صفحات الثقافة

ممالك الأحلام/ إبراهيم صموئيل*

 

 

في لحظة يبدو للمرء أن ما من غاية لأحلام وآمال الأدباء والفنانين والمفكرين العرب التي شعت في قلوبهم ورؤوسهم سوى أن يحملوها سنوات حيواتهم، ويعبروا عنها في أعمالهم وكتاباتهم، حتى إذا ما قضوا تخلفت عنهم، وظلت معلقة لكأن الفضاء العربي ما وجد إلا لتعليق الأحلام المهيضة وأرجحتها فوق رؤوس الأجيال!

أشاد المبدعون عمارات وممالك وقلاعا بهية وضاءة، من مشاريع نهضوية، وبرامج تنمية، ومناهج ثقافية فكرية، ومدارس واتجاهات فنية، وبذلوا لاستكمالها كل ما لديهم من طاقات ورؤى وابتكارات كي تكون منارات للعابرين إلى الحرية، ورايات من الأدب والفن والفكر تدل على طرق التقدم، وطرائق الخلاص من العتمة والآلام والظلم.

قافلة الأماني

نقب عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد تنقيبا حثيثا وعميقا، كاشفا عن مكوناته وأسبابه، معريا أساليب المستبدين وأفانينهم، وأحوال المقموعين ومخاوفهم، وسبل الناس المستعبَدين لخلع الكابوس من حيواتهم ورفع مظالمه عنهم.

وأضاء قاسم أمين بقبسات من نور عقله وفكره الكهوف التي زجت فيها المرأة العربية، وأقبية التخلف التي وئدت فيها ملكاتها وإمكاناتها وجماليات حضورها، داعيا إلى نهوضها وحضورها بل وتحليقها في فضائنا العربي قبل أن تخنقها الذكورة الغاشمة.

ونغم سيد درويش الأثير من حولنا، فأسس للمنصتين مملكة الغناء واللحن، شاقا طريق التجديد في الموسيقى لجيله وللأجيال التي ستأتي بعده من رافعي راية أصالة الطرب واللحن والكلمة.

وتوالى المبدعون في مختلف الميادين والحقول، فانضم عبد الوهاب البياتي إلى جحافل الفقراء والمسحوقين ليغرف من مآسيهم قصائد أشعاره، وخصص سعد الله ونوس مسرحه ليكون من الناس ولهم وعنهم.

ووهب لؤي كيالي ألوانه الحزينة وخطوطه الكابية للصيادين على الشواطئ ولباعة أوراق اليانصيب وماسحي الأحذية وللحائكات أنسجة انتظاراتهن.

ولم يكتف عبد الرحمن منيف بما كشفه “شرق المتوسط” من عذابات الناس، فشدد بخطوط حمراء على فضائح المجازر وأفانين التعذيب والرعب والتدمير النفسي الجارية “الآن.. هنا” على أجساد وأرواح المعتقلين والسجناء والمغيبين في الأقبية والزنزانات.

ومنح ممدوح عدوان ذاكرته ووفاءه وثقافته لتعرية الطغاة وأنظمتهم ورجالهم وآليات توحشهم في سعيهم لمخالفة مسيرة التاريخ عبر “حيونة الإنسان”، وانكب محمد الماغوط في أشعاره على إعداد ملفه الضخم عن الفقراء والمشردين واللاجئين إلى الأرصفة و الحانات، والفارين من زوار الفجر، والمدمنين على الحزن والانكسار ليرفعه إلى الله آملا في مخرج لهم وخلاص.

هؤلاء كلهم، وغيرهم من مبدعين عرب يصعب حصرهم عبر تاريخنا الحديث، بنوا أحلاما لا تحد، وأملوا من كل أعماقهم في تحققها، وثابروا على تأكيد فجرها وسطوع شمسها، وحذروا من انكساراتها، أو كلل حامليها وتعبهم.. إلى أن رحلوا! رحلوا مخلفين وراءهم أحلامهم، أحلام الناس معلقة، تتأرجح كالقناديل في رياح العسف والتخلف والظلم الجاري.

توريث الأحلام

وإذ تتخلف أحلام المبدعين إثر غيابهم -كأنها إرث يتم تداوله- من دون أن يتحقق منها حلم واحد, يعاود الجيل الجديد من المبدعين العرب رفعها, وصونها, والدعوة إلى تحقيقها من خلال أعمالهم وكتاباتهم طوال سنوات حيواتهم إلى أن يرحلوا هم أيضا, لتعاود الأحلام تأرجحها فوق رؤوس من يأتي في حركة سيزيفية لا تنتج غير ذاتها.

أليس مما يستحق التوقف والتأمل طويلا ما أفصح عنه علم إبداعي كبير مثل الطيب صالح, عاش وأبدع وجرب, حين سئل من صحيفة “أخبار الأدب” وقبل ما يزيد على عشر سنوات من اليوم “بماذا يحلم الطيب صالح؟” فاكتفى بالقول: “أحلامي قليلة, كلما تقدم بي العمر تقل عندي الأحلام، وأحمد الله أن عندي بيتا يؤويني وزوجة” انتهى الجواب!.

فإذا كان كاتب عربي كالطيب صالح عاش الحياة بالطول والعرض قد شحت أحلامه -وقبل عقد من الزمن- إلى درجة لم يعد لديه منها غير ما ذكر فما عسى أن يذكره الأدباء والمفكرون والفنانون -في الزمن الحالي- عما لديهم من أحلام وآمال سبق أن حاكوا أعمالهم من نسيجها, وأملوا في تحققها؟

ورغم المفارقة المروعة، رغم كل ما جرى ويجري الآن، ما من مبدع بلا حلم، وما من إبداع بلا أشواق ورؤى تخلفت عن أصحابها بعد رحيلهم، أو تحققت -لا سمح الله- على مرأى من عيونهم.

فالمبدع حلمه والإبداع رؤاه حتى لو شاء القدر لنا نحن -العائشين فوق الأرض العربية- أن نتخصص في إشادة ممالك أحلامنا، وأن نفتح النوافذ والكوى لها، ونؤثثها بالتوق, ثم لا نملك إلا أن نرحل! نرحل فقط، مخلفين قناديلها معلقة في فضاء الانتظار!

* كاتب وقاص سوري

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى