صفحات الرأي

ملف عن وصول دونالد ترامب والترامبية

 

 

 

الترامبية: الجذور والآفاق/ أيمن بكر

لعل أخطر ما فيها هو طبيعة شخصية ترامب النزقة الاستعراضية والاعتقادية أيضا، والتي لن يوقفها شيء عن فتح أسواق جديدة لحركة رأس المال بكل أشكاله.

 

“برز اقتصاد جديد واضح المعالم، في خضم تجارة الأسلحة وجنود القطاع الخاص وإعادة الإعمار الهادفة إلى تحقيق الأرباح وصناعة الأمن القومي، كنتيجة لنمط معالجة الصدمة الذي انتهجته إدارة بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001. صُمّم هذا الاقتصاد في عهد بوش، لكنه بات اليوم موجودا بمعزل عن إدارة أيّ رئيس قد يأتي، وهو سيبقى راسخا إلى حين تُرصد الأيديولوجيا السيادية التي تدعمه، وتُعزل وتُقاوم”، (انظر نعومي كلاين،عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، ت: نادين خوري، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2011، ص 16).

لا يمكن فهم ذروة المرحلة الترامبية التي تمكن فيها رجال أعمال من الوصول إلى سدة الحكم في دول صناعية كبرى، وهي المرحلة التي بدأت بمقدمات لا تخفى على عين المراقب المختص، من مثل تولي بيرلسكوني رئاسة وزراء إيطاليا، (وهو رجل الأعمال الذي يقال الكثير عن علاقته بالمافيا الإيطالية)، ولا يمكن فهم هذه المرحلة دون العودة إلى جذرين رئيسين نبتت منهما بصورة مباشرة، الجذر الأول تنظيري معرفي وهو نظرية السوق الحرّ المتخلص بصورة كاملة من أيّ رقابة للدولة عليه، وهو الاتجاه الذي تأسس في جامعة شيكاغو على يد ميلتون فريدمان في خمسينات القرن الماضي، ليعبر عن الطموح الأقصى للنظام الرأسمالي. والجذر الثاني سياسي-تاريخي وهو فترة حكم تاتشر-ريجان التي استطاعت فيها أفكار فريدمان السابقة أن تنتصر بصورة تبدو نهائية حتى الآن.

ظهرت أفكار ميلتون فريدمان التي عبر عنها بوضوح في كتابه “الرأسمالية والحرية”، في الوقت الذي كانت برامج الحماية الاجتماعية قوية في أميركا وغيرها من بلدان أوروبا. من ناحية أخرى أعلنت المسارات الاقتصادية في ستينات القرن العشرين أن بعض دول العالم، الذي كان ناميا بحق في هذه الحقبة، قد أخذت تصنع اتجاها ثالثا تحت مظلات مختلفة مثل حركة دول عدم الانحياز، والاتحادات الإقليمية، والاتفاقات بين دول الجنوب، وهو اتجاه يحاول الجمع بين الرأسمالية والاشتراكية (وإن كان أقرب للأخيرة) لا يجعل من الدولة وحدها مالكا للثروة ومسيطرا على أوجه إنفاقها وتنميتها، وإن كانت صاحبة الصلاحيات الأكبر، لاعبة دور المراقب والموجه للسياسات الاقتصادية بهدف حفظ حق الطبقات الأكثر فقرا في رعاية اجتماعية مناسبة، وكبح جماح الجنون الرأسمالي في مراكمة الثروات بأيّ طريق وعلى جثة أي شيء؛ بدءا من الطبيعة وانتهاء بالإنسان والقيم.

ظهرت بذور هذا الاتجاه بوضوح في بعض دول أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا (تشيلي، الأرجنتين، مصر، إيران، العراق، إندونيسيا على سبيل المثال)، ورغم تبنّي هذه الدول لنموذج أقرب للاشتراكية السوفييتية في هذا الوقت، كانت القيود المفروضة على حركة رأس المال فيها أقل حدة ممّا كان عليه الأمر في الاتحاد السوفييتي، ما أراه بداية للطريق الثالث الذي لم يقدّر له الاستمرار بسبب الحرب الشعواء التي شنتها دول المركز الرأسمالي الغربي عليه.

بعد استقلال إندونيسيا عن هولندا أصبح أحمد سوكارنو أول رئيس للبلاد في العام 1945، مقترحا نظام “الديمقراطية الموجهة” للسيطرة على وحش الرأسمالية الغربية الذي كان يسعى بلا كابح كي يصبح الوريث الشرعي للفترة الاستعمارية بكل طموحاتها في السيطرة على العالم ونهب ثرواته، من خلال بديل اقتصادي أكثر خفاء وشراسة معا وهو اقتصاد السوق الحر. في إيران صعد محمد مصدق إلى الحكم عام 1951، وكان جلّ همه هو تنمية بلاده عبر ترسيخ مبادئ الحماية الاجتماعية واستعادة السيطرة على الثروات النفطية من يد بريطانيا، ما دعاه لتأميم قطاع النفط. بالمثل حاولت فترة حكم جمال عبدالناصر في مصر تحقيق التنمية عن طريق التوجه نحو التصنيع مع تبني برامج واضحة للرعاية الاجتماعية.

غير أن نظام عبدالناصر لم يكن متشددا في التعامل مع رؤوس المال الخاصة، حتى أغلقت دول المركز الرأسمالي السبل أمام تمويل السدّ العالي، ما قاد عبدالناصر إلى تأميم قناة السويس في نهاية المطاف. وفي تشيلي صعد سلفادور الليندي للحكم في العام 1970 بأفكاره الماركسية التي حاول من خلالها الموازنة بين حركة رأس المال التي توجهها الدولة وبرامج التعليم والحماية الاجتماعية، محاولا كغيره من قادة التحرر الوطني منذ خمسينات القرن الماضي أن يستعيد مصادر الثروة من يد الشركات والحكومات الغربية.

المفارقة أن الخطاب الشعبوي الذي صعد به ترامب لسدة الحكم يبدو مضادا تماما لأفكاره وتوجهاته الرأسمالية المعبرة عن مدرسة شيكاغو في الاقتصاد

المدهش في كل ما سبق أن الدول الغربية وعلى رأسها أميركا التي صنعت من الشيوعية في هذا الوقت الشيطان الأكبر والعدوّ الأوحد، استخدمت أسلوبا واحدا في القضاء على كل محاولات النهوض في هذا الوقت وهو دعم الانقلابات العسكرية بيد رجال موالين لها يتمتعون بقدر غير قليل من الدموية والعنف. ففي إندونيسيا قام سوهارتو بالسيطرة على الحكم في العام 1968 بعد أن تمكن من قمع انقلاب ضد سوكارنو في العام 1965 حاولت مجموعات شيوعية القيام به، ثم إنه استولى على الحكم ووضع سوكارنو رهن الإقامة الجبرية حتى وفاته.

وفي إيران انقلب فضل الله زاهدي على مصدق بدعم من المخابرات البريطانية والأميركية في العام 1953، وفي تشيلي قام أحد أكثر شخصيات التاريخ دموية وهو الجنرال بينوشيه بالانقلاب على نظام الليندي ليدخل البلاد في حالة سوق حرّ غير محسوب مقترن بمستوى تاريخي من العنف، ما قضى على كل مكاسب الفترة السابقة من حريات وأنظمة حماية اجتماعية. أما في مصر فلم يتمكن الغرب من تنفيذ انقلاب عسكري على عبدالناصر حتى بعد هزيمة 1967، إلا أن الانقلاب قد تم بمجرد موت عبدالناصر وبصورة درامية على يد خلفه السادات، الذي قام إيمانا منه بأن 99 بالمئة من أوراق اللعبة في يد أميركا كما كان يحلو له أن يردد، بتغيير دفة الحكم بصورة لا تقل عنفا عن أيّ انقلاب، باتجاه رأسمالية متوحشة عمياء غير منظمة، أودت بالاقتصاد المصري إلى غياهب الفوضى الاقتصادية والسياسية بالتبعية، ما أدى لانهيار العملة ومفاقمة نسب الفقر والفقر المدقع، وهو ما نشهده بجلاء حاليا.

بالنسبة إلى الولايات المتحدة شهدت فترة ريجان بداية التمكين الحقيقي لأفكار ميلتون فريدمان عن الاقتصاد الحر واستغلال الصدمات والكوارث الكونية في صنع تحوّل جذري لنمط الاقتصاد باتجاه السوق الحر غير المراقب، وسحق دور الدولة. لم تتغير سياسات الخصخصة الساعية لسوق غير مراقب حكوميا تماما، ويعمل لصالح رجال الأعمال دون سواهم، رغم المحاولات الباهتة لباراك أوباما في مغازلة الطبقات الأكثر فقرا بوعود انتخابية لم يستطع تنفيذ أيّ منها. وعلى سبيل المثال قدم أوباما مشروعا لتوفير مظلة تأمين لعوام الأميركيين تحت مسمى “أوباما كير”، لكنه سار بخطى متعثرة طوال سنوات حكم أوباما، ولم يتم تطبيقه ولو بصورة جزئية، والمدهش، وربما الأكثر منطقية، أن أول قرار وقّع عليه رجل الأعمال المنتخب ترامب، حتى قبل أن ينتقل إلى البيت الأبيض، كان قرارا بإلغاء مشروع “أوباما كير”.

إن وجود مثل هذا المشروع في أفق السياسات الاقتصادية الأميركية هو ردة من نوع خطير عن خط مدرسة شيكاغو للاقتصاد الحر غير المقيد، الخط الذي لم يحد عنه أحد سواء أكان من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، فإعادة أيّ صورة من صور الحماية الاجتماعية للأذهان لهو خطر شديد على “السلام الاجتماعي” الذي يتحكم فيه تماما رجال الأعمال الكبار.

والمفارقة أن الخطاب الشعبوي الذي صعد به ترامب لسدة الحكم يبدو مضادا تماما لأفكاره وتوجهاته الرأسمالية المعبرة عن مدرسة شيكاغو في الاقتصاد، فقد تحدث كثيرا وبصوت مرتفع عن إعادة تشغيل المصانع المتعثرة، وضمان حياة أفضل لمئات الآلاف من العمال الصغار، وهو أمر يبدو مضحكا في ظل ولاءات ترامب التي لا تخفى على أحد.

يمكن النظر لصعود ترامب بوصفه النهاية الطبيعية لسيطرة مدرسة ميلتون فريدمان في الفكر الاقتصادي على السياسات الأميركية، فلقد تمكن ميلتون فريدمان شخصيا من الوصول للحكم في شخص ترامب، إنها الذروة الأخطر والأهم لنجاح سياسات فريدمان التي بدأ تبنيها في العالم على يد دكتاتوريات عتيدة منذ ستينات القرن العشرين، والتي تم ترسيخها في الولايات المتحدة نفسها منذ فترة ريجان.

ولعل أخطر ما فيها هو طبيعة شخصية ترامب النزقة الاستعراضية والاعتقادية أيضا، والتي لن يوقفها شيء عن فتح أسواق جديدة لحركة رأس المال بكل أشكاله، سواء ما يتصل بتجارة الأسلحة أو ما يسمونه إعادة الإعمار أو -وهو الأهم- الحرب على الإرهاب. ويغلب على ظني أننا سنشهد توترات غير معتادة في العلاقات الدولية بسبب تلك السياسات ربما تصل بنا إلى حواف حرب عالمية.

كاتب من مصر

العرب

 

 

 

الاستبداد المعولم/ نجيب جورج عوض

ترامب لم يتورع عن الإفصاح دون مواربة أو دبلوماسية عن قناعاته ومواقفه ورؤاه ورغباته التي ستقرر طبيعة وأهداف إدارته للبلد حين يصل للبيت الأبيض.

 

خلال العقود الستة المنصرمة، غادر العديد من السوريين، ومن كافة المشارب والخلفيات والانتماءات والمعتقدات والإثنيات، بلدهم الأم سوريا باتجاه الولايات المتحدة الأميركية لأسباب عديدة ومتشعبة، ليس أقلها جدية وقهرية رغبتهم بالهروب من العيش في ظل نظام استبدادي فاسد طغياني شعبوي وعنصري ومصالحي كنظام الأسد الأب وبعده الابن. وقد كنت أنا أحد هؤلاء السوريين الذين قرروا أن يهاجروا من البلد بحثا عن فضاء عيش آخر يقدم لإنسانيتي الحرية والكرامة والعدالة والحق وفضاء العيش الذي يحترم حقوق الإنسان الأساسية والطبيعية ويحمي حقي الطبيعي بالحصول عليها.

كنت في التاسعة عشرة من عمري حين بدأت رحلتي هذه. وقد بدأتها وشرعت بها مدفوعاً (ومازلت) بعطش جارف للمعرفة والعلم والبحث عن الحقيقة في فضاءات الأكاديميا والثقافة العلمية في أصقاع العالم المتقدم. قادتني خارطة رحلتي من مدينتي الأم اللاذقية إلى بيروت أولاً ومنها إلى لندن، لأعيش وأدرس فيها وأحصل على درجة دكتوراه الفلسفة الأولى، ومنها إلى أميركا كباحث زائر لفترة قصيرة وبعدها إلى ألمانيا، حيث عشت وعملت كمحاضر جامعي وحصلت على درجة دكتوراه فلسفة ثانية، قبل أن أصل أخيراً إلى الولايات المتحدة الأميركية لأستقر فيها حتى هذه الساعة محاولاً أن أجعلها وطناً بديلاً لي وأن أصبح مواطناً من أحد مواطنيها.

هي رحلة بدأت بحلم الهروب من أرض وفضاء الاستبداد والقمع والفساد. اعتقدت أنني في الولايات المتحدة بتُّ أبعد ما يكون ثقافياً وسياقياً وجغرافياً عن عالم سوريا الاستبدادي. ولكن، ولاندهاشي العميق، ها أنا أرى نفسي مع سواي من السوريين الكثر المهاجرين لهذا البلد نقف على عتبة قيادة أميركية سياسية جديدة تحت إدارة دونالد ترامب لا يبدو أنها ستكون مختلفة كثيراً في ذهنيتها وممارساتها ومنطقها الإداري عن منظومة الفساد والاستبداد والكراهية والعنصرية والمصالحية والشعبوية التي اعتقدنا أننا تحررنا منها.

لم يمض على دخول دونالد ترامب وفريقه إلى البيت الأبيض أكثر من ثلاثة أسابيع وإذ بالبلد باتت تغرق في فوضى شعبوية وعنصرية ومجتمعية مخيفة وسوداوية على صعد عدة. لم يتورع دونالد ترامب عن الإفصاح دون مواربة أو دبلوماسية عن قناعاته ومواقفه ورؤاه ورغباته التي ستقرر طبيعة وأهداف إدارته للبلد حين يصل للبيت الأبيض. قال ما سيفعل دون أيّ تلميح. قاله وكأنه رسالة خلاص مسيانية يعلنها مخلص البشرية في ملء الزمان.

قالها أمام الشعب الأميركي برمته وأمام العالم بأسره، مستغلاً العصر الإعلامي والإلكتروني والتكنولوجي العالمي الذي نعيش فيه ليعولم مشروعه الاستبدادي العنصري والشعبوي المغطس بالكراهية وليجعله خطاباً ناظماً لماهية المستقبل الذي تقف على أعتابه القرية العالمية التي نعيش فيها. قال بأنه سيكون مستبداً وعنصرياً وتفريقياً ومع هذا وصل إلى الموقع الذي لا يجب أن يصل إليه.

مثير جداً أن نتوقف ونتطلع لبرهة في ماهية التداعيات والإرهاصات المنهجية والحياتية لموجة عولمة الاستبداد التي تضرب الحياة البشرية اليوم على امتداد الكوكب والتي أوصلت دون سواها شخصا مثل دونالد ترامب إلى موقع رئيس أقوى دولة في العالم. مثيرة تلك العولمة المذكورة وقدرتها على تجاوز كافة أنواع الحدود والجغرافيا، وتأثيرها على موازين القيم والأخلاقيات والإنسانيات في السياق البشري، لتصل باستطالاتها وتمظهراتها إلى أركان العالم العربي والأوروبي-البريطاني، الأميركي والآسيوي، الروسي والأفريقي على حد سواء وتؤثر عليها جميعاً بطريقة تبدو واحدة تقريباً.

بتنا نسمع اليوم عن العديد من الطغاة والمستبدين حول العالم لا يتورعون عن التعبير عن استعلائهم الطغياني على إرادة شعوبهم ووصايتهم عليه وعن تمسكهم بالسلطة وتغوّلهم فيها وتوظيف أيّ خطاب أو سياسة لتعزيزها مهما كانت تلك الأخيرة شعبوية وعنصرية وتفريقية ومليئة بالكراهية. ليس دونالد ترامب سوى “دعوة نمذجة” حية معولمة وعالمية وجدت من يحتضنها ويتبناها ويعمل على تطبيقها حول القرية المعولمة التي نحاول أن نبقى على قيد الحياة فيها.

ما عاد يمكن اليوم الحديث عن “العالم الغربي المتقدم والحر” مقابل وضد “العالم غير الغربي المتأخر وغير الحر”. ما عدنا نستطيع أن نتحدث عن “عالم ديمقراطي وتعددي ودولة قانون” ضد “عالم استبدادي أحادي ودولة هيمنة ووصاية”. مع سقوط مفهوم “الجغرافيا” وفكرة “الموقع″ (locationality and territoriality) ، انعدمت الحدود الفاصلة بين تلك التصنيفات وقامت حالة “العالم الافتراضي” (virtual world) اليوم برميها في سلة التاريخ الحداثوية التي أنتجتها، تاركة الساحة للميل النهليستي والتشرذمي والاستنسابي المتطرف الذي جاءت به مابعد الحداثة.

ليس غريباً أبداً أن دونالد ترامب يقدم نفسه ويتواصل مع الناس وكأنه يمثل في برنامج تلفزيون الواقع (reality TV) مصراً على جعل هذه الحالة بديلاً عن الواقع المعيش ومقياساً مرجعياً للحقيقة بحديث فريقه عن “الحقائق البديلة” (alternative facts) كبديل عن حقائق الحياة والتاريخ والعقل. وكأنه يريد خلق أميركا بديلة افتراضية لتحل محل أميركا الحقيقية. لدينا هنا تمرد من فضاء العالم الافتراضي ضد العالم التاريخي: ثورة من إنسان الشبكة العنكبوتية على إنسان الزمان والتاريخ. لدينا صورة نرسيس في المرآة تسعى لقتل نرسيس نفسه الواقف أمام المرآة.

كإنسانٍ قضى نصف عمره البلوغي سائحاً على دروب الأرض ومتنقلاً بين قارات العالم على جانبي المحيط الأطلنطي، وكسوري ترك أرضه الأم وهاجر نحو جغرافيا العالم الغربي وعاش في كافة مناخاتها وسياقاتها الفرنكوفونية والجرمانية الموجودة، أجد اليوم أن ما أعيشه في أميركا من نتائج سياسات إدارة ترامب العنصرية والتفريقية والطغيانية والمصالحية الشعبوية لا يختلف كثيراً عن سياسات تفشت في سوريا ووجدت لها تمظهرات في مناطق أخرى من القرية العولمية.

ما هربت منه بات اليوم كابوساً يلاحقني في غربتي وشاطئ هروبي. لم تعد الجغرافيا لا عائقاً ولا مصدر وقاية ولا فرصة انعتاق. باتت مرآة متشظية كسرتها الصورة وخرجت منها وراحت تبحث عن صاحب الصورة لتطعنه في الصميم وتغتاله. باتت الجغرافيا نفسها تحتاج لانعتاق ولوقاية من مخيالها الافتراضي. باتت الجغرافيا ضحية العالم الافتراضي التخيلي الذي يجرفنا في دوّامته ويفرض علينا أن نحيا في شبكة عنكبوتية إلكترونية تعمل على تسويق الاستبداد وعلمنته. في هذه العولمة الافتراضية الإلكترونية بالذات تكمن قوة دونالد ترامب وفاعلية وتأثير ما يمثله: ترامب هو صورتنا النرجسية في المرآة تهبّ وتهجم علينا كي تحلّ محلنا.

أيّ مصير للسوريين في قلب هذه المعمعة؟ لا يبدو مصيرهم واعداً أو مشرقاً أبداً. فهم خسروا بلدهم وأرضهم الأم، وخسروا إنسانيتهم وحيواتهم، وخسروا مستقبلهم وحقوقهم بسبب واقع استبدادي استخدم الجغرافيا لقتلهم بها. وهاهم اليوم يبدون كمن على وشك خسارة حتى شواطئ هجرتهم وترحالهم بسبب موجة استبداد تريد طحنهم في نفس المطحنة التي تفرم فيها الجغرافيا. يبدو فعلاً أن السوري ليس له سوى الترحال، والسؤال هو أيّ نوعٍ من الترحال في ظل موت الجغرافيا وفي ظل موت فكرة “الواقع″؟

ويبدو أن قصة ترحالي لم تصل إلى خواتيمها بعد، ففي ظل عولمة الاستبداد لا أعلم إن كنت سأجد مفراً ممّا قررت التحرر منه يوماً منذ أكثر من 25 عاماً مضت. يبدو أن رحلتي في الأرض اليباب مازالت تخط درباً طويلاً عبر تلك الصحراء في انتظار أن أتابع تيهي عليها. لطالما قلت في السنوات الأخيرة لأصدقائي الغربيين: السوري والسورية لا يخافان أبداً من الأرض اليباب، بل يفتحان أذرعهما ويعانقانها. نحن لا نخاف التيه… نحن غارقون فيه.

كاتب وأكاديمي من سوريا

العرب

 

 

 

النخب إلى الصراع والجموع إلى المصارع/ نوري الجراح

هل نحن في عصر الجماهير المتطلعة إلى الحرية وقد امتلكت وعي الحرية، أم في عصر الجموع المخدرة بالصيغ الرومانسية عن الحرية في سوق عالمية ماكرة.

 

كيف يبدو حال الشرق وتبدو مصائره في الزمن العالمي الراهن وقد أوهم الغرب في دوائره التسلطية نفسه أنه بات مكتفيا بذاته كما السايكلوب الإغريقي، فلا يقربنّ شاطئه وكهفه مغامر إلا ليكون طعاماً له. ولكنه نوع جديد من السايكلوب (الذي كان يوماً بعين واحدة)، يبحر حيثما شاءت له رغباته وحاجاته أن يبحر ويتصرف في الشرق كما في الغرب كقوة جبارة لا رادّ لها.

في الزمن العالمي الراهن، وهو زمن العولمة في طور من الزعزعة، يطرح العقل على نفسه السؤال الأكثر جوهرية: هل نحن في عصر الجماهير المتطلعة إلى الحرية وقد امتلكت وعي الحرية، أم في عصر الجموع المخدرة بالصيغ الرومانسية عن الحرية في سوق عالمية ماكرة هي سوق السايكلوب ذي العيون الكثيرة وقد استهلكت من الأفكار والصيغ والماركات خلاصات قرون من كدح العقل الإنساني والتجارب المجتمعية والمغامرات الفكرية؟

فهل نحن في عصر الجموع المتملكة لإرادتها الواعية في خوض الصراع على المستقبل أم في عصر النخب حاكمة ومعارضة وهي تسوق الجموع إلى مصائرها المأساوية، بينما الجموع تظن نفسها صاحبة الإرادة والسبيل وصانعة الشرف في المأساة؟

وعلى طرفي المصارع، بين خندقي الدين والدنيا، تتناظر أفكار الأرض مع أفكار السماء، وتتواجه خيالات المستبد مع حجج المطالب بالحرية، وترفرف بيارق الجماعات وقد تساقط تحتها صرعى شهداء الحرية وجنود الاستبداد معاً، وقد اختلطت الأسباب بالأسباب.

أهي معمعة عمياء، إذن، في صراع دام بين قوى أعماها الجشع وأخرى أعمتها الأيديولوجيات، وقودها وضحاياها جموع حملوا بيارق مصارعهم وقد أوهمهم المتصارعون أنها بيارقهم وهم أصحابها؟

هل يريد كلامي تبسيط التعقيد الذي يتحكم بمجريات الصراع المأساوي في المشرق العربي كأن يقول إن الأيديولوجيات الخلاصية والشمولية هي في شراكة واعية ومنظورة ومحددة المعالم والنسب والمواقيت بين الحاكم المستبد والثائر المتطلع إلى انتزاع السلطة باسم الجموع المؤمنة بطريقته؟

هل أساوي بين الحاكم والثائر في لحظة عربية وشرقية يحيط بها عالم مضطرب الأحوال ومختل الموازين استهلك كل ما طرحه العقل البشري المتحضر من صيغ لتوديع الوحشية وتسييد قيم الحضارة على حاضر الإنسان ومستقبله، فإذا به عالم يزداد حاضره وحشية ومستقبله غموضاً.

المثقف في التاريخ، شاعرا وروائيا ونحاتا ومصورا ومفكراً لأجل الحرية لا يساوي هذا المثقف الفاعل في التاريخ بين رموز الطغيان ورموز الحرية، ولا بين الضحية والقاتل، ولكنه يقف في خندق الحرية، ومن تلك الجهة لا يتورع هذا المثقف عن تشريح الذات ونقدها اتقاء للتّيه والغرور والأخطاء القاتلة بحق الناس الذين يتكلم باسمهم.

ولكن كيف يقوم الدليل في الحكم على الشيء، وما دليلي على ما يؤرق العرب اليوم سوى ما آلت إليه أحوال الجموع، ثائرة وخانعة، وما حلّ بها في ديارها من دمار وموت ورعب وما طالها من تهجير وتشريد وما ألحق بها من مآس مهولة لا يحتملها جبابرة الأساطير، وقد تسبب لها بهذا كله عنف المستبد وحماته الإقليميون والعالميون، ومكر المتصارعين الكبار في العالم (السايكولوبات الجدد) بما أحدثوه من انقلابات في و(على) انتفاضات بريئة سرعان ما اختلت موازينها من حيث قامت لعدل الميزان وإقامة العدل ورد الحرية واستعادة الكرامات.

ولكن هل يكفي في مآسي العرب، السوريين والعراقيين واللبنانيين والفلسطينيين واليمنيين والليبيين، تجريم المستبد مرة وحماته الغزاة أخرى، هل نعفي أنفسنا من التفكر أوسع ليطال تجريمنا الجريمة منظومةَ الأفكار الفاعلة على خندقي الدنيا والدين معا، وهي الأفكار والأوهام التي قرأت الصراع وحلّلته واتخذت مواقعها فيه، متمترسة وراء سد قوامه مئات الآلاف من الضحايا وقد غرزت في أجسادهم النازفة بيارق أيديولوجياتها وقراءاتها. وما برحت تبني من هذه المصارع وذلك الحطام جسورها إلى “المستقبل”؟

إنها أسئلة أجوبتها ليست ناجزة ولكنها أسئلة أطرحها أولا على عقل النخب العربية المثقفة التي قالت لنا أدبياتها إنها مؤمنة بالتغيير ولأجله تعمل، ولكونها أعلت من شأن نفسها ومواقعها وقراءاتها للصراع، وجعلت من فكرة الجموع جمهوراً لأفكارها وتطلعاتها.. وهي بالتالي تتحمل قسطها من المسؤولية بإزاء نهر الدم الذي يتدفق بلا توقف في حاضر العرب وحواضره. فليس السفاحون وحدهم المسؤولين عن سفك الدماء، ولكن أولئك الذين خاضوا المعركة متسلّحين بالجموع ولم يخوضوها بكفاءة، إن لم نقل إنهم لم يحرصوا على أرواح الضحايا أو هم جعلوا من غزارة دماء الضحايا وقودا لحركاتهم الفكرية والأيديولوجية وتطلعاتهم القيادية.

مرة أخرى، ليس من شأن هذه الكلمة أن تساوي بين الجلاد والضحية، ولا بين المستبد والثائر على الاستبداد، ولا بين مغتصب الحق وصاحب الحق، ولكنها كلمة ناقدة تحاول أن تضيء مصباح السؤال في عتمة الأجوبة الدوغمائية وظلام التطلعات العمياء الناكصة بأهل الحاضر نحو ماض متوهّم لا يمكن استعادته في برهة زمنية يسودها خليط من المغامرين والأفّاقين اللاعبين بدم الأبرياء وقد هان هذا الدم حتى صار أرخص من ماء مسفوح وليس له صاحب.

ولعمري إن هذه الكلمة إذ تفتتح هذا العدد إنما تتداخل ملاحظاتها وإشاراتها مع ملف يغامر بدوره في طرح السؤال عن ظاهرة صعود اليمين الشعبوي المتطرف مستعملاً بدوره الجموع ليرتقى على مصائرها ومصارعها نحو قمة السلطة الأعلى في العالم، سلطة العولمة في أكثر صورها مركزية وتوحشا؛ أميركا الجديدة التي لا هي بالديمقراطية ولا هي بالمحافظة، ولكنها خليط متطرف من يمين غاضب وديمقراطيين محبطين، وطبعة جديدة من شعبوية لا يمكن التنبؤ إلى أين ستأخذ أميركا والعالم في ظل انهيار مريع لكل ما أنتجه العالم المتحضر من قيم في العصر الحديث.

شاعر من سوريا مقيم في لندن

العرب

 

 

 

لحظة ترامب أم احتضار العولمة؟/ جاد الكريم الجباعي

ليس من المؤكد أن سلبيات العولمة غلبت على إيجابياتها، إلا في البلدان ضعيفة النمو، والتي يعود ضعفها إلى نقص التطور الرأسمالي وتفويت الثورة الديمقراطية في كل منها، أكثر مما يعود إلى ‘الاستغلال الرأسمالي’ و’النهب الإمبريالي’.

 

أحدث فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية، على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، ثم دخوله إلى البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة الأميركية عاصفة سياسية، اجتاحت العالم، ولم تهدأ بعد، وقد لا يزول التوجس من سياساته في وقت قريب. فهو أول رئيس أميركي، بعد أربعة وأربعين رئيساً قبله، يقابَل فوزُه ثم دخولُه البيتَ الأبيض بمظاهرات احتجاجية حاشدة في مدن أميركية وغير أميركية، علاوة على الحملات الإعلامية عليه داخل الولايات المتحدة وخارجها.

ولا يزال من الصعب تحديد قائمة المؤيدين لترامب والمتحالفين معه وقائمة المناهضين له والمتوجسين من سياساته، بصورة نهائية، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها. وهذا لا يتعلق بكون ترامب شخصية إشكالية ومثيرة للجدل، وهو كذلك بالفعل، بل يتعلق بأزمة مركبة، اجتماعية اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية، تشمل الولايات المتحدة وغيرها، يمكن أن تكون الفوضى أو اللاتعيّن أحد عناوينها والإرهاب عنواناً آخر. والفوضى والإرهاب علامتان على تراجع الديمقراطية أو انحلالها.

لعل هذه العاصفة السياسية تشير بوضوح إلى أن المسألة تتجاوز نتائج الانتخابات والمثالب التي تنسب إلى ترامب. فليس انقسام المجتمع الأميركي على نتائج الانتخابات سوى إشارة إلى أزمة عميقة، لا في الولايات المتحدة فقط، بل في النظام الرأسمالي العالمي ونسق العلاقات الدولية أو النظام الدولي.

فليست العاصفة السياسية سوى تعبير عن تداعيات الأزمة الاقتصادية، التي انفجرت عام 2008 وارتداداتها، بما هي واحدة من أزمات النظام الرأسمالي العالمي، التي لم يكن ممكنا الخروج منها نحو التعافي إلا بتدخل الدولة، في جميع البلدان التي لفحتها الأزمة، ولا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، حيث كوفئت البنوك والشركات، التي تسببت بها، على حساب دافعي الضرائب، علاوة على الآثار المباشرة وغير المباشرة لنمو الاحتكار وطغيان رأس المال المالي المقترن بالفساد في الاقتصادات الرأسمالية وشبه الرأسمالية كافة، واتساع الهوة بين أغلبية فقيرة وتزداد فقراً وأقلية غنية وتزداد غنى.

فإن الحاجة إلى تدخل الدولة للخروج من الأزمة المالية كان ولا يزال يعني الحاجة إلى إصلاح النظام الديمقراطي والارتقاء به نحو ديمقراطية اجتماعية تقوم على المساواة والحرية والعدالة وتكافؤ الفرص و”إنصاف الفئات الأقل حظاً”، حسب تعبير أمارتيا صن، وإعادة الاعتبار للمجتمع المدني، بصورة أساسية، وتجديد العقد الاجتماعي وفقاً للمُحرَز الديمقراطي وحقوق الإنسان.

ولكن الأمور لم تجر على هذا النحو، ولم تتجه هذا الاتجاه؛ وقد انقضى مفعول جرعة المورفين المسكِّن، التي حُقن بها النظام الاقتصادي بإشراف الدولة، فتحولت الأزمة المالية السابقة إلى أزمة سياسية، ولهذا التحول دلالات عميقة. أحد هذه الدلالات أن التناقض بات عميقاً بين الديمقراطية والشعبوية من جهة، وبين الديمقراطية والليبرالية الجديدة وتجلياتها العنصرية، من الجهة المقابلة، ما يعني أن الأزمة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه.

يمكن استشفاف بعض هذا التعقيد من إعادة الاعتبار للدولة القومية، بصفتها موطن السيادة ومملكة القوانين، من دون إعادة الاعتبار للمجتمع المدني بصفته فضاء من الحرية، يفصل بين الأسرة والدولة، وكل فصل هو وصل. لذلك غُيِّبت المسألة الأساسية الأكثر خطورة على حياة الدول والشعوب والمجتمعات، نعني تآكل الديمقراطية والتراجع عن مبادئها وقيمها الإنسانية. فإن تقييد الحريات الخاصة والعامة صار سياسة مبرّرة عالمياً، بالخوف من الإرهاب والتخويف به، منذ أحداث أيلول/سبتمبر 2001، واعتباره الشر المطلق، وهو كذلك بالفعل، الذي حلّ محل الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وحلف وارسو، في أثناء الحرب الباردة، وحصر الإرهاب في الإسلام والمسلمين بصورة أساسية.

ربما كان الخلل الرئيس في العولمة، التي انطلقت من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، مع ولاية كل من رونالد ريغان ومارغريت تاتشر، مطلع ثمانينات القرن الماضي، إطلاق العنان لحرية السوق، وتقييد الحريات الاجتماعية والسياسية، الفردية والعامة؛ ما أدى إلى “دكتاتورية السوق”، وحلولها محل المجتمع المدني، وتهميش الأخير تهميشاً مضاعفاً، نعني إلغاء فاعليته السياسية من جهة وإفقار أكثريته وإخراجها من عالم السياسة والثقافة العصرية، من جهة أخرى. وهذا متصل أوثق اتصال بتقليص دور الدولة وتحويلها إلى “ربة منزل”. يمكن القول إن الحرية تثأر لنفسها من خلال الحركات الاجتماعية، من حركة “احتلوا وول ستريت” إلى “الربيع العربي”، ومظاهرات الاحتجاج على فوز ترامب، ومظاهر الاحتجاج الأخرى، الرسمية منها والشعبية.

في هذا السياق يرى بعضهم أن فوز ترامب انقلاب على العولمة. فقد كتب المفكر الاقتصادي المعروف، الدكتور جميل مطر في جريدة الحياة اللندنية أن “العولمة، كما دشنتها أميركا، وغيرها من دول الغرب، تجاوزت عمرها الافتراضي وأن سلبياتها صارت تتفوق على إيجابياتها إلى حدّ جعل ترامب يرى أميركا ضحية من ضحايا العولمة. سبقه البريطانيون الذين عاد الشك في نوايا القارة الأوروبية يسيطر عليهم. فالعولمة في صيغتها الأوروبية حاولت الانتقاص من سيادة حكومة لندن، حاولت أيضاً إجبار بريطانيا على فتح حدودها لاستقبال الباحثين عن العمل من شرق ووسط أوروبا واللاجئين من خارج أوروبا”.في حين يرى الدكتور عصام الخفاجي أن “العولمة التي بات الأميركان يرونها شرّاً لا بد من محاربته، حققت للبشرية، لا لرأس المال فقط، ما لم يحققه أيّ تطور آخر في التاريخ البشري. فخلال أقل من عشرين سنة انخفضت نسبة من يعيشون في حالة فقر مدقع من 35 بالمئة أي أكثر من ثلث سكان الأرض عام 1993 إلى 14 بالمئة عام 2011″.

ولكن، وحين تدخّلت الدول لمجابهة الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالغرب بسبب مضاربات البنوك وشركات التأمين عام 2008، قامت بتعويض البنوك لمنع إفلاسها وحمّلت ذوي الدخول المحدودة عبء دفع تلك المكافأة. حركة الأجور سارت سلحفاتية طوال العقود الأربعة الماضية فيما حققت دخول الفئات العليا قفزات لا سابق لها بحيث عادت فجوة الدخل بين الأكثر فقراً والأكثر غنى إلى ما كانت عليه أيام الكساد العالمي الكبير عام 1929. عام 1980، كان متوسط دخل من ينتمي إلى فئة الواحد بالمئة من أغنى الأميركان يعادل 27 ضعف دخل من ينتمي إلى الخمسين بالمئة الأقل دخلاً.

أما الآن فإن دخل هؤلاء المحظوظين يعادل 81 ضعف ما يحصل عليه ابن النصف الأدنى منهم. في منتصف السبعينات من القرن العشرين كان متوسط الدخل السنوي لمن ينتمي إلى الواحد في المئة الأغنى 340 ألف دولار ارتفع الآن إلى مليون دولار، وفي المقابل ارتفع متوسط الدخل الحقيقي للنصف الأدنى من السكان خلال ثلاثة عقود من عشرين ألف دولار إلى خمسة وعشرين ألفا فقط”.

وهذا يعني أن العولمة تسببت باختلالات اجتماعية-اقتصادية يمكن إصلاحها، إذ تعود بعض هذه الاختلالات إلى التحول من سيادة قطاع اقتصادي إلى آخر، وإهمال التبعات الاجتماعية لهذا التحول، كتسريح العمال من الشركات التي تحتاج إلى خبرات ومهارات عالية، وتنحيف شركات أخرى حلت فيها الآلات الذكية محل العمال، وزيادة معدلات الفقر في الدول المتقدمة لا معدلات البطالة. “وكان ممكناً وضرورياً أن تتحمّل الدولة وأرباب العمل تكاليف عملية إعادة تأهيل من فقدوا وظائفهم بسبب تراجع القطاعات الصناعية.

لكن السياسات النيوليبرالية التي أرساها رونالد ريغان ومارغريت تاتشر في الثمانينات من القرن الماضي ليست، ولم تكن، في هذا الوارد. فثمة سوق حرة تغرف منها القطاعات الصاعدة من دون عناء. محدودو الدخل ليسوا عاطلين من العمل، فالبطالة في أدنى مستوياتها منذ عقدين. لكنهم مضطرون إلى القبول بأيّ وظيفة مهما كان الأجر منخفضاً، ومن دون ضمانات ضد التسريح، الذي لا ترافقه تعويضات ضمان اجتماعي أو صحّي. وهذا هو مصدر القلق المستشري في أوساط الأميركان ذوي الدخل المحدود”، حسب الدكتور الخفاجي.

ليس من المؤكد أن سلبيات العولمة غلبت على إيجابياتها، إلا في البلدان ضعيفة النمو، والتي يعود ضعفها إلى نقص التطور الرأسمالي وتفويت الثورة الديمقراطية في كل منها، أكثر مما يعود إلى “الاستغلال الرأسمالي” و”النهب الإمبريالي”؛ إذ للمبالغة في هذين الاستغلال والنهب بعد أيديولوجي، يغطي فساد الأنظمة السياسية وتخلف البنى الاجتماعية والثقافية، ويبرّر الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، كما هي الحال في معظم البلدان العربية ومثيلاتها.

لذك، لا نشاطر مناهضي العولمة اعتقادهم بأن “المارد يعود إلى القمقم” حسب تعبير الدكتور جميل مطر، لأن العولمة من أخص خصائص النظام الرأسمالي أو نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي تصعب إمكانية قيامه واستمراره وتطوره في بلد واحد. هل كان يمكن أن تقوم الرأسمالية وتتطور في المملكة المتحدة، أقدم النظم الرأسمالية، دون بقية الدول الأوروبية، مثلاً؟ بل هل كان يمكن أن تبقى الرأسمالية محصورة في القارة الأوروبية دون غيرها؟

العولمة هي عالمية النظام الرأسمالي أو نمط الإنتاج الرأسمالي، وعالمية الثورة الديمقراطية، بجميع منطوياتها أيضاً، فلا يمكن فصل هذه عن تلك إلا من أجل الوصل. والعولمة، من جانب آخر لا يقل أهمية، هي نمو الشعور بالانتماء الجذري إلى الجماعة الإنسانية، وسمو الرابطة الإنسانية على ما عداها من الروابط، بما في ذلك الرابطة الوطنية أو القومية، ولا فرق. هذا السموّ المتحقق بالفعل، على الصعيد الحقوقي، في أولوية القانون الدولي على القوانين الوطنية، وأولوية الشرعة العالمية لحقوق الإنسان على القيم المحلية.

هذا الشعور المتنامي بسمو الرابطة الإنسانية، لا يزال يصطدم بالدولة القومية، أو الوطنية، وهو ليس بعد قاعدة من قواعدها، لذلك لم تتخلص الوطنية أو القومية بعد من الميول العنصرية الثاوية في أساساتها. وهذا مما يستوجب إعادة بناء العقد الاجتماعي، حتى في الدول المتقدمة.

أجل، إن إعادة الاعتبار للدولة القومية، والعودة إلى الحمائية، وفقاً لمبدأ “أميركا أولاً”، الذي أعلنه ترامب، والموقف من الهجرة والمهاجرين، ومن الإسلام والمسلمين خاصة، ومن الأفارقة ودول الجوار، ومن “القارة العجوز″ والاتحاد الأوروبي.. هذا كله وغيره عودة، بل نكوص إلى أسوأ ما في القومية، وأسوأ ما في تاريخ الدولة القومية، نعني العنصرية، وما تنطوي عليه من استعلاء وتفوق ونزعات عدوانية.

أغلب الظن أن العودة عن العولمة، بما لها وما عليها، صار صعباً من دون تفكك نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي لم يتبلور نقيضه التاريخي بعد، على اعتبار النظم الاشتراكية الآفلة أو الشيوعية الآفلة لم تكن، أو لم تستطع أن تكون، ذلك النقيض. وأغلب الظن أيضاً أن لحظة ترامب قد تفتح مسار تصحيح العولمة. العودة عن العولمة أكبر من يديْ ترامب، وأكبر من يديْ ترامب وبوتين مجتمعيْن، وفقاً لوعود الثورة العلمية التكنولوجية وثورة الاتصالات والمعلومات وثورة التواصل الإنساني، التي لا تزال في بداياتها. فالحدود القومية، التي اختُرِقت مرة، يمكن أن تُخترَق مرة أخرى.

أما أن لحظة ترامب ستخلخل نسق العلاقات الدولية، فهذا محتمل، بل مرجَّح. هنا ينبغي التفريق بين النظام العالمي، أي النظام الرأسمالي،أو الرأسمالية، وبين النظام الدولي أو نسق العلاقات الدولية، على ما بينهما من تداخل، وتأثّر وتأثير متبادلين، بل إن التغيُّر النوعي في النظام الدولي، أو نسق العلاقات الدولية، لا يكون إلا بتغيُّرٍ ما في النظام الرأسمالي العالمي، أو في نمط الإنتاج الرأسمالي العالمي، الذي يتسارع نموه وتطوره، وهما نموّ وتطور لا يخلوان من تراجعات وانتكاسات، ربما بسبب الأزمات الدورية الملازمة للنظام الرأسمالي، وهي أزمات نموّ على كل حال، “الرأسمالية تجدد نفسها”، حسب مقاربة المرحوم الدكتور فؤاد زكريا، وكذلك الديمقراطية.

استعراض السيرة الذاتية للرئيس الأميركي دونالد ترامب ونشاطه الاقتصادي والتلفزيوني والمجالات التي يستثمر فيها، ولا سيما صناعة الترفيه و”رضاعة التسلية”، بتعبير زبينغيو بريجنسكي، قد يساعد في اكتناه جمهوره، الذي يجمع بين نموذج من نماذج النخبة ونموذج آخر على الطرف النقيض، يشكل اجتماعهما نوعاً من اجتماع العنصرية والشعبوية، وهو النّموذج الذي يمكن مصادفته في كثير من الدول الأوروبية، التي تشهد صعود اليمين المتطرف والنازية الجديدة.

في أوساط مثل هذا الجمهور، وفي ظلّ ما وصفناه بالعودة أو النكوص إلى أسوأ ما في تاريخ الدولة القومية، لا تُستغرب إعادة إنتاج الاستشراق الأميركي، أو “اختراع الشرق”، الذي نهل من مناهل الاستشراق الأوروبي، لكنه يختلف عنه من حيث تركُّزه في مجالين أساسيين: العلوم الاجتماعية، والإعلام، وهذا يتناسب مع النموذجين المشار إليهما فوق: النخبة وجمهور الإعلام.

لحظة ترامب لحظة فارقة، على المدى القصير، ولكنها عابرة في تاريخ الرأسمالية وتاريخ العولمة، وذلك لانطوائها على جملة من المفارقات

ولكن النسخة الأميركية الراهنة من الاستشراق تخص المسلمين والعرب أكثر مما تخص غيرهم من “الشرقيين”، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 والتحضير لغزو والعراق واحتلاله عام 2003. ويبدو لنا أن لأولوية “الحرب على الإرهاب الإسلامي” لدى ترامب وظيفة أساسية هي توكيد هذا النوع المُستحدَث من الاستشراق والمتماشي مع حماقة “صراع الحضارات” وأدلوجة الليبرالية الجديدة. ولكن على ترامب أن يفصل بين الاستشراق و”العداء للسامية”، وهما متلازمان في الاستشراق الأوروبي، ومتجذّران في الثقافة الأوروبية المفرطة في مركزيتها وتمركزها على ذاتها، كما بيّن إدوارد سعيد.

يقول إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” (في الصفحتين 435-436) “بدأ ظهور شخصية العربي المسلم في الثقافة الشعبية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، وبصورة أوضح بعد كل حرب بين العرب وإسرائيل، وذلك حتى بعد الاهتمام الشديد الذي بدأ العربي يحظى به في الحياة الأكاديمية وفي عالم تخطيط السياسات ودنيا التجارة والأعمال، وهو ما يرمز إلى تغير كبير في التشكيلات الدولية للقوى، إذ لم تعد فرنسا وبريطانيا تشغلان الموقع الرئيسي على مسرح السياسة العالمية، بعد أن حلت السلطة الأميركية المهيمنة محلهما، وظهرت شبكة شاسعة الأطراف من المصالح التي تربط ما بين جميع مناطق العالم التي كانت مستعمرة وبين الولايات المتحدة”.

في السينما والتلفزيون الأميركيين ترتبط صورة العربي إما بالفسوق وإما بالخيانة وسفك الدماء أو بتاجر الرقيق وسائق الجمال والصرّاف والوغد الجذاب أو بقائد لعصابة لصوص أو قراصنة،أو بالبدوي الذي يملك ثروة لا يستحقها. وأكثر ما يظهر في السينما، منذ عام 2001 في صورة الإرهابي، الذي يهدد حياة الأميركيين ويروَّع نساءهم وأطفالهم.

ما من شك في أن لحظة ترامب لحظة فارقة، على المدى القصير، ولكنها عابرة في تاريخ الرأسمالية وتاريخ العولمة، وذلك لانطوائها على جملة من المفارقات، أشار إليها الدكتور الخفاجي في مقالته بجريدة الحياة اللندية، حيث قال “أولى هذه المفارقات أن رئيس الدولة التي تُعتبَر النموذج الأكثر صفاءً للنهوض الاقتصادي وتحقيق الرفاه اعتماداً على قوانين السوق والحرية الاقتصادية وحريّة انتقال رأس المال بحثاً عن تعظيم الأرباح، يعمل على تقييد هذه الحرية.

والثانية أن رئيس الدولة التي تملك أكبر نسبة من أسهم صندوق النقد الدولي والمتحكمة فيه فعلياً لا توافق على منح قرض لبلد إن لم ينفتح على حرية انتقال رأس المال، لكنّها تقرر معاقبة رأسمالييها إن اتّبعوا قوانين السوق وقرروا الاستثمار في المكسيك أو الهند أو غيرها.

والثالثة أن ينقض رئيس هذه الدولة ما تربّى عليه الأميركيون من أن الحرية السياسية والديمقراطية لا تتحقّقان إلا بتحقّق الحرية الاقتصادية المترادفة، وفق هذا الفهم، مع حرية انتقال رأس المال والعمل. والرابعة أن البلد الذي يفتخر بكونه أمّة من المهاجرين يصوّت لمصلحة بناء سور مع جاره لمنع الهجرة إليه، بل يطالب الضحية بدفع تكاليف بنائه، والخامسة أن البلد الذي تزعم العالم الحر وحماية أوروبا من الخطر الشيوعي، يريد أن يظل زعيماً بشرط أن يتقاضى مقابل زعامته”.

ولم يخطئ من وصف دبلوماسية ترامب بدبلوماسية الصفقة. وفي ضوء ما تقدم، نفترض افتراضاً أن لحظة ترامب عابرة، في التاريخ، نتجت من ترهل الديمقراطية وفساد المؤسسات، وأن العولمة ستجدّد نفسها، مثلما تجدد الرأسمالية نفسها، وتعتني بالجنين الذي يتشكل في أحشائها، حتى تحين ولادته. وبومة منيريفا لا تطير إلا في الظلام.

مفكر من سوريا

العرب

 

 

 

 

مصير القرية الكونية: قراءة في صعود ترامب/ أحمد برقاوي

لا يمكن فهم صعود ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي إلا ثمرة هذا التناقض بين العولمة كمسار يوحّد العالم اقتصادياً وعلمياً وتقنياً ومعرفياً والدولة القومية الإمبريالية.

 

مر العالم بتحولات عميقة وكيفية تؤسس لروح جديد مختلف، حتى ليصعب على العقل أن يقبض عليها ويرصد مآلاتها على نحو مطمئن. فمنذ زوال الدولة السوفييتية وما رافقها من تغيرات في طبيعة العلاقات الدولية وعلاقات القوة ومنذ احتلال العراق وما ولّده من نتائج على مجمل العالم، وحتى انفجار الربيع العربي وما تمخض عنه من تغير في طبيعة القوى المتناظرة والجديد في عالم النفط وأسعاره وإنتاجه وخطوطه والتحول في سياسة الولايات المتحدة بزعامة الديمقراطيين وعلى رأسهم أوباما يعيش العالم نمطاً من الفوضى التي تحتاج إلى عقل استراتيجي كي يمتلكها على نحو نظري.

وليس بخافٍ على أحد من علماء السياسة ومفكريها وصانعيها بأن فقدان الدول الفاعلة، وبخاصة الولايات المتحدة، للريادة في مواجهة مشكلات العالم قد زاد من حدة الفوضى المعيشة الآن. فانزواء أميركا-أوباما عن مواجهة المشكلات التي ولّٰدتها مرحلة بوش الأب وبوش الابن وانشغال دول الاتحاد الأوروبي بأزماتها الاقتصادية الداخلية واتجاه الصين نحو زيادة معدلات نموها الاقتصادي كل ذلك قد ترك المشكلات العالمية، وبخاصة المشكلات الإقليمية في المنطقة، تجري وفق نمط من الصراعات ليس أقلها الصراعات بين القوى غير المتناظرة.

وجاء انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة ليعلن عن تعين جديد لحال العالم اليوم. فكيف نفسر كل هذا تأسيساً على الظواهر السابقة؟ هذا السؤال يحتاج إلى سؤال فلسفي رئيس:

ما هو العالم اليوم من زاوية فلسفة التاريخ؟ وفي ضوء الإجابة عن هذا السؤال يمكن فهم الظاهرة البوتينية.

يمر العالم اليوم وفي هذه المرحلة بحالة هي أقرب إلى حالة الحرب غير المعلنة التي لا تخلو من الأخطار. إنها أقرب إلى حرب احتلال المواقع لاكتساب الهيمنة في حقبة من التاريخ اصطلح على تسميتها بالعولمة. وحين نتحدث عن العالم فإن علينا أن نحدد الدول من حيث فاعليتها ودرجة حضورها في تشكيل العالم، ومستوى الريادة في دورها في عولمة الحضارة من جهة وتشكيلها.

وفي ضوء ذلك فإن هناك اليوم عدداً من الدول الفاعلة بحكم ما تنطوي عليه من قوى اقتصادية وعسكرية وعلمية وتقنية وثقافية أهمها الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية والصين وروسيا واليابان.

فما زالت أميركا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن تحتل مركز الصدارة في عملية تشكيل العالم وإدارة صراعاته. والصين تصعد في المستويين الاقتصادي والعسكري و باتت معها قوة تتسلل دون ضجيج إلى مركز الصدارة.

في حين أن أوروبا العجوز تسعى لاستعادة شبابها ولكن ارتباطها بالولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية يجعلها في وضع التفكير في نوع من الاستقلال عن الولايات المتحدة.

أما روسيا فهي مازالت عملاًقا عسكرياً يتكئ على الإرث السوفييتي ويسعى لاستعادة مكانته في عالم جديد في الوقت الذي تحول إلى قزم اقتصادي. أما اليابان فهي عملاق اقتصادي وعلمي ولكنها قزم عسكري.

وتأتي في الدرجة الثانية الدول الأقل من حيث الفاعلية على مستوى العلم ولكن لم يعد أحد من دول الفاعلية الأولى بقادر على تجاهلها في معركة الهمينة، وهي الهند وباكستان وتركيا وإيران ودول مجلس التعاون الخليجي. وهي دول تعيش مشكلاتها الإقليمية بفاعلية مرتبطة بالدول الأولى.

هناك عدة عوامل تحدد دول العالم من حيث حاضرها ومستقبلها وموقعها أولها العولمة. فالنزوع نحو الهيمنة في ظل العولمة وحلّ المشكلات الداخلية في ارتباط مع حركة العولمة.

ويبدو أن مصطلح القرية الكونية الذي شاع للدلالة على وحدة العالم التي أنجزتها العولمة لم يعد كافيا لفهم مسار العولمة. إذ يبدو أن هناك نزعة يمينية محافظة بدأت في الظهور في بلدان أوروبا وأميركا. نزعة تتجه نحواعادة التقوقع داخل جدران الدولة القومية ومصالحها. وهذا يعني أن أزمة في مسار العولمة كواقع موضوعي باتت تهدد مسار العولمة وتعلق مبدئيا مفهوم “القرية الكونية”.

فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والخطاب الانعزالي لترامب وعودة السلوك العسكري ممثلا بروسيا إلى الحياة ومشكلات أوكرانيا ودول البلطيق وجورجيا والخلاف الياباني الصيني ومشكلات السلاح النووي الكوري والإيراني ومشكلات اللاجئين، كل ذلك من الأمور التي باتت تنعكس على المزاج السياسي بوصفه مزاج مواجهة وليس مزاج دول تعيش في قرية واحدة.

تبدو العولمة اليوم في أزمة تطور تاريخي وهذه أزمة عالمية أولاً وأزمة دول ما زالت تفكر بعقل الهيمنة.

فما هي هذه الأزمة؟ إن الإمبريالية كتعيّن خاص للرأسمالية قد كونت العالم عبر حربين عالميتين. فهي عانت من أزمة تطور و قد نشأت الإمبريالية الألمانية النازية بوصفها تعبيراً عن أزمة اقتسام العالم وما رافقها من فاشية في إيطاليا واليابان ودكتاتورية سوفييتية. العولمة هي رأسمالية جديدة تعيش التناقض مع مرحلة الإمبريالية. فالإمبريالية وحدت العالم مع بقاء الدولة الإمبريالية متحكمة بحركة التاريخ. المشكلة في العولمة بأنها توحد اقتصاد العالم دون النظر إلى الدولة القومية ودون زوال الدولة القومية. فالصين هي دولة متعولمة اقتصادياً ولكنها دولة قومية وهكذا.

الصراعات العالمية تتزايد حول خطوط النفط والغاز مساراتها بل يمكن القول بأن العالم حرب خطوط النفط. وهناك المسألة الكورية الشمالية وسلاحها النووي والبرنامج النووي الايراني ونزوع إيران نحو الهيمنة على البلدان ذات الأقليات الشيعية وتغذية الصراعات الطائفية

ولا يمكن فهم صعود ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي إلا ثمرة هذا التناقض بين العولمة كمسار يوحّد العالم اقتصادياً وعلمياً وتقنياً ومعرفياً والدولة القومية الإمبريالية.

هنا يظهر التناقض التاريخي الخطير بين العولمة والنزوع نحو الهيمنة الذي يولّد أزمة في في مسار العولمة والذي يتخذ صور صعود قوى اليمين المحافظ وصعود الترامبية.

أما من حيث النزوع نحو الهيمنة فما زالت الولايات المتحدة الأميركية تتصدر دول العالم رغم وجود دول تنازعها على ذلك ولكنها لا تشكل قوة تنافسية كبيرة. فحين أتت البيريسترويكا السوفييتية على الاتحاد السوفييتي كقوة عالمية فاعلية، انفردت أميركا بعملية تشكيل العالم.

فالريغينية والبوشية -الأب والابن- مروراً بمرحلة كلينتون حالات طبعت العالم بطابعها منذ ما كان يسمّى بحرب النجوم مروراً باحتلال العراق وانتهاءً باحتلال أفغانستان.

كانت فكرة أميركا القوية القادرة على فعل أي شيء قد سيطرت على عقل السياسة الاميركية ونظّر لها بعض المفكرين السياسيين ممن سمّوا بالمحافظين الجدد.

مع مجىء أوباما بعد بوش الابن، الذي التف حوله المحافظون الجدد، تبنى الاتجاه الاوبامي سياسة مختلفة بل ومتناقضة مع سياسة المحافظين الجدد.

أدت سياسة أوباما خلال السنوات الثماني إلى فقدان العالم لدولة ذات ريادة في الوقت الذي نزعت فيه روسيا نحو استعادة المكانة العالمية عبر الهيمنة على البلدان الممكنة.

وهنا جاءت ظاهرة ترامب لتعيد أيديولوجيا أميركا القوية المهيمنة على العالم، أميركا التي تعيد إنتاج قوتها لتكسر رأس مسار التاريخ الذي حاول أن يجعلها قطباً من بين أقطاب وليس القطب الوحيد.

فعلى المستوى الإقتصادي الترامبية استعادة أميركا لهيمنتها الاقتصادية عبر إعادة إنتاج الدولة الإمبريالية القومية إنتاجاً وسيطرة على السوق ورفاهاً. وعلى المستوى العسكري إعادة إنتاج الجيش النزعة العسكرتارية للدولة القوية. أما على مستوى القيم فإن الترامبية نكوص القيم اللبيرالية-الديمقراطية.

قد تفضي الترامبية إذا ما استمرت إلى إعادت العالم إلى مرحلة الصراع الدامي طلباً للهيمنة، لأن فكرة الدولة المهيمنة لا بد من أن تخلق العداوة نحو الهيمنة. وهكذا يعيش العالم اليوم انهيار العلاقات الدولية القديمة ومساراً نحو علاقات دولية لن تستطيع أن تخرج من مأزقها إلا بصراع دامٍ. ولم تأخذ شكلها النهائي حتى الآن والذي يزداد ضبابية لأن جملة الاحتمالات للسياسة الترامبية غير قابلة للتوقع. والحق فإن العولمة قد خلقت، في مسار تطورها، جملة من مشكلات محلية ذات أثر عالمي لا ندري كيف ستتعامل معها الظاهرة الترامبية؟

يبدو بأن دول الرفاه الأوروبية والأميركية قد وقعت في عقبة استمرار فازدادت معها نسبة العاطلين عن العمل ونسبة الفقراء وبالتالي نسبة الرعاع وهم حزام الفاشية عموما وجمهور ترامب ولوبين وما شابه ذلك.

وتزداد النزعة العسكراتارية الروسية دون أيّ حل لمشكلات روسيا الاقتصادية واللعب على وتر الشوفينية الروسية المعززة بنزعة مسيحية أرثوذكسية وتظهر هذه النزعة في التعامل مع أوكرانيا ودول البلطيق واحتلال القرم وجورجيا وأخيراً مع سوريا.

وتزداد الصراعات العالمية حول خطوط النفط والغاز مساراتها بل يمكن القول بأن العالم حرب خطوط النفط. وهناك المسألة الكورية الشمالية وسلاحها النووي والبرنامج النووي الايراني ونزوع إيران نحو الهيمنة على البلدان ذات الأقليات الشيعية وتغذية الصراعات الطائفية.

لقد أظهرت المسألتان السورية والعراقية آثارهما على النظام العالمي ككل وبخاصة بما ولدته السلطتان الحاكمتان بدعم إيراني من حروب وأصوليات تزيد من حال انتقال التوتر إلى عوالم جديدة وبخاصة في أوروبا، فضلاً عن الصراع بين الدول التي سميتها الأقل تأثيراً كالصراع الهندي-الباكستاني والصراع الإيراني-التركي والصراع على دول آسيا الوسطي والصراع العربي الفلسطيني-الإسرائيلي. وإذا أضفنا إلى هذه الصراعات التي تكفي لخلخلة السلم العالمي الصراع الروسي -الأميركي والصراع الأميركي-الصيني الذي يؤسس له ترامب والصراع الأميركي-الإيراني الممكن أدركنا بأن حركة التاريخ قد تنذر بفاجعة عالمية أو كارثة حضارية وبخاصة إذا ما تحولت الترامبية صورة لسلطات العالم.

لا يمكن النظر إلى التاريخ بوصفه حركة عفوية فحسب إنه ثمرة أفكار في الرأس أيضاً، أفكار تطرح ما يجب أن يكون عليه العالم، وتبرز الكوميديا التاريخية حين تكون هناك أفكار في الرأس تلعب دور المشنقة لإعناق الإمكانات وللحيلولة دون ولادتها في الواقع، أو حين تكون أفكار رأس خال من جدل الإمكانية والواقع والإرادة. ولكن هناك فرق بين تراجيديا تاريخية تحقّق في الواقع ما كان في رحم التاريخ وهي التراجيديا الحقيقية وكوميديا الحمل الكاذب الذي تكون ضحيته الإرادة.

يضاف إلى هذين النمطين من التراجيديا والكوميديا وهم الإرادة الحمقاء التي تعتقد بأنها قد تكون سداً أبدياً أمام مجرى التاريخ، وبخاصة حين يكون المجرى في حال الطوفان. إن الخراب الذي تولّده الإرادة الحمقاء قد يفضي إلى نمط من الإنحطاط الكلي إذا ما كانت تمتلك فضلات قوة متبقّية من إرث عنفها الطويل في قتل أجنة التاريخ.

والإرادة الحمقاء نمط من الاغتراب الجماعي التخريبي، الإغتراب الذي يزيّن لهذه الإرادة تجميد العالم عبر القوة في الوقت الذي لا تكون مهمة القوة هذه سوى تأخير انفجار الحياة.

كاتب من فلسطين

العرب

 

 

هل يصبح العالم ترامبيا/ فادي قدري أبوبكر

المركب الثقافي السياسي الخطابي الذي صعد بترامب إلى الرئاسة، ليس مقتصراً على الولايات المتحدة الأميركية، بل ينتشر لدى فئات واسعة في بلدان أوروبا المتطورة.

 

خلق التوازنات

نناقش في هذه الورقة قضية انتخاب دونالد ترامب وتأثيراته على المنطقة بشكل عام، ليس ترامب كشخص وإنما كأيديولوجيا وتوجه يميني شعبوي سيعيد رسم المشهد السياسي في المنطقة والعالم أجمع.

استخدم ترامب مع انطلاق حملته الانتخابية خطاباً فظاً وعنصرياً يضاهي في مستواه خطاب البارات والحانات، وقد أكسبه هذا النوع من الخطاب تصويت “الرجال البيض الحانقين الغاضبين من تحوّلات العالم من حولهم” الذين يتملكهم شعور “بأن بلادهم تُصادر منهم حتى لم يعودوا يعرفونها”.

وقد استفاد من استهدافه للمهاجرين في تعزيز هذا الشعور، فمع أن الولايات المتحدة دولة بناها المهاجرون، فإن المهاجرين الذين توطّنوا جيلاً بعد جيل ينمّون شعوراً بأنهم سكان أصليون وأن فقراء العالم يتدفقون إليهم ليشاركوهم ثروات توافرت بجهدهم وعرق آبائهم وأجدادهم.

إن هذا المركب الثقافي السياسي الخطابي الذي صعد بترامب إلى الرئاسة، ليس مقتصراً على الولايات المتحدة الأميركية، بل ينتشر لدى فئات واسعة في بلدان أوروبا المتطورة. حيث يجري حالياً الإعداد لجبهة موحدة من أحزاب اليمين لخوض الانتخابات في ثلاث دول أوروبية (ألمانيا، فرنسا وهولندا).

ووفق مارين لوبان المرشحة للرئاسة الفرنسية والتي تمثل رأس الحربة في قائمة الشعبويين اليمينين في أوروبا، فإنه بعد قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب ترامب رئيساً لأميركا فإن عام 2017 سيشهد “صحوة شعوب وسط أوروبا” كما ذهب بعضهم.

وهذا الخطاب لا يعني الأوروبيين وحدهم بل هو رسائل تحذيرية للعالم أجمع، فأوروبا بثقل دولها السياسي والاقتصادي وتاريخها الاستعماري وامتداداتها الثقافية هي أهم مراكز صنع القرار الدولي، بغض النظر عن أميركا وروسيا اللتين لا يمكنهما الانفراد بالمشهد السياسي دون دعم أوروبي يراعي خلق التوازنات ويشكل أرضية تستوعب ردود الأفعال.

زعم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس يوم الأحد الموافق للـ29/1/2017 أنه واضح كوضوح الشمس بأن “الهيكل المقدس في القدس الذي قام الرومان بهدمه كان هيكلاً يهودياً”.

ولا يمكن ترجمة هذا التصريح إلا أنه يأتي في سياق التماهي مع المركب الثقافي السياسي الأوروبي المتشدد. وبدون أدنى شك فإن “إسرائيل” تبتهج لهذا الخطاب الجديد، وستعيد التركيز في خطابها اليوم أكثر من أيّ وقت مضى على يهودية الدولة، مستغلة الظروف المساندة لتنفيذ مشاريعها الاستعمارية الإحلالية.

إن هذه الظاهرة “الترامبية” إن صحّ التعبير تلتقي مع نزعة أخرى قائمة في بلدان كثيرة في العالم، يعبّر عنها ما يسمى عادةً باليمين القومي الذي يتمحور خطابه حول فكرة السيادة والمجال الحيوي للدولة كأيديولوجية نظام سلطوي. وتتجلى هذه النزعة بأوضح صورة في نموذج بوتين وتحولات النظام في روسيا إلى جمهورية قيصرية.

من هنا ومن قناعتي بأن “المتطرفين” من أيّ معسكرين متضادين دائماً ما يتفقون، فإن العالم سيتفق أن يكون “ترامبياً”، ولكن كما أشرت مسبقاً بالمعنى الأيديولوجي والتوجه اليميني والشعبوي، وبما يحفظ مصالح كل دولة وثقافة شعبها ودينها. وعليه سيكون مصير العرب والقضية الفلسطينية رهيناً بشكل هذه الاتفاقات بين القوة الأميركية والروسية وكُبرى الدول الأوروبية من جانب آخر.

كاتب من فلسطين

العرب

 

 

مخاطر الانقلاب على الجوانب الإيجابية من العولمة/ د. خطار أبودياب

لا تنفصل الحقبة الحالية عن تاريخ الولايات المتحدة الأميركية بالذات من المكارثية إلى الريغانية والمحافظين الجدد والأوبامية.

 

ظاهرة غريبة

تبوّأ دونالد ترامب منصب الرئاسة والولايات المتحدة الأميركية أكثر انقساما وقلقا والعالم أقل أمنا وأكثر اضطرابا. وإذا كانت الحقبة الجديدة من تطور العولمة (نحو التصدع أو التهاوي) بدأت مع الأزمة النقدية العالمية في 2008 إلا أن الترامبية التي تمثّل ظاهرة ترتبط بتطور الوقائع الأميركية وهي ظاهرة مستقلة وليست عابرة نظراً لانعكاسها المحتمل على الشمولية الاقتصادية من جهة وعلى التنوع وقبول الآخر في بلد تكون تاريخياً عبر سيول الهجرة والحلم الأميركي الذي داعب مخيلة شباب العالم. زيادة على تداعيات لحظة ترامب لجهة الارتباك في المشهد السياسي الدولي هناك خشية من تغذية التيارات العنصرية والإسلاموفوبيا في أميركا وغيرها.

ترتبط لحظة ترامب بالعداء لحرية الهجرة والعداء للآخر ثقافيا ووجودياً عبر تحبيذ خطاب القطيعة. وبالطبع لا تنفصل الحقبة الحالية عن تاريخ الولايات المتحدة الأميركية بالذات من المكارثية إلى الريغانية والمحافظين الجدد والأوبامية.

ومما لا شك فيه أنه من منظور سياسي وثقافي وفكري فينومنولوجي هناك تفاعل بين تطور النظريات السياسية في العالم وبين الظواهر السائدة في واشنطن. والأدهى في مرحلتنا الحالية لا يتأتى فقط من انهيار نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية والدور السياسي للغرب فحسب، بل من تراجع القيم الديمقراطية والإنسانية.

هكذا سيتركز الاهتمام في الشهور والسنوات المقبلة على مراقبة مسارح النزاعات العسكرية والحرب التجارية في زمن ترامب، لكن دون إهمال الخلفية الثقافية والفكرية والتداعيات المحتملة على الجوانب الايجابية من العولمة خاصة فيما يتصل بالتجمع البشري والتكور الإنساني وفخ انكماش الهويات.

لم يتركّز علم السياسة كعلم مستقل إلا ما بعد الحرب العالمية الثانية وكان للمدرسة الأميركية دور في تطوره واستقلاليته، ومما لا شك فيه أنه نتاج التاريخ (الجذور والمرجع) وعلم الاجتماع، مع الإشارة للصلة مع الأنثروبولوجيا (دراسة الأجناس البشرية ودراسة الأقليات والجماعات العرقية والصراعات العرقية وتطورها)، والإثنولوجيا.

وفي جميع الأحوال يتصل علم السياسة بالقانون والتاريخ الدبلوماسي والعلاقات الدولية، وهذا ما نلمسه من مراقبة تطور التاريخ الأميركي المعاصر والخلفية النظرية لكل حقبة.

ظهرت المكارثية (السلوك الذي يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر دون الاهتمام بالأدلة) في بداية الخمسينات من القرن الماضي أيام الحرب الباردة نسبة إلى السناتور جوزف مكارثي الذي كان الواجهة الأمامية للحزب الجمهوري وجماعة المحافظين الذين ارتبطت أفكارهم برفض التجديد والتخويف من خطر الشيوعية (الخطر الأحمر).

وللوهلة الأولى اقتنع الكثير من الأميركيين أن الشيوعية «دين يريد القضاء على المسيحية». لكن تأثير مكارثي أخذ يتراجع بسبب معارضة شجاعة سياسية وإعلامية فندت الترويج للتآمر وجعلت الرأي العام يميل لعدم التسليم بمقولة الخطر الخارجي على حساب الدستور والحريات.

وعلى مر سنوات الحرب الباردة والقيادة الأميركية للغرب ارتبطت سيطرة اللوبيات المؤثرة (اللوبي النفطي والمجمع الصناعي العسكري خصوصاً) بالحروب والتنظير للتفوق الأميركي. لكن بعد نهاية حرب فيتنام وبدء نيكسون لمرحلة الانفتاح على الصين والتهدئة مع موسكو اتجهت واشنطن نحو الليبرالية الجديدة المتشددة والمنفلتة من كل قيد (الريغانية الملازمة للتاتشرية).

فخلال عهد رونالد ريغان طبقت الإدارة الأميركية سياسة “دعه يفعل” الاقتصادية بحرفيتها. واعتبرت الريغانية أن المبادرة الفردية المتحررة من القيود وحدها المؤهلة لتوفير الازدهار العام. ومنحت فكرة انسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية الأولوية المطلقة. وشكّل خفض الضرائب والتخصيص ورفع القيود الركائز التي نهضت عليها الريغانية.

وطبقت هذه السياسة في نهاية السبعينات من القرن العشرين في الولايات المتحدة وبريطانيا وانتشرت بعد ذلك في معظم بلدان العالم. وتميزت سنوات حكم ريغان بتراجع واضح لدور الدولة في الاقتصاد مما أدى إلى خلل اقتصادي-اجتماعي خطير لم يتمكن بوش من معالجته. واكتشفت الولايات المتحدة أن مواقعها التنافسية الدولية تقهقرت بسبب ضعف البنى التحتية وهزالة النظام التعليمي وعدم الالتفاف حول مشاريع تكنولوجية ضخمة خصوصاً إزاء اليابان وألمانيا حيث تلعب الدولة دوراً هاماً في الاقتصاد.

بيد أن الانتصار في الحرب الباردة أيام حورج بوش الأب والزهو بتركيب العالم وفق وجهة النظر الأميركية أجّل طرح الأسئلة الحيوية إبان ولايتي بيل كلينتون اللتين شهدتا زخما في النمو الاقتصادي، لكن ما قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر حصل تحول نظري مهم داخل الحزب الجمهوري الذي أوصل جورج بوش الابن معتمداً على “المحافظين الجدد”، وهم كناية عن تعبير سياسي فلسفي على قاعدة دينية منبثقة من الفكر الأصولي الإنجيلي ومجموعة متشددة في الحزب الجمهوري ولوبي يميني متطرف، تشكلت منذ ربع قرن حتى جاءتها الفرصة الذهبية لتقود انقلابا في التفكير والسياسة الأميركية وتقبض على مفاصل السلطة وتنظر لتزعّم العالم والترويج لفكرة الإمبراطورية الكونية الجديدة.

ومن دون شك أن الاندفاع الأميركي في حربي أفغانستان والعراق أتى بنتائج عكسية وبدأ سقوط الأحادية الأميركية في إدارة وقيادة العالم. ومهّد ذلك لظهور الأوبامية مع وصول أول رئيس ملوّن، لكن الخطاب الأكاديمي والترويج للسلام مع القيادة من الخلف لم يسفر عن تحسينات في الداخل الأميركي أو على صعيد الاستقرار العالمي.

في كل هذه المراحل من المكارثية إلى نيكسون (وكيسينجر المنظّر والدبلوماسي الكبير) إلى الريغانية والمحافظين الجدد والأوبامية كان العالم عامة والغرب خصوصا يعيش على وقع تداعيات الأفكار والممارسة السياسية الأميركية. ومنذ سقوط الشيوعية كان لما يسمى الحرب على الإرهاب وعلى “الإسلام الجهادي” نصيب كبير في صنع السياسات الأميركية التي كانت دوماً بحاجة لعدوّ نظري وعملي في صياغة سياساتها وخططها الإستراتيجية. ولذا يمكن القول إن إخفاقات حقبة أوباما وانبثاق ما يسمى اختصارا بتنظيم “داعش” (مع ما رافقه من انتشار للإرهاب والإسلاموفوبيا)، كانت من الأسباب الرئيسية المسهلة لصعود ظاهرة ترامب واختراقها.

قبل الحملة الانتخابية الأميركية في عامي 2015 و2016 بدا التخبط العالمي مهيمناً وهناك القليل من الأسباب التي قد تدعو للتفاؤل مثل تجديد اتفاق السلام في كولومبيا أو الانفتاح على كوبا والاتفاق النووي “الناقص” مع إيران. لكن الحكايات المشجعة مثل هذه قليلة ومتباعدة. فالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال كان رمزاً بارزاً لالتزام دوله الأعضاء بالتسامي فوق تاريخهم الحافل بالحروب والصراعات؛ أما اليوم بعد البريكست فنجد أن هذا الاتحاد يسير بحركة بطيئة نحو التفكك.

وإذا ما انتقلنا إلى مناطق أخرى فسوف نجد أنّ الأمل الفلسطيني بدولة يتحول إلى سراب وأنّ سوريا قد تحولت إلى أرض مدمَّرة وأنّ دولاً أخرى مثل الصومال والعراق وجنوب السودان وليبيا.. غارقة في دورات عنف لا تبدو لها نهاية قريبة في الأفق.

وفي قارة آسيا نجد أن المشهد السياسي يتغير بشكل متسارع وليس بالضرورة أن يكون إيجابيا. يضاف إلى ذلك أن الخطوط الحمراء الواضحة التي تساعد الدول على عدم التعدي على المصالح الحيوية لبعضها البعض قد أخذت تتلاشى هي الأخرى. ومع تآكل التقاليد الخاصة بالسيادة تعددت أساليب التدخل في شؤون الدول الأخرى، ناهيك عن مخاطر انحرافات عالم القراصنة الإلكترونيين «الهاكرز»، والأسلحة الإلكترونية والطائرات التي تطير من دون طيار «الدرونز».. وغير ذلك من أدوات القوة الجديدة، نجد أن احتمالات وقوع صراعات بين الدول آخذة في التصاعد ونجد أن المشهد الدولي برمته يشهد صراعات تتزايد باستمرار.

ما قبل لحظة ترامب وإبان الحملة التي مهدت لوصولها لم يعد “العالم الجديد” النموذج الديمقراطي الذي تصوّره توماس جفرسون. لقد تغيرت الولايات المتحدة الأميركية بعمق مع سقوط الكثير من المحرّمات واهتزاز في تركيبتها الاجتماعية والسياسية والطلاق بين شريحة واسعة من الرأي العام مع الإيستابليشمانت (النظام أي المؤسسة).

لا تفاجئنا هذه الأميركا في تمثيل رجل الأعمال دونالد ترامب دور المدافع عن المهمش والأميركي الأبيض في آن معا أو في حجم تمويل حملة هيلاري كلينتون وأثر سلطان المال واللوبيات المختلفة. لكنها تبهرنا وتصعقنا أحيانا بكل ما هو جديد وما يتعدى كل الحدود مع خطط استعمار المريخ أو وضع الحامض النووي (ADN) قيد التداول وغيرها من صرعات جنون العظمة والتفوق عند طبقة من كبار أغنياء التكنولوجيا الذين ينشطون لتغيير المستقبل مع الإنسان الآلي (الروبوتات) والطائرات دون طيار والمدن الجديدة النموذجية والطاقة القابلة للتجديد.

بيد أن الواقع الأميركي لا يبدو ورديا إذ أن أميركا المرئية عن بعد بحكم الدعاية الإعلامية الجبارة وهوليوود هي الأكثر تقدما وتطورا وإبداعا ويصح ذلك لناحية السبق العلمي والتكنولوجي وعدد براءات الاختراع.

لكن الوجه الآخر يتمثل في العنف والجشع وشهوة السيطرة وسهولة القتل (من خلال ترخيص حمل السلاح)، وتملك نسبة كبيرة من ثروات الولايات المتحدة واقتصادها العملاق من قبل أقلية أوليغارشية إلى جانب كارتلات الصناعات الحربية والبترولية وغيرها. ويكمن الأدهى في ازدياد الفوارق الاجتماعية وانعدام المساواة.

لم يتحرك في العشرين السنة الماضية المتوسط العام للأجور بينما تضاعفت المداخيل التي يحتكرها 1 بالمئة من كبار الأغنياء. وترافق ذلك مع تداعيات الأزمة النقدية في 2008 وآثار العولمة السليبة على أوضاع العمال والعاطلين عن العمل وغموض الأفق عند شباب لم يجدوا ضالتهم إلا في الديمقراطي بيرني ساندرز ووصفاته الاشتراكية، بينما يهرب الكثير من ضحايا الانقلابات الاجتماعية والرأسمالية نحو الخطاب العنصري والديماغوجي الذي يمثله ترامب.

بالرغم من المحظورات في صميم الإيستابليشمانت يطغى على السطح خلل ثقافي في أغنى وأقوى دول العالم لأن شعبية ترامب لها صلة بانهيارات منظومة القيم وتداعيات الليبرالية الجامحة وتجدر الإشارة إلى أن ترامب يمثل نوعا من الاستمرارية في الحزب الجمهوري لجهة رفض الهجرة والمطالبة بالدولة القوية أو في العودة إلى نزعة الانعزال عن العالم. لا تشمل نهاية الاستثناء الأميركي الداخل بل سينعكس الأمر على صورة أميركا وحراكها العالمي.

منذ عقدين من الزمن قالت مادلين أولبرايت إن “الولايات المتحدة الأميركية قوة لا غنى عنها في العالم”. ووصل التبشير مع المحافظين الجدد لتسويق الأحادية الأميركية مع التركيز على استثنائية المشروع الإمبراطوري الأميركي. في أواخر القرن العشرين بدت واشنطن وكأنها روما وأثينا وإسبارطة ومقدونيا في آن معا. وبالطبع فإن النجاحات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والعلمية والثقافية كانت تؤكد على استثنائية القوة الأميركية في العصر الحديث.

انتهت اللحظة الاستثنائية للقوة الأميركية مع مغالاة واشنطن في الإدارة الأحادية للعالم بعد نهاية الحرب الباردة والتي تلتها عودة روسيا وصعود الصين والأزمة النقدية العالمية منذ 2008 وما تبعها من انتقال مركز الثقل الاقتصادي نحو جنوب الكرة الأرضية. حتى إشعار آخر لن تُسلّم أميركا بفقدان دورها القيادي مع تعمق نزعة التعالي وصعوبة إصلاح السياسات الأميركية.

ويصرّ البعض داخل المؤسسة الأميركية على التسويق لمشروع إمبراطوري يهدف إلى تثبيت التفوق الأميركي وتحويله إلى سلطة عالمية تفرض سطوتها على القرن الحادي والعشرين (على الأقل). بالطبع تحافظ واشنطن على الكثير من عناصر قوتها عسكريا وسياسيا واقتصاديا وعلميا وثقافيا، بيد أن تشكيل العالم وفق التصور الأميركي والرغبة الأميركية ليس ممكنا في ظل التحولات المتسارعة وخلط الأوراق في اللحظة الراهنة من العلاقات الدولية.

الترامبية تمثل بعد أكثر من ستين عاما عودة شكل من المكارثية إلى الواجهة من جديد عبر نفس الحزب الجمهوري، مع الاختلاف في تسمية العدو في الوقت الراهن حيث يبدو الإسلام في هذه الحقبة بمثابة العدو الأبرز لأميركا.

لكن الترامبية تعكس في العمق المأزق في المسار الأميركي بعد نهاية الحرب الباردة لأن “نهاية التاريخ” لم تحصل ولأن عصر الرخاء والسلام لم يحلّ ولأن التبشير بالديمقراطية أو فرضها لا يمرّان من دون مقاومة ولأن العولمة الشمولية غير الإنسانية أصبحت عبئا على الولايات المتحدة التي قادتها. إزاء هكذا تحديات تتركز أجوبة ترامب على مواجهة الآخر وتحبيذ التمييز العنصري من جديد والانعزال.

مع تمركز دونالد ترامب هبّ إعصار سياسي وقانوني وبرز ذلك مع الصخب في المواقف وكمية القرارات التنفيذية الموقعة وبعضها مثير للجدل، ومن أبرزها قرار منع دخول الأراضي الأميركية على رعايا من سبعة بلدان غالبيتها إسلامية تحت عنوان الحماية من خطر الإرهاب.

ومن الواضح أن ترامب، الذي يريد أن يثبت بدء عهد جديد في واشنطن والعالم وأنه كان يعني ما يقول خلال حملته الانتخابية أو في المرحلة الانتقالية قبل تسلّمه الحكم والذي تطرق سابقاً لاحتمال فرض حظر على المسلمين، استعجل إصدار قراره حول التأشيرات والإقامة من دون أن يستشير بقية المؤسسات ويفحص قانونية القرارات.

في كتابه “روح القوانين” الصادر في عام 1748 أرسى الفرنسي شارل مونتسكيو نظرية فصل السلطات ومن أهم مبادئها ” السلطة تحد السلطة”، واليوم تبرز أهمية هذا المبدأ في الولايات المتحدة الأميركية حيث تنبري السلطة القضائية للوقوف في وجه سيد البيت الأبيض الجديد لكي لا تخالف قراراته التنفيذية الدستور الأميركي ومنظومة قيمه التي تحرم التمييز على أساس الدين والجنسية.

في النظام الرئاسي الأميركي لا يعدّ الرئيس طليق اليدين وهو مقيد باحترام لعبة المؤسسات ابتداء من حزبه إلى الكونغرس المكوّن من مجلسي النواب والشيوخ. وفي هذا النظام الفيدرالي تمثل المحكمة العليا رأس السلطة للحكم في دستورية القوانين وشرعيتها.

تبعا للارتباك الذي حصل داخل المجتمع الأميركي الذي يعاني من انقسامات تهدد تعدديته وتذكّر بمراحل التمييز العنصري لا تبدو مهمة ترامب سهلة في إدارة نظام ديمقراطي عريق بمراسيم وقرارات تنفيذية غير مدروسة تضرب صورة الولايات المتحدة البلد الذي تكوّن من المهاجرين وقدم نفسه زعيماً للعالم الحر في فترة الحرب الباردة.

بالفعل يهز “الإعصار” دونالد ترامب الغرب ويهدد وحدة موقفه. من ترحيب الرئيس الأميركي بالبريكست وتأييده الضمني لإضعاف أو انفراط عقد الاتحاد الأوروبي يخشى الغرب الأوروبي من التغريد المنفرد للغرب الأميركي إذ لم يتردد ترامب عن التشكيك بحلف شمال الأطلسي دعامة الغرب العسكرية .

كما يتنوع “الشرق” جغرافياً وسياسياً وحضارياً ويختلف من أدناه إلى أقصاه يرتسم في الأفق تنوع مماثل في “الغرب” بمعناه الأوسع مع احتمال تحلل الرابطة الغربية بجناحيها الأميركي والأوروبي. تطالب الكثير من الأوساط الأوروبية بتعويض احتمال انشطار الغرب السياسي “حتى لا يضيع الغرب بالكامل كنموذج وقدوة لحقوق الإنسان والحرية والكرامة ودور الفرد”.

بيد أن هذا النموذج يواجه ضغوطاً داخل أوروبا من قبل الحركات القومية المتشددة والشعوبية في فرنسا وهولندا وألمانيا التي يمكن أن تحرز نجاحات تدفع للمطالبة بالخروج من الاتحاد الأوروبي. ولذا ترتبط حيوية الغرب الأوروبي وموقعه على الساحة الدولية بقدرته على الدفاع عن نفسه إزاء التوجهات الأميركية الجديدة ولا يمكن ذلك من دون إعادة بلورة المشروع الأوروبي بصيغة أكثر تماسكاً. كما يبدو من المهم رفض الاستشراق العنصري في أوروبا وضرورة اشتراك النخب العربية والمسلمة في السجال الفكري الدائر حول الإسلام وتطويره.

في مواجهة المكارثية الجديدة والحملة ضد الإعلام وإشهار سيف التخوين يمكن أن تحصل صراعات مفتوحة خالية من القواعد ومن الموانع في سبيل تحقيق القوة والنفوذ السياسيين، وهي صراعات ستشكّل من دون شك تهديداً خطيراً للنظام الدستوري والاستقرار الداخلي في الولايات المتحدة.

أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس

العرب

 

 

كيف يفكر ترامب/ رشيد غويلب

أميركا ترامب تريد أن تصبح وبالعسكر أيضا الدولة الأولى ومن دون منازع، لكي تحسم النزاعات لصالحها. وهذا ينسحب أيضا إلى مجال السلاح النووي الذي يريد ترامب التوسع فيه.

 

إن أيّ محاولة لفهم التأثيرات السياسية لانتخاب الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، وما قام به منذ تنصيبه في العشرين من يناير الماضي تستوجب إلقاء نظرة على التوازنات التي كانت قائمة قبل بدء الانتخابات التمهيدية في الحزب الجمهوري، التي أوصلت في النهاية ترامب إلى البيت الابيض.

لقد شهد توازن القوى على الصعيد العالمي تحولا تمثل في ارتفاع حصة بلدان مجموعة البريكس، في العشرين سنة الأخيرة إلى 31.9 من الناتج الإجمالي المحلي العالمي، أي أن حصة هذه البلدان تضاعفت. وعلى أساس معدلات القوة الشرائية، وحسب معطيات صندوق النقد الدولي، فإن الصين قد تجاوزت الولايات المتحدة الأميركية، ويتوقع الصندوق أن الهند ستدفع بالولايات المتحدة، في عام 2050 إلى المرتبة الثالثة، تأتي بعدها إندونيسيا ثم البرازيل والمكسيك. وعلى الرغم من ضرورة توخي الحذر مع التوقعات المستقبلية، إلا أنه من الواضح أن بلدان الجنوب في طريقها لتجاوز بلدان الشمال التي تصدرت المشهد الاقتصادي منذ انطلاق الثورة الصناعية.

ومن البديهي أن هذه البلدان لا تنوي مغادرة مواقعها، وتستخدم كل الوسائل للدفاع عنها، وفي المقدمة تأتي قوة الردع العسكرية، التي تحتل، وفي زمن التحولات التي نشهدها، موقعا مركزيا في خطط سياسيي الغرب المتنفذين، كما أنها لم تكن غائبة عن أذهانهم. فمن “عقيدة بوش الابن” في عام 2002 إلى خطاب أوباما أمام خريجي أكاديمية ويست بوينت في عام 2014 والتي اعتبر فيها القوى التي تهدد المصالح الحيوية لبلاده، والتي لا يستبعد مواجهتها عسكريا هي الإرهابيون، روسيا، والصين على التوالي. وقد سارع حلفاء الولايات المتحدة في الغرب إلى التأكيد على صحة ما ذهب إليه حليفهم الكبير.

أميركا أولا

لقد استمر تزايد وزن بلدان الجنوب، إلا أن هناك متغيرات يمكن رصدها وتتمثل بالتوجهات الجديدة التي أعلنها ترامب منذ توليه السلطة الفعلية والمنطلقة من شعار “أميركا أولا”، الذي يؤدي عمليا، حسب ترامب إلى إخضاع كل الصراعات العالمية لمعيار وحيد هو مصلحة الولايات المتحدة الأميركية. وهو في الواقع ليس بالأمر الجديد، ولكنه كان يمرر تحت غطاء دعائي هو الدفاع عن القيم لتغطية سياسة المصالح النافذة. وقد تحول الآن إلى خطاب رسمي مباشر. وحقيقة ما تقصده حكومة المليارديرات والجنرالات بزعامة ترامب هو مصالح الطبقة المتربعة في قمة النظام السياسي. ولعل الجديد هو إعلان ترامب أن حلف الناتو عفا عليه الزمن ولم يعد ضروريا، وأن الاتحاد الأوروبي ميدان لممارسة الاستغلال من قبل رأس المال الألماني.

وتجسد ذلك عمليا بوصف ترامب الصين بالعدو الرئيس، وكانت إدارة أوباما قد طرحت الاهتمام بمنطقة الباسيفك باعتبارها ورقة رابحة. وترامب يدفع بهذا التوجه إلى المقدمة، ولكن مع تغيير مهمّ هو الموقف من روسيا. وهنا يعيد ترامب إلى الواجهة إحدى استراتيجيات الحرب الباردة، باعتماد عرقلة التعاون الوثيق بين الصين وروسيا، التي كانت دوما إحدى ركائز الاستراتيجية الأميركية في إدارة الصراع على المصالح منذ اندلاع الحرب الباردة في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين، بما في ذلك توظيف التقاطعات الفكرية بين الحزب الشيوعي السوفييتي والحزب الشيوعي الصيني حينها. واستمر هذا النهج أيضا حتى في عهد إدارة أوباما.

يحتاج ترامب روسيا كشريك لضمان مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ويحتاجها في عملية مكافحة الإرهاب. وهناك في الواقع رغبة مشتركة بين البلدين فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب. وينطبق الشيء ذاته ببناء “علاقات شراكة” في السياسات المتعلقة بالطاقة، وخصوصا النفط والغاز، ومن هنا جاء اختيار تيلرسون مدير شركة إكسون، اكبر شركات الطاقة في العالم لحقيبة الخارجية. وهذه الحاجة الأميركية تتقاطع مع توجهات ألمانيا ومن يدور في فلك سياستها من بلدان غرب أوروبا، وبهذا سنشهد موقفين تجاه روسيا: موقف الولايات المتحدة وهي تسير باتجاه التنسيق معها، وموقف ألمانيا الناتو الساعية لتوتير الأجواء وتصعيد سباق التسلح معها. ومن وجهة النظر الأميركية هناك إمكانية لإشغال روسيا والاتحاد الأوروبي ببعضهما البعض، عبر الدخول في سباق للتسلح وعسكرة العلاقات فيما بينها. ويمكن لذهنية ترامب أن ترى في ذلك صفقة جيدة.

التغيير الثاني في السياسية الخارجية الأميركية يتعلق بالشرق الأوسط. ويكرر الرئيس الأميركي الجديد باستمرار وبلا كلل، إنه يريد وبالتعاون مع روسيا الانتصار على ما يسمّيه العدوّ في المنطقة ويعني به داعش. ومن المتوقع أن تلتقي الولايات المتحدة وروسيا في هذا الموقف أيضا، وسنشهد تراجع إدانة النظام السوري في وسائل الإعلام، ولكن مع هذا هناك الكثير من الأسئلة المتعلقة بالتنسيق الموعود لم تحلّ بعد.

المشكلة التي ستزداد تفاقما بسبب سياسات ترامب هي الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتحديدا دخول حلّ الدولتين نفقا مظلما. لقد أدان مجلس الأمن الدولي سياسة الاستيطان الإسرائيلية، وبهذا أكد على حق الفلسطينيين في قيام دولتهم المستقلة. وقد وصف ترامب القرار الأممي بالمميت. والسفير الأميركي في إسرائيل يريد نقل سفارته إلى القدس، باعتبارها عاصمة “إسرائيل التاريخية”، وهذا الموقف يمثل عمق التقاطع بين طرفي النزاع، فالفلسطينيون متمسكون بالقدس عاصمة لدولتهم المستقلة المنشودة. ومن المفيد الإشارة إلى أن أحد كبار مستشاري ترامب وزوج ابنته كوشنر، هو أحد الممولين الرئيسيين للاستيطان غير الشرعي في المناطق الفلسطينية.

إن الصراعات في الشرق الأوسط تقرّب المسافات بين الولايات المتحدة وروسيا، بشكل يجعل خطر التفريغ العسكري للأزمات قريبا. ولا يمكن لحرب كهذه أن تبقى محلية، لأنها تتعلق بأهم منطقة تختزن المواد الخام، وخصوصا النفط والغاز، فضلا عن طرق النقل الحيوية، ومواقع الإنتاج. وهناك حقيقة قديمة لا بد من تأكيدها مجددا وهي أن الصراع في الشرق الأوسط هو صراع من أجل الهيمنة العالمية، وسوف لن ينحصر ببلدان المنطقة، بل سيتحول إلى صراع قاري، بين الناتو وروسيا في بلدان أوروبا الشرقية.

ينمو رفض العولمة الفعلية من قبل الخاسرين الحقيقيين والمزعومين من تطبيقاتها العملية، ويتصاعد الحقد ضد كل ما هو أجنبي، مصحوبا بالتحوّل نحو مشاريع اليمين الفاشية التي يطلق عليها للتخفيف تسمية اليمين الشعبوي.

ويتعرض مفهوم “الدولة التكاملية”، أي النظام السياسي الذي يتشكل عبر الحدود القومية، ويحلّ التباين الدولي بشكل جماعي، إلى الضغط، أو يعاد النظر في الكثير من جوانبه. وتظهر إلى السطح النزعة الحمائية، ورفض الغرباء، وعودة وانتشار شعار “شعبنا أوّلا” في بلدان رأسمالية مهمة، بدءا من الولايات المتحدة الأميركية حيث ترامب يفوز بالانتخابات رافعا شعار “أميركا أولا”، معلنا التمييز الواضح ضد الأقليات العرقية والدينية والثقافية. وسبق هذا الحدث نتيجة الاستفتاء بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكان الدافع الرئيس وراء هذه النتيجة هو رفض حرية تنقل المواطنين بين الدول الأعضاء في الاتحاد، والذي كان نصيب بريطانيا منه كبيرا نسبيا، وكذلك إمكانية توزيع اللاجئين على بلدان الاتحاد على أساس آلية تقرها مؤسساته.

ومن المتوقع أن يشهد عام 2017 عام الانتخابات في بلدان أوروبية مهمة صعود اليمين المتطرف بزعامة العنصري فلدرز في هولندا، حتى وإن لم يتمكن من تشكيل الحكومة، ووصول اليمينية الشعبوية ماري لوبان إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية، وفي ألمانيا يتوقع أن يدخل حزب اليمين الشعبوي المعادي للأجانب “البديل من اجل ألمانيا” البرلمان الاتحادي، وبنسبة تزيد على 10 بالمئة، فإن كل هذه التوقعات إن تحققت ستعزز دور الحركات العنصرية الشعبوية في البرلمانات والحياة السياسية الأوروبية.

ما وراء الاتجاهات القومية؟

إن سياسة أميركا أولا لسيت حمائية فحسب، أي أنها تحاول تحقيق مصالح قومية على حساب الدول الأخرى، بل تحتوي ضمنا توظيف العدوان العسكري أيضا. إن أميركا ترامب تريد أن تصبح وبالعسكر أيضا الدولة الأولى ومن دون منازع، لكي تحسم النزاعات لصالحها. وهذا ينسحب أيضا إلى مجال السلاح النووي، الذي يريد ترامب التوسع فيه. يقول ترامب “نحن في الولايات المتحدة الخاسرون في العولمة الراهنة. ونريد الخروج من هذا الوضع. سوف نلغي اتفاقات التجارة الحالية مثل اتفاقية تافتا، ولا نوقع على اتفاقيات التجارة الحرة الجديدة مع الاتحاد الأوروبي، وكندا.

وسوف نوظف كل وسائل الضغط التي نملكها، لتغيير العلاقات الدولية لصالحنا. ولا نستثني توظيف الجيش والحرب لهذا الغرض”. إن عقيدة ترامب حمائية عدوانية على طول الخط. والقوة بالنسبة إليه تحدد قواعد اللعبة. إن ترامب واحد من صقور الإمبريالية الذين لا تردعهم كوابح الديمقراطية الأميركية. وفي برنامجه السطحي جدا وضع التسلح النووي والتقليدي في مركز اهتمامه. فهو يريد التوسع في بناء أنظمة الصواريخ الدفاعية وجعلها منيعة. ترامب شن الحرب علانية، ويهدد بعودتها كوسيلة طبيعية في فرض السياسات. وعلى هذا الأساس هناك مجموعة من الأسئلة من الضروري تفحصها منها:

1 – هل يعني شعار ترامب “أميركا أولا” إعطاء الأولوية لتفضيل رأس المال الأميركي في إطار الهيكلية المعولمة لرأس المال العابر للحدود؟ هل يريد ترامب من تصعيد الصراع التنافسي حول الاستثمارات والأسواق المعولمة التدخل الغاشم لصالح رأس المال الأميركي؟

2 – في الولايات المتحدة، كما هو الحال في غيرها من البلدان المتقدمة، تتفجر التناقضات بين رأس المال الذي يخدم بشكل رئيسي السوق المحلية، والشركات العابرة للحدود التي تملك ميدان الاستغلال العالمي. ولذلك من الضروري تفحص إلى أيّ مدى يمثل ترامب مصالح رأس المال الأميركي المعتمد على السوق المحلية بالضد من الشركات الفاعلة عالميا، وكيف يتم في المستقبل القريب موازنة هذا التناقض في المصالح. وعلى أساس هذه الموازنة تم تشكيل الكابينة الوزارية، حيث يجتمع ممثلو كلا الاتجاهين وفي المقدمة منهم مشاهير رأس المال العالمي ممثلا بشركة غولدنمان ساكس.

إن الشعبوية اليمينية، وبقدر تعلقها بالدعم الجماهيري في البلدان الصناعية المتقدمة هي حركة الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى التي يتعمق في سياق العولمة انخفاض مستواها المعيشي، والتي لا ترى آفاقا لمستقبلها في هذا النظام. والأساس الاقتصادي للتردي الاجتماعي لهذه الفئات يعود إلى نقل الشركات العابرة للحدود الوطنية، في سياق العولمة، مواقعها الإنتاجية إلى بلدان الأجور المتدنية. ومن هنا يجري الحديث عن”De-industrialization” في البلدان الصناعية، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة. ولذلك فإن بلدانا مثل الصين والهند والمكسيك، لم تعد سوى ورشة عمل للاقتصاد العالمي، بل تأخذ دورا متزايد في الإنتاج الرقمي والعمليات الاقتصادية الأخرى.

إن نظم التعليم في الصين والهند مهيأة لتلبية متطلبات الصناعة الحديثة بشكل أفضل من بلد صناعي متطور جدا كألمانيا. والخوف من المراوحة، ومن مستقبل مادي واجتماعي سيء ينتقل من الفئات الدنيا للطبقة الوسطى إلى فئات الطبقة العليا. وهذا يؤدي إلى استمرار تعزيز دور اليمين الشعبوي وبالتالي الميل إلى العقيدة الحمائية ويعمّق التناقضات باتجاه الحروب. والنخبة السياسية السائدة تقترب من هذا المسار اليميني.

والأحزاب والمؤسسات السائدة تستمر في تحولها نحو اليمين، وهذا ما تشهده العديد من البلدان الرأسمالية المتقدمة في أوروبا. ومن وجهة نظر الرأسمال الكبير المعتمد في الداخل والخارج على التعامل العابر للحدود (فوق القومي)، تطرح المعضلة بالشكل التالي: إن وظيفة الدولة هي العمل كلجنة لمصالح رأسمالنا. من جانب آخر يدفع هذا الواقع المزيد من المتضررين إلى المطالبة بالتغيير. إن علاقة النخب السياسية بمصالح الرأسمال ذيلية، ولكنها مجبرة على مراعاة صناديق الاقتراع.

ورأس المال العابر للحدود يفضل سياسة تبسيطية قائمة على التجارة الحرة للسلع ورأس المال. ولكن مع أخذ تحقيق الأكثرية في صناديق الاقتراع بنظر الاعتبار، سيثبط تأثير التدابير المتخذة لتعزيز الأرباح في السياسة المالية والتجارية لصالح تدابير الحماية القومية. ويستطيع رأس المال العابر للقارات العيش أيضا مع السياسات الحمائية. وعندما يبذل كل بلد قصارى جهده لتحقيق أفضل شروط الاستثمار، كما تحاول الولايات المتحدة الآن تحقيقه مع ترامب تبدأ المشكلة، وعندما تحاول الولايات المتحدة توظيف قدرتها الشرائية العالية لإغلاق أسواقها، أو تجعلها مكلفة، هنا سنشهد كفاح رأس المال العابر للحدود لإملاء السياسات، خصوصا في البلدان ذات القدرة الشرائية العالية. وستحدث توترات بين النخب السياسية ورأس المال العابر للحدود فأحدهما يريد حرية الوصول إلى السوق وتحقيق المبيعات، والآخر يحتاج الحصول على أكثرية الأصوات.

ما تقدم يثير المخاوف بشأن المرحلة المقبلة من السياسة العالمية. رأس المال العابر للحدود ووكلاؤه السياسيون سيجدون أنفسهم تحت ضغط كبير فيما يتعلق بتحقيق الهيمنة على الموارد العالمية، الأقاليم، وطرق النقل البحري، وفي الوقت نقسه يتفجر الصراع بين الوحدات السياسية، بشأن كيفية توزيع فائض القيمة المتحقق عالميا بين منتصري العولمة. إن العالم يسير في اتجاه أوقات عصيبة، ستشهد خطر صدامات سياسية صعبة، ونزاعات مسلحة.

مخاوف غير واقعية

إن دفع الخوف من المهاجرين إلى مستويات عالية، والنظر إليهم باعتبارهم أدوات الإرهاب، الذي يشكل، وفق استراتيجيات الغرب العسكرية الخطر الأكبر، إضافة إلى فوبيا معادة الإرهاب توفر غطاء شرعيا لتفكيك الحقوق الديمقراطية في الداخل، وأساسا أيديولوجيا لتسريع وتيرة التسلح وإشعال الحروب في الخارج.

لقد أوجدت سياسات الليبرالية الجديدة أرضا خصبة لازدهار اليمين الشعبوي. وحولت تلك السياسات مجاميع سكانية بعينها إلى شماعة لتعليق نتائج الأزمة المالية-الاقتصادية، وصرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية الكامنة في جوهر النظام عن التردي الاجتماعي والاقتصادي المنظم الذي تعيشه البلدان الصناعية المتقدمة، والذي انعكس في تصاعد البطالة ومعدلات الفقر، وانعدام في قواعده للمستقبل. إن تصوير ثراء النخبة على أنه نتيجة طبيعية لحركة السوق، أو أنه إرادة إلهية لا يمكن المساس بها، دفع الأوساط الاجتماعية الأخرى إلى الصراع على الفتات.

وبقيت الليبرالية الجديدة واليمين المتطرف ألوانا متناغمة يغذي بعضها البعض. ولهذا نشهد صعود الذين يوظفون غطرسة نخب السلطة التقليدية ليحلوا محلها. وقد جاء فوز ترامب ليعطي زخما جديدا لأحزاب اليمين الشعبوي في أوروبا، وهي تدخل عام 2017، عام الانتخابات العامة في كل من هولندا وفرنسا وألمانيا على التوالي. وشكل انتصار ترامب أيضا رافعة لصعود قيم التعصب والانغلاق، وتعزيز الخوف من الآخر.

وبالتالي فمن الخطأ النظر إلى ترامب باعتباره عتلة ممكنة للتوازن الدولي. إنه يؤجج الصراع في آسيا والشرق الأوسط ويسعى لتعزيز سيطرته العسكرية هناك. ويدّعي توفير الحماية ولكنه في الواقع لا يطورها. ويوظف مخاوف التدني الاجتماعي، لخدمة وتصعيد الاستياء العنصري. ولا يهاجم مصالح الأثرياء، ولا يعمل على خلق شروط هيكلية لمزيد من العدالة الاجتماعية، وهو يلتقي مع أحزاب اليمين الصاعدة في أوروبا في تتبنى برامج الليبرالية الجديدة الاقتصادية.

خإن أحزاب اليمين التقليدي الساعية إلى الحفاظ على مواقعها في السلطة استعارت خطاب اليمين المتطرف وشعاراته لتحقق مكاسب انتخابية في مواجهة منافسيها من قوى الوسط واليسار، هذا ما فعله ساركوزي في حملته الانتخابية عندما طالب بطرد الغرباء، وكذلك المحافظ ديفيد كاميرون الذي استعار خطاب اليمين المتطرف، وقاد بريطانيا بالنتيجة إلى الاستفتاء الذي أخرجها من الاتحاد الأوروبي، وأطاح بحكومته أيضا.

ومنذ الانتصار على الفاشية شهدنا محطات عدة لصعود اليمين المتطرف، أو ما يعرف بالنازية الجديدة، حدث هذا في أعوام 1946، 1949 في ألمانيا وإيطاليا. وشهد عقد الخمسينات من القرن العشرين صعودا لليمين المتطرف الفرنسي، وصعودا مماثلا لهذا اليمين في عام 1970 في البلدان الأسكندنافية. وفي السنوات الأخيرة تواصل مسلسل صعود اليمين المتطرف ليتحول إلى خطر حقيقي يفرض أخذه بجدية.

ولكن من الضروري أن يواجه على أرضية مراجعة نقدية لأداء قوى المجتمع الحية، والتركيز على جوهر الصراع الاقتصادي الاجتماعي، وعدم الخضوع لهستيريا شعارات اليمين الشعبوي والمخاوف التي تثيرها، ففي نهاية المطاف ما صرح به ترامب وأقدم عليه ليس جديدا، ومراجعة للسياسات التي تبناها العديد من أسلافه في البيت الأبيض تؤكد هذا الاستنتاج. وكذلك اتساع حركة الرفض والاحتجاج ضده، وخسارته لمواجهات قضائية تؤشر على أن المؤسسات المدنية والتراكم الذي صنعه نضال أجيال من البشر قادر على ردع هوس الصقور.

كاتب من العراق

العرب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى