بدرخان عليصفحات الرأي

(مناقشة مع د. عزيز العظمة حول الانتفاضة السورية والعلمانية والحركة الاحتجاجية)


انتفاضة شعبيّة (لا شعبويّة) ضدّ السّلطة (لا الدولة)

بدرخان علي

المثقّف النخبويّ العربيّ والسوريّ في ضائقة شديدة أثناء الأيام العاصفة هذه. فالأنظمة العربيّة التقدميّة والعلمانيّة التي يصطفّ وراءها أو إلى جانبها مثقّفون عرب نخبويّون، آيلة إلى السقوط الواحد تلو الآخر. وتبيّن أنّ العلمانيّة التي من المفروض أن تكون حصن الأنظمة هذه ـ كما جرى التصويرـ لم تسعف الأنظمة العربية التسلطيّة ولم تشفع لها في لحظتها الحرجة. وهذه النظريّة أُسقطت على يد جموع المواطنين المنحدرين من بيئات سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة متنوّعة، لا من “الإسلاميّين” وحسب.

لكن المثقف العلماني المفتون بقدرة هذه السلطات الغاشمة على إسكات الإسلامييّن لبرهة من الزمان في حرج شديد وبعضهم يعاني من قلق وحزن بليغين. هل الأمر خطأ في الرهانات وحسب أم أنّه اصطفاف سياسيّ وتموضعٌ قيميّ؟

ينبغي أن نسجّل للدكتور عزيز العظمة جرأته الفائقة في توجيه بعض النقد للنظام السوري هذه الأيام، كمفكّر سوريّ تجنّب هذا الموقع طويلاً، لاعتبارات يعيدها هو إلى بُعد شخصيّته عن السياسة والعمل السياسيّ، وانهماكه في قضايا الفكر والمعرفة. لكن ينبغي أن نضيف هنا أنّ الرجل لم يتجنّب الخوض في سجالات سياسية كما قد يُفهم. بل أنّ “القضية المركزيّة” في فكره وتوجّهه لا تغيب عنها نبرة السجال السياسيّ المباشر أو غير المباشر. أعني قضية العلمانيّة وتحليله لقضايا التراث وحضوره في الخطاب الثقافي والسياسيّ العربيّ، وما يتفرّع من ذلك إلى الممارسة السياسيّة العربيّة. لكن هذا الخوض في مسائل ذات طابع سياسيّ يعاني من ترفّع كبير لدى العظمة على الوقائع والحيثيّات الحافّة بالمسائل ذات الصلة، أو هكذا يوحي.

البعد عن السياسة الواقعيّة ـ لا نقول اليوميّة بالضرورة ـ ليست فضيلة علميّة أو أخلاقيّة وموضع اعتزاز على الدوام كما يتظاهر بعض المفكّرين العرب، ومنهم الدكتور العظمة وهو صاحب كتب هامة وجديرة بالقراءة رغم مرور أعوام على صدورها، وعلى رأسها كتابه القيّم “العلمانيّة من منظور مختلف”. ذلك أنّ المعرفة الخالصة والنقيّة الخالية من “الشوائب” الواقعيّة غير موجودة. “السياسة في كلّ مكان” قال الراحل إدوار سعيد.

على أيّة حال ثمّة تطورٌ محمود نسبيّ في مسيرة الرجل الذي لم يكتف بالصمت على غياب الحريات الشخصيّة والعامّة وانتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة في بلده، بل اقتصرت قراءته النقديّة للواقع السياسيّ السوريّ على توجيه أقسى النقد والتقريع “المعرفيّ” لثلّة من المثقّفين والنشطاء السوريين الذين تداعوا لتشكيل بعض المنتديات غير المرخّصة (في منازلهم) وبعض الجمعيات الحقوقيّة والسياسيّة وإصدار بعض النداءات والبيانات مع ما كابدوه من قمع سافر، أودى بالكثير منهم إلى السجون جرّاء كلمة أو موقف أو مقال. (مقالته في الحياة بالاشتراك مع فيصل دراج إبّان نشاطات المثقفين السوريين في ربيع دمشق ودعواتهم لإعادة السياسة إلى المجتمع، والمقالة تتجنب أية إشارة للقمع السلطويّ كما تثقل كاهل المثقفين بقضايا كبيرة جلّها مفتعل).

غير أنّ في التنظير عن بعد مجازفة أخرى كذلك. ليست أخلاقية أو سياسيّة وحسب، بل معرفيّة وفكريّة هذه المرّة. إذ تختزل المسائل السياسيّة كلّها بصراعات فكريّة من قبيل “علمانيّين وغير علمانييّن”. أو التثبّت عند فكرة واحدة “دولة ومن يسعى إلى هدم الدولة”. وهذه الفكرة يعاني منها السيد العظمة عميقاً وتكاد تكون محور مساجلاته ومداخلاته في الشأن السياسيّ، والسوري تحديداً. فضلاً عن تحفّظ ثابت لديه على “الحرّيّة” شعاراً ومطلباً، وكذلك مقتاً خاصاً لـ”الشعبويّة” (التي يحبّ أنّ يطلقها على منقوديه). الناظم الأساسي وراء رؤيته يكمن في قراءة الواقع السياسيّ والاجتماعيّ السوريّ من زاوية: صراع العلمانية مع الحركات الإسلامية، والإسلاميين عموماً.

للأستاذ عزيز العظمة افتنان خاص بـ”الدولة” العربيّة (أيّا تكن كما يحبّ أن يضيف ويشرح دوماً) حيث هي الفاعل التاريخيّ الذي “اخترق” المجتمع وأعاد تشكيله على صورة وطنيّة تامّة الأركان، وهي مناط المواطنة والجامع الأساسي للمواطنين. لا يجد العظمة ما ينتقدها عليه أبداً. لا يهمّ هنا آليات انبثاق السلطة واستمرارها. لا تهمّ كيفيّة ممارسة السلطة أو القوانين الناظمة للدولة كي تستحقّ اسمها. لا يهمّ الالتزام بالدستور الذي وضعه الحاكم على هواه. والأهمّ هو مماهاته ـ وهو المفكّر الضليع والمدقّق والناقد ـ بين السلطة والدولة (وإن ميّز مؤخراً) حين يتّهم أيّ معارض سوريّ ـ لم يفرّق يوماً ما بين تياراتهم ـ بتفتيت الدولة حين يطالب هذا الناشط أو ذاك المثقف بدولة القانون والكفّ عن الاعتقال الكيفيّ مثلاً! ومادامت الدولة هذه تقمع الحركات الإسلاميّة فهي تستحقّ ثناءً إضافياً. كما في ثناءه على قمع المملكة الأردنية للإخوان المسلمين (في كتابه””دنيا الدين في حاضر العرب”)، وابتهاجه الذي لم يخفيه بقمع حركة الإخوان المسلمين في سوريا (في حوار له مع المثقف السوري ياسين الحاج صالح في موقع الأوان).

إنها الثنائية التي تستحكم في تفكير السيد العظمة: كل ما هو ضد الحركات الإسلامية جيّد، وعلمانيّ، ودولتيّ (من الدولة). وفي ذلك تسطيح كبير للسياسة وحيثيات الصراع السياسيّ. ففي سورية مثلاً: كيف يمكن الاكتفاء بمقولة إنّ الدولة حققت إنجازاً تاريخياً، لوجه العلمانية والتقدّم والتاريخانيّة و”الدولة”، في صراع السلطة والإخوان المسلمين في الثمانينات حين ردّت السلطة على عنف جناح الطليعة المقاتلة الطائفيّة لحركة الإخوان المسلمين بعنف وحشيّ وانتقاميّ للمدن والبشر وقتلت عشرات الألوف من المواطنين شيبة وشباباً، أطفالاً وشيوخاً، وسجنت مئات الألوف وقصفت السجناء في سجن تدمر بوحشيّة قلّ نظيرها؟ قطعاً لا. ثمة في ملف صراع السلطة وحركة الإخوان المسلمين العديد من العوامل التي تقع تماماً خارج محور الصراع العلمانيّ ـ غير العلمانيّ، وخارج محور الصراع بين أنصار الدولة ـ وأنصار هدمها. وتقع تحديداً على محور غياب الدولة الجامعة المتعالية على الحساسيات الأهليّة والطائفيّة، التي يتغنّى بها السيد العظمة ويطالب الجميع بتبجيلها حتى وهي على هذه الصورة من العدائيّة واللاشرعيّة الدستوريّة، ومنخرطة في الصراع الأهليّ كطرف فيه لا متعالٍ عليه. ولم تزد السلطة الحاكمة سوى في شحن المشاعر الدينيّة والطائفيّة وزيادة الانقسام الوطنيّ. فضلاً عن ملف كارثيّ على الصعيد الحقوقيّ والإنسانيّ في حاضر ومستقبل سوريا. ودفعت سورية عقوداً من عمرها وحياة أبناءها بالمعنى البيولوجيّ والمعنويّ بعد انتصار السلطة الساحق على المجتمع بحجة الصراع مع الرجعيّة والعملاء، عقود من استعباد المواطنين ونزع حرياتهم وكرامتهم، واستتباعهم كخدم ورعايا أذلاّء، ترافقاً مع اضمحلال “الدولة” لصالح نواة سلطويّة بدأت تضيق باضطراد، وتتحوّل الدولة إلى ملك شخصيّ عضوض أكثر فأكثر.

الدولتيّة هذه تبدو في فكر العظمة ميتافيزيقاً معلّقاً: “الدولة التي ـ على علاّتها وترهّلها واستتباعها للسلطة ـ تبقى الجامع الأساسي للمواطنة والمواطنين بغض النظر عن الأصول والدم، وإنجازاً تاريخياً غير قابل للمفاوضة”. نتساءل لماذا؟ هل بهذا التعميم والإطلاق يجري الكلام عن كيانات سياسية؟ أليست هناك شروط وتعيينات للدول والسلطات؟ هل دولة صدام حسين كانت مثل دولة السويد مثلاً؟ هل دولة القذافي وحافظ الأسد وابنه مثل ألمانيا وسويسرا؟ وهل أشباه الدول القائمة لدينا هي حقاً الجامع الأساسي للمواطنة والمواطنين..؟ يحتاج المرء لأن يفكر في دول أخرى حتى يقتنع بأحكام العظمة عن الدولة العربية، والسوريّة تحديداً.

هي دولة وحسب. ولهذا السبب فإن أيّ قيام في وجه هذه الدولة الموقّرة عبر كتابة مقال أو عقد حلقة نقاش أو احتجاج جماهيريّ، كما يجري اليوم، تعتبر دعوة لتخريب الدولة!! المثير للغرابة أنّ دعوات المثقّفين السوريين السلميّة جداً والواقعيّة تماماً قوبلت باستهجان وسخرية من قبل السيد العظمة ولنفس السبب والحجة: الحرص على الدولة؟ لا ندري أيّ اعتداء على الدولة السورية تأتّى من مطالبة السلطات بالرضوخ للقوانين والدستور السوري نفسه ـ على علاّته ـ والإفراج عن معتقلي الرأي والسماح بصحافة حرّة.

في بضع مواقع لا سيما في كتابه “دنيا الدين في حاضر العرب”، هناك، على سبيل المثال، كلامٌ عن عراق صدّام حسين، فتستوقفه عبارة عابرة لمعارض عراقيّ مغمور تفيد ضرورة كون الدولة صورة عن المجتمع. لكن كلّ الطغيان والإرهاب السلطويّ والحطام المجتمعيّ لم يعني للسيد العظمة أي شيء، حتّى من منظور الحرص على “الدولة” التي يبجّلها مفكّرنا ولو بنيت على أنقاض مجتمعها وأشلاء “المواطنين” الرعيّة؟ كيف يستقيم الأمر فكريّاً وسياسيّاً، كي لا نقول أخلاقياً، ونتّهم بالسذاجة والبساطة من قبل الأستاذ العظمة؟

عند العظمة فتوى شبه ثابتة بهذا الخصوص: أيّ نقد للدولة العربية الراهنة (وهي في الواقع “شبه دولة” بتعبير ياسين الحافظ، أو أقل من ذلك، كي لا نقول مع برهان غليون أنها “دولة ضد الأمة”) التي ابتلعت من قبل السلطة الشموليّة وأفضت إلى نتائج كارثية على صعيد الدولة أولاً والمجتمع تالياً، يصنف في خانة “النيل من هيبة الدولة”، وفق لغته العالِمة المتعالِمة؟ (التهمة الأخيرة تطلقها محاكم النظام السوري اللاشرعية الخارجة عن الدستور السوري نفسه ـ على علاّته ـ تطلقها على المعارضين وأصحاب الرأي وتضيف إليها تهم أخرى من قبيل “وهن نفسية الأمة”).

في الانتفاضة السورية الرّاهنة:

في مداخلتين له حول الانتفاضة السورية (“الحراك الجماهيري وتأزّم الحسّ السياسيّ” الجمعة 9 أيلول (سبتمبر) 2011، “الانتفاضات العربيّة في لحظتها السوريّة” الجمعة 22 نيسان (أبريل) 2011، موقع الأوان الالكتروني) يقدم الأستاذ عزيز العظمة رؤيته ـ المتوقّعة ـ إلى الحراك الجماهيريّ في سوريا. وهي رؤية موسومة بالكثير من التحفّظ والارتياب على حصيلة الحراك والانتفاضة. لكن الرؤية هذه تنتظم إلى حد بعيد في محور قراءته السياسيّة- الفكريّة للواقع السوريّ، والعربيّ استطراداً.

من غير المستغرب والحال هذه إزاء موقفه من نشاطات المثقفين السوريّين أن ينظّر السيد العظمة للانتفاضة السوريّة كما لو أنّها ثورة دينيّة في سوريا من جهة، وتستهدف “الدولة” في المحصلة من جهة ثانية. ويقف المرء باستغراب على عملية الإسقاط الذاتية الإيديولوجيّة التي يمارسها الدكتور العظمة حيال المنتفضين، والمعارضة عموماً.

“الشعبويّة” و”الشارع”:

من غير تدقيق في السياق والواقع والحيثيات الملموسة للحركة الاحتجاجية في سورية يطلق العظمة العنان لأحكامه التي تصلح لأيّ زمان ومكان عن المعارضة السورية. “السياسة لا تُصنع من الشارع” يقول العظمة. والواقع أنّ السياسة الحقيقيّة تُصنع في الشارع اليوم لأنه جرى نزعها من المجتمع والدولة، بل هو المكان الطبيعي لصنع السياسة وهذه العملية ديمقراطية تماماً ومشروعة بعرف الحقّ والعدالة وليس بعرف الطغيان. يفوت منظّرنا أنّ المجال العام هو (ساحة وميدان وشارع وجامعة…) للتداول والمعارضة والنقد والاحتجاج حتّى في الدول الديمقراطيّة المؤسساتيّة، فما بالك بسلطات احتكرت الدولة والثروة والقوة والمجتمع وميادينه العامّة وحياة المواطنين الخاصة. بديل الشارع (=الاحتجاجات والمعارضة) لصنع السياسة هو “مجلس الشعب”، مجلس العبيد ومنبر التصفيق والهتاف والصّغار، أو الجبهة الوطنية التقدميّة (الجثّة السياسيّة الهامدة من لحظة نشوءها) أو الانتساب لحزب السلطة للانتفاع أو وقاية المخاطر الأمنيّة إلى حدٍّ ما. صناعة السياسة الرسميّة (احتكار الدولة والسياسة) تتم في دائرة ضيقة جداً لا يحقّ لأيّ مواطن أن يشارك فيها. وهذه الصناعة الاحتكارية هي بالضبط ما يعترض عليها المحتجّون السوريون اليوم. لا بد من فتح هذه الدائرة المغلقة.

لكن الملفت هو وسم جمهور الحركة الاحتجاجيّة السوريّة بالشعبويّة (فضلاً عن الفتوى الثابتة بالطبع: معاداة الدولة والنيل منها). والواقع أنّ الانتفاضة السوريّة أبعد ما تكون عن الشعبويّة ليس لأسباب “فكريّة” و”رقيّ” المنتفضين أو تأهيلهم الأكاديمي أو تنعّمهم بحياة الغرب الوادعة، بل لأنهم يناضلون ضدّ أوضاع بالغة التعيين والتجسي، لا من أجل مثالات إيديولوجيّة أو أوهام ذاتويّة أو ماضويّة ؛ فالمحتجّون ينتفضون على واقع ملموس ومشخّص: الاعتداء على ذواتهم وآدميتهم واستباحة كرامتهم بالإضافة إلى سرقة لقمة عيشهم. أيّة شعبويّة في جسارة المنتفضين وهم يواجهون موتاً مرجحاً في مطالبتهم بأهداف عيانيّة ومباشرة؟ هل من شعاراتهم الواضحة ضدّ التسلط والطغيان ورموزهما وأعلامهما توصّل السيّد العظمة إلى كونهم “شعبويين”؟ أم أن اصطفاف بعض “النخبة” الاقتصادية والثقافية العلمانوية والدينيّة الرجعيّة مع السلطات الغاشمة يجعل من المعارضين لها “شعبوييّن” بالضرورة؟

نشير هنا أيضاً للمناسبة إلى كمّ الاحتقار والإهانة الذي يقذفها إعلاميّو النظام ومنظّروه إلى المنتفضين (هم حثالة المجتمع السوري بحسب بسام أبو عبدالله، “أستاذ” علوم سياسية)، أو الدعوة الصريحة إلى محوهم عن الوجود فهم يستحقّون الحرق دون رحمة (طالب إبراهيم مدافع عن النظام في الإعلام، وشريف شحادة)، ويجب توجيه ضربة حاسمة وحيدة بحيث تقضي على “الفتنة” مرّة واحدة و”إلى الأبد” لأن إطالة الضربة يستجلب غضب المجتمع الدولي (بحسب “أستاذ” علوم سياسية آخر) . وفي الوسط “الفكريّ” لا تفوتنا الإشارة إلى الدفاع الركيك عن النظام الذي يقدمه فراس السواح (يستغرب المرء من فقره المدقع في التحليل والمقاربة دون أن يستغرب من موقعه السياسيّ طبعاً) عن الانتفاضة؛ إذ عابَ ـ مؤخراً ـ على المنتفضين فقرهم وسوء أوضاعهم المعيشيّة! واعتبر ذلك اختراقاً للثورة! يا للرصانة حقّاً.

“الإسلاميّون”:

ليس العلمانويّون بحاجة إلى شعارات تُرفع في الاحتجاجات كـ” لن نركع إلا لله” أو”الله أكبر” و”الشهيد حبيب الله” والخروج من بعد صلاة الجمعة للتظاهرات كي ينعتوا الانتفاضة بالسلفية والدينيّة.

الواقع أن جمهوراً من المتدينين يشارك في فعاليات الانتفاضة كما غير المتدينين، وهذا حقّ للجميع إن لم نقل واجبهم. المتديّنون ليسوا كتلة واحدة. فيهم المتشدد وفيهم المتسامح والديمقراطي. فيهم السلفي ومنهم من يناهض السلفية والطائفية ويعمل لذلك. منهم دعاة لاعنف ونضال سلمي ودولة مدنيّة. ومنهم من يصلي ويصوم فقط، وليس مكترثاً لأكثر من ذلك. أمّا غير المتدينين ففيهم طيف واسع كذلك، لكن ليس بينهم علمانيّون من الصنف الذي يرى في النظام الحالي حجّة في العلمانيّة والحداثة يتعرض لهجوم متخلّفين وسلفيّين.

بيئة الانتفاضة كذلك متنوّعة. فدرعا مثلاً ـ التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات ـ لم تعرف يوماً ما بنزوعها السلفيّ و”الإرهابي”، على العكس كانت درعا بيئة معروفة للعروبة التقليدية وحزب البعث، وخرج منها العديد من الساسة والعسكر ورجال الأمن في ظل النظام الحالي. وفي سوريا، وبدرجة مختلفة عن مصر وتونس، لم تبدأ الانتفاضة من حركات وتيارات إسلاميّة، بل من الريف الذي شكّل قاعدة اجتماعية وإيديولوجية للنظام البعثيّ، “التقدميّ” يوماً ما.

في بقية المناطق المحتجّة يشارك في الاحتجاجات سوريون من مشارب متعدّدة وفيها حضور مدنيّ وعلمانيّ ودينيّ محافظ ، أي كما هي حقيقة المجتمع السوريّ وتكوينه. على جبهة السلطة يمكن العثور على شيء من “التعددية” هذه. لكنها هنا تفقد أيّ معنى ومضمون للتعددية بسبب ارتهانها لنواة السلطة الضيّقة جداً المقررّة لكلّ شيء والمحتكمة لأنانية مفرطة ومصالح متطرفة جداً. لا بدّ من نظرة أخرى للواقع السوري إذن غير التي ترى في الدولة المختزلة في النظام والسلطة معقل الوطنيّة ومناط المواطنة. مجتمعنا السوري لا يتكون من علمانيين وسلفيين أو أنصار الدولة وأنصار هدمها كما هي قراءة الدكتور العظمة.

بصرف النظر عن حجم الهتافات دينية المنبت فإنّها ليست طائفيّة ولا هي ضد المواطنة أو الدولة. شعار “لن نركع إلا لله” يكتسب دلالة ديمقراطية وإنسانية، وعلمانية كذلك، إن وضع في سياق الأحداث. معلوم أنّ السوريين أجبروا على الركوع والسجود، واقعاً لا مجازاً، لأصنام الرئيس وعائلته ورموز السلطة المنتشرة في طول البلاد وعرضها طوال عقود. وبرزت في الأحداث الأخيرة حالات من الاستعباد الذليل للمواطنين بالطلب منهم السجود على صورة الرئيس أو إجبارهم على قول “لا إله إلا بشار”. لا يحتاج المرء لأن يكون متديناً وسلفيّاً لينبذ هذا السلوك الأرعن واللاأخلاقي. إلا إذا كان هناك من يعتقد بأن هذا السلوك يخدم تمتين بنية “الدولة” الموقّرة المعرّضة لهجمة السلفيّين الشعبوييّن! وكذلك حال شعار “الله أكبر” الذي يردده السوريون العزّل أمام آلة القتل والتدمير. لكن ماذا يتوجب على مشيّعي القتلى والشهداء والجرحى أو مشاريع الشهداء أن يرددوا في مظاهراتهم؟ “العلمانيّة هي الحل” مثلاً؟ أم تبجيل “الدولة”؟

لا بدّ أنّ عنف النظام الوحشيّ سوف يستجلب كل ما يخطر في البال من مقاومة رمزية ممكنة، ومنها الاتكاء على رموز دينيّة سيما التي تحظى بانتشار شعبي في كافة الأوساط الشعبية المتدينة وغير المتدينة.

الأكراد:

أنتهزُ الفرصة هنا للتدليل على خطأ معرفيّ كبير، واستعلاء عنصريّ مقيت، يقترفه السيد العظمة المرّة تلو المرّة كلّما حلّت المناسبة، كما هو في حديثه عن الانتفاضة السورية. فالدكتور العظمة يندهش ويستفظع وجود أناس يسمّون أنفسهم أكراداً. ودهشته تنبع من علم في التاريخ حسمه العظمة ولخّصه كالتالي: الأكراد اكتشفوا كرديّتهم بعد العام 1991؟ يا للاكتشاف حقاً (التاريخ ذاك يشير إلى وقت إصدار مجلس الأمن الدولي قرار فرض الحظر الجوي على نظام صدام حسين في منطقة كردستان، شمال العراق بعد فرار مليون إنسان إلى الجبال حيث الثلوج إثر انتفاضة شعبية كردية كبيرة ضد سلطة صدام حسين. وقد أعلن الدكتور عن هذه “النظرية” في مؤتمر العلمانية في المشرق العربي في دمشق قبل بضعة أعوام وسمعتها منه مباشرة، وهي مدوّنة في كتيب صدر بنفس العنوان عن منظمي المؤتمر). الحركة القومية الكردية التي نشأت قبل قرن ونيف تقريباً ـ نعم وليس عقد ونيف مثلاً ـ ونادت باستقلال كردستان وناضلت لأجلها وحققت مكاسب هنا وهناك وانتكاسات مريرة، لم تنقطع يوماً ما في ظل الإمبراطورية العثمانيّة وبعد انهيارها. القوميّة الكرديّة ليست شعارا زائفاً اخترعه أبناء اليوم وبتحريض من مؤامرة على العرب والعروبة أو على تركيا وإيران.

إنها حقيقة موجودة لا ينفع معها التعامي والاكتفاء بنظرات من علٍ. لا داعي لتصنّع المفاجأة بوجود مواطنين يزعمون أنهم أكراد ويعرّفون أنفسهم على أنهم غير عرب. لكنهم بنفس الوقت سوريّون ويطالبون بحقوق ديمقراطيّة وإنسانيّة، وكذلك اعترافاً بخصوصيتهم القومية في إطار وحدة البلاد، كما تنادي عموم فصائل الحركة السياسية الكردية في سوريا التي تأسّست رسمياً في صيغة حزب سياسي عام 1957 كامتداد للحركة القوميّة الكرديّة لتمثيل مطالب أكراد سوريا ضمن إطار سورية ديمقراطية. أمّا لماذا ظلّ أناس يقرّون بهوية متخلّفة جداً ومن مستحاثات التاريخ فهذا شأنهم وحقّهم في تقرير مصيرهم. يقول العظمة بعنصرية غير خافية: أن الأكراد يفضلون “إيثار النسب على الحسب اليوم”، والدلالة واضحة طبعاً. العروبة حسبٌ ومباهاة. الكردية نسبٌ معيب.

يُخشى أن يكون الدكتور العظمة قد استقى فكرته عن “حَسَب” الأكراد من بعض الأكراد المندمجين في المجتمع الشاميّ الذي هجروا لغتهم الأم ونالوا حَسَباً راقياً بمجرد تخليهم عن نسبهم المتخلّف. لم يلحظ ولم يقرأ ولم يسمع عن ملايين الأكراد، في تركيا وسوريا والعراق وإيران وغيرها في الشتات الكردي، الذين لا يتكلمون سوى الكردية ولا يعرفون غير الكردية هوية لهم هم وأجدادهم. كيف يقارب المفكر والمؤرخ ( والسياسيّ) هذه الواقعة؟ كي يريح نفسه من عناء التواضع وقراءة التاريخ المزعج له يستحسن أن يقول: هناك عرب أضلّوا حسبهم وبحثوا عن نسب آخر فسمّوا أنفسهم أكراداً! كم هو شبيه كلام الدكتور العظمة بمقولات الفاشية الأتاتوركية في تركيا! حيث تجلّى التجسيد السياسي العنيف والمدجج بجبروت أقوى جيش في المنطقة بغية محو هوية الشعب الكردي منذ ولادة الجمهورية التركية الحديثة. لكنها باءت بفشل ذريع. فلا تمكّنت الفاشيّة التركية من محو قومية ثانية وصهرها في القومية التركية، ولا هي تمكنت من اصطناع دولة ـ أمة متجانسة بلا “شوائب”، كما حلم منظرو تلك الفلسفة والسياسة العنصرية البغيضة على امتداد ما يقارب قرن من الزمان.

ولولا احترام المكانة الأكاديمية والعلمية للدكتور عزيز العظمة لأوردت هنا بعض المراجع والمصادر الرصينة عن تاريخ الأكراد الحديث أو القديم وتاريخ دعوتهم القومية (قبل العام 1991!). لأن تلك المقولة العامة والاستعلائيّة التي يستند إليها بثقة فائقة هزيلة ولا تليق به قطّ.

المواطنة والديمقراطيّة والمستقبل:

الانتفاضات الراهنة تسعى إلى تأميم الدولة وتعميمها. ومن ثمّ فتح المجال كي يعبّر المجتمع عما يعتمل في داخله بإيجابياته وسلبياته، وتراكمات السنوات المنصرمة والتوتّرات الاجتماعيّة.

نفترض مبدئيّاً أن لهذه العملية التحويليّة حصيلة ديمقراطية مرجّحة. بصرف النظر عما ستؤول إليه الأحوال فيما بعد، أو هي خطوة حاسمة على طريق الديمقراطية. لكن لن تحلّ أوضاع البلدان المنتقلة من الأنظمة التسلّطية بصورة أوتوماتيكية بعد سقوط الأنظمة (تونس ـ مصرـ ليبيا)، كذلك في اليمن وسورية بعد إسقاط أنظمتها المستولية. ويبقى الأمر متوقفاً على صراعات القوى السياسية التقليدية والجديدة، وبعض القضايا الخاصّة بكل بلد. لا نتوقع انتقالاً فوريّاً إلى الديمقراطية بعد الدمار الشامل الذي شهدته هذه البلدان، جرّاء الديكتاتورية والنهب والاستيلاء على الفضاء العام، وتغييب السياسة وتصحير المجتمعات.. هناك العديد من المعضلات الوطنية سوف تكون مطروحة على برنامج الانتفاضات المنتصرة، لتتحوّل إلى ثورات تطال مجمل البناء السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ للنظام والدولة. وستبرز خلافات وصراعات. لكن من العسف الاستنتاج من ذلك أن بقاء تلك النظم المستبدّة الفاسدة خير من إسقاطها، لأنّ ذلك يؤدي إلى انكشاف مجتمعاتنا وسيادة فترة من الاضطراب ربما؛ على العكس فإنّ النظام الديكتاتوريّ هو العائق الأكبر أمام تطور المجتمعات والدول. ثم أنّ المشكلات الكبيرة التي تعتمل في داخل هذه الدول موجودة دائماً، لكن بسبب القبضة الحديدية وتجميد الحياة السياسية يبدو وكأنها غير موجودة لمن يأخذ بهذه النظرة التشاؤميّة العدميّة، غير البعيدة عن الاستقطاب السياسيّ.

يبقى السؤال المركزيّ مستقبلاً هنا: كيف يمكن استيعاب التعددية الاجتماعيّة في سوريا الموجودة حقيقة لا افتعالاً في ظل رابطة مواطنة حقيقية، وفي ظل دولة متصالحة مع مجتمعها، لكن تعلو بنفس الوقت على البنى الأهليّة. هذا سؤال راهنيّ وتاريخيّ. نجزم أن النظام السوري ليس في صدد بناء هذه الدولة المنشودة كما يعتقد الدكتور العظمة بثقة دوماً. هذا سؤال لسورية المستقبل الديمقراطية الحرّة، ما بعد حكم العائلة والمخابرات والشبّيحة.

الحركة الاحتجاجية الراهنة ليست حركة ملائكة وأناس مطهّرين بالإطلاق ولا هي فوق النقد والاختلاف، سيما بعض الناطقين باسمها وراكبي الموجة ومقتنصي الفرص.

سورية المستقبل سوف تواجه كافة قضاياها الوطنيّة المتراكمة. النظام الحالي لا يساهم في ذلك أبداً، سياسياً، بل يزيد من أعباء سورية والسوريّين. أمّا أخلاقياً فلا يحبّذ أن نتكلم فيه لأن الدكتور العظمة لا يستسيغ الكلام الأخلاقويّ لأنه ـ ربما ـ يمنح المتدينّين حقّ الصراخ والشعور بألم الرصاص والتعذيب في السجون، وهذا محرّمٌ “علمانيّاً”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى