صفحات الرأي

منازعات أيديولوجية/ ماجد كيالي

 

 

تثير النزاعات الأيديولوجية في العالم العربي كثيراً من الاهتمام، لكن مشكلتها انها قلّ ما تلامس الواقع، أو تتعامل مع المعطيات المنبثقة عنه، أي انها تبقى مجرد مجادلات نظرية، يقف كل طرف فيها، إزاء الآخر، متمترساً في خندقه، أو وراء ما يعتقد، وما يعتد، من عدته الأيديولوجية. هذا يتعلق بالمناقشات بين «معسكرات» العلمانيين والمتدينين واليساريين والليبراليين والقوميين والوطنيين والديموقراطيين، على التباينات في ما بينهم، وحتى التمايزات داخل كل تيار منهم.

اللافت للانتباه أن هذه النقاشات هي أمر يخصّ النخب المثقفة، أو التي تتخيل نفسها كذلك، أي أنه ينحصر في إطارها، في واقع تبدو فيها قطاعات واسعة من المجتمع غير معنية بهكذا نقاشات، لأسباب مختلفة، منها، مثلا، انتشار الأمية، وتدنّي الاهتمام بالثقافة العامة بين المتعلمين، وغياب تقاليد المشاركة السياسية، ووجود أولويات أكثر إلحاحاً تتعلق بالمعيشة، وتدبر متطلبات الحياة، وهذا ما يغفل عنه في الاغلب المتجادلون، الذين يخيّل لكل طرف منهم بأنه ينطق بالحقيقة، وأنه يتحدث باسم الشعب، أو على الأقل باسم أغلبية الشعب.

أيضاً، يلفت الانتباه أن كل طرف من الأطراف المذكورة، لا يقوم بتفحّص بديهياته، بناء على التجربة التاريخية، ومعطيات الواقع، ولا يلاحظ التناقضات التي تكتنف اليقينيات التي يعتقد بها، بل ويلجأ إلى التغطية عليها أو حتى تبريرها، ظناً منه إن أي تنازل من قبله، أو أي مراجعة نقدية لأفكاره، قد تودي بالعمارة النظرية التي بنى عليها هويته أو كيانيته.

مثلاً، تأسست الفكرة اليسارية على تشكل المجتمعات في طبقات، وأن الوضع الطبقي يحدد الوعي الاجتماعي، كما تأسست على تقدمية الطبقة العاملة، وضرورة توفير العدالة الاجتماعية للجميع، وعلى أساس المساواة في الملكية، وفي العوائد الانتاجية. لكن مشكلة اليسار، في بلداننا، أنه لم يلاحظ ان هذه الفكرة هي ابنة المجتمعات الصناعية، في حين ان مجتمعاتنا، حتى الآن، مازالت تفتقر للصناعة، وللتقسيمات الطبقية التي تنشأ عنها، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالمرحلة التي شهدت، قبل قرن، ولادة الأحزاب الشيوعية؟ طبعا ليس الغرض هنا التقليل من قيمة، ولا من نبل، ولا من ضرورة، العدالة الاجتماعية، وإنما التنويه إلى أن الأيديولوجيا التي تأسست عليها تلك الأحزاب لم تكن منبثقة من رحم الواقع الاقتصادي والاجتماعي في البلدان العربية.

وفي الاحصائيات، وهي هنا المعيار (حسب التقرير الاقتصادي الموحد 2013)، فإن مساهمة الناتج الإجمالي للصناعة التحويلية في العالم العربي تبلغ 8.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (237 بليون دولار)، في حين أن قيمة مساهمة الصناعة الاستخراجية تبلغ 40 في المئة، وذلك من أصل 2700 بليون دولار قيمة الناتج المحلي الإجمالي للبلدان العربية، أي ان الاقتصاد العربي يتأسس أصلا على صناعة النفط، أو الريع النفطي. الأهم من ذلك، والأكثر دلالة، أن نسبة العاملين في الصناعة (الاستخراجية والتحويلية) في العالم العربي يبلغ حوالى 17 في المئة من حجم القوة العاملة، في حين ان العاملين في مجال الخدمات يبلغ 60 في المئة، في حين تبلغ نسبة العاملين في الزراعة 22 في المئة. وطبعا فإن هذا الكلام لا ينفي التمايزات الطبقية في العالم العربي، ولكنها دعوة لتبين كنهها وحجمها ودلالاتها، وضمنه معنى الحديث عن الطبقة العاملة، وحزبها، وطليعيتها، وتصور نمط الوعي الذي تنتجه اصطفافات طبقية من هذا النوع.

فكرة العلمانية، بدورها تواجه مشكلات من نوع آخر، فهي هنا تقف في مواجهة المقدس، ما يفسر التعثر الذي تواجهه، لاسيما مع وجود تيارات دينية تتعاطى معها باعتبارها نوعاً من الالحاد، والقطيعة مع الدين. والمشكلة أن بعض العلمانيين يؤكدون هذا الانطباع، بسبب معاداتهم على طول الخط للتيارات الدينية، ولحق الأحزاب الإسلامية في العمل، إسوة بغيرها من الأحزاب اليسارية أو القومية. وما يفاقم من الوضع ان بعض العلمانيين المتطرفين، وبدعوى فوبيا الإسلام، باتوا في معسكر النظم الاستبدادية، الأمر الذي يسهم في اثارة الشبهات من حول فكرة العلمانية. بالمحصلة فإن كل تيار من هذين التيارين المتقابلين يبدوان على طرفي نقيض في حين ان الواقع يحتمل، كما بينت التجربة التركية والتونسية والمغربية، امكان تفهم كل طرف للآخر، فلا العلمانية إلحاد، ولا التيارات الإسلامية كلها من نسيج واحد، سيما ان تجربة العلمانية في أوروبا ليست واحدة، وهي انطوت على التعايش بين المتدينين والعلمانيين، على أساس مبدأ الحرية والمساواة.

من جهتها فإن فكرة الليبرالية تبدو الأكثر مثاراً للاستهداف، بالقياس للعلمانية واليسارية، مرة بكونها بمثابة تغرّب، ودعوة للتغريب الثقافي، ومرة أخرى بوصفها دعوة للرأسمالية «المتوحشة». والمشكلة ان هاتين الفكرتين تقصران عن فهم المقاصد الأساسية لليبرالية، التي تتأسس على الحرية، والمواطنة المتساوية، والفردية، أي استقلالية الفرد. وان مناقشة الليبرالية في عالمنا العربي تبدو نظرية تماما، بخاصة أنه ليس لليبرالية عندنا لا نظم ولا أحزاب ولا تمثلات سياسية، بقدر ماهي موجودة كأفكار يجري التعبير عنها من قبل مثقفين، وسياسيين، وأدباء.

معلوم أن الليبرالية استعصت على الهضم في عالمنا العربي، لأنها بالأساس تقوم على مبدأ الحرية، أي على أهم شيء تحتاجه مجتمعاتنا، وهذا ما يفسر، ربما، سبب تعثرها أو سبب إثارة الشبهات من حولها وتشويهها. هكذا، ووجهت الليبرالية من قبل اليساريين بدعوى انها ضد العدالة الاجتماعية، في حين ان ثمة تمايزات داخل الليبرالية بين من يعتقد بدور أكبر للدولة لضبط التوازنات الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، وتقديم أوسع خدمات للمجتمع، وبين من يعتقد ان الليبرالية بلا حدود، ولا ينبغي للدولة ان تتدخل في كبح الرأسمال.

والمعنى، كان يمكن لليسار أن يتلاقى مع الليبرالية في فكرة الحرية، لأن هذه أهم ما ينقص اليسار، الذي يبدو اليوم أحد اهم معاقل الدفاع عن النظم الاستبدادية، سيما ان نقص الحرية هو أحد أهم أسباب انهيار التجربة السوفيتية، وأفول الفكر اليساري. أيضا، وبينما تقوم الفكرة اليسارية على تصنيف المجتمعات على أساس طبقي، والقوميون يصنفونها على أساس قومي، وثمة تصنيف على أساس الطائفة أو الدين، فإن الليبرالية تصنف الناس كأفراد، وتؤكد على قيمة الفرد، واستقلاليته، وحريته، ومساواته، مع الآخرين، بغض النظر عن أي تمايزات بسبب الوضع الطبقي أو القومي أو الديني أو الجنس، من منطلق أن الحرية معطى فردي، وانه يتعذر القول بحرية جماعية، من دون حرية الافراد.

ولا تواجه الليبرالية الصد من جهة اليساريين والقوميين والعلمانيين، فقط، وإنما أيضا من جهة بعض الديموقراطيين الذين يختصرون تلك الديموقراطية بالانتخابات، وحكم الأكثرية، في حين تركز الليبرالية على صيانة حقوق المواطنين، المختلفين لأي سبب، حتى لو كانوا اقلية (انتخابية)، وحمايتهم من تسلط الأكثرية، باعتبار ان ثمة حقوق عليا دستورية، تساوي بين الناس بغض النظر عن موقفهم من النظام السياسي. الليبرالية أيضا تتعارض مع الديموقراطية التوافقية، لأن هذه لا تتعاطى مع مواطنين احرار ومتساوين، وإنما مع طوائف واثنيات، الأمر الذي يلغي الفرد، ومبدأ الحرية، ولا يلغي الاستبداد، وإنما يعيد انتاجه، بطرق مختلفة.

على أية حال ربما المفيد في هذه المجادلات، أنها فتحت كل الأسئلة، وأنها بعد ثورات الربيع العربي، خرجت من النخب إلى دائرة التداول العام، لاسيما مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، التي أدخلت قطاعات واسعة من البشر الى دائرة القول، والمجادلات النظرية، والمشاركة السياسية، اكثر بكثير مما فعلته الأحزاب التاريخية على تنوعاتها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى