صفحات الرأي

منطقة الاضطراب الشامل

حازم صاغية

باستثناء كوريا الشماليّة والجوار الآسيويّ الذي يتأثّر بها، يشكّل الشرق الأوسط الكبير بأوسع تعريفاته منطقة التوتّر الوحيدة في عالمنا اليوم. وإذا كانت كوريا الشماليّة المصدر الوحيد الجدّيّ للتوتّر الآسيويّ، فإنّ كلّ واحد من بلدان الشرق الأوسط يحتضن سبباً وجيهاً لذاك التوتّر.

لقد انضافت تركيّا في الأيّام القليلة الماضية إلى قائمة البلدان القلقة على حاضرها ومستقبلها في منطقتنا. فالصراع الذي كانت “حديقة غازي” العامّة في اسطنبول ذريعته، ينطوي على أبعاد لا حصر لها، بعضها يتّصل بصيغة المزاوجة المعمول بها راهناً بين الإسلام والديموقراطيّة، وتالياً الفهم الأكثريّ للحياة البرلمانيّة، وبعضها يتعلّق بالتركيب الأهليّ، الطائفيّ والإثنيّ، للبلد نفسه. ولئن كان من المبكر الحسم في طبيعة المحطّة التي تدفع إليها حركة الاحتجاج التركيّة، فالمؤكّد أنّ أيّاً من الخيارات ستكون له نتائج وانعكاسات على صورة تركيّا الغربيّة والشرقيّة سواء بسواء، وعلى أوضاع بلدان عدّة تتصدّرها سوريّا.

وعلى العموم، فإنّ ما يمكن الجزم فيه حتّى إشعار آخر هو أنّ طريقة الحكم لا بدّ أن تتغيّر في أنقرة. فتفرّد حزب العدالة والتنمية، وشخص رجب طيّب أردوغان تحديداً، لا يستقيم مع التطوير الديموقراطيّ للتجربة التركيّة، تماماً كما أنّ هذا التطوير لا يقبل التعايش مع الخلط الجاري بين الحيّزين العامّ والشخصيّ الذي لا دخل للسلطة السياسيّة به. ويبقى أنّ أيّة إساءة تقدير من طرف الحزب الحاكم للمعارضة ومطاليبها قد يضع المجتمع كلّه أمام احتمالات تنازع خطير، وقد يردّ الاعتبار لدور الجيش “الإنقاذيّ” في السياسة، وهو ما ظُنّ أنّ تركيّا قد تجاوزته.

لكنّ إيران التي تقترب من موعدها الانتخابيّ قد تفاجئنا، هي الأخرى، بانفجارات غير محسوبة. ولنتذكّر أنّ ما عُرف بـ”الثورة الخضراء” في 2009 إنّما اندلع بنتيجة انتخابات مماثلة عدّت المعارضة نتائجها مزوّرة.

لقد جاء استبعاد الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني من الترشّح للمعركة الرئاسيّة المقبلة (ومنع نجله من الترشّح للانتخابات البلديّة) دليلاً إلى تقلّص الرقعة التي باتت تنهض عليها قاعدة النظام. فإلى جانب محمّد خاتمي، وهو أيضاً رئيس سابق، بات رفسنجاني ملفوظاً إلى خارج الدائرة السلطويّة المتزايدة ضيقاً. وتجربة الاثنين هذين، فضلاً عن مير حسين موسوي والمهدي كرّوبي القابعين في الإقامة الجبريّة، تنمّ عن مسار التعرّي الذاتيّ الذي يسلكه نظام ثوريّ متنكّر لبعض كبار صنّاعه.

والحال أنّ حصول هذه التحوّلات الدراميّة في مناخ أزمة اقتصاديّة وماليّة خانقة بسبب الحصار الغربيّ، وفي موازاة معضلتي الملفّ النوويّ والتورّط في سوريّا، يجعل التكهّن بالأسوأ في محلّه. بل ربّما جاز اعتبار جنازة آية الله جلال الدين طاهري قبل أيّام نذيراً خطيراً. فقد احتشد عشرات الآلاف يودّعون رجل الدين الإصلاحيّ وخطيب الجمعة الأوّل في أصفهان وهم يهتفون ضدّ “الديكتاتور” آية الله خامنئي ونظامه.

أمّا مصر، فلا يزال الإخوان المسلمون يتخبّطون في حكمها، وتتوزّع أزماتها على الشارع والمحاكم والبرلمان والاقتصاد وناشطي حقوق الإنسان، فضلاً عن تردّي أداء السلطة وهيبتها، بدءاً بالرئيس محمّد مرسي نزولاً. وإلى هذه القائمة الطويلة والمتشعّبة، تأتي مشكلة مصر المستجدّة مع أثيوبيا حول النيل و”سدّ النهضة” الذي تبنيه إديس أبابا، ليفاقم الأمور ويؤجّجها إقليميّاً. والحقّ أنّ السؤال الذي يكاد يطرح نفسه على نحو آليّ هو: هل أنّ الأزمة الجديدة هذه خطيرة بذاتها أم أنّ الإخوان يميلون إلى جعلها كذلك، لأنّهم ربّما كانوا يسعون إلى “قضيّة” كبرى تعبّىء الشارع وراءهم وتحجب المشكلات الفعليّة التي يعيشها المصريّون في ظلّ سلطتهم البائسة؟

إلى ذلك، يُلاحَظ أنّ مصر محاطة بأوضاع غير مشجّعة ولا مستقرّة، من سيناء إلى غزّة في شرقها، ومن ليبيا في غربها إلى السودان في جنوبها. وهذا كلّه ليس مدعاة للاطمئنان.

وإذا كانت هذه حال الدول الثلاث الأكبر والأكثر مركزيّة في الشرق الأوسط الكبير، فإنّ الدول الأصغر ليست بالضرورة أفضل حالاً. ففضلاً عن سوريّا حيث تستمرّ المجزرة النازلة بالشعب السوريّ على يد نظام مجرم، يتكاثر القائلون بأنّ العراق يتّجه بخطى سريعة إلى الحرب الأهليّة السنّيّة – الشيعيّة، وهو ما لا يكفي لوقفه إجراء مصالحة بين بعض السياسيّين أو أداء صلاة جمعة مشتركة بين سنّة وشيعة.

وفيما تونس وليبيا واليمن لم تستقرّ بعد على حال، تمضي الأزمة السوريّة في تفاقمها وفي توليدها لأزمات أخرى بعضها حدوديّ وبعضها في دواخل البلدان المعنيّة بها. فلبنان، وبدرجة أقلّ حدّة الأردن، يتعرّضان لتحدّيات غير مسبوقة في وجوديّتها تطال معنى البلدين ذاته، الأمر الذي ظهّرته على أحسن وجه معركة القصير ودور حزب الله فيها.

وبمعنى ما يتبدّى كأنّ منطقتنا تفاوض من جديد وضعها وشكلها على الخريطة، كما تفاوض العلاقات السياسيّة والأهليّة في داخل بلدانها. عسى أن يمضي ذلك بأقلّ كلفة دمويّة ممكنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى