صفحات الثقافة

ممتاز البحرة الكوميكس يأسر العقول والقلوب/ إبراهيم الجبين

 

 

برلين – كل من ولد في سوريا قبل قرابة الخمسين عاماً، يعرف من هو ممتاز البحرة. ليس لأن البحرة رجل استعراض وشهرة، ولكن لأن عمله كان يصبّ مباشرة في دقائق حياة الأطفال السوريين، بدءاً من اللحظات الأولى لتعلمهم القراءة، متدرجاً معهم في مناهجهم المدرسية وقصص المجلات المرسومة بالكوميكس في البلاد.

لكن البحرة لم يكن وحده، بل كان معه فريقه الخاص. وكان باسم أحد مساعديه ورباب مساعدته الثانية. شخصيتان ابتكرهما الرسام لتعيشا في كل بيت. وفي الوقت الذي كان الفنانون العرب والسوريون يتجهون إلى الكاريكاتير السياسي، كان البحرة يتجه نحو الأطفال، يرافق القصص التي يكتبها الكتاب، والقصائد التي ينظمها لهم الشعراء على شكل أناشيد.

الكاريكاتير المحرم

غادر دمشق لدراسة الفنون الجميلة في القاهرة، أيام الوحدة ما بين سوريا ومصر. كان رفاقه في رحلته تلك، نذير نبعة ومحيي الدين اللباد. لكنه ما لبث أن عاد حين توفي والده، وكان عليه أن يجلس محله على كرسي المسؤولية، فالتحق بكلية الفنون في دمشق، ليتابع دراسته التي يروي أن أيامها كانت حافلة برسومات للأطفال “منذ أيام الدراسة في الجامعة بدأت أرسم للأطفال وبقيت التجربة غير مرضية بالنسبة إليّ حتى وصلت إلى صيغ اعتمدتها بشكل نهائي”.

الحوارات النادرة للبحرة الذي لم يكن لديه وقت للأضواء والشهرة، فقد حصل منها ما يكفي على حد قوله، تمكّن القارئ من التعرف إلى عوالم هذا الفنان المختلف. ففي الوقت الذي كان مشغولاً به بالرسم للأطفال كان يفعل أمورا أخرى “رسمت الكاريكاتير السياسي في جريدة ‘الصرخة’ السورية، ومن ثم عملت في مجلة ‘الجندي’ وعملت أيضا في الرسوم المرافقة للنصوص وهى تصل إلى مستوى عالٍ فنياً”.

بعد إنهائه دراسة الفنون الجميلة، عمل كمدرس للرسم، وتم تعيينه في الشمال السوري، في مدينة الحسكة، ثم عاد بعد عامين للتدريس في دمشق. كان اسم ممتاز البحرة، هو اسم أول رسام كاريكاتير يجري اعتقاله بسبب رسومه الساخرة في سوريا، نتيجة انتقاده لعبدالناصر وسياساته، يقول “أبعدني عن رسم الكاريكاتير المزاج البرجوازي الصغير المحافظ في بلدنا الذي لا يفضل أن يتناوله الكاريكاتير.

تكليفه برسم الكتب المدرسية التي تصدرها وزارة التربية السورية، كان الفرصة الكبرى لخيال البحرة، كي يحلق عاليا في سماء البشر وحياة الشخصيات التي ابتكرها مثل باسم ورباب ومعها الأجيال المختلفة التي تحكي عنها المناهج الدراسية. فدخل إلى كل بيت وصفّ وحقيبة تلميذ صغير

نحن نحب الكاريكاتير، ولكن أن يتناولنا العياذ بالله”، بعد أن اعتقل أكثر من سبعين يوماً في العام 1963. ويقال إن حكماً عسكرياً بإعدامه قد صدر برفقة الصحافي نصرالدين البحرة وعباس الصوص وغيرهما، وقد ألغي حكم الإعدام قبل تنفيذه بساعات اثر تغلب المجموعة البعثية على الناصريين آنئذٍ في انقلاب 8 آذار.

قطيعة مع التراث

جاء العام 1969 وهو عام تأسيس مجلة “أسامة” الموجهة إلى الطفل. كانت مجلة رائدة في العالم العربي، فكتّابها كانوا من كبار الكتاب السوريين، بعد أن تم تأسيسها على يد سعدالله ونوس ونجاة قصاب حسن وممتاز البحرة ذاته الذي يقول “كنت من مؤسسي مجلة ‘أسامة’ وكانت المجموعة التي عملت معها متحمسة جدا وكان العنصر الأساسي بالنسبة إليها هو أن المجلة موجهة للأطفال، أطفالنا وأطفال الوطن العربي وغير متأثرة بالاتجاهات الغربية”.

يقول البحرة لموقع “آراب كارتون”، “إن الحماسة السياسية هي سبب نجاح تجربة مجلة ‘أسامة’. الحماسة على الجديد والمغامرة والقصة المشوقة المكتوبة خصيصا للمجلة. كنا راغبين بتقديم لون وطني يخاطب بالذات المشاعر الوطنية للطفل. الآن هناك توجه نحو الإغراق بالتراث وما إلى ذلك، والتراث استهلك من كثرة ما تم تقديمه للأطفال والطفل حساس وقاس وعادل تعجبه الأعمال الجديدة ويحس بها جداً، وكذلك الأعمال الأصيلة”.

رأى البحرة أن التراث مليء بالأشياء الجميلة، لكنها تحتاج إلى إعادة بحث، فالتراث “يحتاج إلى جهود لنبش الدرر الموجودة فيه، إذ لا يجب أن يحكمنا، وإنما يجب أن نستفيد نحن منه”.

تكليفه برسم الكتب المدرسية التي تصدرها وزارة التربية السورية، كان الفرصة الكبرى لخيال البحرة، كي يحلق عالياً في سماء البشر والشخصيات ذات الأجيال المختلفة التي تحكي عنها المناهج الدراسية. فدخل إلى كل بيت وصفّ وحقيبة تلميذ صغير.

الأكاديمية المخضرمة ملكة أبيض، زوجة الشاعر الراحل سليمان العيسى، تقول إن العيسى والبحرة “عملا معاً لسنوات طويلة، وأحياناً في المطبوعات نفسها سواء في مجلة ‘أسامة’ أو في الكتب المدرسية حين كان العيسى مسؤولاً عنها، فالكتب التي كان يخرجها العيسى بالكلمة كان البحرة يخرجها بالرسوم، لذلك كانت المسيرة مشتركة واهتمامهما بالأطفال واحد”.

بحرة كان يرى المعرفة وظواهر الثقافة والسياسة من عيني ابن الحياة

كان تشارك رسومه مع نصوص لكتاب كبار مثل سليمان العيسى وزكريا تامر وخيري الذهبي وعادل أبو شنب يجعل من كل رسمة مناسبة ثقافية بحد ذاتها، تدور عنها الأحاديث وتجري حولها النقاشات الأدبية والفنية في الوقت ذاته. فأصبحت لوحة البحرة أكثر من مجرد لوحة، وتناقلها الناس فيما بينهم، سواء في الصحيفة أو المجلة أو الكتاب أو القصاصة.

حين جاء عقد الثمانينات من القرن العشرين كان البحرة قد ابتعد كلياً عن الكاريكاتير، بعد أن ساهم في جميع الصحف السورية الناشئة وقتها، بنشر رسومه الساخرة، بما فيها مشاركته في تأسيس جريدتي الثورة وتشرين الرسميتين. لكن التهديدات التي أخذت تصله منذرة بإيذائه وإيذاء عائلته، دفعته إلى التفرغ لرسوم الأطفال وغيرها. بعد أن منعت أعماله وحوربت وحوصر حصاراً خانقاً، اضطر إلى العمل في الصحافة العربية في لبنان والخليج، مثل مجلة “سامر” وغيرها، فولدت شخصيات جديدة على يديه مثل عمو حسني، مازن، شنتير، والقرد ميمون.

خطوط الواقع

يروي ابنه الصيدلاني محمود البحرة، في مقال مؤثر، أن والده حين كلّف، بعد سنوات طويلة من التجاهل الرسمي، برسم لوحة جدارية عملاقة عن معركة حطين، انغمس في قراءة الكتب التاريخية، ودراسة الملابس والأزياء والهيئات المختلفة. وكذلك فعل قبل رسم لوحته “ميسلون”، ذات الـ25 متراً مربعاً، وسافر إلى المنطقة التي وقعت بها المعركة، ودرس الأرض والنباتات وألوان الحجارة. والتقى ببعض المحاربين القدامى الذين شاركوا في المعركة أو عايشوها.

أعمال البحرة لا تشبه أعمال رسامي الكاريكاتير، وليست مبسطة كأعمال أولئك الفنانين الذين يرسمون للأطفال. بل تبدو الأجسام فيها تفصيلية مشخصة، تشريحها واضح وعلمي ولا تساهل فيها في النسب والأبعاد والانفعالات. غنية بربيع من الألوان ينهمر مع كل زاوية يمكن أن ينظر إليها المرء منها.

كان ممتاز البحرة قريباً جداً من الحياة. ولم يكن يطل عليها من عيني المثقف الذي لا يعرف عنها شيئاً. بل كان يرى المعرفة وظواهر الثقافة والسياسة من عيني ابن الحياة. لذلك كان حقيقياً أكثر ممّا يحتمل. فآثر الابتعاد مبكراً عن الساحة، وأجبره مرض السكري على اختيار السكن في دار للعجزة في قلب دمشق حيث عاش سنواته الإحدى عشرة الأخيرة، هارباً من “الوحدة” كما كان يقول، معتزلاً الرسم تماماً، إلا من مشروع وحيد كان يعمل عليه مع الفنان المتميز فارس قره بيت.

رسام الفلك والفيزياء

وحدته تلك جعلت من تجربته تجربة فريدة بشكل ما، لذلك كانت رسوماته الكوميكس للأعمال الدرامية السورية، أعمالاً متقدمة على ذائقة المتلقي والناقد معاً. فكان من الصعب أن تتكرر تجارب من هذا النوع، كان البحرة رائدها بجرأة. كان هو فريداً بشكل ما أيضاً، يقول عن نفسه “القراءة هي العمل الذي لا أستطيع أن أتركه أو أتخلّى عنه لأنني دونها أكره الحياة، أنا أحب الكتب العلمية فأنا مهتم بالفيزياء والفلك والكيمياء”.

كثيرون ممن أصبحوا فنانين تشكيليين سوريين وعربا، تعلموا رسم الأشياء لأول مرة على يد ممتاز البحرة. كان تقليدهم لخطوطه وتضاريس الجسد واليدين ومعالم الوجه عنده، مدرسة نهارية ليلية مفتوحة، لم تتوقف عن التأثير. مع أنه لم يهتم على الإطلاق بإقامة معارض شخصية، ولا بالرسم الزيتي المألوف.

رحل ممتاز البحرة قبل أيام. لم يختلف على نعيه السوريون هذه المرة، كما في كل مرة، فمكانته أكبر من الجدال، وأبعد من التحزّبات السياسية والمواقف. رغم أن عمل البحرة مع سليمان العيسى الذي اتخذ طابعًا توجيهياً للتأثير في الأجيال أيديولوجيا منذ نعومة أظافرهم، لم يكن عملاً حيادياً، غير أن البحرة وحده، كان مستقلاً أيما استقلال عن أيّ جهة هيمنت على المنبر الذي عمل فيه. ألم يقل إنه ولد في دمشق وأننا “نجد في دمشق أناساً من كلّ مكان وليس فقط من سوريا، وأنا نفسي مزيجٌ واختلاط فأخوالي شيعة أتراك، ووالدي سنّي منسوب في شجرة العائلة، وجدّتي من علويي أرناؤوط، فلمن سأتعصب؟ ولمن سأنسب نفسي؟”.

العرب

رحيل المبدع السوري ممتاز البحرة مبتكر “باسم ورباب

غيّب الموت، اليوم الاثنين، التشكيلي السوري محمد ممتاز البحرة (1938-2017)، بعد صراع مع المرض خلال سنواته الأخيرة التي قضاها في “دار السعادة للمسنين”.

وعرف البحرة بريادته في مجال رسوم أدب الأطفال على المستوى العربي. كما رسم شخصيات كتب المدارس، وترك إرثاً من رسومات الكاريكاتور التي تسببت في الحكم عليه بالإعدام في ستينيات القرن الماضي، فضلاً عن رسومات بانورامية أبرزها لوحة “ميسلون” المعروضة في بانوراما الجندي المجهول على سفح جبل قاسيون بمدينة دمشق، ومشاركته في تأسيس أهم مجلات الأطفال بسورية، كمجلتي “أسامة” و”سامر”.

وينتمي الفنان الراحل إلى عائلة دمشقية معروفة، لكنه ولد في مدينة حلب بتاريخ 9 مايو/أيار 1938، حيث كان يعمل أبوه، محمود البحرة، مفتشاً لمادة التربية الرياضية بحلب وقتذاك، وعاش أحزانا متتالية بفقد والده ثم وفاة أخيه خلال سفره للدراسة في ألمانيا، لينطبع بمسحات من الحزن، كان يلمسها المقربون منه رغم إيثاره ألا تتجلى في لوحاته.

درس البحرة الفنون في مصر، إبان الوحدة، لكن وفاة والده في السنة الدراسية الرابعة والانفصال بين الإقليمين حالا دون إنهاء دراسته في مصر، ليعود إلى سورية ويكمل بكلية الفنون بجامعة دمشق.

وبدأ مشواره العملي بالتدريس في مدينة الحسكة، شمالي شرق سورية، قبل أن يدرس بمعهد إعداد المدرسين وبمدارس عدة بمدينة دمشق، بيد أن تضارب التدريس مع عمله الفني، دفعه للاستقالة مبكراً، ليبدأ مشوار رسم الكاريكاتور والرسوم المرافقة للمواد الصحافية، في مجلات وجرائد عدة، منها جريدة “الصرخة” السورية ومجلة “الجندي” وصحيفة “الطليعي”، وهي الفترة الأخطر في مسيرته، وفيها اعتقل وحكم عليه بالإعدام الذي أنقذته منه “ثورة الثامن من آذار” 1963 بسورية، وقت تغلُّب البعثيين على الناصريين.

وواصل البحرة إبداعه وجرأته في رسم الكاريكاتور، ما جلب عليه المزيد من المضايقات وصلت حد تهديده وأسرته، فاعتزل الكاريكاتور مطلع ثمانينيات القرن الماضي لفترة، لكنه سرعان ما عاد إليه لينفذ معرضاً يفضح ممارسات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني ويؤرخ على طريقته للانتفاضة.

ولعل الرسم التبسيطي لتعليم الأطفال، أهم ما ميز الفنان الراحل، وطبع اسمه في ذاكرة السوريين، إذ رسم للكتب المدرسية، وهو من أوجد شخصيتي “باسم ورباب” في كتب المرحلة الابتدائية، والتي يتأثر بها السوريون حتى اليوم، كما رسم للمسلسلات المصورة (الكوميكس)، فضلاً عن إبداعاته بأهم مجلات الأطفال “أسامة” و”سامر”.

وأمضى الراحل آخر سنواته في “دار السعادة للمسنين” بدمشق، وكان قلما يزوره خلالها الأصدقاء، ما زاد من مسحة الحزن المتأصلة بداخله، كما لم يكرّم خلال حياته سوى من الأصدقاء، إذ أهدى الفنانان موفق قات ومحسن شركس معرضهما “إلى الفنان المعلم ممتاز البحرة”، كتحية حب وتقدير لمكانته الفنية والإنسانية في الوسط التشكيلي السوري.

وعن دوره في رسوم الأطفال، يقول المتخصص في الفنون، عبد الرزاق كنجو: “كان البحرة متمكنا بخطوطه اللّينة التي أغناها بألوانه الزاهية المحببة لإدراك التلميذ في هذه المرحلة الأولى، فرسم علم البلاد يخفق في السماء الزرقاء الصافية، كما رسم الأب الكادح والأم وهي تعدّ الطعام لأطفالها، ورسم النجار حاملا المنشار، والمعلّم أمام السبورة، والجندي على دبابته، كل ذلك في مواقف تدعو التلميذ لتكريس القيم والمبادئ التعليمية والتربوية”.

ويضيف كنجو لـ”العربي الجديد”: “كان يجيد رسم الأشخاص بكافة الوضعيات التشريحية للجسم مع المحافظة على الأزياء المحلية وتطريزاتها، كما تميّز برسم اليدين وحركاتها التعبيرية بأسلوب واضح ومبسّط”.

وحول ما يشبه العزلة التي قضى البحرة آخر سنين عمره بها، قال كنجو: “قد يكون مبعث ابتعاده عن الناس، العتب الكبير على مجتمع لم يقدّر له مساهماته الفريدة. كان يزوره أحيانا قلّة من الأصحاب في مكان إقامته بدار المسنين، ويصطحبونه في مشاوير وجلسات قصيرة لإخراجه من عزلته، وكان يسعد بها كثيرا. حتى أنه قال: إذا عدت للرسم في يوم ما فسيكون بسبب هذا التكريم ومحبة الأصدقاء”.

ممتاز البحرة… صانع ذاكرة الطفولة السورية يغرق في البياض

دمشق ـ من بسمة شيخو: القدر لا يكف عن قضم الذاكرة الجمعية المشرقة للسوريين، يوماً بعد يوم تتلاشى، لا أمكنة باقية كما كانت ولا الموت يستثني فنانين كانوا جزءاً من فرح السوريين.

يوم الاثنين 15 كانون الثاني/يناير 2017 غيّب الموت ابتسامات كثيرة لأطفالٍ كبروا، وراحوا ينعون صانع طفولتهم المخبّأة ضمن الكتب المدرسية. ممتاز البحرة الفنان الخلّاق الذي حفر ثنائيات كثيرة في ذاكرتنا – كثرٌ لم يكونوا يعرفون من هو صاحب الفضل في إمتاعنا أثناء الدراسة، ونحن أطفالا، يبهرنا اللون فقط، وتغوينا الحركات، فقد كانت شخوصه تقفز وتركض وتضحك على الأوراق. باسم ورباب، الطفلان المهذبان صاحبا الوجهين المألوفين بطلا الرسوم التوضيحية في الكتب المدرسية، منذ سبعينيات القرن الماضي حتى 2002، بفستانٍ أحمر قصير وشريط أحمر، وبسروالٍ أخضر وقميص أصفر، استطاع باسم ورباب ملء حصصنا المدرسية (القراءة) بالألوان، ليسا وحدهما بل مازن وميسون أيضاً.

بخطوطٍ مرنة وألوانٍ مشرقة وبساطةٍ لامتناهية في تصميم الشخصيات لتكون ذات بصمةٍ مميزة، تمكّن البحرة أن يوجهنا لنكون جيلاً يعرف الصح من الخطأ، نساعد أهلنا ونكتب وظائفنا ونفرح بالمطر. تمكّن الفنان البحرة أيضاً مع الشاعر الراحل سليمان العيسى من جعلنا نرى القصيدة التي نقرؤها بخيالنا مرة وبمساعدة رسوم البحرة مرةً أخرى.

لم تكن هذه الرسوم حكراً على الكتب المدرسية، حيث أن ممتاز البحرة كان من مؤسسي مجلة «أسامة» الصادرة عن وزارة الثقافة السورية عام 1969 مع القاص زكريا تامر وغيرهما، وتعرفنا بسببه على أسامة، الشخصية التي ابتكرها الكاتب عادل أبوشنب، بالإضافة لـ«شنتير» و«منقذ» و«ماجد» و«سندباد»، كما شارك بتأسيس مجلة «الطفل العربي» الصادرة عن وزارة الثقافة أيضاً، بعدها توجّه لمجلة «سامر» اللبنانية»؛ كان البحرة من أوائل من أسس لـ(كوميكس) العربي، أو المسلسلات المصوّرة، وبها نال شهرةً عربية كواحدٍ من أهم رسامي أدب الأطفال.

إن تميّز الفنان ممتاز البحرة في مجال رسوم الأطفال وسطوع نجمه في سماء أدب الطفل، لم يمنعه من أن يخلص لرسم الكاريكاتير ويسخّر قلمه وفكره لمحاربة الفساد والظلم، فنشر أعماله في جرائد ومجلات متنوعة، جريدة «الصرخة» السورية، ومجلة «الجندي» وصحيفة «الطليعي»، وجريدة «الثورة»، وفيما بعد جريدة «تشرين». كذلك عمل في مجلة «المعلمين» ومجلة «التلفزيون العربي السوري»؛ وكان أول رسام كاريكاتير يعتقل في سوريا بسبب رسومه ويحكم عليه ميدانياً بالإعدام، إلا أن ثورة آذار التي قلبت حكم الناصريين استطاعت تخليصه من الموت، وتابع مسيرته إلى أن اعتزل «الكاريكاتير» نهائياً في بداية الثمانينيات بسبب بعض التهديدات التي وصلته، إضافة إلى تدخلات من مديري التحرير للتخفيف من حدة الرسوم، ففضّل الابتعاد على أن يحابي برسومه من كان يعارضهم يوماً؛ إلا أن فلسطين وانتفاضات شعبها أعادتاه لميدان الكاريكاتير، ليقول كلمته ويقف بجانبهم فأقام معرضاً للكاريكاتير حول هذا الموضوع كان في دمشق بدايةً، ثم دار عدة مدن عربية وأجنبية، كيف لا وهو الذي كان يرسم الفدائيين في مجلة «أسامة» زارعاً مبادئ حب الوطن والأرض في كلّ طفلٍ متابعٍ لأعماله؛ عن رسوم الأطفال والأدب الموجه لهم قال في حوارٍ أجري معه: «التراث استهلك من كثرة ما تمّ تقديمه للأطفال، والطفل حساس وقاسٍ وعادل تعجبه الأعمال الجديدة؛ إن التراث مليء بالأشياء الجميلة لكنها تحتاج إلى إعادة بحث.. التراث يحتاج إلى جهود لنبش الدرر الموجودة فيه، فالتراث يجب ألا يحكمنا وإنما يجب أن نستفيد نحن منه وهذا ما نتناساه.»

الأعمال الزيتية قليلة نسبياً ضمن أعماله الفنية، لفتني منها عملٌ موقّع باسمه عام 2002 وكأن الفنان امتلك كرةً زجاجية وصوّر مشهداً من مشاهد التغريبة السورية الحالية، فها هي أمٌ خائفة تحمل رضيعها على ظهرها مع صرتها، وتجرّ خلفها أولادها الثلاثة بحقائبهم المدرسية، وكأنهم هربوا من كتب القراءة، أو ربما هو فعلاً ما قصده البحرة، حيث أن رسومه في الكتب المدرسية استبدلت عام 2002، الخوف كان سيد المشهد والألوان الكثيفة الداكنة التي تصل السماء بالأرض ماحيةً الأفق والمنظور كل هذا رسّخ الشعور بالخوف والكدر. للراحل أيضاً جدارية معنونة بـ»ميسلون» موجودة في مقام الجندي المجهول على سفح قاسيون، دعامة مدينته دمشق وعمودها الفقري.

شارك الراحل ممتاز البحرة في معرض «ملامح في الفن السوري» الذي أقيم في كوبا 1978 وكذلك أقام معارض خاصة من أهمها معرضه في أرمينية. في السنتين الأخيرتين توقّف البحرة عن الرسم، بعد أن قصد في دارالمسنين ليهرب من وحشة الهدوء المطبق في منزله: «قررت المجيء إلى هذه الدار في البداية على سبيل التجربة والاطلاع، وبعد شهرين طابت لي الحياة هنا وأنا مرتاح وسعيد، هنا أسمع أصواتا وأعيش حياةً عادية.. أقرأ كثيراً وأسهر إلى وقتٍ متأخر». وقبل وفاته بفترةٍ قصيرة تمّ تكريمه من قبل وزارة الثقافة السورية لترتسم ابتسامةٌ على وجهه قبيل الوداع الأخير؛ وداعاً ممتاز البحرة صانع ذاكرة الطفولة وفرحها، إمنح البياض حيث أنت ألواناً، وتمتّع بأصواتنا التي ستصل إليك مع كلّ ذكرى تمرّ بخاطرنا…

*محمد ممتاز البحرة:

فنان تشكيلي ورسام كاريكاتير سوري ينتمي لعائلة دمشقية، ولد في حلب بتاريخ 09/05/1938 بحكم عمل والده الرياضي والمربي محمود البحرة آنذاك كمفتش لمادة التربية الرياضية في مدينة حلب. تربى ممتاز البحرة في بيئة دمشقية، وعاش مع عائلته في حي الإطفائية قبل أن ينتقلوا لحي المهاجرين. توفي والده وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ما اضطره لأن يترك دراسته للفن في مصر، درس في القاهرة إبان الوحدة بين سوريا ومصر مع زملاء سوريين له مثل نذير نبعة، غازي الخالدي، ومصريون مثل محيي اللباد ـ وبعد أن وصل للسنة الدراسية الرابعة عاد إلى دمشق والتحق بكلية الفنون الجميلة الفتيّة، عائداً للسنة الدراسية الثانية – من بين أساتذته كان محمود حماد، حسين إسماعيل، محمود جلال وسعيد تحسين- ليكون من بين خريجي الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة قسم التصوير الفني (الرسم).

بعد التخرج عمل مدرسا للفنون الجميلة لمدة 23 سنة بدأها في مدينة الحسكة شمال سوريا لمدة سنتين، ليعود فيما بعد للتدريس في مدينة دمشق في عدد من الثانويات ومعهد إعداد المدرسين، لكنه أدرك صعوبة الجمع بين التدريس وعمله الفني، فاستقال وتفرّغ للعمل الفني وعمل في مجال الصحافة، فكان يقوم برسم الكاريكاتير والرسوم المصاحبة للمقالات في الجرائد اليومية والمجلات.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى