صفحات الرأي

منافسة عمالقة الإنترنت المخازن الكبرى تخيّـرها بين الأفول والشراكة/ كورين سيماما

 

 

في المجمّع التجاري الباريسي، الأوقات الأربعة («ليه كاترطان»)، القائم في حي الديفانس، يمر المتنزهون والمتسوقون بواجهات محال الثياب والهدايا. وفي طرف المجمع الضخم يبدو سوبرماركت أوشان مهجوراً على رغم الحافلة الثابتة التي تتولى إعداد الطعام الياباني، السوشي، والمستخدم الذي يقدم، في مريوله الأحمر، قطع سمك السلمون الشهية، والحركة التي يبعثها الاحتفال بعيد هالوين، في 28 تشرين الأول(أكتوبر). فالجمهور في هذا الموضع من المركز التجاري يقتصر على عدد قليل من أزواج يمشون بين رفوف مليئة بالسلع على طول ممرات مستقيمة. والمجمع التجاري الباريسي مرآة أحوال المخازن الكبيرة والمهجورة في أنحاء فرنسا كلها. فالمستهلكون لا يجدون ضالتهم في هذه المخازن. والتسوق فيها يستغرق وقتاً طويلاً، ورصف السلع لا يجري على مثالات مفهومة.

ويلاحظ فيليب مُواتي، من مرقب المجتمع والاستهلاك (أويسوكو): «المجمعات العملاقة مثال توزيع وتسويق جماهيريين. والوفرة التي تمثل عليها هذه المجمعات تبدو اليوم قرينة على الإفراط في الاستهلاك وعلى التبديد، فوق ما تقرن بالتقدم». وغداة 50 عاماً على إنشاء هذه البنية التجارية، في 1963، بسانت جينيفياف– دي– بوا، غير بعيد من باريس، تظهر عليها أعراض الإعياء والإنهاك. ففي الأمس القريب بلغت حصة المخازن الكبيرة من التوزيع 44 في المئة. وتقضم التجارة من طريق الإنترنت هذه الحصة. وبعد أن اكتسحت أمازون سوقي الكتب والتقنية العالية، اقتحمت شركة التوزيع الإلكتروني سوق توزيع الأغذية. وفي الأشهر الستة الأولى من 2017، تقلص حجم مبيعات أوشان– فرنسا 1.8 في المئة. ويدعو هذا شركات التوزيع إلى إنجاز «ثورتها» الرقمية والفيزيائية.

وهذا الانعطاف الحاد لم تسبقه نذر واضحة. فمثال المخازن الكبيرة، (السوبرماركت) ابتكرته «كارفور» الفرنسية، في 1970-1980، وقصدت به جمع كل السلع تحت سقف واحد، وبيعها بأسعار مخفضة، وإتاحة مروحة عريضة منها لا تقسر الشاري على اختيار ملزم واحد. وكان هذا المثال جسر الطبقة الوسطى الى الاستهلاك. ودام العصر الذهبي نيفاً و30 سنة. ويرى سيرج بابان، رئيس مجلس إدارة نظام U (تعاونية تجار تجزئة تجمع نحو 800 سوبرماركت ومتجر ضخم في فرنسا)، أن هذا المثال وثيق العلاقة بمجتمع ما بعد الحرب الثانية ولبى شوقه الى الاستهلاك. وانتشت الشركات بالنجاح الذي أصابته، فتمادت في توسيع مخازنها، إلى أن بلغ بعضها 24 ألف متر مربع. وحضت الأسر المتسوقة على ملء سلال عرباتها بالسلع الغذائية والأجهزة التلفزيونية وتسديد أسعار «مكسرة».

وبحثت المخازن عن المواقع المناسبة، وهاجسها افتتاح أكبر عدد من «نقاط» البيع. وبلغ عددها في السوق الفرنسية، في 1975، 284 مخزناً، و2000 مخزن في 2017. وتخطت مساحاتها طاقة المستهلكين وحاجاتهم، على ما يرى جان– دانيال بيك، المحلل في مركز بحثي، وأشبعت السوق. وفي الأثناء تخصصت شركات في السلع الرياضية والألبسة وأدوات التصليحات المنزلية. وعمدت الى اقتطاع شطور من عمالقة الضواحي، وتخلت تدريجاً عن الاستهلاك الجماهيري، وغلبت عليه المشتريات الجزئية التي تحمل عليها توقعات المشترين المركبة. وعميت شركات التوزيع الضخمة ومخازنها عن الظاهرات الجديدة. ويقر أحد المسؤولين في إحدى هذه الشركات بأن غلبة مثال التوزيع «المخازني» حجبت عن الأعين بروز أشكال ظلت ثانوية طوال بعض الوقت. وفوز أمازون وأمثالها بالقطاع غير الغذائي، من السلع الكهربائية المنزلية الى الإلكترونيات الشائعة، نذير بآتٍ أعظم.

ومروحة السلع المقترحة والأسعار هما ركنا المخزن الكبير. والإنترنت زعزع هذين الركنين، على ما يلاحظ فريديريك فاليت، مدير قسم التوزيع في شركة كاونتار وورلد بانيل. فما السبيل الى منافسة الـ300 مليون سلعة التي يقترحها العملاق الأميركي بالاقتصار على عشرات الآلاف فقط من «المراجع»؟ وإلى هذا الفرق، لا مناص من الإقرار بأن المخازن تفتقر الى الخبرة في الحقول غير الغذائية، ولا تتخطى خبرتها في هذا المضمار العموميات، يقول سيدريك ديكروك، صاحب ديا- مارت. وتشكو المخازن المنافسة الحادة في قلب اختصاصها. فبعد مهاجمة شركات احترفت تنزيلات قاسية على أسعار المخازن الكبيرة، في تسعينات القرن العشرين، على المخازن اليوم التصدي لنجاح مخازن تتولى توزيع المنتجات الزراعية الطازجة، مثل «غران فريه» و «ناتوراليا»، ولتعاظم دور التوزيع المحلي والتوصيل المنزلي غب الطلب. فبعد أن كانت محال الأحياء والسكن القريب متردية النوعية والخدمة، جددت أداءها وخدماتها، وحسنت نوعية سلعها، وحرصت على توفير منتجات طازجة.

وعمدت أمازون، في حزيران (يونيو) 2017، الى شراء شبكة المخازن الكبرى وول فودز، واختصاصها بيع المنتجات العضوية، بـ13.7 بليون دولار. وهذا قرينة قوية على إرادة القطب التجاري الأميركي المنافسة في سوق الصناعات الغذائية، في الولايات المتحدة وأوروبا على حد سواء. ومنافسة أمازون تحد يدعو قطاع التوزيع والتسويق الذي يتوسل بالمساحات العريضة ومبيع الجملة والمفرق، الى اليقظة. وكانت البادرة الأولى هي إقالة كبار مديري القطاع. فحل ألكسندر بومبار في 2017 محل جورج بلاسّا على رأس كارفور. وعينت أوشان فيلهلهم هوبنير مديراً عاماً محل فيانيّه مولييز، من أسرة المؤسسين. وتمهد هذه التعيينات الحاسمة الطريق الى انتهاج سياسات جديدة.

والجواب السابق الوحيد عن التجارة الإلكترونية اقتصر على ما يسمى «درايف» (السواقة). ويعود ابتكار هذه السياسة الى اوشان، وتعميمها الى مخازن لوكليرك. وتقوم على إبلاغ الزبون طلبه بواسطة البريد الإلكتروني، وتجهيز المخزن الطلب، فيتسلمه الزبون موضباً من باب المخزن، ولا يضطر الى اجتياز عتبته. وساهم هذا النحو في أفول المخزن الكبير، في الوقت الذي ساهم في الاحتفاظ بشطر من الزبائن الميسورين الذين خطوا خطوات على طريق العزوف. واستبقاء الزبائن مسألة حيوية، على ما يرى فيليب مواتي: فحين يصرف المستهلك النظر عن صيغة تسوق أو شراء قلما يعود إليها.

ويدرس مديرو المساحات الواسعة اجراءات أخرى، مثل تقليص مساحة المخزن الى أقل من عتبة الـ8 آلاف متر مربع. فلا ترجى منفعة في تكديس برادات كاسدة على آلاف الأمتار المربعة. وهذه المخازن كانت عاملاً في تعظيم حجم المبيعات الإجمالي، وفي قوة الشركات الشرائية، على قول أحد الخبراء. وفي مستطاع الموزعين النزول عنها إلى أبواب مبيع أخرى وصالات عرض تملكها الشركات. ويلاحظ فريق كازينو، وهو ينتهج نهج تنحيف من هذا الصنف منذ 2014، زيادة في عائد أعمال مخازنه. والعلاج الحاسم هو بيع بعض المخازن. وقد تلجأ كارفور إليه، على رغم تهيب القطاع مثل هذا العلاج.

وعلى شركات التوزيع «نفخ السحر» في مخازنها، وبعث جاذبيتها. فهي بذلت معظم جهدها في «حرب» تخفيض الأسعار، وأهملت الاستقبال ومقتضياته. والمستهلكون لا يريدون مساحات مجردة ومكيفة، مليئة بالألومنيوم والستانليس والزجاج والنيون ورفوف السلع الخرساء. وتنوي أوشان صرف 1.3 بليون يورو على تحسين طرائق العرض. وتختبر الشركة مثالات جديدة قريبة من الهالات، تبيع فيها الفواكه والخضار العضوية، تسميها أوداستور. وهي تخطط لاستئناف «مهن الفم» (الأكل): الجزارة والمسمكات والأجبان، والتخصص في المنتجات الطازجة. وهذا الصنف من العرض يختلف اختلافاً جلياً عن العروض التي يسع الشبكة (الإنترنت) تلبيتها، ويتيح للمخازن استعادة مكانتها، وزيادة زبائنها وحملهم على التردد إليها، يتوقع فريديريك فاليت. ويعد أوليفييه لوي، مدير التواصل في أوشان- ريتايل، باقتراح صيغة مبتكرة في آذار (مارس) 2019، مثالاً يخرج عن التقليد المخازني.

ويرى بعض أصحاب الكار أن هذه الصيغ قاصرة عن تعديل ميزان المنافسة. وعلى شركات التوزيع والتسويق الجمع، على نحو مبتكر، بين الإنترنت وبين مخازن البيع العيني والمادي. ولا يشك برنار ديمير، مدير أوليفر ويمان المشارك، في أن حائز السبق لن يكون الاقتصاد الرقمي بل الاقتصاد المتعدد الأقنية. وبينما لا يزال فريق كارفور متخلفاً على طريق إنجاز الأقنية المتعددة، خطا فريق كازينو خطوات لا بأس بها: فـ «جيان» (عملاق) ضاحية تولوز، فينونييه، باشر تكثير أقنيته في مضمار السلع التقنية والأثاث، ويتولى تسويقهما «سيه ديسكوانت». ومنذ الخريف، يسع الزبائن ولوج صالة عرض مساحتها 300 متر مربع، في قلب المخزن، وشراء حاسوب أو أريكة على الموقع التجاري.

فهل تحول هذه الإجراءات دون أفول المخازن؟ لا ريب في أنها قد تساهم في لجمه، إلا أن الميزان مائل وغير متكافئ الكفتين. وعمالقة الإنترنت، أمازون وغوغل وعلي بابا، تملك قوة مالية ضاربة تقدّر بمئات بلايين الدولارات، وهي في عجلة من أمرها. فما السبيل الى منافسة «داش بوتون»: الزر المتصل الذي يتيح للمشتركين التمون الآلي من بعض السلع اليومية؟ ويبدو الأمر محسوماً: فعاجلاً أم آجلاً لا مناص من الشراكة مع عمالقة الشبكة. وفي آب (أغسطس) المنصرم عقدت الشركة الأميركية وال – مارت حلفاً مع غوغل يقضي بتسويق مئات آلاف السلع على الإنترنت. «فبعض الخبرات، على شاكلة معالجة المعطيات التي تعود الى الزبائن ولوجيستية الكيلومتر الأخير (المرحلة الأخيرة من التوصيل) تقتضي تعاوناً وثيقاً (بين فريق المخازن وفريق الشبكة)، يقول برنار ديمير. وعلى رغم بيانات التصحيح والتكذيب، فالأطراف كلها منخرطة في مفاوضات معقدة ومعمقة. وما يشاع عن شراء أمازون (التاجر الإلكتروني الأول) كارفور (المخازن الفرنسية الأولى)، ليس لغطاً خالصاً. وفي غضون 3 أعوام الى 5 أعوام، يرجح أن تتبلور خريطة تسويق جديدة، وتتوارى العلامات التجارية التي قصرت عن التكيف والمبادرة. ولكن نهاية المخازن، وتاريخها يعود الى نصف قرن، لم تكتب بعد.

* صحافية تحقيق، عن «لكسبريس» الفرنسية، 8/11/2017، إعداد منال نحاس.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى