صفحات مميزةفواز حداد

ملهاة القانون المأساوية في سوريا


فواز حداد

تنتشر في شوارع وسط العاصمة دمشق والأطراف القريبة منها إعلانات طرقية، يمولها رجال أعمال سوريون، عنوانها العريض «أنا مع القانون»، ملحق بها عناوين فرعية تختلف من إعلان لآخر: «هادئ أو متوتر» «متشبث أو متساهل» «متفائل أو متشائم» «كبير أو صغير» «تقليدي أو عصري».. الخ، بحيث أنها لا تترك مجالا للمواطنين إلا ليكونوا مع القانون على الرغم من اختلاف طبائعهم، أو ظروفهم النفسية ووجهات نظرهم وأمزجتهم وشرائحهم العمرية؛ والغاية تذكيرهم بسيادة القانون، لا سيما أننا في بلد مستهدف لا ينبغي أن يترك لمخططات المتآمرين أو لعبث العابثين.

يستلفت النظر ما أظهره بعض رجال الأعمال السوريين من غيرة على القانون، إضافة إلى الكرم والأريحية، وما تحلوا به من سداد رأي أخطأ هدفه في هذا المنعطف الحرج، بدعوة أبناء الوطن لئلا تغريهم المظاهرات التي تضرب عرض الحائط بالقانون. فالمحتجون حسبما يرى رجال الأعمال، يخرجون من دون إذن ولا رخصة، يطلقون هتافات تدعو في الظاهر إلى الحرية والوحدة الوطنية، وفي الباطن إلى الفوضى والتشرذم. وهي حالة شديدة الخطورة تشكل تهديدا للاستقرار وللقانون، تتطلب إيقافها والتصدي لها. فجرى استنفار الدولة لأجهزة الأمن ومعها الجيش، يؤازرهم متطوعون من الحزب وعاملون في مؤسسات الدولة، إضافة إلى جيش غير نظامي بات يعرف بـ«الشبيحة». هذه الإعلانات البريئة تدعو للتساؤل، مثلما تدعو إلى الريبة، فهي صادرة عن متضامنين مع النظام، ليس عسيرا اتهامهم بأنهم تمتعوا بامتيازات سمحت لهم بأفضليات لم تحقق المساواة مع غيرهم من المواطنين، جمعهم تواطؤ سري كان معروفا مع شركائهم من رجال في النظام استغلوا نفوذهم الوظيفي والأمني، وجنوا معا ثروات أسطورية يشهد عليها ما يملكونه من أموال في داخل البلاد، أو مودعة خارجها. المستغرب دعوتهم إلى الالتزام بالقانون، بينما هم في دائرة الشبهات من القانون بالذات!

بينما يدل تاريخ الأجهزة الأمنية، حماة القانون والساهرين على تنفيذه، على أنهم لم يتقيدوا به، طوال عقود سابقة، خلال فترة عصيبة مر بها الوطن، بل امتطوه وأهدروه، واستغلوه لمصالحهم الشخصية أسوأ استغلال بالمتاجرة بالموقوفين والمسجونين والمحكومين بأحكام طويلة أو بالإعدام. وساوموا الضحايا وأهاليهم، على حرياتهم والإفراج عنهم، إلى حد أنهم كانوا يقبضون ثمن إبلاغهم إن كانوا أمواتا أو على قيد الحياة. المؤلم أن عمل العدالة السورية الحالية لا يطالهم لأنهم يعملون تحت ظل قانون آخر، لا يشبه أي قانون في العالم ما زال ساري المفعول، أباح لهم استعمال عنف منفلت من الضوابط بلا كابح ولا حدود، ومن غير مساءلة.

أما الجيش درع البلاد، فكُلف مواجهة أزمة سياسية غير مؤهل لها ولا ضمن مهامه، فهو لا يتعامل بالقنابل المسيلة للدموع أو الهراوات الكهربائية ولا الرصاص المطاطي، بل على دراية باستخدام الأسلحة الخفيفة والثقيلة. فجابه الاحتجاجات في المدن والقرى، بالرصاص الحي والقنابل والمدافع الرشاشة. مما أدى إلى عكس المرجو من الجيش الوطني حماة الديار، إذ لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يقتل أبناء الوطن بيد جنود الوطن. والأخطر هو ما سيؤدي إليه من فقدان الشعب الثقة بجيشه.

يشارك في القمع ويشكل إحدى ركائزه الأساسية، عصابات «الشبيحة» وهم في أصولهم الأولى، جماعات خارجة عن القانون من أصحاب السوابق الجرمية، تعاملوا بالممنوعات من التهريب إلى القتل المأجور، كانوا ملاحقين من أجهزة الأمن، واليوم يسهمون بالقسط الأكبر من القمع والأشد وحشية وهمجية في التنكيل بالمتظاهرين وإزهاق الأرواح.

دولة القانون، هذا ما يريده السوريون فعلا، لكن في هذا الظرف العصيب، هناك مقدمات كثيرة لا بد من الإلحاح عليها، إحداها عدم استخدامه ذريعة للقفز فوقه. وبالتالي ما يستفز في هذه الدعوة، ليس أنها غير موجهة إلى الجهات المقصودة، وإنما إلى المواطنين المنصاعين أصلا لنواهي القانون ولتجاوزات السادة من رجالات النظام. الأمر المفروغ منه أن الشعب كان في حالة طاعة سواء كانت قسرية أو اختيارية، امتثل لها أو أجبر عليها بدعاوى قومية ووطنية، وإذا كان قد انتفض فلأن لديه مطالب مشروعة وحاجات لم تلب، وحقوقا أساسية سلبت منه، وليس احتجاجا على القانون، بل ضد الذين عبثوا به. والسؤال الذي يستدعي نفسه، ألم يكن من الأفضل لرجال المال والأعمال ألا يعطوا الشعب درسا هم الأحوج إليه؟

القانون في سوريا، مأساة مبكية من جانب، وملهاة مضحكة من الجانب الآخر، ما دام أصحاب الإعلانات الخيرية يتناسون أن العدالة هي موضوع القانون، الضامن لتعايش الحريات، وتكافؤ الفرص، والمحدد لحقوق المواطن وواجباته، وتأمين النظام والسلام في الدولة. هذا القانون لا يصح الغرض منه، إلا بسريانه على الجميع من دون استثناءات. وإذا تأملنا القانون المكتوب نجد غيابا شبه كامل له على الأرض، والأسوأ أن الداعين إلى التقيد به والساهرين على تنفيذه، أول الخارجين عنه. بينما المسؤولون عنه، يتحكمون به، بغية خرقه والتلاعب به. أما الذين يطبق عليهم، فمحرومون من الحقوق التي يمنحها لهم القانون نفسه.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى