صفحات العالم

منطق الممانعين: إبادة مدينة في سوريا تجوز إذا قُمع شاب في نيويورك

وسام سعادة
هناك منطق معيّن يسير عليه الممانعون، ويسري تحديداً في مقاربتهم للوضع في سوريا.
تبثّ شاشات التلفزة صوراً لرجال شرطة أوروبيين أو أميركيين يقمعون بضراوة شاباً يُطالب بعولمة بديلة أو ما يعادلها، فيزيّن لهؤلاء الممانعين أنّ من حقّهم، أو من حقّ النظامين السوريّ والإيرانيّ قمع التظاهرات بوحشية، واستخدام الرصاص الحيّ والقنّاصة من دون تردّد.
تتناقل وسائل الإعلام وشبكات التواصل العالمية تقارير عن التعذيب في سجن أبو غريب، أو في معتقل غوانتانامو، أو حتى في سجون أميركية عادية، فيستنتج الممانعون، أنّ من حقّ نظامي الملالي في طهران والبعث في دمشق، إطلاق حريّة التعذيب والاغتصاب بين الأجهزة الأمنية وميليشيات الدفاع الذاتي عن النظام.
ويكون الممانعون قد هرموا بعد أن قضوا سنوات يبحثون مع حافظ الأسد، ثم مع نجله بشّار، عن “تعريف” متفق عليه من كل كوكب الأرض، لـ”الإرهاب”، ليتنبّهوا بعد ذلك إلى أنّ هذه الصفّة تخوّل الولايات المتحدة مثلاً اللجوء إلى “حرب كلّية موضعيّة” ضدّ جماعات أو شبكات بعينها، فيتبنّوا الأمر نفسه، إنّما ضد مجتمعات أو مناطق بأسرها.
ويتأمل الممانعون في التاريخ الحديث للمنطقة، فتحاصرهم محنة الشعب الفلسطيني وذاكرة الترحيل القسريّ، فيعتبرون أنّه من حقّ الممانعين أيضاً دفع مئات الآلاف من أبناء سوريا إلى النزوح، وثمّة من يعتبر ذلك “قنبلة ديموغرافية” حميدة تقذف في وجه تركيا وغيرها من البلدان المجاورة لسوريا.
إذا ما نظرنا إلى كل هذه الأمثلة، وهي على كاريكاتوريّتها، أمثلة لا ينفك الممانعون، سياسيين وإعلاميين، يردّونها بألف صيغة وصيغة من الصباح حتى المساء، سنجد عنصرين اثنين.
أولاً، كي يكون أي فعل قمعيّ أو إجراميّ مبرّراً للنظام السوريّ لا بدّ من البحث عن فعل شبيه له في الممارسات الغربية، ولا يهم بعد ذلك إن كان اللجوء إلى هذا الفعل من طرف النظام الممانع هو أوسع مدى، منهجيّاً كان أم منظّماً، فالمسألة ليست كميّة: ما دام هناك شرطيّ يقمع طالباً في نيويورك فمن الممكن أن يقتل عشرة آلاف شخص في سوريا، وما دامت نظرية مكافحة الإرهاب تبرّر حرباً متخففة من القيود ضدّ شبكات أو جماعات بعينها، فمن الممكن أن يستخدم النظام السوريّ سلاح المدفعية لتدمير المدينة تلو المدينة.
ثانياً، يعتبر الممانعون أنّ البلدان الغربية تدّعي “الديموقراطيّة الليبراليّة” والموازنة بين حقوق الشعب وحقوق الفرد وهي مع ذلك تمارس أعمال القمع والتعذيب، أو تتخطّى حدود القوانين في مكافحة الإرهاب، بما في ذلك قوانين مكافحته نفسها، كما أنّها بلدان تساهم في التعتيم على جريمة الترحيل القسريّ للفلسطينيين. بالتالي، فمن حقّ نظام لا يدّعي هذا النوع من الديموقراطيّة، أو يدّعي أنّه قرّر وبعد عقود مديدة من الحكم الشموليّ اعتمادها، أن يمهّد لبلوغها، بسلسلة من أعمال القمع والتعذيب والاغتصاب والقنص والدكّ بالمدفعية، ودفع المدنيين إلى النزوح القسريّ.
وأيّاً يكن من شيء لا يمكن أن يفهم الممانعون كيف يمكن أن “تقمع” بريطانيا أحداث شغب ويحرّم ذلك على النظام السوريّ. في الحقيقة يضيء الممانعون على مسألة جديّة، وعميقة، ولو من حيث لا يدرون: فالدولة المتمّمة لشروطها كدولة أمّة تعتمد النظام الدستوريّ التعدّدي التداوليّ للسلطة ويتربّع فيه الدستور فوق هرم القوانين يمكنها أن تقمع، بل إنّها ليست دولة إلا لأنّها أيضاً كيان قادر على القمع، وله شرعية نسبية في هذا الإطار، شرعية تزيد وتنقص، وتضبط بألف ضابط، وتحاول أن تتفلّت من ذلك بألف وسيلة. في المقابل، تبرز الدولة غير المتمّمة لشروطها كدولة أمة، والتي لا تعتمد النظام الدستوريّ ولا تقيم وزناً للتعدّدية أو لتداول السلطة، والذي لا يتربّع فيها الدستور فوق هرم القوانين، بل إنّ هذا الهرم يبقى كرتونياً وبالياً ولا يدخل في صلب العلاقات بين البشر، بما في ذلك المعاملات اليومية والتجارية. هذه الدولة في المقابل لا تملك أي رصيد من المشروعية يبرّر لها قمع أيّ كان، فكيف إن كانت هي دولة تقيس حقّها في القمع على واقع الظواهر القمعية لدى الغربيين، فتعتبر أنّه إذا قمعت شرطة نيويورك مئة طالب فيمكن قمع عشرة آلاف طالب في حلب بوحشية مضاعفة بشكل مهول!
وهذا غيض من فيض يدخلنا في مفارقات مفهوم “الدولة”، حيث أنّ الوضع في سوريا يفترض به أن يدفعنا مجدّداً إلى النقاش حول هذا المفهوم.. وهنا ندخل في مشكلة أخرى، وهي أنّ هذا المفهوم قد أضحى، حتى لمن يتبنّاه من الربيعيين والليبراليين العرب، بمثابة الصنم واليوتوبيا.
باختصار، يكتشف الممانعون وظيفة أساسية للدولة الحديثة: المنظومة الشرعية للقمع. لكن الممانعين يستنتجون أن من حقّ كل دولة أن تقمع، حيثما تشتهي وكما تشتهي، وبالتالي هو حق غير مرتبط لا بشرعية، ولا بدستوريّة، ولا بقانونية، ولا بتطوّر تاريخيّ، بل اعتباط يمارسه كل نظام على كيفه.
أمّا أخصام الممانعين الحاليين، فإنّهم على أهمية خروجهم على الاستبداد ميدانياً، إلا أنّهم لم يفهموا بعد هذه الوظيفة الأساسية للدولة الحديثة، ويتصوّرون أنّ الدولة هي مجرّد شعار برّاق، أو حلم جميل، لا أكثر.
المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى