن أكثم سليمان

 

 

 

“ينبغي أن أفترِضَ أنَّ خطابي هذا لا يُؤمِّنُ لي طولَ البقاء. وأنَّني إذ أتكلَّمُ لا أتحاشى موتي، وإنَّما أؤسِّسُهُ

                                                           ميشيل فوكو

(1)

الشِّعرُ انبثاقُ الوردةِ ما بعدَ الأخيرة دائماً، وخفقانُ الضّوءِ المارقِ العنيد في مَدارات المَجهول، وانزياحُ الأحياز المُستقرّة إلى كُلِّ غيابٍ مُتغيِّرٍ ومُتحوِّلٍ ومُدهش!

هوَ الانفتاحُ التَّخارُجيُّ الغائرُ في عُمقِ أنسجةِ الوجود، والنِّزاعُ الفنِّيُّ _ الجَماليُّ الذي لا يَهترئ..

أنفاسُهُ علّةُ المُستحيل، ونزيفُهُ الطائشُ المُتسارِعُ وعدٌ كيانيٌّ بالمُجاوَزةِ والتَّباعُدِ والاختلاف..

لا شيءَ يُغري بفتحِ الأبوابِ المُوصَدةِ كالشِّعر، وحينما تتسلَّلُ الرّيحُ إلى الدّاخل: تقفزُ الأجنحةُ من أقربِ نافذةٍ على الفور، ليبقى المَجازُ الحُرُّ طازجاً إلى الأبد. .!!.

( 2 )

تُمثِّلُ مُعاصَرةُ الشعراء للتحولات التاريخية الكُبرى، وفي مُقدِّمتها الثورات والحروب، فرصةً نادرةً كي يُقدِّموا شهاداتهم الشعرية على عصرهم، فالشعرُ في أحدِ مفاهيمه الحداثيّة هوَ تعبيرٌ عن روح كُلِّ عصرٍ جديدٍ بلغة مُغايرة وهُوِيّة فريدة وجَمال مُختلف. لذلكَ فإنَّهُ بقدر ما تبدو مُعاصَرةُ الشعراء للثورة السورية وتحوُّلاتها المفصلية الكبيرة حدَثاً شعرياً عظيماً على نحوٍ خاصّ، تُشكِّلُ هذه المُعاصَرة مأزقاً جمالياً وفخّاً فنّياً بالغَ الوعورة قد يُوقِعُ تخارُجَهُم الشعري فريسةَ المُباشَرة أو الاستسهال، ولا سيما في ضوء الأغواء العارم والطغيان الشديد الذي تُمارسُهُ اللحظةُ الرّاهنةُ بوقائعها الضّاغطة على النّصوص. لهذا يحتاجُ الشاعرُ السوري الحقيقي إلى جملة من الشروط المعرفيّة والفنية والتجريبية كي يُنجِزَ حضورَهُ الجَماليَّ شعرياً، ومن ذلكَ أن يمتلئَ امتلاءً حيوياً بروح المرحلة العابرة من ناحية أولى، وبالزمن الكُلّي من ناحية ثانية، وأن يتزوَّدَ تزوُّداً جمّاً بمعرفةٍ نظرية مُعمَّقة بالبعد (التأريخي _ الفنّي) للشعر السوري والعالمي وتيّاراتهما المختلفة في العقود الأخيرة على أقلّ تقدير، ليكون كل ذلك أساساً صلباً للانطلاق نحوَ مُجاوَزةٍ يُبذَلُ من أجلها كُلُّ غالٍ ونفيس، وهيَ الأمور التي تضَعُ الشعراءَ (الحقيقيّين) حتماً في مُواجهةٍ صريحة مع وصف محمد الماغوط الخطير للشعر في مطلع إحدى قصائده بـِ “الجيفة الخالدة”، ذلكَ أنَّهُم وحدهم من يستطيعونَ أن ينفخوا الروحَ في هذه الجيفة، وأن يبعثوها صافيةً حُرّة، وأن يستنطِقوا جمالياً كُلَّ جديدٍ وغائبٍ ومجهول.

( 3 )

إنَّ نظرة مُتفحِّصة للشعر السوري الحديث تُظهِرُ بجلاء مجموعة من السمات الجوهرية التي لا يُمكِنُ القفز فوقها أو تجاهُلَها عند أي تأسيس جادّ لمُجاوَزة شعرية أصيلة. فهذا الشعر على غناه وتنوّعه، وتعدُّد مرجعياته ومشاربه، وصعوبة الإحاطة به وتصنيفه تصنيفاً حاسماً نهائياً، عَرَفَ في تاريخه أكثر من مُنعرَج واضح المعالم، على أن لا تُفهَمَ هذه المُنعرجات بأنّها انقطاعات حدّيّة شاملة، بقدر ماهيَ إضافات نوعيّة تراكميّة بثَّتِ الجديدَ في المشهد الشعري السوري، وإن كانت قد التصقَتْ أكثر بتجارب شعراء بعينهم من حيث المبدأ.

لطالَما وُصِفَ الشعر السوري ولا سيما في ستينات القرن المنصرم بأنّه شعرٌ مؤدلَج، أو بأنّه متأثّر بالإيديولوجيّات التي كانت سائدة في الحياة السياسيّة على أقلّ تقدير، وهذا أمرٌ لا يخلو من الصحة إلى حد ما إذا تعاطينا مع قصائد تلك الحقبة بوصفها تعكس قدراً غير قليل من مُسَبَّقات الاتجاه السياسيّ المهيمن على شعرائها، على أن نشير إلى ظهور بعض التجارب الجادّة لشعراء حاولوا في تلك الفترة أن يتخفّفوا من حجم حضور سلطة الإيديولوجيا، وسَعوا إلى بلوغ طموح الحداثة الشعريّة الشهير باستدعاء الغائب وكشف المجهول!

غير أنّ جيل السبعينات الشعريّ أراد أن ينزاح عن مفهوم الرؤيا الشموليّة ذات الأبعاد الخطابيّة والإيديولوجيّة، باقتراح قصيدة يكون الحضور فيها للجانب اليوميّ، وتحتفي بالتقاط حركيّة الحياة الاعتياديّة، وكشف تفاصيلها الإنسانيّة البسيطة، وصيرورتها المتحوِّلة العابرة، في حين أنّ معظم شعراء جيل الثمانينات ظلّوا يدورون في فلك محاكاة تجارب الآباء بصورة عامّة، من دون أن يمنع ذلك من بدء ظهور تجارب مغايرة إلى حدٍّ ما، لم تلبث أن نضجت بوضوح أكبر في حقبة التسعينات عندما سعى بعض الشعراء إلى الانتقال من مشروع القصيدة الحداثيّة إلى مشروع الكتابة ما بعد الحداثيّة؛ أي بالتحوُّل ممّا يُعرَفُ بتشظّي النصّ إلى ما يُعرَف بالنصّ المتشظّي، مع ضرورة الإشارة إلى وجود أكثر من تجربة حاولتْ أن تكون عابرةً للمراحل، وأن تجدّد أدواتها وخبراتها مع ظهور كلّ تيّار شعري جديد.

في الانتقال إلى العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، شهدت المساحة الشعريّة السوريّة تعدّديّةً عارمة في الكتابة الشعريّة ومرجعياتها بلغتْ حدود الفوضى التي يصعب معها الإحاطة بالتجارب منهجيّاً أو حصرها في مسارات حدّية واضحة، على الرغم من استمرار تأثير التيّارات الشعريّة الثلاثة الرئيسة؛ أي الشعر الرؤيويّ والشعر اليوميّ والشعر ما بعد الحداثيّ، مع ميلٍ نسبيّ إلى القول بعدم ظهور مشاريع شعريّة حقّقتْ خرقاً بيِّناً للسائد، أو أنجزتْ قطيعةً ما، فضلاً عن صعوبة الحديث عن وجود جهاز مفاهيمي نظريّ ومعرفيّ مغاير يقف خلف قصائد تلك الفترة.
إنّ أي تدقيق مُعمَّق في حركيّة المشهد الشعريّ السوريّ خلال نصف قرن، يُظهِر أن المؤسّسات الرسميّة وصحافتها عملتْ على استقطاب تجارب معظم الشعراء على اختلاف مشاربهم وتيّاراتهم السياسيّة والشعريّة، وذلك عبر تطبيق براغماتيّ مدروس لسياسة الاحتواء المتبادَل الذي يهدف إلى تجاوز الاختلافات الإيديولوجيّة لصالح إظهار هذه المؤسّسات بالمظهر الوطنيّ الجامع، في مقابل تقديم فرصة الحضور الذي يحتاجه أولئك الشعراء كي تترسخ تجاربهم وأسماؤهم، من دون أن ينفي ذلك سياسة الإقصاء التي طالتْ مرحليّاً أو كلّيّاً بعض التجارب، أو نأي بعض الشعراء بأنفسهم عن تلك المنابر، في الوقت الذي كانتْ فيه الصحافة العربيّة بوجهٍ عام، والصحافة اللبنانيّة بوجهٍ خاصّ متنفّساً لهم، ولجميع الشعراء السوريّين على اختلاف مشاربهم.

بعد قيام الثورة السوريّة ظهر استقطاب حادّ جدّاً قَسّم الشعراء بغضّ النظر عن مدارسهم أو تيّاراتهم، شعراء مؤيدين للسلطة القائمة، أو رافضين للثورة على أقلّ تقدير، وشعراء ثوريّين، فظلّ القسم الأوّل منهم على صلته العميقة بالمؤسّسات الرسميّة وصحافتها، في حين أنّ القسم الثاني قاطع تلك المؤسّسات، وسعى إلى إيجاد منابره الخاصّة في إطار تكاثُر غير مسبوق للجرائد والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة الثوريّة، فضلاً عن محاولة خلق اتّحادات أو روابط للكُتّاب والشعراء تكون بديلة من الروابط الرسميّة السابقة.

( 4 )

من السمات الأساسية التي عُرِفَ بها الشعر الحديث هيَ تحرُّرهُ من التصنيف التقليدي القديم للأغراض الشعرية الموضوعية، وهذا ما أنجزتهُ انزياحات فنية _ جمالية عبر تاريخ طويل من تطوُّر التيارات الشعرية العالمية بوجهٍ عام، والتيارات الشعرية العربية بوجهٍ خاصّ. وفي هذا الإطار تبدو أيّة مُقارَبة تحقيبيّة لشعر الثورة والحرب في سورية مُطالَبة جوهريّاً بالحذر والتحذير في آنٍ معاً من التعامُل مع موضوع هذا الشعر على أنهُ غرضٌ شعري (سِحري)، يُدخِلُ القصيدةَ تلقائياً، وبمجرّد أن تكون مكتوبة تحتَ عنوان الثورة والحرب إلى جنّة الشعرية والجَمال والمُجاوَزة.

ويبدو أنَّ موضوعة الثورة والحرب قد باتَتْ عند جيل كامل من الشعراء تُشبهُ الموضة الشعرية، وهذا أمرٌ طبيعي لا اعتراضَ عليه من حيث المبدأ، غير أن المسألة أكثر تعقيداً مما نظنّ، ذلكَ أن تحوُّل هذه الموضوعة عند كثير من الشعراء إلى ما يُشبه (القناع الشعري) قد غيَّبَ عدداً من القضايا المسكوت عنها، أو ربّما غير المُفكَّر فيها على أقلّ تقدير!

ليس من المبالغة القول إنّ عدداً من شعراء لحظتنا الراهنة قد وجدوا في موضوع الحرب طوق نجاة يرأبون به _كما يعتقدون_ صُدوعَ ضعف ذخيرتهم المعرفيّة والنظريّة، ويعوّضون عن غياب مشاريعهم ذات الخصوصيّة والتفرّد، ولا سيما أن بعضاً من هؤلاء لم يكونوا أصلاً قد خرجوا قبل الثورة من عباءات الآباء الشعريّين. يضاف إلى حضور هذا الجانب، أن بعض الشعراء أضحوا يهربون من اتخاذ موقف سياسيّ واضح، بإغراق قصائدهم بمفردات الحرب اليوميّة، متفنّنين في توجيه أبلغ اللعنات نحوَ قسوتها الأليمة، بما لا يضيفُ إلى حدٍّ كبير فرقاً نوعيّاً _ فنّياً على أيّ كلام اعتياديّ مُتداوَل قد يذمّ قبح الحرب. لعلّ أمثال هؤلاء يُسوّغون غياب الموقف السياسيّ بالحديث عن شموليّة الموقف الإنسانيّ العام، وتجنُّبهم مقتلَ أنْ تسقط قصائدهم في المُباشَرة السياسية، إلّا أن أيّة معرفة بسيطة بالاختلاف الفنّي بين الشعر السياسيّ وسياسة الشعر تعرِّي دُفوعَهم المُتهافتة، وتكشف انتقالهم من تحاشي الوقوع في مُباشَرةٍ ما، كما يدّعون، إلى الوقوع في نمطٍ آخَر من المُباشَرة المُحاصَرة بضغط الراهن، حيث يتحوَّل معجمهم الحربيّ إلى عدّة قصديّة مُسَبَّقة، ومجموعة مُنتقاة من الآليّات التقنيّة التكراريّة التي يُحضِر بها هؤلاء الشعراء الحربَ وصفيّاً من الخارج، مُتمركزين عليها في مُطابقةٍ تخلو من بلوغ أي كشفٍ يوميّ أو رؤيويّ مغاير، وفي ظلّ غيابٍ فادح للوجود الجماليّ بما هو بؤرة الدهشة والتباعد والاختلاف كما يُفترَض أن يكون.

إن مفهوم الالتزام الشعريّ لا يعني بتاتاً تقديم خطاب مُباشَر في القصيدة، فهذا وعيٌ تبسيطيّ ينفي حتماً شعريّتها، وقد قيل قديماً إن أعذب الشعر أكذبه، لذلك لابد من الإشارة إلى أن نسبة لا يستهان بها مما يكتب الآن تحت عنوان شعر الثورة والحرب يغلب عليه من حيث المبدأ الجانب التسجيلي الانطباعي، الذي يبقى إلى حد بعيد حبيس درجة الصفر في الكتابة، أو أسير خطاب التعبئة الخطابية القاصر فنياً، فضلاً عن عجز نسبة لا بأس بها من القصائد عن تحقيق الانتقال المُجدي من التجربة الذاتية الخاصة إلى التجربة الإنسانية العامة. صحيحٌ أن الثورات والحروب تجارب عالميّة مشتركة، لكن ما الذي تضيفه قصيدة لا تخرج عن محاكاة السطح الخارجيّ للحدث، دونما أن تتمكّن من تحويل مادة الحرب الأوليّة بوصفها إقامة في الحضور إلى فائضِ معنى بوصفه اختراقاً للغياب! وهو الأمر الذي يتحقق بالتضافر الوجودي بين التجربة والتجريب عبر مكابدة عميقة بؤرتها جدلية الذات والموضوع ائتلافاً أو تنافراً، وهدفها بلوغ الخصوصية الجمالية نصياً، إذ من المُفترَض نظرياً وفعلياً أن يتولَّدَ الحيزُ الفنّي وأن ينموَ داخل النص، لا أن يكون سجيناً لما هو مُسَبَّق في العالم الوقائعي، ذلك أن القاعدة النقدية الشهيرة تقول إنه ليس المُهم موضوع القصيدة، إنما الكيفية الوجودية التخييلية التي ينبسط بها هذا الموضوع في عالم القصيدة التَّخارُجيّ، والذي ينبغي له أن يفتتح أفقاً جديداً يدعوه غادامير الزيادة في الوجود، ويدعوه ريكور شيء النصّ غير المحدود. هذا العالَم الشعريّ الجديد هو ما يسمح لمفهوم الالتزام الفنّيّ في الشعر ببلوغ غاياته المثلى عبر الوفاء للموقف الفكريّ والسياسيّ من ناحية، وللمستويات الوجوديّة – الجماليّة من ناحية ثانية، لتصبح القصيدة الراهنة على هذا النحو قصيدةً مُعاصِرةً للثورة والحرب بقدر ما هي قصيدة تحتفي بأصالتها تبعاً للجدل الخلّاق بين الزمن الأفقيّ الوقائعيّ وزمن الشعر العموديّ، وليكشف هذا التوتّر الحُرّ، وتلك المُغامرة الجَمّة، الانبثاقَ الجديدَ لعالم الاختلاف والغياب والمُجاوَزة الدائمة نحوَ المجهول.

( 5 )

يتّسِمُ شعرُ الثورة والحرب في سورية حتى هذه اللّحظة، بارتباطه الفنّي الواضح بعدة تيارات شعرية كانت سائدة منذ ستينات القرن المُنصرِم. وهذا لا يعني أنَّني أغلِقُ الباب نهائيّاً أمامَ إمكانية الكلام عن حدوث قفزة ما أو تحوُّل مُمكِن حتى من داخل هذه التيارات المستمرة في هذه الحقبة، غيرَ أنَّ الرُّؤية النقدية المسؤولة ينبغي أن تتصفَ بالحذر المعرفي الشديد وعدم التسرُّع والانفعال، وأن تنبثق أساساً من المُنجَز القائم لا المُتوقَّع، والذي يبدو أنَّ معظمه مازال يدور نسبياً في أفلاك سابقة حداثية وما بعد حداثية، وهو الأمر الذي لا يتناقض مع فكرة الاحتفاظ بقدر غير قليل من التفاؤل بأن يُنتِجَ هذا (الحِراك _ المَخاض) الفنِّيّ _ الجَماليّ الراهن إضافات نوعيّة ربّما نجِدُ الآنَ شذرات من ملامحها الأوّلية في بعض التجارِب المُبشِّرَة.

احتفظَ تيار الشعر اليومي بمكانةٍ مُفضَّلة عند عدد كبير من شعراء الثورة والحرب في سورية، وبدأ التحدّي الوجودي _ الجَمالي عند بعض هؤلاء الشعراء انطلاقاً من سعيهم إلى تحاشي السقوط في فخّ مُطابَقة مُسَبَّقات الحضور اليومي للحدث الراهن، والانتقال إلى مدارات الغائب والمسكوت عنه وفقَ جملة جدليات فنية ينهَضُ عالم القصيدة بفعلِها _كما هوَ مُفترَض_ على حامل مجازي تخييلي، مُنزاحاً من المستوى الشخصي الخاصّ إلى مستويات الكشوف الشعورية العامة، ومُشيِّداً عبر هذه الكشوف بوصفها قيَماً إنسانية مُشترَكة مُناخات شعرية جديدة تحاولُ أن تقرعَ في عدد من النصوص اللافتة أبوابَ الجَمال وأصالةَ الوجود.

وفي منحىً مُوازٍ، احتفظَ تيار الشعر الرؤيوي بموقع محوري في الشعر السوري الراهن، فلم تتخلَّ نصوصٌ كثيرة عن الاحتفاء بتلكَ الرُّؤى الساعية إلى تغيير نظام الأشياء وعلاقاتها، مُحاوِلةً باستمرار أن تُفتِّت منطق العالم الوقائعي وروابطه الجزئية المستقرة، ثمَّ أن تُعيدَ تركيبَهُ في عالم شعري جديد مفتوح على رؤىً كُلية مُستقبلية تكْتنِهُ دلالات المجهول، وهذا ما جسَّدتهُ تجارب عديدة سعَتْ في هذا الإطار إلى التملُّص قدر المُستطاع من مُطابَقة المواقف السياسية المُسَبَّقة بغيةَ الالتحاق فنّياً بالرؤى الكشفية المفتوحة. وقد انقسم الشعراء السوريون في هذه الحقبة، شعراء كانت الرُّؤى السوداء بوصفها مُؤسَّسة لديهم على مَظالِم العُنف المُضاد للثورة وويلات الحرب الأليمة، قيماً مُهيمنة على نصوصهم، وشعراء كانت الرُّؤى التبشيرية المُتفائلة بوصفها مُؤسَّسة لديهم على حوامل انفعالية رومنسية وعلى حوامل تصوّرية معرفية تتعلّق بمقولات حركية التاريخ وحتمية التغيير، قيماً مُهيمنة على نصوصهم. مع ضرورة الإشارة إلى أنَّ كلا الطرفين وعلى اختلاف مشاربهم ومواقفهم السياسية، قد التقيا فيما أدعوه (رُؤى الاغتراب) القائمة على الإحساس العميق بالعجز والتّهميش أمام طغيان الحدث من ناحية أولى، وعلى بثّ دلالات رفض الأوضاع الدّموية المرعبة من ناحية ثانية، وذلكَ بتمويه الرُّؤى في أحيان كثيرة عبر تخليق مُناخات فنتازية غرائبية تُوسِّعُ الهُوّةَ الوجودية _ المَجازية بين العالم الوقائعي السابق، والعالم الشعري الجديد.

إنَّ عدداً من شعراء الثورة والحرب في سورية حاولوا في بعض قصائدهم أن ينتقلوا من تجربة تشظي النّص الحداثي، إلى تجربة النّص المُتشظّي ما بعدَ الحداثي، وذلك بوصف هذا الانتقال تحدّياً وجودياً _ جَمالياً قائماً على رغبة حثيثة بتفكيك وَحدة العالم الشعري، ونسف أنظمته المُتماسكة، وتحرير مفرداته من دلالاتها المُهترئة القديمة. لكنَّ المُلاحظة الجوهرية التي ينبغي وضعُها في الحسبان في هذا السياق تكمنُ في أنَّ الانتقال إلى النّص المُتشظّي يرتبطُ عضوياً بتشظّي ذات الشاعر نفسه، وبتفتيت وَحدة هذه الذات المركزية المُستقرّة، وتشتيت عوالمها المُستمرّ، ولا سيما في ضوء تمزُّق سؤال الهُوِيّة الفردية والجمعية في هذه المرحلة بفعل التَّشظّي الوطني العام الذي ولَّدَتْهُ الحرب السورية. وفي جميع الأحوال لا يُمكِنُ فصلُ اللغة عن الوجود كما أعتقد، ذلكَ أنَّ التّشظّي ليسَ حركية اللغة المُجرَّدة المُتعالية الذي يتم إقحامُهُ تقنياً أو آلياً كما فهِمَ خطأً شعراء كثيرونَ في حقبة ما بعدَ الحداثة، بقدر ما هوَ حركيّة الموجود البشري التي يُبعثرُها وجودُهُ الجديد في عالم القصيدة اللغوي.

( 6 )

أحاولُ في السطور الآتية أن أُسجِّلَ الملامحَ الفنّية الأساسية لشعر الثورة والحرب في المرحلة الحالية في سورية بناءً على رؤية نقدية بانورامية عامّة:

  • احتشدَتْ مفردات المعجم الثوري _ الحربي الجديدة بقوة في النصوص الشعرية الراهنة، وشدَّتْ هذه النصوص برباط وثيق إلى العالم الوقائعيّ المُسَبَّق، مع الأخذ بعين الاعتبار نسبية احتفاظ كُلّ شاعر أو كُلّ نصّ بقدر ما من الخصوصية الفنّية في توظيف تلك المفردات، واختلاف قدراتها الدلالية على بثِّ طاقاتٍ مجازية إيحائية خلّاقة، فضلاً عن ضرورة الإشارة إلى نأي بعض التجارب عن الاتكاء على مفردات هذا المعجم، بما لا ينفي على نحوٍ نهائي صلتها غير المُباشَرة بمُناخات الثورة والحرب.
  • حضَرَ الخطاب السياسي الجديد لعالم الثورة والحرب بتفاصيله ومَخاضاته الهائلة حضوراً واسعاً في النصوص الشعرية الراهنة عبرَ مُصطلحاتٍ ومَجازاتٍ وشِعاراتٍ وتعابيرَ وبِنىً سرديّةٍ ومُفارَقاتٍ تهكُّميّة وتراجيديّة وأسماءِ شخصياتٍ حقيقيّة وتواريخَ معينة لها دلالاتها وأحداثٍ مُختلفة، وهيَ المسألةُ التي تحتاجُ إلى تفحُّصٍ نقديّ مُتمعِّن للتمييز بينَ ما يدورُ دوراناً باهتاً حول المُطابَقات المُتمركزة على المُسَبَّقات السياسية السائدة في العالم الوقائعيّ (الثوريّ والحربيّ)، وما يفتحُ عالماً شعرياً مُختلفاً عبر توظيف عناصر الخطاب السياسي الجديد توظيفاً فنّياً مُجاوِزاً.
  • تنوَّعَتْ الأشكال الكتابية ما بين الومضة الشعرية، والنص/ المقطع الواحد، والنّص مُتعدِّد المقاطع، والشكل التقليدي الطولي لقصيدتي التفعيلة والنثر، والكتلة الطباعية الأفقية الواحدة. واستدعى كُلّ شكل جملةً من الأدوات الفنّية والآليات التقنية التي تختلفُ خصوصياتُها أيضاً على نحوٍ نسبي من شاعر إلى آخَر، ومن نصّ إلى آخَر، وهوَ الأمر الذي يتطلَّبُ تتبُّعاً نقدياً أيضاً على نحوٍ تفصيليّ.
  • سعَتْ كثير من المُحاوَلات الشعرية إلى تحرير النصوص من وطأة القيود التّجنيسية التقليدية بفتحِ هذه النّصوص فتحاً طَموحاً على المستويات السردية والدرامية والملحمية الذاتية إذا صحَّ التعبير، وذلك في ظلِّ ميلٍ جارف إلى التّقشُّف البلاغي، وقد نجحَتْ بعض المحاولات _ وليسَ جميعُها _ في تحقيق التوازن الجَمالي الذي احتفظَ قدر المُستطاع بشعرية تلك النصوص عبر مُزاوجة التقنيات السابقة بآليات شعرية مُتفاوتة في قدرتها على بثّ طاقات مجازية ورمزية، وعلى توليد فجوات انزياحية نسبية ترنو عبر توتُّرها الإيحائي إلى إزاحة الدلالة من العالم الوقائعي السابق إلى العالم الشعري الجديد.
  • احتفَتْ تجارب واسعة بتقنية المُفارَقة الشعرية على نحوٍ خاص، والتي أدّتْ في كثيرٍ من النصوص اللافتة إلى تخليق حقول مجازية ثرّة تهدفُ إلى إيقاع المتلقّي في حبائلها الإيحائية الجمالية، والقبض عليه في عالم المُفاجأة والدّهشة والانفعال.
  • اتّكأتْ مُحاوَلات كثيرة على جماليات التكرار اللفظي أو المعنوي، حيث يتولد التوتُّر الإيحائي عبر تضاد مجازي مُتطوِّر ونامٍ وصولاً إلى لحظة الذروة أو التَّعرُّف كما تُسمَّى في لغة المسرح، وهو ما تنطوي عليه في الأغلب قفلةٌ تنبثقُ عنها فضاءات الكشف الشعوري أو الرؤيوي.
  • شكَّلَتْ بعض النصوص عبر كامل بنيتها الوجودية صورة مشهدية كلية، مُحقِّقةً بذلكَ خُصوصيتها المجازية الإيحائية، ومُتجاوِزةً تلك التجارب التي تعتمدُ بكثافة على خَلْق صور جزئية ذهنية أو حسّية نامية أو مُتقطِّعة، وإن كانَ من المُمكن مُلاحظة وجود تراجُعٍ نسبي في الاتكاء على هذه الصور في عوالم النصوص.
  • بُنيَتِ الاستعارةُ في عدد كبير من النصوص اللافتة على التملُّص من علاقات المُشابَهة الذهنية التّصورية المُتعالية، وعلى الانفتاح على علاقات التفاعل القائمة على التجربة والفعل والتأثُّر والتأثير، لتنهضَ حركية الخَلْق الشعري على صراعٍ جدلي عنيف بين قوة حُضور الراهن الوقائعي، وقوة الجذب المجازي الذي يُمارسُهُ الغياب في عالم القصيدة.
  • مالَتِ العوالم الشعرية في نصوصٍ كثيرة إلى مُطابَقة الدّلالات الوقائعية المُسَبَّقة تحتَ وطأة الطغيان الصّارِخ لحدث الثورة والحرب، وهوَ ما كبحَ طاقاتها الفنية _ الجَمالية إلى حد بعيد، في حين أنَّ بعض النصوص بلغتْ آفاقاً لافتة في التوثيق الفنّي لتجارب الثورة والحرب، وما انبثقَ عنهما من آلام ومُعاناة ومُكابدات خاصة وعامة، عبر مُحاوَلة نزع ألفة الحاضر الوقائعي، والسعي إلى كشف ما هو غائبٌ ومسكوتٌ عنه وغير مُفكَّرٍ فيه بتخليق حقول مجازية فنّيّة ثرّة، فضلاً عن أنَّ نصوص قليلة تمكَّنَتْ على نحوٍ نسبيّ من إطلاق عوالمها نحو فضاءات دلالية أرحب بالميل إلى تحرير الدال قدر المُستطاع من ارتباطاته العلاماتية مع المدلول، وبمحاولة تفجير الهُوِيّة اللغوية، والالتحاق بحركية اللعب الحُرّ للعلامة، مُحتفيةً بقصدية الوجود المُنفتِح على احتمالاته الماهوية المُستقبلية على حساب قصدية الوعي المُتمركز على الدلالات الماهوية المُسَبَّقة.
  • أدّى ارتفاع وتيرة الصراع الجدَلي بين الذات والموضوع في نصوص كثيرة، إلى المُزاوَجة بين الغنائية الذاتية الخاصة، والمُناخ العام الحاضر إن برؤاه الجنائزية السوداء، أو برؤاه اليوتوبية المُتفائلة.
  • انتقلَ الرمز في بعض النصوص من حضوره بوصفه قناعاً يتعلّقُ بالحاجة الماسة إلى تمويه المعنى والدلالة في ظلّ الرِّقابة السياسية القديمة، إلى حضوره بوصفه يُمارسُ وظيفة فنية _ جمالية تهدفُ إلى بثِّ حقولٍ مجازية تخييلية ذات دلالات غنية، وهي المسألة التي تعكسُ روحاً ذاتية وجمعية بدأتْ تتحرَّر شيئاً فشيئاً من قيودها السابقة.
  • تمكَّنَتْ بعض النصوص من تخليق حقول دلالية رامزة عبر تحويل موضوعة الحرب إلى عنصر مُضمَر أو مُقنَّع، وهي النصوص التي أَصطلِحُ عليها بـِ (نصوص الحرب المُقنَّعة)، على العكس من معظم النصوص التي بقيَتْ تدور في فلك ما أَصطلِحُ عليه بـِ (نصوص الحرب الظاهِرة).
  • هيمنَ على مُناخ النصوص ما أَصطَلِحُ عليه بِـ (ليبيدو الحرب)، وهوَ يُمثِّلُ حالة شعرية شائعة في هذه المرحلة تتأسَّسُ على رغبة غريزية دفاعية في مُواجَهة العنف والخراب المادي والأخلاقي والجَمالي، وهوَ خرابٌ مُكافئ لما يدعوه فرويد بالعدم (ثاناتوس)، في حين أنَّ مُحاوَلة خَلْق عالم شعري جديد ومُغاير اتّكاءً على ليبيدو الحرب تُكافئ ما يدعوه فرويد بالحياة (أيروس)، على أن نفهم الدافعية الحياتية هُنا بمعناها الواسع الذي يهدفُ ضمنَ ما يهدفُ إليه إلى تعرية قيم العالم الوقائعي المُحيط، وخلخلة منظوماته القبيحة بتفجير ما يبدو أشبهَ بفضيحة جمالية شعرية تكشفُ كنهَ هذا القبيح إما عبر الاحتفاء الصّادِم بجمالياته نفسها، أو ببسط جماليات مُضادّة له في عوالم النصوص.
  • تحوَّلَتْ موضوعة الموت بما تنطوي عليه في ظلّ الحرب من سفكٍ للدم وقتل ودمار وقيم وجودية سلبية، إلى بؤرة دلالية مُهيمنة على مُناخات النصوص، وانفتحَتْ في تجارب كثيرة على الأفق الميتافيزيقي، باسِطةً انطلاقاً من قسوة الراهن، أو من غير معقوليته بمعنىً أدَقّ، الأسئلةَ الوجوديّة الكبرى والأصيلة في تاريخ البشرية.
  • لم يكُنْ التجريب بعيداً عن عددٍ من المُحاوَلات الشعرية القائمة تبعاً لخصوصية كُلّ مُحاوَلة، وذلكَ في ضوء صلته العميقة بالتجربة الوجودية الشخصية والعامة التي يعيشها على نحوٍ حادّ وعنيف شعراء هذه المرحلة.

( 7 )

لعلَّ مسألةَ ولادة حساسية شعرية جديدة في شعر الثورة والحرب في سورية مسألة مفهوميّة مُركَّبة كما أظنّ، ذلكَ أنَّ هذه الحساسية الجديدة المُنتظَرة والمرغوب بها لا تتولَّد بمجرّد حضور مفردات الثورة والحرب وتراكيبها ومجازاتها وسردياتها في عوالم النصوص كما يذهب البعض، إنما في مدى قدرة هذه العوالم الشعرية على مُجاوَزة المُطابَقات الوقائعيّة المُسَبَّقة بتحقيق تناصّات فنّيّة نوعيّة تنتج انزياحاتها الجديدة التي تُغنِي الحدث، وتُضيف إليه فائضاً وجودياً _ جمالياً خاصّاً، ولا تكونُ عبئاً عليه؛ أي بوصف هذه العوالم الشعرية تمتصُّ الحدث، ثُمَّ تقترحُ أساليبَ وجودٍ مُغايرة لم تنبسطْ من قبل على هذا النّحو كما هوَ مُفترَض. وهي المسألة التي يُمكن تتبُّعها بحذر في بعض التجارب، ولا سيما إذا أسَّسنا اعتقادنا المبدئيّ بحتمية ولادة الجديد والمُغاير على أدبيات فكر الاختلاف الوجودي اللغوي.

ولذلك يُمكِنُ القول إنَّهُ إذا كانت هذه الحقبة تشير إلى انبثاق واضح وملموس لظاهرة شعرية عريضة ذات تيّارات ومرجعيات متعدِّدة كما فصَّلْتُ من قبل، وإذا كانَ لا مناصّ من الكلام بالمعنى التاريخي عن جيلٍ شعريٍّ يُوصَفُ بأنّهُ جيلُ الثورة والحرب، فإنَّ مسألةَ التّحقيب الفنّي، وتعيين الإضافات النوعية التراكُميّة أو المُؤسَّسة على قطيعة ما، ماتزالُ بحاجة إلى مزيدٍ من الجهود النقدية النصّية الأصيلة، ولا سيما في ظلِّ الكمّ الهائل الذي يُضَخُّ من الشعر ويصعبُ حصره، ففي سورية توجدُ فضلاً عن الجيوش المُتصارِعة جيوشٌ من الشعراء، والشاعرُ الواحد نفسه قد تُصَنَّفُ نصوصهُ ضمن أكثر من اتجاه أو تيار، ناهيكُم عن أنَّ المسألة في أحد أبعادِها هي مسألة وثيقة الصِّلة بنظرية النّقد، فأيُّ بحثٍ يحتفي بالبُعد الجينيالوجي لشعر هذه المرحلة عليه أن يتذكَّرَ مُطوَّلاً أنَّ الحقيقة وفقَ نيتشه تُخفي خداعَها بإظهارهِ في المجاز، فالوجودُ أساليب وكيفيات لخداع مجازي يتمُّ فيه خَلْقُ القيم وتوليدُها في فضاءٍ تفاضلي تتصارَعُ فيه القراءات والتأويلات، لذلكَ نجِدُ هايدغر يقول: “إنَّ التفسيرَ الحقّ لا يفهمُ النّص أحسنَ مما فهمَهُ صاحبه. إنهُ يفهمُهُ فهماً مُخالِفاً. بيدَ أنَّ الفهمَ المُخالِفَ ينبغي أن يتمَّ بحيثُ يُدرِكُ ذاتَ الشّيء”، وهوَ الأمرُ الذي يعني في مستوىً من مستوياته ضرورةَ أن تقبض المُقارَبةُ النقدية من جهتها أيضاً على المجهول والمسكوت عنه وغير المفكَّر فيه في العوالم النصية.

إنَّ أي حديث أصيل عن ولادة شعر مُغاير ينبغي أن يلتفتَ إلى عامليْن موضوعيين لا يُمكِنُ إغفالهما: أوّلهُما عاملٌ زماني يتعلّق بحاجة الشعر إلى “مسافة زمنية” تبعده عن الانفعالية المُباشَرة للحدث كي يستطيعَ تمثُّلَهُ فنّياً، ولا تعني المسافة الزمنية هنا مرور وقت طويل بالضرورة، وإنما تعني أيضاً قدرة الشعراء الخلّاقة على توليد مثل هذه المسافة تأويلياً وهُم ضمن الحدث نفسه، وهذا ما يتطلَّبُ نمَطاً من الدّربة الاستثنائية النادرة. العاملُ الثاني يتعلّقُ بالجانب المكاني، ذلكَ أنَّ نسبة كبيرة من الشعراء السوريين قد انتشروا خلال السنوات الأخيرة في أصقاع العالم، وباتوا يُقارِبونَ الحدثَ السوريَّ من بعد، فضلاً عن اختراق تجربة الغربة والبيئات الجديدة لعوالم قصائدهم، وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمامَ بحثٍ مُطوَّل عن التّحوّلات الهُوِيّاتيّة في أشعارهم.

( 8 )

في بَياني الشعري الأوّل المنشور لأول مرة في موقع ألف الثقافيّ الإلكترونيّ بتاريخ (13 حزيران 2015)، والمُعنوَن بِـ (الإعلان التَّخارُجيّ)، والمنشور في نسخته الجديدة المُنقّحة في موقع الأوان الثقافيّ الإلكترونيّ بتاريخ (28 كانون الثاني 2016)، تحدَّثْتُ عن مفهوم (الدّازِن المُتخارِج)، ويُقصَدُ بالدّازن وجودُ الموجود البشري _في_ العالم الوقائعيّ، والذي يُحقِّقُ تخارُجَهُ عبر الحركيّة القصدية الوجودية لذاتِهِ المُتّجهة مباشرةً _نحوَ_ العالم، أو المُنفتحة _في_ هذا العالم بلا أي فاصل مُتوَهَّم بينها وبينه، لتبسطَ بناءً على ذلك أساليبَ وجودها المختلفة فيه، إذ يحدثُ التفاعلُ الجدَليُّ بين الذات وعالمها بوصفه تفاعُلاً مُجاوِزاً للفصل التقليدي بين ثنائية الذات والموضوع من ناحية أُولى، وبوصفه من ناحية ثانية لا يتعيَّنُ إلا في أساليب وجود الدّازِن البصَريَة التي تسبقُ ماهيّتَها، وتنفتح باستمرار _نحوَ_ المجهول.

وقد قادَني نقلُ هذا المفهوم إلى عالم القصيدة الشعري إلى اقتراحِ فصمٍ جدَليٍّ لذات الشاعر نفسها، عبرَ التمييز _نظريّاً لا فعليَّاً_ داخلَ حركية الانبثاق الشعري بين الذات الشاعرة الموجودة _في_ العالم الوقائعيّ، والذات الشعرية الموجودة _في_ العالم الافتراضيّ. ومعنى هذا التمييز أنَّنا أصبحنا أمامَ تأويلٍ جديد للخَلْق الإبداعي للشعر يرى أنهُ فعل تخارُجيّ جدَليّ مُتراكِب بين ذاتين، ذلكَ أنَّ الجدلَ أصبحَ يقوم وفقَ هذا المنحى بين قصدية وجود الذات الشاعرة _في_ العالم الوقائعيّ، وقصدية وجود الذات الشعرية _في_ العالم الافتراضيّ. وهيَ آلية تتمُّ تبعاً لِـ (مُحايَثة وجوديّة تخارُجيّة) تُغنِي الدّازِن المُبدع وعالمه الشعري على حدٍّ سواء أوّلاً، وتُعينُنا ثانياً على مُحاوَلة فهم تلك المنطقة الإبداعية الكثيفة والغامضة في عملية الخَلْق وتفسيرها، وتمنحُنا ثالثاً فرصة نادرة لمُعايَشة قوى الانكشاف الإبداعي بوصفها قوى تتحرَّكُ في مسافة توتُّر تولِّدُ العالمَ الشعريَّ الجديد، وتفتحُ القصيدة _نحوَ_ الغائب والمسكوت عنه والمجهول.

تقترحُ هذه الآلية بوصفها تستمدُّ بعض مرجعياتها الجوهرية من المفاهيم الشعرية ما بعدَ الحداثية من جانب، وتسعى من جانبٍ آخَر إلى مُجاوَزة تلك المفاهيم نفسها، تعديلاً جذرياً في عناصر العملية الإبداعية التقليدية للشعر، فتنقلُنا من ثلاثية (العالم _ الشاعر _ العمل اللغوي الشعري)، إلى رُباعية (الذات الشاعرة _ الوجود اللغوي في العالم الوقائعي _ الذات الشعرية الافتراضية _ الوجود اللغوي في عالم القصيدة). وهوَ تعديل ينطوي في جوهره على سعي الشاعر إلى اكتساب خبرة جمالية جديدة تهدفُ إلى مُجاوَزة تحكُّم الذات الشاعرة عبرَ ميتافيزيقا الحُضور بالعالم الشعري، بما هوَ فعل طغيان يفرضُ على هذا العالم مُسَبَّقات الوعي المركزي المُطابِق، إذ يأتي الجدل التخارُجي المُتراكِب ليُطيحَ بسيادة المُطابَقة، ويفتحَ العالم الشعري على مُمكناته الافتراضية الثرّة.

ولهذا (التأويل _ الاقتراح) بما ينطوي عليه من مُغايَرةٍ طَموحةٍ فائدة جَمّة _كما أعتقد_  في حال اختبرَ شعراء الثورة والحرب في سورية _وفي العالم العربي أيضاً_ مُمارَسَتَهُ بوصفه فعلاً وجودياً _  فنّياً يهدف إلى خَلْق عالم شعري مُتحرِّر من قبضة المُسَبَّقات السلطوية الذاتية والموضوعية في آنٍ معاً، وهيَ المسألةُ التي يُفترَضُ أن تسمحَ بالانفكاك من مأزق مُطابَقة الحدث الخارجي السياسي والاجتماعي الطاغي والمُدوّي عبر فتح عالم القصيدة الجديد على مُمكناتٍ رحبة لا بوصفهِ انعكاساً مُطابِقاً للعالم الخارجي، ولا بوصفهِ أيضاً عالماً مُنفصِلاً ومُستقلاً استقلالاً تاماً عن ذلك الخارج، إنَّما بوصفهِ ما اصطلحتُ عليه في إعلاني التَّخارُجيّ بـِ (النِّسْياق)؛ إذ إنَّ عالم النِّسْياق يهدف إلى مُجاوَزة فكرة “مركزية المُؤلِّف: السُّلطة الشُّموليّة للذات” بوصفها ذاتاً “سياقيّة” وقائعيّة واعية ومُتحكِّمة بعالم النصّ تحكُّماً مُتعالياً ومُسَبَّقاً، وفي الوقت نفسه يهدف إلى مُجاوَزة فكرة “موت المُؤلِّف: المَحو الشُّموليّ للذات” بوصف النصّ بِنية “نسَقيّة” لغوية مُغلَقة، ومُكتفية بذاتها، ومُنفصلة عن المؤلِّف، ومُتعالية على الوجود في العالم، لينطوي النِّسْيَاقُ في زعمي على موقف جدَلي تراكُبي بين مفهومي السِّياق الخارجي والنَّسَق الداخلي، طامحاً إلى تجاوزهما بما هما ثنائية تقابلية ميتافيزيقية؛ ومُمثِّلاً بناءً على هذا التأويل المُحصِّلةَ التخارُجية الجوهرية لحركيّة الدّازِن الشعري بما هيَ حركية جدلية مُضاعَفة بينَ الذات الشاعرة الوقائعية والذات الشعرية الافتراضية، يتولَّدُ عنها خَلْقُ زيادة في الوجود لها خُصوصيتها واختلافها _في_ القصيدة، ويُمكِنُ لهذه الزيادة أن تفتَحَ شيءَ النّص غير المحدود على حساسية شعرية جديدة نرنو إليها بإلحاحٍ في هذه المرحلة بغيةَ تحقيق مُجاوَزةٍ وجودية _ جمالية أصيلة.

( 9 )

ثمَّةَ مسألة لابُدَّ من الإشارة إليها وخوضها بكُلّ عناية وشغف عند أيّة مُحاوَلة لتلمُّس ملامح ظهور حساسية شعرية جديدة في شعر الثورة والحرب في سورية، وهذه المسألة تكمنُ في ضرورة أن يتتبَّعَ الناقدُ المُتمعِّنُ مدى الانزياح المُتحقِّق في عوالم النصوص موضوعياً وفنياً بفعل انتقال عدد كبير من الشعراء من سطوة القيود الكابحة التي كانت تُهيمن بها سلطة الخوف على مُناخات نصوصهم سابقاً، إلى تحسُّس تجربة الحرية الغنيّة والجامحة وولوج فضاءاتها الجديدة على أرواحهم! فبعدَ أن تمكَّنَ الحدَث السوري من تمزيق الاستعصاء التاريخي السياسي والاجتماعي، استطاعَ عددٌ من الشعراء أن يحطِّموا حاجزَ الخوف مُندفعينَ بخُطىً جَمالية نسبية نحوَ استنطاق ماهية التغيير الحاصِل واكتناه رُؤى المُستقبل القادم على اختلاف دلالات هذه الرؤى!

وفي ضوء بدء تسلُّل تأثيرات هذا التّحوُّل الحاسم إلى النصوص، يُمكِنُ القول من حيث المبدأ إنَّ ما يهمُّ في هذه المرحلة الزائغة هوَ أن تتجذّرَ تجارب شعر الثورة والحرب في سورية، وأن تتنقّى وتنضجَ جمالياً مع مرور الزمن وتَراكُم خبرات الدِّرْبة ومُكابَدات الفعل الفنّي، ومن المُفيد أن أتذكَّرَ في هذا السياق مقولة أندريه جيد: “لا يهمُّني أن يكونَ الشاعرُ كبيراً بقدر ما يهمُّني أن يكونَ صافياً”.

إنَّ بلوغ منابع الصّفاء الشعري يَفترِضُ على نحوٍ ضمني تحقيقَ قدرٍ ما من الخُصوصيّة، وهوَ الأمرُ الذي لا ينفصلُ عن ضرورة انغماس الشعراء بمُحاولات التجريب الجادّة، فالتجريب هوَ سعيٌ دؤوبٌ إلى الانفصال والانشقاق وقتل الآباء الشعريين، ويهدفُ إلى تفجير اللغة، وكسر الأنماط الإيقاعية القديمة، وإعادة شحن المفردات المُهترئة بطاقات دلالية مُغايِرة، وحشد مفردات جديدة مُستمدّة من معجم الواقع الجديد المَعيش، واقتحام عوالم شعرية جديدة لم تُقتحَمْ من قبل. ولأنَّ صلة التجريب بالتجربة صلةٌ أصيلة كما ذكرتُ سابقاً، لهذا ينبغي على شعراء الثورة والحرب أن يعوا دقّةَ هذه المُعادلة وحساسيتها العالية، ذلكَ أنَّ الجدل التَّخارُجيّ المُضاعَف بين الذات الشاعرة الوقائعية والذات الشعرية الافتراضية بوصفه جدلاً يفتحُ عالم النِّسْياق الشعري على المُجاوَزة والاختلاف والمجهول، ينبغي أن ينطلقَ من التضاد لا من الائتلاف، فكما يقول بيكاسو إنَّ “الضِّدّ يسبق الإيجاب”، ولا سيما أنَّ “التَّعايُش السِّلمي في الفنّ عبث” حسب آراغون، وهي المسائل التي تعني أنَّ على الشاعر الثوري الجديد بوصفه دازِناً أن يعرفَ من أينَ (تُؤكَلُ الكتفُ) الوجوديّة _ الجَمالية في الشعر، وأن يقتنصَ الفرصةَ الحالية النادرة التي جذّرَتهُ بقوّة في قلب حركية التاريخ، وزوَّدَتهُ لا بتشويش الحواس بمعناه الرامبوي فحسب، وإنّما بتفجير تلك الحواس أيضاً تحت وطأة فائض العنف الناجم عن تجربة الثورة والحرب، وهدير تناقضاتها الجنوني الذي لا مثيلَ له، والذي سيُبقيهِ ريثما “يأتي عُمّالٌ رهيبونَ آخَرون؛ ويبدأونَ من الآفاق التي سقطَ هوَ أمامَها” كما يقول رامبو نفسه، _في_ الطريق الجدلي _نحوَ_ لعنة المجهول، مُلاحِقاً الجَمالَ القصِيَّ الأثير، وحالِماً بالقبضِ عليه وحبسِهِ إلى الأبد في عالم النِّسْياق الشعري الجديد، تماماً كما حبَسَ رياض الصالح الحسين ذاتَ توتُّرٍ مشهديٍّ إيحائيٍّ بالغ الإدهاش الحرّيةَ واللغةَ وحبيبتَهُ والعالمَ في صورة فوتوغرافية واحدة لا حُدود للوجود الحُرّ الزائدِ فيها:

“لقد تعبتُ من الكلام والديون والعمل

لكنِّي لم أتعَبْ من الحُرّية.

وهأنذا أحلمُ بشيءٍ واحد أو أكثر قليلاً:

أنْ تصيرَ الكلمةُ خبزاً وعنباً

طائراً وسريراً

وأنْ ألفَّ ذراعي اليُسرى حولَ كتفكِ

واليُمنى حولَ كتف العالم

وأقولَ للقمر:

صَوِّرْنا!”.

دمشق في 12 تشرين الثاني 2015

           شاعر وأكاديمي سوري.

خاص –صفحات سورية-

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى